ثمّ نادى : أنشدك الله يا عمر ، أقتلنا محمّداً ؟
  فقال عمر : اللّهمّ لا ، وإنّه والله لَيسمع كلامك .
  فقال أبو سفيان : أنت أصدق من ابن قما (1).
  نعم ، أجاب عمر أبا سفيان مع تأكيد الرسول على عدم إجابته ونهيه عنه ، وما كان فعل عمر إلاّ لكونه متأوّلاً فأخطأ!
  وكذا الحال بالنسبة إلى قسمة قسمها رسول الله من الصدقات ، فأتاه عمر قائلاً: يا رسول الله! لَغير هؤلاء أحقّ منهم ، أهل الصفة ، فقال رسول الله: إنّكم تسألوني الفحش... (2).
  وفي البخاريّ: قال عبد الله: قَسَمَ النبيُّ قسمةً كبعض ما كان يقسم ، فقال رجل من الاَنصار: والله إنّها لقسمة ما أُريدَ بها وجه الله ، قلت : أمّا أنا لاَقولن للنبيّ ، فأتيته وهو في أصحابه فساررته ، فشقّ ذلك على النبيّ وتغيّر وجهه وغضب حتّى وددت أنّي لم أكن أخبرته ، ثمّ قال: قد أُوذي موسى عليه السلام بأكثر من ذلك فصبر (3) ؟!
  وعن طلحة وعثمان أنّهما قالا : أينكح محمّد نساءنا إذا متنا ولاننكح نساءه إذا مات ؟! لو مات لقد أجلنا على نسائه بالسهام .
  وكان طلحة يريد عائشة ، وعثمان يريد أُمّ سلمة ، وكانا يريدان بفعلهما إيذاء الرسول ، فأنزل سبحانه قوله (ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولاأن تَنكِحُوا أزواجَه مِن بعدِه أبداً)(4) ، وقوله تعالى (إن تُبدوا ما في أنفسكمأو تُخفوه ...) (5).
  وقوله تعالى (إن الذين يؤذون الله ورسوله لَعَنهم اللهُ في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً) (6).

------------------
(1) تاريخ ابن الاَثير ، طبقات ابن سعد ، السيرة الحلبيّة.
(2) مسند أحمد 1 : 20 عن الاَعمش عن شقيق عن سلمان بن ربيعة ، ومسلم في الزكاة.
(3) البخاريّ كتاب الآداب ، باب الصبر على الاَذى 8|31.
(4) الاَحزاب: 53.
(5) البقرة: 284.
(6) الاَحزاب: 57.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 102 _

  ومن تلك النصوص الكثيرة ما أخرجه البخاريّ في كتاب الآداب: أنّ النبيّ رخّص في أمر فتنزّه عنه ناس ، فبلغ النبيّ فغضب ثمّ قال : ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه ، فوالله إنّي لاَعلمُهم وأشدُّهم خشية (1).
  وبهذا فقد عرفنا أنّ القرآن قد صرّح بوجود رجال من الصحابة يَلْمِزُونَهُ في الصدقات ، وبينهم من إذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها وتركوه (ص) قائماً ، ومنهم من يؤذي الرسول ، ومنهم من يتخلّف عن الجهاد ، ويرفع صوته على صوت الرسول ولا يمتثل أمره و ...
  ومنهم مؤمنون يتّبعونه على أمرٍ جامع ، مطيعين لاَوامره منتهين عن نواهيه ، غير مخالفين لحكمه (ص).
  فحنظلة (غسيل الملائكة) لم يتخلّف عن المعركة إلاّ بعد حصوله على إجازة من الرسول في البقاء عند زوجته ليلة الزفاف ، في الوقت نفسه نرى تخلُّف عدد كثير من الصحابه عن الجهاد دون استئذان أو...
  ألا يعني موقف حنظلة (غسيل الملائكة) أنّه كان من أتباع التعبُّد المحض ، وأنّ الآخرين من أتباع الاجتهاد والرأي والمصلحة ؟
  وممّا يخطر بالبال : أنّ النبيّ وبتأكيده على بعض المفردات كان يريد امتحان رجال معنيين من أُمّته ، فما قصّة الرجل المتنسّك ذي الثديّة ، وطلب تدوين كتاب عند موته (ص) وتأمير أُسامة بن زيد ـ وهو شابّ لم يتجاوز الثامنة عشرة ـ على رجال أمثال أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ، إلاّ نقاط جديرة بالوقوف عندها.
  ونحن أطلقنا على الآخرين اسم الاجتهاد والمصلحة ، نظراً إلى أجوبتهم بها ، فإن قيل لهم : لِمَ تخلّف فلان عن الجهاد ؟ قالوا : تعرَّف المصلحة ولاَجله تخلَّف ، أو تأوَّل فأخطأ ، أو اجتهد ، ولكلّ مجتهد إن أصاب أجران وإن أخطا أجر واحد و ... ويبدو لنا أن غالب المسائل المطروحة سابقاً كانت بمثابة الامتحان الاِلهيّ لهؤلاء الصحابة ولتمييز المؤمن المتعبّد من غيره ، لاَنّ الثابت في الشريعة هو

------------------
(1) صحيح البخاريّ ، كتاب الآداب ، باب من لم يواجه الناس بالعتاب 8: 31.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 103 _

  لزوم إطاعة أوامر الرسول والانتهاء عن نواهيه ، وليس للمؤمنين الخِيَرة في أمرهم ، ولم يختصّ الامتثال ولزوم الطاعة فيما صدر بالتبليغ والاَحكام الشرعيّة حسب ، بل هو حكم مطلق عامّ شامل ، فإنّ حكم الآية بل الآيات النازلة في ذلك مطلق وليس فيه قيد التبليغ وتبيين الاَحكام (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللهُ ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم) (1)وبه يلزم أن يسلِّم المؤمن بما قضى به الرسول ولا يجوز له التخلُّف عمّا أمر به.
  وعليه فمن المحتمل القريب أن تكون رزيّة يوم الخميس بعد طلب النبيّ (ص) الكتف والدواة وامتناع عمر من جلبهما للنبيّ (ص) ثمّ رميه بالهجر إنّما كان لاَجل أن يتعرّف الآخرون على موقف هؤلاء الصحابة من رسول الله ، وكذا الحال بالنسبة إلى تأميره أُسامة بن زيد وهو ابن ثمان عشرة سنة على رجال أمثال أبي بكر وعمر ، فإنّها جاءت لمعرفة المطيع والمتخلّف!
  فجاء عنه (ص) أنّه قال : (أيّها الناس ، ما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة؟! ولئن طعنتم في تأميري أُسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبل).
  فاتَّضح جليَّاً وجود اتّجاهين في عصر الرسول ، أحدهما يُشَرِّع المصلحة ويقول بالرأي قبال نصّ الرسول ، ولا يتعبَّد بقوله بل يعترض على فعله (ص) ويتعرّف المصلحة مع وجود النصّ ، كما رأيت في كثير من القضايا التي ذكرناها.
  وهناك رجال يتعبّدون بقوله (ص) ، ويرتضون المبيت على فراشه ليدرؤا بأنفسهم الخطر عن رسول الله! وقد تبيّن أنّ الشيخين كانوا من أتباع نهج الاجتهاد والرأي.
   تحليلٌ واستنتاج
  إذا اتّضح ذلك نقول : إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قد حَدَّد سبب نهيه عن التدوين بأمرين : أحدهما : التأثّر بأهل الكتاب ، والآخر الخوف من الاَخذ بأقوال

