بالنسبة إلى تعاملهم مع بعضهم ، فضلاً عن تأثير ذلك في عقائدهم ، ومفاهيمهم ، وفكرهم ، وفقههم ، وأدبهم ، وغير ذلك ...
  فإلى ما يلي من مطالب ...

العمريون والخوارج :
  قد تقدم في بعض الفصول : أن الخوارج كانوا معجبين جداً بالخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، وكانوا يعظمونه أشد التعظيم ، وقد أعلنوا في النهروان لعلي وأصحابه بالقول : لسنا متابعيكم أو تأتونا بمثل عمر بن الخطاب ...
  ولعل هذا القول قد صدر من عرب الخوارج. الذين نالوا في عهد عمر ما لم يكن يخطر لهم على بال في مجال التفضيل على سائر القوميات ، والانتماءات ...
  وقد وجدوا في تاريخهم معه : أنه يأمر عامله على الكوفة بأن يقرب دار ابن ملجم من المسجد ، ليعلم الناس القرآن ... وابن ملجم هذا هو قاتل علي أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) ... فهو إذن يتعاطف مع هذا المبغض والحاقد على علي (عليه السلام) كما أن هذا الخليفة بالذات هو الذي هاجم علياً وزوجته ، فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأسقط جنينها ، وأهانها ، وضربها الأمر الذي انتهى باستشهادها (صلوات الله وسلامه عليه) ...
  فلا عجب بعد هذا إذا رأيناهم يتعاطفون مع ذرية عمر ، وتتعاطف ذرية عمر معهم ، حتى أن ولده عبد الله بن عمر كان يصلي خلف نجدة

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 127 _

  الحروري ، والحجاج ...
  وقد بايع أحد أحفاد عمر ، الضحاك بن قيس الخارجي ، وبقي والياً على واسط من قبل الضحاك هذا (1) .
  وقد مال عبد الله بن محمد [حفيد عبد الله بن عمر] ، وابن حفيد عمر بن الخطاب إلى الخوارج أيضاً (2) .
  فيا سبحان الله ـ ذرية بعضها من بعض!!
  تعقيب على سياسات عمر العنصرية :
  ومن المعلوم : أن عمر بن الخطاب قد انتهج سياسات خاصة تجاه غير العرب ...
  تتمثل في تفضيل العرب عليهم في مختلف الجهات ... ومنها العطاء ، والإرث ، والزواج ، والمناصب ، وحتى في الصلاة ، والعبادة ثم في تشييع جنائزهم بعد موتهم ... وما إلى ذلك ... وقد لاقت هذه السياسات رضى لدى العرب ، الذين أحبوا عمر لأجلها ، وانقادوا له واتخذوه مثلاً أعلى ، وأصبح قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع ، بل ويؤوّل الشرع والدين ليتوافق مع ما يريده عمر ، أو يميل إليه ...
  وقد أوضحنا هذه السياسات بصورة معقولة ومقبولة في كتابنا : (سلمان الفارسي في مواجهة التحدي) ، فليرجع إليه من أحب التفصيل.

---------------------------
(1) الخوارج والشيعة ص102.
(2) الخوارج والشيعة ص109 عن تاريخ الأمم والملوك ـ ط ليدن ج2 ص1012.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 128 _

  ولأجل هذه السياسات وما نشأ عنها رجحنا أن يكون الخوارج الذين أحبوا عمر ، وعظموه ، هم خصوص العرب منهم ... أكثر من الموالي ، الذين لم يكن لهم أي شأن في حكومة الذين سبقوا أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكانوا محرومين من أبسط حقوقهم.
  الخوارج عرب وموالي :
  ومهما يكن من أمر ... فإن ملاحظة تركيبة الخوارج تعطينا : أنهم كانوا في وقت ما خليطاً من الأعراب والموالي : (والموالي أشجع الخوارج ، وأشدهم جسارة) (1) ولعل ذلك يرجع إلى حالة نفسية نشأت عن معاملة الفاتحين والمتسلطين للموالي قبله (عليه الصلاة والسلام) ، حيث كانوا يحتقرونهم ، ويحرمونهم من أبسط الحقوق ...
  وعلى كل حال : فقد خرج أبو مريم على أمير المؤمنين (عليه السلام) (في أربع مئة من الموالي والعجم ، ليس فيهم من العرب إلا خمسة من بني سعد ، وأبو مريم سادسهم ، فقضى عليهم أمير المؤمنين ، ولم يسلم منهم سوى خمسين قد استأمنوا إليه ، وأربعين من جرحاهم ، داواهم أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأطلق سراحهم) (2) .
  بل لقد زعم اليزيدية ـ وهم شعبة من الإباضية ، كما يقال ـ : ( أن الله تعالى سيبعث رسولاً من العجم ، وينزل عليه كتاباً قد كتب في السماء ، وينزل عليه جملة واحدة ، ويترك شريعة المصطفى.
  وهم يتولون المحكمة الأولى ، والإباضية ، ويبرؤون من غيرهم من

