كما أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان أحد المشاركين في حلف الفضول ، الذي اعتبر ميثاقاً بين الجرهميين يهدف إلى الدفاع عن حقوق الضعفاء والمظلومين ، وقد أسّسه جماعة اشتُقّت أسماوَهم جميعاً من لفظة « الفضل » ، مثل : فضل بن فضالة ، وفضل بن الحارث ، وفضل بن وداعة ، وقد نُقلت عبارات كثيرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أشاد فيها بالحِلف ، واعتز بمشاركته فيه : « لقد شهدتُفي دار عبد اللّه بن جدعان حِلفاً لو دعيت به في الاِسلام لاَجبت » ، كما أشاد به الاِمام الحسين ( عليه السلام ) أيضاً ، فضرب به المثل في أخذ الحقّوردّه لصاحبه ، مثلما طلب هو حقّه من « الوليد بن عتبة » أمير المدينة .

4 ـ فترة عمله
  أمضى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شطراً من حياته قبل البعثة ، في رعي الغنم في الصحارى ، لعلّه ليصبح بذلك صبوراً في تربية الناس الذين سيُكلف بقيادتهم وهدايتهم ، ويستسهل كلّ صعب في هذا المجال ، إذ كان لابدّ أن يتسلّح بسلاح الصبر ، ويتجهّز بأداة التحمّل ، ويتزوّد بقدرة الاستقامة على طريق الهدف ، وذلك حتى يمكنه إدارة البشر في المستقبل ، إذ أنّ ذلك لا يكون إلاّبتعويد النفس على هذه الصفات وحملها على مشاق الاِعمال ، كما أنّ عمله في الصحراء والجبال ، ساعده في التخلّص بعض الشيء من آلامه الروحية الناشئة من روَية الاَوضاع المزرية والاَحوال المشينة التي كان عليها أهل مكة وما كانوا فيه من عادات سيئة وظلم وانحراف وطغيان ، كما أنّ عمله في تلك البقاع ، أعطاه فرصة طيبة للنظر في خلق السموات والتطلع في النجوم والكواكب وأحوالها ، ثمّال اِمعان في الآيات الدالة على وجود اللّه سبحانه و تعالى ، وقدرته و حكمته وعلمه وإرادته .

السيرة المحمدية _ 26 _

  فبالرغم من أنّ قلوب الاَنبياء تكون منورة بمصابيح المعرفة ، ومضاءة بأنوار الاِيمان والتوحيد ، إلاّأنّهم لا يرون أنفسهم في غنى عن النظر في عالم الخلق والتفكّر في الآيات الاِلهية ، إذ أنّه من خلال هذا الطريق يصلون إلى أعلى مراتب الاِيمان ، ويبلغون أسمى درجات اليقين ، وبالتالي يتمكّنون من الوقوف على ملكوت السماوات والاَرضين ، وبعد هذا العمل الصحراويّ الجبلي ، تعاطى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) العمل التجاري ، باقتراح من عمّه أبي طالب ، الذي أرشده بالتوجه للعمل في تجارة السيدة « خديجة بنت خويلد » التي كانت تعمل بالتجارة الواسعة ، فأصبحت غنيةً ذات مال كثير وذات شرف عظيم ، استخدمت الرجال في إدارة أعمالها الكثيرة ، فقال أبو طالب للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يابن أخي ، هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها أكثر الناس ، وهي تبحث عن رجل أمين ، فلو جئتها فعرضتَ نفسك عليها لاَسرعتْ إليك ، وفضّلتك على غيرك ، لما يبلغها عنك من طهارتك » ، إلاّ أنّ إباء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلوّ طبعه منعاه من الاِقدام بنفسه على ذلك فردَّ عليه : « فلعلّها أن ترسل إلي ّفي ذلك » لاَنّها تعرف أنّه المعروف بالاَمين بين الناس ، وقد حدث ماأراده النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد بعثت إليه قائلةً : « إنّي دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك ، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك ، وأبعث معك غلامين يأتمران بأمرك في السفر » (1) ، ولمّا علم عمّه أبو طالب بذلك قال له : « إنّ هذا رزق ساقه اللّه إليك » .

---------------------------
(1) البحار : 16 ـ 22 ، السيرة الحلبية : 1 ـ 132 ، الكامل في التاريخ : 2 ـ 24 .

السيرة المحمدية _ 27 _

  وهكذا تمّ الاتفاق على أن يقوم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالعمل في أموالها وتجارتها على نحو المضاربة لا الاِجارة ، فقد ذكر « اليعقوبي » : إنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما كان أجيراً لاَحد قط (1) ، ولذا فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حصل على أرباح وفيرَة من أوّل تجارته إلى الشام ، ولما مرّ في الطريق على ديار عاد وثمود ، تذكر سفره الاَوّل مع عمّه إلى تلك المناطق ، وعند وصولهم إلى مكّة ، قال « ميسرة » غلام السيدة خديجة : يا محمّد لقد ربحنا في هذه السفرة ببركتك ما لم نربح في أربعين سنة ، فاستقبلْ بخديجة وأبشرها بربحنا ، فأسرع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسبق القافلة متوجهاً نحو بيت خديجة ، التي استقبلته بحفاوة كبيرة ، وسرّت بحديثه وأخباره عن رحلته ومكاسبه التجارية ، ثمّ إنّ « ميسرة » أخبرها بكلّما حدث وحصل لهم في السفر ، منذ خروجهم ودخولهم إلى البلاد ، وخاصةً ما جرى ، بين النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأحد التجّار الذي جادله في البيع طالباً منه أن يحلف باللات والعزّى ، فرد عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ماحلفت بهما قط ، وإنّي لاَمرُّ فأعرض عنهما ، كما أخبرها عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حينما استراح في ظلّ شجرة عندما كانوا في بصرى ، فشاهده راهب فقال : ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلاّ نبي ، ولما سأل عن اسمه من ميسرة فقال : هو نبيّ وهو آخر الاَنبياء ، إنّه هو ومنزِّلُ الاِنجيل ، وقد قرأتُ عنهُ بشائر كثيرة (2) ، وقد سلّم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلّ ما ربحه واستلمه من مال إلى عمّه أبي طالب ، ليوسّع به على أهله ، ممّا جعله فرِحاً مسروراً بما قام به ابن أخيه تجاهه .

