ولعل ذلك كان في مناسبة أخرى له معهم.
وقال البلاذري : ( ... فبعث إليهم عليٌّ ، ابن عباس ، وصعصعة ، فوعظهم صعصعة وحاجهم ابن عباس ، فرجع منهم ألفان)
.
وقد ذكر المفيد : ((رحمه الله)) أحد مواقف صعصعة مع (الخوارج) ، وهو يدل على ثبات قدم صعصعة في مجال الخطابة والوعظ ، وعلى قوة عارضته ، ثم على ثباته في عقيدته ، وثاقب فكره ، ووعيه.
يقول النص المحكي عنه : لما بعث علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) صعصعة إلى (الخوارج) قالوا له : أرأيت لو كان علي معنا في موضعنا ، أتكون معه ؟!
قال : نعم.
قالوا : فأنت إذاً مقلد علياً دينك !! إرجع فلا دين لك.
فقال لهم صعصعة : ألا أقلد من قلد الله فأحسن التقليد ، فاضطلع بأمر الله صديقاً لم يزل ؟! أو لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا اشتدت الحرب قدمه في لهواتها ، فيطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بحدّه ، مكدوداً في ذات الله ، عنه يعبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمون ، فأنى تصرفون ؟ وأين تذهبون ؟ وإلى من ترغبون ؟ وعمّن
تصدفون؟ عن القمر الباهر ؟ والسراج الزاهر ، وصراط الله المستقيم ، وحسان الأعد
(1) المقيم. قاتلكم الله أنى تؤفكون ؟ أفي الصديق الأكبر ، والغرض الأقصى ترمون؟ طاشت عقولكم ، وغارت حلومكم ، وشاهت وجوهكم ، لقد علوتم القلة من الجبل ، وباعدتم العلة من النهل.
أتستهدفون أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، ووصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ لقد سوّلت لكم أنفسكم خسراناً مبيناً ، فبعداً وسحقاً للكفرة الظالمين ، عدل بكم عن القصد الشيطان ، وعمى لكم عن واضح المحجة الحرمان.
فقال له عبد الله بن وهب الراسبي : نطقت يا بن صوحان بشقشقة بعير ، وهدرت فأطنبت في الهدير ، أبلغ صاحبك أنا مقاتلوه على حكم الله والتنزيل.
فقال عبد الله بن وهب أبياتاً ، قال العكلي الحرماوي : ولا أدري أهي له أم لغيره :
نقاتلكم كي تلزموا الحق وحده ونضربكم حتى يكون لنا الحكم
فإن تبتغوا حكم الإله نكن لكم إذا ما اصطلحنا الحق والأمن والسلم
وإلا ... فإن المشرفية محذم بأيدي رجال فيهم الدين والعلم
فقال صعصعة : كأني انظر إليك يا أخا راسب مترملاً بدمائك ، يحجل الطير بأشلائك ، لا تجاب لكم داعية ، ولا تسمع لكم واعية ، يستحل ذلك منكم إمام هدى ، قال الراسبي :
سيعلم الليث إذا التقينا دور الرحى عليه أو علينا
---------------------------
(1) في بعض النسخ : وسبيل الله المقيم.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 261 _
أبلغ صاحبك : أنا غير راجعين عنه ، أو يقر لله بكفره ، أو يخرج عن ذنبه ، فإن الله قابل التوب ، شديد العقاب ، وغافر الذنب ، فإذا فعل ذلك بذلنا المهج.
فقال صعصعة : عند الصباح يحمد القوم السُّرى.
ثم رجع إلى علي (صلوات الله عليه) ، فأخبره بما جرى بينه وبينهم إلخ
(1) .
فالراسبي لم يجب صعصعة إلا بالشتم والإهانة ، ولم يكن لديه حجة ، ولا دليل منطقي يبرر به ما يقدم عليه ... بل هو حتى لم يقابل الموعظة ، بالموعظة ولا النصيحة بالنصيحة ، بل أعلن عن أطماعه الدنيوية بالوصول إلى الحكم ، وأن يكون لهم دون غيرهم.
