( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (1) ) قال : فقال العالم : أما إن عليا لم يقل في موضع : ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) ولكن الله علم من قلبه أنما أطعم لله فأخبره بما يعلم من قلبه من غير أن ينطق به.
  ثم هو ان ما ظفر به من الدنيا عليه ، أنه جمع الاموال ثم دخل إليها فقال :
هـذا  جـناي وخياره iiفيه      إذ كل جان يده إلى فيه (2)
  ابيضي واصفري وغري غيري أهل الشام غدا إذا ظهروا عليك ، وقال : أنا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظلمة (3) ، ثم ترك التفضيل لنفسه وولده على أحد من أهل الاسلام دخلت عليه اخته ام هاني بنت أبي طالب فدفع إليها عشرين درهما ، فسألت أم هاني مولاتها العجمية فقالت : كم دفع إليك أمير المؤمنين عليه السلام ؟ فقالت : عشرين درهما فانصرفت مسخطة ، فقال لها : انصرفي رحمك الله ما وجدنا في كتاب الله فضلا لاسماعيل على إسحاق ، وبعث إليه من خراسان بنات كسرى فقال لهن : ازوجكن ؟ فقلن له : لا حاجة لنا في التزويج فإنه لا أكفاء لنا إلا بنوك ، فإن زوجتنا منهم رضينا فكره أن يؤثر ولده بما لا يعم به المسلمين ، وبعث إليه من البصرة من غوص البحر بتحفة لا يدرى ما قيمتها فقالت له ابنته ام كلثوم : يا أمير المؤمنين أتجمل به ؟ ويكون في عنقي ؟ فقال : يا أبا رافع أدخله إلى بيت المال ليس إلى ذلك سبيل ، حتى لا تبقي امرأة من المسلمين إلا ولها مثل ذلك.
  وقام خطيبا بالمدينة حين ولي فقال : يا معشر المهاجرين والانصار يا معشر قريش اعلموا والله أني لا أرزؤكم من فيئكم شيئا ما قام لي عذق بيثرب (4) ، أفتروني مانعا نفسي و ولدي ومعطيكم ، ولاسوين بين الاسود والاحمر ؟ فقام إليه عقيل بن أبي طالب فقال : لتجعلني وأسودا من سودان المدينة واحدا ؟ فقال له : اجلس رحمك الله تعالى أما كان ههنا من يتكلم غيرك ؟ وما فضلك عليهم إلا بسابقة أو تقوى.

------------------------------------
(1) الدهر : 4 إلى 21.
(2) الجنى : ما يجنى من الثمرة من جنى يجنى فهو جان. وخيار الشئ افضله.
(3) اليعسوب : الرئيس الكبير ، يقال : هو يعسوب قومه اى رئيسهم.
(4) رزأه ماله ـ كجعله ـ رزء‌ا : اصاب منه شيئا ، والعذق ـ بالكسر ـ : كل غصن له شعب.

الاختصاص _ 152 _

  ثم اللباس استعدى زياد بن شداد الحارثي (1) صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله على أخيه عبيدالله بن شداد فقال : يا أمير المؤمنين ذهب أخي في العبادة وامتنع أن يساكنني في داري ولبس أدنى ما يكون من اللباس(2) ، قال : يا أمير المؤمنين تزينت بزينتك ، ولبست لباسك ، قال : ليس لك ذلك إن إمام المسلمين إذا ولي امورهم لبس لباس أدنى فقيرهم لئلا يتبيغ بالفقير فقره فيقتله (3) فلاعلمن ما لبست إلا من أحسن زي قومك ، ( وأما بنعمة ربك فحدث ) فالعمل بالنعمة أحب إلي من الحديث بها.
  ثم القسم بالسوية والعدل في الرعية ، ولى بيت مال المدينة عمار بن ياسر وابا الهيثم ابن التيهان فكتب : العربي والقرشي والانصاري والعجمي وكل من كان في الاسلام من قبائل العرب وأجناس العجم [سواء ] فأتاه سهل بن حنيف بمولى له أسود فقال : كم تعطي هذا فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : كم أخذت أنت ؟ قال : ثلاثة دنانير وكذلك أخذ الناس قال : فأعطوا مولاه مثل ما أخذ ثلاثة دنانير ، فلما عرف الناس أنه لا فضل لبعضهم على بعض إلا بالتقوى عند الله ، أتى طلحة والزبير عمار بن ياسر وأبا الهيثم بن التيهان فقالا : يا أبا اليقظان استأذن لنا على صاحبك قال : وعلى صاحبي إذن قد أخذ بيد أجيره واخذ مكتله ومساحته وذهب يعمل في نخلة في بئر الملك ، وكانت بئر ينبع سميت بئر الملك فاستخرجها علي بن أبي طالب عليه السلام وغرس عليها النخل ، فهذا من عدله في الرعية وقسمه بالسوية.
  قال ابن دأب : فقلنا : فما أدنى طعام الرعية ؟ فقال : يحدث الناس أنه كان يطعم الخبز واللحم ، ويأكل الشعير والزيت ، ويختم طعامه مخافة أن يزاد فيه ، وسمع

------------------------------------
(1) استعدى الرجل استعان به واستنصره.
(2) كذا.
(3) بيغ وتبيغ اى هاج ، والتبيغ : الهيجان والغلبة ، وروى مثله الكلينى في المجلد الاول من الكافى ص 411 وفيه مكان ( عبيدالله بن شداد ) ربيع بن زياد ومكان ( زياد بن شداد الحارثى ) عاصم بن زياد الحارثى ومثله في النهج قبل كلامه عليه السلام في احاديث البدع واختلاف الخبر وقال ابن ابى الحديد : ان الذى رويته عن الشيوخ ورأيته بخط احمد بن عبدالله الخشاب ان الربيع بن زياد الحارثى اصابه نشابة في جبينه ـ إلى ان قال :ـ قال الربيع يا امير المؤمنين : الا اشكو اليك عاصم بن زياد اخى ؟ قال : لبس العباء وترك الملاء وغم اهله الخ راجع ج 3 ص 19 من طبع بيروت.

الاختصاص _ 153 _
  مقلى في بيته فنهض وهو يقول : في ذمة علي بن أبي طالب مقلى الكراكر ، قال : ففزع عياله وقالوا : يا أمير المؤمنين إنها امرأتك فلانة نحرت جزورا في حيها فأخذلها نصيب منها فأهدى أهلها إليها ، قال : فكلوا هنيئا مريئا ، قال : فيقال : إنه لم يشتك ألما إلا شكوى الموت وإنما خاف أن يكون هدية من بعض الرعية وقبول الهدية لوالي المسلمين خيانة للمسلمين.
  قال : قيل : فالصرامة ؟ قال : انصرف من حربه فعسكر في النخيلة ، وانصرف الناس إلى منازلهم واستأذنوه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين كلت سيوفنا ، ونصلت أسنة رماحنا (1) فإذن لنا ننصرف فنعيد بأحسن من عدتنا ، وأقام هو بالنخيلة وقال : إن صاحب الحرب الارق (2) الذي لا يتوجد من سهر ليله وظمأ نهاره ولا فقد نسائه وأولاده ، فلا الذي انصرف فعاد فرجع إليه ، ولا الذي أقام فثبت معه في عسكره أقام ، فملا رأى ذلك دخل الكوفة فصعد المنبر فقال : لله أنتم ! ما أنتم إلا أسد الشرى (3) في الدعة ، وثعالب رواغة ، ما أنتم بركن يصال به (4) ولا زوافر عز يفتقر إليها ، أيها المجتمعة أبدانهم والمختلفة أهواؤهم ما عزت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم (5) ، مع أي إمام بعدي تقاتلون