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي : 2 ـ 21 .
(2) البحار : 16 ـ 18 ، طبقات ابن سعد : 1 ـ 130 .

السيرة المحمدية _ 28 _

5 ـ زواجه ( صلى الله عليه وآله وسلم )
  في هذا الوقت ، فكّر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جدياً في أن يتّخذ شريكة لحياته ويكوّن أُسرة ، فكيف وقع اختياره على السيدة خديجة التي رفضت كلّ مَن تقدّم إليها من كبار الشخصيات القرشية ، أمثال : عقبة بن أبي معيط ، وأبي جهل ، وأبي سفيان ؟ وكيف أدّى الارتباط بينهما والعلاقة العميقة والاَُلفة والمحبة ، إلى درجة أنّها وهبت كلّ ثروتها للنبي حتى ينفقها في نشر الاِسلام ، كانت السيدة خديجة من خيرة نساء قريش شرفاً وأقواهن عقلاً وأكثرهن فهماً ، وقد قيل لها ، سيدة قريش ، وسمّيت الطاهرة لشدة عفافها ، وذلك في أيّام الجاهلية ، وحين رفضت الزواج من سادة القوم قَبِلت بسيد البشر لما عرفت عنه من كرم الاَخلاق ، وشرف النفس ، والسجايا الكريمة ، والصفات العالية ، وهي المرأة الثرية التي وإن عاشت في الترف وأفضل العيش ، إلاّ أنّها أصبحت في بيت زوجها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الزوجة المطيعة الخاضعة الوفية المخلصة ، وسارعت إلى قبول دعوته واعتناق دينه بوعي وبصيرة ، مع علمها بما ينطوي ذلك على مخاطر ومتاعب ، ثمّ جعلت كلَّ ثروتها ومالها في خدمة العقيدة والمبدأ ، مشاطرة زوجها بذلك آلامَه ومتاعبَه ، وراضية بمرارة الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات ، وهي في سن الرابعة والستين (1) ، وقد بلغ من خضوعها للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحبها له ، أنّها بعد أن تم الزواج بينهما قالت له : إلى بيتك ، فبيتي بيتك وأنا جاريتك (2) ، ويوَكد الموَرّخون أنّها هي التي اقترحت على النبي الزواج ، وكما يعتقد أكثر الموَرّّخين ، أنّ « نفيسة بنت عليّة » بلّغت رسالتها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي تقبّل عرضها ، فأخبرت السيدة خديجة بذلك ، فأرسلت بوكيلها « عمرو بن أسد » لتحديد ساعة مراسم الخطبة في محضر الاَقارب (3) ، فشاور النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعمامه وعلى رأسهم « أبو طالب » الذي خطب في القوم يمدح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويطلب الزواج له من السيدة خديجة قائلاً : « وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة ، والصداق ما سألتم عاجله وآجله من مالي ، ومحمّد من قد عرفتم قرابتَه » .

---------------------------
(1) تاريخ الخميس : 1 ـ 264 .
(2) شرح نهج البلاغة : 14 ـ 59 .
(3) بحارالاَنوار : 16 ـ 4 .

السيرة المحمدية _ 29 _

   ثمّ أجرى عقد النكاح ، ومهرها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) 400 دينار ، وقيل أصدقها عشرين بكرة (1) ، وكان عمرها في هذا الوقت أربعين عاماً ، إذ أنّها وُلدت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً ، كما جاء عنها أنّها تزوجت قبل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) برجلين ، أوّلهما : « عتيق ابن عائذ » ، ثمّ بعده : « أبو هالة التميمي » ، وقد توفي كلٌّ منهما بعد زواجه منها (2) ، وقد تميّزت السيدة خديجة من نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّه لم يتزوّج عليها مدّة حياتها ، وبلغت لديه مالم تبلغه امرأة قطّمن زوجاته (3) ، وممّا يدل على سموّ مقامها وعلوّ منزلتها ، أنّ أهل البيت « عليهم السلام » طالماً افتخروا بأن ّخديجة منهم ، وإنّهم من خديجة ، فكانوا يعتزون بها ويشيدون بمكانتها ، فالسيدة خديجة ( عليها السلام ) هي مثال الشرف والعقل ، والحبّ العميق للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والوفاء والاِخلاص ، والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الاِسلام الحنيف ، فهي أوّل من آمنت باللّه ورسوله ، وصدقت محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وآزرته ، فكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه ، من إيذاء وتكذيب ، إلاّوفرّج اللّه عنه بخديجة التي خفّفت عنه ، بلطفها وعطفها وعنايتها به في غاية الإخلاص والود (4) ، لقد اكتسبت السيدة خديجة بفضل إيمانها العميق بالرسالة المحمّدية ، وتفانيها في سبيل الاِسلام ، وحرصها العجيب على حياة صاحب الرسالة ، مكانةً ساميةً في الاِسلام ، حتى أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذَكَرَها في أحاديثه الكثيرة ، وأشاد بفضلها ومكانتها وشرفها ، وذلك لاِلفات نظر المرأة المسلمة إلى القدوة التي ينبغي أن تقتدي بها في حياتها وسلوكها في جميع المجالات والحالات ، بالاِضافة إلى ما يمكن أن تقدمه المرأة ـ وهي نصف المجتمع ـ من دعم جدّىٍّ للرسالة ، مادياً كان أم معنوياً ، ومن أشهر الاَحاديث التي نُقلت عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال عنها : « أتاني جبرائيل ( عليه السلام ) فقال يا رسول اللّه ، إذا أتتك خديجة فاقرأ عليها السلام من ربها ومنّي ، وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب » (5) ، وقال عنها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « لا واللّه ما أبدلني اللّه خيراً منها ، آمنَت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذبني الناس ، وواسَتْني في مالها إذ حَرمني الناس ، ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرَمَني أولاد النساء » (6) .

