إخوان صدق أرجيهم وأخذلهم أشكوا إلى الله خذلاني لأصحابي (1)
  وقال زيد بن جندب في الاختلاف الذي وقع بين الأزارقة :
  قل للمحلين قد قرت عيونكم بفرقة القوم والبغضاء والهرب
  كنا أناساً على دين ففرقنا طول الجدال وخلط الجد باللعب
  ما كان أغنى رجالاً ضل سعيهم عن الجدال وأغناهم عن الخطب
  إني لأهونكم في الأرض مضطرباً ما لي سوى فرسي والرمح من نشب (2)
  وحين حبسهم زياد بن أبيه ، قبلوا بأن يقتل بعضهم بعضاً ، مقابل أن يخرجهم زياد من السجن ، وهكذا كان ، ثم ندموا ، وأخذوا يبكون على ما فعلوه بإخوانهم ، ثم عرضوا الدية والقود على أولياء المقتولين ، فرفضوا (3) .
  هذا كله ... عدا عن طلبهم الأمان من أعدائهم ، واسترحامهم (4) .
  بل إن التحكم في صفين قد كان سببه أن الحرب طالت عليهم ، واشتد البأس ، وكثرت الجراح ، وحلا الكراع (5) .

---------------------------
(1) المصدر السابق.
(2) البيان والتبيين ج1 ص42 وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص205 والكامل في الأدب ج3 ص394 ونسب الأبيات فيه إلى الصلت بن مرة.
(3) الكامل في التاريخ ج3 ص516/517 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج3 ص144 وراجع : العقود الفضية ص108/109 لكنه زعم أن زياداً قد سجن الأحرار والموالي ، ثم فتن بينهم فقتل الأحرار الموالي.
(3) مع وجود الفتنة لابد من حصول القتل في الطرفين لا في جانب واحد.
(4) راجع : الخوارج في العصر العباسي ص22 و123 و285 ونقل أيضاً الكامل في التاريخ ، ج3 ص417 و418.
(5) راجع : بهج الصباغة ج7 ص161 عن ابن ديزيل في صفين ، وتقدمت مصادر أخرى لذلك في بعض


الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 152 _

  وحين نادى الحجاج في أصحاب شبيب : (من جاء منكم فهو آمن ...) كان كل من ليست له بصيرة في دين (الخوارج) ممن هزّه القتال وكرهه ذلك اليوم يجيء فيؤمّن.
  وقبل ذلك كان الحجاج نادى يوم هزم شبيب : (من جاءنا فهو آمن ، فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه) (1) .

شهرة فرار (الخوارج) في الحروب :
  وفي بعض المواقع طلب عمرو القنا من أصحابه أن لا يترجلوا ، ولا يعقروا دوابهم فقالوا له : (إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار) (2) .
  وفرارهم في المواقف الصعبة مشهور عنهم (3) .
  وقد قيل فيهم : إنهم إذا ولّوا فقد ولّوا ، وليس لهم بعد الفرّ كرّ إلا ما لا يعد (4) .
  مع أن الفرار عندهم يوجب الكفر.
  وقد قال البهلول الشيباني يحمس المتخاذلين الخائفين من الموت منهم بقوله :
  فلا التقدم في الهيجاء يعجلني ولا الحذار ينجيني من الأجل

---------------------------
(1) شرح النهج للمعتزلي ج4 ص272 وتاريخ الأمم والملوك ج6 ص277 ط دار المعارف بمصر.
(2) الكامل في الأدب ج3 ص402.
(3) راجع : الكامل في الأدب ، ج3 ص185 و337 و364 و365 و343 و348 و325 و396 و402 و330 و331 و335 والعقود الفضية ص220 والأغاني ط ساسي ج20 ص109و113 والبرصان والعرجان ص176 والعقد الفريد ج1 ص220و221 وشرح النهج للمعتزلي ج5 ص101و121 وج4 ص271و166 والخوارج والشيعة ص96 و101.
(4) الحيوان للجاحظ ، ص41 ـ 46.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 153 _

  وكان أصحاب قطري بن الفجاءة يخشون أن يلبسهم العار من كثرة هروبه من وجه المهلب ، حتى خاطبه أحدهم بقوله :
  أيا قطري الخير إن كنت هارباً ستلبسها عاراً وأنت مهاجر
  إذا قيل : قد جاء المهلب أسلمت له شفتاك الفم والقلب طائر
  فحتى متى هذا الفرار مخافة وأنت وولي الهلب كافر (1)
  وقد تقدمت أبيات زيد بن جندب وفيها :
  قل للمحلين : قد قرت عيونكم بفرقة القوم والبغضاء والهرب وتقدم بعض شعر عمرو بن الحصين وغيره في ذلك.
  العدة والعدد لدى (الخوارج) :
  ونحن لا ننكر ظهور بعض نفحات الشجاعة فيهم ، وأنهم قد حققوا أحياناً بعض الانتصارات ، بسبب إقدامهم ، ونكول خصومهم عنهم ، وهي أمور طبيعية ، ولها أسبابها الموضوعية والمعقولة ، خصوصاً في حالات تبييت العدو ، مع عدم وجود دوافع قوية لدى الناس لحربهم لأكثر من سبب كما سنرى.
  نعم ... إننا لا ننكر ذلك ، غير أننا نقول إن (الخوارج) كانوا يخفقون في تحقيق النصر حتى وهم يملكون مقوماته من العدة والعدد ، فقد أظهر تاريخهم : أنهم كانوا يحصلون على الأموال اللازمة من جباياتهم للبلاد التي كانوا يسيطرون عليها (2) .

