الفهرس العام

احتجاج أبي إبراهيم موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) في أشياء شتى على المخالفين


احتجاج أبي الحسن علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) في التوحيد والعدل وغيرهما على المخالف والمؤالف والأجانب والأقارب .


  دخلت الرقة فذكر لي أن بدير زكن رجلا مجنونا حسن الكلام ، فأتيته فإذا أنا بشيخ حسن الهيئة جالس على وسادة يسرح رأسه ولحيته ، فسلمت عليه فرد السلام وقال : ممن يكون الرجل ؟
  قال : قلت : من أهل العراق .
  قال : نعم ، أهل الظرف والأدب.
  قال : من أيها أنت ؟ قلت : من أهل البصرة .
  قال : أهل التجارب والعلم .
  قال : فمن أيهم أنت ؟
  قلت : أبو الهذيل العلاف .
  قال : المتكلم ؟
  قلت : بلى .
  فوثب عن وسادته وأجلسني عليها ثم قال ـ بعد كلام جرى بيننا ـ :
  ما تقولون في الإمامة ؟
  قلت : أي الإمامة تريد ؟
  قال : من تقدمون بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
  قلت : من قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  قال : ومن هو ؟

---------------------------
<=
فقال له أبو الحسن : قد ثبت أن إبليس يعلم الشر كله والخير كله قال أبو الهذيل : أجل .
قال : فأخبرني عن إمامك الذي تأتم به بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هل يعلم الخير كله والشر كله ؟ قال لا .
قال له : فإبليس أعلم من إمامك إذا فانقطع أبو الهذيل .
توفي أبو الهذيل بسر من رأى سنة 277 .
الكنى والألقاب ج 1 ص 170

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 152 _

  قلت : أبا بكر .
  قال لي : يا أبا الهذيل ولم قدمتم أبا بكر ؟
  قال : قلت : لأن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( قدموا خيركم وولوا أفضلكم ) وتراضى الناس به جميعا .
  قال : يا أبا الهذيل هاهنا وقعت .
  أما قولك أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : (قدموا خيركم وولوا أفضلكم) فإني أوجدك (1) ، أن أبا بكر صعد المنبر قال : (وليتكم ولست بخيركم وعلي فيكم) فإن كانوا كذبوا عليه فقد خالفوا أمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وإن كان هو الكاذب على نفسه فمنبر رسول الله لا يصعده الكاذبون .
  وأما قولك : أن الناس تراضوا به ، فإن أكثر الأنصار قالوا منا أمير ومنكم أمير ، وأما المهاجرون فإن الزبير بن العوام قال : لا أبايع إلا عليا، فأمر به فكسر سيفه ، وجاء أبو سفيان بن حرب وقال : يا أبا الحسن لو شئت لأملأنها خيلا ورجالا يعني : (المدينة) وخرج سلمان فقال بالفارسي : ( كرديد ونكرديد ، وندانيد كه جه كرديد ) (2) والمقداد وأبو ذر ، فهؤلاء المهاجرون والأنصار .
  أخبرني يا أبا الهذيل عن قيام أبي بكر على المنبر وقوله : أن لي شيطانا يعتريني ، فإذا رأيتموني مغضبا فاحذروني ، لا أقع في أشعاركم وأبشاركم (3)

---------------------------
(1) في ج 2 من العقد الفريد ص 347 قال : وخطب أيضا ـ يعني : أبا بكر ـ حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس أني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن رأيتموني على حق فأعينوني ، وإن رأيتموني على باطل فسددوني ، الخ.
(2) أي : فعلتم وما فعلتم ولا تعلمون الذي فعلتم .
(3) روى الطبري في ج 3 ص 210 من تاريخه مرفوعا عن عاصم بن عدي قال : نادى منادي أبي بكر ... إلى أن قال : وقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال : (يا أيها الناس إنما أنا مثلكم ، وأني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يطيق ، إن الله اصطفى محمدا على العالمين ، وعصمه من الآفات ، وإنما أنا
=>

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 153 _

  فهو يخبركم على المنبر أني مجنون ، وكيف يحل لكم أن تولوا مجنونا ؟!
  وأخبرني يا أبا الهذيل عن قيام عمر وقوله : وددت أني شعرة في صدر أبي بكر ، ثم قام بعدها بجمعة فقال : ( أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه ) (1) فبينما هو يود أن يكون شعرة في صدره ، وبينما هو يأمر بقتل من بايع مثله .
  فأخبرني يا أبا الهذيل عن الذي زعم أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يستخلف ، وأن أبا بكر استخلف عمر ، وأن عمر لم يستخلف ، فأرى أمركم بينكم متناقضا .
  وأخبرني يا أبا الهذيل عن عمر حين صيرها شورى بين ستة ، وزعم : أنهم من أهل الجنة فقال : ( إن خالف اثنان لأربعة فاقتلوا الاثنين ، وإن خالف ثلاثة لثلاثة ، فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن بن عوف ) فهذه ديانة أن يأمر بقتل أهل الجنة ؟!!!
  وأخبرني يا أبا الهذيل عن عمر لما طعن دخل عليه عبد الله بن عباس قال:
  فرأيته جزعا فقلت :
  يا أمير المؤمنين ما هذا الجزع ؟
  قال : يا بن عباس ما جزعي لأجلي ولكن جزعي لهذا الأمر من يليه بعدي.
  قال : قلت : ولها طلحة بن عبيد الله.
  قال : رجل له حدة ، كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعرفه فلا أولي أمر المسلمين حديدا .