---------------------------
(1) السيرة الحلبية : 1 ـ 139 .
(2) الاستغاثة : 1 ـ 70 .
(3) السيرة الحلبيّة : 1 ـ 169 .
(4) أعلام النساء : 1 ـ 328 .
(5) صحيح مسلم : 7 ـ 133 ، مستدرك الحاكم : 3 ـ 184 .
(6) أُسد الغابة : 5 ـ 438 ، صحيح مسلم : 7 ـ 134 ، صحيح البخاري : 5 ـ 39 .

السيرة المحمدية _ 30 _

  كما روى أنس بن مالك ، أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا أتى بهدية قال : « اذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنّها كانت صديقة لخديجة ، إنّها كانت تحبّ خديجة » (1) ، كما قال عنها الاِمام علي ( عليه السلام ) : «كنتُ أوّل من أسلم ، فمكثنا بذلك ثلاث حِجَج وما على الاَرض خلق يصلّي ويشهد لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما أتاه ، غيري ، وغير ابنة خويلد رحمها اللّه ، وقد فَعَلَ » (2) ، وقد تحدّث عنها أيضاً الكثير من الشخصيات الاِسلامية المتقدمة والمتأخرة ، فقد ذكر عنها « محمد بن إسحاق » : « إنّ خديجة بنت خويلد وأبا طالب ، ماتا في عام واحد ، فتتابع على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هلاك خديجة وأبي طالب ، وكانت خديجة وزيرة صدق على الاِسلام ، وكان رسول اللّه يسكُن إليها » (3) ، ولكلّ ذلك ، فإنّ وفاتها كانت من أعظم المصائب التي أحزنت الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ممّا دفعه أن يسمّي العام الذي توفّي فيه ناصراه وحامياه ورفيقا آلامه ـ زوجته خديجة ، وعمّه الموَمن الصامد أبو طالب ـ بعام الحداد أو عام الحزن ، فينزل عند دفنها في حفرتها ، ويُدخلُها القبر بيده في الحجون ، فيلزم بيته و يقل الخروج (4) .

6 ـ أولاد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )
  لقد أنجبت خديجة لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ستة من الاَولاد ، اثنين من الذكور ، أكبرهما القاسم وعبداللّه ، وأربعة من الاِناث ، وذكر ابن هاشم ، انّ أكبر بناته : رقية ثمّ زينب ثمّ أُم كلثوم ، ثمّ فاطمة ، وكلّهن أدركنَ الاِسلام ، أمّا الذكور فقد ماتوا قبل البعثة ، تبنّي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لزيد بن حارثة كان ممّن سباه العرب من حدود الشام وباعوه في أسواق مكة رقيقاً لاَحد أقرباء السيدة خديجة ويدعى حكيم بن حزام ، وقد أحبه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لذكائه وطهره ، فوهبته خديجة له ، حينما تزوّجت به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إلاّ أنّ أباه حارثة الذي كان يبحث عنه لقيه عند النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فطلبه منه ، الاَمر الذي جعل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخيّره بين المقام معه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والرحيل إلى وطنه ، فاختار المقام مع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي أخرجه إلى الحجر الاَسود وأعتقه ثمّ تبناه أمام الملاَ قائلاً : « يامن حضر اشهدوا أنّ زيداً ابني » (5) .

---------------------------
(1) سفينة البحار : 1 ـ 380 .
(2) شرح نهج البلاغة : 14 ـ 59 .
(3) بحارالاَنوار : 16 ـ 10 .
(4) تاريخ اليعقوبي : 2 ـ 35 ، تاريخ الخميس : 1 ـ 301 ، السيرة الحلبية : 1 ـ 346 .
(5) الاِصابة في تمييز الصحابة : 1 ـ 545 ، الكامل في التاريخ : 2 ـ 225 .

السيرة المحمدية _ 31 _


1 ـ الحالة الدينية في الجزيرة العربية عند البعثة النبوية .
2 ـ إيمان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وآباوَه وكفلاوَه قبل الاِسلام .
3 ـ الوحي .
4 ـ الموَمنون بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والدين الاِسلامي .
5 ـ دعوة الاَقربين .
6 ـ الدعوة العامة .
7 ـ الاَساليب الفاشلة أمام نجاح الدعوة الجديدة .

1 ـ الحالة الدينية في الجزيرة العربية
  إلى جانب عبادة الاَصنام والاَوثان ، ظهرت جماعة من العرب ، أنكروا عقائدها الباطلة ، واستاءوا من دينها ، كما كان اليهود يتوعّدون أهل الاَصنام بالنبي قائلين : ليخرجن نبي فليكسّرن أصنامكم ، وجاء أيضاً أنّ الاَحبار من اليهود والرهبان من النصارى والكهّان من العرب ، قد تحدّثوا بأمر رسول اللّه قبل مبعثه ، وظهر كذلك من انتقد عبادتهم من فئة العقلاء وأصحاب الفكر الثاقب ، فكان ذلك بمثابة جرس إنذار باقتراب سقوط دولة الوثنيّين وانقراضها واشتهر من هوَلاء بين العرب أربعة :
(1) ورقة بن نوفل ، الذي اختار النصرانية .
(2) عبيد اللّه بن جحش ، الذي أسلم عند ظهور الاِسلام .
(3) عثمان بن الحويرث ، الذي تنصّر عند ملك الروم .
(4) زيد بن عمرو بن نفيل ، الذي قال : أعبد رب إبراهيم (1) .

