عنه رواية أبي مسروق الآنفة الذكر ... هو كالنار على المنار ، وكالشمس في رابعة النهار ، وهذا الموقف يفرضه التصديق والانقياد لإخبار رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمروقهم من الدين.
  فلا مجال للإصغاء لما يرويه (الخوارج) أنفسهم ، وآخرون ممن تابعوهم على ذلك ، من ان أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : إنهم ليسوا كفاراً ولا مشركين ، بل هم إخواننا بغوا علينا وقد تقدم الحديث عن ذلك في فصل : تزوير (الخوارج) للحقائق ...
  ولنبدأ بذكر نبذة يسيرة من عقائد هذه الفئة ، وسنرى كم هي بعيدة عن الصواب ، وكم هي مجانبة لمقتضيات الفطرة والوجدان ، وغريبة عن هدى القرآن ، وما ثبت عن رسول الإسلام (صلوات الله وسلامه عليه) وعلى آله الطيبين الطاهرين ...
  فنقول :

القلقشندي ، وعقائد (الخوارج) :
  وقد سجل لنا القلقشندي بطريقة مميزة بعض ما يذهبون إليه في عقائدهم فروى لنا أنهم يقولون : ( ... وإلا أجزت التحكيم.
  وصوبت قول الفريقين في صفين.
  وأطعت بالرضى مني حكم أهل الجور.
  وقلت : في إمارة بني أمية عدل ، وأن قضاءهم حق.
  وأن عمرو بن العاص أصاب ، وأن أبا موسى ما أخطأ.
  واستبحت الأموال والفروج بغير حق.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 202 _

  واجترحت الكبائر والصغائر ، ولقيت الله مثقلاً بالأوزار.
  وقلت : إن فعلة عبد الرحمن بن ملجم كفر ، وإن قاتل خارجة آثم.
  وبرئت من فعلة قطام.
  وخلعت طاعة الرؤوس.
  وأنكرت أن تكون الخلافة إلا في قريش وإلا ...
  فلا رويت سيفي من دماء المخطئين) (1) .
  الله تعالى وصفاته لدى (الخوارج) :
  وقد قال بعض الإباضية : من قال بلسانه : إن الله واحد ، وعنى به المسيح ، فهو صادق في قوله ، مشرك بقلبه (2) .
  والخلفية من (الخوارج) قد خالفوا أهل السنة ، فهم لا يرون : أن الخير والشر من الله تعالى (3) .
  والميمونية لا يرون أن الشر من الله تعالى (4) .
  والإباضية أباحوا قتل المشبهة ، وسبي نسائهم وذراريهم ، واتباع مدبرهم (5) .

---------------------------
(1) صبح الأعشى ج3 ص225.
(2) الإباضية ص75 عن مقالات الإسلاميين ج2 ـ ص107.
(3) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص59.
(4) المصدر السابق ص58.
(5) الإباضية ص82.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 203 _

  ويعتقد النفائية : ان الله هو الدهر (1) .
  النبوة والنبي :
  عن عبد الله بن مسلم المروزي قال : كنت أجالس ابن سيرين ، فتركته ، وجالست الإباضية فرأيت كأني مع قوم يحملون جنازة النبي (صلى الله عليه وآله) ، فأتيت ابن سيرين ، فذكرته له ، فقال :
  مالك جالست أقواماً يريدون أن يدفنوا ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) ؟! (2) وبالنسبة للنبوة ، فقد قال يزيد بن أبي أنيسة : (إن الله تعالى سيبعث رسولاً من العجم ، وينزل عليه كتاباً قد كتب في السماء ، وينزل عليه جملة واحدة ، ويترك شريعة المصطفى ، ويكون على ملّة الصابئة المذكورة في القرآن).
  وفي نص آخر : (وليس هم الصابئة المذكورون في القرآن ، ولم يأتوا بعد( (3) . وجوز الأزارقة : (أن يبعث الله نبياً يعلم أنه يكفر بعد نبوته ، أو كان كافراً قبل بعثته) (4) .
---------------------------
(1) الإباضية عقيدة ومذهباً ص58.
(2) سير أعلام النبلاء ج4 ـ هامش ص617 عن ابن عساكر ج15 ص227.
(3) دائرة المعارف الإسلامية ، ج8 ص475 والإباضية ص86و72 عن الملل والنحل ، ج1 ص36 و122 وراجع : نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ، ص172 والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ، ص135و94 وتبصرة العوام ، ص41 والأنوار النعمانية ، ج2 ، ص247 وعن مقالات الإسلاميين ج1 ص171.
(4) الملل والنحل ، ج1 ص121/122 والخوارج في العصر الأموي ، ص225 عنه والأنوار النعمانية ، ج2 ص247 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ، ج7 ص9.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 204 _

  وهو قول ابن فورك من الأشعرية ، لكنه زعم أن هذا الجائز لم يقع (1) .
  وقال بعض الإباضية : قد يجوز أن يبعث الله نبياً بلا دليل (2) .
  ومن فرق الإباضية فرقة الحسينية ، قالوا : يسع جهل معرفة محمد (صلى الله عليه وآله) ، وليس على الناس إلا معرفة المعبّر عنه (3) .
  وزعم يزيد بن أبي أنيسة : (أنه يتولى من شهد بالنبوة لمحمد من أهل الكتاب ، وإن لم يدخلوا في دينه ، ولم يعملوا بشريعته ، وزعم أنهم بذلك مؤمنون) (4) .