ونجد صعصعة يقدم صوراً رائعة من البلاغة ، والوعي ، والعقلانية ، والغيرة على مصلحة الأمة ، والعمق العقيدي القائم على أساس قوي ، ومتين وعلى الرؤية الواضحة.
وفي نص آخر : أنه لما فارقت (الخوارج) علياً (عليه السلام) ، ونزلوا حروراء مع ابن الكواء بعث علي (عليه السلام) إليهم ابن عباس ، وصعصعة.
فقال لهم صعصعة : إنما يكون القضية من قابل ، فكونوا على ما أنتم حتى تنظروا القضية كيف تكون.
قالوا : إنما نخاف أن يحدث أبا [كذا] موسى شيئاً يكون كفراً.
قال : فلا تكفروا العام مخافة عام قابل.
فلما قام صعصعة ، قال لهم ابن الكواء : (أي قوم ، ألستم تعلمون أني دعوتكم إلى هذا الأمر ؟
قالوا : بلى.
---------------------------
(1) الإختصاص ص121/122.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 262 _
قال : فإن هذا ناصح فأطيعوه)
(1) .
هفوة ظاهرة :
ولا حاجة بنا إلى التعريف بصعصعة ، ووفائه الظاهر لامير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن مات ، ودفاعه عن قضيته (عليه السلام) في قبال (الخوارج) وغيرهم بكل ما أوتي من قوة وحول ، فإن ذلك من بديهيات التاريخ التي لا يرقى إليها أدنى شك أو شبهة ،
ولكننا : ـ مع ذلك ـ نجد الجوزجاني يعد صعصعة بن صوحان بالذات في جملة (الخوارج) الذين نبذ الناس حديثهم اتهاماً لهم
(2) فاقرأ ذلك واعجب ما بدا لك ، فإنك ما عشت أراك الدهر عجباً.
---------------------------
(1) لسان الميزان ج3 ص329 عن يعقوب بن شيبة.
(2) أحوال الرجال ص35.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 263 _
الباب التاسع
تلك هي البداية ... وهذه هي النهاية
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 265 _
الفصل الأول
يكون آخرهم لصوصاً سلابين
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 267 _
بداية :
قد أشرنا فيما سبق إلى أن (الخوارج) من بين سائر الفرق كانوا اسرع ما يكون إلى التشعب والتفرق إلى فرق ، ومذاهب شتى ... ولذا ... فقد ظهرت لهم فرق كثيرة ... ولكنها سرعان ما اختفت وبادت.
بل إن أكبر فرقهم وأهمها ، وهي : الأزارقة والنجدات ، والعجاردة ، قد بادت واختفت أيضاً كغيرها من الفرق الصغيرة ... ولم يبق منهم إلى عهد ابن حزم سوى فرقتي الإباضية والصفرية ، وكان الغالب على خوارج الأندلس في زمانه النكار من الإباضية
(1) .
وكان الخلاف ينشب بينهم لأتفه الأسباب ، فيصيرون لأجلها فرقاً دينية ، يقتل بعضهم بعضاً ، ويبرأ بعضهم من بعض ، على حد تعبير ابن شاذان
(2) .
ويكفي أن يراجع : ـ على سبيل المثال ـ ما فعلته فرقة الحمزية منهم بـ(الخوارج) من أتباع الفرق الأخرى من القتل والجرائم
(3) .
---------------------------
(1) الفصل لابن حزم ج4 ص190و191.
(2) الإيضاح ص48.
(3) الفرق بين الفرق ص98و100.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 268 _
كما أنه ولأجل سبب بسيط تافه نجد أصحاب قطري بن الفجاءة يفترقون إلى فرقتين : إحداهما معه ، والأخرى مع عبد ربه الصغير ، ثم تنشب معركة فيما بينهم أجلت عن ألفي قتيل
(1) ...
وقد أدرك المهلب بن أبي صفرة نقطة الضعف هذه فيهم ، فكان يهتم في خلق الأسباب ـ وكثير منها حقير وتافه ـ لإلقاء الخلاف فيما بينهم وتمزيقهم
(2) ، وليواجههم ـ من ثم ـ في ساحة الحرب ، وهم جماعات صغيرة ، لا تكاد تقوى على تسجيل نصر حاسم ، مهما كانت الظروف والأحوال ...