---------------------------
(1 ) السيرة النبوية : 1 ـ 225 .

السيرة المحمدية _ 32 _

  من رسول اللّه بها ، وهي الوفاء بالنذر ، ومائة من الاِبل في الدية ، وألا تنكح ذاتُ محرم ، ولا توَتى البيوت من ظهورها ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموَودة ، وتحريم الخمر ، وتحريم الزنا والحدّعليه ، والقرعة ، وألاّ يطوف أحد بالبيت عرياناً ، وتكريم الضيف ، وألا ينفقوا إذا حجّوا إلاّ من طيب أموالهم ، وتعظيم الاَشهر الحرم ، ونفي ذات الرايات » (1) ، كل ذلك يوَكد تماماً توحيده وإيمانه باللّه واعترافه برسالة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكذلك كان عمّه أبو طالب ، فله مواقف كثيرة بارزة قبل البعثة ، تكشف عن عمق إيمانه وتوحيده ، فقد اعتبر حامي الدين والمدافع عن المسلمين ، آمن بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واعتبره في قمة الكمال الاِنساني ، بالاِضافة إلى أنّه أحلّه من قلبه محلَ الابن والاَخ ، فكان يصحبه معه إلى المصلّى ، ويستسقي به ، حيث كانت دعوته تُستجاب دون تأخير ، كما اصطحبه معه في سفره إلى الشام ، كما أنّ دفاعه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن مادياً ، فلم يقصد من وراء ذلك كسباً مادياً من مال وثروة ، كما لم يهدف للحصول على جاه ومقام وإحراز مكانة اجتماعية مرموقة ، لاَنّه كان يمتلك في المجتمع أعلى المناصب ، فقد كان رئيساً لمكّة المكرّمة ، بل إنّه فقد منصبه ومكانته بسبب موقفه الموالي للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعدم الاستجابة لقومه في تسليمه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهم ، ممّا استوجب سخط الزعماء عليه واستياءهم منه ، وإظهار العداء له ولبني هاشم عامة ، فالقول بأنّ تضحية أبي طالب في سبيل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالنفس والنفيس كان بدافع علاقة القربى والعصبية القبلية ، تصوّر باطل ، إذ أنّذلك كان بدافع اعتقاده الراسخ برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي اعتبره مظهراً كاملاً للفضيلة والاِنسانية ، وأنّ دينه أفضل برنامج للسعادة ، ولما كان يحب الحقيقة والكمال والحقّ ، فقد كان من الطبيعي أن يدافع عن تلك الفضائل وينصرها بكلّ جهوده وقواه (2) ، كما أنّ هناك مواقف محددة توَكد المعنى السابق : فقد أصدر تهديداً بمحاربة رجال قريش بالسلاح ، إذا أقدموا على أي سوء نحو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد حافظ على حياته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لفترة 42 عاماً ، ودافع عنه ، وخاصةً في سنوات البعثة العشرة ، فهو قد تولى مهمة كفالته والدفاع عنه والمحافظة على حياته بصدق وإخلاص ، بالنفس والمال ، وإيثاره على نفسه وأولاده والاِنفاق عليه من ماله ، منذ صِغَره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحتى الخمسين من عمره ، ولذا كان لفقده أكبرُ الاَثر على سير الدعوة الاِسلامية ، وهو ما دفع ابن أبي الحديد المعتزلي أن ينشد بيتين يوضح تضحيته هو وابنه علي ( عليه السلام ) :
و  لـولا أبو طالب وابنُه لما مثلُ الدّين شخصاً iiوقاما
فذاك بمكة آوى وحامى وهذا بيثرب جسّ الحِماما  (3)



---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي : 2 | 9 .
(2) وقد أشار إلى كلّ ذلك في قصائده وأشعاره ، ونقل ابن هشام في سيرته : 1 | 352 ، 15 بيتاً من قصيدته .
(3) شرح نهج البلاغة : 14 | 84 .

السيرة المحمدية _ 33 _

  ويمكن التعرّف على إيمانه و إخلاصه عن طريق أشعاره وخدماته القيّمة في السنوات العشر الاَخيرة من عمره ، فمن قصائده المطولة نختار البيتين التاليين :

ليعلم خيارُ الناس أنّ محمّداً نبيُّ كموسى والمسيحِ بن مريم
أتـى بهدى مثلما أتيا به فكلّ بأمر اللّه يهدي ويعصم  (1)

  لقد كان إيمانه قوياً لدرجة أنّه رضى بأن يتعرض كل أبنائه لخطر القتل والاغتيال ليبقى محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دون أن يمسّه أعداوَه بأيّ سوء ، كما أنّه أوصى أولاده عند وفاته قائلاً : أُوصيكم بمحمّد خيراً فإنّه الاَمين في قريش ، وهو الجامع لكلّما أوصيكم به ، كونوا له ولاةً ، ولحزبه حماةً ، واللّه لا يسلك أحد منكم سبيله إلاّرَشَد ، ولا يأخذ أحد بهديه إلاّسعد (2) ، وبينما كفّره البعض من علماء السنة ، إلاّ أنّ منهم من حكموا بإسلامه وبإيمانه ، مثل : « زيني دحلان » مفتي مكة ( المتوفّى 1304 هـ ) ، وقد تمادى بعض منهم في توسيع دائرة الكفر فشملت آباء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان ذلك من آثار الحكومات الاَموية والعباسية التي عملت بكلّ جهدها لتأكيد كفر أبي طالب والاِعلام ضدّ إيمانه ، لاَنّه كان والد الاِمام علي ( عليه السلام ) الذي اجتهدت الاَجهزة الاِعلامية لتلك الحكومات في الحط من شأنه دوماً ، وخاصةً إنّ إسلامه مع أبيه كان يعد فضيلة بارزة من فضائله ، أمّا علماء الشيعة الاِمامية والزيدية فقد اتّفقوا على أنّه كان من أبرز الموَمنين برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يخرج من الدنيا إلاّبقلب يفيض إيماناً بالاِسلام وإخلاصاً للّه تعالى وحباً للمسلمين (3) .