------------------
(1) الاَحزاب : 36 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 104 _

  الرسول وترك القرآن ، لكنّ ابن حزم استبعد أن يكون نهي عمر قد تعلَّق بالسُّنَّة النبويّة ، وحمَلَ نهيه على خصوص الاَخبار عمَّن سلف من الاَُمم السابقة.
  فقال : ...وإنّما معنى نهي عمر رضي الله عنه من الحديث عن رسول الله (ص) لو صحّ فهو بيّن في الحديث الذي أوردناه من طريق قرظة (1) ، وإنّما نهى عن الحديث بالاَخبار عمَّن سلف من الاَُمم وعمّا أشبه.
  وأمّا بالسنن عن النبيّ (ص) فإنّ النهي عن ذلك هو مجرّدٌ ، وهذا ما لايَحِلُّ لمسلم أن يظنّه بِمَنْ دون عمر من عامّة المسلمين ، فكيف بعمر رضي الله عنه .
  ودليل ما قلنا : أنّ عمر قد حدّث بحديث كثير عن النبيّ (ص) ، فإن كان الحديث عنه عليه السلام مكروهاً ، فقد أخذ عمر من ذلك بأوفر نصيب ، ولا يحلّ لمسلم أن يظنّ بعمر أنّه نهى عن شيء وفعله (2)...
  واستبعد آخرون منهم الدكتور محمّد عجاج الخطيب تبعاً ، لابن حزم أن يكون عمر بن الخطّاب قد منع الصحابة من التحديث ، أو أنّه سجن ابن مسعود وغيره ، لعدم قبول العقل صدور ذلك من خليفة كعمر بن الخطّاب!
  لكنّ الواقف على مُجريات الاَحداث في الصدر الاَوّل يعرف سُقم كلام ابن حزم ومن تبعه من الاَعلام ، وبُعده عن الواقع ، لاَنّ توارد الروايات عن عمر بالمنع ممّا لا يمكن إنكاره أو دفعه ، وقد وردت روايات المنع مطلقة لمتخصّ صحابيّاً دون آخر ، ولا نوعاً من الحديث دون نوع آخر ، بل ثبت أنّ عمر كان شديد العنف على المُحَدّثين والكاتبين للحديث ، وهذا ممّا لا ينكره إلاّ مُكابر ، فلذلك راح ابن حزم ومن حذا حذوه يختلقون الاَعذار ويضعون المبرّرات لفعل الخليفة ، ولم يكن عندهم أكثر من مجرّد الاستبعاد والاستغراب الذي لايقوم على أساس علميّ.
  وأمرُه قُرْظة وأصحابه بالاِقلال من الرواية عن النبيّ لا يخلو من وجهين:
  الاَوّل: أن يكون الخليفة عمر بن الخطّاب يتهّمهم جميعاً بالكذب على

------------------
(1) مفاد الحديث: أنّ عمر أرسل قرظة بن كعب مع مجموعة من الصحابة وفداً إلى الكوفة ، فأمرهم بالاِقلال من الحديث ، فقال لهم : أقلّوا الرواية عن رسول الله (ص) وأنا شريككم.
(2) الاِحكام في أُصول الاَحكام 2 : 266.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 105 _

  الرسول ، وهذا فيه ما فيه.
  الثاني: أن يكون الخليفة قد أمر بكتمان ما أنزل الله على لسان نبيّه.
  وهذان الوجهان لا يلتزم بهما ، ولا بواحد منهما ابن حزم وأتباعه ، وإن كنّا نميل إلى الاَوّل منهما ـ مع ضميمة شيء آخر معهـ بقرينة اتّهام عمر لعمّاله ومُشاطرته أموالهم ، وبملاحظة سيرته : من شدّته على الصحابة وضربه إيّاهم : فمُجمل سيرة عمر مع الصحابة تدلّ بوضوح على أنّه كان لا يثقُ بالصحابة وأنّه كان يجابههم بأنواع الكلام اللاذع ، وكان يظهر معايبهم على ملاَ من المسلمين.
  وعلى كلِّ حال ، فإنَّ ابن حزم ومن جرّ جرّه لا يرتضي هذين الوجهين ، لذلك اضطرّوا إلى حمل نهي عمر على النهي عن التحديث بأخبار الاَُمم السالفة ، وهذا حَمْلٌ تَبَرُعيّ لم يدلّ عليه دليل من روايات منعه ، لاَنّها جميعاً مطلقة ، ولاَنّ سيرته في المنع أعمّ من هذا التخصيص ، ولاَنّ قسوته بلغت حدّاً لايفرّق بين التحديث بالسنّة أو بأخبار الاَُمم ، حتّى أنّه منع عمّاراً في تحديثه بواقعة قطعيّة وقعت له في زمن النبيّ ـ التيمّم ـ كان عمر نفسه شاهِدَها.
  وعليه فالخبر لا يمتّ إلى ما قيل عن الاَُمم السالفة إلاّ بنحوِ عناية ، وهي إحدى الوجوه التي نذهب إليها في منع الخليفة عمر بن الخطّاب عن التحديث.
  وذلك يتّصل بخلفيّات نفسيّة الخليفة عمر ، إذ الثابت عنه أنّه كان قد واجه منعاً نبويّاً صارماً من التحديث على عهد رسول الله ، وذلك بعد أن نهاهُ (ص) عن تتبّعه لاَخبار اليهود وتحديثه بها في بدء الدعوة ، فيحتمل أن يكون نهيه اليوم هو نتيجة ردّة فعل سلبيّة مُني بها من عهد الرسول ، فصار عمر يكره التحديث والتدوين بشكل مطلق ، سواء كان من سنّة النبيّ أو غيرها ، وسواء كان من صحيح ما ورد من أخبار الاَُمم السالفة أو سقيمها ، فقد ورد عن خالدبن عرفطة أنّ عمر قال : انطلقتُ أنا ... فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب ثمّ جئت به في أديم.
  فقال لي رسول الله: ما هذا في يدك يا عمر ؟
  قلت : يا رسول الله ، كتاب انتسخته لنزداد به علماً إلى علمنا.
  فغضب رسول الله حتّى احمرّت وجنتاه ، ثمّ نودي بـ (الصلاة جامعة) ، فقالت الاَنصار: أُغضِبَ نبيّكم! السِّلاح السِّلاح ، فجاؤوا حتّى أحدقوا بمنبر