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي ج2 ص262 وراجع : الكامل لابن الأثير ج3 ص373.
(2) أنساب الأشراف ـ بتحقيق المحمودي ج2 ص486 وراجع : البحار ـ ط قديم ج8 ص570 والكامل لابن الأثير ج3 ص373 ونسب قريش لمصعب الزبيري ص486.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 129 _

  الخوارج) (1) .
  عصبية العرب الخوارج ضد إخوانهم :
  ومراجعة التاريخ تعطينا : أنه قد كان بين هذين الفريقين من الخوارج ـ العرب والموالي ـ منافسة قوية ، وعصبية عرقية طاغية ، إلى درجة أنها تسببت بمشاكل كبيرة فيما بينهم.
  ويكفي أن نذكر : أن الحرب التي دارت بين قطري بن الفجاءة ومن معه من العرب من جهة ، وبين عبد ربه الصغير ، ومن معه من القراء ، وجلّهم من الموالي والعجم ، وكان منهم هناك ـ أي في مدينة (جيرفت) ثمانية آلاف ـ من جهة آخرى ...
  إن هذه الحرب قد أسفرت عن ألفي قتيل ، وانتهت بإخراج العجم للعرب من مدينة (جيرفت) ، وأقام عبد ربه بها ، كما سيأتي في ما يلي من فصول (2) .
  وقد يستفاد من بعض النصوص : أن عصبية العرب لجنسهم ، كانت أشد وأعمق ، وكانوا يحتقرون الموالي إلى درجة كبيرة (3) ، والظاهر أن سبب ذلك هو شدة تأثير سياسات الخليفة الثاني فيهم ، حيث كانوا يحترمونه ، ويقدرونه كثيراً كما قلنا.
  ومن شواهد ذلك ما روي من أن رجلاً من الموالي خطب امرأة

---------------------------
(1) الملل والنحل ج1 ص136 ومقالات الإسلاميين ج1 ص171 والفرق بين الفرق ص279 والحور العين ص175 وستأتي إنشاء الله مصادر أخرى.
(2) ستأتي مصادر عديدة لذلك ، وراجع : الكامل في الأدب ج3 ص393 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص204.
(3) راجع : فجر الإسلام ص262 أيضاً.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 130 _

  خارجية ، فقالوا لها : (فضحتن) (1) .
  وقد أنكر قطري بن الفجاءة أن يكون قد أفسد ابنه بشيء من هذه الأعاجم ، ومن هذه السبايا ، وقال مخاطباً جرموز المازني : "معاذ الله ، أمه الوجناء بنت الجبناء ...
  ثم قال : يا جرموز ، إن به العلامة التي بنا أهل البيت (يعني الوضح (2) .
  وربما تكون عبارته الأخيرة تشير إلى وجود شك في انتساب ولده إليه كما لا يخفى.

الهمج والرعاع في الخوارج :
  ومن جهة ثانية : فقد كان الخوارج حشوة ، ومن رعاع الناس ، ومن العبيد ...
  فقد قال جارية بن قدامة لأبي مريم : (ويحك ، أرضيت لنفسك أن تقتل مع هؤلاء العبيد ؟! والله ، لئن وجدوا ألم الحديد ليُسْلِمُنَّك) (3) .
  وحينما أخرج عبد ربه الصغير قطرياً من جيرفت ، وصار بإزائهم ، قال عبيدة بن هلال لقطري : (إن أقمت لم آمن ، هذه العبيد عليك) (4) .
  كما أن المهلب بن أبي صفرة ، الذي حارب الخوارج في عهد الزبيريين والأمويين على حد سواء ، قد ( دسّ الجواسيس إلى عسكر الخوارج ، فاتوه بأخبارهم ، ومن في عسكرهم ، فإذا حشوة (5) ما بين

