الخاص للآيات القرآنية ، وعلى استنباطاتهم العقلية المحدودة ، في مجال التحديدات العملية للتصرفات والمواقف التي كانت تفرض نفسها ـ آنياً ـ عليهم ، حيث كانوا يواجهونها باستفادات مرتجلة وسريعة ، وما أكثر ما تكون سطحية ، تزجيها الميول ، والعواطف ، والأحاسيس الشخصية ، ثم لا تلبث أن تتحول إلى مبدأ ، وعقيدة ، تخاض من أجلها اللجج ، وتبذل في سبيلها المهج ، وتزهق النفوس والأرواح.
  ثم تصير سبباً في حدوث انشقاقات جديدة في صفوفهم ، وتنشأ ـ من ثم ـ فرقة ، أو فرق على الساحة ، يبرأ بعضها من بعض ، ويستحلّ هؤلاء دماء أولئك ، وبالعكس ، حتى لنجد زيد بن جندب يهنِّئ أعداء الشراة من المحلين ، بعد أن تفرق الأزارقة ، وأصابهم التجابن ، وتلهّوا باللعب دون الجد ، فيقول :
  قل للمحلّين قد قرت عيونكم بفرقة القوم والبغضاء والهرب
  كنا أناساً على دين ، ففرّقنا قرع الكلام ، وخلط الجدّ باللعب
  ما كان أغنى رجالاً ضل سعيهم عن الجدال ، وأغناهم عن الخطب
  إني لأهونكم في الأرض مضطرباً ما لي سوى فرسي والرمح من نشب (1) .
  ثم إن تحريمهم العمل بالتقية الذي كان كثيراً ما يسقط تحت تأثير واقع الحروب القاسية التي كانوا يخوضونها ، كان هو الآخر من أسباب إحداث تمزقات فكرية وعقيدية تنتهي بتكفير بعضهم بعضاً ، ثم مواجهات حامية لبعضهم البعض ...   أضف إلى ذلك : أن إيجابهم الخروج ضد الحكام وضد الكافرين إذا انضم إلى حكمهم بتحريم العمل بالتقية ، فإنه كثيراً ما ينتج ثورات

---------------------------
(1) الخوارج في العصر الأموي ص280.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 227 _

  ارتجالية لم تبلغ درجة النضج ، ولا حظيت بالإعداد والاستعداد الكافي.

(الخوارج) ... والعلم :
  إن من يراجع قائمة مؤلفات علماء الإسلام في العالم الإسلامي ، يجدها لا تقع تحت عد ، ولا يحيط بها حصر ... وقد شاركت مختلف الفرق الإسلامية وغيرها في التأليف والتصنيف بالمستوى المقبول والمعقول ...
  غير أن (الخوارج) لم يكن لهم حظ يذكر في هذا الاتجاه ، فلم يكن ليخطر لهم على بال أن يشاركوا في النشاط الفكري والثقافي ... وكأن بينهم وبين هذا الأمر حالة من المنافرة السافرة.
  وقد حاول البعض : تفسير ذلك فجاء بما لا ينفع ولا يجدي ، ولا يصح ، فقال : ( ... وفيما نعتقد : أن السرّ وراء ندرة كتب الخوارج بينما توفر بين صفوفهم الشعراء والخطباء ، هو أنه بجانب عدم استواء المذهب في هذا الموضوع يوجد عامل التكتم الشديد ، والحذر من الناس ، خشية أن يقع في أيديهم شيء يجمع قواهم ضد الخوارج ، أو ينفر الناس منهم إلخ ...) (1) .
  وهذا الكلام : مرفوض جملة وتفصيلاً لأنهم كانوا يجاهرون بعقائدهم تلك ، فيقتلون الناس عليها.
  ولأن من مذهبهم تحريم التقية ، ورفض العمل بها ، بل السر هو أعرابيتهم ، وجهلهم ، والإنسان عدو ما يجهل كما هو معلوم.
  وليس ثمة أعظم محنة من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) على مر التاريخ ، وهذه هي مؤلفاتهم تملأ الخافقين ...

---------------------------
(1) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ، ص133.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 228 _

مؤلفو (الخوارج) في الفقه :
  واللافت هنا : أن ابن النديم قد عقد فصلاً مستقلاً لفقهاء الشراة وذكر لهم مؤلفين وكتباً. وذكر مثل ذلك في دائرة المعارف الإسلامية مادة : أعز ابن.
  ولكن ذلك لا يعني : أن ذلك يستحق التنويه به ، والاهتمام بشأنه ، لا من حيث الكيف ، ولا من حيث الكم ... غير أن أصحاب الفهرستات يحبون أن لا تخلو كتبهم من ذكر شيء من ذلك ، ليتمكن من يحتاج إلى الوقوف على مقالات هذه الطائفة أو تلك أن يرجع إلى كتبها ، ليحصل على بغيته ، ويبلغ مراده.
  أسباب التخفيف من حدة التعاليم :
 ويلاحظ : وجود بعض التخفيف من حدة التعاليم لدى فرقة الإباضية من (الخوارج) ، ولعل ذلك من أجل أنهم شعروا أن ذلك هو ما يمكنهم من الاستمرار والبقاء ، ومما سهل لهم وعليهم ذلك انحسارهم عن مواقع الاحتكاك والهيجان والتحدي ، إلى مناطق نائية ، تذوقوا طعم الاستقرار ، وأنسوا تدريجياً بالحياة الرافهة ، وبتعبير أدق بحياة الراحة ، فأتاح لهم ذلك الفرصة للتأليف في العقائد وفي الفقه ، وتلطيف آرائهم ، وإخضاعها للتبويب والتنظيم ، وإن كانت قد بقيت مجرد تجارب بدائية ، وغير ناضجة ، ولا غزيرة.
  وعلى كل حال : فقد قال بعض المستشرقين هنا ، بعد أن ذكر أن جذوة (الخوارج) قد انطفأت منتصف القرن الثامن [أي الميلادي] أي في القرن الثاني الهجري ـ قال : (وبعد ذلك انحرفت فعالية (الخوارج) شيئاً