ويكفي أن نذكر هنا : ـ كشاهد على ذلك ـ النص التاريخي الذي يقول : (وكتب المهلب جواب الحجاج : إني منتظر بهم إحدى ثلاث : موتاً ذريعاً ، أو جوعاً مضراً ، أو اختلافاً في أهوائهم)
(3) .
نعم ... وهذا ما نبه إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، حينما قال لهم : (وأنتم معاشر أخفاء الهام ، سفهاء الأحلام) ... وقد أشار الآخرون إلى هذه الناحية فيهم حسبما قدمنا ، فلا حاجة إلى الإعادة.
(الخوارج) : فورة وخمود :
قال بروكلمان : (كان الخوارج الذين هزموا في كل مكان تقريباً قد ثبتوا فترة طويلة في سجستان جنوب شرقي إيران ، وهي المقاطعة التي تفصل اليوم بين إيران الحالية وأفغانستان ، ولكنهم كانوا قد انحطوا إلى درك
---------------------------
(1) الكامل للمبرد ج3 ص393 وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص204.
(2) راجع : الكامل للمبرد ج3 ص393 و382 وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص196 و197 و405 وتاريخ ابن خلدون ج3 ص161.
(3) الكامل للمبرد ج3 ص374 وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص190.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 269 _
اللصوصية والنهب في ذلك الإقليم النائي ، الذي ترك أمره في أيام هارون الرشيد للحكام الوطنيين ، فلم يشدّ إلى الإدارة المركزية شداً محكماً ، ومن هنا اضطر اهل البلاد إلى مقاتلتهم دفاعاً عن النفس إلخ ...)
(1) .
وقد تنبأ أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا المصير لهم أيضاً ، حينما قال عنهم : (كلما نجم منهم قرن قطع ، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين)
(2) .
يقول المعتزلي في شرحه : (وهكذا وقع ، وصح إخباره (عليه السلام) أيضاً : سيكون آخرهم لصوصاً سلابين ، فإن دعوة الخوارج اضمحلت ، ورجالها فنيت ، حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطاع طريق ، متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض)
(3) .
وقال أيضاً : ( ... وقد وقع ذلك ، فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده الذل الشامل ، والسيف القاطع ، والأثرة من السلطان ، ومازالت حالهم تضمحل ، حتى أفناهم الله تعالى ، وأفنى جمهورهم إلخ ...)
(4) .
أما ابن ميثم البحراني ، فيقول : ( ... وأما كون آخرهم لصوصاً سلابين ، فإشارة إلى ما كانوا يفعلونه في أطراف البلاد ، بأصبهان ، والأهواز ، وسواد العراق ، يعيثون فيها بنهب أموال الخراج ، وقتل من لم يدن بدينهم جهراً ، وغيلةً. وذلك بعد ضعفهم وتفرقهم ، بوقائع المهلب وغيرها ، كما هو مذكور في مظانه إلخ ...)
(5) .
---------------------------
(1) تاريخ الشعوب الإسلامية ص216و217.
(2) نهج البلاغة [مطبوع مع شرح محمد عبده] الخطبة رقم 58 والبحار [ط حجرية] ج8 ص572.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج5 ص73.
(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص132.
(5) شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج2 ص155.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 270 _
ويقول فلهوزن عن خوارج البصرة : (وهؤلاء الخوارج البصريون كانوا يسلكون مسالك اللصوص والسفاحين)
(1) .
ومما سهل عليهم ذلك : طبيعة تعاليمهم ، وعقيدتهم بالنسبة إلى كل من سواهم ، حيث دعاهم ذلك إلى اتباع كل أسلوب حتى أسلوب اللصوصية والسلب بالنسبة إلى غيرهم ، ممن لا يتبع مذهبهم ، ولا يدين بدينهم.