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 106 _

  رسول الله.
  فقال (ص): يا أُيها الناس! إنّي قد أُوتيت جوامع الكَلِم وخواتيمه ، واخْتُصِرَ لي اختصاراً ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقيّة ، فلا تَتَهوَّكوا ولايغرّنكم المُتَهَوِّكون.
  قال عمر: فقمت فقلت : رضيت بالله ربّاً ، وبالاِسلام ديناً ، وبك رسولاً ، ثمّ نَزَل رسول الله (ص) (1).
  وفي آخر عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر بن الخطّاب فقال: يارسولالله! إنّي مررت بأخ لي من يهود ، فكتب لي جوامع من التوراة ، قال : أفلاأعرضها عليك ؟
  فتغيّر وجه رسول الله (ص) ، فقال عبد الله [بن ثابت]: مَسَخ الله عقلك! ألا ترى ما بوجه رسول الله ؟!
  فقال عمر: رضيت بالله ربّاً ، وبالاِسلام ديناً ، وبمحمّد رسولاً (2).
  وقد ثبت أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب وقع منه الاختلاط باليهود ، وأنّه كَتَب من كتبهم ، وأنّه كان يقرأ ويكتب ، فأحبّ ما ورد عنهم ، ولم يكن قرأه ليردّ عليه أو يُفنّده ، وإنّما قرأه معجَباً به وليزداد علماً إلى علمه ، لذلك غَضب رسولالله هذا الغضب الشديد ، لاَنّه (ص) كان قد حذّر من اليهود ، وبَيَّنَ القرآن الكريم في أكثر من سورة مَكرهم وخداعهم ، منها قوله تعالى : (يا أيُّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهودَ والنصارى أولياء بعضُهم أولياءُ بعض ومن يَتَولّهم منكم فإنّهُ منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) (3).
  وقوله تعالى : (لَتجدَنّ أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود...) (4).
  فكأنّ الخليفة عمر ـ بعد هذه الواقعة ـ حدثت في داخله هزّة عنيفة وردّة

------------------
(1) تقييد العلم: 52.
(2) المصنّف لعبد الرزّاق 10: 313 رقم 19213 ، ومجمع الزوائد 1: 174 وفيه: يارسول الله! جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق ، فتغيّر وجه رسول الله...
(3) المائدة: 51.
(4) المائدة: 82.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 107 _

  فعل سلبيّة ، جعلته يتّخذ تلك المواقف القاسية من المحدّثين والمدوّنين ، فيحبس هذا ويضرب ذاك ، وتراه يؤكّد في منعه (أُمنية كأُمنية أهل الكتاب) ، وغيرها.
  ويوَكّد هذا ما جاء في مقدّمة خبر خالد بن عُرفطة ، آنف الذكر ، قال: كنت جالساً عند عمر فأُتي برجل من عبد قيس ، مسكنه بالسُّوس ، فقال له عمر: أنت فلانبن فلان العبديّ ؟ قال : نعم.
  قال: وأنت النازل بالسوس ؟
  قال: نعم ، فضربه بقناةٍ معه ؟
  فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين ؟!
  فقال له عمر: اجلس ، فجلس فقرأ عليه. (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) إلى ( لَمِنَ الْغَافِلِينَ )(1)فقرأها عليه ثلاثاً ، وضربه ثلاثاً .
  فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين ؟!
  فقال : أنت الذي انتسخت كتاب دانيال ؟
  قال : مُرْني بأمرك أتّبِعْه ؟
  قال : انطلقْ فامْحُه بالحميم والصوف الاَبيض ، ثمّ لا تقرأه ولا تقريه أحداً من الناس ، فلئن بلغني عنك أنّك قرأته أو أقرأته أحداً من الناس ، لاَنهكنّك عقوبة ، ثمّ قال : اجلس ، فجلس بين يديه ، وعند ذلك نقل له قصّته المارّة مع رسولالله ، فقال : انطلقتُ أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب... إلى آخره.
  والواقع أنّ المنع في هذه الرواية جيّد و صحيح ، وهو الاَُسلوب الصحيح لو اقتُصر عليه لكنّ المأسوف له أنّ التدوين قد لحقه من الاجتهاد والرأي شيء غيرقليل من التدخّل الذي أربك مسيرته ومحتواه.
  وقد حدَثت مثل هذه الردّة السلبيّة عند أُسامة بن زيد حين قتل امرءاً

------------------
(1) يوسف : 1 ـ 3 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 108 _

  مسلماً ، لاَنّه ظنّ أنّه أسلم خوفاً من السيف ، فرجَع أُسامة وقد نَزَل قوله تعالى(ولا تقولوا لِمَنْ ألقى إليكم السلمَ لستَ مُؤمناً تبتغون عَرَضَ الحياة الدنيا ...) (1) ؟ فصار أُسامه متخوّفاً وَجِلاً حتّى امتنع من الخروج والقتال مع عليّبن أبي طالب ضدّ الناكثين والقاسطين والمارقين.
  متذرّعا بذريعة أنّه لايقتل المسلمينَ ، متناسياً الآيات والسيرة النبويّة والاَحاديث وإجماع الصحابة على قتل الزاني المحصن المسلم ، والمنكر ضروريّة من ضروريّات الدين من المسلمين ، وقتل الباغي من المسلمين و ... تناسى كلّ ذلك ورأي واجتهد في عدمجواز قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وعمل طبق ذلك وإن كان اجتهاده مخالفاً للكتاب والسنّة !!
  فإذا جَمَعْتَ هذا مضافاً إلى اتّهامه الصحابة بالخيانة والكذب ، وتهديده وسجنه جماعة من المحدّثين ، وضربه آخرين ...
  إذا جمعت هاتين المقدّمتين عرفت سرّ إباحة الخليفة عمر التَّحديث لنفسه ومنعه الآخرين منه.
  فهو يرى لنفسه الاَهليّة الكاملة والحقّ المطلق في ذلك لاَنّه خليفة ، ولايرى ذلك للآخرين لاَنّهم موضع للشَّكّ وعدم الاطمئنان ، أو أنّهم معرّضون للخطأ والزلل.
  فلم يبق عذر لابن حزم في التمحُّل واختلاق الاَعذار وتوجيه وقع فيه الخليفة عمر بن الخطّاب.
  وقد بيّنا وجه ما وقع فيه الخليفة للباحثين ، مع أنّنا لسنا بمسؤولين عن تهافت الخليفة واختلاف فعله مع قوله بعد ثبوت ذلك عنه بلا خلاف.
   تبريران آخران
  هذا وقد حمل بعضهم نهي عمر عن التحديث والتدوين بقوله:
  فهو إذ يطلب الاِقلال من الرواية ، فإنَّما يطلبُه من باب الاحتياط لحفظ

------------------
(1) النساء : 94 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 109 _

  السُّنن والتَّرهيب في الرواية.
  وأمّا مَنْ كان يتقن ما يحدَّثُ به ، ويعرف فقهه وحكمه فلا يتناوله أمر عمر (1)؟.
  إنّ اللبيب ليعجب من مثل هذه الاَقوال ، لاَنَّ الاحتياط هنا لا مورد له ، إذ المحدِّث إن كان ثقة صدوقاً فلا معنى لمنعه عن التحديث ولا معنى للاحتياط ، خاصّة وأنَّ بعض هؤلاء المنهيين من التَّحديث قد ورد فيهم نصّ عن رسولالله (ص) يدلّ على جلالة قدرهم وصدق قولهم.
  إنّ الاحتياط كلّ الاحتياط هو أن يحثّ الخليفة أمثال هؤلاء على التحديث وتناقل كلّ ما سمعوه وتلقَّوه عن النبيّ (ص) ، لكي لا تبقى بعض سنّة النبيّ مجهولة للناس ، ولكي لا يبقى المسلمون في دوّامة من الجهل بالاَحكام.
  وأمّا الاحتياط بمعنى احتمال خطأ الراوي أو سهوه أو نسيانه أو... فهذا يردّ في كلام الخليفة نفسه ، ولا يمكنه إلزام الآخرين دون إلزام نفسه به.
  ولا نكاد نقضي العجب ممّن زعم أنّ نهي الخليفة لا يتناول مَن تيقّن ما يحدِّثُ به ويعرف فقهه وحكمه ، مع أنّه قد سجن أبا ذرّ وابن مسعود وأبا مسعود الاَنصاريّ وأبا الدرداء ، ونهى عمّاراً وأبا موسى الاَشعري وأمثالهم مع كون أغلبهم من عيون الصحابة والرعيل الاَوّل في الاِسلام.
  وأبعد شيء يقال هنا : هو أنّ النهي والحبس والضرب والمنع لايتناغم ولايتلاءم مع نفسيّة عمر ، باعتباره خليفة وصحابيّاً كبيراً ، فلابُدّ أن نَرْبأ به عن ارتكاب مثل تلك الاَعمال.
  إلاّ أنّ الواقع الذي لا يمكن دفعه هو أنّ الخليفة عمربن الخطّاب كان معروفاً منذ زمن رسول الله بالشدّة والغِلظة ، وكذلك في خلافة أبي بكر.
  ولمّا انبسطت يده في خلافته راح يحمل الدُّرَّة فيضرب هذا ويُعاقب ذاك ويسجن ثالثاً وينفي رابعاً ويُغرّب خامساً ممّا يمكن علاجه بدون ذلك من التهذيب والاِرشاد!
  وقد نقل لنا المؤرّخون صوراً متعدّدة من أُسلوب الخليفة ، حتّى جاء في