---------------------------
<=
متبع ولست مبتدع ، فإن استقمت فتابعوني ، وإن زغت فقوموني ، وأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ، ضربة سوط فما دونها ، ألا وإن لي شيطانا يعتريني ، فإذا أتاني فاجتنبوني ، لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم ... الخ)
(1) ذكر الطبري في تاريخه ج 3 ص 200 أن عمر قال ـ وهو على المنبر ـ :
أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها ، من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها إلى أن قال : فلا يغرن امرء أن يقول : أن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها ... الخ

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 154 _

  قال : قلت : ولها زبير بن العوام .
  قال : رجل بخيل ، رأيته يماكس امرأته في كبة من غزل ، فلا أولي أمور المسلمين بخيلا .
  قال : قلت : ولها سعد بن أبي وقاص .
  قال : رجل صاحب فرس وقوس ، وليس من أحلاس الخلافة (1) قال : قلت : ولها عبد الرحمن بن عوف .
  قال : رجل ليس يحسن أن يكفي عياله .
  قال : قلت : ولها عبد الله بن عمر .
  فاستوى جالسا ثم قال : يا بن عباس! ما الله أردت بهذا أولي رجلا لم يحسن أن يطلق امرأته ؟!
  قال : قلت : ولها عثمان بن عفان.
  قال : والله لئن وليته ليحملن بني أبي معيط على رقاب المسلمين ، ويوشك أن يقتلوه. قالها ثلاثا .
  قال : ثم سكت لما أعرف من مغائرته لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
  فقال : يا بن عباس أذكر صاحبك .
  قال : قلت : فولها عليا .
  قال : فوالله ما جزعي إلا لما أخذنا الحق من أربابه ، والله لئن وليته ليحملنهم على المحجة العظمى ، وإن يطيعوه يدخلهم الجنة ، فهو يقول هذا ثم صيرها شورى بين الستة فويل له من ربه !!!
  قال أبو الهذيل : فوالله بينما هو يكلمني إذ اختلط ، وذهب عقله ، فأخبرت المأمون بقصته ، وكان من قصته أن ذهب بماله وضياعه حيلة وغدرا ، فبعث إليه المأمون ، فجاء به وعالجه وكان قد ذهب عقله بما صنع به ، فرد عليه ماله وضياعه

---------------------------
(1) الأحلاس : جمع حلس يقال : فلان حلس بيته : أي ملازم له تشبيها له بحلس البعير وهو : كساء رقيق يكون تحت البرذعة والمراد ليس من أهلها

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 155 _

  وصيره نديما ، فكان المأمون يتشيع لذلك، والحمد لله على كل حال .
  وقد جاءت الآثار عن الأئمة الأبرار( عليهم السلام ) : بفضل من نصب نفسه من علماء شيعتهم لمنع أهل البدعة والضلال عن التسلط على ضعفاء الشيعة ومساكينهم ، وقمعهم بحسب تمكنهم وطاقتهم ، فمن ذلك ما روي : عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري ( عليه السلام ) ، أنه قال :
  قال جعفر بن محمد ( عليه السلام ) : علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته ، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا ، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب ، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة ، لأنه يدفع عن أديان محبينا ، وذلك يدفع عن أبدانهم .
  الحسن بن عبد الرحمن الحماني (1) قال : قلت لأبي إبراهيم ( عليه السلام ) : أن هشام بن الحكم زعم : أن الله تعالى جسم ليس كمثله شئ ، عالم ، سميع ، بصير قادر ، متكلم ، ناطق ، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد ، ليس شئ منها مخلوقا .
  فقال : قاتله الله، أما علم أن الجسم محدود ؟! والكلام غير المتكلم ؟ معاذ الله وأبرء إلى الله من هذا القول ، لا جسم ، ولا صورة ، ولا تحديد ، وكل شئ سواه مخلوق ، وإنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ، ولا نطق بلسان .

---------------------------
(1) ذكره الأردبيلي في جامع الرواة ج 1 ص 206 فقال : محمد بن إسماعيل عن علي بن العباس عن الحسن بن عبد الرحمان الحماني عن أبي الحسن موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) في الكافي باب النهي عن الجسم والصورة .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 156 _

  وعن يعقوب بن جعفر (1) عن أبي إبراهيم ( عليه السلام ) أنه قال : لا أقول أنه قائم فأزيله عن مكان ، ولا أحده بمكان يكون فيه ، ولا أحده أن يتحرك في شئ من الأركان والجوارح ، ولا أحده بلفظ شق فم ، ولكن كما قال عز وجل :
  ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) (2) بمشيته من غير تردد في نفس صمدا فردا لم يحتج إلى شريك يدبر له ملكه ، ولا يفتح له أبواب علمه .
  وعن يعقوب بن جعفر الجعفري أيضا ، عن أبي إبراهيم موسى ( عليه السلام ) قال :
  ذكر عنده قوم زعموا : أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا فقال :
  أن الله لا ينزل ، ولا يحتاج أن ينزل ، إنما منظره في القرب والبعد سواء لم يبعد منه بعيد ، ولا يقرب منه قريب ، ولم يحتج إلى شئ بل يحتاج إليه كل شئ ، وهو ذو الطول لا إله إلا هو العزيز الحكيم !
  أما قول الواصفين : أنه ينزل تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة ، وكل متحرك يحتاج إلى من يحركه ويتحرك به (3) فمن ظن بالله الظنون فقد هلك ، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة ، أو تحريك أو تحرك ، زوال أو استنزال ، أو نهوض أو قعود، فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين ، ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين .

---------------------------
(1) ذكره الأردبيلي في جامع الرواة ج 2 ص 346 ونقل عن الكافي والتهذيب عدة روايات عنه عن الصادق والكاظم( عليهم السلام ) وورد اسمه فيها مرة يعقوب بن جعفر ، وأخرى يعقوب بن جعفر الجعفري وثالثة يعقوب بن جعفر بن إبراهيم الجعفري
(2) راجع موضوع نفي الحركة عنه تعالى في هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 300 .
(3) لا بد لكل حركة من أن تستلزم أربعة أمور : المحرك ، والمتحرك ، وما منه الحركة ، وما إليه الحركة ، وقد مر في الجزء الأول من هذا الكتاب ص 300 و 31 تفصيل الحديث في نفي الحركة عنه تعالى والاستدلال على بطلان نسبتها إليه وتنزهه عنها فراجع .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 157 _

  وعن الحسن بن راشد (1) قال : سئل أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) عن معنى قول الله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) (2) فقال : استولى على ما دق وجل .
  وعن يعقوب بن جعفر الجعفري قال : سأل رجل يقال له عبد الغفار المسمى أبا إبراهيم موسى بن جعفر ( عليه السلام ) عن قول الله تعالى : ( ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) (3) قال : أرى هاهنا خروجا من حجب ، وتدليا إلى الأرض، وأرى محمدا رأى ربه بقلبه ، ونسب إلى بصره ، فكيف هذا ؟
  فقال أبو إبراهيم : دنى فتدلى ، فإنه لم يزل عن موضع ولم يتدل ببدن .
  فقال عبد الغفار : أصفه بما وصف به نفسه حيث قال : ( دنى فتدلى ) فلم يتدل عن مجلسه إلا وقد زال عنه ، ولولا ذلك لم يصف بذلك نفسه .
  فقال أبو إبراهيم ( عليه السلام ) : أن هذه لغة في قريش ، إذا أراد رجل منهم أن يقول : قد سمعت يقول : قد تدليت ، وإنما التدلي : الفهم.
  وعن داود بن قبيصة (4) قال : سمعت الرضا ( عليه السلام ) يقول : سئل أبي ( عليه السلام ) هل منع الله عما أمر به ، وهل نهى عما أراد ، وهل أعان على ما لم يرد ؟
  فقال ( عليه السلام ) : أما ما سألت : ( هل منع الله عما أمر به ؟ ) فلا يجوز ذلك ، ولو جاز ذلك لكان قد منع إبليس عن السجود لآدم، ولو منع إبليس لعذره ولم يلعنه .

