وحينما كان يمر على أي صنم من أصنام المشركين ، يقول و هو يشير بقضيب في يده : ( جاءَ الحقُّ وزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) (1) فيقع الصنم لوجهه ، ثمّأمر بتحطيم أكبر الاَصنام على مرأى من المشركين ، وبعد أخذ استراحة ، طلب من عثمان بن طلحة أن يأتيه بمفتاح الكعبة ، فقد كان هو سادن الكعبة ، حيث كانت السدانة تتوارث جيلاً بعد جيل ، وفتح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باب الكعبة و دخل البيت ، ودخل بعده ، أُسامة بن زيد ، وبلال وعثمان ، ثمّأمر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بإغلاق الباب ، الذي قام خالد بن الوليد بحراسته ومنع الناس عنه ، ولمّا كانت جدران الكعبة من الداخل مغطاة بصور الاَنبياء والملائكة وغيرهم ، فإنّ النبيص أمر بمحوها جميعاً وغسلها بماء زمزم ، وقد اشترك الاِمام علي ( عليه السلام ) في كسر بعض الاَصنام الموضوعة في الكعبة ، وحاول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يصعد على كتفيه ، إلاّأنّ ضعف الاِمام ( عليه السلام ) لم يساعده في ذلك ، فطلب منه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يصعد ـ عليٌ ـ على كتفه قائلاً : « يا عليّ اصعد على منكبي » ، فصعد على منكبه ، فألقى صنم قريش الاَكبر وأصنام أُخرى محطمة إلى الاَرض (2) ، ثمّ وقف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على باب الكعبة وقال : « الحمد للّه الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الاَحزاب وحده » ، ثمّ اتجه إلى الناس الذين يشاهدون الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يكسر الاَصنام ويحمد اللّه ، فسألهم : « ماذا تقولون وماذا تظنون ؟ » فقالوا : نقول خيراً ونظن خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف : ( قالَ لا تَثْريبَ عَلَيْكُمُ اليَومَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمين ) (3) ، وبهذا أعلن ( صلى الله عليه وآله وسلم ) العفو العام والشامل عن أهل مكة بقوله : « ألا لبئس جيران النبي كنتم ، لقد كذّبتم ، وطردتم وأخرجتم وآذيتم ثمّ ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني ، اذهبوا فأنتم الطلقاء » (4) ، وكان الوقت ظهراً فحان وقت الصلاة ، فصعد بلال سطح الكعبة ورفع نداء التوحيد و الرسالة ـ الاَذان ـ وبعدها ردّ مفتاح الكعبة على عثمان بن طلحة وقال له : « هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم برّ ووفاء » ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو أوّل من يلتزم بالتعليم الاِلهي في أداء الاَمانة إلى أهلها ، فيعيد مثل تلك الاَمانة الكبرى إلى صاحبها .

---------------------------
(1) الاِسراء : 81 .
(2) مسند أحمد بن حنبل : 1 ـ 84 ؛ السيرة الحلبية : 3 ـ 86 ؛ تاريخ الخميس : 2 ـ 86 .
(3) يوسف : 92 .
(4)بحار الاَنوار : 21 ـ 106 ؛ السيرة الحلبية : 2 ـ 412 .

السيرة المحمدية _ 126 _

  ثمّ ألغى جميع مناصب الكعبة السائدة في الجاهلية ، إلاّ ما كان نافعاً للناس، كالسدانة ، والحجابة ـ وهي القيام بشوَون أستار الكعبة ـ وسقاية الحجيج (1) ، وفي حديث له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أقاربه ، في اجتماع ضم بني هاشم و بني عبد المطلب ، أوضح لهم أنّ صلة القربى التي تربطهم به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا تبرر لاَحد منهم أن يتجاهل قوانين الحكومة الاِسلامية ، فيتخذ من انتسابه إلى زعيمها ذريعةوغطاء لارتكاب ما لا يحل للآخرين ، وهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذا قد شجب كلّ تمييز وتفضيل غير صحيح وسليم ، داعياً إلى لزوم العدل ومراعاة المساواة بين جميع الطبقات : « يا بني هاشم ، يا بني عبد المطلب ، إنّي رسول اللّه إليكم وإنّي شفيق عليكم ، لا تقولوا أنّمحمّداً منّا ، فواللّه ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلاّ المتّقون ، فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم ، ويأتي الناس يحملون الآخرة ، ألا وإنّي قد أعذرت فيما بيني وبينكم وفيما بين اللّه (عز ّوجلّ ) وبينكم ، وإنّ لي عملي ولكم عملكم » (2) ، ثمّ دعا إلى اجتماع تاريخي كبير عند بيت اللّه الحرام ، حضره حشد كبير من أهالي مكة ، وألقى فيهم خطاباً تاريخياً عالج الاَمراض الاجتماعية الخاصة بالمجتمع العربي في ذلك العصر وحتى عصرنا الحالي ، ومن أهمّما ورد وتناوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذا الخطاب :
1 ـ التفاخر بالنسب : فقد كان من الاَمراض المستحكمة في البيئة العربية الجاهلية ، إذ كان من أكبر أمجاد المرء أن ينتسب إلى قبيلة معروفة ، أو يتفرع نسبه عن عشيرة بارزة كقريش مثلاً ، فأبطل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في خطابه هذه العادة السيئة بقوله : « أيّها الناس إنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها ، ألا إنّكم من آدم و آدم من طين » ، وبذا فإنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صنّف الشخصية بالتقوى و الورع : « ألا إنّ خير عباد اللّه عبد اتقاه » فأعطى الفضيلة والمنزلة لاَهل التقوى والورع خاصة .
2 ـ التفاضل بالقومية العربية : فقد اعتبروا الانتساب إلى العرق العربي مفخرة ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ العربية ليست بأب والد ، ولكنّه لسان ناطق ، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه » .

---------------------------
(1) بحار الاَنوار : 21 ـ 132 .
(2) بحار الاَنوار : 21 ـ 111 .

السيرة المحمدية _ 127 _

3 ـ المساواة بين أفراد البشر : فقد دعا إلى دعم المساواة بين الاَفراد والجماعات : « إنّ الناس من آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمي ، ولا للاَحمر على الاَسود ، إلاّ بالتقوى » ، وبذلك ألغى التمييز العنصري موَسساً بذلك ميثاق حقوق الاِنسان قبل أيّ جهة عالمية .
4 ـ الاَحقاد والحروب الطويلة : إذ أنّالحروب المتلاحقة بين القبائل العربية أدت إلى نشأة الحقد والضغينة ، فلم يجد طريقاً للقضاء عليها إلاّبالطلب من الناس أن يتنازلوا عمّا لهم من دماء في أعناق الآخرين ، سفكت في عهد الجاهلية ، فتعتبر ملفات العهد القديم باطلة ، وقال في ذلك « ألا إنّ كلّمال ومأثرة ودم في الجاهلية تحت قدمي هاتين » .
5 ـ الاَُخوة الاِسلامية : حيث دعا إلى اتّحاد المسلمين ووحدة كلمتهم وحقّ المسلم على أخيه المسلم ، فهو من أهمّ مميزات الدين الاِسلامي ، وهو بهذا يرغّب غير المسلم في اعتناق الاِسلام إذا سمع ورأى مثل هذه الحقوق والعلاقات المتبادلة بين المسلمين : « المسلم أخو المسلم ، والمسلمون إخوة ، وهم يد واحدة على من سواهم ، تتكافوَ دماوَهم ليسعى بذمّتهم أدناهم » (1) ، وبعد ذلك تفرّغ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للحكم على بعض المجرمين والموَذين ، حيث كان هناك عدد من المجرمين المكيّين ، كان لابدّ من عقابهم على ما فعلوا من أعمال سيئة ، وذلك بالرغم من إصدار العفو العام ، وقد طارد الاِمام علي ( عليه السلام ) اثنين منهم لجآ إلى بيت أُمّ هانىَ أُخت الاِمام ( عليه السلام ) التي أجارتهما ، ولكن الاِمام ( عليه السلام ) طلب منها أن يعلم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأمانها ليعطي رأيه في جوارها وأمانها كمرأة ، فقبل ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك و قال : « قد أجرنا من آجرت ، وأمّنا من أمّنت ، فلا يقتلهما » (2) ، وهو بهذا وضع قاعدة تقبل جوار المرأة وأمانها ، كما أنّ عبد اللّه بن أبي السرح الذي ارتدّعن الاِسلام وأمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقتله ، نجا من القتل بشفاعة عثمان بن عفان له ، وكذلك عكرمة بن أبي جهل الذي فرّ إلى اليمن ، وتشفّعت فيه زوجته ، فنجا من القتل ، كما أمّن أيضاً كبير المجرمين صفوان بن أُمية حينما طلب « عمير بن وهب » من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يعفو عنه ، فأمهله أربعة أشهر ليعلن إسلامه بعد التفكير .