أضف إلى ذلك : أن جفاءهم وقسوتهم ، ومعه جهلهم أيضاً قد سهّل عليهم ارتكاب أمور كهذه ، ولاسيما إذا كانت موافقة لأهوائهم ومطامعهم ، وملبسةً بلباس الدين ، ومبررة على اساس شرعي مزعوم.
ومما زاد الطين بلة والخرق اتساعاً ، وأطلق لهم العنان في هذا الاتجاه ، وجعله أمراً مألوفاً ، ذلك الرفض الاجتماعي لهم ، والتحاشي والحذر منهم ، الذي جعلهم معزولين عن الحياة الاجتماعية ، وعن النشاطات الحيوية فيها ، وحرمهم من لذة المشاركة الإنسانية في تيارها الزاخر بالعواطف النبيلة ، ومدها العارم الحنون.
وأخيراً ... فإن هذه الحال التي أخبر عنها أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تزل قائمة إلى يومنا هذا فإن أتباع الفرقة الإباضية التي عاشت وانتشرت في شمالي إفريقية ، وفي عمان ، وفي حضرموت ، وزنجبار ، واستمرت إلى يومنا هذا
(2) .
(كانوا لا يختلفون إلا من حيث الاسم عن اللصوص الأدنياء ، وكانوا
---------------------------
(1) الخوارج والشيعة ص60/61.
(2) ضحى الإسلام ج3 ص336 وراجع تاريخ الفرق الإسلامية ص284 عن العقيدة والشريعة لجولد تسيهر 173 وفيه : أنهم يقيمون في إقليم جبل نفوسة بطرابلس الغرب ، وزنجبار وراجع : الفرق الإسلامية في الشمال الأفريقي ص150 وأضاف فيه : جربة وسيوة.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 271 _
يستحقون أن يعاملوا كما يعامل اللصوص)
(1) .
من عوامل الانحسار :
ولا يخفى أنه قد كان لسرعة تفرق (الخوارج) آثار كبيرة على حياتهم ومصيرهم ... وقد ساعد على حصول هذه الحالة وتفاقمها فيهم : أنهم كانوا في كثير من الأحيان ، بل في أكثرها أخلاطاً من الناس ، لا تربطهم إلا رابطة المصالح والأهواء ، مع ما يصحب ذلك من بداوة وجهل ، وغير ذلك.
ولعل طبيعة الشعارات التي كانوا يرفعونها كانت تجذب إليهم أولئك الشباب الأحداث المتحمسين ، الذين كانوا من مختلف الفئات ، والطبقات والثقافات ، ولكن من دون أن يكون لمضمون تلك الشعارات أي تأثير على سلوكهم الشخصي ، شأن المنافقين في هذه الأيام ، فإن الشعارات التي يرفعونها ، وما يترتب عليها من إثارات عاطفية على العناصر التي يستفيدون منها من شأنها أن تولد في نفوس تلك العناصر أحقاداً على الآخرين ، بلا سبب ظاهر ، ثم يتصرفون تجاههم برعونه ظاهرة ، ويتخذون المواقف القوية والمتطرفة ، على أساسها.
وهذا ما يفسر لنا : ما جاء عن أئمتنا (عليهم السلام) : من أن الحقد الذي كان يعتمل في نفوس (الخوارج) كان وراء كل مواقفهم المتطرفة تلك.
هذا ... ويلاحظ : أنهم حين يرتجلون المواقف ، لم يكونوا مهتمين بالبحث عن فرصة للأناة وللتروي في مواقفهم ، والتخطيط لها ، بل هم يمعنون في العفوية والارتجال ، ولا يروق لهم العمل السري المنظم ، إذ أنهم كانوا يتجنبون قدر الإمكان العمل بمبدأ التقية ، وكان الأزارقة لا
---------------------------
(1) تاريخ الدولة العربية ص118.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 272 _
يجيزون التقية ، وخالفهم في ذلك نجدة الحنفي
(1) .