---------------------------
(1) الخوارج في العصر الأموي ص275.
(2) راجع : الكامل للمبرد ـ الجزء الثالث ص239 وغيرها.


الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 154 _

  وتقدم : أن الجاحظ يذكر : أن قطري بن فجاءة كان يشتري السيف بعشرين ألف درهم.
  ومما يشير إلى : حسن استعدادهم ، وتوفر مقومات العمل العسكري الذي من شأنه أن يحقق لهم انتصارات قوية ، قول المؤرخين عن حرب المهلب وقطري بن الفجاءة :( فخرج إليهم المهلب ، فلما أحسّ به قطري يمم نحو كرمان ، فأقام المهلب بالأهواز ، ثم كرّ قطري عليه ، وقد استعد ، فكان (الخوارج) في جميع حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم ، بكثرة السلاح ، وكثرة الدواب ، وحصانة الجُنَنِ ، فحاربهم المهلب ، فنفاهم إلى رام هرمز) (1) .
  فترى : أنهم رغم كونهم أحسن عدة ، فإنهم لم يتمكنوا من تحقيق النصر ، بل كانت الهزيمة من نصيبهم.
  وفي مورد آخر : شخص إليهم عمر بن عبيد الله إلى أرجان ، وكان عليهم الزبير بن علي السليطي ، فقاتلهم ، وألح عليهم حتى أخرجهم عنها ، فألحقهم بأصبهان ، فجمعوا له ، وأعدوا واستعدوا ثم أتوا سابور ، فسار إليهم عمر بن عبيد الله ، فقاتلهم ، وهزمهم أيضاً (2) ، ثم لقيهم مرة أخرى فهزمهم كذلك.
  وهذا ما يجعلنا نبحث عن أسباب تلك النفحات في غير هذا الاتجاه ، فما هي يا ترى :

---------------------------
(1) الكامل في الأدب ج3 ص347و348.
(2) راجع : الكامل في الأدب ج3 ص335 ـ 337.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 155 _

اسباب بعض نفحات الشجاعة فيهم :
  ونستطيع أن نذكر من أسباب ذلك :
  1 ـ أنهم كانوا يخوضون حروبهم غالباً على قاعدة اضرب واهرب ، فكانوا يباغتون عدوهم ـ خصوصاً بالليل ، وهو ما يسمونه بالبيات ، فيضربون ضربتهم ، ثم ينحسرون عن ساحة القتال ، بل عن المنطقة كلها بسرعة ، فائقة قبل أن يتمكن عدوهم من التقاط أنفاسه ، وإعادة تنظيم صفوفه ، هذا بالإضافة إلى ما كانوا يقومون به من عمليات اغتيال مؤثرة (1) تثير الفزع والخوف لدى عامة الناس.
  بل لقد أطلقوا على المهلب لقب الساحر (2) ، حين رأوا أنه قد أفشل بحذره وتدبيره خططهم ، ولم يقع في مأزق البيات ، وجعلهم غير قادرين على تحقيق نصر يذكر ، إذن فلم يكن لهم انتصارات كبيرة ، يمكن نسبتها إلى تأثير عنصر الشجاعة فيهم ، بل كانوا يمنون بالهزائم المتتالية ، كما تقدمت الإشارة إليه في الأشعار التي يخاطب فيها ذلك الرجل قطري بن فجاءة ، وكما تدل عليه الوقائع التاريخية ، التي تظهر هزائمهم المتتالية في مقابل المهلب ، وفي مقابل عمر بن عبيد الله ، وغير ذلك.
  2 ـ قد كانت هناك اتهامات متبادلة ، فيما بين أجهزة السلطة التي تحارب (الخوارج) تتمحور حول أمر واحد ، وهو أن يكون ثمة تعمد لمطاولتهم في الحرب من قبل قادة الحرب باعتبار أن قتالهم اصبح سبباً للشهرة ، وللحصول على المال.

