كلما طال العهد على (الخوارج) ، كلما ظهر لديهم ميل أكثر إلى التخفيف من حدّة تعاليمهم ، وحرارة عقائدهم ، وذلك تبعاً لازدياد معارفهم ، وإدراكاتهم لضرورات الحياة ، حتى أصبح البعض ينكر انتساب فرقة الإباضية التي لا تزال بقاياها حتى الآن إلى (الخوارج) من الأساس ، كما تقدم فالأزارقة والنجدات ، وهم أقدم فرقهم كانوا أكثر فرق (الخوارج) تشدداً ، وكانوا يرون استعراض الناس بالسيف ، وقتلهم دون تمييز ، وجعل نافع بن الأزرق يقتل الأطفال ، ويقول إن هؤلاء إذا كبروا كانوا مثل آبائهم
.
وعللوا ذلك بأن من خالفهم فهو مشرك ، وأن أطفال مخالفيهم في النار ، ولأجل ذلك فإن دماء الأطفال لهم حلال
.
أما العجاردة : فكانوا أهون من سلفهم ، حيث لم يوجبوا الهجرة ، كما أوجبها سلفهم ، ولم يكفروا القعدة منهم ، بل تولّوهم إذا عرفوا بالتدين.
ثم جاء الثعالبة : ـ وهم فرقة من العجاردة ـ فخففوا الحكم بالنسبة إلى الأطفال ، فلم يحكموا عليهم بما حكم به عليهم العجاردة من وجوب البراءة من الطفل حتى يدعى إلى الإسلام ، ويجب دعاؤه إذا بلغ.
أما الصفرية : فقد تساهلوا جداً مع مخالفيهم ، وتفصيل ذلك يطول ، فليراجع في مظانه.
ولعل لأجل ذلك انتشر مذهب الصفرية في جميع بلاد الإسلام ، بما في ذلك المغرب ، في أيام آخر الخلفاء الأمويين
(1) .
الاتجاه في وقت مبكر نحو التخفيف :
هذا ... وقد بدأ تساهل (الخوارج) ، يظهر في مواقف عدد من شخصياتهم المعروفة ، ثم تبلور على شكل منحى عقائدي ، وديني لعدد من فرقهم وطوائفهم.
ومما يشهد لهذه الحقيقة : أن التاريخ يحدثنا : أنه قد كان لجابر بن زيد موقف ودود ومرن جداً من الحجاج
(2) .
كما أن ابن الكواء الذي كان من زعماء (الخوارج) قد دخل على معاوية ، وأخذ جائزته ، وقرضه تقريضاً فائقاً.
حتى لقد قال له : (إنك ركن من أركان الإسلام ، سدّت بك فرجة خوفه)
(3) .
ولما ظفر الحجاج بعمران بن حطان الشاري قال : إضربوا عنق ابن الفاجرة.
فقال عمران : لبئسما أدبك أهلك يا حجاج! كيف أمنت أن أجيبك بمثل ما لقيتني به؟! أبعد الموت منزلة أصانعك عليها ؟!
فأطرق الحجاج استحياءً ، وقال : خلوا عنه.
فخرج إلى أصحابه ، فقالوا : والله ، ما أطلقك إلا الله ، فارجع إلى حربه معنا.
---------------------------
(1) راجع : الإسلام ، تأليف هنري ماسيه ص187 والخوارج في العصر الأموي ص239.
(2) شرح عقيدة التوحيد ص92.
(3) تهذيب تاريخ دمشق ج7 ص301 و302.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 289 _
فقال : هيهات ، غلّ يداً مطلقها ، واسترق رقبة معتقها ، وأنشد :
أأقاتل الحجاج عن سلطانه بيد تقرّ بأنها مولاته
إني إذاً لأخو الدناءة والذي عفت على عرفانه جهلاته
إلى أن قال :
تالله ما كدت الأمير بآلةٍ وجوارحي وسلاحها آلاته
(1)
وقد قلنا أيضاً : إن عبد الله بن إباض كان (كثيراً ما يبدي النصائح لعبد الملك بن مروان)
(2) .