إنكار شفاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) :
  وكانوا ينكرون شفاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة (5) .
  ولعل الوهابيين قد تأثروا بهم في ما ذهبوا إليه ، وكذلك بعض المتاخرين الذين ينسبون أنفسهم إلى الشيعة ، وقد ظهر أنهم ليسوا منهم ...
  (الخوارج) والتبرك بآثار الأنبياء (عليهم السلام) :
  وتشير بعض النصوص إلى أن (الخوارج) ينكرون التبرك بآثار الأنبياء والصالحين ، تماماً كما هو مذهب الوهابية وابن تيمية ، فبئس الخلف لبئس

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج7 ص9.
(2) الإباضية ص75 عن مقالات الإسلاميين ج2 ص107.
(3) الإباضية ص62.
(4) الإباضية عقيدة ومذهباً ص104 عن مقالات الإسلاميين ج1 ص171 والخوارج عقيدية وفكراً وفلسفة ص95 عنه ايضاً.
(5) الخوارج في العصر الأموي ص205 عن الإيمان لابن تيمية ص142و143 ـ ط سنة 1325ه القاهرة.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 205 _

  السلف : (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ، ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً) (1) .
  وبعد أن ذكر الذهبي تبرك أحمد بن حنبل الذي ينتسب إليه الوهابية ، بشعرة من شعر النبي (صلى الله عليه وآله) ، يقبلها ، ويستشفي بها ، وبقصعة النبي (صلى الله عليه وآله) ، وكان يشرب من ماء زمزم يستشفي به ، بعد أن ذكر الذهبي ذلك ، قال : أين المتنطع المنكر على أحمد ، وقد ثبت أن عبد الله سأل أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي (صلى الله عليه وآله) ، ويمس الحجرة النبوية ، فقال : (لا أرى بذلك بأساً ، أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج والبدع ...) (2) .

السياسة الحجاجية الأموية :
  والمنع من التبرك بآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) سياسة أموية حجاجية ، أظهرها الحجاج بصورة فجّة ، ووقحة ، وتبعه الآخرون على ذلك ، فإنه هو الذي رمى الكعبة ـ أعزها الله ـ بالمنجنيق.
  بل لقد روي أنه : (رماها بالعذرة لعنه الله وأخزاه) (3) .
  وكان الحجاج يريد أن يضع رجله على مقام إبراهيم ، فمنعه ابن الحنفية وزجره (4) .
  وكان خالد القسري يسمي زمزم أم الجعلان (5) .
  وله قضايا صريحة في إهانة الكعبة لا مجال لذكرها ، فلتراجع في

---------------------------
(1) سورة نوح ، الآية : 27.
(2) سير أعلام النبلاء ج11 ص212.
(3) عقلاء المجانين ص178 والفتوح لابن أعثم ج2 ص486 وذكروا : أنه رماها بالعذرة.
(4) المصنف للصنعاني ج5 ص49 والطبقات الكبرى لابن سعد ج5 ص84 وربيع الأبرار ج1 ص43.
(5) الأغاني ج19 ص60و59 وتهذيب تاريخ دمشق ج5 ص82.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 206 _

  مظانها (1) .
  وأنفذ الوليد الأموي رجلاً مجوسياً ، ليبني له على الكعبة مشربة للخمر.
  كما انه في عهد هشام قد ذهب إلى مكة ، ومعه خمر ، وقبة ديباج على قدر الكعبة ، وأراد أن ينصبها عليها ، ويجلس فيها ، فخوفه أصحابه من ثورة الناس حتى امتنع (2) .
  وها نحن نجد زعيم الوهابية يقول عن النبي (صلى الله عليه وآله) : ما هو إلا طارش (3) .
  ثم يأتي من ينسب إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، ويقول : لمن يسأله عن مسك الحديد لضريح النبي (صلى الله عليه وآله) والاتهام بالشرك (ما الفائدة التي نستفيدها من أن نمسك شباكاً ، أو نمسك الحديد) (4) .
  قال هذا الكلام في كتاب : أجرى عليه بعض تلاميذه بعض الملاحظات بإشرافه.

الإمام والإمامة عند (الخوارج) :
  قال النكارية ـ وهم فرقة من الإباضية ـ : (بعدم فرضية الإمام) ، وبعدم جواز ولاية المفضول ، مع أن أئمة الإباضية كانوا يقولون : إنه تجوز ولاية المفضول مع وجود الأفضل ، إذا وجدت في المفضول مزايا ترجحه ليست للأفضل (5) .