---------------------------
(1) عده الشيخ في رجاله ص 67 ، من أصحاب الصادق ( عليه السلام ) فقال :
الحسن بن راشد مولى بني العباس كوفي ، وفي أصحاب الكاظم ( عليه السلام ) ص 346 ذكره أيضا باسم الحسين بن راشد وقال : بغدادي
(2) طه ـ 5
(3) النجم ـ 9
(4) ذكره العلامة في القسم الثاني من خلاصته ص 221 باسم : ( دارم ) فقال : بالراء بعد الألف ابن ( قبيصة ) بفتح القاف وكسر الباء المنقطة تحتها نقطة وبعدها ياء ساكنة وصاد مهملة ابن نهشل أبو الحسن السائح يروي عن الرضا ( عليه السلام ).
قال ابن الغضايري لا يؤنس بحديثه ولا يوثق به .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 158 _

  وأما ما سألت : ( هل نهى عما أراد ؟ ) فلا يجوز ذلك، ولو جاز ذلك لكان حيث نهى آدم عن أكل الشجرة أراد منه أكلها ، ولو أراد منه أكلها لما نادى عليه صبيان الكتاتيب: ( وعصى آدم ربه فغوى ) والله تعالى لا يجوز عليه أن يأمر بشئ ويريد غيره .
  وأما ما سألت عنه من قولك : ( هل أعان على ما لم يرد ؟ ) ولا يجوز ذلك وجل الله تعالى عن أن يعين على قتل الأنبياء وتكذيبهم ، وقتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) والفضلاء من ولده ، وكيف يعين على ما لم يرد وقد أعد جهنم لمخالفيه ، ولعنهم على تكذيبهم لطاعته ، وارتكابهم لمخالفته ؟! ولو جاز أن يعين على ما لم يرد لكان أعان فرعون على كفره وادعائه أنه رب العالمين ، أفترى أراد الله من فرعون أن يدعي الربوبية ، يستتاب قائل هذا القول ، فإن تاب من كذبه على الله وإلا ضربت عنقه .
  وروي عن الحسن بن علي بن محمد العسكري ( عليه السلام ) : أن أبا الحسن موسى ابن جعفر ( عليه السلام ) قال :
  أن الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صايرون فأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به من شئ فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به ، وما نهاهم عنه من شئ فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بأذنه ، وما جبر الله أحدا من خلقه على معصيته ، بل اختبرهم بالبلوى وكما قال : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (1) .
  قوله : ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذنه ، أي : بتخليته وعلمه .
  وروي : أنه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبد الله بن مسلم فقال له :
  يا أبا حنيفة إن هاهنا جعفر بن محمد من علماء آل محمد فاذهب بنا إليه نقتبس منه علما ، فلما أتيا إذا هما بجماعة من علماء شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه ، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث فقام الناس هيبة له ، فالتفت أبو حنيفة فقال :
  يا ابن مسلم من هذا ؟

---------------------------
(1) هود ـ 7

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 159 _

  قال : موسى ابنه .
  قال : والله أخجله بين يدي شيعته قال له : لن تقدر على ذلك .
  قال : والله لأفعلنه ، ثم التفت إلى موسى فقال :
  يا غلام أين يضع الغريب في بلدتكم هذه ؟
  قال : يتوارى خلف الجدار ، ويتوقى أعين الجار ، وشطوط الأنهار، ومسقط الثمار ، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، فحينئذ يضع حيث شاء .
  ثم قال : يا غلام ممن المعصية ؟
  قال : يا شيخ لا تخلو من ثلاث :
  أما أن تكون من الله وليس من العبد شئ ، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله .
  وأما أن تكون من العبد ومن الله، والله أقوى الشريكين فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه .
  وأما أن تكون من العبد وليس من الله شئ ، فإن شاء عفى وإن شاء عاقب .
  قال : فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنما ألقم فوه الحجر .
  قال : فقلت له : ألم أقل لك لا تتعرض لأولاد رسول الله، وفي ذلك يقول الشاعر :
لـم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها      إحدى  ثلاث معان حين iiنأتيها
إمـا تـفرد بـارينا iiبصنعتها      فـيسقط اللوم عنا حين ننشيها
أو كـان يـشركنا فيها فيلحقه      مـا سوف يلحقنا من لائم فيها
أو لـم يكن لإلهي في iiجنايتها      ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها

  روي عن علي بن يقطين (1) أنه قال : أمر أبو جعفر الدوانيقي يقطين أن

---------------------------
(1) قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص 91 علي بن يقطين بن موسى البغدادي ، سكن بغداد وهو كوفي الأصل روى عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) حديثا واحدا ، وروى عن أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) فأكثر ، وكان ثقة جليل القدر ـ