---------------------------
(1) راجع : كتاب الحيوان للجاحظ ج1 ص41 فما بعدها.
(2) الكامل للمبرد ج3 ص351 وفيه : لأنهم كانوا يدبرون الأمر ، فيجدونه قد سبق إلى نقض تدبيرهم ـ وراجع ص341.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 156 _

  وقد قال عبد بن صبح للمهلب حين وجه ولده المغيرة إلى قتالهم فارس : (أيها الأمير ، إنه ليس برأي قتل هذه الأكلب ، والله ، لإن قتلتهم لتقعدن في بيتك ، ولكن طاولهم ، وكُلْ بهم ...) (1) .
  وكان الحجاج يتهم المهلب بن أبي صفرة بذلك ، فقد كتب إليه يقول له :
  (إنك لتحب بقاءهم لتأكل بهم) (2) .
  وكتب إليه أيضاً : (ولكنك اتخذت أكلاً ، وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم) (3) .
  ويمكن تأييد هذه الحقيقة بما يظهره التاريخ من حسد ، ومن منافسات (4) على مقام تولي قتالهم ، ليفوز بالمقام وبالسمعة ، وبالموقع ، وما إلى ذلك ... فراجع.
  3 ـ قد كانت هناك جماعات يتم إجبارها على قتال (الخوارج) ، دون أن يكون لديها قناعة في حرب كهذه ، لأن (الخوارج) كانوا يرفعون شعار الاعتراض على الحكام في ظلمهم للناس ، وجورهم ، ومخالفاتهم لأحكام الدين ، ويتظاهر (الخوارج) بالعبادة والزهد ، والعزوف عن الدنيا ، ويركزون على هذه النواحي في أشعارهم وخطبهم ، ومجادلاتهم ، فكان لذلك تأثيره في بعض الناس ، من حيث إنه يقلل من حدة الاندفاع إلى قتالهم ، بل هو يثير في الكثيرين ميلاً إلى مسالمتهم ، بل والإنضواء تحت لوائهم ،

---------------------------
(1) الكامل في الأدب ج3 ص365.
(2) الكامل في الأدب ج3 ص373.
(3) الكامل في الادب ج3 ص377.
(4) راجع : الكامل في الأدب ج3 ص353و358و359 وراجع أيضاً ، ص 362 و363 و364 ففيها نصوص تدل على ذلك.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 157 _

  لحرب الأمويين ، ومن شواهد ذلك أن أحد زعماء (الخوارج) وهو عبد الله بن يحيى : (رأى في اليمن جوراً ظاهراً ، وعسفاً شديداً وسيرة في الناس قبيحة ... فجمع أصحابه وبادر إلى محاربة الحاكمين) (1) .
  4 ـ إن الناس لا يرون في الأمويين وفي غيرهم من الحكام باستثناء علي (عليه السلام) وأهل بيته من وما يستحق التضحية معه بالنفس ، ولا يجدون ريح الشهادة في حربهم للخوارج ، والتعرض لسيوفهم. فلا توجد دوافع قوية ولا حتى ضعيفة لدى الكثيرين في هذا الاتجاه.
  5 ـ قد عرف عن (الخوارج) عدم مبالاتهم بما يرتكبونه من جرائم ، وإنه ليس لديهم ما يحدّ من اندفاعهم في هذا الاتجاه ، بل تجدهم قد حاولوا تشريع ذلك ، وتأصيل أصول عقيدية من شأنها أن تحتم عليهم التعاطي بهذا المستوى من العنف ، وتسهّل عليهم سفك الدماء ، دون أن يكون لديهم أية روادع إيمانية أو إنسانية ، أو وجدانية وضميرية ، بل هم يرون أن تنكيلهم بخصومهم حتى بالنساء والأطفال عبادة يثابون عليها ، وتدخلهم الجنة بزعمهم.
  وعلى كل حال : فإن نظرة فاحصة لمنطلقاتهم الفكرية تعطي أنهم لا يملكون أية ثوابت تحدد لهم اتجاه مسيرة تعاملهم مع الآخرين ، بل هي مجرد لمعات تطلقها مشاعر من الهوى والعصبية ، تنضح بالجهل ، وتتسم بالارتجال ، وتفيض بالجفاء والغلظة ، وتتسربل بالبداوة والأعرابية ، فيرتكبون جرائمهم ، باندفاع ، ويتظاهرون بالرضا ، وبالاقتناع بذلك ، وأما الذين يحاربون (الخوارج) فهم في غالبيتهم من عامة الناس

---------------------------
(1) الأغاني ط ساسي ج20 ص97 وج6 ص149 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص106.


الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 158 _

  العاديين الذين يريدون التصدي لحربهم ، فتحكم حركتهم المبادئ ، وقيم أخلاقية ، وإنسانية ، وتكليف شرعي ، وقيود وحدود.
  وعلى الأقل لم تصبح الجريمة هي القيمة لديهم ، وهي الفرض الشرعي عليهم ، وإن كان حكامهم الذين يسوقونهم لهذه الحرب عتاةً وطغاةً وجبارين ، لا يرجعون إلى دين ، ولا ينطلقون من ضمير أو وجدان.
  ومن الطبيعي أن تكون حركة هذا النوع من الناس محدودة.
  وهم حتى لو طلب منهم حكامهم ممارسة هذا النوع من الجريمة ، فسيجدون في أنفسهم الكثير من الحرج والتردد في امتثال الأوامر التي يصدرونها إليهم.
  وحين تدور رحى حرب بين فريقين ، لهما هذه النظرة المختلفة ، فإن الفريق الأول سيكون جارحاً ومؤثراً في الفريق الثاني نفسياً وروحياً ، حتى على صعيد الانطلاق في حركة المواجهة على أرض الواقع.
  وقد أشار المهلب إلى هذا الأمر حين خطب أصحابه محرضاً لهم على قتال عدوهم ، فقال : (قد عرفتم مذهب هؤلاء (الخوارج) ، إنهم وإن قدروا عليكم فتنوكم دينكم وسفكوا دماءكم) (1) .
  ويتعمق الشعور بالعقدة لدى هذا الفريق الثاني ، حين يفرض عليه أن يحارب إخوانه ، وابناء عشيرته ، وقومه ، ولن يجد في نفسه ذلك الاندفاع القوي نحو ذلك.
  أما الفريق الآخر ، فهو قد تجاوز موضوع النسب والعشيرة ، حين انساق وراء تصورات اعتبرها عقيدة لنفسه ،

---------------------------
(1) الكامل في الأدب ج3 ص315.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 159 _

  فرضت عليه الحكم بكفر الطرف الآخر ، ولزوم التخلص منه.
  ومما يشير إلى وجود العقدة العشائرية : ما ذكره المبرد من أن (الخوارج) قاتلوا خصومهم يوماً إلى الليل ، دون كلل أو ملل ، ثم قالوا : من أنتم ؟!
  قالوا : تميم.
  قالت (الخوارج) : ونحن بنو تميم.
  فلما امسوا افترقوا.
  وفي اليوم التالي تقاتل فريقان حتى اعتموا ، فقالت (الخوارج) : ارجعوا.
  فقالوا : بل ارجعوا أنتم.
  فقالوا : ويلكم من أنتم ؟
  فقالوا : تميم.
  قالوا : ونحن تميم (1) .
  6 ـ إن (الخوارج) كانوا ـ في الأكثر ـ من القبائل العراقية ، التي تعتبر رابطة الدم هي الأقوى ، وكان الحجاج ، وغيره من الحكام يمارسون ضغوطاً على الناس ليدفعوهم إلى حرب إخوانهم ...
  يضاف إلى ذلك : عوامل أخرى كانت تفرض عليهم هذه الحرب ، مثل دفع شرهم. أو لأجل الحفاظ على تجارتهم ، وزراعتهم ، أو تزلفاً وطمعاً ، وقليلون جداً أولئك الذين كانوا يحاربونهم تديناً ، أو إيماناً

---------------------------
(1) راجع : الكامل للمبرد ، ج3 ص375 و376.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 160 _

  بلزوم تثبيت العرش الأموي.
  ومما يشهد لما ذكرناه : النصوص الدالة على أن قتال أهل البصرة لهم ، ومساعدة التجار للمهلب بالأموال قد كان بهدف الحفاظ على تجارتهم ، بسبب انقطاع مواد الأهواز وفارس ، فراجع (1) .
  وقد كان اندفاعهم أحياناً لحرب (الخوارج) ، بسبب الخوف منهم كما هو الحال في عهد يزيد ، وابن الزبير (2) .
  وشاهد آخر : وهو أننا نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) ، يقول لهم : (أفتذهبون إلى معاوية ، وأهل الشام ، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في دياركم وأموالكم ؟!) (3) .
  وإن كنا نجد نصاً آخر يفيد : أنه (عليه السلام) يرى قتال معاوية أهم فقد جاء عنه (عليه السلام) أنه قال : (بلغني قولكم : لو أن أمير المؤمنين سار بنا إلى هذه الخارجة التي خرجت علينا ، فبدأنا بهم ، إلا أن غير هذه الخارجة أهم على أمير المؤمنين ،سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا في الأرض جبارين ملوكاً ، ويتخذهم المؤمنون أرباباً ، ويتخذون عباد الله خولاً ، ودعوا ذكر (الخوارج) ، قال : فنادى الناس الخ ...) (4) .

---------------------------
(1) راجع على سبيل المثال : الكامل للمبرد ج3 ص312و313 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص146و181.
(2) الأخبار الطوال ص270و271.
(3) المصنف ج3 ص148 ، والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص170 عن صحيح مسلم ، وتيسير المطالب في آمالي الإمام أبي طالب ص35 ، وكنز العمال ج11 ص280 ورمز إليه بـ [عب ، ما ، وخشيش ، وأبو عوانة ، وابن أبي عاصم ، ق].
(4) الإمامة والسياسة ج1 ص145.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 161 _