كما أن الحدة والقسوة التي امتازت بها عقائدهم ، ومواقفهم ، كانت هي النتيجة الطبيعية لما ذكرناه آنفاً ، بالإضافة إلى عدم وضوح كثير من الأمور الدينية لديهم ، حتى إنهم كانوا غير قادرين على التمييز بين الإيمان والكفر ، وموجباتهما ، فاختلطت الأمور عليهم ، وعانوا من الشبه الكثيرة ، التي كانت تعرض لهم وتمزقهم ، إلى شيع وأحزاب ...
وكان لطبيعة حياتهم وظروفهم ، وواقعهم الخاص ـ الذي كانوا يعانون منه ـ الأثر بشكل أو بآخر في جنوحهم إلى التسرع في إصدار الأحكام الفاصلة والحادة ، التي تبيح لهم ، حسب فهمهم استباحة الأنفس ، والأموال ، والأعراض بسرعة.
بل نجد : أن زعماء الأزارقة يتخذ الخلاف بينهم طابعاً عنصرياً ، (فقد تكتلت الموالي والأعاجم ضد اميرهم قطري بن الفجاءة ، ومن معه من العرب ، وأخرجوهم من ديارهم بعد قتال أسفر عن قتل ألفي رجل)
(2) .
وقد كان لتشتتهم هذا : أثر كبير في القضاء على دعوتهم ، بالإضافة إلى ما قدمناه من نظرتهم ، وتعاملهم مع غيرهم من المسلمين ، بسبب قسوة كثير من تعاليمهم ، وتطرف آرائهم وعقائدهم بصورة عامة ، فلم يكن لغيرهم خيار سوى خيار الحرب لهم ، والسعي للقضاء عليهم وعلى دعوتهم بأي ثمن.
وهكذا ... يتضح : أن تلك الآراء قد ساهمت بشكل فعال في انحسار دعوتهم عن مراكز النفوذ والحركة ، والقوة والازدهار الثقافي في الدولة الإسلامية ، ليعيشوا في مناطق نائية ، فيها الكثير من مظاهر
---------------------------
(1) الكامل في الأدب ج3 ص285.
(2) الكامل للمبرد ج3 ص393.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 273 _
الجهل ، والحرمان ، والبداوة ، وحرمتهم إلى حد كبير من السير بخطى واسعة نحو المشاركة في المد الثقافي ، والعلمي ، الذي كان يجتاح العالم الإسلامي ، ويزداد طغياناً وقوة باستمرار ...
وكذلك حرمتهم من التمتع بملذات الحياة ، وبالطيبات من الرزق ، حتى انتهى الأمر بهم إلى أن يكونوا لصوصاً سلابين ، حسبما أخبر به أمير المؤمنين (عليه السلام).
مواقفهم من غير المسلمين :
لقد كان لموقف (الخوارج) على اختلاف نحلهم من غير المسلمين تأثيرات هامة على مجريات الأمور بالنسبة إليهم ، ولا تزال هذه التأثيرات باقية بسبب بقائهم على مواقفهم تلك.
فإن (الخوارج) الذين يقولون بوجوب قتل المسلمين ، وبعض كبريات فرقهم ، تجيز حتى قتل الأطفال والشيوخ منهم ـ قد وقفوا من غير المسلمين موقفاً إيجابياً ومتعاطفاً معهم للغاية ...
ويكفي أن نذكر : أن واصل بن عطاء قد استطاع هو ومن معه التخلص من الموت المحتم على أيديهم ، حين ادّعى أنه هو وأصحابه مشركون ، يريدون أن يسمعوا كلام الله ، وأن عليهم أن يبلغوهم مأمنهم ، كما نص عليه القرآن ... فكان له ما أراد وبعد أن أسمعوهم دعوتهم ،ساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهم مأمنهم ، والقضية معروفة ومشهورة
(1) .
---------------------------
(1) راجع على سبيل المثال : شرح النهج للمعتزلي ج 5 ص80و81 وج2 ص281 والكامل في الأدب ج3 ص164/165 والأذكياء ص124/125 ونشوار المحاضرة ج2 ص250 وكشف الارتياب ص118 وراجع : الإباضية عقيدة ومذهباً ص34 عن تاريخ الإسلام السياسي ج1 ص389 وفجر الإسلام ص263.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 274 _
وقد جرى مثل ذلك بين بعض النصارى ، وبين شبيب الخارجي
(1) .