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 160 _

 يحفر له بئرا بقصر العبادي ، فلم يزل يقطين في حفرها حتى مات أبو جعفر ولم يستنبط منها الماء ، وأخبر المهدي بذلك فقال له : احفر أبدا حتى يستنبط الماء ولو أنفقت عليها جميع ما في بيت المال .
  قال : فوجه يقطين أخاه أبا موسى في حفرها ، فلم يزل يحفر حتى ثقبوا ثقبا في أسفل الأرض فخرجت منه الريح ( قال ): فهالهم ذلك ، فأخبروا به أبا موسى .
  فقال : انزلوني ( قال ): فأنزل وكان رأس البئر أربعين ذراعا في أربعين ذراع ، فأجلس في شق محمل ودلي في البئر، فلما صار في قعرها نظر إلى هول ، وسمع دوي الريح في أسفل ذلك ، فأمرهم أن يوسعوا الخرق فجعلوه شبه الباب العظيم ، ثم دلي فيه رجلا في شق محمل فقال : ايتوني بخبر هذا ما هو ؟ ] ـ له منزلة عظيمة عند أبي الحسن ( عليه السلام ) عظيم المكان في هذه الطائفة روي أنه ( عليه السلام ) ضمن له الجنة وأن لا تمسه النار أبدا ، وكان وزيرا لهارون فاستأذن الإمام ( عليه السلام ) بترك العمل معه فلم يأذن له ، وقال له : عسى أن يجبر الله بك كسرا ، ويكسر بك نائرة المخالفين من أوليائه ، يا علي كفارة أعمالكم الاحسان إلى إخوانكم ، وروي أنه لما قدم أبو إبراهيم موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) العراق ، قال علي بن يقطين : أما ترى حالي وما أنا فيه ؟ فقال ( عليه السلام ) يا علي إن لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي وروي أنه قال أبو الحسن ( عليه السلام ) لعلي ابن يقطين : إضمن لي خصلة أضمن لك ثلاثا فقال علي: جعلت فداك وما الخصلة التي اضمنها لك؟ وما الثلاث اللواتي تضمنهن لي ؟ فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : الثلاث اللواتي أضمنهن لك أن لا يصيبك حر الحديد أبدا ، بقتل ، ولا فاقة ، ولا سجن حبس فقال علي : فما الخصلة التي اضمنها لك؟ فقال يا علي وأما الخصلة التي تضمن لي أن لا يأتيك ولي أبدا إلا أكرمته فضمن له علي الخصلة وضمن له أبو الحسن الثلاث وروي أنه ( عليه السلام ) قال : إني استوهبت علي بن يقطين من ربي عز وجل البارحة فوهبه لي أن علي بن يقطين بذل ماله ومودته فكان لذلك منا مستوجبا .
  راجع رجال الكشي ص 367 والجزء الثاني من سفينة البحار ص 252.

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 161 _

  قال : فنزلا في شق محمل فمكثا مليا ثم حركا الحبل فأصعدا ، فقال لهما :
  ما رأيتما ؟
  قالا : أمرا عظيما ، رجالا ، ونساءا ، وبيوتا ، وآنية ، ومتاعا ، كله ممسوخ من حجارة فأما الرجال والنساء فعليهم ثيابهم ، فمن بين قاعد ومضطجع ومتكئ فلما مسسناهم إذا ثيابهم تتفشا شبه الهباء ، ومنازل قائمة ، قال : فكتب بذلك أبو موسى إلى المهدي ، فكتب المهدي إلى المدينة إلى موسى بن جعفر ، يسأله : أن يقدم عليه فقدم عليه ، فأخبره فبكى بكاءا شديدا ، وقال : يا أمير المؤمنين هؤلاء بقية قوم عاد ، غضب الله عليهم فساخت بهم منازلهم ، هؤلاء أصحاب الأحقاف.
  قال : فقال له المهدي : يا أبا الحسن وما الأحقاف ؟ قال : الرمل.
  وحدث ، أبو أحمد هاني بن محمد العبدي (1) قال : حدثني أبو محمد رفعه إلى موسى بن جعفر ( عليه السلام ) قال : لما أدخلت على الرشيد سلمت عليه فرد علي السلام ثم قال : يا موسى بن جعفر خليفتان يجئ إليهما الخراج ؟
  فقلت : يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تبوء بإثمي وإثمك ، فتقبل الباطل من أعدائنا علينا ، فقد علمت بأنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أما علم ذلك عندك ، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
  فقال : قد أذنت لك .
  فقلت : أخبرني أي عن آبائه عن جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : ( أن الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت ) فناولني يدك جعلني الله فداك .
  قال : ادن مني! فدنوت منه ، فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلا ، ثم تركني وقال : ( اجلس يا موسى! فليس عليك بأس ، فنظرت إليه فإذا به قد دمعت عيناه ، فرجعت إلى نفسي ، فقال : صدقت وصدق جدك ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لقد

---------------------------
(1) في رجال المامقاني ج 3 ص 290 نقل الوحيد رواية الصدوق عنه مترضيا عليه وهو دليل على وثاقته .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 162 _

  تحرك دمي واضطربت عروقي ، حتى غلبت علي الرقة ، وفاضت عيناي ، وأنا أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم أسأل عنها أحدا ، فإن أنت أجبتني عنها خليت عنك ولم أقبل قول أحد فيك ، وقد بلغني أنك لم تكذب قط فاصدقني فيما أسألك ما في قلبي .
  فقلت : ما كان علمه عندي فإني مخبرك به إن أنت أمنتني.
  قال : لك الأمان إن صدقتني وتركت التقية التي تعرفون بها معاشر بني فاطمة ، قلت ليسأل أمير المؤمنين عما يشاء .
  قال : اخبرني لم فضلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة ، وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد ، أنا بنو عباس وأنتم ولد أبي طالب ، وهما عما رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقرابتهما منه سواء ؟
  فقلت : نحن أقرب .
  قال : وكيف ذاك ؟
  قلت : لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأم ، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد الله ولا من أم أبي طالب .
  قال : فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والعم يحجب ابن العم ، وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد توفي أبو طالب قبله والعباس عمه حي ؟ فقلت له : إن رأى أمير المؤمنين أن يعفني عن هذه المسألة ، ويسألني عن كل باب سواه يريده .
  فقال : لا ، أو تجيب .
  فقلت : فآمني .
  قال : آمنتك قبل الكلام .
  فقلت : إن في قول علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : أنه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان أو أنثى لأحد سهم ، إلا الأبوين والزوج والزوجة ، ولم يثبت للعلم مع ولد الصلب ميراث ، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنة إلا أن تيما وعديا وبني أمية قالوا : ( العم والد ) رأيا منهم بلا حقيقة ، ولا أثر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومن

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 163 _

  قال بقول علي من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء ، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول علي وقد حكم به ، وقد ولاه أمير المؤمنين المصرين الكوفة والبصرة ، وقضى به ، فأنهي إلى أمير المؤمنين فأمر بإحضاره وإحضار من يقول بخلاف قوله ، منهم : سفيان الثوري ، وإبراهيم المازني ، والفضيل بن عياض ، فشهدوا أنه قول علي ( عليه السلام ) في هذه المسألة ، فقال لهم فيما بلغني بعض العلماء من أهل الحجاز : لم لا تفتون وقد قضى نوح بن دراج ؟
  فقالوا : جسر وجبنا ، وقد أمضى أمير المؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : ( أقضاكم علي ) وكذلك عمر بن الخطاب قال : ( علي أقضانا ) وهو اسم جامع ، لأن جميع ما مدح به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصحابه من القرابة والفرائض والعلم داخل في القضاء .
  قال : زدني يا موسى !
  قلت : المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك .
  فقال : لا بأس به .
  فقلت : إن النبي لم يورث من لم يهاجر ، ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر .
  فقال : ما حجتك فيه .
  قلت : قول الله تبارك وتعالى : (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا ) (1) وأن عمي العباس لم يهاجر .
  فقال لي : إني أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا ، أو أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشئ ؟
  فقلت : اللهم لا . وما سألني عنها إلا أمير المؤمنين .
  ثم قال لي : جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويقولوا لكم : يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي ، وإنما ينسب المرء إلى أبيه ، وفاطمة إنما هي وعاء ، والنبي جدكم من قبل أمكم .

---------------------------
(1) الأنفال ـ 72

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 164 _

  فقلت : يا أمير المؤمنين لو أن النبي نشر فخطب إليك كريمتك، هل كنت تجيبه ؟
  قال : سبحان الله! ولم لا أجبه ، بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك ؟
  فقلت له : لكنه لا يخطب إلي ولا أزوجه .
  فقال : ولم ؟
  فقلت : لأنه ولدني ولم يلدك .
  فقال : أحسنت يا موسى ! ثم قال : كيف قلتم أنا ذرية النبي والنبي لم يعقب، وإنما العقب الذكر لا الأنثى ، وأنتم ولد الابنة ولا يكون ولدها عقبا له .
  فقلت : أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه ، إلا أعفيتني عن هذه المسألة .
  فقال : لا أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي ! وأنت يا موسى يعسوبهم ، وإمام زمانهم ، كذا أنهي إلي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه ، حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شئ ألف ولا واو إلا تأويله عندكم ، واحتججتم بقوله عز وجل : ( ما فرطنا في الكتاب من شئ ) (1) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم .
  فقلت : تأذن لي في الجواب ؟
  قال : هات .
  فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم : ( ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ) (2) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين ؟
  فقال : ليس لعيسى أب .
  فقلت : إنما ألحقناه بذراري الأنبياء ( عليهم السلام ) من طريق مريم ( عليها السلام ) وكذلك ألحقنا بذراري النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قبل آمنا فاطمة ، أزيدك يا أمير المؤمنين ؟
  قال : هات

---------------------------
(1) الأنعام ـ 38 .
(2) الأنعام ـ 84 و 85

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 165 _

  قلت : قول الله عز وجل : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جائك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) (1) ولم يدع أحد أنه أدخله النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وفاطمة ، والحسن والحسين أبنائنا الحسن والحسين ونسائنا فاطمة ، وأنفسنا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، على أن العلماء قد أجمعوا على أن جبرئيل قال يوم أحد : ( يا محمد إن هذه لهي المواساة من علي ) قال : ( لأنه مني وأنا منه ) .
  فقال جبرئيل : ( وأنا منكما يا رسول الله) (2) ثم قال : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ، فكان كما مدح الله عز وجل به خليله ( عليه السلام ) إذ يقول :
  ( قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ) (3) إنا نفتخر بقول جبرئيل أنه منا فقال : أحسنت يا موسى ! إرفع إلينا حوائجك .
  فقلت له : إن أول حاجة لي أن تأذن لابن عمك أن يرجع إلى حرم جده وإلى عياله .
  فقال : ننظر إن شاء الله.
  وروي أن المأمون قال لقومه : أتدرون من علمني التشيع ؟
  فقال القوم : لا والله ما نعلم ذلك .
  قال : علمنيه الرشيد ! قيل له :
  وكيف ذلك ، والرشيد يقتل أهل البيت ؟!
  قال : كان الرشيد يقتلهم على الملك ، لأن الملك عقيم ، ثم قال : إنه دخل موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) على الرشيد يوما فقام إليه ، واستقبله وأجلسه في الصدر وقعد بين يديه ، وجرى بينهما أشياء ، ثم قال موسى بن جعفر ( عليه السلام ) لأبي :

---------------------------
(1) آل عمران ـ 61 .
(2) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 167 .
(3) الأنبياء ـ 60.

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 166 _

  يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد فرض على الولاة عهده : أن ينعشوا فقراء هذه الأمة ، ويقضوا عن الغارمين ، ويؤدوا عن المثقل ، ويكسوا العاري ، ويحسنوا إلى العاني ، وأنت أولى من يفعل ذلك .
  فقال : أفعل يا أبا الحسن. ثم قام فقام الرشيد لقيامه ، وقبل بين عينيه ووجهه ، ثم أقبل علي وعلى الأمين والمؤتمن فقال :
  يا عبد الله! ويا محمد ! ويا إبراهيم ! امشوا بين يدي ابن عمكم وسيدكم ، خذوا بركابه ، وسووا عليه ثيابه ، وشيعوه إلى منزله ، فأقبل إلي أبو الحسن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) سرا بيني وبينه فبشرني بالخلافة ، وقال لي : ( إذا ملكت هذا الأمر فأحسن إلى ولدي ) .
  ثم انصرفنا وكنت أجرأ ولد أبي عليه ، فلما خلا المجلس قلت :
  يا أمير المؤمنين ومن هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته ، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته ، وأقعدته في صدر المجلس ، وجلست دونه ، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له ؟
  قال : هذا إمام الناس ، وحجة الله على خلقه ، وخليفته على عباده .
  فقلت : يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك ؟
  فقال : أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر ، وموسى بن جعفر إمام حق ، والله يا بني أنه لأحق بمقام رسول الله مني ومن الخلق جميعا ، ووالله لو نازعتني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك ، لأن الملك عقيم .
  فلما أراد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار ، ثم أقبل على الفضل فقال له :
  إذهب إلى موسى بن جعفر وقل له : يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيقة وسيأتيك برنا بعد هذا الوقت .
  فقمت في وجهه فقلت : يا أمير المؤمنين! تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم ومن لا تعرف حسبه ونسبه : خمسة آلاف دينار إلى