---------------------------
(1) روضة الكافي : 246 ؛ السيرة النبوية : 2 ـ 412 ؛ مغازي الواقدي : 2 ـ 836 ؛ بحار الاَنوار : 21 ـ 105 .
(2) الاِرشاد : 72 .

السيرة المحمدية _ 128 _

  وكذلك وضع ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قاعدة مبايعة النساء له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقد بايعته المرأة للمرّة الاَُولى في بيعة العقبة بهذه الكيفية : حيث أمر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بإحضار قدح ماء ، ثمّ ألقى في الماء شيئاً من الطيب والعطر فأدخل يده فيه ، وتلا الآية التي وردت فيها الاَُمور المذكورة ، ثمّ نهض من مكانه وقال لهن : من أرادت أن تبايع فلتدخل يدها في القدح ، فإنّي لا أصافح النساء (1) ، وقد أجرى البيعة بهذا الاَسلوب ، لوجود عدد كبير من النساء الفاسدات بينهن ، فكان لابدّ من ذلك حتى لا تستأنف إحداهن عملهن القبيح بعد ذلك في السرّ ، هدم بيوت الاَصنام وللقيام بهذه المهمة الضرورية ، أرسل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فرقاً عسكرية إلى ضواحي مكة وداخلها وفي بيوتها لهدم الاَصنام المتواجدة فيها ، كما أعلن ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « من كان في بيته صنم فليكسره » ، و أرسل خالد بن الوليد إلى تهامة لدعوة قبيلة جذيمة بن عامر وهدم أصنامهم ، ونهاه النبي عن القتل أو إراقة الدماء ، إلاّأنّه لما كانت هذه القبيلة قد قتلت أيّام الجاهلية عمّ خالد ووالد عبد الرحمن بن عوف ، فإنّه حقد عليهم ، وأمر بقتل عدد منهم ، الاَمر الذي أغضب النبيعندما علم بذلك ، فأرسل مالاً كثيراً مع الاِمام علي ( عليه السلام ) ليدفع دية هوَلاء المقتولين وقال : « اللهمّإنّي أبرأ ممّا صنع خالد بن الوليد » (2) ، وارتاح بعد ذلك لما أقدم عليه الاِمام علي ( عليه السلام ) من معاملة طيبة لاَهالي المنكوبين وقال : « واللّه ما يسرني يا عليّأنّ لي بما صنعت حمر النعم ، أرضيتني رضي اللّه عنك ، أنت هادي أُمّتي » (3) .

4 ـ معركة حنين
  وبعد أن استقر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مكة مدّة خمسة عشر يوماً ، غادرها إلى أرض قبيلة هوازن وثقيف ، بعد أن عيّن معاذ بن جبل ليُعلّم الناس القرآن وأحكام الاِسلام ، وعتاب بن أسيد لاِدارة الاَُمور والصلاة بالناس جماعة في مكة المكرمة ، وقد بلغ الجيش الذي سار به إلى هوازن : 12 ألف مسلحاً ، إذ شاركه هذه المرة ألفان من شباب قريش الذين أسلموا بعد الفتح بقيادة أبي سفيان (4) ، إلاّ أنّ كلّ ذلك العدد الكبير لم يساعد في النجاح والانتصار كما ذكر القرآن الكريم : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَينٍ إِذْأَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الاََرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرين ) (5) ، وقد برز من طرف العدو : مالك بن عوف النصري الذي عرف بالفروسية والشجاعة ، كما أنّه أدار الاتّصالات المكثفة بين هوازن وثقيف ، لاِخراج خدعة عسكرية توجه منها ضربة إلى جيش الاِسلام ، فقد اقترح بوضع الاَطفال والنساء والاَموال وراء ظهور الرجال حتى يضطروا إلى أن يقاتلوا عنهم ، كما أرسلوا الجواسيس ورجال مخابراتهم للتجسس على المسلمين ، مثلما بعث النبيرجاله إلى ديار الاَعداء .

---------------------------
(1) في سورة الممتحنة 12 : ( ألاّ يشركن باللّه شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتانٍ يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف ) .
(2) السيرة النبوية : 2 ـ 420 ؛ الكامل : 1 ـ 73 ؛ إمتاع الاَسماع : 1 ـ 400 .
(3) مجالس ابن الشيخ : 318 .
(4) طبقات ابن سعد : 2 ـ 139 ؛ مغازي الواقدي : 3 ـ 889 .
(5) التوبة : 25 .

السيرة المحمدية _ 129 _

  وحسب الوضع والموقع ، قرّر مالك بن عوف أن يخفى الجنود خلف الصخور وفوق الجبال ليباغتوا المسلمين في الوادي ، الذي دخلته أوّل كتيبة ، من بني سليم بقيادة خالد بن الوليد فبادرهم العدو وأخذ يرشقهم بالاحجار والنبال ويضربونهم بالسيوف ، فوقعوا فيهم ضرباً وقتلاً ، ممّا أدّى إلى إصابة المسلمين بالفوضى وبلبلة الموقف وخلخلة الصفوف فالفرار ، الاَمر الذي جعل النبي « صلى الله عليه وآله وسلم » يأمر العباس بن عبد المطلب بأن ينادي على هوَلاء الفارّين والهاربين ويرجعهم ، فبلغت صرخاته مسامعهم فثارت حميتهم ونادوا : لبيك لبيك ، وبذا فقد تمكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تنظيم صفوف جيشه من جديد ، وحملا حملة رجلٍ واحدٍ على العدو لغسل ما لحق بهم من عار الفرار ، وتمكّنوا من النيل منهم وإجبارهم على الانسحاب من الموقع والفرار من أمامهم وذلك بتشجيع وحماس من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب » ، ممّا كان الاَثر الفعال في إلقاء الهزيمة المنكرة بقبيلة هوازن ، تاركين وراءهم أموالهم ونساءهم وصبيانهم الذين كانوا قد وضعوهم خلف ظهورهم حسب أوامر وخطة قائدهم ، أمّا النتيجة النهائية للمعركة ، فكانت شهادة ثمانية أفراد من المسلمين ، وأسر ستة آلاف من العدو ، وغنائم كثيرة من الحيوان وأربعة آلاف أوقية فضة (1) ، وأعطى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أوامره بإرسال الغنائم والاَسرى إلى الجعرانة ـ بين مكة والطائف ـ وبلغ من حنق المسلمين على المشركين في هذه المعركة ، أن قتلوا الرجال وذرّيتهم ، فلمّا بلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « ألا لا تُقتَل الذرية » ، وعندما قيل له : إنّما هم أولاد مشركين ، قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أو ليس خياركم أولاد المشركين ؟ كلّ نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها » (2) .

5 ـ غزوة الطائف
  سكنت قبيلة ثقيف ، واشتركوا مع هوازن في قتال المسلمين ، وهربوا بعد المعركة السابقة إلى الطائف متحصنين في قلاعها وحصونها ، فأمر النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» بالاِعداد لمطاردتهم وملاحقتهم حتى ديارهم. فأرسل فريقاً عسكرياً بقيادة أبي موسى الاَشعري لملاحقتهم في أوطاس ، فأحرز انتصاراً كبيراً على العدو .

---------------------------
(1) 4 آلاف أوقية تساوي 852 كيلو غرام .
(2) إمتاع الاسماع : 1 | 409 .