------------------------------------
(1) كان ذلك بعد منصرفه عليه السلام من نهروان ، والاسنة : جمع سنان. و ( نصلت اسنة رماحنا ) اى زال اثرها.
(2) الارق : السهر بالليل ، وفى النهاية : رجل ـ ارق ككتف ـ : إذا سهر لعلة فان كان السهر من عادته قيل : ارق بضم الهمزة والراء ـ.
(3) الشرى : موضع تنسب اليه الاسد ، وقيل : هو شرى الفرات وناحيته وبه غياض وآجام و مأسدة.
والاسد : جمع أسد، والدعة : خفض العيش اى في وقت الدعة والخفض ، والرواغ : كثير الخداع والمكر ، يقال : هو ثعلب رواغ وهم ثعالب رواغة.
(4) في النهج ( بركن يمال بكم ) اى يمال إلى العدو بقوتكم ، وفى تاريخ الطبرى والامامة والسياسة ( بركن يصال بكم ) ، وقوله ( زوافر عز يفتقر اليها ) في الطبرى والامامة ( ذى عز يعتصم إليه ).
والزوافر جمع زافرة وهى من البناء : ركنه ومن الرجل : عشيرته وانصاره وخاصته وفى بعض خطب النهج ( ولا زوافر عز يعتصم اليها ).
(5) ( المختلفة اهواؤهم ) في البيان والتبيين للجاحظ ج 2 ص 56 ( المختلفة اهواؤكم ) وهذا على الالتفات.
يعنى المختلفة اراؤهم وميولهم وما تميل اليه قلوبهم.
والعزة في الاصل الغلبة و القوة واسناد المنفى إلى الدعوة توسع والمراد ذلة من دعاهم لعدم الاجابة.
وقوله : ) قاساكم ( في بعض النسخ [ ماشاكم ].

الاختصاص _ 154 _
  وأي دار بعد داركم تمنعون ، فكان في آخر حربه أشد أسفا وغيظا وقد خذله الناس، (1) قال : فما الحفظ ؟ قال : هو الذي تسميه العرب العقل ، لم يخبره رسول الله صلى الله عليه وآله بشئ قط إلا حفظه ، ولا نزل عليه شئ قط إلا وعى به ، ولا نزل من أعجايب السماء شئ قط إلى الارض إلا سأل عنه حتى نزل فيه ( وتعيها اذن واعية ) (2) .
  وأتى يوما باب النبي صلى الله عليه وآله وملائكته يسلمون عليه وهو واقف حتى فرغوا ، ثم دخل على النبي صلى الله عليه وآله فقال له : يا رسول الله سلم عليك أربع مائة ملك ونيف ، قال : وما يدريك ؟ قال : حفظت لغاتهم.
  فلم يسلم عليك ملك إلا بلغة غير لغة صاحبه.
  قال السيد : (3)
فـظل  يـعقد بـالكفين iiمستمعا      كـأنه  حـاسب من أهل iiدارينا
أدت إلـيه بـنوع مـن iiمفادتها      سفائن الهند يحملن الربا بينا (4)
  قال ابن دأب : وأهل دارينا قرية من قرى أهل الشام [ أ ] وأهل جزيرة أهلها أحسب قوم.
  ثم الفصاحة ، وثب الناس إليه فقالوا : يا أمير المؤمنين ما سمعنا أحدا قط أفصح منك ولا أعرب كلاما منك ، قال : وما يمنعني وأنا مولدي بمكة.
  قال ابن دأب : فأدركت الناس وهم يعيبون كل من استعان بغير الكلام الذي يشبه الكلام الذي هو فيه (5) ويعيبون الرجل الذي يتكلم ويضرب بيده على بعض جسده أو على الارض أو يدخل في كلامه ما يستعين به فأدركت الاولى وهم يقولون : كان عليه السلام يقوم فيتكلم بالكلام منذ ضحوة (6) إلى أن تزول الشمس ، لا يدخل في كلامه غير الذي تكلم

------------------------------------
(1) هذه الخطبة مروية في البيان والتبيين ج 2 ص 56 وتاريخ الطبرى ج 4 ص 67 ونهج البلاغة بتغييرات.
(2) الحاقة : 11.
(3) اراد به السيد اسماعيل الحميرى المعروف مادح اهل البيت.
(4) الربا بين جمع ربان ـ بضم الراء وشد الباء الموحدة ـ هو رئيس الملاحين ، وفى بعض النسخ [ سفائن الهند يعلقن الربابينا ].
(5) هكذا في النسختين وفى البحار.
(6) الضحوة : ارتفاع النهار بعد طلوع الشمس.

الاختصاص _ 155 _
  به ولقد سمعوه يوما وهو يقول : والله ما أتيتكم اختيارا ولكن أتيتكم سوقا (1) ، أما والله لتصيرن بعدي سبايا سبايا يغيرونكم ويتغاير بكم ، أما والله إن من ورائكم الادبر ، لا تبقى ولا تذر ، والنهاس الفراس القتال الجموح (2) ، يتوارثكم منهم عدة يستخرجون كنوزكم من حجالكم ليس الآخر بأرأف بكم من الاول ، ثم يهلك بينكم دينكم و دنياكم ، والله لقد بلغني أنكم تقولون : إني أكذب فعلى من أكذب أعلى الله ؟ ! فأنا أول من آمن بالله أم على رسوله ؟ ! فأنا أول من صدق به ، كلا والله أيها اللهجة عمتكم شمسها (3) ولم تكونوا من أهلها ، وويل لامه ، كيلا بغير ثمن ، لو أن له وعاء (4) ولتعلمن نبأه بعد حين ، إني لو حملتكم على المكروه الذي جعل الله عاقبته خيرا إذا كان فيه وله ، فإن استقمتم هديتم ، وإن تعوجتم أقمتكم ، وإن أبيتم تداركتكم ، لكانت الوثقى التي لا تعلى ، ولكن بمن ؟ وإلى من ؟ ، اداويكم بكم واعاتبكم بكم (5) ، كناقش الشوكة بالشوكة أن ضلعها معها (6) ، يا ليت لي من بعد قومي قوما ، وليت أن أسبق يومي.
هـنالك لو دعوت أتاك منهم      رجال مثل أرمية الحميم (7)

------------------------------------
(1) في بعض نسخ النهج ( والله ما اتيتكم اختيارا ولا جئت اليكم شوقا ).
(2) النهاس : الاسد والذئب وبمعنى النهاش ، والفراس : الاسد، والجموح معرب (جموش) ، وفى الاحتجاج والارشاد ( النهاس الفراس الجموع المنوع ).
(3) كذا وفى النهج [ كلا والله ولكنها لهجة غبتم عنها ]، وفى الاحتجاج للطبرسى ( كلا ولكنها لهجة خدعة كنتم عنها اغنياء )، وهكذا في الارشاد ولعل ما في الكتاب تصحيف.
(4) في النهج ( ويلمه كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء ) ويلمه مخفف ( ويل لامه ).
(5) في النهج ( اريد أن اداوى بكم وانتم دائى ).
(6) الضلع ـ بفتح الضاد وسكون اللام ـ : الميل وهو مثل يضرب لمن يستعان به على خصم و كان ميله وهواه مع الخصم ، وفى الاصل ( لا تنقش الشوكة بالشوكة فان ضلعها معها ) ونقش الشوكة اخراجها من العضو تدخل فيه.
(7) قال الشريف الرضى في النهج ذيل خطبة 26 : الارمية جمع رمى وهو السحاب والحميم ههنا وقت الصيف ، وانما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لانه اشد جفولا واسرع خفوفا ، لانه لا ماء فيه وانما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء وذلك لا يكون في الاكثر إلا زمان الشتاء ، وانما اراد الشاعر وصفهم بالسرعة اذا دعوا والاغاثة اذا استغيثوا ، والدليل على ذلك قوله : ( هنالك لو دعوت اتاك منهم ) انتهى، اقول : قوله : ( خفوفا ) مصدر غريب لخف بمعنى انتقل وارتحل مسرعا والمصدر المعروف الخف.