---------------------------
(1) راجع : فجر الإسلام ص262 والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص69 عن مقالات الإسلاميين ج1 ص161و162 وفيه : أن ذلك هو سبب الخلاف الذي أحدثه نافع بن الأزرق.
(2) البرصان والعرجان ص67و68.
(3) أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص486.
(4) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص204 والكامل في الأدب ج3 ص293.
(5) الحشوة : رذال الناس.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 131 _

  قصّاب ، وصباغ ، وداعر ، وحداد ، فخطب المهلب الناس، فذكر لهم من هناك ، وقال للناس : أمثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم ؟( (1) .
  وقال المهلب لعسكره في خطبة له أيضاً : ( ... فألقوهم بجدٍّ وحد ، فإنما هم مهنتكم وعبيدكم ، وعار عليكم الخ ...) (2) .
  ولما اختلف أمر الخوارج ، قال المهلب لأصحابه في جملة كلام له : ( ... وإنما بين أيديكم عبد ربه في خشارٍ من خشار الشيطان) (3) .
  ومما يصدق قول المهلب : أن زعماءهم كانوا من هؤلاء ، فإن عبد ربه الصغير ، كان معلم كتاب ، وعبد ربه الكبير كان بائع رمان (4) .
  كما أن عبيدة بن هلال اليشكري ، أحد زعمائهم ، قد اتهم بامرأة حدادٍ كان يدخل عليها بلا إذن ، فدبر هو وقطري بن الفجاءة الحيلة للخلاص من الورطة ، فكان لهما ما أرادا (5) .
  فإذا كان الزعيم الكبير فيهم يتهم بامرأة حداد ، فلابد أن يكون المحيط الذي يعيش فيه لا يستغرب ولا يأبى دخوله على بيت الحداد فيهم ، فقد يدل ذلك على أن قيادييهم كانوا في مستويات لا تبتعد كثيراً عن مستوى الحداد ، وبائع الرمان.
  وحينما أرسل أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) معقلاً لقتال

---------------------------
(1) الكامل للمبرد ج3 ص314 وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص147.
(2) الكامل للمبرد ج3 ص316 وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص148.
(3) الكامل للمبرد ج3 ص395 والعقد الفريد ج1 ص223 وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص206.
(4) شرح النهج للمعتزلي ج4 ص204.
(5) راجع : الكامل للمبرد ج3 ص391 وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص203 وقد ذكرنا هذا الحديث في فصل زهد الخوارج.


الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 132 _

  الخريت الخارجي ، قال معقل لمن معه : (وأبشروا في قتالكم بالأجر ، إنما تقاتلون مارقة مرقت من الدين ، وعلوجاً كسروا الخراج ، ولصوصاً ، وأكراداً) (1) .
  ويقول المؤرخون :
  (اجتمع على الخريت الناجي علوج من أهل الأهواز كثير ، أرادوا كسر الخراج ، ولصوص ، وطائفة أخرى من العرب ، ترى رأيه ، وطمع أهل الخراج في كسره ، فكسروه ، وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس الخ) (2) .
  وقد تحدثنا في فصل : (زهد الخوارج حقيقة أم خيال) عن أطماع الخوارج ، وتأثيرها في اندفاعهم في الحروب ، واتخاذ المواقف القوية والصارمة ... كما أن في سائر فصول الكتاب شواهد أخرى تدل على واقع الخوارج ، وحقيقة تركيبتهم ، ومستوياتهم الفكرية ، وطموحاتهم ...
  لحقوا بـالخوارج فراراً من الحجاج :
  وقد انضم إلى شبيب في بعض البلاد ناس كثيرون ، بعضهم كان الحجاج يطلبهم بمال ، أو تباعات [ثارات] (3) .
  تركيبة الخوارج عند الجاحظ :
  قال الجاحظ : (العلة التي عمت الخوارج بالنجدة ، استواء حالاتهم في

---------------------------
(1) البداية والنهاية ج7 ص318 وراجع : تاريخ الأمم والملوك ج4 ص95.
(2) الكامل في التاريخ ج3 ص367 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص93.
(3) الخوارج والشيعة ص94.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 133 _