---------------------------
(1) الأغاني ج19 ص60و59.
(2) بهج الصباغة ج5 ص340 عن الطبري ، والأغاني.
(3) كشف الإرتياب ـ ص139 وراجع ص430 عن خلاصة الكلام ص230.
(4) مجلة الموسم : العددان [21و22] سنة 1995م ص299.
(5) الإباضية عقيدة ومذهباً ص67و52و53 عن الإباضية في الجزاء ص56 وعن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص262و363.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 207 _

  ويتحدث البعض عن توفر المصادر حول الإمامة عند الإباضية ، وعدم توفرها لدى (الخوارج) لندرة تدوين بحوثهم في هذا الموضوع ، ويقول : (يبدو أن ندرة مصادرهم لازمتهم تاريخياً ، ولعل ذلك بسبب عدم استواء المذهب فكرياً ، بالرغم من العنف السياسي الذي لازمهم فترة طويلة) (1) .
  وقال فلهوزن ، وهو يتحدث عن (الخوارج) : (ولهذا فمن الصحيح موضوعياً ، وإن لم يصح شكلاً أن يؤخذ عليهم أنهم لا يريدون الإقرار بأية إمارة (2) ، واي فكرة تدعي دعاوى كهذه لابد أن تحطم الجماعات التي أقيمت لأجلها) (3) .
  وقال السيد نعمة الله الجزائري ، عن المحكّمة الذين خرجوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) : (لم يوجبوا نصب الإمام ، بل جوزوا أن لا يكون في العالم إمام) (4) .
  وقال البعض أيضاً : (وفيما نعتقد ـ والله أعلم ـ أن جمهورهم على عدم القول بوجوب نصب الإمام ، اكتفاءً بمقولتهم : (لا حكم إلا لله ( ، وعدم الوجوب على الإطلاق ، لا على الله ، ولا على الناس) (5) .

---------------------------
(1) الإباضية عقيدة ومذهباً ص132. وأشار في الهامش إلى المصادر التالية : البدء والتاريخ ج5 ص136 وتطهير الجنان للهيثمي ص44 وتلبيس إبليس ص99.
(2) أشار في الهامش إلى الكامل ص555 سطر 18.
(3) الخوارج والشيعة ص44.
(4) الأنوار النعمانية ج2 ص245.
(5) الإباضية ص133و134.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 208 _

  وقال المعتزلي : (إن الخوارج كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك ، ويذهبون إلى أنه لا حاجة إلى الإمام ، ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي )(1) .
  وقال غيره : ( ... وحتى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) لم يكن للخوارج في هذا الموضوع مدونات يمكن الاطلاع عليها ، تحدد جوهر معتقدهم السياسي والديني في موضوع الإمامة ، ولذا يقول (رحمه الله) : وأقوال (الخوارج) إنما عرفناها من نقل الناس عنهم ، لم نقف لهم على كتاب مصنف ، كما وقفنا على كتب المعتزلة والرافضة )(2) .
  ومن مبادئ النجدات : (أنهم يرون أن إمامة الإمام ليست واجباً وجوباً شرعياً ، بل هي واجب وجوباً مصلحياً ، أي أنهم يرون أنه إذا أمكن للمسلمين أن يتواصلوا بينهم بالحق ، وينفذوه ، فهم في هذه الحالة ليسوا في حاجة إلى إقامة إمام ، ماداموا قد تناصفوا فيما بينهم ، فإذا أقاموه جاز) (3) .
  وبتعبير آخر : (قالت النجدية من الخوارج : الأمة غير محتاجة إلى إمام ولا غيره ، وإنما علينا وعلى الناس ، أن نقيم كتاب الله عز وجل فيما بيننا) (4) .

---------------------------
(1) فجر الإسلام ص260 عن شرح النهج للمعتزلي ج2 ص209.
(2) الخوارج عقيدة ومذهباً ص133 وأشار إلى مجموعة الرسائل الكبرى ج1 ص37.
(3) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص76و77.
(4) فرق الشيعة ص29 والأنوار النعمانية ج2 ص247 والخوارج عقيدةً وفكراً وفلسفة ص127 ومقالات الإسلاميين ج2 ص33 ونقل أيضاً عن الملل والنحل ج1 ص167و168 وراجع : الإباضية ص133و134 عن المواقف ج8 ص393.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 209 _

  وقال الربيع بن حبيب الإباضي : ( ... يجوز تولية رجل من المسلمين ، إذا كان فيهم من هو أفقه منه) (1) .
  والربيع هذا هو فقيه الإباضية ، وصاحب الجامع الصحيح ، المسند الإباضي المشهور.
  وفي المواقف : (قالت الخوارج : لا يجب نصب الإمام أصلاً)(2) .
  واستدلوا على عدم وجوب نصب الإمام بأن نصبه يثير الفتنة ، لأن الأهواء مختلفة ، فيدعي كل قوم إمامة شخص ، فيقع التشاجر والتناحر ، والتجربة شاهدة بذلك (3) .
  ومن الواضح : أن دليلهم هذا لو صح ، فإنما يصح لو كان نصب الإمام يعود إلى الناس الذين يختلفون في أهوائهم ، وفي آرائهم ، وانتماءاتهم ، أما إذا كان الله هو الذي يختار لعباده ، فليس لأحد من الناس أن يعترض ، أو أن يرشح ، أو أن ينصب ، أو أن يختار ، أو أن يوالي غير من نصبه الله سبحانه.