---------------------------
(1) مجمع البيان : 7 ـ 37 ، الحجة : 57 ، مستدرك الحاكم : 3 ـ 623 .
(2) السيرة الحلبية : 1 ـ 35 .
(3) يوضح هذا الجانب جيداً صاحب موسوعة الغدير ، العلاّمة الاَميني .

السيرة المحمدية _ 34 _

  وأمّا أقاربه وما قدّموه من أفعال وأقوال توَكد موقفه الاِيجابي ، فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دفنه بنفسه ، كما أنّ الاِمام الحسين ( عليه السلام ) أجاب عندما سئل عن إيمانه قال : « واعجباً ، إنّ اللّه تعالى نهى رسوله أن يقرّ مسلمة على نكاح كافرٍ ، وقد كانت « فاطمة بنت أسد » من السابقات إلى الاِسلام لم تزل تحت أبي طالب حتى مات » ، وقال ( عليه السلام ) : « ألم تعلموا أنّ أمير الموَمنين علي ( عليه السلام ) كان يأمر أن يحجّ عن عبد اللّه وأبيه » ، وقال الاِمام الصادق ( عليه السلام ) : « إنّمَثَل أبي طالب مَثَل أصحاب الكهف أسرّوا الاِيمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين ، وكذلك أبو طالب » (1) ، ومن المعروف ، أنّه للتعرف على عقيدة فرد ونمط تفكيره ، ينبغي الاعتماد على :
ـ دراسة آثاره العلمية والاَدبية وما تركه من أقوال وكلمات .
ـ وأسلوب عمله وتصرفاته في المجتمع .
ـ وآراء أقربائه ومعارفه حوله .
  وكلّ تلك الجوانب أكدت إسلام أبي طالب ، حامي الرسول العظيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فتسقط كلّ الاَقاويل والاَحاديث التي بثّها أعداوَه للحط من شأنه وإلصاق الكفر به ، وكذلك كان أبو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عبد اللّه ، فقد ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنّه انتقل في الاَرحام المطهّرة ممّا يوَكّد طهارة آبائه وأُمّهاته من كلّدنس وشرك ، وقد أشار الشيخ المفيد إلى أنّ الاِماميّة تتفق على أنّ آباء رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب كانوا موَمنين باللّه وموحّدين إيّاه ، واحتجّوا في ذلك بالقرآن والاَخبار .

---------------------------
(1) أُصول الكافي : 1 ـ 448 .

السيرة المحمدية _ 35 _

النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل البعثة
   تدلّ الشواهد التاريخية بالاِضافة إلى البراهين العقلية ، على أنّه ص كان موَمناً باللّه وموحّداً إيّاه قبل البعثة ، فلم يعبد وثناً قط ، ولم يسجد لصنم أبداً ، وقد أجمع الموَرّخون على أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يخلو بحراء أشهراً كلّ عام يعبد اللّه تعالى فيه ، فقد ذكر الاِمام علي ( عليه السلام ) : « ولقد كان يجاور في كل ّسنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري » (1) ، حتى وافاه جبرائيل ( عليه السلام ) بالرسالة في هذا المكان وفي تلك الحال ، وقد صرح بهذا أيضاً أصحاب الصحاح الستة ، وجاء في الاَخبار أنّالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حجّقبل البعثة عدّة حجّات ، وكان يأتي بمناسكها على وجه صحيح بعيداً عن أعين قريش ، فقال الاِمام الصادق ( عليه السلام ) : « حجّ رسول اللّه عشر حجّات مستتراً في كلّها » (2) ، وكلّ تلك الوقائع أصدق دليل على إيمانه وتوحيده ، وهو النبي الخاتم والاَفضل من جميع الاَنبياء والمرسلين بنصّ القرآن الكريم ، وجاء عن « العلاّمة المجلسي » ، أنّه قد وردت أخبار كثيرة أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يطوف ويعبد اللّه في حراء ، ويرعى الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند الاَكل وغيره ، فكيف يمكن للّه تعالى أن يهمل أفضل أنبيائه أربعين سنة بغير عبادة (3) ، والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان موَمناً موحّداً عابداً للّه ساجداً قائماً بالفرائض العقلية والشرعية ، مجتنباً عن المحرمات ، عالماً بالكتاب وموَمناً به إجمالاً ، وراجياً لنزوله إليه ، إلى أن بعثه اللّه لاِنقاذ البشرية عن الجهل وسوقها إلى الكمال ، فكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أفضل الخلق وأكملهم خلقاً وخُلقاً وعقلاً ، وأنّه كان يعمل حسب ما يُلهَم سواء كان مطابقاً لشرع ماقبله أم مخالفاً ، وأنّ هاديه وقائده ، منذ صباه إلى أن بُعِث هو نفس هاديه بعد البعثة (4) .

4 ـ الوحي في غار حراء
   ويقع جبل حراء في شمال مكّة ، ويستغرق الصعود إليه مدّة نصف ساعة ، ويتكوّن من قطع صخرية لا أثر للحياة فيها ، أمّا الغار فيقع في شمال الجبل ، وهو يحكي ذكريات رجل طالما تردّد عليه وقضى الساعات والاَيّام والاَشهر في رحابه ، يتعبد اللّه ويتأمّل في الكون وفي آثار قدرة اللّه وعظمته ، إذ أنّ النبي ص كان يفكّر في أمرين ، قبل أن يبلغ مقام النبوة :
1 ـ ملكوت السماوات والاَرض ، فيرى في ملامح كلّ من الكائنات نور الخالق العظيم وقدرته وعظمته ، فتفتح عليه نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الاِلهي المقدّس .
2 ـ المسوَولية الثقيلة التي ستوضع على كاهله ، فكان يفكر في فساد حياة المجتمع المكي ، وكيفية رفع كلّذلك وإصلاحه .