  الديانة ، واعتقادهم أن القتال دين ، لأننا حين وجدنا السجستاني ، والخراساني ، والجزري ، واليمامي ، والمغربي ، والعماني ، والأزرقي ، منهم والنجدي ، والإباضي ، والصفري ، والمولى والعربي ، والعجمي والأعرابي ، والعبيد ، والنساء ، والحائك والفلاح ... كلهم يقاتل مع اختلاف الأنساب ، وتباين البلدان ، علمنا : أن الديانة سوّت بينهم ، ووفقت بينهم في ذلك( (1) .
  ونحن لا نوافق الجاحظ على زعمه : أن الديانة هي الباعث لهم على القتال ، فإن الوقائع قد أثبتت : أن المطامع والأهواء قد كان لها تأثيرها القوي في اندفاعهم في الحرب ، بالإضافة إلى التهور والحماس من قبل أحداث تغرهم الشعارات البراقة ، وتستهويهم المظاهر الخادعة ، ويهتمون باتخاذ المواقف الحادة.
  وليس لديهم أحلام أي عقول تهيمن على سلوكهم ، وتحدّ من طغيان الهوى ، وتغلب دواعي الهياج ، ولا توجد حدود وضوابط تحكم تصرفاتهم ، وتضبط مواقفهم ، وترشد حركتهم ، وتقدم وسيأتي بعض الحديث عن شجاعتهم إن شاء الله تعالى.
  خلاصة لما سبق :
  وبعد ... فإننا إذا أردنا تلخيص ما تقدم في نقاط جامعة ، فإن النتيجة تكون هي أن الخوارج كانوا خليطاً من فئات شتى ، ويمكن أن نجملها على النحو التالي :
  وفقاً لما جاء في النصوص المتقدمة :
   1 ـ عرب.

---------------------------
(1) رسائل الجاحظ ج1 ص51.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 134 _

  2 ـ عجم.
  3 ـ موالي.
  4 ـ عبيد ومهنة.
  5 ـ حشوة من الناس ، ما بين قصاب.
  6 ـ وصباغ.
  7 ـ وداعر.
  8 ـ وحداد.
  9 ـ خشار.
  10 ـ معلم كتّاب.
  11 ـ بائع رمان.
  12 ـ علوج.
  13 ـ لصوص.
  14 ـ أكراد ، سجستاني ، خراساني ، جزري ، يماني ، مغربي ، عماني ، والخ..
  15 ـ شباب أحداث.
  16 ـ أعراب جفاة.
  17 ـ مطلوبون بمال.
  18 ـ مطلوبون بثارات.
  19 ـ حائك.
  20 ـ فلاح.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 135 _

  الفصل الثالث

ميزات ... وخصائص

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 137 _

   الغباء ... والسطحية :
  وبعد ... فإن نظرة فاحصة على بعض ما كان للخوارج من مميزات وخصائص، تجعلنا نخرج بحقيقة : أنهم كانوا ، حتى بعد مرور عشرات بل مئات السنين لايزالون أعراباً جفاةً ، يهيمن عليهم الجهل ، والأمية والقسوة ، ومن سماتهم الغلظة ، والجفاء ، ويتميزون بسذاجة وسطحية ، جعلتهم يفقدون المناعة الكافية في مقابل خصومهم ، الذين وُجِد فيهم من يعرف كيف يستغل هذه الجهالة وتلك السذاجة ، ويستفيد من تلكم السطحية، كحربة ماضية ، وسيف قاطع ضدهم ، فترى المهلب كان يكثر من الأكاذيب ، التي تفرق كلمتهم ، وتشتت شملهم حتى عرف بذلك (1) وحتى ليقول الزمخشري :
  (راح يكذب ، لقب المهلب ، لأنه كان يضع الحديث أيام الخوارج ، فإذا رأوه قالوا : راح يكذب.
  قال وائلة السدوسي :
  أعور مشنوء يخالف قوله كما وصفوه : إنه راح يكذب (2)

---------------------------
(1) راجع : ترجمة المهلب في : وفيات الأعيان ج2 ص146 وفي تهذيب التهذيب ج10 ص330 والكامل للمبرد ج3 ص319/318 والإصابة ج3 ـ ص36 وتقريب التهذيب ج2 ص280.
(2) ربيع الأبرار ج2 ص369/370 وراجع : فجر الإسلام ص261 عن شرح نهج البلاغة =>