  ونقول :
  لعل هذا القول منه (عليه السلام) قد كان بعد قتل (الخوارج) في النهروان ، ولم يعد للخوارج أي شأن ، وصاروا يخرجون على شكل شراذم ضعيفة ، وغير قادرة على تحقيق نصر يذكر ، وبإمكانهم دفعها بأعداد يسيرة ... فكان الناس يتخذون ذلك ذريعة للتهرب من التوجه لما هو أهم ، وخطره أعظم ، ولكنهم حينما نجم قرن الشيطان ، وظهر (الخوارج) ، وصاروا يفسدون في الأرض ... حاول أهل الكوفة أن يحسموا أمرهم ، ويدفعوا غائلتهم ، فكان أهل الكوفة يصرون على أمير المؤمنين (عليه السلام) بالبدأة بـ(الخوارج) ، لأنهم لا يستطيعون أن يسيروا إلى حرب معاوية ، ويبقى هؤلاء بين أظهرهم.
  يقول النص التاريخي : (فقام إليه الناس ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، علام تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا ، سر بنا إلى القوم ، فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدونا من أهل الشرك الخ ...) (1) .
  وعند الدنيوري : (أتدع هؤلاء على ضلالتهم ، وتسير ، فيفسدوا في الأرض ، ويعترضوا الناس بالسيف ؟! سر إليهم بالناس ، فإن تابوا وقبلوا ، فإن الله يحب التوابين ، وإن أبوا فأذنهم بالحرب ، فإذا أرحت الأمة منهم سرت إلى الشام) (2) .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج4 ص61 ، وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج2 ص368 ، وراجع : تاريخ ابن خلدون ج2 ـ قسم2 ص180 ، والبداية والنهاية ج7 ص288 ، والفخري في الآداب السلطانية ص94 ، والكامل لابن الأثبر ج3 ص342 وراجع ص340 ، والفصول المهمة لابن الصباغ ص91و90 ، والإمامة والسياسة ج1 ص147.
(2) الأخبار الطوال ص207.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 162 _

  فإن هذا الكلام قد كان في بداية ظهور (الخوارج) ، وقتلهم بن خباب ، وإفسادهم في الأرض ، كما قلنا.

الشجاعة واليأس :
  وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن سرّ إقدام ابن وهب الراسبي على طلب مبارزته مع علمه أن من يبارز أمير المؤمنين لن يكون مصيره سوى البوار والفناء هو أحد الأمرين :
  1 ـ يأس من الحياة حين لابد من مواجهة الموت في ساحات القتال.
  2 ـ أو أنه كان يطمع طمعاً كاذباً ، حيث منّته نفسه أمراً يستحيل عليه تحقيقه ، وهو أن ينتصر على أمير المؤمنين (عليه السلام).
  فإنه (عليه السلام) حينما طلب منه الراسبي البراز : تبسّم ثم قال : (قاتله الله من رجل ما أقل حياءه! أما أنه ليعلم : أني حليف السيف ، وحديل الرمح ، ولكنه أيس من الحياة ، أو لعله يطمع طمعاً كاذباً) (1) .
  وربما يكون هذا أيضاً : هو حال الخارجين على حكومات الجبابرة ، فإما هم يطمعون بالنصر ... أو أنهم لابد لهم من مواجهة الموت ، لأن أولئك الحكام لن يتركوهم وشأنهم ، بل لابد أن يقتلوهم ، إما في معركة أو بدونها.
  وقد قال المهلب بن أبي صفرة لأصحابه وهو يحذرهم من (الخوارج) : ( ... فإن القوم خائفون وجلون ، والضرورة تفتح باب الحيلة) (2) .

---------------------------
(1) الفتوح لابن أعثم ج4 ص132 ، وشرح النهج للمعتزلي ، وكشف الغمة ج1 ص267.
(2) الكامل في الأدب ج3 ص315.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 163 _

  الباب الثامن
  ذلك مبلغهم من العلم

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 165 _

  الفصل الأول
  الجهل ... والعلم

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 167 _

الجهل والجفاء :
  لا ريب في أن (الخوارج) كانوا يعانون من الجهل الذريع ، ومن السفاهة القاتلة ما يفوق حد الوصف ، وكانوا في الأكثر اعراباً جفاةً ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ونذكر من شواهد ذلك ما يلي :
  1 ـ إن أبا حمزة حينما دخل المدينة في سنة130ه. (بلغه : أن أهل المدينة يعيبون أصحابه ، لحداثة أسنانهم ، وخفة أحلامهم) (1) فقام خطيباً في أهل المدينة ، فكان مما قال : (يا أهل المدينة ، بلغني أنكم قلتم ، تتنقصون أصحابي : شباب أحداث ، وأعراب جفاة ، ويلكم إلخ ...)(2) .

---------------------------
(1) الأغاني ج20 ص105 والعقود الفضية ص209 وراجع ص215.
(2) الكامل في التاريخ ج5 ص390 وتاريخ الأمم والملوك ج6 ص59 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص115 وراجع ص119 وج2 ص267 والأغاني ـ ط ساسي ج20 ص104و105و107 ونهج البلاغة ج1 ص83 والعقود الفضية ص207 والعقد الفريد ج4 ص144 والبيان والتبيين ج2 ص124 ، ولم يذكر : أنهم عيروه بأصحابه شباب إلخ ...