وأنه حاول أن يسعى بالسيد الحميري إلى المنصور ، فانقلب السحر على الساحر. ووقع هو في بئر احتفرها لغيره
(3) .
واللافت هنا : أننا نجد لهم تفننا ظاهراً في مدح معاوية ، فبعض مؤلفيهم يقول : ( ... قلت : وكانت لمعاوية في دولته آثار محمودة ، فقد تدارك الموقف ، وسد الثلمة ، وشرع في الجهاد ، وحماية البلاد ، وركب البحر ، وافتتح مناطق مشهورة ، وسدد وقارب حتى نسي المسلمون أو كادوا ينسون ما وقع بينهم ، وسمى ذلك العام عام الجماعة ، وذلك بعد قتل علي ، وتسليم الحسن)
(4) .
وربما يكون هذا الموقف لهم من معاوية قد انتهوا إليه بسبب شدة بغضهم لعلي (صلوات الله عليه) الذي قتل أسلافهم ، فأطروا عدوه ،
---------------------------
(1) زهر الآداب ج4 ص924و925.
(2) شرح عقيدة التوحيد ص93 والعقود الفضية ص121.
(3) ديوان السيد الحميري هامش ص397و398 عن أعيان الشيعة ج12 ص174.
(4) العقود الفضية ص61.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 290 _
وعظموه ، ومالوا إليه.
من الانكفاء إلى الانطواء :
غير أن من الواضح : أن ذلك الاعتدال النسبي ، وإن أسهم في صرف أنظار الحكام عنهم ، وعدم التصدي لإبادتهم ، إلا أنه لم يكن يكفي لدمجهم بصورة فعالة في المجتمع الإسلامي ، ليستفيدوا من الآخرين بعض ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم.
وقد تحدث هنري ماسيه عن أن الصفرية قد وقفوا موقفاً وسطاً بين الأزارقة المتشددين جداً ، وبين الإباضية المتساهلين ، فقبل الصفرية بالامتناع الموقت عن الحرب ضد المسلمين الآخرين ، واعتنقوا التقية ، وعدم قتل أولاد الكفار ، ثم ذاب الصفرية بالإباضيين.
(وهم يمثلون العنصر المعتدل في الخوارج( ثم قال إنه في منتصف القرن الثامن انحرفت فعالية (الخوارج) ، واتجهوا شيئاً فشيئاً نحو التجارة وتأليف الكتب الدينية والتاريخية إلخ
(1) .
كما أن هذا التساهل لم يكن كافياً لتمكين دعوتهم من الانتشار ، وذلك لأسباب عديدة :
أحدها : أنها كانت تعاني من الخواء العلمي ، ومن المضمون الفكري ، الذي يعتمد الدليل والبرهان المعقول والمقبول ، ويعطي رؤية متكاملة ، وواضحة ، وسليمة.
---------------------------
(1) الإسلام لهنري ماسيه ص186 و187.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 291 _
الثاني : أنها بحاجة أيضاً إلى انفتاح حقيقي في العقول والقلوب والمشاعر على الناس ، وعلى قضاياهم من موقع الإقناع والاقتناع ، وهذا ما لم يستطع (الخوارج) حتى الإباضيون المتساهلون أن يفعلوه لما كانوا عليه من خشونة ، ومن عصبيات وجمود ، ولأن نفس تلك المفاهيم كانت خاطئة ، بالإضافة إلى طبيعة نظرتهم التي كانت تهيمن على عقلياتهم وعلى سلوكهم.
فلم يكن أمامهم سوى الانكفاء إلى أماكن نائية وبعيدة عن مراكز العلم والمعرفة ، والتحضر ، ثم الانطواء على أنفسهم ـ وذلك هو الحل الوحيد الذي بقي أمامهم ، فبقوا محصورين في مناطقهم البعيدة عن الحركة الفكرية والثقافية طيلة قرون طويلة من الزمن.