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 138 _

  نعم ... هذا هو حالهم ، مع ان من شأن المواجهة الطويلة مع الخصوم أن تصقل الفكر العقائدي لأية فرقة كانت ، وتؤثر على سلوكها ، وأخلاقياتها ، وتركز فيها ـ ولو شكلياً ـ حالة من النضج التنظيمي ، والسلوكي ، والفكري والسياسي ، وإدراك المناورات السياسية ... ولكن الخوارج لم يدخلوا تحت هذه القاعدة ، حيث إنهم ، رغم تطاول الزمن عليهم ، ومرور عشرات بل مئات السنين على ظهورهم ، لم يسجلوا تقدماً يذكر في أي من هذه المجالات ...
  لا جامعة فكرية أو عقائدية :
  ومن جهة أخرى ... فإن من المعلوم والواضح : أن الخوارج لم تكن تجمعهم أصالة فكرية عقائدية ، لعدة أسباب وعوامل ، نذكر منها :
  1 ـ إنهم كانوا شكاكاً.
  2 ـ إنهم كانوا أصحاب أطماع دنيوية ، وإن كانت ملونة بلون الإيمان وملبسة بلباس الدين.
  3 ـ إن الشيطان قد غرهم ، وزين لهم المعاصي.
  4 ـ إن الشيطان قد زين لهم أنهم ظاهرون ومنتصرون.
  5 ـ إنهم محكومون لعصبياتهم القبلية ، ولمفاهيمهم الجاهلية.
  6 ـ إنهم خيابون عيابون ، حسبما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
  7 ـ إنهم كانوا أخلاطاً من الناس ، لا تجمعهم رابطة ، ولا يهيمن عليهم سلطان.

---------------------------
(1) للمعتزلي ج1 ص386 ومصادر ذلك كثيرة ، ولذا فلا حاجة إلى إيرادها.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 139 _

  8 ـ إن مواقفهم كانت عفوية ، ومرتجلة ، لم يكن يسبقها تخطيط دقيق ، لأنها كانت في الأكثر استجابة لحالات من الحنق والحقد ، الذي أعمى بصائرهم قبل أبصارهم.
  9 ـ ثم هناك حالة الجفاء والغلظة التي كانت تقلل من فرص التفاهم والانسجام فيما بينهم.
  10 ـ يضاف إلى ذلك جهلهم الذريع ، وأميتهم القاتلة ، فلم يكونوا يستضيئون بنور العلم ، ولا يستندون إلى ركن وثيق.
  وهذا ما جعل الشعارات البراقة تستهويهم ، وتدفع بهم إلى مزيد من التصلب والجرأة ، وإن كانوا لا يفقهون كثيراً مما ترمي إليه تلك الشعارات ، وليس لديهم القدرة على التعمق فيها ، ولا على مناقشتها.
  ويكفي أن نذكر : أنه قد (ظل صوت التحكيم يتردد في سماء معارك الخوارج ، ويردده شعراؤهم ، بعد أن استحوذ على عقولهم ومشاعرهم طوال العصر الأموي ، فكانوا يشحذون به حماس عساكرهم ، ويلهبون عواطف أصحابهم في كل موقعة ، وعند كل لقاء( (1) .
  ولكن ، هل درسوا هذا الشعار؟!
  وهل فهموا ما قاله علي (عليه السلام) وأصحابه لهم حوله ؟!
  وهل أعدوا أجوبة على تلك النقوض التي أوردوها عليهم ...
  هذا ما لم يكن أبداً.
  فكل تلك الأمور ، وسواها مما لم نذكر تجعلنا نفهم بعمق حقيقة أنه لم يكن يجمعهم جامع جامع فكري ، يحقق لهم أدنى حالة من الانسجام

---------------------------
(1) الخوارج في العصر الأموي ص257.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 140 _