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 168 _

  2 ـ وعن علي (عليه السلام) : ( ... وأنتم معاشر أخفاء (صغار خ. ل) الهام ، سفهاء الأحلام) (1) .
  وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً قوله : (يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام)(2) .
  ومن المضحك : أنهم قد رووا عكس ذلك أيضاً عن النبي (صلى الله عليه وآله) : فقد روي أنه جاءته صدقة بني تميم ، فقال : هذه صدقة قومي ، وسمعته يقول : (ضخم الهام ، رجح الأحلام ، وأشد على الرجال في آخر الزمان) (3) .
  ولاريب في أن هذا الحديث فيه تحريف ووضع ، وأخلق به أن يكون قد وضع من قبل (الخوارج) ، الذين عرف عنهم : أنهم إذا احبوا أمراً صيروه حديثاً ، كما سنرى.
  ومن الواضح : ان بني تميم ليسوا هم قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا ميزة لهم من حيث القرابة عن غيرهم من سائر قبائل العرب ...
  كما أن اللافت هنا هو : أن أكثر (الخوارج) الأولين قد كانوا من بني تميم ، فوضعت هذه الرواية على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) في مدحهم!!
  ويلاحظ : أنها قد جاءت على نسق العبارة المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) ،

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج4 ص63 والكامل في التاريخ ج3 ص344 والمصنف للصنعاني ج10 ص157 ومنحة المعبود ج2 ص185 ومسند الطيالسي ص24 والفصول المهمة لابن الصباغ ص92 ونهج البلاغة بشرح محمد عبده ، الخطبة رقم 35 وبهج الصباغة ج3 ص110 عن الطبري ـ والموفقيات ص327 ونور الأبصار ص102.
(2) خصائص الإمام علي (عليه السلام) للنسائي ص140 وسنن أبي داود ج4 ص244 والسنن الكبرى ج8 ص170 ومستدرك الوسائل ج2 ص148 ومسند أحمد ج4 ص357 والبداية والنهاية ج7 ص290.
(3) البرصان والعرجان ص309 وقال في هامشه : أنظر صحيح مسلم 1957.


الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 169 _

  وعن علي (عليه السلام) في ذمهم ، وهي الرواية المتقدمة.
  3 ـ قال رجل من أصحاب أمير المؤمنين لعبد الله بن وهب الراسبي ، زعيم خوارج النهروان : (أنت ـ والله ـ ما فهمت في دين الله ساعة قط ، وما زلت جلفاً جافياً مذ كنت) (1) .
  4 ـ قال الحسن البصري : (العامل على غير علم كالسالك على غير طريق ، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح ، فاطلبوا العلم طلباً لا تضروا بالعبادة ، واطلبوا العبادة طلباً لا تضروا بالعلم ، فإن قوماً طلبوا العبادة ، وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد.
  ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا) (2) ، يريد بذلك (الخوارج).
  5 ـ وحينما أرسل علي بن عبد الله بن العباس دعاته ، وصف لهم البلاد ، فكان مما قاله لهم : ( ... وأما الجزيرة فحرورية مارقة ، وأعراب كاعلاج ، ومسلمون أخلاقهم كأخلاق النصارى) (3) .
  ونظير ذلك ورد عن الأصمعي أيضاً ، فراجع (4) .

---------------------------
(1) الفتوح لابن أعثم ج4 ص126.
(2) جامع بيان العلم ج1 ص165.
(3) معجم البلدان لياقوت ج2 ص352 وأحسن التقاسيم ص293 وعيون الأخبار لابن قتيبة ج1 ص204 والسيادة العربية ، والشيعة والإسرائيليات ص93 والحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج1 ص102.
(4) روض الأخيار ص67 ، والعقد الفريد ج6 ص248.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 170 _

  6 ـ وما أحسن ما وصفهم به رئيس معتزلة بغداد ، بشر بن المعتمر ، حيث ذكر خلوهم من العلم والفهم ، وذكر حرقوص بن زهير ، أحد زعمائهم ، المقتول في النهروان ، فقال :
  ما كان من أسلافهم أبو الحسن ولا ابن عباس ولا أهل السنن
  غر مصابيح الدجى مناجب أولئك الأعلام لا الأعارب
  كمثل حرقوص ، ومن حرقوص ؟ فقعة قاع حولها قصيص
  ليس من الحنظل يشتار العسل ولا من البحور يصطاد الورل
  هيهات ما سافلة كعالية ما معدن الحكمة أهل البادية (1)
  الفقعة : الرخو من الكمأة. والقصيص : شجر تنبت الكمأة في أصلها.
  7 ـ وقال لهم عمر بن عبد العزيز : (فاتقوا الله ، فأنتم جهال ، تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وتردون عليهم ما قبل ، ويأمن عندكم من خاف ، ويخاف عندكم من امن عنده ، وشهد إلخ ...)(2) .
  8 ـ وفي حرب شيبان الخارجي مع مروان يقول النص التاريخي : (فصبر معه جماعة من الأعراب ، فلحقوا بأهاليهم) (3) .
  9 ـ وقال الحسن البصري في كلام له عن العلم ، ويشير به إلى (الخوارج) : (إن قوماً طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد ، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا) (4) .