الاختصاص _ 156 _
  اللهم إن الفرات ودجلة نهران (1) أعجمان أصمان أعميان أبكمان ، اللهم سلط عليهما بحرك وانزع منهما نصرك ، لا النزعة بأشطان الركي (2) ، أين القوم الذين دعوا إلى الاسلام فقبلوه وقرؤوا القرآن فأحكموه ، وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح إلى أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الرماح زحفا زحفا ، وصفا صفا ، صف هلك وصف نجا ، لا يبشرون بالنجاة ، ولا يعزفون عن الفناء ، اولئك إخواني الذاهبون فحق لنا أن نظمأ إليهم.
  ثم رأيناه وعيناه تذرفان وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون إلى عيشة بمثل بطن الحية ، متى ؟ لامتى لك منهم ، لامتي.
  قال ابن دأب : هذا ما حفظت الرواة الكلمة بعد الكلمة وما سقط من كلامه أكثر وأطول ، مما لا يفهم عنه.
  ثم الحكمة واستخراج الكلمة بالفطنة التي لم يسمعوها من أحد قط بالبلاغة في الموعظة فكان مما حفظ من حكمته وصف رجلا أن قال : ينهى ولا ينتهي ويأمر الناس بما لا يأتي ويبتغي الازدياد فيما بقي ويضيع ما اوتي ، يحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم ، ويبغض المسيئين وهو منهم ، يبادر من الدنيا ما يفنى ، ويذر من الآخرة ما يبقى ، يكره الموت لذنوبه ولا يترك الذنوب في حياته.
  قال ابن دأب : فهل فكر الخلق إلى ما هم عليه من الوجود بصفته إلى ما قال غيره.
  ثم حاجة الناس إليه وغناه عنهم إنه لم ينزل بالناس ظلماء عمياء كان لها موضعا غيره مثل مجيئ اليهود يسألونه ويتعنتونه ويخبر بما في التوراة وما يجدون عندهم ، فكم من يهودي قد أسلم وكان سبب إسلامه هو.

------------------------------------
(1) في بعض النسخ [ دجلة نهروان ].
(2) الاشطان جمع شطن وهو الحبل، والركى جمع ركية وهى البئر، وفى النهج ( اللهم قد ملت اطباء هذا الداء الدوى وكلت النزعة بأشطان الركى ).

الاختصاص _ 157 _
  وأما غناه عن الناس فإنه لم يوجد على باب أحد قط يسأله عن كلمة ولا يستفيد منه حرفا.
  ثم الدفع عن المظلوم وإغاثة الملهوف ، قال : ذكر الكوفيون ان سعيد بن القيس الهمداني رآه يوما في شدة الحر في فناء حائط فقال : يا أمير المؤمنين بهذه الساعة ؟ قال : ما خرجت إلا لاعين مظلوما أو اغيث ملهوفا ، فبينا هو كذلك إذ أتته امرأة قد خلع قلبها ، لا تدري أين تأخذ من الدنيا حتى وقفت عليه ، فقالت : يا أمير المؤمنين ظلمني زوجي وتعدى علي وحلف ليضربني فاذهب معي إليه ، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول : لا والله حتى يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع (1) وأين منزلك ؟ قالت : في موضع كذا وكذا ، فانطلق معها حتى انتهت إلى منزلها ، فقالت : هذا منزلي ، قال : فسلم فخرج شاب عليه إزار ملونة فقال : اتق الله فقد أخفت زوجتك ، فقال : وماأنت وذاك والله لاحرقنها بالنار لكلامك ، قال : وكان إذا ذهب إلى مكان أخذ الدرة بيده والسيف معلق تحت يده فمن حل عليه حكم بالدرة ضربه ومن حل عليه حكم بالسيف عاجله ، فلم يعلم الشاب إلا وقد أصلت السيف وقال له : آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر وترد المعروف تب وإلا قتلتك ، قال : وأقبل الناس من السكك يسألون عن أمير المؤمنين عليه السلام حتى وقفوا عليه قال : فاسقط في يد الشاب (2) وقال : يا أمير المؤمنين اعف عني عفا الله عنك والله لاكونن أرضا تطأني ، فأمرها بالدخول إلى منزلها وانكفأ وهو يقول : ( لا خير في كثير من نجويهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) الحمد لله الذي أصلح بي بين مرأة وزوجها ، يقول الله تبارك وتعالى : ( لا خير في كثير من نجويهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) (3).
  ثم المروء‌ة وعفة البطن والفرج وإصلاح المال ، فهل رأيتم أحدا ضرب الجبال بالمعاول فخرج منها مثل أعناق الجزر كلما خرجت عنق قال : بشر الوارث ثم يبدو له فيجعلها صدقة

------------------------------------
(1) تعتعه : حركه بعنف وقلقلة ، وتعتع في الكلام : تردد فيه من عى.
(2) اسقط في يده ـ على المجهول ـ اى ندم على فعله.
(3) النساء : 114.

الاختصاص _ 158 _
  بتلة (1) إلى أن يرث الله الله الارض ومن عليها ليصرف النار عن وجهه ويصرف وجهه عن النار ، ليس لاحد من أهل الارض أن يأخذوا من نبات نخلة واحدة حتى يطبق كلما ساخ عليه ماؤه.
  قال ابن دأب : فكان يحمل الوسق فيه ثلاث مائة ألف نواة ، فيقال له : ما هذا ؟ فيقول : ثلاث مائة ألف نخلة إن شاء الله ، فيغرس النوى كلها فلا تذهب منه نواة ينبع وأعاجيبها (2) .
  ثم ترك الوهن والاستكانة ، أنه انصرف من احد وبه ثمانون جراحة يدخل الفتائل من موضع ويخرج من موضع فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله عائدا وهو مثل المضغة على نطع(3) فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله بكى فقال له : إن رجلا يصيبه هذا في الله لحق على الله أن يفعل به ويفعل ، فقال مجيبا له وبكى : بأبي أنت وامي الحمد لله الذي لم يرني وليت عنك ولا فررت ، بأبي وامي كيف حرمت الشهادة ؟ قال : إنها من ورائك إن شاء الله ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن أبا سفيان قد أرسل موعدة بيننا وبينكم حمراء الاسد ، فقال : بأبي أنت و امي والله لو حملت على أيدي الرجال ما تخلفت عنك ، قال : فنزل القرآن ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (4) ) ونزلت الآية فيه قبلها ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين (5) ).
  ثم ترك الشكاية في ألم الجراحة شكت المرأتان (6) إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ما يلقى و قالتا ، يا رسول الله قد خشينا عليه مما تدخل الفتائل في موضع الجراحات من موضع إلى موضع.
  وكتمانه ما يجد من الالم ، قال : فعد ما به من أثر الجراحات عند خروجه من الدنيا فكانت

------------------------------------
(1) أى قطعية بحيث لا خيار ولا عود فيها.
(2) كذا.
(3) النطع ـ بكسر النون وفتحها وسكون الطاء ومحركة وبكسر النون وفتح الطاء ـ : بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب.
(4) آل عمران : 145.
(5) آل عمران : 144.
(6) احداهما نسيبة الجراحة والاخرى امرأة غيرها تتصديان معالجة الجرحى في الغزوات.

