أما بروكلمان ، فيقول عن حركة الخوارج : (أطلعت رأسها الآن في الجزيرة الشمالية ، بين قبائل ربيعة ، التي كانت تنفس على قريش بالخلافة)
.
هذا ... ولربما يمكن الاستشهاد لما أشار إليه هؤلاء بما كان من أبي حمزة الخارجي ، حينما غزا المدينة ، حيث كان يقتل القرشي ، ويدع الأنصاري ، كما ذكره المؤرخون.
ولكننا لا نستطيع أن نوافق هؤلاء على مبالغاتهم هذه في اتهام ربيعة ، وتأثير العرقية ، فيها وإن كنا لا ننكر وجود تأثير للعرقية بدرجة ما ...
ولعل ربيعة الذين كانوا من سكان الجزيرة هم الذين اتجهوا نحو نحلة (الخوارج) ... دون سائر قبائل ربيعة ، فإن تعميم الكلام لربيعة كلها بعيد عن الإنصاف والموضوعية ، ولعل هذا التصميم على الإجحاف في حق ربيعة ، قد جاء على سبيل المضادة والإدانة لموقف علي (عليه السلام).
وذلك لأن عماد عسكر علي (عليه السلام) كان ربيعة ومضر ، وإن كان جيشه (صلوات الله وسلامه عليه) لم يخل من بعض القبائل اليمانية ، مثل كندة ، ومذحج ، وهمدان ، وطي ، وغيرهم.
وقد استمر وفاء ربيعة لمبادئها بصورة أزعجت الحكم الأموي.
(قال أبو عبيدة : ولما قتل علي بن أبي طالب أراد معاوية الناس على بيعة يزيد ، فتثاقلت ربيعة ، ولحقت بعبد القيس في البحرين ، واجتمعت بكر بن وائل إلى خالد بن المعتمر)
(1) .
فلما تثاقلت ربيعة تثاقلت العرب أيضاً ، فضاق معاوية بذلك ذرعاً ، فبعث إلى خالد ، فقدم عليه ، فلما دخل عليه رحب به وقال : (كيف ما نحن فيه ؟
قال : أرى ملكاً طريفاً ، وبغضاً تليداً.
فقال معاوية : قل ما بدالك ، فقد عفونا عنك ، ولكن ما بال ربيعة أول الناس في حربنا ،وآخرهم في سلمنا ؟)
(2) .
وقال المرزباني : (كان حميداً بليغاً ، اجتمعت عليه ربيعة بعد موت علي ، لما حلف معاوية أن يسبي ربيعة ، ويبيع ذراريهم لمسارعتهم إلى علي ، فقال خالد)
(3) :
أما في ابن حرب حلفة في نسائنا ودون الذي ينوي سيوف قواضب
سيوف نطاق والقناة فتستقي سوى بعلها بعلاً وتبكي الغرائب
فإن كنت لا تغضي على الحنث فاعترف بحرب شجى بين اللها والشوارب
قال فيه أيضاً ، وقد ذكر له علياً :
معاوي لا تجهل علينا فإننا نذلك
(4) في اليوم العصيب معاوياً
ودع عنك شيخاً قد مضى لسبيله على أي حاليه مصيباً وخاطبياً
(5)
---------------------------
(1) راجع الخوارج في العصر العباسي ص67 عن المعتزلي في شرح النهج ج1 ص502 ـ ط الحلبي ـ وكتاب صفين للمنقري ص205 والكامل للمبرد ج3 ص909.
(2) تهذيب تاريخ دمشق ج5 ص92.
(3) هو خالد بن ربيعة ، بن مر ، بن حارثة.
(4) في الإصابة : يد لك.
(5) تهذيب تاريخ دمشق ج5 ص37 والإصابة ج1 ص460 ، والقضية في كتاب صفين للمنقري ص294 ولكن باختلاف كثير ، فلتراجع ...
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 115 _
وقال علي (عليه السلام) لربيعة في صفين : (أنتم درعي ورمحي)
(1) .
وحينما طعن الإمام الحسن (عليه السلام) ، من قبل المتمردين عليه في جيشه ، "دعا ربيعة وهمدان ، فأطافوا به ، ومنعوه ، فسار ، ومعه شوب من غيرهم(
(2) .
وجاء في كتاب من أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ابن عباس : ( ... وانته إلى أمري ولا تعده ، وأحسن إلى هذا الحي من ربيعة ...)
(3) .
وفي حرب صفين قال (عليه السلام) : ( ... أما بعد ، يا معشر ربيعة ، فأنتم أنصاري ، ومجيبو دعوتي ، ومن أوثق حي في العرب في نفسي)
(4) .