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 167 _

  ما دونها ، وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار ، وأخس عطية أعطيتها أحدا من الناس ؟
  فقال : اسكت لا أم لك! فإني لو أعطيته هذا ما ضمنته له ، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه ، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وإغنائهم .
  وقيل : ولما دخل هارون الرشيد المدينة ، توجه لزيارة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعه الناس ، فقدم إلى قبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال !
  السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن العم ، مفتخرا بذلك على غيره .
  فتقدم أبو الحسن موسى بن جعفر إلى القبر فقال :
  السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبة.
  فتغير وجه الرشيد وتبين الغيظ فيه .
  وروي : عن أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم ( عليه السلام ) أنه قال : لما سمعت هذا البيت ـ وهو لمروان بن أبي حفصة ـ :
أنى يكون ولا يكون ولم يكن      لـبني البنات وراثة iiالأعمام

  دار في ذلك ليلتي ، فنمت تلك الليلة فسمعت هاتفا في منامي يقول :
أنـى يـكون ولا يكون ولم iiيكن      لـلـمشركين  دعـائم iiالإسـلام
لـبني  البنات نصيبهم من iiجدهم      والـعم  مـتروك بـغير iiسـهام
مـا لـلطليق ولـلتراث iiوإنـما      سجد الطليق مخافة الصمصام (1)


---------------------------
(1) يريد بالطليق : العباس بن عبد المطلب عم الرسول ، حيث أسر يوم بدر أسره أبو يسر كعب بن عمرو الأنصاري ، وكان رجلا صغير الجثة، وكان العباس رجلا عظيما قويا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأبي اليسر كيف أسرته ؟ قال : أعانني رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لقد أعانك عليه ملك كريم ولما أمسى القوم والأسارى محبوسون في الوثاق ، وفيهم العباس ، بات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تلك الليلة ساهرا ، فقال له بعض أصحابه : ما يسهرك يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
=>

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 168 _

وبـقي ابـن نثلة واقفا iiمتلددا      فـيه ويـمنعه ذوو iiالأرحـام
إن  ابـن فاطمة المنوه iiباسمه      حاز التراث سوى بني الأعمام

  وسأل محمد بن الحسن أبا الحسن موسى ( عليه السلام ) ـ بمحضر من الرشيد وهم بمكة ـ فقال له : أيجوز للمحرم إن يظلل عليه محمله ؟
  فقال له موسى ( عليه السلام ) : لا يجوز له ذلك مع الاختيار .
  فقال له محمد بن الحسن : أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختارا .
  فقال له : نعم .
  فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك.
  فقال له أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) : أتعجب من سنة النبي وتستهزئ بها ؟
  إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كشف ظلاله في إحرامه ، ومشى تحت الظلال وهو محرم ، إن أحكام الله تعالى يا محمد لا تقاس ، فمن قاس بعضها على بعض فقد ضل عن السبيل .
  فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جوابا .
  وقد جرى لأبي يوسف مع أبي الحسن موسى صلوات الله عليه بمحضر المهدي ما يقرب من ذلك ، وهو : أن موسى ( عليه السلام ) سأل أبا يوسف عن مسألة ليس فيها عنده شئ ، فقال لأبي الحسن موسى ( عليه السلام ) : إني أريد أن أسألك عن شئ .
  قال : هات .
  فقال : ما تقول في التظليل للمحرم ؟
  قال : لا يصلح .
  قال : فيضرب الخباء في الأرض فيدخل فيه ؟
  قال : نعم .

---------------------------
<=
قال : سمعت أنين العباس فقام رجل من القوم فأرخى من وثاقه شيئا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما بالي لا أسمع أنين العباس ؟ فقال رجل من القوم : أرخيت من وثاقه شيئا قال : افعل ذلك بالأسارى كلهم راجع تاريخ الطبري ج 2 ص 288 والدرجات الرفيعة للسيد علي خان المدني ص 80

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 169 _

  قال : فما فرق بين هذا وذلك .
  قال أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) : ما تقول في (الطامث) تقضي الصلاة ؟
  قال : لا .
  قال: تقضي الصوم ؟
  قال : نعم .
  قال : ولم ؟
  قال : إن هذا كذا جاء .
  قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : وكذلك هذا .
  قال : المهدي لأبي يوسف : ما أراك صنعت شيئا !
  قال : يا أمير المؤمنين رماني بحجة وعن أبي محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) قال : قال رجل من خواص الشيعة لموسى بن جعفر ( عليه السلام ) ـ وهو يرتعد بعد ما خلا به ـ :
  يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك في إظهاره اعتقاد وصيتك وإمامتك .
  فقال موسى ( عليه السلام ) : وكيف ذاك ؟
  قال : لأني حضرت معه اليوم في مجلس فلان وكان معه رجل من كبار أهل بغداد ، فقال له صاحب المجلس :
  أنت تزعم : أن صاحبك موسى بن جعفر إمام دون هذا الخليفة القاعد على سريره ؟
  قال له صاحبك هذا : ما أقول هذا ، بل أزعم : أن موسى بن جعفر غير إمام ، وإن لم أكن أعتقد أنه غير إمام فعلي وعلى من لم يعتقد ذلك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
  فقال له صاحب المجلس : جزاك الله خيرا ، ولعن من وشى بك إلي فقال له موسى بن جعفر ( عليه السلام ) : ليس كما ظننت ، ولكن صاحبك أفقه

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 170 _

  منك ، إنما قال : موسى غير إمام، أي أن الذي هو غير إمام فموسى غيره ، فهو إذا إمام ، فإنما أثبت بقوله هذا إمامتي ونفى إمامة غيري (1) يا عبد الله متى يزول عنك هذا الذي ظننته بأخيك هذا من النفاق ؟ تب إلى الله، ففهم الرجل ما قاله واغتم ، ثم قال :
  يا بن رسول الله ما لي مال فأرضيه به ، ولكن قد وهبت له شطر عملي كله ، من تعبدي وصلاتي عليكم أهل البيت ، ومن لعنتي لأعدائكم .
  قال موسى ( عليه السلام ): الآن خرجت من النار .
  وروي أيضا عنه ( عليه السلام ) : أنه قال :
  فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه ، أشد على إبليس من ألف عابد ، لأن العابد همه ذات نفسه فقط ، وهذا همه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه ، لينقذهم من يد إبليس ومردته ، ولذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد ، وألف ألف عابد .
  وروي أنه ( عليه السلام ) كان حسن الصوت ، وحسن القرائة ، وقال يوما من الأيام :
  أن علي بن الحسين ( عليه السلام ) كان يقرء القرآن فربما مر به المار فصعق من حسن صوته ، وأن الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس ، قيل له :
  ألم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن ؟
  فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يحمل من خلفه ما يطيقون .