(الخوارج) والمهدية :
  إنه وإن لم تصرح كثير من الفرق الخارجية بشيء حول اعتقادهم بالمهدية أو عدمه ، إلا أن بعضها الآخر قد صرح بأنه يذهب إلى هذا الاعتقاد بلا ريب.
  وقال الفرد بل : (إن حركة الخوارج لم تنطفئ بغزو الشيعة في مستهل القرن الثالث الهجري [التاسع الميلادي] ، بل استردت

---------------------------
(1) الإباضية عقيدة ومذهباً وفلسفة ص51.
(2) الإباضية ص133 عن المواقف وعن الصواعق المحرقة ص8 وعن الملل والنحل ج1 ص116.
(3) الإباضية ص134 عن المواقف ج8 ص348 وعن الصواعق المحرقة ص8.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 210 _

  قوتها بعد ذلك بعدة سنوات ، وهددت ـ بزعامة أبي يزيد الملقب بصاحب الحمار ـ المهدية نفسها ، وهي عاصمة المهدي الشيعي ، في محاولة أخيرة ، قام بها البربر في سبيل استقلالهم سنة 945م) .
  قال عبد الرحمن بدوي : [عن مخلد بن كيداد اليغرني] ، (نشأ في مدينة توزون من بلاد الجريد ، وادّعى أنه ابن المهدي ...) إلى أن قال : (وكان نكارياً ، يكِّفر أهل السنة ، ويستحل أموالهم ونساءهم ، وثار على محمد عبيد الله المهدي في جهات طرابلس سنة 333هـ ، وحاصر طرابلس ، ودخل القيروان) إلا أن يقال : إن ادعاءه البنوّة للمهدي إنما كان قبل أن يصير من (الخوارج).
  ولكنه احتمال بعيد : والظاهر أنه قد نشأ خارجياً منذ البداية ، فليتأمل في ذلك وليراجع.

إمامة المرأة :
  وينسب لبعض فرق (الخوارج) وهم الشبيبية تجويز إمامة المرأة ، واستدل على ذلك بأن غزالة [أم شبيب الخارجي] تولت إمامة (الخوارج) بعد ابنها شبيب (1) .
  بل إن ابنها شبيباً هو الذي استخلفها ، (فدخلت الكوفة ، وقامت خطيبة ، وصلت الصبح بالمسجد الجامع ، فقرأت في الركعة الأولى

---------------------------
(1) الإباضية ص135 عن الفرق بين الفرق ص113 وراجع : شذرات الذهب ج1 ص83.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 211 _

  البقرة ، وفي الثانية آل عمران) (1) .

أئمة الجور :
  ومع أن من مذهب (الخوارج) وجوب محاربة حكام الجور بلا هوادة ... إلا أن بوادر التساهل في هذا الأمر ، قد ظهرت في وقت مبكر ، حيث صار عدد من زعماء (الخوارج) يتعاملون مع حكام الجور ، بل ونجد بعضهم يقدم لهم النصيحة ، ومنهم من عمل لهم كما تظهره فصول هذا الكتاب ... فلا حاجة إلى الإعادة هنا.
  إذا كفر الإمام كفرت الرعية :
  ومن الغريب هنا ما ذكروه عن العوفية ، وهم فرقة من البهيسية ، من أنهم قالوا : (إذا كفر الإمام ، فقد كفرت الرعية ، الغائب منهم والشاهد) (2) .
  مع أن الله سبحانه يقول : (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (3) ، ويقول سبحانه : (لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (4) .
  الموقف من الصهرين ومن الصحابة :
  وقد رأينا بعض علماء الإباضية يقول :( يجب احترام الصحابة ، وقول الحق فيهم) (5) .

---------------------------
(1) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص99 عن الخطط للمقريزي ج4 ص180.
(2) الخوارج عقدية وفكراً وفلسفة ص98.
(3) سورة فاطر/18 وسورة الزمر/17 وسورة الأنعام/164 وراجع : سورة النجم/38 وسورة الإسراء/15.
(4) سورة المائدة/105.
(5) العقود الفضية ص63

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 212 _

  وهذا يخالف قولهم في العديد منهم كطلحة ، والزبير ، وعائشة ، وغيرهم ، لكنهم لم يلتزموا بما قاله الأزارقة حيث كفروا علياً ، وصوبوا قتل ابن ملجم له ، وكفروا عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الله بن عباس (1) ، فخالفوهم في ذلك ، وخففوا من لهجتهم حتى ليقول صابر طعيمة عنهم : (الذي نعتقده أن جمهور الإباضية من خلال ما كتب علماؤهم ومؤرخوهم لا يرون في الخليفة عثمان (رض) وبقية أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير ما يرى جمهور المسلمين ، بل إن أئمتهم يعنون عناية طيبة بالصحابيين علي وعثمان (رضي الله عنه)ما ، تستحق التقدير.
  وإسحاق بن أطيفش الإباضي في رسالته النقد الجليل في الرد الجميل يسجل ثناءً ودعاءً للخليفة عثمان بن عفان (رض)) (2) .
  ونقول :
  لعل هذا هو أحد موارد عملهم بالتقية ... وإلا ، فإن الإباضية يصرون على تضليل عثمان ، وعلي (عليه السلام) بعد التحكيم ، وعلى تصويب أهل النهروان في حربهم علياً (3) .
  وقد قال ابن بطوطة : ([إنه رآهم في عمان] : إذا أرادوا ذكر علي كنوا عنه بالرجل ، ويرضون عن الشقي اللعين ابن ملجم ، ويقولون فيه : العبد الصالح ، قامع الفتنة )(4) .
  واللافت هنا هو : موقفهم العجيب من الحسنين (عليهما السلام) ، حيث يعتبرون