السيرة المحمدية _ 130 _

  وأمّا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد توجه بجيشه إلى الطائف ، حيث هدم حصن مالك بن عوف في طريقه ، وسواه بالاَرض ، حتى لا يستغله العدو فيما بعد ، واشتهرت حصون الطائف وقلاعها بالمنعة وارتفاع الجدران ، فتمكنوا من ردّ المسلمين عن طريق حذفهم ورميهم ، الذي أدّى إلى تراجعهم ، فاقترح سلمان الفارسي أن يرمى الحصن بالمنجنيق ـ الّذي يأخذ دور الدبابة في الحروب الحديثة ـ فبدأوا برمي الحصون وأبراجها بالحجارة طوال عشرين يوماً ، ممّا أصاب عدداً من المسلمين في هذه الاَعمال (1) وممّا يذكر أنّ سلمان الفارسي هو الذي صنع جهاز المنجنيق ، وعلّم المسلمين كيفية استخدامه ، بينما يرى آخرون أنّ المسلمين حصلوا على هذا السلاح من يهود خيبر ، وأنّ سلمان ربما أدخل عليه تحسينات إضافة أنّه علم المسلمين أسلوب استعماله ، كما أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد حصل على بعض الآليات الحربية من خلال ما ترك في حروبه لقبيلة دوس التي استخدمتها في معاركها ضد ّالمسلمين ، فاستفاد منها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في غزو الطائف ، إلاّ أنّ نتائج تلك العمليات والآليات لم تأت بنتيجة حاسمة ، فاتجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جانب آخر قد يكون أكبر قوّة وأثراً من الجانب العسكري ، وهو الناحية النفسية والاقتصادية ، إذ أنّ أرض الطائف كانت زراعية ، ذات نخل وأعناب ، ممّا فكر به الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لتهديدهم وتخويفهم لاَنّه سيعمد إلى قطع الاَعناب وإفناء المزارع ، إذ استمر المعتصمون بالحصون في المقاومة ، وعندما لم يرضخوا للتهديد ، نفذ المسلمون عملياً أوامر النبي ص بالقطع والحرق والاِتلاف ، ممّا أزعج الاَهالي وطلبوا من النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» أن يأمر رجاله بالكف عن ذلك ، فتركوا العمل بهذا التكتيك ، وقام بمحاولة أخيرة للتخلص منهم ، فنادى : أي عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر ، فنزل عدد منهم ملتحقاً بالمسلمين ، وعرف منهم الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» بعض الاَخبار المرتبطة بالحصن، وأنّه لا نية لهم للاستسلام ، و لديهم الاستعداد للمقاومة حتى لو طال الحصار عاماً واحداً ، فلن يقعوا في أزمة أو ضيق بسبب طول الحصار ، ولذا فإنّ الجيش الاِسلامي رأى أنّه من الاَصلح الرجوع عن ساحة القتال ، وذلك للاَسباب التالية :
1 ـ مقتل عدد من المسلمين ، من قريش والاَنصار ، كما أنّ شهر شوال كان قد انتهى وبدأ شهر ذي القعدة وهو من الاَشهر الحرم ، وللحفاظ على هذه السُّنّة ، فقد رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينهي الحصار في أقرب وقت .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 4|126 ويرى ابن هشام أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أوّل من استخدم المنجنيق في الجزيرة العربية .

السيرة المحمدية _ 131 _

  2 ـ كما أنّ موسم الحجّ كان قد اقترب ، وخاصة أنّ إدارة الموسم ومناسكه أصبحت في يد المسلمين الآن ، وليس بيد المشركين كما في السابق ، ولكلّ ذلك ترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطائف متوجهاً إلى الجعرانة حيث حفظت الغنائم والاَسرى ، فاستقر فيها 13 يوماً وزع فيها الغنائم بأسلوب جدير بالدراسة والتأمل : فقد أخلى سبيل بعض الاَسرى ، وخطط لاِخضاع وإسلام مالك بن عوف قائد المعارك ضدّ المسلمين ، وكان من بين المشركين مع هوازن ، قبيلة بني سعد التي أرضعت إحدى نسائها ـ حليمة السعدية ـ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكبر بينهم وعاش معهم خمس سنوات ، ولذا فإنّ جماعة مسلمة منهم قدمت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلبون سراح الاَسرى من هذه القبيلة ، وذكّروه بكلّ حياته بينهم في تلك السنوات ، فردّ عليهم النبيص محسناً إليهم بأكثر ممّا قدموا ، وتنازل عن نصيبه في الاَسرى ، فتبعه المهاجرون والاَنصار و الآخرون ، فارجعوهم إلى ذويهم ، كما أنّ النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» دعا أُخته شيماء وبسط لها رداءه ورحب بها ، ودمعت عيناه ، وسألها عن أُمّه وأبيه من الرضاعة ، فأخبرته بموتهما ، فقال : إن أحببت فأقيمي عندنا محببة مكرمة ، وإن أحببت أن أُمتعك وترجعي إلى قومك فعلت ، فاختارت الرجوع إلى أهلها بعد أن أسلمت طوعاً ورغبة ، ومنحها ثلاثة عبيد وجارية (1) وقد أدّت معاملات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه ، وإطلاق الاَسرى إلى رغبة هوازن في الاِسلام ، فأسلموا من قلوبهم، ففقدت الطائف آخر حليف لها ، أمّا بالنسبة لمالك بن عوف فقد رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرصة طيبة للسيطرة عليه ، وهو رئيس المتمردين ، فقال لوفد بني سعد : أخبروا مالكاً إنّه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الاِبل ، وعندما بلغه ذلك ، وعلم بقوّة الاِسلام وأخلاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعظمته ، قرر الالتحاق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج من الطائف لاِدراك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة أو الجعرانة ، حين ردّ عليه ماله وأهله وأعطاه الاِبل ، فأسلم وحسن إسلامه ، وجعله قائداً على من أسلم من قومه حارب بهم ثقيف .

---------------------------
(1) البداية والنهاية : 2|363 ؛ الاِمتاع : 1|41 3 .

السيرة المحمدية _ 132 _

  وأمّا الغنائم ، فقد قسمها بين المسلمين ، ووزع الخمس الّذي هو حقّه الخاص ، بين أشراف قريش حديثي العهد بالاِسلام ليتألّفهم ، مثل : أبي سفيان ومعاوية ابنه ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن هشام و سهيل بن عمرو ، وحويطب ابن عبد العزى ، والعلاء بن جارية ، وصفوان بن أمية ، وغيرهم ممّن كانوا أعداءه بالاَمس القريب ، لكلّ واحد منهم مائة بعير (1) وهذا الفريق يصطلح عليه في الفقه الاِسلامي : الموَلّفة قلوبهم ، وهم يشكّلون إحدى مصارف الزكاة بنص القرآن الكريم ، إلاّ أنّ بعضهم لم يستحسن أسلوب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في التوزيع ، ورأى أنّه لم يعدل حين وزع خمس الغنيمة على أبناء قبيلته ، ومن أشهرهم :ـ ذو الخويصرة التميمي، الذي رفض أُسلوب النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» ممّا دعا عمر بن الخطاب أن يستأذن النبي ص لقتله ، ولكن النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» قال : دعه فإنّه سيكون له شيعة (أي تَبع) يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية (2) وقد أصبح فعلاًً زعيماً لفرقة الخوارج في عهد الاِمام علي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما اشتكى عدد من جانب الاَنصار ، حول كيفية توزيع الخمس ، فخطب فيهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) موضحاً موقفه من هذا التوزيع في تأليف القلوب : « أفلا ترضون يا معشر الاَنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم ، والذي نفس محمّد بيده ، لولا الهجرة لكنت إمرىًًَ من الاَنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الاَنصار شعباً ، لسلكت شعب الاَنصار» (3) ثمّ ترحم عليهم قائلاً : «اللّهمّ ارحم الاَنصار وأبناء الاَنصار وأبناء أبناء الاَنصار» ، فأثار بهذه الكلمات مشاعرهم فبكوا بشدّة وقالوا : رضينا يا رسول اللّه حظاً وقسماً ، ويكشف ذلك عن عمق حكمة النبي ص وحنكته السياسية ، وأُسلوب معالجته للمشكلات بروح الصدق واللطف ، وبعد ذلك خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معتمراً من الجعرانة ، ثمّ انصرف راجعاً إلى المدينة فوصلها في أواخر ذي القعدة أو أوائل شهر ذي الحجّة ، مستخلفاً على مكّة : عتاب بن أسيد ، الذي بلغ من العمر عشرين عاماً ، و قُدّر له راتبٌ يوميٌّ ، درهم واحد ، ولما احتجّ بعضهم على هذا التعيين ، قال : «لا يحتج منكم في مخالفته بصغر سنه ، فليس الاَكبر هو الاَفضل ، بل الاَفضل هو الاَكبر ، وهو الاَكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا ، ومعاداة أعدائنا ، فلذلك جعلناه الاَمير عليكم والرئيس عليكم ، فمن أطاعه فمرحباً به ، ومن خالفه فلا يبعدُُ اللّه غيره» (4) وأكد بذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معيار الاَهلية والجدارة والكفاءة في حيازة المناصب الاجتماعية والاَُمور الاجتماعية الاَُخرى ، ومن أحداث هذه السنة أيضاً :

---------------------------
(1) المحبّر : 473 ؛ م غازي الواقدي : 3| 944 ؛ السيرة النبوية: 3|493 .
(2) وجاء في السيرة الحلبية أنّه أصل الخوارج .
(3) السيرة النبوية : 2|498 ؛ مغازي الواقدي : 3|957 .
(4) بحار الاَنوار: 21| 122 ؛ إمتاع الاَسماع : 1|432 .

