ورغم كثرة من نطق بالشعر فيهم ، وكونهم من القبائل والفرق المختلفة ، فإننا نلاحظ : أنهم لا يهاجمون الفرق الخارجية الأخرى ، ولا كانوا يذكرون عقائد وخصائص فرقهم هم أنفسهم ، بل إن شعرهم يكاد يكون لوناً واحداً.
وقد كان الذين قالوا شعراً من (الخوارج) ينتمون إلى قبائل عربية مختلفة باستثناء قريش
.
وذكروا : أن لهم شعراء من الموالي أيضاً ، مثل حبيب بن خدرة ، الذي كان من موالي بني هلال
.
.
.
.
ولكننا بدورنا : لا نجد لدى هؤلاء ما يستحق أن يجعل أياً منهم جديراً بأن يصنف أو يكون في عداد الشعراء ، فإن وجود بعض المقطوعات لهم هو أمر عادي جداً في المجتمع العربي ، الذي يكثر فيه أمثال هؤلاء.
نعم يمكن أن يعد عمران بن حطان من شعرائهم ، رغم تجاهل الأدباء له ، ولعله لأنهم لم يروا في شعره ما يستحق أن يجعله يصنف في عداد الشعراء أيضاً.
كيف يرى المؤلفون أدب (الخوارج) :
وقد أفاض الكتاب والمؤلفون في تسطير الآراء التي يقترب بعضها من الحقيقة ، بينما يهاجر بعضها عنها مغاضباً لها ، ليستقر في أعماق الخيال والأوهام ، غير آسف على شيء ، لأنه آثر أن يعتصم بصوامع المجهول ، وينعم بزيف الغي والجهالة إلى غير رجعة ...
ونحن نذكر هنا : بعضاً من ذلك ، مما ظهر فيه الخلط بين الحق والباطل ، والمزج بين الواقع والخيال ، فنقول :
1 ـ قد وصف البعض شعر (الخوارج) بقوله : ( ... إنه شعر ثورة جامحة. محوره الأنا ، ونحن. وإطاره المذهب الخارجي ، وغايته فراديس السماء)
(1) .
ونحن لا نوافقه على قوله : (شعر ثورة جامحة) ونقول : بل هو شعر البدوي ، الذي يعتمد على سيفه ورمحه لنيل ما يطمح إليه ، حقاً كان أو باطلاً ، ولا يعتمد على المنطق ، والبرهان ... ولا ينطلق من دواعي الضمير والوجدان ، ولا تقيده الروادع الدينية والإيمانية ... فلا يمكن أن نعتبر هذا السلوك الطبعي المتأصل في الأعراب الغارقين في بحار الجهل والهوى ... أنه ثورة ، أو أنه إحساس وجداني نبيل.
ونرفض أيضاً : أن تكون غاية ذلك الشعر هو فراديس السماء ... فإن
---------------------------
(1) الخوارج في العصر الأموي ص292.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 248 _
الله لم يطلع هذا القائل على غيبه ، ليقرأ في قلوب أولئك الشعراء غاياتهم ونواياهم ...
وإذا كان الشعر مبنياً على التبجح ، والادعاء ، والمبالغة ...
ثم إذا كان (الخوارج) ـ كما ظهر من فصول هذا الكتاب بالنصوص والأرقام ـ طلاب دنيا ، ورواد حكم ، يبحثون عن ذلك بكل خف ، ويسعون له بكل حافر وظلف.
وإذا كانوا أيضاً لا يتورعون عن ارتكاب أي شيء في سبيل ذلك ، حتى الكذب على رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) وآله ، فكانوا إذا أحبوا شيئاً صيروه حديثاً ...
فهل يمكن بعد هذا استكشاف نواياهم ، وغاياتهم من شعرهم الذي ينشدونه في مواقع المواجهة ؟! حيث يهيمن الغرور ، وتستيقظ العنجهيات.
أضف إلى ذلك : أن أهم ما يجذب الناس إلى (الخوارج) هو إدعاؤهم أنهم ملتزمون لخط الشريعة ، ومتصلبون في الدين ، فلماذا لا يستخدمون هذا الأمر في إعلامهم من أجل ذلك أيضاً ... بهدف إثارة الحماس لدى السذج والبسطاء من الذين لم يطلعوا على حقيقة نوايا قادتهم وزعمائهم؟!