---------------------------
(1) الملل والنحل ج1 ص121 والخوارج في العصر الأموي ص225 عنه.
(2) الإباضية عقيدة ومذهباً ص8 و87.
(3) راجع : الاستقامة لمحمد بن سعيد الكندي ج1 ص118و119و120و55و66.
(4) رحلة ابن بطوطة ج1 ص172 والنص والاجتهاد ص99 عنه.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 213 _

  قتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، وسم الإمام الحسن (عليه السلام) ، من الأمور العظيمة (1) .
  عذاب القبر :
  وقد حكى الأشعري عن (الخوارج) : أنهم كانوا ينكرون عذاب القبر (2) وقد يكون سبب إنكارهم هذا هو أن هذه القضية إنما تستفاد من النصوص الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم يكن للخوارج معرفة بالرواية كما سيأتي.
  سورة يوسف ليست من القرآن :
  وقالت الميمونية : ليست سورة يوسف من القرآن (3) ونسب هذا القول إلى العجاردة أيضاً (4) .
  (الخوارج) ضد تأويل القرآن :
  وكان أكثر (الخوارج) ـ كما يقول القلقشندي ـ ضد تأويل القرآن (5) .

---------------------------
(1) العقود الفضية ص213.
(2) مقالات الإسلاميين ج1 ص206 والإباضية عقيدة ومذهباً ص125.
(3) البدء والتاريخ ج5 ص138 وراجع : مقالات الإسلاميين ج1 ص166 عن الكرابيسي والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص62و134 ، والعتب الجميل ص53 عن نقد عين الميزان لمحمد بهجت البيطار ودائرة المعارف الإسلامية ج8 ص475 والأنوار النعمانية ج2 ص248 وراجع : الإباضية ص36 عن الملل والنحل ج1 ص129 وراجع : الإسلام لهنري ماسيه ص187 ـ 189.
(4) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص56 ، والإباضية عقيدة ومذهباً ص36 عن الملل والنحل ج1 ص128.
(5) صبح الأعشى ج3 ص222 والخوارج في العصر الأموي ص204 عنه.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 214 _

  وهذا الاتجاه هو الذي فرض نفسه على الوهابيين وعلى سلفهم من اهل الحديث ... حتى إن بعضهم منع من المجاز ، وعبر عنه بالطاغوت (1) .

سهولة التكفير عند (الخوارج) :
  وإننا في حين نجد المرجئة يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة (2) لكن الأزارقة قد (أخرجوا مرتكب الكبيرة عن دائرة الإسلام) (3) بل يرمونه بالشرك أيضاً (4) .
  لكن فرقة أخرى من (الخوارج) لا تكفر مرتكب الكبيرة في ديار هجرتهم إلا إذا كان قاتلاً لأحدهم (5) .
  أما النجدات ، فيقولون : (من نظر نظرة صغيرة أو كذب كذبة صغيرة ، ثم أصر عليها فهو مشرك ، وأن من زنى ، وسرق ، وشرب الخمر غير مصر عليه فهو مسلم ، إذا كان من موافقيهم) (6) .
  وقد رأى الأزارقة أن سائر المسلمين مخلدون في النار (7) .
  وسيأتي المزيد من النصوص الدالة على تكفيرهم المسلمين ، واستحلالهم قتلهم.

---------------------------
(1) راجع : بحوث مع أهل السنة والسلفية.
(2) الإبانة للأشعري ص2.
(3) الملل والنحل ج1 ص121و122 والخوارج في العصر الأموي ص225 وراجع : الأنوار النعمانية ج1 ص247.
(4) الفرق بين الفرق ص73 وراجع : الأنوار النعمانية ج2 ص247 عن اليزيدية.
(5) الكامل في الأدب ج3 ص153 والخوارج في العصر الأموي ص225 عنه وعن المصنف المجهول ص94.
(6) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص76 و77.
(7) الملل والنحل ج1 ص121و122 والخوارج في العصر الأموي ص225 عنه.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 215 _