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 229 _

  فشيئاً نحو التجارة ، وتأليف الكتب الدينية الفقهية ، والتاريخية) (1) .
  كما أن أبا زهرة يعتقد : أن الإباضية : (لهم فقه جيد ، وفيهم علماء ممتازون) (2) .
  ولكننا بملاحظة ما قدمناه لا نستطيع أن نوافق أبا زهرة في هذا المجال ، إلا في حدود بعض الجزئيات على النحو الذي أشرنا إليه آنفاً ، وما عداه يفتقر إلى الدليل البرهاني القوي.
  ولعل أبا زهرة وغيره قد أخذوا ذلك من ابن خلدون ، الذي يقول : (وتطير إلينا في هذا العهد من تلك البلاد [أي التي يتواجد فيها الخوارج] دواوين ومجلدات من كلامهم في فقه الدين ، وتمهيد عقائده ، وفروعه ، مباينة لمناحي السنة وطرقها بالكلية ، إلا أنها ضاربة بسهم في إجادة التأليف والترتيب ، وبناء الفروع على أصولهم الفاسدة) (3) .
  وقد عرفنا من خلال الإطلالة على واقع تآليفهم : أن هذه أقوال مبالغ فيها ،غير أن علينا أن لا ننسى أن جمودهم وسطحيتهم قد أديا في حالات كثيرة إلى ظهور كثير من السخافات المضحكة ، بالإضافة إلى أنه قد جعل آرائهم تتسم بالسطحية والبساطة (4) .
  قال أحمد أمين : ( ... من أجل هذا لم يرو لنا عن الخوارج مذهب مفلسف ، ولا فقه واسع منظم ، ولا نحو ذلك ، إلا ما كان من الإباضية ،

---------------------------
(1) الإسلام ـ ص188/189.
(2) تاريخ المذاهب الإسلامية ص85.
(3) تاريخ ابن خلدون ج3 ص170.
(4) ضحى الإسلام ج3 ص334و335.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 230 _

  أتباع عبد الله بن إباض الخارجي ، الذي مات في عهده عبد الملك بن مروان ، فإن هذه الفرقة عاشت ، وانتشرت في شمالي إفريقية ، وفي عمان ، وفي حضرموت ، وزنجبار ، واستمرت إلى يومنا هذا ، فكان من الطبيعي أن يكون لهم أصول اعتقادية ، وتعاليم فقهية.
  وكذلك كان ... فقد تعدّل مذهبهم مع الزمان إلخ ... )(1) .
  وقال الغرابي : (ويلاحظ : أنه لما ضعفت قوتهم الحربية اتجهت نفوسهم نحو الإنتاج العلمي ، حتى أصبحت لهم مؤلفات فقهية ، وكلامية ، ولغوية ، وأدبية) (2) .
  و لسنا بحاجة إلى إعادة التذكير بأن ذلك لم يكن في المستوى اللائق ، والمقبول ، بل هو مجرد تجارب بدائية ، فيها الكثير من السطحية ، والضعف ، ولا يمكن أن تقاس من حيث الدقة والاتقان بغيرها من مؤلفات سائر الفرق.
  أضف إلى ذلك : أن عنفهم وحدّتهم في مواجهة المخالفات لتلك الآراء الفقهية والعقائدية كان من شأنه أن يضفي عليها لوناً غير مرغوب فيه ، وينفر الناس حتى من ذلك الرأي الفقهي الذي ربما صادف وجاء صحيحاً في بعض الأحيان.
  هل للإباضية فضل على العلوم الإسلامية :
  وقد ادعى أحدهم أن : ( ... الحق : أنه لا أحد يستطيع أن ينكر دور الإباضية في خدمة العلم

---------------------------
(1) ضحى الإسلام ج3 ص336 و337.
(2) تاريخ الفرق الإسلامية ص284.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 231 _