وفي مقام آخر في صفين ، يسأل (عليه السلام) : (لمن هذه الرايات؟ قلنا :
رايات ربيعة ، قال : بل هي رايات الله ، عصم الله أهلها وصبرهم ، وثبت أقدامهم)
(5) .
وقال عمرو بن العاص لمعاوية في صفين : (إن أصبحت ربيعة متعطفين حول علي تعطف الإبل حول فحلها ، لقيت منهم جلاداً صادقاً ، وبأساً شديداًً ...) إلى أن قال النص التاريخي : فلما نظر معاوية إليهم قد أقبلوا قال :
إن قلت قد ولت ربيعة أقبلت كتائب منهم كالجبال تجالد
---------------------------
(1) مروج الذهب ج2 ص386 وكتاب صفين للمنقري ص402 والأخبار الطوال ص186.
(2) كشف الغمة للأربلي ج2 ص166 وراجع : الأخبار الطوال ص217 والإرشاد للمفيد ص209 ، وشرح النهج للمعتزلي ج16 ص41.
(3) كتاب صفين للمنقري ص105.
(4) المصدر السابق ص287.
(5) المصدر السابق ص288.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 116 _
وكانت النتيجة : (أن فر معاوية عن سرادقه إلى بعض مضارب العسكر ، خوفاً من ربيعة)
(1) .
وفي نص آخر : (وذكروا : أن علياً كان لا يعدل بربيعة أحداً من الناس)
(2) .
وقد أساءت له مضر
(3) وخذلته بسبب ذلك ، ووقفوا على الحياد حتى قال : (أليس من العجب أن ينصرني الأزد وتخذلني مضر؟!)
(4) .
وقال المسعودي : ( ... ولعلي في ربيعة كلام كثير ، يمدحهم فيه ، ويرثيهم ، شعراً ، ومنثوراً ، وقد كانوا أنصاره وأعوانه ، والركن المنيع من أركانه ، فمن ذلك بعض قوله يوم صفين) ثم يذكر الأبيات التي يذكر ويمدح فيها حضين بن المنذر :
لمن راية سوداء يخفق ظلها إذا قيل : قدمها ، حضين تقدما
ومن جملتها قوله :
جزى الله قوماً قاتلوا في لقائه لدى الموت قدماً ، ما أعز وأكرما
وأطيب أخباراً ، وأكرم شيمة إذا كان أصوات الرجال تغمغما
ربيعة أعني ، إنهم أهل نجدةٍ وبأسٍ إذا لاقوا خميساً عرمرما
(5)
كما أننا نجده في حرب الجمل ، قد اشتد حزنه (عليه الصلاة والسلام) على من قتلهم طلحة والزبير من ربيعة ، قبل وروده (عليه السلام)
---------------------------
(1) المصدر السابق ص305 و306.
(2) المصدر السابق ص308.
(3) المصدر السابق.
(4) عن شرح النهج للمعتزلي ج4 ص46.
(5) مروج الذهب ج3 ص48 ، والأبيات موجودة في تاريخ الطبري ج4 ص26 ، وكتاب صفين للمنقري ص289.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 117 _
البصرة ، وكان يكثر من قوله :
يا لهف نفسي على ربيعة ربيعة السامعة المطيعة
(1)
ولما أراد أهل الكوفة ، بعد موت يزيد بن معاوية لعنه الله تعالى أن يؤمروا عليهم عمر بن سعد لعنه الله ، حتى ينظروا في أمرهم ، جاءت نساء همدان ، وربيعة ، وكهلان ، والأنصار ، والنخع إلى الجامع الأعظم صارخات ، باكيات ، معولات ، يندبن الحسين ، ويقلن : أما رضي عمر بن سعد بقتل الحسين ، حتى أراد أن يكون أميراً علينا ، على الكوفة ؟! ... فبكى الناس ، وأعرضوا عنه(
(2) .
وحينما أراد ابن عامر انتخاب ثلاثة آلاف من الشيعة لحرب (الخوارج) ، نجد أن قائده شريك بن الأعور قد ألحّ على فرسان ربيعة [أي أخرج الأكثر منهم] الذين كان رأيهم في الشيعة ، وكانت تجيبه العظماء منهم)
(3) .
ومهما يكن من أمر ، فإن النصوص المتقدمة ، تفيدنا أمرين :
أحدهما : أن ربيعة كانت في جانب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكان لمواقفها النضالية آثاراً عميقة على معاوية ، وعلى سائر خصوم علي (عليه السلام) ، وكانت درع علي (عليه السلام) ورمحه.