------------------
(1) السنّة قبل التدوين: 105.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 110 _

  شرح النهج الجديد أنّه كان في أخلاق عمر وألفاظه جفاءً وعنجهيّةً ظاهرة (1).
  وأنّه كان شديد الغلظَة ، وَعْر الجانب ، خشَن الملمس ، دائم العبوس ، وكان يعتقد أنّ ذلك هو الفضيلة ، وأنّ خلافه نقص (2).
  فلا غرابة ولا بِدْع إذا اتَّخذ الخليفة ذلك الموقف الصارم المتشدّد من مخالفيه في التحديث ، خصوصاً بعد ردعه من قِبل النبيّ لاستنساخه كتب اليهود ، كلّ ذلك مع لحاظ الروح القبليّة التي كانت طافحةً عليه ، مضافاً إلى مساس هذا التحديث بأصل مشروعيّة خلافته.
  والاَغرب من كلِّ هذا أن نرى الخليفة يسجن أبا الدرداء الذي خالفه في عدَّة مفردات فقهيّة ، وأبا ذرّ وابن مسعود اللذين كانا لا يتّفقان معه في تحريمه للمتعة ، وهكذا الحال بالنسبة للآخرين الذين لم يسمح لهم في الخروج من المدينة.
  فيبدو أنّ الخليفة اشتدّ عليهم لتحديثهم بما لا يحلو ولايروق له ، وإلاّ لماذا يسجن هؤلاء ويترك أبا هريرة صاحب الـ (5374) حديثاً مطلق العنان دون حبس ولا ضرب ولا تعزير ، بل اكتفى بتهديده وإبعاده ثمّ جوّز له التحديث دون غيره ؟!
  ويلحظ هذا النفس واضحاً عند عمر بن الخطّاب حين أرسل وفداً من الاَنصار إلى الكوفة ، وشيّعهم إلى موضع قرب المدينة ، فقال لهم: أتدرون لِمَ شيّعتكم أو مشيت معكم ؟
  فقالوا : نعم ، لحقّ صحبة رسول الله (ص) ولحقّ الاَنصار .
  قال عمر : لكنّي مشيت معكم لحديث أردت أن أحدّثكم به ... فأقلّوا الرواية عن رسول الله (ص) وأنا شريككم (3).
  فهو يمنعهم أو يحدّ من تحديثهم لاَنّهم من الاَنصار ، أتباع التعبّد الذين يروون ما لا يعجب الخليفة ولا يحبّ انتشاره بين المسلمين لئلاّ يظهر عجزه

------------------
(1) شرح النهج 1 : 183 .
(2) انظر شرح النهج 6 : 327 .
(3) انظر الطبقات الكبرى 6 : 7 ، سنن الدارميّ 1 : 85 ، جامع بيان العلم 2:120 ، تذكرة الحفّاظ 1:7 ، كنز العمّال 2 : 284 | 4017 وغيرها .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 111 _

  العلميّ.
  إنّ المبرّرات المختلقة التي قيلت أو قد تُقال في الدفاع عن الخليفة لانراها تصمد أمام النقد ولا تقوم أمام التحقيق العلميّ كما أثبتنا ذلك.
  فلذا ترى محور الاستبعاد يبتني على ما رسموه من هالة لشخص الخليفة في نفوسهم ، كالملاحظ في قول ابن حزم (وهذا ما لا يحلّ لمسلم أن يظنّه بمن دون عمر من عامّة المسلمين ، فكيف بعمر رضي الله عنه )!
  ونرى أيضاً أنَّ أسباباً أُخرى ـ ستأتي هي التي جعلت الخليفة يمنع التدوين والتحديث ، ويوسّع دائرة الاجتهاد والرأي وتعرّف المصلحة ، وما ماشاها من أدلّة كانت مرتسمة في ذهن طائفة من الصحابة منذ زمن النبيّ (ص) ، وعلى رأسهم الخليفة عمر بن الخطّاب ، والخليفة بتأكيده على تلك الاَُسس جدَّ في ترسيخ هذه الفكرة.

  الثابت عند المسلمين هو لزوم امتلاك الخليفة قدرتين:
  (1) قدرته السياسيّة وحنكته في إدارة شؤون الاَُمّة في الحرب والسلم ، وبراعته في تحصين ثغور المسلمين ، ومجاهدته أعداءَ الدين حتّى يرضخوا للدعوة الاِسلاميّة وأحكامها ، وما إليها من أُمور الدولة ، كجباية الفيء ، والصدقات ، وتقدير العطاء ، والخراج ، وسدّ عوز المحتاجين ، وسواها من مستلزمات الاِدارة وشؤون الدولة.
  (2) قدرته العلميّة لتصدّي أمر الاِفتاء بما نزل به القرآن ، وجاء به الرسول (ص) ، إذ إنّ الناس قد ألِفوا في عهد رسول الله (ص) أخذ الاَحكام عنه (ص) والرجوع إليه فيما يستجدّ من قضايا الحياة ، أمّا اليوم فإنّهم يرجعون إلى الخليفة ، ليقفوا على الاَحكام الشرعيّة والاَُمور المستجدّة عندهم ، وليقف من بَعُد عن النبيّ (ص) على تفاصيل الاَحكام ، لاَنّ الكثير منهم لم يتوطّن مكّة والمدينة ، وكذلك ليأخذ التابعون ـالذين لم يرَوا النبيّـ معالم الدِّين من الصحابة ، كلُّ أُولئك كانوا بحاجة إلى أخذ الاَحكام من الخليفة بالدرجة الاَُولى ومن يحيط به بالدرجة الثانية ، مع لحاظ الفارق بين الخليفة والنبيّ (ص).
  فالناس كانوا ينظرون إلى رسول الله (ص) على أنّه مشرّع (ما يَنْطِقُ عن الهوى) فحكمه (ص) يكون نافذاً عندهم ، لا يجوز مخالفته والتردّد فيه ، لاَنّه صدر عن الوحي.
  وأمّا الخليفة اليوم فليست له هذه السمة التي كانت للنبيّ (ص) ولميعطوه دوراً تشريعيّاً في الاَحكام (1) ، بل ينظرون إليه كمحدِّث عن الرَّسول لاغير.