الاختصاص _ 159 _
  ألف جراحة من قرنه إلى قدمه صلوات الله عليه.
  ثم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال : خطب الناس وقال : أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرب أجلا ولا يؤخر رزقا ، وذكروا أنه توضأ مع الناس في ميضأة المسجد (1) فزحمه رجل فرمى به فأخذ الدرة فضربه به ثم قال له : ليس هذا لما صنعت بي ولكن يجيئ من هو أضعف مني فتفعل به مثل هذا فتضمن ، قال : واستظل يوما في حانوت من المطر فنحاه صاحب الحانوت.
  ثم إقامة الحدود ولو على نفسه وولده ، أحجم الناس (2) عن غير واحد من أهل الشرف والنباهة وأقدم هو عليهم بإقامة الحدود فهل سمع أحد أن شريفا أقام عليه أحد حدا غيره منهم عبيدالله بن عمر بن الخطاب ومنهم قدامة بن مظعون ومنهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط شربوا الخمر فأحجم الناس عنهم وانصرفوا وضربهم بيده حيث خشي أن تعطل الحدود.
  ثم ترك الكتمان على ابنته ام كلثوم أهدى لها بعض الامراء عنبرا فصعد المنبر فقال : أيها الناس إن ام كلثوم بنت علي خانتكم عنبرا وأيم الله لو كانت سرقته لقطعتها من حيث أقطع نساء‌كم.
  ثم القرآن وما يوجد فيه من مغازي النبي صلى الله عليه وآله مما نزل من القرآن وفضائله وما يحدث الناس مما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله من مناقبه التي لا تحصى.
  ثم أجمعوا أنه لم يرد على رسول الله صلى الله عليه وآله كلمة قط ولم يكع عن موضع بعثه وكان يخدمه في أسفاره ويملا رواياه وقربه ويضرب خباء‌ه ويقوم على رأسه بالسيف حتى يأمره بالقعود والانصراف ، ولقد بعث غير واحد في استعذاب ماء من الجحفة وغلظ عليه الماء فانصرفوا ولم يأتوا بشئ ، ثم توجه هو بالرواية فأتاه بماء مثل الزلال واستقبله أرواح فأعلم بذاك النبي صلى الله عليه وآله فقال : ذلك جبرئيل في ألف وميكائيل في ألف ويتلوه إسرافيل في ألف فقال السيد الشاعر : (3)
ذاك الذي سلم في ليلة      عليه  ميكال iiوجبريل

------------------------------------
(1) الميضأة ـ بكسر الميم وسكون الياء وفتح الضاد ـ ، موضع يتوضأ فيه.
(2) أحجم عن الشئ : كف او نكس هيبة.
(3) أراد به السيد اسماعيل الحميرى المعروف مادح اهل البيت عليهم السلام.

الاختصاص _ 160 _
ميكال في ألف وجبريل في      ألـف ويـتلوهم سـرافيل
  ثم دخل الناس عليه قبل أن يستشهد بيوم فشهدوا جميعا أنه قد وفر فيئهم وظلف عن دنياهم ولم يرتشي في [ إجراء ] أحكامهم ، ولم يتناول من بيت مال المسلمين ما يساوي عقالا ، ولم يأكل من مال نفسه إلا بقدر البلغة ، وشهدوا جميعا أن أبعد الناس منهم بمنزلة أقربهم منه ، هذا آخر كتاب ابن دأب والحمد لله والمنة وصلى الله على محمد وآله، (1) قال الفزاري : وحدثنا أبوعيسى قال : حدثنا أبومحمد الحسن بن موسى قال : حدثنا محمد بن عمر الانصاري ، عن معمر ، عن أبيه ، عن عبيدالله بن أبي رافع ، عن أبيه ، عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : من طنت اذنه فليصل علي ، ومن ذكرني بخير ذكره الله بخير ، وبمثل إسناده قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا توضأ للصلاة حرك خاتمه ثلاثا.

آفة العلامات في السنة
  إعلم أنه إذا قرنت الزهرة مع المريخ في برج واحد هلك ملك الروم أو يكون بالروم مصيبات عظيمة أو بلايا.
  وإذا قرنت الزهرة مع زحل كان في العامة شدة وضيق.
  وإذا قرنت الزهرة مع المشتري أصاب الناس رخاء من العيش.
  وإذا قرنت زهرة مع عطارد يكون إهراق الدماء وفتح عظيم.
  وإذا قرن بهرام مع زحل في برج واحد هلك ملك حدث في أرض ذلك البرج.
  وإذا اجتمع بهرام والمشتري في برج واحد مات ملك عظيم الشأن.
  وإذا اجتمع زحل وعطارد وقع في التجار الخوف والحزن ، وكذلك في أهل الادب.
  وإذا اجتمع زحل والمشتري في برج واحد تغيرت الدنيا في سائر الاحوال ، ويتغير امور الناس ، وتخرج الخوارج من النواحي كلها وخاصة من جيلان ومن

------------------------------------
(1) نقله المجلسي ـ رحمه الله ـ في البحار ج 9 ص 450 إلى 454.

الاختصاص _ 161 _
  الديالم والاكراد ، ويقتلون الناس قتالا شديدا ويشتد الامر عليهم من الخوف والحزن وترتفع السفلة شأنهم ، وتغير طبائع الناس كلهم ، ويذهب عنهم الحياء والانسانية ويطمع كل واحد في آخره ، ويزيد فيهم كثرة الفساد خاصة في النساء وإسقاط الوالدات أولاد الحرام ، وإهراق الدماء ، والقتل ، والجوع.
  وإذا اجتمع المشتري وعطارد أصاب الارض طاعون ، ويقع فيما بين الناس العداوة والبغض ، وإذا ركب القمر فوق زحل ذهب ملك ملك.
  وإذا اجتمع بهرام وعطارد في العقرب فذلك آية قتل ملك بابل.
  وإذا اجتمع المشتري والزهرة في العقرب فذلك آية فزع ومرض بأرض بابل.
  وإذا اجتمعت الشمس في شولة العقرب فذلك آية اختلاف الروم وقتل ملكهم.
  وإذا اجتمع المريخ وعطارد في شولة العقرب فذلك آية خراب بيت ملك بابل[ وفارس ].
  وإذا اجتمعت الشمس والقمر في شولة العقرب وبهرام في السرطان فإن استطعت أن تتخذ سربا لتدخل فيه فافعل.
  وإذا اجتمعت الزهرة والمشتري فإن النساء يخشين أزواجهن عداوة.
  وإذا نزل كيوان الطرفة أو الدبران وقع الطاعون بالعراق ومات كثير من الناس.
  وإذا نزل الطرفة على آخره يكون في أرض العراق قتال وفتنة.
  وإذا نزل النثرة بدلت أعمال العراق ولقوا بلاء وشدة.
  وإذا نزل كيوان الغفر يكون بأرض العراق قتال وفتنة وإذا نزل كيوان جبهةوقع الموت في البقر والسباع والوحش.
  وإذا نزل كيوان والمشتري الاكليل والقلب والشولة يقع في المشرق والمغرب طاعون شديد ، ويموت من الناس اناس كثيرة ويقع الفساد والبلايا في الارض كلها ، ويكون

الاختصاص _ 162 _
  بلايا عليهم كلها في الناس ، ويقتل الملوك والعلماء ، وترتفع سفلة من الناس.
  واعلم أن مع الشمس كواكب لها أذناب بعضها فوق بعض نفر (1) ، فإذا بدا كوكب منها في برج من البروج وقع في أرض ذلك البرج شر وبلاء وفتنة ، وخلع الملوك.
  وإذا رأيت كوكبا أحمر لا تعرفه وليس على مجاري النجوم ينتقل في السماء من مكان إلى مكان يشبه العمود وليس به ، فإن ذلك آية الحرب والبلايا وقتل العظماء و كثرة الشرور والهموم والآشوب في الناس (2) .
  قوبل ونسخ من خط ابن الحسن بن شاذان رحمه الله (3) .

------------------------------------
(1) كذا. وفى بعض النسخ [ ففر ].
(2) نقله المجلسي ـ رحمه الله ـ في المجلد الرابع عشر من البحار ص 173 من الاختصاص وقال : لما ذكر الشيخ المفيد ـ رحمه الله ـ هذه الأحكام في الاختصاص أوردته ولم يسنده إلى رواية ، وأخذه من كتب أصحاب علم النجوم بعيد ، انتهى.
(3) كذا في النسختين ولم أتحقق من هو والظاهر أنه ابن الحسن بن شاذان الواسطى وأن أباه الحسن من أصحاب الرضا عليه السلام ويظهر من رواية رواها الكلينى في روضة الكافى ص 247 جلالته.