الثاني : أن الحكام الأمويين والعباسيين ، كانوا ـ على حد سواء ـ يكنون الحقد والبغض لربيعة ، بما لا مزيد عليه ، حتى إن هشام بن عبد الملك يرفض الاستعانة بربعي ، ويقول :
---------------------------
(1) مروج الذهب ج2 ص369.
(2) مروج الذهب ج2 ص105 ومقتل الحسين للمقرم ص246 عنه.
(3) تاريخ الطبري ج4 ص148 وراجع : الكامل لابن الأثير ج4 ص431.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 118 _
(لا حاجة لي فيه ، لأن ربيعة لا تسد بها الثغور)
(1) .
وتقدم : أن تثاقل ربيعة عن البيعة ليزيد ، قد نشأ عنه تثاقل العرب عنها ، وهذا ما لا يمكن لمعاوية أن يغفره ، أو أن يتغاضى عنه على الإطلاق.
وتقدم أيضاً : أنهم كانوا أول الناس في بغض معاوية وحربه ، وآخر الناس في سلمهم.
وأن معاوية قد حلف أن يسبي ربيعة ، ويبيع ذراريهم لمسارعتهم إلى علي (عليه السلام).
كما أن العباسيين وأنصارهم يشنون حملات شعواء على ربيعة ، حتى إن الأصمعي يعتبر ربيعة رأس كل فتنة وتقدم رأي علي بن عبد الله بن العباس فيها ... وتقدمت محاورة الرشيد مع يزيد بن مزيد ... الأمر الذي يدل على أن ربيعة كانت مصدر متاعب كبيرة لأولئك الحكام ، الأمويين والعباسيين على حد سواء ، وأنهم كانوا يرونها مصدر كل بلاء وشر لهم.
وفي كلام الرشيد المتقدم : أن أكثر منابرهم الجذوع ما يفيد أن طلاب الحكم والسلطان في ربيعة كانوا كثيرين ، وإن كانت نهاياتهم هي القتل والصلب في أكثر ، أو في جميع الأحيان ...
وطبيعي أن طلبهم للحكم والسلطان ، وما يلازم ذلك من حركات مسلّحة ، وثورات لم يكن ليحظى بإعجاب السلطات الحاكمة ، ولا ليروق لها.
---------------------------
(1) الأخبار الطوال ، ص340 ، وراجع ص141.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 119 _
وهكذا ... فإننا بعد كل ما تقدم لا يمكن أن نطمئن إلى صحة تعليلاتهم التي حاولوا بها توجيه كثرة (الخوارج) من ربيعة ، مادام أن أصل القول بأن يكون غالب (الخوارج) منهم محل شك وريب كبيريب.
وإن كنا لا نستبعد أن يكون بعض الربعيين قد انضموا إلى صفوف (الخوارج) ، رغبة في حرب الأمويين لأسباب عديدة ، أهمها ما يرونه من انحراف الأمويين عن الإسلام ... ثم اضطهادهم لهم بسبب نصرتهم لعلي ... وكذلك بسبب يمانيتهم.
فقد قال هشام بن عبد الملك : (لا حاجة لي في اليمانية ـ وكان هشام يبغض اليمانية ، وكذلك سائر بني أمية)
(1) .
فلأجل قحطانيتهم ، ولأجل أن (الخوارج) اليمانية قد قويت شوكتهم ، ولأن الأنصار محبي علي (عليه السلام) كان اكثرهم من اليمانية أيضاً ، ـ نعم من أجل ذلك كله ـ ازاداد كره الأمويين وغيرهم من أعداء علي (عليه السلام) لهم ، فصاروا يصفونهم بالخارجية ربما ليجدوا السبيل لملاحقتهم ، والقضاء عليهم.
---------------------------
(1) الأخبار الطوال ص340.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 121 _
الفصل الثاني
تركيبة الخوارج
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 123 _
ما لابد للباحث من معرفته :
إن من الأمور الواضحة والمعروفة : أنه إذا كانت فئة من الفئات ذات كيان متكامل ، ولها شخصيتها وأصالتها ، ويعرف كل واحدٍ من أفرادها موقعه ، وحجمه ، وواجباته ، ثم هي تملك القيادة الحكيمة والمجربة ، والموثوق بها ...
وفوق ذلك كله ... لها أطروحة تَعْرِفُ أوّلها وآخرها ، وقد اجتمعت عليها قلوبها ، ومشاعرها ، وارتبطت بها ارتباطاً وجدانياً وعاطفياً ، بالإضافة إلى توفر القناعة الكافية بها ، من خلال ما رضيته لنفسها من أدلة وشواهد ... ويكون كل آحاد تلك الفئة على استعداد لتقديم التضحيات الجلى بالمال وبالنفس في سبيلها ، حيث يملكون قدراً كافياً من الوعي لتلك المبادئ ، والمعرفة بآفاقها والانصهار فيها.