كما أن سهم بن غالب الخارجي ، كان يأخذ المسلمين ، فيقتلهم ، بينما يخلي سبيل يهود صرحوا له بيهوديتهم
(2) .
وحين لقي ابن عرباض (الخوارج) وهم يجزون الناس بسيوفهم ، قال لهم : هل خرج إليكم في اليهود شيء؟ [يوهمهم أنه يهودي].
قالوا : لا.
قال : فامضوا راشدين ، فمضوا وتركوه
(3) .
وهذه التورية كتورية مؤمن الطاق ، حينما لقيه خارجي وبيده سيف ، فقال له الخارجي : والله لأقتلنك أو تبرأ من علي (عليه السلام).
فقال له : أنا من علي ، ومن عثمان بريء ، يريد : أنه من علي (عليه السلام) وبريء من عثمان
(4) .
وقال الطبري : (وجاء أهل البت إلى شبيب ، وكان قد نزل ببيعتهم ، فقالوا له : أصلحك الله ، أنت ترحم الضعفاء ، وأهل الجزية ، ويكلمك من تلي عليه ، ويشكون إليك ما نزل بهم ، فتنظر لهم ، وتكف عنهم ، وإن هؤلاء القوم [يعني العراقيين ، أتباع السلطة] جبابرة ، لا يكلمون ، ولا يقبلون العذر ، والله ، لئن بلغهم أنك مقيم ببيعتنا ليقتُلُنّا ، إن قضي لك ان ترتحل عنا ، فإن رأيت فانزل جانب القرية ، ولا تجعل لهم علينا مقالاً ؟ قال : فإني أفعل ذلك.
---------------------------
(1) تاريخ الأمم والملوك ج5 ص58.
(2) الكامل في التاريخ ج3 ص418.
(3) العقد الفريد ج2 ص465.
(4) المصدر السابق.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 275 _
ثم خرج ، فنزل جانب القرية إلخ ...)
(1) .
كما أن من طريف أخبارهم : (أنهم أصابوا في طريقهم مسلماً ، ونصرانياً ، فقتلوا المسلم ، لأنه عندهم كافر ، إذ كان على خلاف معتقدهم ، واستوصوا بالنصراني ، وقالوا : احفظوا ذمة نبيكم)
(2) .
كما أن رجلاً منهم عرض لخنزير ، فقتله ، فقالوا : هذا فساد في الأرض فمضى الرجل إلى صاحب الخنزير فأرضاه.
وحسب نص البلاذري ، قالوا له : بم استحللت قتل هذا الخنزير وهو لرجل معاهد؟!
(3) .
وساوموا رجلاً نصرانياً بنخلة : فقال : هي لكم.
فقالوا : ما كنا لنأخذها إلا بثمن.
فقال : ما أعجب هذا ؟! أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ، ولا تقبلون منا جنى نخلة ؟!
(4) وقال عمر بن عبد العزيز لشوذب الخارجي ورفيقه :
---------------------------
(1) تاريخ الأمم والملوك ج5 ص76.
(2) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ـ ج2 ـ ص280 والكامل للمبرد ج3 ص212 وبهج الصباغة ج7 ص112 عنه وأنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص412 و366 و368 وراجع تاريخ الأمم والملوك ج4 ص60 و61 وشذرات الذهب ج1 ص51 والعقد الفريد ج2 ص390.
(3) الإمامة والسياسة ج1 ص147 وكشف الارتياب ص118 والبداية والنهاية ج7 ص288 والكامل في التاريخ ج3 ص342 والفخري في الآداب السلطانية ص94 وراجع : شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص281 وأنساب الأشراف ج2 ص366, وبهج الصباغة ج7 ص 112.
(4) الكامل في الأدب ج3 ص213 والعقد الفريد ج2 ص390 و391 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص282 والجوهرة في نسب علي (عليه السلام) وآله ص106 وبهج الصباغة ج7 ص112.