الاختصاص _ 163 _

كتاب محنة أمير المؤمنين على بن أبى طالب عليه السلام
  بسم الله الرحمن الرحيم
  روي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه كان قاعدا في المسجد وعنده جماعة ، فقالوا له : حدثنا يا أمير المؤمنين ، فقال لهم : ويحكم إن كلامي صعب مستصعب ، لا يعقله إلا العالمون ، قالوا : لا بد من أن تحدثنا ، قال : قوموا بنا فدخل الدار ، فقال : أنا الذي علوت فقهرت ، أنا الذي أحيي واميت ، أنا الاول والآخر و الظاهر والباطن ، فغضبوا وقالوا : كفر وقاموا ، فقال علي صلوات الله عليه وآله للباب : يا باب استمسك عليهم ، فاستمسك عليهم الباب ، فقال : ألم أقل لكم : إن كلامي صعب مستصعب لا يعقله إلا العالمون ؟ تعالوا افسر لكم.
  أما قولي : أنا الذي علوت فقهرت ، فأنا الذي علوتكم بهذا السيف فقهرتكم حتى آمنتم بالله ورسوله.
  وأما قولي : أنا احيي واميت ، فأنا احيي السنة واميت البدعة.
  وأما قولي : أنا الاول ، فأنا أول من آمن بالله وأسلم.
  وأما قولي : أنا الآخر ، فأنا آخر من سجى على النبى ثوبه ودفنه.
  وأما قولي : أنا الظاهر والباطن فأنا عندي علم الظاهر والباطن.
  قالوا : فرجت عنا فرج الله عنك (1) .
  جعفر بن محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب ، عن

------------------------------------
(1) نقله المجلسى في البحار ج 9 ص 645 من الكتاب.

الاختصاص _ 164 _
  يعقوب الكوفي قال : حدثنا موسى بن عبيد ، عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، وعن جابر ، عن أبي جعفر ، عن محمد بن الحنفية قال : أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عند منصرفه من وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة ، فقال : يا أمير المؤمنين إني اريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي ، فقال : سل عما بدا لك يا أخا اليهود ، قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عزوجل إذا بعث نبيا أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر ربه في امته من بعده وأن يعهد إليه فيهم عهدا يحتذيه ويعمل به في امته من بعده ، وإن الله عزوجل يمتحن الاوصياء في حياة الانبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم ، فأخبرني كم يمتحن الله الاوصياء في حياة الانبياء من مرة ؟ وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمر الاوصياء إذا رضي الله محنتهم ؟ فقال له علي عليه السلام : فوالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى لئن أخبرتك بحق عما تسأل عنه لتقرن به ؟ قال : نعم ، قال : فوالذي لا إله غيره لئن صدقتك لتسلمن ؟ قال : نعم ، قال علي صلوات الله عليه : إن الله تبارك وتعالى ذكره يمتحن الاوصياء في حياة الانبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي محنتهم أمر الانبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم فصير طاعة الاوصياء في أعناق الامم موصولة بطاعة الانبياء عليهم السلام ، ثم يمتحن الاوصياء بعد وفاة الانبياء في سبعة مواطن ليبلو صبرهم فإذا رضي محنتهم ختم له بالشهادة ليلحقهم بالانبياء ، فقد أكمل الله لهم السعادة.
  قال له رأس اليهود : صدقت يا أمير المؤمنين فأخبرنا كم امتحنك الله عزوجل في حياة محمد صلى الله عليه وآله من مرة ؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمرك ؟ فأخذ علي عليه السلام بيده ، وقال : انهض بنا انبئك بذلك يا أخا اليهود ، فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك معه ، فقال : إني أخاف أن لا تحتمله قلوبكم قالوا : ولم ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال : لامور بدت لي من كثير منكم ، فقام إليه الاشتر فقال : يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك ، فوالله إنا لنعلم أنه ما على ظهر الارض وصي نبي سواك ، وإنا لنعلم أن الله لم يبعث بعد نبينا نبيا سواه وأن طاعتك على أعناقنا موصولة بطاعة نبينا ، فجلس علي عليه السلام وأقبل على اليهودي فقال : يا أخا اليهود إن الله تعالى

الاختصاص _ 165 _
  ذكره امتحنني في حياة نبينا صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن فوجدني فيهن ـ من غير تزكية لنفسي بنعمة الله ـ له مطيعا ، قال : فيم وفيم يا أمير المؤمنين ؟ قال : أما أولهن فإن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبينا صلى الله عليه وآله بالنبوة وحمله الرسالة وأنا أحدث أهل بيتي سنا ، أخدمه في بيته وأسعى بين يديه في أمره ، فدعا صغير بني عبدالمطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، فامتنعوا من ذلك وأنكروه وجحدوه ونابذوه واعتزلوه واجتنبوه وسائر الناس معصية له وخلافا عليه (1) واستعظاما لما أورد عليهم مما لم يحتمله قلوبهم ولم تدركه عقولهم ، وأجبت رسول الله صلى الله عليه وآله وحدي إلى ما دعا إليه ، مسرعا مطيعا موقنا ، لم تتخالجني في ذلك الاخاليج ، فمكثنا بذلك ثلاث حجج ، ليس على ظهر الارض خلق يصلي ويشهد لرسول الله صلى الله عليه وآله بما آتاه الله غيري وغير ابنة خويلد ـ رحمها الله ـ.
  ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.
  وأما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشا لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلى الله عليه وآله حتى إذا كان آخر يوم اجتمعت فيه في دار الندوة وإبليس الملعون لحاضر في صورة أعور ثقيف فلم يزل يضرب أمرها ظهورا وبطونا حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ، ثم يأتوا النبي صلى الله عليه وآله وهو نائم على فراشه فيضربوه بأسيافهم جميعا ضربة رجل واحد فيقتلوه ، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمه فيمضي دمه هدرا ، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون له فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار وأنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله بالخبر وأمرني أن أضطجع مضجعه وأن أقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعا له مسرورا به ولنفسي على أن افتك موطنا ، فمضى عليه السلام لوجهه واضطجعت مضجعه وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها بقتل النبي صلى الله عليه وآله فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه نهضت بسيفي ، فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الناس.
  ثم أقبل على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.

------------------------------------
(1) في الخصال ( وسائر الناس مقصين له ومخالفين عليه ).

الاختصاص _ 166 _
  وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن ابني ربيعه وابن عتبة كانوا فرسان قريش دعوا إلى البراز يوم بدر ، فلم يبرز لهم خلق فأنهضني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى صاحبي وأنا أحدث أصحابي سنا وأقلهم للحرب تجربة فقتل الله بيدي وليدا وشيبة (1) سوى ما قتلت من جحاجحة (2) قريش في ذلك اليوم وسوى من أسرت وكان مني أكثر مما كان من أحد من أصحابي فاستشهد ابن عمي في ذلك اليوم ـ رحمه الله ـ.
  ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.
  وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن قريشا والعرب تجمعت وعقدت بينها عقدا و ميثاقا ألا ترجع من وجوهها حتى تقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب

------------------------------------
(1) قال ابن هشام في وقعة بدر بعد ذكر مقتل الاسود المخزومى : ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة حتى اذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة ، فخرج اليه فتية من الانصار ثلاثة وهم : عوف ومعوذ ابنا الحارث ورجل آخر يقال : هو عبدالله بن رواحة فقالوا : من أنتم ؟ فقالوا : رهط من الانصار ، قالوا : ما لنا بكم من حاجة ، ثم نادى مناديهم : يا محمد أخرج الينا اكفاء‌نا من قومنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث وقم يا حمزة ، وقم يا على ، فلما قاموا ودنوا منهم ، قالوا : من أنتم ؟ قال عبيدة : عبيدة ، وقال حمزة : حمزة ، وقال على : على ، قالوا : نعم أكفاء كرام ، فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة، ، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، ، وبارز على الوليد بن عتبة ، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وأما على فلم يمهل الوليد ان قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما اثبت صاحبه [ اى جرحه جراحة لم يقم معها ] وكر حمزة وعلى باسيافهما على عتبة فدففا [ اى اسرعا قتله ] واحتملا صاحبهما فحازاه إلى اصحابه، انتهى ، ونحوه في تاريخ الطبرى وقال المؤلف ـ رحمه الله ـ في رواية في الارشاد : بارز الوليد امير المؤمنين عليه السلام فلم يلبثه حتى قتله وبارز عتبة حمزة رضى ـ الله عنه ، فقتله حمزة وبارز شيبة عبيدة ـ رحمه الله ـ فاختلف بينهما ضربتان قطعت احداهما فخذ عبيدة ، فاستنفذه امير المؤمنين عليه السلام بضربة بدر بها شيبة فقتله وشركه في ذلك حمزة ـ رضى الله عنه ـ.ونقل عن الواقدى مثله وقال ابن ابى الحديد في شرح كتاب امير المؤمنين إلى معاوية بعد شرح كتابه إلى جرير بن عبدالله البجلى لما ارسله إلى معاوية بعد نقل كلام الواقدى ومحمد بن اسحاق قال : قال البلاذرى : ان حمزة قتل عتبة وان عليا عليه السلام قتل الوليد وشرك في قتل شيبة.قال : وهذا هو المناسب لاحوالهم من طريق السن الخ.
(2) قال في النهاية : الجحاجحة : جمع جحاجح وهو السيد الكريم والهاء فيه لتأكيد الجمع.

الاختصاص _ 167 _
  ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة (1) واثقة في أنفسها بما توجهت ، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه الخبر فخندق على نفسه وعلى من معه من المهاجرين والانصار ، فقدمت قريش وأقامت على الخندق محاصرة ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف تبرق وترعد ، ورسول الله صلى الله عليه وآله يدعوها ويناشدها القرابة والرحم فتأبى ، ولا يزيدها ذلك إلا عتوا ، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبدود ، يهدر كالبعير المغتلم (2) يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه مقدم ولا يطمع فيه طامع لا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه فأنهضني إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا وضرب بيده إلى ذي الفقار ، فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقا علي من ابن عبد ود العامري ، فقتله الله بيدي ، والعرب لا تعد لها فارسا غيره وضربني هذه الضربة ـ وأومأ بيده إلى هامته ـ فهزم الله قريشا والعرب بذلك و بما كان مني فيهم من النكاية (3) .
  ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.
وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم استحاشوا من يليهم (4) من قبائل العرب وقريش طالبين بثار مشركي قريش في يوم بدر ويوم الخندق فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه ذلك فتأهب النبي صلى الله عليه وآله لهم وعسكر بأصحابه في سفح احد (5) وأقبل المشركون إلينا بحملة رجل واحد فاستشهد من المسلمين من استشهد وكان ممن بقي منهم ما كان من الهزيمة عفا الله عنهم وبقيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومضى المهاجرون

------------------------------------
(1) الحد من السيف : مقطعه ومن الانسان : بأسه ومعنى الاخير انسب والحديد من السيف : القاطع ويقال : رجل حديد اى ذو حدة في الفهم او الغضب، وأناخ الابل : أبركها.
(2) اغتلم البعير : هاج من شهوة الضراب، (القاموس)
(3) قال الجزرى : نكيت في العدو أنكى نكاية فأنا ناك اذا أكثرت فيهم الجراح والقتل فوهنوا لذلك وقد يهمز لعة فيه.
(4) حاش الصيد : جاء‌ه من حواليه ليصرفه إلى الحبالة كأحاشه وأحوشه ، وحاش الابل جمعها وساقها والتحويش : التجميع وحاوشته عليه : حرضته.
(5) في بعض النسخ [ في سد احد ] وهكذا في الخصال ايضا ولعله الاصح.

الاختصاص _ 168 _
  والانصار إلى منازلهم من المدينة ، كل يقول : قتل النبي صلى الله عليه وآله وقتل أصحابه ، ثم ضرب الله بوجوه المشركين وقد جرحت بين يدي النبي صلى الله عليه وآله نيفا وسبعين جراحة ومنها هذه ومنها هذه ـ ثم ألقى رداء‌ه وأمر بيده على جراحاته ـ وكان مني في ذلك اليوم ما كان الله على ثوابه إن شاء الله.
  ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.
  وأما السادسة يا أخا اليهود فإنا وردنا مع رسول الله مدينة أصحابك خيبر على رجال اليهود وفرسانها من قريش وغيرها فلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي إلى البراز ويبادر في القتال ، فلم يبرز لهم من أصحابنا أحد إلا وهم قتلوه حتى إذا احمرت الحدق ودعيت إلى البراز وأهمت كل رجل منهم نفسه (1) والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول : ـ أوجلهم ـ يا أبا الحسن انهض فأنهضني رسول الله صلى الله عليه وآله إليهم فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته ولا ثبت لي فرس إلا طعنته ، ثم شددت عليهم شد الليث على فريسته ، حتى إذا أدخلتهم جوف مدينتهم ، يكسع بعضهم بعضا (2) فرددت باب مدينتهم وهو مسدود عليهم ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : وهو ما قد رأيتم فاقتلعته بيدي ثم دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من ظهر فيها من رجالهم وأسبي من أجد من نسائهم حتى افتتحتها وحدي لم يكن لي معاون إلا الله وحده.
  ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين.
  وأما السابعة يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما توجه بفتح مكة أحب أن يعذر إليهم ويدعوهم إلى الله عزوجل آخرا كما دعاهم أولا ، فكتب إليهم كتابا يحذرهم وينذرهم عذاب ربهم ويعدهم الصفح فيهم ، ويمنيهم مغفرة ربهم ، ونسخ لهم في آخره سورة براء‌ة ليتلو عليهم ، ثم عرض على جميع أصحابه المضي إليهم بالكتاب وكلهم يرى فيه التثاقل فلما رأى ذلك ندب منهم رجلا ليوجهه به فأتاه جبرئيل فقال : يا محمد إنه لا يؤدي عنك إلا رجل منك ، فأنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك ووجهني بكتابه ورسالته إلى أهل مكة فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر على أن يضع مني على كل

------------------------------------
(1) في بعض النسخ [ كل امرئ نفسه ]، وهكذا في الخصال.
(2) اى يطرده.

الاختصاص _ 169 _
  جبل إربا لفعل ولو ببذل ماله ونفسه وأهله وولده ، فبلغتهم رسالة النبي صلى الله عليه وآله وقرأت عليهم كتابه فكل تلقاني بالتهدد والوعيد ويبدى البغضاء ويظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم وكان مني في ذلك ما قد رأيتم.
  ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.
  قال : يا أخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيهن ربي مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، فوجدني فيهن كلها بمنه مطيعا ، ليس لاحد فيها مثل الذي لي ولو وصفت ذلك لاتسع لي فيه القول ولكن الله نهى عن التزكية.
  فقالوا : صدقت يا أمير المؤمنين فوالله لقد أعطاك الله الفضيلة بالقرابة من نبينا صلى الله عليه وآله وأسعدك بأن جعلك أخاه ، تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ، وفضلك بالمواقف التي باشرتها ، والاهوال التي ركبتها ، وذخرك الذي ذكرت وأكثر منه مما لم تذكره مما ليس لاحد من المسلمين مثله ، يقول ذلك من شهدك منا مع نبينا ومن شهدك منا بعده فأخبرنا يا أمير المؤمنين بما امتحنك الله بعد نبينا صلى الله عليه وآله فاحتملته وصبرت عليه ، فإنا لو شئنا أن نصف ذلك لك لوصفناه علما منا به وظهورا عليه إلا أنا نحب أن نسمع منك ذلك كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته فأطعته فيه. قال : يا أخا اليهود إن الله تبارك وتعالى امتحنني بعد وفاة نبيه صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بمنه ونعمته صبورا.
  أما أولهن فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة أحدا آنس به ولا أعتمد عليه ولا أستنيم إليه (1) ولا أتقرب إلى الله بطاعته ولا أنهج به في السراء ولا أستريح إليه في الضراء غير رسول الله صلى الله عليه وآله وهو رباني صغيرا وبوأني كبيرا وكفاني العيلة وجبرني من اليتم و أغناني عن الطلب ووقاني المكسب وعال لي النفس والاهل والولد هذا في تصاريف أمر الدنيا مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحظوة عند الله (2) فنزل بي

------------------------------------
(1) استنام الرجل : نام وطلب النوم وتظاهر بالنوم كذبا ، واستنام اليه : سكن اليه سكون النائم ، واستنام إلى الشئ : استأنس به.
(2) الحظوة ـ بالضم والكسر ـ : المكانة والمنزلة عند الناس.