السيرة المحمدية _ 133 _

  وفاة زينب بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي التي كان زوجها ابن خالتها أبي العاص الذي بقي على شركه بعد أن آمنت هي بأبيها ، ولكنّه آمن في الفترة الاَخيرة وأعاد النبي ص إليه زوجته ، كما أنّالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رزق في أواخر هذا العام ولداً سمّاه إبراهيم من زوجته مارية القبطية ، فأهدى المولدة هدية ثمينة ، وعق له في اليوم السابع وحلق شعره وتصدق بوزنه فضة في سبيل اللّه (1) .

1 ـ أحداث السنة التاسعة من الهجرة
ـ عام الوفود ـ هدم الاَصنام .
ـ غزوة تبوك ـ مسجد ضرار .
ـ وفد ثقيف ـ إعلان البراءة من المشركين .
2 ـ أحداث السنة العاشرة من الهجرة
ـ وفد نجران و المباهلة ـ وفود القبائل على المدينة .
ـ حجّة الوداع ـ الخلافة بعد النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) .
ـ وضع أساس التعامل مع : المرتدين و الاَخطار الخارجية .
ـ مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وفاة ابنه إبراهيم (عليه السلام) .

3 ـ أحداث السنة الحادية عشرة من الهجرة
ـ الكتاب الذي لم يكتب ـ اللحظات الاَخيرة .

أحداث السنة التاسعة من الهجرة

  1 ـ عام الوفود انتهت السنة الثامنة بسقوط أكبر قاعدة من قواعد الوثنية والشرك ، في أيدي المسلمين ، الذين انتصروا على أعدائهم تماماً ، فأخذت القبائل المتمردة تتقرب إليهم تدريجياً ، وتوالت وفودُها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقدم ولاءها وتعلن إسلامها وتتقبل الرسالة المحمّدية ، ممّا دعت تلك الكثرة من الاَعداد الوافدة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسمى بعام الوفود ، (2) إنّ دراسة الوفود وما دار بينهم و بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تفيد بوضوح بأنّ الاِسلام انتشر في الجزيرة العربية عن طريق الدعوة والتبليغ ، وتحدث القرآن الكريم في سورة خاصة عن حضور تلك الوفود على النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» وما حقّقه الاِسلام من فتح وانتصار : ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِوَالْفَتْح * وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللّهِ أَفْواجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً) (3) إلاّ أنّه بالرغم من ذلك فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعدّ في هذا العام عدّة سرايا بعثها إلى جهات معينة ، من جملتها سرية الاِمام علي «عليه السلام» إلى أرض طيء ، وقد اختصت لهدم مظاهرالوثنيّة .

---------------------------
(1) تاريخ الخميس: 2|131 .
(2) سجل الموَرخ محمد ابن سعد في الطبقات : 1|291 ، أسماء 73 وفداً قدموا على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) طوال السنة 9 هـ .
(3) سورة النصر .

السيرة المحمدية _ 134 _


  كما وقعت غزوة واحدة مثل غزوة تبوك ، وإن لم يقاتل فيها النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» أحداً ، إلاّ أنّها كانت تمهيداً لفتح المناطق الحدودية .

2 ـ هدم الاَصنام
  أدرك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضوء تعاليم الوحي أنّ الوثنية كجرثومة الكوليرا ، تهدم فضائل الاِنسان وشرفه، وتقضي على مكارم الاَخلاق ، وتحط من مكانة الاِنسان الرفيعة ، وتجعله كائناً حقيراً أمام الطين والحجر ، وعلى هذا الاَساس أمره اللّه تعالى أن يجتث جذور الشرك من كيان ذلك المجتمع الموبوء ، بإزالة كلّمظاهر الوثنية وأنواعها وأشكالها ، مستخدماً القوة تجاه الجماعات المعارضة ، وعلم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ في قبيلة طيء صنماً كبيراً يقدَّس حتى ذلك الوقت ، فأرسل الاِمام علياً (عليه السلام) مع 150 فارساً ليحطم هذا الصنم ويهدم بيته ، ونجح الاِمام (عليه السلام) في مهمته ، وعاد بالغنائم والاَسرى إلى المدينة ، وهرب رئيسها «عدي بن حاتم الطائي» إلى الشام ملتحقاً بأهل دينه ، لاَنّه كان نصرانياً حسب ما ذكر بنفسه ، وترك أُخته في قومه ، إلاّ أنّ النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» أرجعها إلى أخيها بالشام ، فأخذت توبخه ممّا صنع من هروبه مع أهله ، وتركها وحيدة ، ثمّ طلبت منه أن يذهب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعلن إسلامه ، فاحترمه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قدم إليه في المدينة ، وقدم له ما يليق به كأمير وسيد على قومه ، ولما شاهد من سيرته وأفعاله ما يدل ويوَكد على أنّه نبي اللّه ، أسلم على يديه (صلى الله عليه وآله وسلم) (1)

3 ـ غزوة تبوك : وهي قلعة قويّة في طريق حجر والشام .
  أعدّ إمبراطور الروم قوّة عسكرية لمهاجمة المسلمين الذين ازدادت قوّتهم وأعدادهم وخطرهم على الدولة الرومانية ، وتألفت هذه القوّة من 40 ألف فارس و كانت مجهزة بأحدث الاَسلحة و المعدات ، وتقدمت إلى منطقة البلقاء ، فأمر النبي ص عندها أصحابه بالتهيّوَ والاستعداد لغزو الروم ، في موسمٍ شديد الحرارة ، وجدب وعسرة ، إلاّ أنّ الدوافع المقدّسة والجهاد في سبيل اللّه غَلَبَ على كلّتلك الاَُمور الدنيوية ، فشارك 30 ألف من المسلمين في هذه الغزوة تحددت نفقاتها من الزكاة من أهل الغنى والثروة ، وقد اعتبرت هذه الغزوة خيرَ مَحَكٍّ لمعرفة المجاهدين الصادقين من المنافقين والمبدعين ، إذ أنّ بعضهم تخلّف بحجّة الخوف من أن يفتتن بالنساء الروميات ، وهو عذر صبياني أقبح من الذنب : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتنِّي أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لمُحيطَةٌ بِالكافِرين) (2) وكان منهم أيضاً المنافقون الذين تظاهروا بالاِسلام ، فثبَّطوا الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخوفوهم من قوّة الرومان ، و اعتذروا بالحر الشديد : (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّحرّاً لَوْ كانُوا يَفْقَهُون) (3) كما أنّ مجموعة من الخونة ألّفت شبكة جاسوسية في المدينة ، تمكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القضاء عليها بهدم المكان الذي اجتمعت به وحرقة ، وهو بيت سويلم اليهودي .

---------------------------
(1) مغازي الواقدي : 2|988 ؛ السيرة النبوية : 3|578 ؛ الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الاِمامية : 352 .
(2) التوبة : 49 .
(3) التوبة : 81 .