نعم ... إن فئة لها هذه المواصفات ، يمكن الاعتماد عليها ، والتعامل معها على أساس ثابت ، ولا توجد مشكلات خطيرة في ذلك ...
وأما حين يكون لكل واحد من أفراد تلك الفئة له أهداف ، وطموحات ، تختلف عن أهداف وطموحات الباقين ، ولا يرتبط بالآخرين إلا من خلال ، ما يجد فيهم من وسيلة ناجحة يمكن
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 124 _
استخدامها في سبيل تحقيق ذلك ، وكذلك حين لا يكون ثمة أطروحة جامعة واضحة المعالم ، أو كانت ولكن لا يوجد قدر كاف من الاستيعاب لها ، والتفاعل معها ، والانصهار بتعاليمها ، ولا يريد أحد منهم أن يقدم في سبيلها شيئاً ، بل يريدها هي أن تكون من أجله وفي خدمته ، وأداة لتحقيق مآربه الشخصية ، واذا لزم الأمر فلا مانع من التضحية بها في سبيل تلك المآرب.
وحين يكون كل واحد من الناس لا يعرف موقعه ولا حجمه ، بل هو الذي يعطي الحجم لنفسه ، ويستولى ـ إذا قدر ـ على جميع المواقع ، أو على أي موقع تسنح له الفرصة ويواتيه الظرف للاستيلاء عليه.
وكذلك حين يكون مستوى الوعي متدنياً إلى حد لا يمكن لهم تمييز الخطأ من الصواب ، والحق من الباطل ، بل يصبح المعيار في ذلك هو الأهواء ، والمصالح الخاصة ، والانفعالات والعواطف ، والطموحات والأماني ...
وكذلك حين يكون التباين بين أفراد هذه الفئة هو الحاكم والمهيمن ، فلا يجد أحدهم ولا يحس بشيء يربطه بأخيه ، أو يدفعه لأن يتكامل معه ...
وحين لا يكون من هو في الموقع القيادي قد جمع المواصفات المطلوبة ، ولا حصل على درجة كافية من الإعداد ، ولا بلغ ذلك المقام بصورة طبيعية ، من دون طفرة ، أو استئثار ظالم ...
وحين يكون الجهل والتخلف ، والنزق ، والأهواء ، والانفعالات هو المهيمن على كل المواقف والحركات ...
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الثاني _ 125 _
نعم ... إنه حين يكون الأمر كذلك ، فلابد أن نتوقع لهذه الفئة كل شر وبلاء ، وتعب وعناء ، وأن تكون عرضة للزلازل الخطيرة ، وللفجائع العظيمة ... مادام أنها لابد وأن تجد نفسها إما ألعوبة في أيدي أصحاب المهارات والخبرات ، والذين يملكون الثروة ومصادرها ، والإعلام وأدواته ، والسلطة وقدراتها. ولا يحجزهم حاجز عن الظلم في سبيل الحصول على الأطماع ، ولهم باع طويل في المكر والخيانة والخداع.
أو تجد نفسها قد أقدمت على أمور مهلكة ، وتتخذ مواقف لا تنسجم مع منطق الحكمة والتعقل ، وتندفع في متاهات ومنحدرات خطيرة ، لا تستطيع الخلاص منها.
وذلك بسبب فقدان الوعي الكافي ، وعدم التروي ، وقلة التدبر ، وعدم التفكير بالعواقب ...
هذا كله بالإضافة إلى أنه : حين تتضارب مصالح الأفراد ، وأهواؤهم ، فإنهم لابد أن تحدث الانقسامات ، والتباين فيما بينهم ، إن لم ينته ذلك إلى التدابر والتناحر ، وإلى التهاتر ، والجدال والقتال ...
ومن ذلك كله ... نعرف : أنه يفترض في أي باحث يريد دراسة حياة الأمم والمجتمعات والشعوب والفئات ، ولكي يحصل على نتائج أقرب إلى الواقع أن يبحث في تركيبة ذلك المجتمع أو تلك الفئة ، ويرصد كل تلك الحالات فيه وفيها ، بدقة وأناة.
وذلك هو ما حدانا إلى الإشارة هنا إلى نبذة توضح لنا التركيبة الاجتماعية ، والفئوية للخوارج ، ولسوف يتضح : أن تأثير هذه التركيبة لم يزل يظهر بوضوح في مجمل مواقفهم ، وحركاتهم ، وحالاتهم ، حتى