---------------------------
(1) الحيوان للجاحظ ج6 ص455.
(2) العيون والحدائق ص46 ومروج الذهب ج3 ص192.
(3) المصدر السابق ص162.
(4) جامع بيان العلم ج 1 ص165.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 171 _

  وقد أشار عدد من المؤلفين والمؤرخين إلى ما كان عليه (الخوارج) من البداوة والجهل والجفاء ، فراجع ... (1) .
  قصم ظهري اثنان :
  وهؤلاء هم الجهال المتنسكون ، الذين قال عنهم أمير المؤمنين (عليه السلام) : (قصم ظهري اثنان عالم متهتك ، وجاهل متنسك) (2) .
  وقد ابتلى بهم أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد كانت الضربة التي تلقاها (صلوات الله وسلامه عليه) من هؤلاء الجهال المتنسكين ، الذين كانوا يرون أنفسهم أعلم من باب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله) ، أشد وأقوى من كل الضربات ، فلو أنهم لم يقفوا ذلك الموقف البغيض في صفين وبعدها ، وتركوا الأمور تجري على حسب ما يريده (عليه السلام) ، لتغير وجه التاريخ ، ولربما كان قد عم الإسلام العالم ، ولم يكن قد بقي ثمة مبرر لمهادنة الإمام الحسن (عليه السلام) لمعاوية ، ثم استشهاده ، ولا كان ثمة أثرٍ لفاجعة كربلاء ، ولا لغير ذلك من مصائب ورزايا تعرضت لها الأمة الإسلامية ، والبشرية جمعاء ، حيث إنها لم تكن لتوجد من الأساس.
  نعم ... لقد كان هذا الجهل المركب ، واعتقادهم أنهم أعلم من أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ومعه تظاهرهم بالنسك والزهد ، من أشد المصائب وأنكاها ... قال ابن الجوزي :

---------------------------
(1) راجع : تاريخ ابن خلدون ج3 ص165 وفجر الإسلام ص259و361 وضحى الإسلام ج3 ص332 وبعدها وتاريخ المذاهب الإسلامية ص68/69 والخوارج في الإسلام لعمر أبي النصر ص18 وقضايا في التاريخ الإسلامي ص37 عن تاريخ الأمم والملوك ج5 ص516.
(2) البحار ج2 ص111و106 وج1 ص208 وميزان الحكمة ج6 ص509.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 172 _

( ... وقد كانت الخوارج تتعبد ، إلا أن اعتقادهم : أنهم أعلم من علي بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، وهذا مرض صعب) (1) .
  وقال : ( ... ولا أعجب من اقتناع هؤلاء بعلمهم ، واعتقادهم أنهم أعلم من علي (رضي الله عنه)) (2) .
  (الخوارج) ... يرجعون إلى تلامذة علي (عليه السلام) :
  وبعد ... فإن الكل كانوا يعرفون : أن أهل البيت (عليهم السلام) هم معدن العلم ، وموضع الرسالة ... والكل يعلم ايضاً اختصاص ابن عباس بعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ومشاركته له في حروبه ، [حتى حروب النهروان ضد الخوارج] ودفاعه عن قضاياه ، وكونه علوياً بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، وقد أحس (الخوارج) بحاجتهم إلى الإلمام بشيء من الأحكام ، إذ لم يعد جائزاً لهم هذا الاستغراق في ظلمات الجهل حتى بأبده البديهيات ، وهم يدعون : أنهم يحاربون الأمويين بدوافع دينية ، فلم يجدوا أمامهم سوى ذلك الذي كرهوه ، وحاربوه ، وشيعته وأولياءه فلجأوا إليهم في ذلك ، ولذلك نلاحظ أن نجدة الحروري الخارجي كان يسأل ابن عباس عن مسائل أشكلت عليه ، ويعتمد على إجابته فيها ...
  فقد روى يزيد بن هرمز ، قال : كتب نجدة بن عامر إلى ابن عباس يسأله عن أشياء ، فشهدت ابن عباس حين قرأ كتابه ، وحين كتب جوابه ، فقال ابن عباس : لولا أرده عن شر يقع فيه ، ما كتبت إليه ، ولا نعمة عين.