------------------
(1) انظر الاِحكام في أُصول الاَحكام 1 : 11 ، ومناهج الاجتهاد للدكتور مدكور. مثلاً.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 114 _

  وقد أدرك أبو بكر وعمر هذه الحقيقة ، فأخذوا في بداية الاَمر ينقلون حكم الشرع من خلال القرآن الحكيم أو السنّة المطهَّرة.
  ولو خفي عليهم أمرٌ ما ، خرجوا إلى وجوه الصحابة يستفتونهم فيما يقضي به رسول الله (ص) في مثل هذا الاَمر ، ليقفوا وليوقفوا السائل على حكم الله ورسوله.
  أ ـ روى ميمون في حديث ، جاء فيه (... وكان أبو بكر إذا ورد عليه حكمٌ نظرَ في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به ، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنَّة رسول الله ، فإنْ وجد فيها ما يقضي به فقضى به ، فإن أعياه ذلك سأل الناسَ: هل علمتم أن رسول الله (ص) قضى فيه بقضاء ؟ فرُبّما قام إليه القوم ، فيقولون : قضى فيه بكذا وكذا .
  فإنْ لم يجد سنّة سنّها النبي (ص) جمع رؤساء الناس فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به) (1).
  ب ـ أخرج مالك ، وأبو داود ، وابن ماجة والدارميّ وغيرهم: أنّ جدّة جاءت إلى الصديق تسأله ميراثها ، فقال لها أبو بكر : مالكِ في كتاب الله شيء ، وما علمتُ لك في سنّة رسول الله شيئاً ، فارجعي حتّى أسأل الناس ؟
  فسأل الناس ، فقال المغيرة: حَضَرَت رسول الله (ص) أعطاها السدس.
  فقال أبو بكر : هل معك غيرك ؟
  فقام محمّد بن مسلمة الاَنصاريّ ، فقال مثل ما قاله المغيرة.
  فأنفذه لها أبو بكر الصدّيق) (2).
  وقد كانت سيرة عمر مثل سيرة أبي بكر ، فكان يسأل الصحابة عمّا لايعرفه ليستثبته منهم كي يثبّته.
  ج ـ روى البيهقيّ بسنده عن السلميّ ، قال : (أُتي عمر بن الخطّاب بامرأة

------------------
(1) أعلام الموقّعين لابن قيّم الجوزيّة 1: 62.
(2) الموطّأ 2: 513|4 ، سنن أبي داود 3: 121|2894 ، سنن ابن ماجة 2: 909|2724 ، وسنن الدارميّ 2: 359 بتفاوت يسير.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 115 _

  جَهِدها العطش ، فمرّت على راع فاستسقت ، فأبى أن يسقيها إلاّ أن تمكّنه من نفسها ففعلت ، فشاور الناس في رجمها.
  فقال علي رضي الله عنه : هذه مضطرّة ، أرى أنْ تخلّي سبيلها ، ففعل) (1).
  د ـ سأل عمرُ بن الخطّاب أبا واقد الليثيّ: عمّا كان يقرؤه رسول الله في صلاة العيدين ؟
  فقال : بـ (قاف) و (اقتربت) (2).
  هـ ـ أخرج الحاكم عن سعيد بن المسيّب: (أنّ عمر بن الخطّاب أتى على هذه الآية (الذين آمنوا ولم يَلبِسوا إيمانَهم بُِظلْم) (3)فأتى أُبيّبن كعب فسأله : أيّنا لم يظلم ؟
  فقال له : يا أمير المؤمنين إنّما ذاك الشرك ، أما سمعت قول لقمان لابنه: (يا بنيّ لا تُشرك بالله إنّ الشِّرك لظلم عظيم) (4).
  و ـ (أُتي برجل من المهاجرين الاَوّلين وقد كان شرب ، فأمر به أن يُجلد فقال: لِمَ تجلدني ، بيني وبينك كتاب الله عزّ وجلّ.
  فقال عمر: في أيّ كتاب الله تجدُ أنّي لا أجلدك ؟
  فقال : إنّ الله تعالى يقول في كتابه (لَيْسَ على الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات جُناحٌ فيما طَعِمُوا) (5) ... الآية ، فأنا من الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات ثمّ اتّقوا وآمنوا ثمّ اتّقوا وأحسَنوا ، شهدتُ مع رسول الله بدراً والحُديبيّة والخندق والمشاهد.

------------------
(1) السنن الكبرى للبيهقيّ 8: 236 ، الرياض النضرة (3) 4: 16(3) 164 ، وذخائر العقبى والطرق الحكميّة لابن قيّم الجوزيّة.
(2) الموطّأ 1: 180|8 ، صحيح مسلم 2: 607|14 ، سنن أبي داود 1: 30|1154 ، سنن الترمذيّ 2: 23|532 ، السنن الكبرى 3: 294 ، وسنن ابن ماجة 1: 408|1282 ، وسنن النسائيّ 3: 183|184 بتفاوت يسير.
(3) الاَنعام : 82 .
(4) المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 305 ، والآية : 13 من سورة لقمان .
(5) المائدة : 93 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 116 _

  فقال عمر: ألا تردّون عليه ما يقول ؟
  فقال ابن عبّاس : إنّ هذه الآيات أُنزلت عُذراً للماضين ، وحجّةً للباقين، لاَنّ الله عزّ وجلّ يقول : (يا أيُّها الذين آمنوا إنَّما الخمرُ والَمْيسِرُ والاَنصابُ والاَزلامُ رِجْسٌ من عَمِلِ الشيطان) (1)ثمّ قرأ حتّى أنفذ الآية الاَُخرى: (إذا ما اتَّقَوا وآمنوا وعَمِلوا الصالحات ثمّ اتَّقَوْا وآمَنوا ثُمِّ اتَّقوا وأحْسَنوا )(2) فإنَّ الله عزّ وجلّ قد نَهى أن يُشرب الخمر.
  فقال عمر : صدقت ، فماذا ترون ؟
  فقال عليُّ رضي الله عنه : نرى أنّه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون جلدةً.
  فأمر عمر فَجُلِدَ ثمانين) (3).
  اتّضح لنا من خلال هذه النصوص وغيرها ـ ممّا تركنا سرده مخافة الاِطالة ـ أنّ الشيخين لم يدّعيا في بادىَ الاَمر أنّهما يعرفان جميع الاَحكام الصادرة عن رسول الله (ص) ، أو أنَّهما قد اختصّا بأحاديثه (ص) دون غيرهما ، إنّما مَثَلهم مَثَل كثير من الصحابة الذين خَفِيت عليهم الكثير من مسائل التشريع.
  وأمّا ما بُولغ فيه من إحاطتهم بجميع الاَحكام والعلوم وأنّهما كانا أخصّ من غيرهما بالرسول (ص) فقد صدر عن موقف عاطفيّ متطرِّف ، بعيد عن الواقع التاريخيّ ، ذلك لاَنّ أغلب المنقولات في هذا السياق عرضةٌ للشكّ والتّرديد ، ومن هذه النقول ما نسب فيها إلى عليّ بن أبي طالب أنّه قال : كنّا نتحدّث أنّ مَلَكاً ينطق على لسان عمر (4)!
  ومنها : ما روي عن ابن مسعود أنّه قال : لو وُضِعَ علم عمر في كفّة ميزان وعلم أهل الاَرض في كفّةٍ لَرَجَحَ علم عمر (5)!