---------------------------
(1) نهج البلاغة : الخطبة 192 .
(2) وسائل الشيعة : 8 ـ 88 .
(3) بحار الاَنوار : 18 ـ 280 .
(4) للتوسع في ذلك يراجع مفاهيم القرآن للموَلف : 5 ـ 135 .

السيرة المحمدية _ 36 _

  وأمّا الرسالة الاِلهية إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد أمر اللّه تعالى جبرائيل ( عليه السلام ) بأن ينزل على أمين قريش في الغار ويتلو على مسامعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة ، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة ونصبه لمقام الرسالة ، وطلب منه أن يقرأ ، أو قال : يا محمّد اقرأ ، قال : وما أقرأ ؟ قال يا محمّد ( اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الّذي خَلَق* خَلَقَ الاِِنْسانَ مِنْ عَلَق*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاََكْرَم* الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَم* عَلَّمَ الاِِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَم ) (1) ثمّ أوحى إليه ربّه عزّ وجلّ ما أمره به ثمّصعد إلى العلوّونزل محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الجبل ، وقد غشيه من تعظيم جلال اللّه وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه الحمى والنافض ، وقد أوضحت هذه الآيات برنامج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبيّنت بشكل واضح أنّ أساس الدين يقوم على القراءة والكتابة والعلم والمعرفة باستخدام القلم ، ثمّ خاطبه الملك : « يا محمّد ، أنت رسول اللّه ، وأنا جبرائيل » ، وقد اضطرب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهذين الحدثين ، لعظمة المسوَولية التي أُلقيت على كاهله ، فترك غار حراء متوجّهاً إلى بيت السيدة خديجة ( عليها السلام ) ، التي لاحظت الاضطراب والتعب على ملامحه فسألت عنه ، فأجابها وحدّثها بكلّ ما سمع وجرى ، فعظمت خديجة ( عليها السلام ) أمره ودعت له وقالت : « أبشر ، فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً » ، ثم ّدثرته فنام بعض الشيء ، ثمّ انطلقت إلى بيت ورقة تخبره بما سمعته من زوجها الكريم ، فأجابها : إن ّابن عمّك لصادق وإنّ هذا لبدء النبوة ، وإنّه ليأتيه الناموس الاَكبر ـ أي الرسالة والنبوة ـ (2) .

---------------------------
(1) العلق : 1 ـ 5 .
(2) طبقات ابن سعد : 1 ـ 195 .

السيرة المحمدية _ 37 _

  وقد اختلقت قصص كثيرة عن تخوّف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واضطرابه ممّا حدث له في الغار ، ودسّت تلك الروايات في التاريخ والتفسير عن قصد وهدف أو دخلت فيها عن غير ذلك ، فالنبي الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانت روحه مهيّأة من جميع الجهات وبصورة كاملة لتلقّي السرّ الاِلهي ـ النبوة ـ وما لم تكن نفسيته كذلك ، فإنّ اللّه تعالى لم يكن ليمن عليه بمنصب النبوة ويختاره لمقام الرسالة ، لاَنّ الهدف الجوهري من انبعاث الرسل و الاَنبياء هو هداية الناس وإرشادهم ، وتدل تلك القصص على أنّ يداً إسرائيلية وراءها فصاغتها ، ولهذا فإنّ أئمّة الشيعة حاربوا هذه الاَساطير بكلّقوّة وأبطلوها برمّتها ، فقد قال الاِمام الصادق ( عليه السلام ) : « إنّ اللّه إذااتّخذ عبداً رسولاً ، أنزل عليه السكينة والوقار ، فكان يأتيه من قِبَل اللّه عزّوجلّ مثل الذي يراه بعينه » (1) ، وفسر العلاّمة الكبير الطبرسي ذلك ، بأنّ اللّه لا يوحي إلى رسوله إلا ّبالبراهين النيّرة والآيات البيّنة الدالة على أنّ ما يوحى إليه إنّما هو من اللّه تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزع ولا يفرق (2) ، أمّا بالنسبة إلى يوم مبعثه ، فإنّ هناك اختلافاً فيه مثلما اختلف في يوم ولادته ، فاتّفق علماء الشيعة على أنّه بُعث بالرسالة يوم 27 من شهر رجب ، وأنّنزول الوحي بدأ من هذا اليوم ، بينما اشتهر عند السنّة أنّه حدث في شهر رمضان ، فهناك فرق في نزول القرآن جميعه على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونزول الآيات الاَُولى عليه يوم المبعث ، فالآيات التي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر المباركة ، لا تدل على أنّ يوم المبعث ـ الذي نزلت فيه بضع آيات ـ كان ذلك في الشهر نفسه ، لاَنّ الآيات المذكورة الدالّة على أن ّالقرآن نزل في شهر رمضان تدل على أنّ مجموع القرآن لا بعضه قد نزل في ذلك الشهر ، في حين أنّه لم ينزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة .

---------------------------
(1) بحار الاَنوار : 18 | 262 ، الكافي : 1 | 271 .
(2) مجمع البيان : 10 | 384 .