---------------------------
(1) تلبيس إبليس ـ ص93.
(2) تلبيس إبليس ص95.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 173 _

  قال : فكتب إليه :
  إنك تسألني عن سهم ذوي القربى الذي ذكر الله عز وجل من هم؟ وإنا كنا نرى قرابة رسول الله هم ، فأبى ذلك علينا قومنا.
  وساله عن اليتيم متى ينقضي يتمه ، وأنه إذا بلغ النكاح ، وأونس منه رشد دفع ماله ، وقد انقضى يتمه.
  وسأله هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقتل من صبيان المشركين أحداً ، فقال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يقتل منهم أحداً ، وأنت فلا تقتل ، إلا أن تكون تعلم ما علم الخضر من الغلام الذي قتله.
  وسأله عن المرأة والعبد ، هل كان لهما سهم معلوم إذا حضروا الباس ، وأنه لم يكن لهم سهم معلوم ، إلا أن يجزن من غنائم المسلمين (1) .
  وحسب نص البلاذري عن عبد الله بن هرمز قال : كنت كاتب عبد الله بن عباس إلى نجدة ، وكتب إليه يسأله عن النساء ، هل كنّ يحضرن الحرب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ وهل كان يضرب لهن بسهم ؟! وهل كان للعبد في المغنم سهم ؟ ومتى كان يضرب للصبي ؟ ويسأله عن سهم ذوي القربى.
  فكتب إليه : أن النساء كن يحضرن الحرب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فيرضخ لهن بسهم ، وأنه لا سهم للعبد في المغنم ، وانه كان لا يضرب للصبي بسهم حتى يحتلم ، وأن عمر بن الخطاب عرض عليه أن يزوج

---------------------------
(1) مسند أحمد ج1 ص248/249 وج4 ص83 ومجمع الزوائد ج5 ص341 وسنن النسائي ج2 ص179 والخراج لأبي يوسف ص24 ـ 25 والأموال لأبي عبيد ص463 وجامع البيان ج15 ص6 وأحكام القرآن للجصاص ص62و60 والسنن الكبرى ج6 ص342و343 وسنن أبي داود بيان مواضع الخمس وشرح النهج للمعتزلي ج12 ص212 ولسان الميزان ج6 ص148 ...

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 174 _

  من سهم ذوي القربى أيمنا ، ويقضي عن غارمنا ، فأبينا إلا أن يسلمه إلينا ، وأبى ذلك علينا (1) .
  وروى أبو الفرج الأصفهاني بسنده عن عمر الركاء قال : (بينما ابن عباس في المسجد الحرام ، وعنده نافع بن الأزرق ، وناس من (الخوارج) ، يسألونه ، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين مورّدين ، أو ممصّرين حتى دخل وجلس ، فأقبل عليه ابن عباس ، فقال : أنشدنا ، فأنشده :
  أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر غداة غدٍ أو رائح فمهجر
  حتى أتى على آخرها ، فأقبل عليه نافع بن الأزرق ، فقال : الله يا ابن عباس ، إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام ، فتتثاقل عنا ، ويأتيك مترف من مترفي قريش ، فينشدك : إلخ ...) (2) .
  قال المبرد : (وكان نافع بن الأزرق ينتجع عبد الله بن العباس ، فيسأله ، فله عنه مسائل من القرآن وغيره ، قد رجع إليه في تفسيرها ، فقبله وانتحله ، ثم غلبت عليه الشقوة) (3) .
  ثم ذكر المبرد شطراً من تلك المسائل ، فراجع.
  وروي : أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس في آية (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) ? فقال ابن عباس :

---------------------------
(1) الأغاني ج1 ص34/35 والكامل في الأدب ج3 ص228و229.
(2) أنساب الأشراف ج1 ص517.
(3) الكامل في الأدب ج3 ص222.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 175 _

  هو الذي لا كفؤ له ، أي لا ينظر إلى النار برحمته ، وأهل الجنة ينظرون إليه في ثوابه ، وكرامته ورحمته ، ولا يرونه بأبصارهم (1) .
  وروى الزبيريون : أن نافعاً قال له : ما رأيت أروى منك قط ، فقال : ابن عباس : ما رأيت أروى من عمر ، ولا أعلم من علي (2) .
  ولعله إنما ذكر له عمر ليرضيه بذلك ، وإلا ، فإن عمر ، لم يكن معروفاً بالرواية فضلاً عن أن يكون أروى الناس.
  رواية (الخوارج) عن مسلمة أهل الكتاب :
  وقد ذكر الحارثي الإباضي : أن مسلم بن أبي كريمة ، المتوفى في خلافة ابي جعفر المنصور سنة 135هـ ، وثبت وجوده عام ثمانية وخمسين للهجرة (3) ، قال : (من لم يكن له أستاذ من الصحابة ، فليس هو على شيء من الدين ، وقد منّ الله علينا بعبد الله بن عباس بن عبد المطلب عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن سلام ، وهم الراسخون في العلم ، وعلى آثارهم اقتفينا ، وبقولهم اقتدينا ، وعلى سيرتهم اعتمدنا وعلى منهاجهم سلكنا) (4) .
  فهو يجعل عبد الله بن سلام من الراسخين في العلم ، الذين اقتفى (الخوارج) آثارهم.
  مع أن الراسخين في العلم هم خصوص الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، وحتى ابن عباس فإنه ليس منهم.

---------------------------
(1) الإباضية عقيدة ومذهباً ص105 عن الجامع الصحيح [للربيع بن حبيب] ج3 ص27 رقم 855.
(2) الكامل للمبرد ج3 ص230.
(3) راجع : العقود الفضية ص139.
(4) العقود الفضية ص140.