  الإسلامي ، فقد اشتغلوا بالتدوين ، فكانوا من أوائل من دوّن الحديث.
  فإمامهم جابر بن زيد ، من أوائل من دوّن الحديث ، وأقوال الصحابة في ديوانه الذي وصفوه بأنه وقر بعير ، ثم تلاميذه من بعده. وهم حملة العلم) (1) .
  ونقول :
  أولاً : إن اعتبار جابر بن زيد من الإباضية بصورة قاطعة ... غير دقيق ، وقد سئل جابر بن زيد نفسه ـ كما يقولون ـ عن انتحال الإباضية ، فقال : أبرأ إلى الله من ذلك (2) ... وكيف يكون اباضياً خارجياً ، وقد روى عن معاوية وابن الزبير.
  ثانياً : إن مجرد أن يتصدى رجل أو بضع رجال لتدوين الحديث ، فذلك لا يعني أن ينسب إلى طائفته التي ينتمي إليها : أنها قد أسهمت إسهاماً كبيراً في خدمة العلم الإسلامي ، بل لابد أن ينظر إلى حقيقة دوره في ذلك ، وتقاس إسهاماته في هذا المجال مع ما أسهم به الآخرون ، فقد يكون إسهامه لا يكاد يذكر إلى جانب ما أسهم به الآخرون ... ثالثاً : إننا لا نجد أثراً ظاهراً ومحسوساً لما دونه جابر بن زيد في مجمل التراث الحديثي الإسلامي ، وكذلك ما دونه تلامذته من بعده.
  رابعاً : إن من عدوهم من تلامذة جابر بن زيد ليسوا في عداد الإباضية ، ولا (الخوارج) ، فلماذا تعطى الأوسمة لهذه الفرقة جزافاً ، وبلا حساب.

---------------------------
(1) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص82.
(2) الجرح والتعديل لابن ابي حاتم ج1 ص494و495 وتهذيب التهذيب ج2 ص38.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 232 _

  خامساً : إنه قد ادعي : أن (الخوارج) هم حملة العلم ... وهي دعوى لم نعرف لها وجهاً معقولاً وليس لها شاهد أو دليل ... فإن حملة العلم هم علي والأئمة من ولده عليهم الصلاة والسلام ، وأعني بهم الحسنان ، والسجاد ، والباقر ، والصادق ... وتلامذتهم ، ومن أخذ عنهم.
  بالإضافة إلى آخرين حملوا شيئاً من ذلك ، وهم ليسوا من (الخوارج) بالتأكيد.

تضييق (الخوارج) على أنفسهم :
  ثم إن علينا : أن نضيف إلى ما تقدم أن جمودهم ، وعدم مرونتهم في التعامل مع النصوص قد أوقعهم في ضيق فاحش ، كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) : (الدين واسع ، ولكن (الخوارج) ضيقوا على أنفسهم من جهلهم) (1) .
  ومن مظاهر جمودهم هذا ، وتضييقهم على أنفسهم بجهلهم أن أكثرهم كان ضد تأويل القرآن كا قدمنا.
  الفتيا والعلم عند (الخوارج) :
  ولكن ضحالة علم (الخوارج) ، وقلة بل ندرة تآليفهم ، لا تعني أنهم استمروا على هذا الحال إلى ما لانهاية.
  بل الأمر قد شهد شيئاً من التغيير وإن كان طفيفاً ، بالمقايسة بما كان عند غيرهم من الفرق والمذاهب ، إذ قد كان من الطبيعي أن يعلق في أذهانهم بعض من أحكام الدين وتعاليمه ، خصوصاً وأنهم يشنعون

---------------------------
(1) الكافي ج2 ص298 والوسائل ج3ص332 ح1 وج2 ص1072 ح3.


الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 233 _

  على بني أمية ، ويرمونهم بالجهل وبالفجور ، ومخالفة أحكام الله ...
  ثم إنهم يجتذبون بعض الشباب ، والسذج والبسطاء بشعاراتهم الدينية ، وبادعائهم أنهم حماة الشريعة ، ودعاة الإيمان ... فكان لابد لهم من الإلمام بما يعرضهم جهلهم به إلى السخرية من الناس ، وتهجين أمرهم.
  ولعل هذا الذي ذكرناه يفسر لنا لجوء نجدة الحروري إلى ابن عباس لتعلم بعض ما أشكل عليه ، واللافت : أن ما سأله عنه هو من أبسط مسائل الفقه وأوضحها ...
  ولا نبعد كثيراً إذا قلنا : إنه قد يكون لبعض ما عندهم من فتاوى ومعارف يسيرة نصيب من الصحة ، لأنه في معظمه مأخوذ من السيرة العملية للناس ، أو نابع من الطبيعة البدوية من حيث انسياقه مع الفهم الفطري والعفوي لبعض الآيات ، أو لبعض الأحاديث النبوية.
  وبذلك يكونون أفضل من العجلية ـ الذين هم فرقة من الزيدية ـ وأقرب منهم إلى فهم النصوص ، حسبما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام).
  فعن حمدويه ، عن أيوب بن نوح ، عن صفوان ، عن داود بن فرقد ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : (ما أجد أحداً أجهل منهم ـ يعني العجلية ـ إن في المرجئة فتيا وعلماً ، وفي (الخوارج) فتيا وعلماً إلخ ...) (1) .

---------------------------
(1) اختيار معرفة الرجال ص229 و346.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 234 _