السيرة المحمدية _ 135 _

  وكذلك تخلّف عنهم المخلّفون الثلاثة ، الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم ، حينما قالوا بأنّهم سيلحقون بركبه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما يفرغون من الحصاد ، فوبّخهم اللّه تعالى وعاقبهم ، ليكونوا عبرةً لغيرهم ، كما تخلف عن الغزوة ولكن بنية صادقة البكاوَون ، وذلك لعدم تمكّنهم من المشاركة في الجهاد ، لفقرهم و عدم حصولهم على دواب تحملهم ، ولم يستطع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجهز ذلك لهم فقال : لا أجد ما أحملكم عليه ، كما لم يشارك فيها الاِمام عليّ (عليه السلام) فقد أبقاه النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» في المدينة ، خوفاً من إثارة فتنة أو قيام انقلاب خلال غيابه ، بمساعدة القوى المضادة للاِسلام ، وبالرغم من أنّالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد استخلف على المدينة «محمد بن مسلمة» فإنّه قال للاِمام علي (عليه السلام) : «أنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي و قومي » فكأنّه تعيّن كقائد عسكري في المدينة يحفظ الاَمن والاستقرار فيها ، ولذا فإنّ المنافقين استغلوا ذلك فرصة لنشر الشائعات والاَقاويل في عدم اصطحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للاِمام علي (عليه السلام) معه في الجيش ، ممّا جعل الاِمام (عليه السلام) يسير إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على بعد ثلاثة أميال من المدينة ليسأله عن هذا الاَمر قائلاً : «يا نبي اللّه ، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وتخففت عني» فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حينئذٍ كلمته التاريخية الخالدة التي اعتبرت من الاَدلة القاطعة على إمامته وخلافته بعده «صلى الله عليه وآله وسلم» : «كَذِبوا ولكنّي خلّفتُك لما تركتَ ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» ، (1) وهكذا فقد استعرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المعسكر قبل تحرّك الجيش ، وألقى فيهم خطاباً هاماً لتقوية معنويات المجاهدين ، وشرح فيه هدفه من هذه التعبئة العامة الشاملة .

---------------------------
(1) إمتاع الاَسماع : 1|450 .

السيرة المحمدية _ 136 _

  وفي الطريق واجه متاعبَ ومشاق كثيرة ، ولذا سمى هذا الجيش بجيش «العسرة» ، إلاّأنّ إيمانهم العميق ، وحبّهم للهدف المقدس ، سهّل عليهم الاَمر ، وعندما مروا بأرض ثمود ، غطى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجهَه بثوبه وأمر أصحابه بسرعة السير : «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلاّوأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثلما أصابهم» ، كما نهاهم أن يشربوا من مائها ولا يتوضأوا به للصلاة ولا يطبخ به طعام (1) ولكنّهم شربوا عندما وصلوا إلى البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح (عليه السلام) فنزلوا عليها بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أظهر في الطريق بعض الاَُمور الغيبية حتى لا يوَثّر شكّ بعضهم في إيمان الآخرين ، مثلما جرى لناقته التي ضلت الطريق ، وبدأ المنافقون في التقليل من قوّة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واتّصاله باللّه سبحانه و تعالى ، فأخبرهم بموقعها ، بعلم من اللّه تعالى ، وتنبأ عن أبي ذر و ما سيجري له عندما تأخّر عنهم فقال : رحم اللّه أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده (2) على كلّ حال ، وصل الجيش في مطلع شهر شعبان إلى أرض تبوك ، دون أن يجدوا أثراً لجيش الروم الذي كان قد انسحب إلى داخل بلاده مفضلاً عدم مواجهة المسلمين ، وموَكدين حيادهم تجاه الحوادث والوقائع التي تجري في الجزيرة العربية ، فجمع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) القادة و شاوَرَهم في أمر التقدّم في أرض العدو ، أو العودة إلى العاصمة ، فقرروا العودة ليستعيد الجميعُ نشاطَه بعد المشاق والتعب ، إضافة إلى أنّهم حقّقوا هدفهم بتخويف العدو وإلقاء الرعب في قلوبهم ، فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن كنت أُمرت بالسير فَسِرْ ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لو أُمرت به ما استشرتُكم فيه» (3) فاحترم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) آراء هوَلاء وقرر العودة إلى المدينة .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 2|521 ؛ السيرة الحلبية : 3|134 .
(2) السيرة النبوية : 2|521 ؛ السيرة الحلبية : 3|134 .
(3) مغازي الواقدي : 3|1019 .

السيرة المحمدية _ 137 _

  ورأى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ الوقت مناسب للاتّصال ببعض حكّام وروَساء المناطق الحدودية ، ليعقد معهم معاهدات أمن وعدم إعتداء ، ليأمن جانبهم. فاتصل شخصياً بزعماء أيلة وأذرح والجرباء ، وعندما قدم يوحنا بن روَبة زعيم أيلة ، إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قدم له فرساً أبيض وأعلن عن طاعته له (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فاحترمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وصالحه وكساه برداً يمانياً ، وقبل أن يدفع جزية قدرها 300 دينار سنوياً على أن يبقى على دينه المسيحي ، ووقع الطرفان على كتاب أمان ، فضمن بذلك أمن المنطقة الاِسلامية شمالاً ، وفي طريق تبوك تقع منطقة دومة الجندل ذات الخضرة والماء ، وتبعد عن الشام 50 فرسخاً ، وعن المدينة عشرة أميال ، حكمها رجلٌ مسيحي هو: أكيدر بن عبد الملك ، فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوّة بقيادة خالد بن الوليد لاِخضاعه ، فتمكن من السيطرة عليهم وإحضار أكيدر إلى الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» ، فأعلن خضوعه وقبل دفع الجزية والبقاء على دينه ، وكتب عهداً وصالحه ، وأهداه ، ثمّ أوصله إلى بلده بحراسة خاصة (1) فانتهت بذلك الاَعمال العسكرية في تبوك ، ويمكن تقييم نتائج تلك العمليات العسكرية كما يأتي :
1 ـ إبراز مكانة وسمعة الجيش الاِسلامي في المناطق الخارجية ، ممّا أثر في القبائل هناك فتسارعوا بالقدوم والوفود على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد عودته من تبوك ، لتعلن خضوعها وطاعتها ، حتى سمّي ذلك العام بعام الوفود .
2 ـ ضمان أمن الحدود بعد توقيع المعاهدات والاتفاقيات مع حكّام تلك المناطق .
3 ـ تمهيد الطريق للمسلمين لفتح الشام بعد ذلك ، عندما تعلموا منه «صلى الله عليه وآله وسلم» أساليب تكوين وإعداد الجيوش الكبرى لمحاربة القوى العظمى .

---------------------------
(1) بحار الاَنوار : 21| 246 ؛ طبقات ابن سعد : 2|166 .

السيرة المحمدية _ 138 _

4 ـ تمييز الموَمن عن المنافق .
  وبعد أن مكث (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرين يوماً في تبوك ، توجه إلى المدينة ، إلاّ أنّ اثني عشر منافقاً تآمروا لاغتيال النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» قبل أن يصل إلى عاصمته ، كان ثمانية منهم من قريش والآخرون من أهل المدينة ، وذلك بتنفير ناقته في العقبة ـ بين المدينة والشام ـ ليطرحوه في الوادي ، غير أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) علم بموَامرتهم فأرعبهم بصياحه فيهم ، فتركوا العقبة هاربين ، ورفض (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرسل من يقضي عليهم أو اللحاق بهم ، ثمّ وصل الجيش إلى المدينة فرحين مسرورين معتزين بما حقّقوه من انتصار على الاَعداء ، وإلقاء الرعب في قلب دولة كبيرة ، ولما أرادوا التفاخر والتباهي على الذين تخلّفوا بعذر وقلوبهم مع جنود الاِسلام ، فإنّ النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» منعهم من ذلك ، لاَنّ النيّة الصالحة والفكر الطيّب يقوم مقام العمل الصالح الطيّب ، ثمّ أقدم (صلى الله عليه وآله وسلم) على معاقبة الثلاثة الذين تخلّفوا عن الجيش بأعذار واهية وهم : هلال بن أُمية ، كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، فقد أعرض بوجهه الكريم عنهم ، ولم يكترث بهم حينما قدّموا التهنئة بعودتهم مظفرين ، وقال فيهم: لا تكلّموا أحداً من هوَلاء الثلاثة ، ممّا أثر في التعامل معهم تجارياً ، فكسدت بضائعهم ، وانقطعت روابطهم مع أقربائهم ، فأثر ذلك في نفسياتهم : (حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الاََرضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفسُهُمْْ) (1) .

---------------------------
(1) التوبة : 118 .