2 ـ ثم إن ثمة نصاً آخراً ، يقول : (يمكن القول : إن الشعر عند شعراء الفرق الخارجية ـ بشكل عام ـ كان إما تسجيلاً لأعمال حربية ، أو رثاء لقتلاهم ـ ترغيباً أو ترهيباً)
(1) .
---------------------------
(1) المصدر السابق ص252.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 249 _
( ولعل الظاهرة العامة الأخرى ، التي تطغى على شعر (الخوارج) : أنه جاء في أكثره يخاطب المشاعر ، والوجدان ، دون أن يعمد إلى مخاطبة العقل والمنطق ، لإعطاء الحجة المقبولة ، والبرهان العقلي لما ينادون به ، فكان عملهم أشبه ما يكون بعمل الصحافيين ، الذين يعمدون إلى إلهاب عواطف الناس ، واستثارة حماس جماهير العوام ، بالكلمات المؤثرة ، والشعارات المثيرة.
ولا ننسى مدى فعالية هذا الأسلوب على جماعة (الخوارج) الذين كانوا بأكثريتهم الساحقة ، من الأعراب ، والقراء المتدينين)
(1) .
وهذا الكلام : وإن كان في أكثره معقولاً ومقبولاً ، لكن لنا تعقيب على العبارة الأخيرة ، فإن تدينهم ، لم يكن قائماً على أسس فكرية ، وقناعات حقيقية ، وإنما هي ظواهر ومظاهر ألفوها ، ووجدوا فيها سبيلاً إلى الحصول على بعض ما عجزوا عن الحصول عليه بالأساليب الأخرى ، وقد أخبر النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) : أنهم يقرأون القرآن ، ولا يجاوز تراقيهم ، وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، وقد دلت ممارساتهم على ما نقول فلا حاجة إلى الإعادة.
مبالغات لا مبرر لها :
ثم إن بعض الكتاب : قد زعم ... أن للخوارج أدباً له طابع مميز ، وخصائص معينة ، تنسجم مع واقع الحياة ، ومع المفاهيم التي كانوا يعيشونها ، فقد كانت لديهم نفوس بدوية ، تملك سرعة الخاطر ، والقدرة على البيان ، بأوجز عبارة وأقوى لفظ ، إلى جانب ذلك تحمس ،
---------------------------
(1) المصدر السابق ص286.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 250 _
وصراحة ، وعاطفة ، وليس في أدبهم أثر للخمر والمجون ، وإنما فيه القوة والصلابة ، والجمال ، والقتال ، وهو أدب لساني ، لا أدب مكتوب ، بل هو خطب وشعر ، وبديهة واحتجاج
(1) .
وقالوا أيضاً : (هذه الصفات ، أعني الشدة في الدين والإخلاص للعقيدة ، والشجاعة النادرة ، يضاف إليها العربية الخالصة هي التي جعلت للخوارج أدباً خاصاً يمتاز بالقوة ، شعراً ونثراً ، تخيّر للفظ ، وقوة في السبك ، وفصاحة في الأسلوب)
(2) .
ونقول : إن هذا الوصف المتنوع لشعرهم مفرط في المبالغة ، ولا يعبر عن الحقيقة ... وهو ظاهر الخلل ، بيِّن الزيف والخطل.
فلاحظ ما يلي :
1 ـ قوله : إن لأدب (الخوارج) طابعاً مميزاً ، وخصائص معينة ... ليس بذي قيمة ، لأن (الخوارج) إذا كانوا أعراباً جفاةً ، يطغى عليهم الجهل ، والهوى ، والبداوة ، فإن شعرهم سوف يكون حتماً شعر الأعراب الجفاة ، الذي يفقد الطراوة ، ولا يملك صوراً خلابة ، ولا خيالاً رائعاً ومثيراً.
2 ـ إننا لم نجد في شعر (الخوارج) ذلك الجمال الذي ادعاه ، بل هو شعر تقريري يقتصر على ألفاظ عادية ومتداولة ، ولا يقدم أية صورة شاعرية ، تحمل شيئاً من الإبداع والجمال اللافت ...
3 ـ لا نجد للخوارج احتجاجاً قوياً ولا مؤثراً ، ولاسيما في مقابل أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه الأخيار والأبرار ، بل كانت احتجاجات غيرهم هي التي تؤثر فيهم ، فيتراجعون عن مواقفهم بالمئات والألوف ...
---------------------------
(1) راجع : ضحى الإسلام ج3 ص344 و345.
(2) فجر الإسلام ص264.