الثالث : ومما ساعد على هذا الانكفاء على الأعقاب والإنطواء : أن دعوتهم لم تكن منسجمة مع الفطرة الصافية ، ومع بديهيات هذا الدين وثوابته. وقد تقدم بعض ما يشير إلى ذلك ، فلا نعيد.
الرابع : عدم ثقة المسلمين بهم ، وظهور التزييف والتحريف والتقلب غير المسؤول في مواقفهم وفي مبادئهم.
ويكفي أن نذكر : أن الناس قد رأوا : أن ما يظهرونه من تساهل ، وما يدعونه من اعتدال فيما يرتبط برأيهم في علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، قد سلكوا فيه سبيل التمويه والخداع والتزييف لحقيقة ما تنطوي عليه نفوسهم وما يسرونه من مبادئ وتعاليم.
وهذا ما سيتضح في الفصل التالي :
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 293 _
الفصل الثالث
الإباضية ... انكفاء ... انطواء ...
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 295 _
تساهل الإباضية هو سر بقائهم :
إن الاعتدال النسبي في تعاليم وعقائد الإباضية ، وكذلك اتساع نطاق معارفهم ، رغم أنها كانت ولا تزال متواضعة جداً ، ـ ثم وإدراكهم ـ جزئياً ـ لضرورات الحياة ، قد قلّل من حدتهم في تعاملهم ليس فقط مع غيرهم ، وإنما مع بعضهم البعض أيضاً ، وقلل من فرص تفرقهم إلى فرق ومذاهب ، كما كان الحال في السابق.
كما أن فرقة الإباضية : قد ثبتت وبقيت ، ولم تتصدع وحدتها حتى الآن ، ولم يجد الحكام ضرورة لممارسة ضغوط حادة عليها ، حيث ظهر لهم أن تعاليمها لا تعارض مصالحهم.
ومما يشير إلى تساهل الإباضية قولهم : إن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين ، وإن دارهم دار إسلام ، لا دار كفر ، وإن مناكحتهم جائزة ، وأجازوا شهادتهم ، ووراثتهم. وحرموا قتلهم غيلة ، وفي السر.
وإنما يجوز القتل إذا أقاموا على خصومهم الحجة ، وأعلنوا لهم بالقتال ، وحينئذٍ فلا يجوز من أموالهم إلا ما يغنم من الحرب ،
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 296 _
مما يعين على الحرب ، كالسلاح ، وما عداه فهو حرام. والمؤمن إذا ارتكب كبيرة فهو كافر كفر نعمة ، لا كفر شرك
(1) .
قال ابن خلدون : (وقول هؤلاء أقرب إلى السنة)
(2) .
ويقول فلهوزن : (الخوارج الإباضية ألين عريكة ، لم يكن هدفهم ـ مع طهارتهم ، وشدة تمسكهم بالدين ـ أن ينتصروا على جماعة المسلمين بالقوة ، بل أن يكسبوهم لمذهبهم)
(3) .
وقال عز الدين التنوخي ، عضو المجمع العلمي بدمشق ، بعد ذكره : أن الإباضية ينقلون أقوال المذاهب الأربعة ، ويستشهدون بأحاديث الشيخين ، وغيرهما : (مما يدل على أن الإباضية في المشرق والمغرب مذهب قريب من مذاهب السنة)
(4) .
ونقل الحارثي الإباضي عن المبرد قوله : ( ... قول ابن إباض أقرب الأقاويل إلى السنة ، وابن حزم حسبما حكاه عنه ابن حجر في الفتح
---------------------------
(1) راجع فيما تقدم : تاريخ الفرق الإسلامية ، للغرابي ص277و283 وتاريخ المذاهب الإسلامية ص83و85 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج3 ص145 والعقد الفريد ج1 ص223/224 والأنوار النعمانية ج2 ص247 والخوارج في العصر الأموي ص239 عن المصادر التالية : تلبيس إبليس ص19 ومقالات الإسلاميين ج1 ص204 و185 و186 و189 والكامل للمبرد ج3 ص104 والملل والنحل ج1 ص135 و134 ونقل أيضاً عن شرح المواقف ج3 ص292 ، وراجع : الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص81 متناً وهامشاً وص90 و91.