  ولكن من الواضح : أنه (عليه السلام) إنما قايسهم بالعجلية ، وفضلهم عليهم ، واعتبرهم كالمرجئة ، ولم يقايسهم بفقهاء وعلماء سائر الفرق الإسلامية ، فضلاً عن أن يقايسهم بالشيعة الأبرار رضوان الله تعالى عليهم ...
  فهم بالنسبة للعجلية من الزيدية لديهم فقه وعلم ، إذن فمقدار ما عندهم إنما يعرف إذا قيس إلى ما عند العجلية ، الذين يظهر من الإمام أنهم كانوا أجهل الخلق وأبعدهم عن العلم ، ولذلك قال : (ما رأيت أجهل منهم) ، حتى إن (الخوارج) والمرجئة يعدون من العلماء إذا ما قسناهم بالعجلية الذين بلغوا الغاية في الأمية والجهل ...
  ثم إنهم مالبثوا أن انكمشوا على أنفسهم من جديد ، وانحسروا عن مناطق الثقافة والعلم ، ليعيشوا في حواشي البلاد الإسلامية ، في مناطق نائية ، ولتعود إليهم أعرابيتهم ، وأصبحوا لصوصاً سلابين ، كما أخبر أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).
  تقييم إجمالي :
  ولكن المهم في الأمر : هو أن تلك الفتاوى الصحيحة التي كانت عندهم مهما كانت قليلة ، فإنها إنما كانت مجرد حالات جزئية أدركوها بالنقل ، أو بالسليقة والفطرة الساذجة ، منفصلة تماماً عن كل ما سواها ، فلم يكونوا يملكون تصوراً عاماً ، ولا نظرة شمولية ، من شأنها أن تعطيهم القدرة على استيعاب المعارف المختلفة ، وتوجيهها وجهة صحيحة في مجال الاستفادة منها والاستنتاج ، وإدراك أبعاد الموضوع ، وما يرتبط به ...
  وذلك هو بعض ما يرمي إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، حينما طلب من ابن عباس أن لا يخاصمهم بالقرآن ، فإن القرآن حمال ذو وجوه.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 235 _

ابن حجية مخدوع ، أم ماكر ؟!
  وعلى أساس ما قدمناه يظهر لنا جلياً : أن لا مجال لقبول المبالغات في إغداق الألقاب على (الخوارج) إلى درجة اعتبارهم من الفقهاء ، والقراء ، كما هو الحال بالنسبة ليزيد بن حجية الذي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد ولاه الري ، ودستبى ، فسرق أموالهما ، ولحق بمعاوية ...
  ثم كتب لأحد بني عمه رسالة جاء فيها : ( ... والثالثة : أن قراءكم ، وفقهاءكم ، وفرسانكم خالفوكم ، فعدوتم عليهم فقتلتموهم) (1) .
  فإن هذا الكلام غير مقبول ، وهو دليل جهل ابن حجية ، أو دليل سعيه لتضخيم الأمور ، مضادة منه لعلي (عليه السلام) ، ثم تبرير خيانته لدينه وامامه ، بهذه الطريقة التي تعتمد التزوير للحقائق ، والتضليل للناس.
  وخلاصة القول :
  1 ـ إن هذا الكلام يدخل في سياق الكيد الإعلامي ضد علي (عليه السلام) وشيعته من قبل رجل خائن لأمانة الله ، ورسوله ، والمسلمين ، قد التحق بعدو ولي الله ، ويريد أن يتزلف إليه.
  2 ـ إن هذا الرجل ـ أعني يزيد بن حجية ـ لم يكن هو نفسه من أهل العلم والفقه ، ليؤخذ بقوله في معرفة درجات الآخرين في هذه المجالات ، فإن حاول شيئاً من ذلك ، فإنما يقيس الآخرين على نفسه ، ويقارن علمهم ـ أو ما توهم أنه علمهم ـ بجهله.
  3 ـ ولو أردنا أن نغض الطرف عن ذلك ، ونعتبره مخدوعاً بمظاهر هؤلاء القوم ، فنقول :

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ـ ج2 ـ ص263 عن الموفقيات.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 236 _

  إن من الواضح : أنهم لم يكونوا هم الفرسان المرموقون الأشداء في جيش علي (عليه السلام) ، وقد ظهر ضعفهم وخورهم في حرب النهروان إلى درجة مزرية ، وممعنة بالخزي والهوان.
  4 ـ كما أنهم لم يكونوا الفقهاء في دين الله ، بل كانوا على درجة من الغباء ، إذ كانوا يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم ، وهو عليهم كما قدمناه.
  من فقه (الخوارج)!!
  وكنموذج نشير إلى درجة فقاهتهم ، وعلمهم بالشريعة نذكر ما يلي :
  يقال : إن نجدة أسقط حد الخمر (1) .
  وقالت النكارية : إن الله لم يأمر بالنوافل. وأنه يجوز شرب الخمر على التقية (2) .
  والنكارية هم فرقة من الإباضية كما هو معلوم.
  (وقد شهر نافع بقوله في البراءة ، والاستعراض ، واستحلال الأمانة ، وقتل الأطفال) (3) .
  كما أن الأزارقة : قد حرموا قتل النصارى واليهود ، وأباحوا قتل المسلمين (4) .

---------------------------
(1) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص76 و77.
(2) الإباضية عقيدة ومذهباً ص54 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص363.
(3) راجع : مقالات الإسلاميين ـ ج1 ـ ص169 والكامل في الأدب ـ ج3 ـ ص1040 والمصنف المجهول ـ ص78 والخوارج في العصر الأموي ـ ص224 عمن تقدم.
(4) الفصل لابن حزم ج4 ص189 والخوارج في العصر الأموي ص226 عنه.


الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 237 _

  وذكر البعض : (أن الإباضية يجيزون شهادة غير الإباضي ، ومناكحته ، والتوارث منهم ، وتحريم دمائهم) (1) .
  وكان الأزارقة : يستحلون أمانة غيرهم من الناس لكونهم مشركين ، فأنكر عليهم ابن إباض ، وصاحب الصفرية ذلك.
  وقالا : إن الأمانة مؤداة للبر والفاجر على السواء (2) .
  وأنكرت النفائية خطبة الجمعة ، وقالوا : (إنها بدعة ، وأنكروا على الإمام استعمال العمال والسعاة لجباية الحقوق الشرعية ، ومطالب بيت مال المسلمين من الرعايا) (3) .
  وفرقة الحسينية من الإباضية : (أباحوا الزنى ، وأخذ الأموال لمن أكره على ذلك ، يتقي بها ، ويغرم بعد ذلك.
  كما أنهم فرقوا بين الأسماء والأحكام ، فسموا اليهود منافقين ، وسموا المتأولين مشركين ، وأجازوا السبي ، وأحلوا النكاح منهم ، وهم عندهم مشركون) (4) .
  والسكاكية من الإباضية يقولون : صلاة الجماعة بدعة ، والأذان للصلاة عندهم بدعة ، فإذا سمعوه ، قالوا : نهق الحمار (5) .

---------------------------
(1) الإباضية ص78و83 عن الفرق بين الفرق ص103 وراجع : الملل والنحل ج1 ص134.
(2) مقالات الإسلاميين ج1 ص174 والخوارج في العصر الأموي ص225و226 عنه وعن المصنف المجهول ص84.
(3) الإباضية ص58.
(4) الإباضية ص62.
(5) الإباضية عقيدة ومذهباً ص65 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص275.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 238 _

  وذكروا : أن الأزارقة يوجبون على الحائض الصلاة والصيام في حيضها ، وأنكره بعضهم (1) .
  أما البدعية فإنهم يزعمون : (أن الصلاة صلاتان ، بالغداة ركعتان ، وبالعشي ركعتان لا غير) (2) .
  وأبطلوا رجم المحصن ، وأوجبوا قطع يد السارق من الإبط (3) .
  والميمونية يجيزون نكاح بناتهم(4) .
  وكان الربيع بن حبيب يقول بحلية المتعة (5) .
  وأما الميمونية ، فإنهم يجيزون نكاح بنات الابن ، وبنات البنات ، وبنات بني الأخوة ، وبنات بنات الأخوات.
  قالوا : لأن الله عز وجل قال (وأحل لكم ما وراء ذلكم) (6) .
  وقال بعض البيهشية : السكر من شراب حلال ، لا يؤاخذ صاحبه (7) .

---------------------------
(1) الفصل لابن حزم ج4 ص189 والخوارج في العصر الأموي ص226 عنه ، والنص والاجتهاد ص99 والعتب الجميل ص53 عن كتاب : نقد عين الميزان لمحمد بهجت البيطار.
(2) البدء والتاريخ ج5 ص138 والعتب الجميل ص53 عن كتاب : نقد عين الميزان للبيطار.
(3) النص والاجتهاد ص99.
(4) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص57 والإباضية عقيدة ومذهباً ص39.
(5) العقود الفضية ص156.
(6) البدء والتاريخ ج5 ص138 ، وراجع : الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص62و134 ، ومقالات الإسلاميين ج1 ص166 عن الكرابيسي والعتب الجميل ص53 عن نقد عين الميزان للبيطار ، ودائرة المعارف الإسلامية ج8 ص475 والأنوار النعمانية ج2 ص248 واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص56 والإباضية ص36 عن الملل والنحل ج1 ص128 عن العجاردة وص129 عن الميمونية ...
(7) الأنوار النعمانية ج2 ص246.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 239 _

  وعن الأخنسية تجويز نكاح المسلمات من مشركي قومهم (1) .

علم علي (عليه السلام) بنظر الإباضية :
  وإذا كانت هذه هي بعض النماذج من فقه هؤلاء القوم ... فإن ما يثير عجبنا هو أنهم كغيرهم يعترفون بتقدم علي (عليه السلام) في العلم والفقه ، مع أن (الخوارج) هم ألد أعدائه (عليه السلام) ، ونكتفي هنا بما قاله الحارثي الإباضي عنه (عليه السلام) : (كان علي آية في غزارة العلم ، واستنباطه للأحكام ، وحله للمشكلات ، وكان عمر بن الخطاب يرجع إليه في القضايا المشكلة ) (2) .
  السنة النبوية والإجماع :
  كما أن فرقة السكاكية المتفرعة عن الإباضية قد أنكرت الإجماع كدليل على الحكم الشرعي ، بل لقد أنكروا السنة النبوية ، وزعموا : أن الدين كله مستخرج من القرآن (3) .
  وقال البعض : (كان من بينهم من يقول : بأن القرآن وحده هو المصدر المعترف به) (4) .