الاختصاص _ _
170 ] بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله مالم أكن أظن أن الجبال لو حملت عنوة (1) كانت لتنهض به ، فرأيت الناس من أهلي من بين جازع لا يملك جزعه ولا يضبط نفسه ولا يقوي على حمل فادح (2) ما نزل به قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله وحال بينه وبين الفهم والافهام والقول والاستمتاع و سائر الناس من [غير ] بني عبدالمطلب بين معز يأمر بالصبر وبين مساعد باك لبكائهم ، جازع لجزعهم ، وحملت نفسي على الصبر بعد وفاته لزمت الصمت والاشتغال بما أمرني الله به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه ووضعه في حفرته وجمع أمانة الله وكتابه وعهده الذي حملناه إلى خلقه واستودعناه فيهم لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ولا هائج زفرة ولا لاذع حرقة ولا جليل مصيبة (3) حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عزوجل ولرسوله صلى الله عليه وآله علي ، وبلغت منه الذي أمرني به ، فاحتملته صابرا محتسبا.
  ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.
  وأما الثانية يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني في حياته على جميع امته و أخذ على من حضره منهم البيعة بالسمع والطاعة لامري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب في ذلك ، فكنت المؤدي إليهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله أمره إذا حضرته والامير على من حضرني منهم إذا فارقته لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الامور في حياة النبي صلى الله عليه وآله ولا بعد وفاته ، ثم أمر الله رسوله بتوجيه الجيش الذي وجهه مع اسامة بن زيد عند الذي أحدث الله له من المرض الذي توفاه فيه فلم يدع النبي صلى الله عليه وآله أحدا من قبائل العرب و قريش والاوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف علي نقضه أو منازعته ولا أحدا ممن يراني بعين البغضاء ممن قد قهرته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلا وجهه في ذلك الجيش ولا من المهاجرين والانصار والمسلمين وغيرهم من المؤلفة قلوبهم والمنافقين لتصفو قلوب من يبقي معي بحضرته ولئلا يقول قائل شيئا مما أكره في جواره ولا يدفعني دافع عن الولاية والقيام

------------------------------------
(1) العنوة : أخذ الشئ قهرا وقسرا ، وفى نسخة [ مالم أكن أظن أن الجبال لو حملت عشره كانت لتنهض به ].
(2) الفادح : الصعب المثقل ، يقال : نزل به امر فادح وركبه دين فادح.
(3) ( بادر دمعة ) اى الدمعة التى تبدو بغير اختيار، والزفرة ـ بالفتح وقد يضم ـ : النفس الطويل ، ولذع الحب قلبه : آلمه ، والنار الشى : لفحته ، واوعز اليه في كذا اى تقدم.

الاختصاص _ 171 _
  بأمر رعيته وامته من بعده ، ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر امته أن يمضي جيش اسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن انهض معه وتقدم في ذلك الجيش أشد التقدم وأوعز فيه أبلغ الايعاز وأكد فيه أكثر التأكيد ، فلم أشعر بعد أن قبض رسول الله صلى الله عليه وآله إلا برجال ممن بعث مع اسامة وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم ، وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم في ملازمة أميرهم والمسير معه تحت لوائه ينفذ لوجهه الذي نفذه إليه فخلفوا أميرهم مقيما في عسكره وأقبلوا يتبادرون على الحيل ركضا إلى حل عقدة عقدها الله لي ورسوله صلى الله عليه وآله في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهد الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لانفسهم عقدا ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم من غير مناظرة لاحد منا بني عبدالمطلب ، أو مشاركة في رأي أو استقامة لما في أعناقهم من بيعتي فعلوا ذلك وأنا برسول الله صلى الله عليه وآله مشغول وبتجهيزه عن سائر الاشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ، فكانت هذه يا أخا اليهود أفدح (1) ما يرد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية ، ومفاجع المصيبة ، وفقد من لا خلف له إلا الله ، فصبرت عليها إذ أتت بعد اختها على تقاربها وسرعة اتصالها.
  ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.
  وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن القائم بعد النبي صلى الله عليه وآله كان يلقاني معتذرا في كل أيامه ويلزم غيره ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ويسألني تحليله فكنت أقول تنقضي أيامه ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفوا هينا (2) من غير أن أحدث في الاسلام مع حدثه وقرب عهده بالجاهلية حدثنا في طلب حقي بمنازعة ، لعل قائلا يقول فيها : نعم وقائلا يقول : لا ، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل ، وجماعة من خواص أصحاب رسول الله أعرفهم بالنصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله ولكتابه ودينه ، الاسلام.
  يأتونني عودا وبدء‌ا ، وعلانية وسرا فيدعونني إلى أخذ حقي ، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إلي بذلك حق بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويدا وصبرا قليلا لعل الله أن يأتيني بذلك عفوا بلا منازعة ولا إراقة الدماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وطمع في الامر بعده من ليس له

------------------------------------
(1) أى أثقل.
(2) العفو : السهل المتيسر.

الاختصاص _ 172 _
  بأهل ، فقال كل قوم : منا أمير ، وما طمع القائلون في ذلك إلا ليتناول الامر غيري ، فلما دنت وفاة القائم وانقضت أيامه صير الامر من بعده لصاحبه وكانت هذه اخت اختها ومحلها مني مثل محلها وأخذها مني ما جعل الله لي مثل أخذها واجتمع إلي نفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ممن مضى ـ رحمه الله ـ وممن بقي أخره الله ممن اجتمع فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا لي في اختها ، فلم يعد قولي الثاني قولي الاول صبر واحتسابا ويقينا وإشفاقا من أن تفنى عصبة تألفها رسول الله صلى الله عليه وآله باللين مرة وبالشدة اخرى.
  وبالبذل مرة وبالسيف اخرى ، حتى لقد كان من تألفه لهم أن كان الناس في السكن والقرار والشبع و الري واللباس والوطاء والدثار ونحن أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله لا سقوف لبيوتنا ولا أبواب ولا سور إلا الجرائد وما أشبهها ولا وطاء لنا ولا دثار علينا تداولنا الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا ونطوي الايام والليالي جوعا عامتنا فربما أتانا الشئ مما أفاء‌ه الله وصيره لنا خاصة دون غيرنا ونحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به رسول الله صلى الله عليه وآله أرباب النعم و الاموال تألفا منه لهم واستكانة منه لهم فكنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألفها رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يحملها على الخطة التي لا خلاص لها منها دون بلوغها أو فناء آجالها لاني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا مني وفي أمري على إحدى منزلتين إما متبع مقاتل أو مقتول إن لم يتبع الجميع ، وما خاذل يكفر بخذلانه إن قصر عن نصرتي أو أمسك عن طاعتي ، وقد علم أني منه صلى الله عليه وآله بمنزلة هارون من موسى ، يحل به في مخالفتي والامساك عن نصرتي ما أحل قوم موسى بأنفسهم في مخالفتهم هارون وترك طاعته ، ورأيت تجرع الغصص ورد أنفاس الصعداء ولزوم الصبر حتى يفتح الله او يقضي بما أحب أزيد لي في حظي من الله وأرفق بالعصابة التي وصفت أمرهم وكان أمر الله قدرا مقدورا ، ولو لم أتق هذه الحال يا أخا اليهود ثم طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه لعلم من مضى من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ومن بحضرتك منهم ، إني كنت أكثر عددا وأعز عشيرة وأمنع رجالا وأطوع أمرا وأوضح حجة وأكثر في هذا مناقبا وآثارا بسوابقي وقرابتي ووراثتي فضلا عن استحقاقي في ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها والبيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها ، ولقد قبض صلى الله عليه وآله وأن ولاية الامة في يده وفي بيته ، لا في أيدي الذين تناولوها ولا في بيوتهم ،