السيرة المحمدية _ 139 _

   فقاموا بالتوبة إلى اللّه ، فأعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عفوه عنهم ، ورفع المقاطعة عنهم (1) وكانت هذه آخر معركة اشترك فيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لم يشارك بعدها في أيّقتال . . مسجد ضرار أصبح أبو عامر والد حنظلة غسيل الملائكة ، الذي استشهد في أُحد ، من المتعاونين مع المنافقين ، الذين خططوا دائماً للتخريب و إفساد أعمال الاِسلام ، ولذا قرر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتقاله فهرب إلى مكّة و منها إلى الطائف ثمّ إلى الشام ، فقاد منها شبكة تجسسية لصالح المنافقين ، وكتب في إحدى رسائله إلى جماعته ، يطلب منهم أن يبنوا مسجداً في قباء في مقابل مسجد المسلمين ليتخذوه مركزاً لتخطيط وتنفيذ موَامراتهم ، وكان النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» قد رفض من قبل طلبهم هذا قبل مسيره إلى تبوك ، فاستغلوا غيابه فأقاموه ، و لمّا عاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طلبوا منه أن يوَدي ركعتين فيه ليسبغوا عليه الصفة الشرعية ، إلاّ أنّ جبرائيل (عليه السلام) أوحى إليه «صلى الله عليه وآله وسلم» بحقيقة الاَمر والنية ، وسمّاه مسجد ضرار ووصفه بأنّه مركز لاِيجاد الفرقة والتآمر بين المسلمين:(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُوَْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْحارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلفُن إِنْ أَردْنا إِلاّالحُسْنى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِنْ أَوَّل يَومٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهّرِينَ) ، (2) .

---------------------------
(1) السيرة الحلبية : 3|165 .
(2) التوبة : 107 .

السيرة المحمدية _ 140 _

  ممّا دعا الرسولص أن يأمر فوراً بتدميره وإحراقه وتسويته بالاَرض ، فتحول مكانه إلى مزبلة فيما بعد (1) وكان ذلك ضربة قويّة للمنافقين ، إذ انتهى حزبهم الخبيث وهلك حاميهما الوحيد عبد اللّه بن أُبي بعد شهرين من غزوة تبوك .

5 ـ وفد ثقيف
  وهي من القبائل العنيدة التي تصلبت في موقفها أمام المسلمين ، وخاصة عندما حاصرهم الجيش الاِسلامي ، فلم يتنازلوا أو يسلموا ، إلاّ أنّ موقفهم تغيّر بعد غزوة تبوك التي أشهرت قوّة المسلمين ، وخوفت عدّة جهات ، ممّا دفع عروة بن مسعود الثقفي أحد سادتهم إلى أن يقدم إلى المدينة ويعلن إسلامه على يدي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ يرجع إلى قومه داعياً لهم إلى الاِسلام ، فرشقوه بالنبال والسهام حتى استشهد ، إلاّ أنّ موقفهم المتصلب تغيّر بعد فترة حينما علموا أنّمصالحهم التجارية وغيرها معرضة للخطر إذا لم يحسنوا علاقاتهم بالمسلمين ، فقرروا التوجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإعلان إسلامهم ، فأوفدوا عنهم عبد ياليل مع خمسة رجال للتفاوض مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهناك أمر النبيبإكرامهم،وعين «خالد بن سعيد» قائماً بشوَون صيافتهم ، وفي المفاوضات التي جرت بين الطرفين ، اشترط عليهم الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» أن يهدموا الاَصنام فرفضوا أوّل الاَمر ، ولكنّهم أطاعوه بالتالي على أن يقوم أشخاص غرباء ـ ليسوا من قبيلتهم ـ بهدمها ، كما طلبوا إعفاءهم من الصلاة ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا خير في دين لا صلاة فيه» .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 2|530 ؛ بحار الاَنوار : 20|253 .

السيرة المحمدية _ 141 _

   ثمّ وقّع لطرفان على شروط المعاهدة التي تمّت بينهما ، واختار «صلى الله عليه وآله وسلم» منهم عثمان بن أبي العاص (1) الذي حرص على التفقّه في الدين وتعلّم القرآن ، فأمّره عليهم وجعله نائباً دينياً وسياسياً عنه في قبيلة ثقيف ، وأن يصلي بالناس جماعة ، مراعياً أضعفهم : «يا عثمان تجاوز في الصلاة ـ أي خفف الصلاة وأسرع فيها ـ وأقدر الناس بأضعفهم ، فإنّ فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة» ، ثمّ كلّف (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا سفيان و المغيرة بن شعبة، للتوجه معهم لهدم الاَصنام هناك (2)
  6 ـ إعلان البراءة من المشركين في منى في أواخر هذا العام ـ 9هـ ـ نزل جبرائيل (عليه السلام) على النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» مع عدّة آيات من سورة البراءة ، يطلب أن يتلوها رجل يختاره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في موسم الحج ، وقد تضمنت الآيات رفع الاَمان عن المشركين ، وإلغاء جميع العهود ـ إلاّما التزم بها أصحابها ولم ينقضوها ـ فيبلغ ذلك إلى روَوس المشركين ليوضحوا موقفهم تجاه الدولة الاِسلامية خلال أربعة أشهر ، فإذا لم يتركوا ما هم عليه من شرك ووثنية خلال الاَربعة أشهر ، نزعت عنهم الحصانة ورفع عنهم الاَمان ، أمّا الدوافع التي كانت وراء صدور هذا العهد : البراءة :
1 ـ كان التقليد السائد عند العرب جاهلياً أن يعطي زائر الكعبة ثوبه الذي يدخل به مكة إلى فقير ، ويطوف بثوب آخر ، وإذا لم يكن له ثوب آخر ، فإنّه يستعيره ليطوف به حول البيت ، وإن لم يجد طاف عرياناً بادي السوأة ، حتى لو كانت إمرأة ، فإنّها تطوف عارية بالبيت على مرأى من الناس ، وهو الاَمر الذي انطوى على نتائج سيئة .

---------------------------
(1) كان أحدثهم سناً .
(2) السيرة النبويّة: 2|537 ؛ السيرة الحلبية :3|21 6 ؛ أُسد الغابة : 1|216 .

السيرة المحمدية _ 142 _

2 ـ كما أنّه بعد انتشار الاِسلام وإظهار قوّته في خلال عشرين عاماً ، رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستخدم القوّة لضرب كلّمظاهر الوثنية ، على أنّها نوع من العدوان على الحقوق الاِلهية والاِنسانية ، فكان لابدّ من استئصال جذور الفساد باستخدام القوّة العسكرية كآخر وسيلة .
3 ـ ثمّ إنّ الحجّ كان أكبر العبادات والشعائر الاِسلامية ، فكان على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوم بتعليم المسلمين مناسك الحجّ على الوجه الصحيح بعيداً عن تأثير أيّ نوع من الشوائب والزوائد ، فكان لابدّ من اشتراك النبي ص بنفسه في تعليمهم هذه العبادة بصورة عملية ، ولكن بشرط أن تخلو منطقة الحرم ونواحيها من المشركين العابدين للاَصنام ، ليصبح الحرم الاِلهي خالصاً للموحدين والعباد الواقعيين .
4 ـ والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يحارب لفرض العقيدة لاَنّالعقائد لا تخضع لاَيّ قهر أو فرض ، بل انحصر نضاله في القضاء على مظاهر الاعتقاد بالاَوثان ، بواسطة هدم بيوت الاَصنام ، ولكلّ ذلك فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اختار أبا بكر بعد أن علمه تلك الآيات من سورة البراءة ، ووجه صوب مكة يرافقه أربعون رجلاً ، ليتلوها على مسامع الناس يوم عيد الاَضحى ، إلاّأنّ جبرائيل (عليه السلام) أخبره «صلى الله عليه وآله وسلم» : «إنّه لا يوَدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك» ممّا جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطلب من الاِمام علي (عليه السلام) القيام بهذه المهمة : «إلحق أبا بكر فخذ براءة من يده و إمض بها إلى مكّة و انبذ بها عهد المشركين إليهم ، أي إقرأ على الناس الوافدين إلى منى من شتى أنحاء الجزيرة العربية براءة ، بما فيها النقاط الاَربع التالية :