السيرة المحمدية _ 38 _

   كما أن ّتفسيراً آخر يوَكّد أنّ للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً ، وهو الذي نزل على الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرةً واحدةً في شهر رمضان ، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في يوم المبعث ، واستمر نزوله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج ، وهو ما قدّمه العلاّمة الطباطبائي من تفسير (1) ، كما أنّ ثمة قولاً آخر ذهب إلى أنّ ابتعاث الرسول بالرسالة في شهر رجب ، لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتماً (2) ، وأبرز ما في هذا الموضوع ، أنّ الرسالة المحمّدية المباركة ، بشّر بها جميع الاَنبياء المتقدّمين زمنياً على خاتم الاَنبياء والمرسلين محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأشار القرآن إلى ذلك في آيات كثيرة ، والاَمر الهامّ الآخر ، إنّه كان خاتم الاَنبياء والمرسلين ، فلا نبي بعده و لا رسالة ، حيث قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أرسلت إلى الناس كافةً ، وبي خُتِم النبيّون » (3) .

5 ـ أوائل الموَمنين بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والدين الاِسلامي
  بدأ انتشار الاِسلام تدريجياً ، وكان هناك سابقون كما كان هناك لاحقون ، وعُدَّ السبق إلى الاِيمان برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في صدر الاِسلام ، معياراً للفضل ، ولذا كان لابدّ من التعرف على هوَلاء السابقين .

---------------------------
(1) تفسير الميزان : 2 ـ 14 .
(2) للمزيد من التوضيح و التوسع راجع البحار : 18 ـ 184 ، 253 ، الكافي : 2 ـ 460 .
(3) طبقات ابن سعد : 1 ـ 128 .

السيرة المحمدية _ 39 _

  ومن المسلّمات ، أنّ السيدة خديجة ( عليها السلام ) كانت أوّل امرأة آمنت به فلم يختلف في هذا أحد (1) ، وخاصّة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أكّد بنفسه ذلك في قوله : « آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذّبني الناس » (2) ، فهي أوّل من التقته بعد نزول الوحي عليه في الغار ، فآمنت به وصدقته ، كما أنّعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كان أوّل من آمن به من الرجال ، حيث اتّفق العلماء كلّهم على ذلك ، إذ أنّ الاِمام ( عليه السلام ) كان قد عاش في كنف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى بعثه اللّه تعالى نبياً فاتّبعه وآمن به وصدّقه (3) ، فكان ممّا أنعم اللّه به على الاِمام ( عليه السلام ) أنّه كان في حجر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل الاِسلام وهو دون الثامنة ، فحينما أجدبت مكة وضواحيها وأصاب الناس أزمة شديدة ، وكان أبو طالب كثير العيال ، رأى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يخفّف عنه ، فطلب من عمّه العباس أن يأخذ منه بعض عياله ، فكفل العباس جعفراً ، وكفل رسول اللّهعلياً ، وقيل أنّحمزة أخذ جعفراً ، والعباسُ طالباً ، وأبو طالب عقيلاً ، وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إخترت من اختار اللّه لي عليكم ، علياً » (4) ، ويظهر أنّ الهدف من ذلك كان هو أن يتربّى علي ( عليه السلام ) في حجر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويتغذّى من مكارم أخلاقه ويتبعه في كريم أفعاله ، ويوَكد الاِمام ( عليه السلام ) موقفه بقوله : « اللّهمّ إنّي أوّل من أناب وسمع وأجاب ، ولم يسبقني إلاّ رسول اللّه بالصلاة » (5) .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 1 ـ 240 .
(2) صحيح مسلم : 7 ـ 134 ، صحيح البخاري : 5 ـ 39 ، أُسد الغابة : 5 ـ 428 ، البحار : 16 ـ 8 .
(3) السيرة النبوية : 1 ـ 246 ، البداية والنهاية : 2 ـ 25 .
(4) مقاتل الطالبيين : 26 ، الكامل : 1 ـ 37 ، السيرة النبوية : 1 ـ 245 .
(5) نهج البلاغة : 2 ـ 182 .

السيرة المحمدية _ 40 _

  كماجاء عن « عفيف الكندي » إنّه شاهد النبي صو زوجته وعليّاً « عليه السلام » يوَدّون الصلاة أمام الكعبة (1) ، وجاء في خطبة له ( عليه السلام ) قوله : « أنا الصديق الاَكبر ، لقد صليت مع رسول اللّه قبل الناس سبع سنين ، وأنا أوّل من صلّى معه » (2) ، كما أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أكّد ذلك أيضاً في أحاديثه المتكررة : « أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب » (3) ، ومن أقوال الاِمام علي ( عليه السلام ) في ذلك ، يذكر حكيم مولى زاذان ، إنّه قال ، سمعت علياً يقول : « صلّيت قبل الناس سبع سنين ، وكنّا نسجد ولا نركع ، وأوّل صلاة ركعنا فيها صلاة العصر » ، (4) وقال أيضاً : « بُعث رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الاِثنين وأسلمت يوم الثلاثاء » (5) ، وقد أكّد هذا الموقف أكثر من ستين صحابياً وتابعياً أيّدوا القول الذي يذكر أنّ الاِمام علياً ( عليه السلام ) كان أوّل القوم إسلاماً وأشهر هوَلاء :
ـ أنس بن مالك : بُعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الاِثنين وأسلم عليٌّ يوم الثلاثاء .
ـ بريدة الاَسلمي : ذكر نفس القول .
ـ زيد بن أرقم : أوّل من أسلم مع رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علي بن أبي طالب .

---------------------------
(1) الاِصابة : 2 ـ 480 .
(2) خصائص النسائي : 3 ، سنن ابن ماجة : 1 ـ 57 ، مستدرك الحاكم : 1 ـ 112 .
(3) الغدير : 3 ـ 220 .
(4) شرح نهج البلاغة : 3 ـ 258 .
(5) مجمع الزوائد : 9 ـ 102 .