  في مفاهيمهم ، ولا كان يهيمن عليهم أصالة فكرية أو عقائدية تفيد في صقل شخصيتهم الإنسانية الفاعلة والمؤثرة في صياغة حياة اجتماعية أو دينية أو سياسية معقولة أو مقبولة.
  بل إن ملاحظة تركيبهم ، وخصائصهم ، وواقعهم لا تدع مجالاً للشك. في أنه لم يكن ثمة تقارب في الأغراض والمآرب التي كانوا يتوخون تحقيقها في مجمل مواقفهم وحركاتهم.
  ولأجل ذلك ، ثم بسبب التدني الفاضح في مستوى وعيهم ، كان من الطبيعي أن تكثر الانقسامات بينهم ، فسرعان ما يتفرقون شيعاً ، وأحزاباً لأتفه الأسباب (1) .
  حتى إنهم حينما حكّموا في صفين سأل عنهم أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقيل له : (القرّاء.
  فقال : بل هم الخيابون العيابون) (2) .
  وحينما كتب نافع إلى ابن إباض ، وابن الصفار يدعوهما ومن معهما إلى مقالته ، لم يقرأ ابن الصفار كتابه على أصحابه ، خشية أن يتفرقوا ، ويختلفوا ، فلما قرأه ابن إباض وقع الخلاف بينه وبين ابن صفار (3) .
  ويقول آخر : (لم تكن للخوارج قط ـ كما رأينا ـ أية وحدة حقيقية في أعمالهم السياسية ، أو العسكرية ، ولم تكن لهم كذلك مجموعة متسقة من المبادئ ، وتظهر لنا مذاهبهم وكأنها آراء خاصة (4) .

---------------------------
(1) فجر الإسلام ص261 وراجع ص259 وراجع : ضحى الإسلام ج3 ص333.
(2) المصنف للصنعاني ج10 ص150.
(3) الكامل في التاريخ ج4 ص168 والعقود الفضية ص123.
(4) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص474.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 141 _

  ويقول البعض : عرف الخوارج بعصبيتهم العربية ، فقد انتشر مذهبهم في القبائل الربعية التي كان لها نزاع مع القبائل المضرية ، وكان معظمهم من عرب البادية الربعيين.
  وقد عرفوا بالتعصب والحماسة ، والإندفاع السريع في آرائهم ، كما عرفوا بتمسكهم بظواهر الألفاظ ، لا يتجاوزونها إلى المرمى والموضوع ، وعرف عن الخوارج أيضاً التشديد في العبادة ، وبالإخلاص الشديد لعقيدتهم ، والشجاعة في حروبهم ، وكانوا كثيراً ما يختلفون ، ولعل هذا هو السبب في إخفاقهم في كثير من المعارك رغم شجاعتهم( (1) .
  أضف إلى ذلك : ( ... أن الخوارج لم يكونوا يحتملون السلطة عليهم مدة طويلة) (2) .
  مواصفات الخوارج بنظر البعض :
  ومهما يكن من أمر ، فإننا نجد : أن البعض قد أجمل بعض خصائصهم وصفاتهم بقوله : (كان في جملة الخوارج لدد ، واحتجاج ، على كثرة خطبائهم وشعرائهم ، ونفاذ بصيرتهم ، وتوطين أنفسهم على الموت) (3) .
  وقال آخر : (فهم كثيرو الخلاف على الرؤساء ، كثيرو التفرق شيعاً وأحزاباً ، محدودو النظر ، ضيقو الفكر في نظرهم إلى مخالفيهم ، وهم مع ذلك شجعان إلى أقصى حدود الشجاعة ، صرحاء في أقوالهم وأفعالهم ...
  إلى أن قال : ثم هم لغلبة بداوتهم أبعد عن التطور الديني والعلمي ،

---------------------------
(1) الخوارج عقيدة ، وفكراً ، وفلسفة ص54و55 بتصرف وتلخيص.
(2) الخوارج والشيعة ص72.
(3) الكامل في الأدب ج3 ص220.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 142 _

  والاجتماعي ...
  إلى أن قال : وظلت حياتهم في معيشتهم ، ونظرتهم للحياة ، وحروبهم ، ونحو ذلك حياة بسيطة بدوية ، لم تتغير كثيراًَ بتغير الزمان( (1) .
  ونقول : إننا لا نوافق على بعض ما ذكروه ، ونذكر على سبيل المثال ما يلي :
  1 ـ قول المبرد : كان في جملة الخوارج لدد واحتجاج ... لا يصح إذ أن هذا اللدد والاحتجاج قد ظهر مدى ضعفه حين اثار أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وابن عباس وصعصعة وغيرهم القضايا معهم ، وحاججوهم فيها.
  إلا أن يكون مراده : أن حجتهم على الأمويين كانت ظاهرة وموفقة وقوية.
  ولكنه أمر غير صالح للتنويه به ، فإن حال الأمويين في الفساد والإفساد أظهر من الشمس وأبين من الأمس ، وإن أي إنسان يتهيأ له أن يفصح عن مراده في شأنهم ، فإنه سيكون ظاهر الحجة عليهم ، ولسوف يخصمهم ، ويثبت فساد طريقتهم ، وعوارها.
  على أن ما أثر عن الخوارج من خطابة وشعر واحتجاج ، لا يحمل في طياته معاني متميزة ، ولا يعبر عن براعة خاصة ، تنتج لهم الحجج والمعاني ، وتظهر لهم المعاني القرآنية ، أو تشير إلى تعمق مّا في أمور الفقه ، وفي حقائق الدين والإيمان ، أو التاريخ أو ما إلى ذلك.
  بل هي مجرد عفوية وبداهة الإنسان العربي ، وارتجال البدوي ، الذي لا يحمّل كلامه شيئاً لافتاً من المعارف واللطائف ، بل تجد فيه بعض