السيرة المحمدية _ 143 _

1 ـ لا يدخل المسجد مشرك .
2 ـ لا يطوف بالبيت عريان .
3 ـ لا يحج بعد هذا العام مشرك .
4 ـ من كان له عهد عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو له إلى مدّته ، أي يحترم ميثاقه وماله و نفسه إلى يوم انقضاء العهد ، ومن لم يكن له عهد ومدّة من المشركين فإلى أربعة أشهر ، فإن أخذناه بعد أربعة أشهر قتلناه ، ويسري هذا ابتداء من اليوم العاشر من ذي الحجّة ، ويعني هذا أنّهذا الفريق من المشركين ، عليه أن يحدد موقفه من الدولة الاِسلامية ، فإمّا الانضمام إليها وترك مظاهر الشرك ، و إمّا القتال (1) وقد أدرك الاِمام (عليه السلام) أبا بكر في الجُحفة وأبلغه أوامر النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» فأعطاه الآيات ، ورجع أبو بكر إلى المدينة مستفسراً عن سبب موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بما أمره جبرائيل (عليه السلام) ، ولم يمض على قراءتها المدّة المعلومة ، حتى اعتنق أكثر المشركين الاِسلام ، فتم بذلك استئصال جذور الوثنية في أواسط السنة 10 هـ ، ويوَكد هذا الموقف على نيّة النبيبالكشف عملياً عن أهلية الاِمام علي (عليه السلام) وصلاحيته للقيام بأُمور الدولة في المستقبل ، تقع نجران على الحدود بين الحجاز و اليمن ، واعتنق أهلها المسيحية ، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قدكتب إلى أُسقف نجران أبو حارثة يدعوه إلى الاِسلام أو دفع الجزية ، أو الحرب بين الطرفين ، فتشاور مع رجاله وشخصيات دينية كان من ضمنهم شرحبيل الذي عرف بالعقل والحكمة والتدبير فقال : قد علمتُما وعد اللّه إبراهيم في ذرّية إسماعيل من النبوّة ، ثمّ اتّفقوا على إرسال وفد منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضمّ ستين شخصاً من أهل العلم بقيادة ثلاثة من أساقفتهم : ـ أبو حارثة بن علقمة : أسقف نجران الاَعظم والممثل الرسمي للكنائس الرومية في الحجاز ـ عبد المسيح : رئيس الوفد .

---------------------------
(1) فروع الكافي : 1|326 .

السيرة المحمدية _ 144 _

أحداث السنة العاشرة من الهجرة

1 ـ ورود وفد نجران ، و المباهلة ـ الاَيهم : من الشخصيات المقدّرة عندهم (1) وحينما وصلوا المدينة ودخلوا المسجد لمقابلة النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» في ملابسهم الخاصة من ديباج وحرير وذهب ، والصلبان في أعناقهم ، انزعج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك فأخبرهم الاِمام علي (عليه السلام) بأن يضعوا حللهم وخواتيمهم ثمّ يعودوا إليه، فدخلوا من ثمّ على النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي احترمهم وتقبّل هداياهم، ثمّ طلبوا الاِذن بالصلاة ـ أي صلاتهم ـ فأذن لهممدلّلاً بذلك على التسامح الديني الذي تميز به الرسول الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والاِسلام ، ثمّ جرت المفاوضات و المناقشات الدينية بينهم و بين النبي ص وخاصة فيما يرتبط بالسيد المسيح ، فأوضح لهم النبي ص ما جاء حوله مفصلاً في القرآن الكريم ، و أنّه بشر وليس إلهاً ولكنّهم لم يرضخوا لمنطق النبي ودلائله فدعاهم إلى المباهلة بعدما نزلت عليه الآيات : (فَمَنْ حاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِماجاءَكَ مِنَالعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَتَ اللّهِ عَلى الكاذِبين) (2) واتّفق الطرفان على إجراء المباهلة في الصحراء خارج المدينة ، فاختار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهله أربعة أشخاص فقط هم : الاِمام علي (عليه السلام) والسيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) والاِمامان الحسن و الحسين «عليهما السلام» فلم يكن غيرهم أطهر نفساً وأقوى وأعمق إيماناً ، وفي الموعد المحدد سار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الموقع بأسلوب مميز ، فقد احتضن الاِمام الحسين (عليه السلام) وأخذ بيد الاِمام الحسن (عليه السلام) وسارت السيدة الزهراء ( عليها السلام) خلفه ، والاِمام علي (عليه السلام) خلفها ، وهو يقول : إذا دعوتُ فأمِّنُوا وكان زعماء الوفد النجراني قد قرروا أنّه إذا خرج النبيبأهله فقط ، لم يباهلوه فإنّ ذلك يدل على صدقه وثقته بحاله ، فلما شاهدوا ذلك بأنفسهم اندهشوا له ، فكيف خرج النبيبابنته الوحيدة وأفلاذ كبده المعصومين للمباهلة ، فأدركوا أنّهواثق من نفسه ومن دعوته ، إذ لو لم يكن كذلك لما خاطر بأحبائه ولما عرضهم للبلاء السماوي ، ولهذا قال أُسقف نجران : يا معشر النصارى ، إنّي أرى وجوهاً لو شاء اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لاَزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الاَرض نصراني إلى يوم القيامة ، فاتّفقوا بذلك على عدم أداء المباهلة ، واستعدادهم لدفع الجزية سنوياً للنبي «صلى الله عليه وآله وسلم» في مقابل قيام الدولة الاِسلامية بالدفاع عنهم .
---------------------------
(1) السيرة الحلبية : 3|211 .
(2) آل عمران : 61 .

السيرة المحمدية _ 145 _

  وجاء عن السيدة عائشة: أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج يوم المباهلة وعليه مرط ـ كساء ـ مرجّل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ثمّ جاء الحسين فأدخله ، ثمّ فاطمة ثمّ علي ، ثمّ قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَعَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيْتِ وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيراً) (1) ويوَكد الزمخشري ، أنّ ذلك دليل قويّ على فضل أصحاب الكساء ، وبرهان على صحّة نبوّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأمّا عن وقت حدوث المباهلة ، فقد جاء أنّه لا خلاف بين الموَرخين بأنّ كتاب الصلح كتب عام 10هـ وفي يوم 25 من شهر ذي الحجّة ، ويذكر السيد ابن طاووس أنّه كان يوم 24 وهو الاَصح ، بينما رأى فريق آخر أنّه كان في يوم 21 أو 27 من الشهر نفسه (2) وقد جاء عن السيد ابن طاووس قصة المباهلة في كتاب الاِقبال بصورة مفصّلة لم ترد في أيّ كتاب آخر ، مشيراً بأنّ محتوياته اقتبست من كتابين :
1 ـ كتاب المباهلة لاَبي الفضل محمّد بن عبد المطلب الشيباني (3) .
2 ـ كتاب عمل ذي الحجّة تصنيف الحسن بن إسماعيل بن إشناس (4) .

---------------------------
(1) الاَحزاب : 33 .
(2) الاِقبال : 743 .
(3) يرى النجاشي أنّ له فترتين من الحياة ، كان في إحداها موثوقاً به ، وفي الاَُخرى لم يكن موثوقاً به .
(4) من مشايخ الطائفة الاِمامية ، توفي 460هـ ونقل أحاديث المباهلة .

السيرة المحمدية _ 146 _

  ما رأينا حول توقيت المباهلة ، فإنّ الدراسة العلمية تثبت أنّ الواقعة لم تحدث في شهر ذي الحجّة عام 10هـ ، أنّ الرسول ص كان قد توجه إلى مكّة لتعليم مناسك الحجّ في هذه السنة ، وفي اليوم 18 من هذا الشهر ـ و هو يوم الغدير ، نصب علياً (عليه السلام) في غدير خم (1) خليفة على المسلمين من بعده ، ولم تكن حادثة الغدير بالاَمر الهيّن حتى يتابع النبي ص سفره فوراً إلى المدينة ، إذ أنّه نصب خيمة جلس فيها الاِمام علي (عليه السلام) ليدخل عليه المهنّئون ، واستمر ذلك حتى ليلة 19 من ذي الحجّة ، حيث بدأت أُمّهات الموَمنين في التهنئة عند نهاية المراسيم ، فلا يمكن لذلك أن يغادر الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» غدير خم في يوم 19 ، نظراً لوجود الكثير من الحجّاج الذين كانوا يودعون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه البقعة ، والشواهد التاريخية توَكد أنّ النظرية المذكورة في توقيت المباهلة لا تحظى بالاعتبار الكافي ، فلابدّ لمعرفة زمن الحادثة التي هي من مسلمات القرآن والتفسير والحديث ، تحرّي المزيد من التحقيق والدراسة والتقصّي ، وأمّا سبب اختيار العلماء للوقت والزمن ، فذلك لاَنّ الشيخ الطوسي اختاره استناداً إلى روايات نَقَلها في كتابه ، مع وجود رجال غير ثقات ضمن سنده ، وتعتبر قصة مباهلة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع وفد نجران من أحداث التاريخ الاِسلامي الجميلة و المثيرة ، وإن قصّر بعض المفسرين والموَرخين في رواية تفاصيلها وتحليلها ، إلاّ أنّ عدداً من العلماء كالزمخشري في الكشاف ، والاِمام الفخر الرازي في تفسيره ، وابن الاَثير في الكامل ، تناولوها بدقائقها (2) .