الاختصاص _ 173 _
  ولاهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا أولى بالامر من بعده من غيرهم في جميع الخصال.
  ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.
  وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الامور ويصدرها عن أمري ويناظرني في غوامضها (1) فيمضيها على رأيي ، لا أعلم أحدا ولا يعلم أصحابي يناظره في ذلك غيري (2) ولا يطمع في الامر بعده سواي ، فلما أتته منيته على فجأة بلا مرض كان قبله ولا أمر كان أمضاه في صحة من بدنه ، لم أشك أني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها والعاقبة التي كنت ألتمسها وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت وأفضل ما أملت ، وكان من فعله أن ختم أمره بأن سمى قوما أنا سادسهم ولم يساورني بواحد منهم ولا ذكر مني حالا في وراثة الرسول صلى الله عليه وآله ولا قرابة ولا صهر ولا نسب ولا كان لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري ، وصيرها شورى بيننا : وصير ابنه فيها حاكما علينا ، وأمره أن يصرب أعناق النفر الستة الذين صير الامر فيهم إن لم ينفذوا أمره ، وكفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبرا ، فمكث القوم أيامهم كلها كل يخطبها لنفسه وأنا ممسك ، فإذا سألوني عن أمري فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم ما جهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لي إليهم وتأكيده ما أكد من البيعة لي في أعناقهم ، دعاهم حب الامارة وبسط الايدي والالسن في الامر والنهي والركون إلى الدنيا بالاقتداء بالماضين إلى تناول مالم يجعل الله لهم ، فإذا خلوت بالواحد منهم بعد الواحد ذكرته أيام الله وحذرته ما هو قادم عليه وصائر إليه ، التمس مني شرطا بطائفة الدنيا أصيرها له ، فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على الكتاب ووصية الرسول صلى الله عليه وآله من إعطاء كل امرئ منهم ما جعل الله له ومنعه مما لم يجعل الله له شد من القوم

------------------------------------
(1) في بعض النسخ [ يناظرنى في كوارثها ].
(2) في بعض النسخ [فيمضيها على رأى لا اعلم أحدا ولا يعلمه أصحابى مناظرة في ذلك عندى ].
وفى الخصال [فيمضيها عن رأيى لا أعلم أحدا ولا يعلمه أصحابى يناظره في ذلك غيرى ].

الاختصاص _ 174 _
  مستبد فأزالها عني إلى ابن عفان طمعا في الشحيح ما معه فيها وابن عفان رجل لم يستو به وبواحد ممن حضر حال قط فضلا عمن دونهم ، لا ببدر القوم التي هي واحدة القوم و سنام فخرهم (1) ولا غيرها من المآثر التي أكرم الله بها رسوله صلى الله عليه وآله ومن اختصه معه من أهل بيته ، ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ونكصوا على أعقابهم وأحال بعضهم على بعض ، كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه ، ثم لم تطل الايام بالمستبد بالامر ابن عفان حتى أكفروه وتبرؤوا منه ومشى إلى أصحابه خاصة وسائر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله عامة يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته ، وكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من اختيها وأفظع (2) ، وأحرى ألا يصبر عليها ، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقتها ، ولم يكن عندي إلا الصبر على ما أمض (3) وأبلغ منها ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم ، كل راجع عما كان منه يسألني خلع ابن عفان والوثوب عليه في أخذ حقي ويعطيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي أو يرد الله علي حقي.
  ثم بعد ذلك مرة اخرى أمتحن القوم فيها بألوان المحن ، مرة بحلق الرؤوس ومرة بمواعيد الخلوات ومرة بموافاة الاماكن ، كل ذلك بقي القوم بوعدهم ، فوالله يا أخا اليهود ما منعني منها إلا الذي منعني من اختيها قبلها ورأيت الابقاء على من بقي من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها وعلمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته وأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدى (4) ولقد كنت عاهدت الله ورسوله صلى الله عليه وآله أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله ولرسوله صلى الله عليه وآله فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عزوجل فأنزل الله فينا ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومن من ينتظر وما

------------------------------------
(1) كذا.
(2) في بعض النسخ [ أقطع ].
(3) أمض أى أوجع.
(4) الصدى : العطش الشديد.

الاختصاص _ 175 _
  بدلوا تبديلا (1) ( فمن قضى نحبه حمزة وعبيدة وجعفر وأنا المنتظر يا أخا اليهود وما بدلت تبديلا.
  وما سكتني عن ابن عفان (2) وحثني عن الامساك عنه إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه مالم يدعه حتى يستدعي الاباعد إلى قتله وخلعه فضلا عن الاقارب وأنا في عزلة ، فصبرت حتى كان ذلك لم أنطق فيه بحرف من ( لا ) ولا ( نعم ) ثم أتاني القوم وأنا ـ علم الله ـ كاره لمعرفتي ما تطاعموا (3) به من اعتقال الاموال (4) والمرح في الارض وعلمهم بأن تلك ليست لهم عندي وشديد [ ولهم ] عادة منتزعة (5) ، فلما لم   يجدوها عندي تعللوا الاعاليل.
  ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.
  وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن المبايعين لما لم يطمعوا في ذلك مني وثبوا بامرأة علي وأنا ولي أمرها والوصي عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال وأقبلوا بها تخبط الفيافي (6) وتقطع البراري وتنبح عليها كلاب الحوأب وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعلى كل حال ، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الاولى في حياة النبي صلى الله عليه وآله حتى أتت أهل بلدة ، قصيرة أيديهم ، طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم ، عازبة آراؤهم جيران بدو ووراد بحر فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم بغير علم ، يرمون بسهامهم بغير فهم ، فوقفت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محلة المكروه ، إن كففت لم يرجعوا ولم يصلوا وإن أقمت كنت قد صرت إلى الذي كرهت ، (7) فقدمت الحجة بالاعذار و

------------------------------------
(1) الاحزاب : 23.
(2) في بعض النسخ [ما أسكننى ].
(3) وفى بعض النسخ والخصال ( يطمعون ).
(4) اى بما أوصل كل منهم إلى صاحبه في دولة الباطل طعمه ولذته ، وقوله : ( من اعتقال الاموال ) اى اكتسابها وضبطها من قولهم : ( عقل البعير واعتقله ) اذا شد يديه ، (قاله المجلسى)
(5) كذا في النسخ وفى بعض نسخ الخصال [وشديد ولهم عادة مسرعة ].
(6) خبط البعير الارض بيده خبطا : ضربها ، ومنه قيل : خبط عشواء وهى الناقة التى في بصرها ضعف اذا مشت لا تتوقى شيئا ، وخبطه : ضربه شديدا ، والقوم بسيفه : جلدهم ، والشجر :
شدها ثم نفض ورقها ، والفيافى جمع الفيفى والفيفاء والفيفاة وهى المفازة لا ماء فيها والمكان المستوى.
(7) في الخصال [ إلى التى كرهت ].