(2) العبر وديوان المبتدأ والخبر ج3 ص145 والخوارج في العصر الأموي عن الكامل المبرد ج3 ص104.
(3) الخوارج والشيعة ص111.
(4) العقود الفضية ص166 و167 عن المقدمة التي كتبها التنوخي لمسند الربيع وشرحه.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 297 _
الباري قال : أسوء الخوارج حالاً الغلاة ، وأقربهم إلى قول أهل الحق الإباضية)
(1) .
وقال أيضاً عن فرقة الإباضية : (فرقة من معتدلي الخوارج ...
إلى أن قال : والإباضية لا تقول بكفر غير الخوارج ، ولا بشركهم ، وتبيح الزواج منهم ، وترى ضرورة الإمامة بناءً على اختيار الشيوخ وأهل الرأي ، وليس بلازم ظهورها دائماً ، فقد يبقى اختيار الإمام في طي الكتمان ، وتسلم بأصول الفقه التي قال بها أهل السنة فيما عدا الإجماع)
(2) .
الفرنساويون ... والإباضية :
وقد أثنى على الإباضية أيضاً السندوبي في تعليقاته على كتاب البيان والتبيين
(3) .
ومن الغريب قول مصطفى إسماعيل المصري الذي اعتنق مذهب الإباضية بعد أن قرر أنها هي الفرقة الناجية : ( ... ولقد شهد بهذا الحق جميع الفلاسفة الفرنساويين الباحثين في الأديان ، الذين وقفوا بكياسة أديانهم ، وسلامة قياسهم على أن نقاوة الدين الإسلامي لا تنحصر إلا في مذهب اتباع ابن إباض)
(4) .
فهو يعتبر شهادة الفرنساويين للإباضية دليلاً على حقانية هذه الطائفة ، وصحة مذهبهم ، ويرى أن هؤلاء الفرنساويين لهم قياس سليم ،
---------------------------
(1) العقود الفضية ص156.
(2) الموسوعة العربية الميسرة ج1 ص1 وراجع العقود الفضية ص166 عنه.
(3) العقود الفضية ص156 عن هوامش كتاب البيان والتبيين.
(4) العقود الفضية ص168 و167.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 298 _
وكياسة في أديانهم !!
ولا ندري لماذا اختص الفرنساويون بهذا الأمر دون الفلاسفة البريطانيين ، أو غيرهم من فلاسفة أقطار العالم ، ولماذا لم يقبل ما يقوله فلاسفة الإسلام ، الذين هم أعمق فكراً ، وأبعد نظراً ، وأشد إخلاصاً وخلوصاً من غيرهم من عملاء المخابرات ، وأدوات السياسة والسياسيين.
فجوة بين عقائد الإباضية وسائر (الخوارج) :
وكيف كان ، فإن الفجوة كانت قد اتسعت بين عقائد (الخوارج) ، وبين الإباضية بدرجة كبيرة حتى قال عامر النجار عنهم : (هناك فروق عديدة بين مبادئ الخوارج ، ومبادئ الإباضية ، ولا يجمع يكاد بينهما جامع سوى إنكار التحكيم ، وأن الإمامة لا تختص بقريش ، وجواز الخروج على الحاكم)
(1) .
وقال أيضاً عنهم : ( ... هم أقرب فرقهم [أي الخوارج] إلى الجماعة الإسلامية ، ومذهبهم أكثر تسامحاً من كل فرق (الخوارج) ، ولهذا كتب لهذه الفرقة البقاء دون سائر الفرق الخارجية ، فيوجد فيهم إلى الآن جماعات في المغرب العربي ، وعمان ، وذلك بسبب تسامحهم مع مخالفيهم وإنصافهم لهم.