------------------
(1) المائدة : 90 .
(2) المائدة : 93 .
(3) المستدرك على الصحيحين 4 : 376 ، وقد صحّحه الحاكم ، وكذا الذهبيّ في تلخيصه.
(4) حلية الاَولياء لاَبي نعيم 1: 24.
(5) أعلام الموقّعين 1: 20 ، وانظر مقدّمة فقه عبد الله بن مسعود للدكتور رواس قلعةچي.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 117 _

  ومنها ما نُسب إلى رسول الله أنّه قال : لو كان نبيّ بعدي لكان عمربن الخطّاب (1)8!
  أو: قد كان في الاَُمم محدَّثون ، فإن يكن في أُمّتي أحد فهو عمر (2)!
  وما سواها الكثير من المبالغات التي كانت وراءها شتّى الدوافع والاَسباب.
  ومن بيّنات المسائل ـفي هذا الصددـ أنّ الشيخين لو كانا قد اختصّا بشيء لبادرا إلى بيان الاَحكام ، ولما سألا الصحابة عمّا خفي عليهما ، ولما حدث الاختلاف بين منقولاتهما وآرائهما ، ولما رجعا عن فتاواهما إزاء نقولات وآراء الصحابة الآخرين ولما وصل الاَمر بالخليفة عمر بن الخطّاب أن يقول (كلّ الناس أعلم من عمر) (3)وفي آخر: (حتّى ربّات الحجال) (4).
  إذاً كان التعبّد بحكم الله ورسوله هو الضابطُ في معرفة الاَحكام في الصدر الاَوّل ، والجميع كانوا يعرفون ذلك ولم يَخْفَ هذا على أحد في تلك الفترة من تاريخ الاِسلام ، ولم يكن للشيخين ولا لغيرهما حقّ الاجتهاد قبال النصّ ، وإن كانا قد تخطَّيا في بعض الاَُمور أوامر الرسول (ص) واجتهدا قبال النصّ.
  ونحن نعلم بالضرورة (أنّ النبيّ لم يكن إذا أفتى بالفتيا ، أو إذا حكم بالحكم جمع لذلك جميع من بالمدينة ، ولكنّه عليه السلام كان يقتصر على من بحضرته ، ويرى أن الحجّة بمن يحضره قائمة على من غاب ، وهذا ما لايقدر على دفعه ذو حسٍّ سليم) (5).
  وأضاف ابن حزم بعد قوله السابق: ووجدنا الصاحب من الصحابة

------------------
(1) سنن الترمذيّ 5: 281|3769 ، المستدرك على الصحيحين 3: 85 ، الرياض النضرة 1 2:287.
(2) صحيح البخاريّ 5:15 ، صحيح مسلم 4 :1864|23 ، سنن الترمذي 5 : 285 | 3776 ، المستدرك على الصحيحين 3: 86 ، الرياض النضرة (1) 2: 287.
(3) تفسير الكشاف 3: 573 ، شرح النهج 1 : 182 ، الجامع لاَحكام القرآن 14: 277 ، الدرّ المنثور 5: 229 الاِحكام في أُصول الاَحكام 2: 253.
(4) شرح نهج البلاغة: 1: 182.
(5) الاِحكام في أُصول الاَحكام 1: 111.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 118 _

  رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتأَوَّل فيه تأويلاً يخرجه به عن ظاهره ، ووجدناهم رضي الله عنهم يقرُّون ويعترفون بأنّهم لم يَبْلُغْهم كثير من السنن ، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة : إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالاَسواق ، وإنّ إخواني من الاَنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم (1).
  ومن هنا يتجلّى أنّ رسم صورة للخليفة تَهَبُه تلك المنزلة الخاصّة في علوّها وغلوّها إنَّما هي نتاج عاطفة مغالية لا يرتضيها الخليفة نفسه ، ويبرأ منها ، وإليك نصوص بعض الصحابة التي تزيد الاَمر جلاءً.

  (1) معاذ بن جبل:
  أ ) جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب ، فقال: يا أمير المؤمنين ! إني غِبْتُ عن امرأتي سنتين ، فجئت وهي حبلى.
  فشاور عمر ناساً في رجمها.
  فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين! إنْ كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل ، فاتركها حتّى تضع.
  فتركها ، فولدت غلاماً قد خرجت ثناياه ، فعرف الرجل الشبه فيه.
  فقال : ابني وربّ الكعبة.
  فقال عمر: عجزت النساء أن يلِدْن مثل معاذ ، لولا معاذ لهلك عمر (2).
  ب ) إنّ رجلاً شجّ رجلاً من أهل الذِّمّة ، فهمّ عمر بن الخطّاب أن يقيّده منه.
  فقال معاذ بن جبل : قد علمت أن ليس ذلك لك ، وأُثر ذلك عن النبيّ

------------------
(1) الاِحكام في أُصول الاَحكام 1: 153.
(2) السنن الكبرى 7|443 ، شرح النهج 12: 202 ط قديم ، فتح الباري 12: 120 ، الاِصابة 3 :427 واللفظ للاَخير.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 119 _

  (ص) ، فأعطاهُ عمر بن الخطّاب في شجّته ديناراً ، فرضي به (1).
  (2) زيد بن ثابت:
  أ ) عن مجاهد قال : قدم عمر بن الخطّاب الشام ، فوجد رجلاً من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذِّمّة ، فهمّ أن يقيّده ، فقال له زيد بن ثابت : أتقيّدُ عبدك من أخيك ؟! فجعله عمر دية (2).
  ب ) عن مكحول : أنّ عبادة بن الصامت دعا نبطيّاً يمسكُ له دابّتة عند بيت المقدس ، فأبى ، فضربه فشجّه ، فاستعدى عليه عمر بن الخطّاب فقال له : ما دعاك إلى ما صنعت بهذا ؟
  فقال : يا أمير المؤمنين ! أمرته أن يمسك دابّتي فأبى ، وأنا رجل فيَّ حدّة فضربته.
  فقال : اجلس للقصاص.
  فقال زيد بن ثابت : أتُقيّدُ عبدكَ من أخيك ؟!
\   فترك عمر عنه القَوَد ، وقضى عليه بالدية (3).
  ج ) عن زيد بن ثابت : أنّ عمر بن الخطّاب استأذن عليه يوماً ، فأذن له ورأسه في يد جارية له تُرَجِّلَُهُ ، فنزع رأسه.
  فقال له عمر: دعها ترجّلك.
  فقال : يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إليّ جئتك.
  فقال عمر : إنَّما الحاجة لي ، إنّي جئتك لتنظر في أمر الجَدّ.
  فقال زيد : لا ، والله ما يقولُ فيه.
  فقال عمر : ليس هو بوحي حتّى نزيد فيه وننقص منه ، إنّما هو شيء نراه ، فإن رأيته وافقني تبعته ، وإلاّ لم يكن عليك فيه شيء.
  فأبى زيد ، فخرج مغضباً ، قال:قد جئتك وأنا أظنّك ستفرغ من حاجتي.