  بين القدرية و (الخوارج) :
  وقبل أن نستعرض بعض التفاصيل في عقائد (الخوارج) نشير إلى ما روي ...
  عن رجل عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال : لعن الله القدرية ، لعن الله (الخوارج) ، لعن الله المرجئة ، لعن الله المرجئة.
  قال : قلت : لعنت هؤلاء مرة مرة ، ولعنت هؤلاء مرتين؟
  قال : إن هؤلاء يقولون : إن قتلتنا مؤمنون ، فدماؤنا متلطخة بثيابهم إلى يوم القيامة ، إن الله حكى عن قوم في كتابه : لن نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، قل : قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات ، وبالذي قلتم ، فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ؟ قال : كان بين القاتلين والقائلين خمس ماءة عام ، فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا (1) .
  وذلك يدل على أن اعتقاد (الخوارج) في مخالفيهم الذين يكفرونهم يهون عليهم ارتكاب جريمة القتل في حقهم ، حتى قتل أهل البيت (عليهم السلام).
  وأما من يعتقد بأن مخالفيه من المسلمين ، فإن إقدامه على قتل من يراه مسلماً يصبح أكثر قبحاً ويحتاج إلى المزيد من الجرأة على الله سبحانه ، وعلى أحكام دينه ، ولا يقدم على ذلك إلا بعد أن يبلغ الغاية في القسوة والجحود والطغيان والبغي.
  المرجئة و (الخوارج) :
  لقد ادرك الناس خطر (الخوارج) بصورة عميقة ، وقد أصبحوا

---------------------------
(1) الكافي ج2 ص300/301.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 216 _

  يجعلونهم مقياساً لدرجة الخطورة في الدعوات المنحرفة ، وقد كان إبراهيم النخعي يقول : لأنا على هذه الأمة من المرجئة أخوف عليهم من عدتهم من الأزارقة (1) .
  قسوة التعاليم :
  ولعل من أهم الآثار التي نشأت عن تسرعهم في التكفير ، ثم المبادرة لاتخاذهم الموقف القاسي والشرس ضد من يكفرونه ، أن هذه العقيدة قد استطاعت أن تفصلهم تماماً عن كل الآخرين ... وتجعلهم أكثر تصلباً في مواقفهم ، بعد أن لم يعد هناك أية فرصة للنقاش في أية مفردة من المفردات التي كانت تحكم تفكيرهم ، وتهيمن على مواقفهم ، وتدفعهم لممارسة أشد أنواع العنف في حق خصومهم.
  حتى اصبح الشباب الذين ينساقون وراء شعاراتهم أسرى تلك الشعارات والأفكار ، فهم يعيشونها بانفعال وتشنج يمنعهم من ممارسة أي نوع من أنواع التفكير الهادئ ، والموضوعي والرصين ، وتمنعهم من سماع وجهات نظر الآخرين ، الذين يرون أنهم كفرة ، لابد من استئصال شأفتهم ، فهم ليسوا معنيين باي شيء يفكرون فيه ، ولا مهتمين بالتفكير بأي مبرر يمكن أن يرضوه لأنفسهم مهما كان نوعه.
  رغم القسوة :
  ورغم قسوة تعاليمهم ، وشراستهم في التعاطي مع خصومهم ، فإنهم هم أنفسهم قد تخلوا عن كثير من تعاليمهم ـ كما سنرى ـ كما أنهم في

---------------------------
(1) سير أعلام النبلاء ج4 ص523 وفي هامشه عن ابن سعد ج6 ص274.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 217 _

  المجال العملي لم يصبروا على المكاره ، بل التجأوا إلى أسلوب التقية ، فمارسوه بصورة تصل أحياناً إلى حد الإسفاف ، والاستهتار ، الذي يرفضه الضمير ، ويأباه الوجدان ، كما سيتضح في الفقرة التالية ...
  جنون التقية :
  إنه رغم أن (الخوارج) الأولين كانوا يحرمون التقية ، ولا يجيزونها في قول أو عمل (1) .
  فإن أتباع زياد بن الاصفر قد جوزوها في القول دون العمل (2) .
  وقال النجدات بجوازها (3) .
  وقد أمر أبو بلال امرأة من بني يربوع بالتقية ، وقال لها : (إن التقية لا بأس بها ، فتغيبي ، فإن هذا الجبار قد ذكرك) (4) .
  وأجاز بعض زعماء الصفرية تزويج المسلمات من كفار قومهم في دار التقية ، دون العلانية (5) .
  وكذلك فإن الضحاكية ـ وهم فرقة من الإباضية ـ قد اجازوا ذلك الزواج ، وأضافوا إلى ذلك قولهم : كما يسع الرجل منهم أن يتزوج المرأة الكافرة من قومه في دار التقية (6) .

---------------------------
(1) الإباضية عقيدة ومذهباً ص35.
(2) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص65 وعنه في الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص79.
(3) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص76.
(4) العقود الفضية ص110و112.
(5) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص122 والملل والنحل للشهرستاني ج1 ص143 والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص79.
(6) مقلات الإسلاميين ج1 ص175/176 والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص96 عنه.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 218 _