لكن الإباضيين غاضبون ممن يعتبرهم فرقة من فرق (الخوارج) ، ويقولون : إنما هي دعاية استغلتها الدولة الأموية لتنفير الناس من الذين ينادون بعدم شرعية الحكم الأموي.
---------------------------
(1) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص82.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 299 _
بل يقول البعض : إن للإباضية العديد من المواقف ضد الخوارج)
(1) .
ويعلل البعض سبب اختلاف الإباضية عن بقية (الخوارج) بكونهم لم يغلوا في الحكم على مخالفيهم ـ يعلله ـ بقوله :
(لعل هذا يرجع إلى طبيعة ظروف نشأتهم ، فإن صاحبهم عبد الله بن إباض لم يخرج إلا بعد أن قضى الأمويون على (الخوارج) أو كادوا ، وبعد أن كاد اليأس يدب إلى الأحزاب ، وتحول نضالهم حول الحكم إلى آراء ومذاهب تكاد تكون علمية بحتة)
(2) .
أما أبو زهرة فيقول عنهم : (هم أكثر الخوارج اعتدالاً ، وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيراً ، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو)
(3) .
الإباضية وحكام الجور :
ومما يؤكد الحقيقة التي مرت : أن الإباضية اتجهوا نحو التعامل مع حكام الجور تعاملاً يخدم مصالح أولئك الحكام ، ويؤكد هيمنتهم وإمساكهم بالأمور بقوة ، الأمر الذي جعل الحكام لا يجدون ضرورة لمواجهتهم ، والتخلص منهم ، بل إن وجودهم أصبح مفيداً للحكام أحياناً ، فلا غرو أن يصبح أيضاً مطلباً لهم في هذه الحالات على الأقل.
والأغرب من ذلك أن يصبح بقاء الحكام أيضاً ، واستمرار حكمهم بمزيدٍ من القوة والشوكة مطلباً للإباضية حتى على مستوى قياداتها !!
---------------------------
(1) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ـ ص81.
(2) الإباضية عقيدة ومذهباً ص45 عن تاريخ الإسلام السياسي ص393.
(3) الإباضية عقيدة ومذهباً ص45 عن تاريخ الإسلام السياسي ص85.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 300 _
ويتجسد لنا مصداق ذلك ، فيما يذكرونه عن ابن إباض نفسه ، من أنه (كان كثيراً ما يبدي النصائح لعبد الملك بن مروان)
(1) .
وكان قد بلغ السيد : (أن عبد الله بن إباض ، رأس الإباضية يعيب على علي (عليه السلام) ، ويتهدد السيد بأن يذكره عند المنصور بما يوجب القتل.
وكان ابن إباض يظهر التسنن ، ويكتم مذهب الإباضية.
فكتب إليه السيد قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين (عليه السلام) أولها :
لمن طلل كالوشم لم يتكلم ونؤي ، وآثار كترقيش معجم
فلما وصلت إلى ابن إباض امتعض منها جداً ، وأجلب في أصحابه ، وسعى به إلى الفقهاء والقراء ، فاجتمعوا ، وساروا إلى المنصور ، وهو بدجلة البصرة ، فرفعوا قصته.
فأحضرهم ، وأحضروا السيد ، فسألهم عن دعواهم ، فقالوا : إنه يشتم السلف ، ويقول بالرجعة ، ولا يرى لك ولأهلك إمامة.
فقال لهم : دعوني أنا ، واقصدوا لما في أنفسكم.
ثم اقبل على السيد ، فقال : ما تقول فيما يقولون؟!
فقال : ما أشتم أحداً ، وإني لأترحم على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهذا ابن إباض ، قل له : يترحم على علي ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير.
فقال له : ترحم على هؤلاء !
فتلوّى ساعة ، فحذفه المنصور بعود كان بين يديه ، وأمر بحبسه ،
---------------------------
(1) شرح عقيدة التوحيد ص93 والعقود الفضية ص121.