---------------------------
(1) تبعد عن الجحفة ميلين ، والجحفة على 6 أميال من البحر الاَحمر ، وتقرب من رابغ الآن ، و 4 أميال من مكة ، أمّا بحساب المقاييس الحديثة فهي تبعد عن مكّة 220 كم ، والميل عبارة عن 3 آلاف ذراع ، والفرسخ يساوي 9 آلاف ذراع ، و قيل إنّ الميل 4 آلاف ذراع ، والفرسخ 12 ألف ذراع ، و الميل ثلث الفرسخ ، والفرسخ يعادل 3 أميال .
(2) الكشاف : 1|382 ؛ مفاتيح الغيب للرازي : 2 |471 ؛ الكامل : 2|112 .

السيرة المحمدية _ 147 _

  ما أنّها وما نزل فيها من القرآن الكريم تعتبر أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة ، في الكشف عن مقام ومكانة من باهل بهم رسول اللّه «صلى الله عليه وآله وسلم» والذين يتخذهم الشيعة أئمّة وقادة لهم ، فالآية الكريمة اعتبرت الاِمام الحسن والحسين «عليهما السلام» أبناء للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والسيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي المرأة الوحيدة التي ترتبط بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعبّر عن علي (عليه السلام) بأنفسنا ، فكان بحكم هذه الآية بمنزلة نفس رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أي من حيث الصفات النفسية والموَهلات الروحية .

2 ـ وفود القبائل في المدينة
  بعد إعلان البراءة من المشركين والوثنيين في موسم حج 9هـ ارتبكت القبائل فعمدت إلى إيفاد مندوبين عنها إلى عاصمة الاِسلام للحوار والتعرف على الدين الجديد والخضوع للدولة الاِسلامية ، وهو ما يكشف عن أنّه في عام 10هـ فَقَد هوَلاء كلَ حصن يمنعهم عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إذ لم تنته الفترةُ المقررة لاِعلان موقفهم ـ سواء بالرفض أو القبول ـ بعد أربعة أشهر ، إلاّوقد دخَلَت كلّمناطق الحجاز تحت راية التوحيد ، بالاِضافة إلى سكان اليمن والبحرين واليمامة ، وقد بعث (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن : معاذ بن جبل لينشر دين التوحيد ويشرح لهم التعاليم فأوصاه قائلاً : «يسّر ولا تعسّر ، وبشّر ولا تنفّر» إلاّ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى أن يرسل الاِمام عليّاً (عليه السلام) إلى تلك الجهات ليزيل المشكلات التي تعرقل تقدّم الاِسلام في تلك الديار ، ولكن الاِمام (عليه السلام) تواضَعَ في ذلك وقال : يا رسول اللّه تبعثُني وأنا شابٌّ أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء ـ أي ما فعلته قبل هذا ـ فضربَ الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» بيده على صدره و قال : «اللّهم اهد قلبه و ثبّت لسانه» ثمّ أوصاه بوصايا أربع هامة قائلاً : «يا علي أُوصيك : بالدعاء فإنّ معه الاِجابة ، وبالشكر فإنّ معه المزيد ، وإيّاك أن تخفر عهداً أو تعين عليه ، وأنهاك عن المكر فإنّه لا يحيق المكر السيّءُ إلاّبأهله ، وأنهاك عن البغي ، فإنّه من بُغي عليه لينصرنّه اللّه» .

السيرة المحمدية _ 148 _

  وفي اليمن دخلت قبيلة همدان كلّها في الاِسلام في يومٍ واحد ، حينما قرأ عليهم كتاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فكتب الاِمام (عليه السلام) بذلك إلى النبيفاستبشر وابتهجَوخَرَّ ساجداً شكراً للّه وقال : «السلام على أهل هَمْدان» ، وعلى أثر إسلام همدان تتابع أهل اليمن على الاِسلام (1) وقد حاولت جماعةٌ من القبائل اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد اتّفق ثلاثة من أفراد قبيلة بني عامر المعروفة بالشر و الطغيان أن يدخلوا المدينة على رأس وفد بني عامر متظاهرين بالتفاوض مع الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» واغتياله غدراً ، والثلاثة هم : عامر ، أربد ، و جبار ، وشملت خطتهم أن يتحدث عامر إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوقت الذي يعد فيه أربد لضربه بالسيف ، إلاّ أنّ الوضع لم يجرِ كما خُطِّطَ له ، فقد هاب أربد النبيوانصرف عن نيّته ، فغضب عامر و هدّد بمحاربة النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» وغادر المجلس بعد أن دعا عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى صاحبه ، فاستجاب اللّه دعاءه سريعاً حيث مات في الطريق بمرض الطاعون ، واحترق أربد بصاعقة وهو في الصحراء .

3 ـ حجّة الوداع
  في عام 10 هـ أمرَ اللّهُ تعالى نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشارك في مراسم الحجّ ، ويعلّم مناسكه للناس ، ويوقفهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عمليّاً ، كما يقوم بإزالة كلّما ارتبط بها من زوائد طيلة السنوات الماضية ، ويعيّن حدود عرفات ومنى و يوم الاِفاضة منها .
---------------------------
(1) الكامل : 2|305 ؛ بحار الاَنوار : 21|360 .

السيرة المحمدية _ 149 _

  ولذلك فقد تهيّأ عددٌ كبير من المسلمين لمرافقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الرحلة المباركة ، فخرج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة يوم 26 من ذي القعدة حتى بلغ ذي الحُليفة ـ قرب مسجد الشجرة ـ فأحرم ودخل الحَرم ملبّياً : «لبيك اللّهمّ لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إنّ الحَمدَ والنعمة لك والملك لبيك ، لا شريك لك لبيك» وهو نداء إبراهيم (عليه السلام) ، وكان يكرّر التلبية كلّما شاهد راكباً أو علا مرتفَعاً من الاَرض أو هبط وادياً ، وعندما شارف مكة قطع التلبية ، فدخل مكّة في اليوم الرابع من شهر ذي الحجّة متوجّهاً نحو المسجد الحرام رأساً ، ودخله من باب بني شيبة وهو يحمد اللّه ويثني عليه ويصلّي على إبراهيم (عليه السلام) ، فبدأ من الحَجَر الاَسود فاستلمه أوّلاًً (1) ثمّ طاف سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة ، ثمّصلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم (عليه السلام) ثمّتوجه نحو الصفا والمروة للسعي بينهما ، ثمّ التفت إلى حُجّاج بيت اللّه الحرام وقال : «من لم يسق منكم هدياً فليحلّوليجعلها عمرة (أي فليقصّر فيحل له ما حرم عليه الاِحرام) ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه» ، إلاّ أنّ البعض منهم كره أن يحل إحرامه والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مُحرم ، فأمرهم بتنفيذ ما قال : «لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرتُ لفعلتُ كما أمرتكم» ، أي أنّني لو كنت أعلم بالمستقبل وعرفت موقف الناس المتردد وخلافهم هذا من قبل ، لما سقت الهدي ، وفعلتُ ما فعلتموه ، ولكن ما العمل وقد سُقتُ الهديَ فلا يمكنني الاِحلال من الاِحرام حتى يبلغ الهديُ محلّه .

---------------------------
(1) استلمه يعني مسح الحجر الاَسود باليدين قبل الشروع بالطواف ، واستلامه نوع من تجديد الميثاق مع الخليل إبراهيم (عليه السلام) والعمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل إبراهيم (عليه السلام) ، وقد اعتمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفترة المدنية مرّتين ، واحدة في عام 7هـ و الاَُخرى عام 8 هـ بعد فتح مكة ، فهذه كانت ثالث عمرة له مع الحجّ .