هذا ... وربما يتصور أحياناً تاثر الإباضية في بعض أصولهم العقائدية بالمعتزلة
وذلك بملاحظة مخالفتهم لأهل السنة في أصول عقائدية هامة ، مثل مسائل التشبيه ، والتجسيم ، وعدم رؤية الله تعالى في الآخرة الذي هو رأي جمهور (الخوارج) أيضاً والجبر والقدر
حتى لقد قال نلينو : (إن الجزء الأكبر من مذهب الإباضية في شمال إفريقية إذن معتزلي)
.
هذا ... ولكن الذي يبدو لنا : أن الأمر ليس كذلك ، إذ أن (الخوارج) وميهم الإباضية لم يتح لهم الاختلاط بالمعتزلة ، ولا عايشوا التيارات
الفكرية بصورة فعالة ... كما أن تفرقهم في البلاد ، وبعدهم عن العواصم الإسلامية قد جعلهم أقل تعرضاً لذلك المد العارم للأحاديث الإسرائيليات ، المنسوبة للنبي (صلى الله عليه وآله) ولبعض صحابته ، وبقوا في تعاملهم مع النصوص القرآنية على طبعهم العربي الساذج.
ولأجل ذلك نقول : إن الظاهر هو أن الخوارج قد توصلوا إلى آرائهم العقائدية تلك بانفسهم ، ومن دون اعتماد على الغير ، أو تاثر بأحد.
بل نجد البعض : قد تنبه إلى هذا الأمر لذلك فهو يعكس القضية ، ويقول : "لاحظ الدارسون حديثاً ... العلاقة الوثيقة بين عقائد الإباضية والمعتزلة ...
ويمكن أن نقول أيضاً : إن المعتزلة استوحوا الخوارج في بعض المسائل ...(
(1) .
مع العلم : (أننا لا نعرف فقه (الخوارج) وعقائدهم في مجموعها إلا عند الإباضية)
(2) لأنهم هم الذين استمرت نحلتهم ، ودونت عقائدهم وفقههم.
ونجد هذا التضارب في الآراء في هذا التأثر والتأثير قد سرى إلى زعيم الإباضية نفسه.
ففي حين نجد من يقول : إن عبد الله بن إباض قد رجع إلى الاعتزال ، حتى قال أبو القاسم البلخي : والذي يدل على ذلك : أن أصحابه لا يعظمون أمره
(3) .
نجد بعضهم الآخر يقول : إنه رجع إلى قول الثعالبة من فرق
---------------------------
(1) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص476.
(2) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص475.
(3) الحور العين ص173.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 221 _
(الخوارج) (فبرئ منه أصحابه ، فهم لا يعرفونه اليوم ، وقد سألنا من هو مقدمهم في علمهم ومذهبهم عنهم
(1) فما عرفه منهم أحد)
(2) .
ثم أنكر ذلك المؤرخ الإباضي علي يحيى معمر حيث قال : (لم يزعم احد من الإباضية : أن عبد الله بن إباض رجع إلى قول الثعالبة ، ولا يوجد أحد من الإباضية يبرأ منه ، فهم مجمعون على ولايته ، ويعتبرونه من أئمة المسلمين ، ومن كبار التابعين)
(3) .
بل يدعي الإباضية : أن ابن إباض قد فارق جميع الفرق الضالة ، وعد منهم الخوارج
(4) .
وهكذا يتضح : أن دعوى تأثر الإباضية بالمعتزلة تقابلها دعوى تأثر المعتزلة بالإباضية ، وإن كان ظاهر الحال يقتضي صحة الدعوى الأولى.
وذلك بملاحظة الخلاف حول تقلبات ابن إباض نفسه ، في الناحية العقائدية حسبما أشرنا إليه آنفاً.
فرقة الإباضية و (الخوارج) :
قد عرفنا فيما سبق : أن إحدى فرق (الخوارج) ، وهي فرقة الإباضية تمتاز عن سائر فرق (الخوارج) بفقهها وعقائدها ، وتختلف عنهم ومعهم ، وقد ظهرت ملامح هذا الاختلاف في كثير من الموارد التي سجلناها فيما سبق ، حتى قال البعض في ما يرتبط بموقع الإباضية من سائر فرق (الخوارج) :
---------------------------
(1) لعل الصحيح : عنه. أي عن ابن إباض.
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج4 ص191.
(3) الإباضية ص46 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص354.
(4) العقود الفضية ص121.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 222 _
( ... والخلاف الذي بين فرق الخوارج من جانب ، وفرقة الإباضية وحدها من جانب آخر ، هو أعلى خلاف فيما بين الخوارج ، وهذا الخلاف قد جعل بعض المؤرخين الإباضيين المحدثين لا يعد فرقة الإباضية بما انتهى إليه فقهها ، وجملة معتقدها من الخوارج)
(1) .
بل لقد قيل : (إن معظم الكتاب والمؤرخين الإباضيين ، فضلاً عن الأئمة منهم ينكرون علاقة المذهب تاريخياً بـ (الخوارج))
(2) .
ويدعي الإباضية : أن إمامهم عبد الله بن إباض قد فارق جميع الفرق الضالة ، وعدّ منهم (الخوارج)
(3) .
تنكر الإباضية حتى للاسم :
وقال عامر النجار : ( ... الإباضية غاضبون ممن يعتبروهم فرقة من (الخوارج) ، ويقولون : إنما هي دعاية استغلتها الدولة الأموية لتنفير الناس من الذين ينادون بعدم شرعية الحكم الأموي.
كما أن للإباضية العديد من المواقف ضد (الخوارج)
(4) .
وأصبح لفظ (الخوارج) مستقبحاً عندهم إلى درجة كبيرة ثم زاد استقباحه حين استبد به الأزارقة والصفرية)
(5) .
---------------------------
(1) الإباضية ص35.
(2) المصدر السابق ص145.
(3) العقود الفضية ص121.
(4) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص81.
(5) العقود الفضية ص70 وراجع ص167.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 223 _
الفصل الرابع
الفقه ... وأصوله
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 225 _
للتوضيح فقط :
إن ظهور (الخوارج) وإن كان قد يبرر على أنه بسبب شبهة أو خطأ في فهم أمر ديني ... ولكن صبغتهم في بادىء الأمر كانت سياسية محضة ، ثم إنهم في عهد عبد الملك بن مروان مزجوا تعاليمهم السياسية بأبحاث لاهوتية ، كما يقوله البعض
(1) .
ثم جاء الإباضية بعد ذلك ، فسنحت لهم الفرصة لتنظيم عقائدهم ، وفقههم أكثر من غيرهم من فرق (الخوارج).
وتوضيحاً لذلك نقول : إن من يلاحظ الأحداث التاريخية ، والاحتجاجات المتبادلة في الصدر الأول ، يجد :
أمر (الخوارج) قد بدأ من خلال فهمهم الخاطىء ـ لو أحسنا الظن بهم ـ لمسألة بعينها ، هي قضية التحكيم ، وكان المفروض أن يقتصر خلافهم واختلافهم على هذه القضية بالذات ، ولكن رأينا أنهم فيما بعد ازدادوا بعداً عن المسار العام ، وصارت تظهر لهم أقاويل في العديد من المسائل.
والدارس لحال هذه الفئة يلاحظ أنهم كانوا يعتمدون على فهمهم
---------------------------
(1) فجر الإسلام ص259.