---------------------------
(1) الأنوار النعمانية ج2 ص249 والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص65 ...
(2) العقود الفضية ص42.
(3) الإباضية عقيدة ومذهباً ص65 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص275 ...
(4) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص476.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 240 _

  (الخوارج) والرواية :
  ولأجل ما تقدم ، فإن (الخوارج) لم يكن لهم حظ في نقل السنة النبوية الشريفة.
  قال الشيخ المفيد (رحمه الله) تعالى : (إن الخوارج ليسوا من أهل النقل والرواية ، ولا يعرفون حفظ الآثار ، ولا الاعتماد على الأخبار ، لإكفارهم الأمة جميعاً ، واتهام كل فريق منهم فيما يروونه ، واعتمادهم لذلك على ظاهر القرآن ، وإنكارهم ما خرج عنه القرآن ، من جميع الفرائض والأحكام إلخ ...) (1) .
  الاجتهاد :
  وبالنسبة للاجتهاد فقد : (شهر ابن الأزرق بملاحقاته لابن عباس ، وعرض مسائله الفقهية عليه) (2) .
  ومهما يكن من أمر : فإن (الأزارقة لا تعتبر الاجتهاد أصلاً في الأحكام ، حتى إنه عند الأزارقة : أن ما لا ينص عليه من الأحكام ليس بواجب القيام به ، كحدّ من يقذف الرجال.
  وأما النجدات : فاهتموا بالاجتهاد أعظم الاهتمام. حتى إنه عندهم من اجتهد في شيء ، وأخطأ فيه فهو معذور. بل جعلوا نصف الدين يعرف عن طريق الاجتهاد) (3) .

---------------------------
(1) الجمل ص38.
(2) الخوارج في العصر الأموي ص221 عن الاتقان ج1 ص149 و165.
(3) الخوارج عقيدة وفكراً ، وفلسفة ص75.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 241 _

  هكذا صور لنا هذا المؤلف نظرة النجدات إلى موضوع الاجتهاد ، لكن الأشعري لا يظهر هذا المستوى من الحماس.
  حيث إنه يكتفي بالقول : إن النجدات أجازوا الاجتهاد في بعض الأحكام الشرعية (1) .
  ونفهم من عبارته هذه : أن غيرهم من (الخوارج) ما كانوا يجيزون الاجتهاد ، فلا غرابة في ندرة وجود فقهاء مشهورين يشار إليهم بالبنان فيهم ، أو في وجود فقهاء تذكر لهم أقوال في سياق تعداد أقوال من يعتد بقوله.
  ولعل سبب نسبة القول بجواز الاجتهاد إلى النجدات هو أنهم ينقلون عن نجدة الحروري قوله : (من استحل محرماً من طريق الاجتهاد فهو معذور ، حتى إن من تزوج أخته أو أمه مستحلاً لذلك بجهالة ، فهو معذور ومؤمن) (2) .
  عملهم بالقياس :
  وقد وصف الشهرستاني : المحكمة الأولى بأنهم كانوا أشد الناس قولاً في القياس (3) .
  وقد أنكر البعض ذلك على اعتبار : أنهم لم يقبلوا احتجاج علي (عليه السلام) عليهم بالقياس في مسألة التحكيم بأمر الله بالتحكيم في الخلاف بين الرجل وزوجته ، وزعموا : أن الله لم يأمر بالتحكيم في الحرب (4) .

---------------------------
(1) مقالات الإسلاميين ج1 ص206 والخوارج في العصر الأموي ص204.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص134.
(3) الملل والنحل ج1 ص116 وحول قولهم بالقياس راجع : العقود الفضية ص166.
(4) الخوارج في العصر الاموي ص204 عن الكامل في التاريخ ج3 ص327.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 242 _

  ونقول :
  إن قولهم هذا لا يدفع قول الشهرستاني ، فإنه يزعم أنهم كانوا يستعملون القياس في مسائلهم الفقهية الكثيرة ، وموقفهم من التحكيم في الحرب ، ورفضهم قياسه على التحكيم بين الرجل وزوجته ، يمكن أن يقال : إنه من أخطائهم الظاهرة لسببين :
  أحدهما : إن ما احتج به علي (عليه السلام) عليهم ليس من قبيل القياسات الظنية التي يلتزم بها (الخوارج) ، بل هو من قبيل تطبيق الحكم الكلي على موضوعاته ، والاستدلال بالنص العام على موردٍ هو من مصاديقه.
  الثاني : إنهم حتى إذا كانوا قد اعتبروا ذلك من قبيل القياس الظني ، كانوا يعملون به في سائر المسائل الفقهية ، فإن عدم قبولهم به يكون بسبب قلة تدبرهم وهو أحد التناقضات التي وقعوا فيها وما أكثرها.
  الثالث : إننا نقول : إن (الخوارج) الأولين الذين خرجوا على علي (عليه السلام) لم يكونوا من الفقهاء الذين يستنبطون الأحكام ، ولا كانوا أصحاب اجتهاد ، فضلاً عن أن يكون لديهم منطلقات وأسس اجتهادية والتفات إلى أن هذا من القياس ، أو ليس منه ، بل كانت مواقفهم منطلقة من نزوات ، وارتجالات لا تستند إلى دليل معقول ، ومقبول ...
  ومهما يكن من أمر ، : فإن التنصيص على أن السكاكية ، وهم فرقة من الإباضية ـ قد أنكروا القياس (1) ، يشير إلى أنهم بقولهم هذا قد خالفوا أهل نحلتهم ، وبذلك يتأيد قول الشهرستاني. وهو يتحدث عن اطلاع ، ومعاينة وهو أصح من اجتهاد غيره الظني.