------------------
(1) كنز العمّال 15: 97.
(2) كنز العمّال 15: 97|40242.
(3) السنن الكبرى 8: 32 ، كنز العمّال 15: 94|40232.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 120 _

  ثمّ أتاه مرّة أُخرى في الساعة التي أتاه في المرّة الاَُولى ، فلم يزل به حتّى قال:
  فسأكتب لك فيه ، فكتبه في قطعة قتب وضرب له مثلاً : إنَّما مَثَله مثل شجرة نبتت على ساق واحد فخرج فيها غُصن ، ثمّ خرج في الغُصن غُصن آخر ، فالساق يسقي الغُصن ، فإن قطع الغصن الاَوّل رجع الماء إلى الغصن [يعني الثاني] وإنْ قطعت الثاني رجع الماء إلى الاَوّل.
  فأتى به فخطب الناس عمر ، ثمّ قرأ قطعة القتب عليهم ، ثمّ قال : إنّ زيدبن ثابت قد قال في الجدّ قولاً وقد أمضيته.
  قال : وقد كان أوّل جدّ كان ، فأراد أن يأخذ المال كلّه ابن ابنه دون إخوته ، فقسّمه بعد ذلك عمر بن الخطّاب (1).
  (3) أبو عبيدة بن الجرّاح:
  عن عمر بن عبد العزيز: إنّ رجلاً من أهل الذمّة قُتِلَ بالشام عمداً ، وعمربن الخطّاب إذ ذاك بالشام ، فلمّا بلغه ذلك ، قال عمر: قد وقعتم بأهل الذمّة ؟! لاَقتلنّه به!
  فقال أبو عبيدة بن الجرّاح: ليس ذلك لك.
  فصلّى ، ثمّ دعا أبا عبيدة فقال : لمَ زعمت لا أقتله به ؟
  فقال أبو عبيدة: أرأيت لو قتل عبداً له ، أكنت قاتله به ؟!
  فصمت عمر ، ثمّ قضى عليه بألف دينارٍ مغلّظاً عليه (2).
  (4) حُذيفة بن اليمان:
  عن حذيفة بن اليمان: إنّه لقي عمر بن الخطّاب ، فقال له عمر: كيف أصبحت يابن اليمان ؟
  فقال : كيف تريدني أُصبي ؟! أصبحت والله أكره الحقّ ، وأُحبّ الفتنة ، وأشهد بما لم أرَه ، وأحفظ غير المخلوق ، وأُصلّي على غير وضوء ، ولي في الاَرض ما ليس لله في السماء.

------------------
(1) السنن الكبرى 6: 247.
(2) السنن الكبرى 8: 32 ، كنز العمّال 15: 94.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 121 _

  فغضب عمر لقوله وانصرف من فوره ، وقد أعجله أمر ، وعزم على أذى حذيفة بقوله ذلك ، فبينا هو في الطريق إذ مرّ بعليّ بن أبي طالب ، فرأى الغضب في وجهه فقال:
  ما أغضبك يا عمر ؟
  فقال : لقيت حذيفة بن اليمان ، فسألته: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أكرهُ الحقّ ؟
  فقال : صدق ، يكره الموت وهو حقُّ.
  فقال ، يقول : وأُحبُّ الفتنة!
  قال : صدق ، يُحبّ المال ، والولد ، وقد قال الله تعالى (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) (1).
  فقال : يا عليّ! يقول : وأشهدُ بما لم أره؟!   فقال : صدق ، يشهد لله بالوحدانيّة ، والموت ، والبعث ، والقيامة ، والجنّة ، والنار ، والصِّراط ، ولم يرَ ذلك كلّه.
  فقال : يا عليّ! وقد قال : إنّي أحفظ غير المخلوق!
  قال : صدق ، يحفظ كتاب الله تعالى ، القرآن ، وهو غير مخلوق.
  قال : ويقول: أُصلّي على غير وضوء.
  قال : صدق ، يُصلّي على ابن عمّي رسول الله (ص) على غير وضوء ، والصلاة عليه جائزة.
  فقال : يا أبا الحسن! قد قال أكبرَ من ذلك.
  فقال : وما هو ؟
  قال : قال إنّ لي في الاَرض ما ليس لله في السماء!
  قال : صدق ، له زوجة وولد ، وتعالى الله عن الزوجة والولد.
  قال عمر : كاد يهلكُ ابن الخطّاب ، لولا عليّ بن أبي طالب (2).

------------------
(1) التغابن : 15 ، الاَنفال : 28 .
(2) الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكيّ: 35 ، وكفاية الطالب للكنجيّ الشافعيّ ص:218ـ219.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 122 _

  (5) عبد الله بن مسعود :
  أ ) عن إبراهيم النخعيّ: أنّ عمر بن الخطّاب أفتى برجل قد قَتل عمداً ، فأمر بقتله ، فعفا بعض الاَولياء ، فأمر بقتله.
  فقال ابن مسعود : كانت النفس لهم جميعاً ، فلمّا عفا هذا أحيى النفس ، فلايستطيع أن يأخذ حقَّه حتّى يأخذ غيره ، قال : فما ترى ؟
  قال : أرى أنْ تجعل الدية عليه في ماله ، وترفع حصّة الذي عفا ، قال عمر: وأنا أرى ذلك (1).
  (6) أُبيّ بن كعب:   عن الحسن: أنّ عمر بن الخطّاب قال : لقد هممتُ أن لا أدع في الكعبة صفراء ولا بيضاء إلاّ قسمتها!
  فقال له أُبيّ بن كعب: والله ، ما ذاك لك.
  فقال عمر: ولِمَ ؟!
  قال : إنّ الله قد بيّن موضع كلّ مال وأقرّه عن رسول الله (ص).
  قال عمر: صدقت (2).
  ذكر ابن قيّم الجوزيّة: أنّ عمر أراد أنْ يأخذ مال الكعبة ، وقال: الكعبة غنيّة عن ذلك المال ، وأراد أن ينهى أهل اليمن أن يصبغوا بالبول (3) ، وأراد أن ينهي عن متعة الحجّ.
  فقال أُبيّ بن كعب : قد رأى رسول الله (ص) وأصحابه هذا المال به وبأصحابه الحاجة إليه فلم يأخذه ، وأنت فلا تأخذه.
  وقد كان رسول الله (ص) وأصحابه يلبسون الثياب اليمانيّة ، فلميَنْهَ عنها ، وقد علم أنّها تُصبغ بالبول.
  وقد تمتّعنا مع رسول الله (ص) فلم يَنه عنها ، ولم يُنزل الله تعالى فيها

------------------
(1) السنن الكبرى 8: 60 ، الاَُمّ للشافعيّ 7 : 329. وله قضيّة أُخرى راجع كنز العمّال 11 : 33 | 30513 ، وعن ابن القيّم : إنَّ ابن مسعود خالف عمر في أكثر من مائة قضيّة.
(2) السنن الكبرى 5 : 159 ، الرياض النضرة (1) 2 : 339.
(3) المراد بالبول هو بول الاِبل لا بول الاِنسان.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 123 _