  وفرقة الحسينية ـ من الإباضية ـ أباحوا الزنى ، وأخذ الأموال لمن أكره على ذلك ، يتقي به ، ويغرم بعد ذلك (1) .
  وقال النكارية ـ وهم من الإباضية ـ (يجوز شرب الخمر على التقية) (2) .
  وستأتي قضية ابن إباض والسيد الحميري حين بلغه أن عبد الله بن إباض راس الإباضية ، يعيب على علي (عليه السلام) ، ويتهدد السيد بأن يذكره عند المنصور بما يوجب القتل ، وكان ابن إباض يظهر التسنن ، ويكتم مذهب الإباضية.
  فكتب إليه السيد قصيدة طويلة يذكر فيها فضائل علي (عليه السلام) ، فامتعض ابن إباض منها جداً ، وأجلب في أصحابه ، وسعى بها إلى الفقهاء والقراء ، فاجتمعوا وساروا إلى المنصور.
  ثم تذكر القصة : (ما اتهموه به ، ودفاع السيد عن نفسه ، وإحراج ابن إباض أمام المنصور حيث أمر بحبسه ، فمات في الحبس ، ثم أمر بمن كان معه فضربوا بالمقارع ، وأمر للسيد بخمسة آلاف درهم) (3) .
  ومما ذكرناه يتضح : أن قول البعض : (وجدنا (الخوارج) في أواخر العصر الأموي يأخذون بمبدأ التقية ، ويعمدون إلى الدعوة السرية كأسلوب يناوؤن به الحكومة الأموية) (4) .
  غير دقيق ... فإن التقية قد بدأت منهم منذ بدايات ظهورهم ...

---------------------------
(1) الإباضية عقيدة ومذهباً ص54 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص363
(2) الإباضية ص62.
(3) أخبار السيد الحميري للمرزباني ص53/54.
(4) قضايا في التاريخ الإسلامي ص90.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 219 _

  تأثيرات الإباضية بالمعتزلة في عقائدهم :
  هذا ... وربما يتصور أحياناً تاثر الإباضية في بعض أصولهم العقائدية بالمعتزلة (1) وذلك بملاحظة مخالفتهم لأهل السنة في أصول عقائدية هامة ، مثل مسائل التشبيه ، والتجسيم ، وعدم رؤية الله تعالى في الآخرة الذي هو رأي جمهور (الخوارج) أيضاً والجبر والقدر (2) ، ومسألة خلق القرآن (3) حتى لقد قال نلينو : (إن الجزء الأكبر من مذهب الإباضية في شمال إفريقية إذن معتزلي) (4) .
  هذا ... ولكن الذي يبدو لنا : أن الأمر ليس كذلك ، إذ أن (الخوارج) وميهم الإباضية لم يتح لهم الاختلاط بالمعتزلة ، ولا عايشوا التيارات

---------------------------
(1) راجع : ضحى الإسلام ج3 ص337 وليراجع ص334 والإباضية عقيدة ومذهباً ص72 و61 و73 و80 و95 و101 و147 والعقود الفضية حول نفي التشبيه ص287 وحول كون صفات الله عين ذاته ص285 وحول رؤية الله وحول عدم رؤيته في الآخرة ص287 وحول نفي الجبر ص144 وحول تولية المفضول ص155.
(2) إلا أن ( من مذهب شيبان أنه قال بالجبر إلخ) الملل والنحل ج1 ص133.
(3) فإن جميع الخوارج يقولون بخلق القرآن راجع : المقالات للأشعري ج1 ص203 والخوارج في العصر الأموي ص203 عنه والإباضية عقيدة ومذهباً ص100و103و104 وراجع : مقدمة الأستاذ محمد عمارة لكتاب : رسائل العدل والتوحيد ج1 ص53 ، حيث ذكر عن المستشرق نلينو بعض أوجه الشبه بين فكر المعتزلة وعقيدة الإباضية استناداً الى كتاب : العقيدة الإباضية لعمرو بن جميع الإباضي ، الذي عاش في القرن التاسع الهجري ، وراجع أيضاً دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص476 وضحى الإسلام ج3 ص334 والإباضية عقيدة ومذهباً والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص92.
(4) مقدمة محمد عمارة لكتاب رسائل العدل والتوحيد ج1 ص53 وفي الهامش عن : بحوث في المعتزلة ص204 و205 و206 و208 وراجع دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص476.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 220 _

  الفكرية بصورة فعالة ... كما أن تفرقهم في البلاد ، وبعدهم عن العواصم الإسلامية قد جعلهم أقل تعرضاً لذلك المد العارم للأحاديث الإسرائيليات ، المنسوبة للنبي (صلى الله عليه وآله) ولبعض صحابته ، وبقوا في تعاملهم مع النصوص القرآنية على طبعهم العربي الساذج.
  ولأجل ذلك نقول : إن الظاهر هو أن الخوارج قد توصلوا إلى آرائهم العقائدية تلك بانفسهم ، ومن دون اعتماد على الغير ، أو تاثر بأحد.
  بل نجد البعض : قد تنبه إلى هذا الأمر لذلك فهو يعكس القضية ، ويقول : "لاحظ الدارسون حديثاً ... العلاقة الوثيقة بين عقائد الإباضية والمعتزلة ...
  ويمكن أن نقول أيضاً : إن المعتزلة استوحوا الخوارج في بعض المسائل ...( (1) .
  مع العلم : (أننا لا نعرف فقه (الخوارج) وعقائدهم في مجموعها إلا عند الإباضية) (2) لأنهم هم الذين استمرت نحلتهم ، ودونت عقائدهم وفقههم.
  ونجد هذا التضارب في الآراء في هذا التأثر والتأثير قد سرى إلى زعيم الإباضية نفسه.
  ففي حين نجد من يقول : إن عبد الله بن إباض قد رجع إلى الاعتزال ، حتى قال أبو القاسم البلخي : والذي يدل على ذلك : أن أصحابه لا يعظمون أمره (3) .
  نجد بعضهم الآخر يقول : إنه رجع إلى قول الثعالبة من فرق