احتجاج أبي الحسن علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) في التوحيد والعدل وغيرهما على المخالف والمؤالف والأجانب والأقارب .

  دخل عليه رجل فقال له :
  يا بن رسول الله ما الدليل على حدوث العالم ؟

---------------------------
(1) توضيح ذلك : أنه أراد : أنا أزعم : أن إمامك هذا القاعد على سريره هو إمام ضلال ، وموسى بن جعفر ( عليه السلام ) هو إمام من غير هذا النوع .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 171 _

  فقال : إنك لم تكن ثم كنت ، وقد علمت أنك لم تكون نفسك ، ولا كونك من هو مثلك .
  وعن محمد بن عبد الله الخراساني (1) خادم الرضا ( عليه السلام ) قال : دخل رجل من الزنادقة على الرضا ( عليه السلام ) وعنده جماعة .
  فقال له أبو الحسن : أرأيت إن كان القول قولكم ـ وليس هو كما تقولون ـ ألسنا وإياكم شرعا سواء ، ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا ؟
  فسكت ، فقال أبو الحسن : وإن لم يكن القول قولنا ، وهو كما نقول ، ألستم قد هلكتم ونجونا .
  قال الزنديق : رحمك الله فأوجدني كيف هو ، وأين هو ؟
  قال : ويلك! إن الذي ذهبت إليه غلط ، وهو أين الأين ، وكان ولا أين ، وهو كيف الكيف ، وكان ولا كيف ، ولا يعرف بكيفوفية ، ولا بأينونية ، ولا يدرك بحاسة ، ولا يقاس بشئ .
  قال الرجل : فإذن إنه لا شئ ، إذ لم يدرك بحاسة من الحواس.
  فقال أبو الحسن : ويلك ! لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا ، وأنه شئ بخلاف الأشياء .
  قال الرجل : فأخبرني متى كان ؟
  قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : أخبرني متى لم يكن ، فأخبرك متى كان ؟!
  قال الرجل : فما الدليل عليه ؟
  قال أبو الحسن : أني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ، ودفع المكاره عنه ، وجر المنفعة إليه ، علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته ، وإنشاء السحاب ، وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك من الآيات العجيبات

---------------------------
(1) محمد بن عبد الله الخراساني خادم لرضا ( عليه السلام ) : مجهول الحال لم يذكر في كتب الرجال.

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 172 _

  المتقنات ، علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا .
  قال الرجل : فلم لا تدركه حاسة البصر ؟
  قال : للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار ، منهم ومن غيرهم ، ثم هو أجل من أن يدركه بصر ، أو يحيط به وهم ، أو يضبطه عقل .
  قال : فحده لي !
  قال : لا حد له .
  قال : ولم ؟
  قال : لأن كل محدود متناه ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، فهو غير محدود ، ولا متزايد ولا متناقص ، ولا متجزي ، ولا متوهم .
  قال الرجل: فأخبرني عن قولكم : أنه لطيف ، وسميع ، وبصير ، وعليم وحكيم ، أيكون السميع إلا بالأذن ، والبصير إلا بالعين ، واللطيف إلا بعمل اليدين والحكيم إلا بالصنعة ؟
  فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إن اللطيف منا على حد إيجاد الصنعة ، أو ما رأيت أن الرجل اتخذ شيئا فيلطف في اتخاذه؟ فيقال : ما ألطف فلانا ، فكيف لا يقال للخالق الجليل : ( لطيف ) إذ خلق خلقا لطيفا وجليلا ، وركب في الحيوان منه أرواحها ، وخلق كل جنس مباينا من جنسه في الصورة، ولا يشبه بعضه بعضا ، فكل به لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته .
  ثم نظر إلى الأشجار وحملها أطايبها، المأكولة منها وغير المأكولة ، فقلنا عند ذلك أن خالقنا ( لطيف ) لا كلطف خلقه في صنعتهم ، وقلنا أنه ( سميع ) لأنه لا يخفى عليه أصوات خلقه ، ما بين العرش إلى الثرى ، من الذرة إلى ما أكبر منها ، في برها وبحرها ، ولا يشتبه عليه لغاتها ، فقلنا عند ذلك أنه سميع لا بأذن ، وقلنا :
  أنه ( بصير ) لا ببصر ، لأنه يرى أثر الذرة السحماء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء ، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية ، ويرى مضارها ومنافعها ، أثر و

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 173 _

  سفادها ، وفراخها ونسلها ، فقلنا عند ذلك : أنه ( بصير ) لا كبصر خلقه قال : فما برح حتى أسلم ، وفيه كلام غير هذا .
  وروي عنه ( عليه السلام ) في خبر آخر : أنه قال :
  إنما يسمى الله تعالى ( بالعالم ) لغير علم حادث ، علم به الأشياء ، واستعان به على حفظ ما يستقبل من أمره ، والرؤية فيما يخلق ، وإنما سمي العالم من الخلق : ( عالما ) لعلم حادث ، إذ كان قبله جاهلا ، وربما فارقهم العلم بالأشياء فصار إلى الجهل وإنما سمي الله: ( عالما ) لأنه لا يجهل شيئا ، فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العالم ، واختلف المعنى، وهو الله تعالى ( قائم ) .
  وأما القائم فليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد ، كما قامت الأشياء ، ولكنه أخبر أنه قائم يخبر أنه ( حافظ ) كقولك : ( فلان القائم بأمرنا ) وهو عز وجل القائم على كل نفس بما كسبت ، والقائم أيضا في كلام الناس :
  ( الباقي ) والقائم أيضا : ( الكافي ) كقولك للرجل : ( قم بأمر كذا ) أي : اكفه .
  والقائم منا قائم على ساق ، فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى .
  وأما ( الخبير ) فالذي لا يعزب عنه شئ ولا يفوته ، وليس بالتجربة والاعتبار بالأشياء فتفيده التجربة والاعتبار علما لولاهما لما علم ، لأن من كان كذلك كان جاهلا ، والله تعالى لم يزل خبيرا بما يخلق ، والخبير من الناس المستخبر ، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى .
  وأما ( الظاهر ) فليس من أنه علا الأشياء بركوب فوقها ، وقعود عليها ، وتسنم لذراها ، ولكن ذلك لقهره وغلبته الأشياء وقدرته عليها كقول الرجل :
  ظهرت على أعدائي ، وأظهرني الله على خصمي ، إذا أخبر على الفلج والظفر ، فهكذا ظهور الله على الأشياء .
  ووجه آخر : أنه الظاهر لمن أراده لا يخفى عليه ، لمكان الدليل والبرهان على وجوده في كل ما دبره وصنعه مما يرى ، فأي ظاهر أظهر وأوضح أمرا من الله تبارك وتعالى ، فإنك لا تعدم صنعته حيثما توجهت ، وفيك من آثاره