---------------------------
(1) ضحى الإسلام ج3 ص333و332 وراجع : فجر الإسلام ص259 و261 و263 و264.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 143 _

  الجماليات العفوية التي تختزنها حياة أعراب البادية ، أو حماس رعاع لا عهد لهم بالمكارم ، والمآثر ... قد وجدوا الجرأة على المباهاة ببطولات صنعها لهم حب المقامرة ، القائم على أساس تبييت الخصوم ، وتوجيه ضربات خاطفة ، يعقبها الإمعان في الهرب ، والتحاشي للاشتباك المباشر ، الذي غالباً ما ينتج لهم مر الهزيمة ، والخيبة الأليمة.
  2 ـ وحديث المبرد : عن نفاذ بصيرتهم ، وعن توطينهم أنفسهم على الموت ، وحديث غيره عن شجاعتهم هو الآخر حديث مبالغ فيه ، أو غير مفهوم على حقيقته على الأقل ، فأين كانت شجاعتهم وقد كانوا ـ فيما يذكره أكثر المؤرخين ـ أربعة آلاف فارس في النهروان.
  ويقابلهم مثلهم تقريباً في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان غير راغب كثيراً في مواجهتهم ، وهم كانوا مستميتين ؟!.
  نعم ... أين كانت هذه البصيرة ، وتلك الشجاعة ، وذلك التوطين آنئذ ؟! وكيف قتلوا بأجمعهم ، ولم ينج منهم عشرة ، ولم يستشهد من أصحاب علي (عليه السلام) عشرة ؟! وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق ، وسيأتي إن شاء الله بعض الحديث عن شجاعتهم المزعومة في فصل مستقل.
  3 ـ وعن نفاذ بصيرتهم نقول : قد تقدم بما لامزيد عليه : أنهم في حربهم لأمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا شكاكاً ، لا يملكون حجة ، ولا يهتدون سبيلاً.
  4 ـ وأما عن صراحتهم إلى أقصى حدود الصراحة ، فقد تقدم كيف أنهم يتسترون على علاقة أحد زعمائهم بامرأة حداد ... وقد ذكرنا في هذا الكتاب الشيء الكثير مما يدل على ممارساتهم للتقية إلى حدود

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 144 _

  مشينة ، وسيرة عمران بن حطان خير شاهد على ما نقول ، وقد ذكرنا في هذا الكتاب بعضاً من فصولها ...
  بداوة الخوارج :
  أما فلهوزن فيحاول هو وغيره إنكار بداوتهم ، واعتبار هجرتهم إلى المدن كافية في نزع هذه الصفة عنهم ، وصيرورتهم حضريين (1) .
  ولكنه غفل عن أن ذلك بمجرده لا يكفي في تغيير طبيعتهم وعقليتهم ، ما لم يصل إلى حدّ التفاعل والانصهار في المجتمع الجديد ، وليتبدل جهلهم إلى علم ، وقسوتهم وشدتهم بالمرونة واللين ، إلى غير ذلك مما لا مجال لذكره ...
  التقليد والمحاكاة :
  هذا ... ولم يكن للخوارج تلك الأصالة الراسخة أو الاستقلالية الفكرية ، بل كانوا يتخذون سبيل التقليد والمحاكاة حتى لعدوهم ...
  يقول ابن رسته : (أول من حذف الدواب يزدجرد ، حين ورد أصبهان قاصداً لخراسان مرّ بمرج وكانت الدواب ترطَّم فيه ، وتتعلق أذنابها بالطين فحذفها ، ثم حذف المهلب بن أبي صفرة في محاربة الخوارج ، فنظرت إليه الخوارج ، وحذفوا أيضاً دوابهم) (2) .
  وقد قدمنا : كيف أنهم كانوا يحاولون تقليد ومحاكاة علي أمير المؤمنين (عليه السلام) في أحواله وأعماله ، فتجدهم يصدرون التعليمات بعدم