---------------------------
(1) الإباضية عقيدة ومذهباً ص65 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص275.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 243 _

  الفصل الخامس

أدب الخوارج

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 245 _

  شعراء (الخوارج) :
  لقد عرف من (الخوارج) خطباء وشعراء ، ولا سيما في الصدر الأول ، حيث إن أكثر قوادهم كانوا من البدو ، من جند الكوفة والبصرة (1) ، وكان الإنسان البدوي يمتاز بالفصاحة في منطقه ، ويمتلك قدرات تعبيرية يمتاز بها عن غيره من سائر الناس.
  الأرجاز في شعر (الخوارج) :
  وحيث إنهم قد اتخذوا طريق العنف ، والحرب وسيلة لتحقيق أهدافهم السياسية ، فإن الرجز في الحرب يصبح ضرورة لهم ، لأجل تشجيع الجبان ، ومكابدة الحرب والطعان ، ولأجل ذلك فإن غالب ما قالوه من الشعر قد جاء في وصف الحرب ، وفي التشجيع على خوض غمارها ، مادام أن حياتهم كانت تتخذ الطابع الحربي في غالب مقاطعها ، وتميز شعرهم بكثرة الأرجاز فيه (2) .
  وهذا هو الطابع الذي يطبع أدب أهل البادية بشكل عام ...
  ولاسيما حين يواجه فرسانهم الأقران في ساحات الحرب والنزال.

---------------------------
(1) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص476 وراجع : الخوارج في العصر الأموي ص296.
(2) الخوارج في العصر الأموي ص292.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 246 _

  شعراؤهم من العرب والموالي :
  ورغم كثرة من نطق بالشعر فيهم ، وكونهم من القبائل والفرق المختلفة ، فإننا نلاحظ : أنهم لا يهاجمون الفرق الخارجية الأخرى ، ولا كانوا يذكرون عقائد وخصائص فرقهم هم أنفسهم ، بل إن شعرهم يكاد يكون لوناً واحداً.
  وقد كان الذين قالوا شعراً من (الخوارج) ينتمون إلى قبائل عربية مختلفة باستثناء قريش (1) .
  وذكروا : أن لهم شعراء من الموالي أيضاً ، مثل حبيب بن خدرة ، الذي كان من موالي بني هلال (2) .
  وعمرو بن الحسن الإباضي ، وهو من موالي الكوفة (3) .
  وعمرو بن الحصين ، أحد موالي بني تميم (4) .
  وزياد بن الأعسم ، الذي قيل : إنه من بني عبد القيس ، أو من مواليهم (5) .
  ولكننا بدورنا : لا نجد لدى هؤلاء ما يستحق أن يجعل أياً منهم جديراً بأن يصنف أو يكون في عداد الشعراء ، فإن وجود بعض المقطوعات لهم هو أمر عادي جداً في المجتمع العربي ، الذي يكثر فيه أمثال هؤلاء.

---------------------------
(1) الخوارج في العصر الأموي ص250.
(2) البيان والتبيين ج3 ص261.
(3) معجم الشعراء للمرزباني ص229.
(4) الأغاني ج20 ص102.
(5) عن أنساب الأشراف ج7 ص118.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 247 _

  نعم يمكن أن يعد عمران بن حطان من شعرائهم ، رغم تجاهل الأدباء له ، ولعله لأنهم لم يروا في شعره ما يستحق أن يجعله يصنف في عداد الشعراء أيضاً.
  كيف يرى المؤلفون أدب (الخوارج) :
  وقد أفاض الكتاب والمؤلفون في تسطير الآراء التي يقترب بعضها من الحقيقة ، بينما يهاجر بعضها عنها مغاضباً لها ، ليستقر في أعماق الخيال والأوهام ، غير آسف على شيء ، لأنه آثر أن يعتصم بصوامع المجهول ، وينعم بزيف الغي والجهالة إلى غير رجعة ...
  ونحن نذكر هنا : بعضاً من ذلك ، مما ظهر فيه الخلط بين الحق والباطل ، والمزج بين الواقع والخيال ، فنقول :
  1 ـ قد وصف البعض شعر (الخوارج) بقوله : ( ... إنه شعر ثورة جامحة. محوره الأنا ، ونحن. وإطاره المذهب الخارجي ، وغايته فراديس السماء) (1) .
  ونحن لا نوافقه على قوله : (شعر ثورة جامحة) ونقول : بل هو شعر البدوي ، الذي يعتمد على سيفه ورمحه لنيل ما يطمح إليه ، حقاً كان أو باطلاً ، ولا يعتمد على المنطق ، والبرهان ... ولا ينطلق من دواعي الضمير والوجدان ، ولا تقيده الروادع الدينية والإيمانية ... فلا يمكن أن نعتبر هذا السلوك الطبعي المتأصل في الأعراب الغارقين في بحار الجهل والهوى ... أنه ثورة ، أو أنه إحساس وجداني نبيل.
  ونرفض أيضاً : أن تكون غاية ذلك الشعر هو فراديس السماء ... فإن

---------------------------
(1) الخوارج في العصر الأموي ص292.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 248 _