---------------------------
(1) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص476.
(2) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص475.
(3) الحور العين ص173.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 221 _

  (الخوارج) (فبرئ منه أصحابه ، فهم لا يعرفونه اليوم ، وقد سألنا من هو مقدمهم في علمهم ومذهبهم عنهم (1) فما عرفه منهم أحد) (2) .
  ثم أنكر ذلك المؤرخ الإباضي علي يحيى معمر حيث قال : (لم يزعم احد من الإباضية : أن عبد الله بن إباض رجع إلى قول الثعالبة ، ولا يوجد أحد من الإباضية يبرأ منه ، فهم مجمعون على ولايته ، ويعتبرونه من أئمة المسلمين ، ومن كبار التابعين) (3) .
  بل يدعي الإباضية : أن ابن إباض قد فارق جميع الفرق الضالة ، وعد منهم الخوارج (4) .
  وهكذا يتضح : أن دعوى تأثر الإباضية بالمعتزلة تقابلها دعوى تأثر المعتزلة بالإباضية ، وإن كان ظاهر الحال يقتضي صحة الدعوى الأولى.
  وذلك بملاحظة الخلاف حول تقلبات ابن إباض نفسه ، في الناحية العقائدية حسبما أشرنا إليه آنفاً.

فرقة الإباضية و (الخوارج) :
  قد عرفنا فيما سبق : أن إحدى فرق (الخوارج) ، وهي فرقة الإباضية تمتاز عن سائر فرق (الخوارج) بفقهها وعقائدها ، وتختلف عنهم ومعهم ، وقد ظهرت ملامح هذا الاختلاف في كثير من الموارد التي سجلناها فيما سبق ، حتى قال البعض في ما يرتبط بموقع الإباضية من سائر فرق (الخوارج) :

---------------------------
(1) لعل الصحيح : عنه. أي عن ابن إباض.
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج4 ص191.
(3) الإباضية ص46 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص354.
(4) العقود الفضية ص121.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 222 _

  ( ... والخلاف الذي بين فرق الخوارج من جانب ، وفرقة الإباضية وحدها من جانب آخر ، هو أعلى خلاف فيما بين الخوارج ، وهذا الخلاف قد جعل بعض المؤرخين الإباضيين المحدثين لا يعد فرقة الإباضية بما انتهى إليه فقهها ، وجملة معتقدها من الخوارج) (1) .
  بل لقد قيل : (إن معظم الكتاب والمؤرخين الإباضيين ، فضلاً عن الأئمة منهم ينكرون علاقة المذهب تاريخياً بـ (الخوارج)) (2) .
  ويدعي الإباضية : أن إمامهم عبد الله بن إباض قد فارق جميع الفرق الضالة ، وعدّ منهم (الخوارج) (3) .
  تنكر الإباضية حتى للاسم :
  وقال عامر النجار : ( ... الإباضية غاضبون ممن يعتبروهم فرقة من (الخوارج) ، ويقولون : إنما هي دعاية استغلتها الدولة الأموية لتنفير الناس من الذين ينادون بعدم شرعية الحكم الأموي.
  كما أن للإباضية العديد من المواقف ضد (الخوارج) (4) .
  وأصبح لفظ (الخوارج) مستقبحاً عندهم إلى درجة كبيرة ثم زاد استقباحه حين استبد به الأزارقة والصفرية) (5) .

---------------------------
(1) الإباضية ص35.
(2) المصدر السابق ص145.
(3) العقود الفضية ص121.
(4) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص81.
(5) العقود الفضية ص70 وراجع ص167.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 223 _

  الفصل الرابع
  الفقه ... وأصوله

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 225 _

  للتوضيح فقط :
  إن ظهور (الخوارج) وإن كان قد يبرر على أنه بسبب شبهة أو خطأ في فهم أمر ديني ... ولكن صبغتهم في بادىء الأمر كانت سياسية محضة ، ثم إنهم في عهد عبد الملك بن مروان مزجوا تعاليمهم السياسية بأبحاث لاهوتية ، كما يقوله البعض (1) .
  ثم جاء الإباضية بعد ذلك ، فسنحت لهم الفرصة لتنظيم عقائدهم ، وفقههم أكثر من غيرهم من فرق (الخوارج).
  وتوضيحاً لذلك نقول : إن من يلاحظ الأحداث التاريخية ، والاحتجاجات المتبادلة في الصدر الأول ، يجد :
  أمر (الخوارج) قد بدأ من خلال فهمهم الخاطىء ـ لو أحسنا الظن بهم ـ لمسألة بعينها ، هي قضية التحكيم ، وكان المفروض أن يقتصر خلافهم واختلافهم على هذه القضية بالذات ، ولكن رأينا أنهم فيما بعد ازدادوا بعداً عن المسار العام ، وصارت تظهر لهم أقاويل في العديد من المسائل.
  والدارس لحال هذه الفئة يلاحظ أنهم كانوا يعتمدون على فهمهم

---------------------------
(1) فجر الإسلام ص259.