---------------------------
(1) راجع : الخوارج والشيعة ص33 وقضايا في التاريخ الإسلامي.
(2) الأعلاق النفيسة ص199.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 145 _

  البدأة بالقتال ، مع أنهم في عامة حروبهم ، وجل انتصاراتهم قد اعتمدوا فيها على عنصر البيات للعدو ، ومهاجمة جنده ، وهم غارون ، ثم يعمدون إلى الفرار إلى جهة لا يتيسر معرفتها أو الوصول إليها بالسرعة المطلوبة ، ولاسيما لجيش منظم يحمل أثقالاً مرهقة ، تعجزه عن اللحاق بعصابات من الناس ، تعمل على قاعدة اضرب واهرب ، ولهم أيضاً حالات أخرى من التقليد والمحاكاة له (عليه السلام) في أمور لا تخرج في مضمونها عن هذا السياق الذي ذكرناه.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 147 _

  الفصل الرابع
  شجاعة الخوارج

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 149 _

شجاعة الخوارج ، وسر بعض انتصاراتهم :
  لقد عرف الخوارج بالشجاعة والإقدام ، وبالصراحة في أقوالهم واعمالهم (1) ـ كما زعموا ـ وكان الموالي ـ كما تقدم ـ أشجع الخوارج وأشدهم جسارة.
  كما أن الملاحظ هو : أن خوارج الكوفة أقوى شكيمة ، وأشد مراساً من خوارج البصرة (2) .
  وقد ذكر الجاحظ للخوارج امتيازات في حروبهم ، وهي التالية :
  1 ـ صدق الشدة عند أول وهلة.
  2 ـ إنهم يصبرون على طول السرى ، بحيث لا يظن أن أحداً يقطع تلك المسافة في ذلك المقدار من الزمان ، فيفاجئون عدوهم ، وهم غارون ، فيوقعون بهم.
  3 ـ إن ضرب المثل بهم واستشهادهم بالقتل يرعب غيرهم.

---------------------------
(1) ضحى الإسلام ج3 ص332 وراجع فجر الإسلام ص263/264.
(2) راجع : الخوارج في العصر الأموي ص124 عن الخربوطلي في كتابه : تاريخ العراق ص92.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 150 _

  4 ـ إنهم لا سلب لهم ، ليرغب الجند في لقائهم ، أو يثقل حركتهم في التنقل ، كما هو الحال في جند غيرهم.
  ولكن الخوارج إذا ولّوا فقد ولّوا ، وليس لهم بعد الفر كرّ ، إلا ما لا يعدّ ، والخوارج والأعراب ـ والخوارج منهم ـ ليست لهم رماية على ظهور الخيل (1) .
  5 ـ ويعرف عنهم قوتهم على كثرة الركض (2) .
  وزعموا أنهم يسيرون في ليلة ثلاثين فرسخاً وأكثر (3) .
  نعم ... إن ذلك هو بعض ما اعتبروه اسباباً فيما سجلوه من انتصارات على بعض الجيوش التي كانت تتصدى لحربهم.

الخوارج ليسوا شجعاناً :
  ولكننا بدورنا نشك فيما يذكرونه من شجاعتهم ، فإنهم كانوا طامعين بالدنيا ، محبين للحياة ، حتى إن فارسهم قطري بن الفجاءة قد اعترف في شعر له بما اصابه من خوف شديد من خصمه المهلب بن أبي صفرة (4) .
  ويعترف عمرو بن الحصين بخذلانه لأصحابه ، فيقول :
  كم من أولي مقةٍ صحبتهم شروا فخذلتهم ولبئس فعل الصاحب (5)
  وقال آخر منهم كان قد خذل أصحابه :

---------------------------
(1) رسائل الجاحظ ج1 ص41 ـ 46.
(2) المحاسن والمساوئ ج2 ص391.
(3) المحاسن والمساوئ ج1 ص217 وفي هامشه عن المحاسن والأضداد ص129/130.
(4) راجع : الخوارج في العصر الأموي ص286.
(5) الخوارج في العصر الأموي ص281.