  الله لم يطلع هذا القائل على غيبه ، ليقرأ في قلوب أولئك الشعراء غاياتهم ونواياهم ...
  وإذا كان الشعر مبنياً على التبجح ، والادعاء ، والمبالغة ...
  ثم إذا كان (الخوارج) ـ كما ظهر من فصول هذا الكتاب بالنصوص والأرقام ـ طلاب دنيا ، ورواد حكم ، يبحثون عن ذلك بكل خف ، ويسعون له بكل حافر وظلف.
  وإذا كانوا أيضاً لا يتورعون عن ارتكاب أي شيء في سبيل ذلك ، حتى الكذب على رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) وآله ، فكانوا إذا أحبوا شيئاً صيروه حديثاً ...
  فهل يمكن بعد هذا استكشاف نواياهم ، وغاياتهم من شعرهم الذي ينشدونه في مواقع المواجهة ؟! حيث يهيمن الغرور ، وتستيقظ العنجهيات.
  أضف إلى ذلك : أن أهم ما يجذب الناس إلى (الخوارج) هو إدعاؤهم أنهم ملتزمون لخط الشريعة ، ومتصلبون في الدين ، فلماذا لا يستخدمون هذا الأمر في إعلامهم من أجل ذلك أيضاً ... بهدف إثارة الحماس لدى السذج والبسطاء من الذين لم يطلعوا على حقيقة نوايا قادتهم وزعمائهم؟!
  2 ـ ثم إن ثمة نصاً آخراً ، يقول : (يمكن القول : إن الشعر عند شعراء الفرق الخارجية ـ بشكل عام ـ كان إما تسجيلاً لأعمال حربية ، أو رثاء لقتلاهم ـ ترغيباً أو ترهيباً) (1) .

---------------------------
(1) المصدر السابق ص252.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 249 _

  ( ولعل الظاهرة العامة الأخرى ، التي تطغى على شعر (الخوارج) : أنه جاء في أكثره يخاطب المشاعر ، والوجدان ، دون أن يعمد إلى مخاطبة العقل والمنطق ، لإعطاء الحجة المقبولة ، والبرهان العقلي لما ينادون به ، فكان عملهم أشبه ما يكون بعمل الصحافيين ، الذين يعمدون إلى إلهاب عواطف الناس ، واستثارة حماس جماهير العوام ، بالكلمات المؤثرة ، والشعارات المثيرة.
  ولا ننسى مدى فعالية هذا الأسلوب على جماعة (الخوارج) الذين كانوا بأكثريتهم الساحقة ، من الأعراب ، والقراء المتدينين) (1) .
  وهذا الكلام : وإن كان في أكثره معقولاً ومقبولاً ، لكن لنا تعقيب على العبارة الأخيرة ، فإن تدينهم ، لم يكن قائماً على أسس فكرية ، وقناعات حقيقية ، وإنما هي ظواهر ومظاهر ألفوها ، ووجدوا فيها سبيلاً إلى الحصول على بعض ما عجزوا عن الحصول عليه بالأساليب الأخرى ، وقد أخبر النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) : أنهم يقرأون القرآن ، ولا يجاوز تراقيهم ، وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، وقد دلت ممارساتهم على ما نقول فلا حاجة إلى الإعادة.
  مبالغات لا مبرر لها :
  ثم إن بعض الكتاب : قد زعم ... أن للخوارج أدباً له طابع مميز ، وخصائص معينة ، تنسجم مع واقع الحياة ، ومع المفاهيم التي كانوا يعيشونها ، فقد كانت لديهم نفوس بدوية ، تملك سرعة الخاطر ، والقدرة على البيان ، بأوجز عبارة وأقوى لفظ ، إلى جانب ذلك تحمس ،

---------------------------
(1) المصدر السابق ص286.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 250 _

  وصراحة ، وعاطفة ، وليس في أدبهم أثر للخمر والمجون ، وإنما فيه القوة والصلابة ، والجمال ، والقتال ، وهو أدب لساني ، لا أدب مكتوب ، بل هو خطب وشعر ، وبديهة واحتجاج (1) .
  وقالوا أيضاً : (هذه الصفات ، أعني الشدة في الدين والإخلاص للعقيدة ، والشجاعة النادرة ، يضاف إليها العربية الخالصة هي التي جعلت للخوارج أدباً خاصاً يمتاز بالقوة ، شعراً ونثراً ، تخيّر للفظ ، وقوة في السبك ، وفصاحة في الأسلوب) (2) .
  ونقول : إن هذا الوصف المتنوع لشعرهم مفرط في المبالغة ، ولا يعبر عن الحقيقة ... وهو ظاهر الخلل ، بيِّن الزيف والخطل.
  فلاحظ ما يلي :
  1 ـ قوله : إن لأدب (الخوارج) طابعاً مميزاً ، وخصائص معينة ... ليس بذي قيمة ، لأن (الخوارج) إذا كانوا أعراباً جفاةً ، يطغى عليهم الجهل ، والهوى ، والبداوة ، فإن شعرهم سوف يكون حتماً شعر الأعراب الجفاة ، الذي يفقد الطراوة ، ولا يملك صوراً خلابة ، ولا خيالاً رائعاً ومثيراً.
  2 ـ إننا لم نجد في شعر (الخوارج) ذلك الجمال الذي ادعاه ، بل هو شعر تقريري يقتصر على ألفاظ عادية ومتداولة ، ولا يقدم أية صورة شاعرية ، تحمل شيئاً من الإبداع والجمال اللافت ...
  3 ـ لا نجد للخوارج احتجاجاً قوياً ولا مؤثراً ، ولاسيما في مقابل أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه الأخيار والأبرار ، بل كانت احتجاجات غيرهم هي التي تؤثر فيهم ، فيتراجعون عن مواقفهم بالمئات والألوف ...

---------------------------
(1) راجع : ضحى الإسلام ج3 ص344 و345.
(2) فجر الإسلام ص264.