نهياً (1).
  (7) الضَّحّاك بن سفيان الكلابيّ:
  عن سعيد بن المُسيّب: أنّ عمر بن الخطّاب كان يقول (الدية للعاقلة ولاترث المرأه من دية زوجها شيئاً).
  حتّى أخْبَرَه الضحّاك بن سفيان أنّ النبيّ (ص) كتب إليه أن يُورِّث امرأة أشيم الضبابيّ من ديته ، فرجع إليه عمر (2).
  (8) شَيْبة بن عثمان:
  عن شقيق ، عن شيبة بن عثمان ، قال: قعَد عمر بن الخطّاب في مقعدك الذي أنت فيه ، فقال : لا أخرج حتّى أُقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين.
  قال : قلت : ما أنت بفاعل!
  قال : بلى لاَفعلنَّ!
  قال : قلت : ما أنت بفاعل!
  قال : لِمَ ؟
  قلت : لاَنّ رسول الله (ص) قد رأى مكانه ، وأبو بكر ، وهما أحوج منك إلى المال فلم يُخرجاه.
  فقام فخرج (3).
  (9) عبد الله بن عبّاس:
  عن نافع بن جبير : أن ابن عبّاس أخبره قال : إنّي لَصاحب المرأة التي أُتي بها عمر وضعت لستّة أشهر ، فأنْكر الناس ذلك ، فقلت لعمر : لا تظلم ، قال : كيف ؟ قلت : اقرأ: (وحملُه وفِصاله ثلاثون شهراً) (4) ، (والوالداتُ

------------------
(1) زاد المعاد ، لابن قيم الجوزيّة 1: 213.
(2) الاَُمّ 6: 88 ، سنن أبي داود 3 : 129 | 2927 ، مسند أحمد 3: 452 ، سنن ابن ماجة 2 : 883 | 2642 ، سنن الترمذيّ: 434 ، السنن الكبرى 8: 134 ، تاريخ بغداد 8 : 343.
(3) سنن أبي داود 2: 215|2031 ، سنن ابن ماجة 2: 104|3116 ، الرياض النضرة 1 ـ 2 : 339.
(4) الاَحقاف : 15 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 124 _

  يُرضعْنَ أولادَهُنّ حَوْلَين كامِلَين) (1).
  كم الحَوْل؟
  قال : سنة.
  قلت : كم السنة ؟
  قال : اثنا عشر شهراً.
  قلت : فأربعة وعشرون حولان كاملان ، ويؤخِّرُ الله من الحمل ما شاء ، ويُقدِّمُ ، قال : فاستراح عمر إلى قولي (2).
  (10) عليّ بن أبي طالب:
  أ ) عن ابن عبّاس ، قال : أُتي عمر بمجنونة قد زنت ، فاستشار فيها أُناساً ، فأمر بها أن ترجم ، فمرّ علي رضي الله عنه فقال : ما شأن هذه ؟
  فقالوا : مجنونة بني فلان زنت ، فأمر بها عمر أن ترجم!
  فقال : ارجعوا بها.
  ثمّ أتاه ، فقال : يا أمير المؤمنين! أما علمت أنّ رسول الله قال: رُفع القلم عن ثلاث : عن الصبيّ حتّى يبلغ ، والنائم حتّى يستيقط ، والمعتوه حتّى يبرأ ؟! وإنّ هذه معتوهة بني فلان ، لعلّ الذي أتاها أتاها وهي في بلائها ، فخلّى سبيلها ، وجعل عمر يكبِّر (3).
  ب ) أُتي عمر بن الخطاب بامرأة قد تعلّقت بشابّ من الاَنصار ، وكانت تهواه ، فلمّا لم يساعدها احتالت عليه ، فأخذت بيضة فألقت صُفرتها ، وصبّت البياض على ثوبها وبين فخذيها ، ثمّ جاءت إلى عمر صارخة ، فقالت: هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي وهذا أثر فعاله!
  فسأل عمر النساء فقلن له : إنّ ببدنها وثوبها أثر المنيّ ، فهمّ بعقوبة الشابّ ، فجعل يستغيث ويقول : يا أمير المؤمنين! تثبّت في أمري فوالله ما أتيت

------------------
(1) البقرة : 233 .
(2) الدرّ المنثور 6: 40.
(3) سنن أبي داود 4: 140|4399 ، المستدرك على الصحيحين 2: 59 و4: 389 ، السنن الكبرى 8:264.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 125 _

  فاحشة وما هممت بها ، فلقد راودتْني عن نفسي فاعتصمت.
  فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهما ؟
  فنظر عليٌّ إلى ما على الثوب ، ثمّ دعا بماء حارّ شديد الغليان ، فصبّ على الثوب ، فجمد ذلك البياض ، ثمّ أخذه وشمّه وذاقه ، فعرف طعم البيض ، وزجر المرأة ، فاعترفت (1).
  (11) عبد الرحمن بن عوف:
  أ ) عن ابن عبّاس ، أنّه قال له عمر: يا غلام! هل سمعت من رسولالله (ص) أو من أحد من الصحابة إذا شكّ الرجل في صلاته ماذا يصنع ؟
  قال : فبينما هو كذلك ، إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف.
  فقال : فيم أنتما ؟
  فقال عمر : سألت هذا الغلام: هل سمعت من رسول الله (ص) أو أحد من أصحابه إذا شكّ الرجل في صلاته ماذا يصنع ؟ قال عبدالرحمن : سمعت من رسول الله (ص) يقول : إذا شكّ أحدكم... إلى آخر الحديث (2).
  ب ) عن قتادة ، قال : سئل عمر بن الخطّاب عن رجل طَلَّقَ امرأته في الجاهليّة تطليقتين وفي الاِسلام تطليقة.
  قال : لا آمرك ولا أنهاك.
  فقال عبد الرحمن: لكنّي آمرك ، ليس طلاقك في الشرك بشيء (3).
  (12) وامرأة خطَّأتهُ فيما ذهب إليه من عدم جواز الغلاء في المهور (4).
  كانت هذه نصوص نقلناها عن أكثر من عشرة من الصحابة والتابعين ، من بينهم كبار الصحابة ، أمثال.
  (1) معاذ بن جبل.

------------------
(1) الطرق الحكميّة لابن قيّم الجوزيّة: 47 كما في الغدير : 6.
(2) مسند أحمد 1: 190 ، السنن الكبرى 2: 332.
(3) مسند أحمد 3: 482.
(4) تفسير الكشّاف 1: 491 ، تفسير القرآن العظيم 1: 736 ، الدرّ المنثور 2:133.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 126 _

  (2) زيد بن ثابت.
  (3) أبو عبيدة بن الجرّاح.
  (4) حذيفة بن اليمان.
  (5) عبد الله بن مسعود.
  (6) أُبيّ بن كعب.
  (7) الضحّاك بن سفيان الكلابيّ.
  (8) شيبة بن عثمان.
  (9) عبد الله بن عبّاس.
  (10) عليّ بن أبي طالب.
  (11) عبد الرحمن بن عوف.
  (12) امرأة من نساء المسلمين.
  وفي ما تقدّم صراحة في أنَّ المنهج الصحيح هو الانصياع لما حكم به الله ورسوله وأنَّه لابدَّ للخليفة من الرجوع إلى الكتاب والسنّة في تبيين الاَحكلام ، وهذه الحالة كانت مستقرّة في نفوس الصحابة لما رأيت من تصحيحهم للخليفة مستدلّين تارة بالقرآن العزيز وأُخرى بالسنّة المطهّرة.
  وهذه الوقائع تؤكّد أنّ الخليفة لايدّعي أنّه قد اختصّ بمعرفة الاَحكام جميعاً أو (أنّه كان يتفرّد بتكوين عقليّ خاصّ به ، وبلغ من النضج حدّ العبقريّة بدليل موافقات الوحي له ، وشهادة رسول الله بأنّ الحقّ يدور مع عمر حيث دار) .