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 174 _

  ما يغنيك ، والظاهر منا البارز بنفسه المعلوم بحده ، فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى .
  وأما ( الباطن ) : فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها ، ولكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا ، كقول القائل : بطنته بمعنى :
  ( خبرته ) وعلمت مكنون سره ، والباطن منا الغاير في الشئ المستتر فيه ، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.
  قال : وهكذا جميع الأسماء وإن كنا لم نسمها كلها .
  وكان المأمون لما أراد أن يستخلف الرضا ، جمع بني هاشم فقال : إني أريد أن استعمل الرضا ( عليه السلام ) على هذا الأمر من بعدي .
  فحسده بنو هاشم وقالوا : أتولي رجلا جاهلا ، ليس له بصر بتدبير الخلافة ؟
  فابعث إليه يأتنا فترى من جهله ما تستدل به !
  فبعث إليه فأتاه فقال له بنو هاشم : يا أبا الحسن إصعد المنبر وانصب لنا علما نعبد الله عليه ، فصعد المنبر فقعد مليا لا يتكلم مطرقا ثم انتفض انتفاضة فاستوى قائما وحمد الله تعالى وأثنى عليه ، وصلى على نبيه وأهل بيته ، ثم قال :
  أول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفة الله توحيده ، ونظام توحيده نفي الصفات عنه ، (1) بشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق ، وشهادة كل مخلوق أن له خالقا ليس بصفة ولا موصوف ، وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران ، وشهادة الاقتران بالحدث ، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث ، (2) فليس الله عرف من عرف ذاته بالتشبيه ، ولا إياه وحد من

---------------------------
(1) ( أول عبادة الله) أي : أشرفها وأقدمها رتبة ( معرفته ) تعالى لأن الطاعة والعبادة تأتي بعد المعرفة فهي متأخرة رتبة عنها ولا تقبل عبادة بدون المعرفة فهي دونها في الشرف أيضا ( وأصل معرفة الله توحيده ) أي تنزيهه عن التركيب والشركة ( ونظام التوحيد ) أي تمامه وكماله ( نفي الصفات الزائدة عنه ) فلا يتم التوحيد إلا بالقول بأن صفاته تعالى عين ذاته
(2) ثم إنه ( عليه السلام ) شرع بإقامة الدليل على نفي الصفات الزائدة على الذات
=>

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 175 _

  اكتنهه ، ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا به صدق من نهاه ، ولا صمد صمده من أشار إليه ، ولا إياه عنى من شبهه ، ولا له تذلل من بعضه ، ولا إياه أراد من توهمه (1) كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول ، (2) بصنع الله يستدل عليه ، وبالعقول يعتقد معرفته ، وبالفطرة تثبت حجته ، (3) خلقة الله الخلق حجاب

---------------------------
: = فقال : ( لشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق ) وذلك أن الصفة لا قوام لها إلا بالموصوف فهي محتاجة إليه لا تنفك عنه ، وبها كمال الموصوف فهو محتاج إليها .
والحاجة دليل الإمكان ( وشهادة كل مخلوق أن له خالقا ) غنيا بذاته ( ليس بصفة ) حتى يفتقر إلى الموصوف ليقوم به ذاته ( ولا موصوف ) حتى يحتاج إلى الصفة لكي يكمل بها ذاته ( وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران ) لما عرفت من حاجة بعضها إلى الآخر وشهادة الاقتران بالحدث ... الخ توضيح ذلك : هو أن الصفة والموصوف أما أن يكونا قديمين ، أو يكون أحدهما قديما والآخر حادثا أو يكونا حادثين .
ولا رابع لهذا الحصر الثلاثي.
والأول باطل لما يلزم منه القول بتعدد القدماء وقد ثبت بطلانه.
والثاني يبطله الاقتران والحاجة والافتقار لما ألمحنا إليه آنفا وحينئذ يثبت القول الثالث وهو المطلوب.
(1) (فليس الله) الواجب الوجود الواحد الأحد ( عرف من عرف بالتشبيه ذاته ) بل عرف ممكنا من مخلوقاته ( ولا إياه وحد من اكتنهه ) أي جعل له كنها ( ولا حقيقته أصاب من مثله ) أي جعل لا : لا وصورة سواء كانت ذهنية أو خارجية ( ولا به صدق من نهاه ) أي جعل له حدا ونهاية ( ولا صمد صمده ) أي قصد نحوه ( من أشار إليه ) سواء بالإشارة الحسية أو الذهنية ( ولا إياه عنى من شبهه ) وإنما عنى ممكنا من الممكنات ، ومخلوقا من جملة المخلوقات ( ولا له تذلل ) أي تعبد ( من بعضه ) أي جعل له أبعاضا وجزأه فهو إنما عبد جسما مخلوقا مركبا له أجزاء وأبعاض ( ولا إياه أراد من توهمه ) أي : تصور له صورة ذهنية .
(2) ( كل معروف بنفسه ) أي : بكنه حقيقته ( مصنوع ) لما يلزمه من التركيب ( وكل قائم في سواه ) لا يكون علة لاحتياجه إلى الغير فهو ( معلول ) .
(3) ( بصنع الله) وحكيم تدبيره ( يستدل عليه ) ( وبالعقول تعتقد معرفته )
=>