السيرة المحمدية _ 41 _

  وأوّل من صلّى مع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليّ ، وأوّل من آمن باللّه بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليّ ( عليه السلام ) .
ـ عبد اللّه بن عباس : أوّل من صلّى علي ( عليه السلام ) ، لعليّ أربع خصال ليست لاَحد هو أوّلُ عربيّ وأعجميّ صلّى مع رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كان عليّ أوّل من آمن من الناس بعد خديجة « عليه السلام » .
ـ سلمان الفارسي : أوّل هذه الاَُمّة وروداً على نبيّها الحوض أوّلها إسلاماً ، علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
ـ أبو رافع : مكث عليّ يصلّي متخفياً سبع سنين وأشهراً قبل أن يصلّي أحد .
ـ كما نقل نفس الاَقوال والاَعمال التي قام بها الاِمام ( عليه السلام ) كلّمن : أبو ذر الغفاري ، خباب بن الاَرت ، المقداد بن عمرو الكندي ، جابر بن عبد اللّه الاَنصاري ، أبو سعيد الخدري ، حذيفة بن اليمان ، عمر بن الخطاب ، عبد اللّه بن مسعود ، أبو أيّوب الاَنصاري ، هاشم بن عتبة المرقال ، مالك بن الحارث الاَشتر ، عدي بن حاتم ، محمد بن الحنفية ، محمّد بن أبي بكر ، عبد اللّه بن أبي سفيان ، الحسن البصري ، الاِمام محمّد الباقر ( عليه السلام ) (1) .

6 ـ دعوة الاَقربين
  ستمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يدعو إلى دينه سرّاً مدّة ثلاثة أعوام ، عمد فيها إلى بناء الكوادر وإعدادها من أفراد محدّدين ، كانوا السبب في أن ينجذب إلى الدين الجديد جماعة آخرون تقبّلت دعوته .

---------------------------
(1) الصواعق المحرقة : 72 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : 112 .

السيرة المحمدية _ 42 _

  واشتهر من بين السابقين إلى الاِيمان برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : (1) .
ـ السيدة خديجة بنت خويلد ( عليها السلام ) ـ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
ـ زيد بن حارثة ـ الزبير بن العوام .
ـ عبد الرحمن بن عوف ـ سعد بن أبي وقاص .
ـ طلحة بن عبيد اللّه ـ أبو عبيدة الجراح .
ـ أبو سلمة ـ الاَرقم بن أبي الاَرقم .
ـ عثمان بن مظعون ـ قدامة بن مظعون .
ـ عبد اللّه بن مظعون ـ عبيدة بن الحارث .
ـ سعيد بن زيد ـ خباب بن الاَرت .
ـ أبو بكر بن أبي قحافة ـ عثمان بن عفان .
  وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكّة للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش ، إلاّ أنّ البعض منهم رأوهم يصلُّون ، فحدث نزاعٌ قصيرٌ بين الطرفين ، حين استنكروا فعلهم ، وهو ما جعلَالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقرر اتّخاذ بيت ( الاَرقم بن أبي الاَرقم ) مكاناً للعبادة (2) حيث آمن في هذا البيت عددٌ آخر من المشركين ، كان أبرزهم : عمار بن ياسر ، وصهيب بن سنان الرومي ، وقد ركّز الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جهده في الدعوة السريّة ، دون عجلة أو تسرّع ، يعرض فيها دينه على كلّمن وجده أهلاً لتقبل المبادىَ السامية ، من الناحية الفكرية ، ففي خلال ثلاثة أعوام اكتفى بالاتّصال الشخصيّ بمن وَجَدَه موَهلاً وصالحاً للدعوة ومستعداً لقبول الدين الجديد ، ممّا ساعده في أن يكسب فريقاً من الاَتباع الذين اهتدوا إلى دينه بقبول دعوته .


---------------------------
(1) السيرة النبوية : 1 ـ 245 .
(2) وكان البيت عند جبل الصفا عرف إلى فترة بدار الخيزران . أُسد الغابة : 4 ـ 44 ، السيرة الحلبية : 1 ـ 283 .

السيرة المحمدية _ 43 _

  أمّا زعماء قريش فإنّهم لم يعتنوا بالدعوة الجديدة ، كما لم يتعرضوا بأي عمل عدائي للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بل ظلوا ينظرون إليه باحترام ، مراعين قواعد الآداب والسلوك ، في الوقت الذي لم يتعرض فيه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً لاَصنامهم وآلهتهم بسوء ، ولا تناولها بالنقد والاعتراض بصورة علنية ، وذلك أنّ زعماء قريش كانوا متأكدين من أنّ دعوته ستنتهي في العاجل بقولهم : إنّها أيّام وتنطفىَ بعدها شعلة الدعوة هذه فوراً ، كما انطفأت من قبل دعوة « ورقة وأُميّة » اللّذين دعيا إلى نبذ الوثنية واعتناق المسيحية ، ثم ّنسي الاَمر ، وقد جمع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في السنوات الثلاث الاَُولى ، أربعين شخصاً ، لم يكن فيهم كفاية لاَن يصبحوا قوة دفاعية لحماية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورسالته ، ممّا جعله يسعى إلى دعوة أقربائه ، فكسر بذلك جدار الصمت ، بالشروع في دعوة الاَقربين ثمّ الناس أجمعين ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يوَمن ويعتقد أنّ أي إصلاح وتغيير لابدّ أن يبدأ من إصلاح الداخل وتغييره ، ومن هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو عشيرته الاَقربين ، الذين تمنّى أن يكوّنَ منهم سياجاً قوياً يحفظه ويحفظ رسالته من الاَخطار المحتَملة : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاََقْرَبين ) (1) كما خاطبه بصدد دعوة الناس عامة 54321 ( فَاصْدَعْ بِما تُوَْمَرُ وَأَعْرِضْعَنِ الْمُشْرِكينَ* إِنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزئِين ) (2) .

---------------------------
(1) الشعراء : 214 .
(2) الحجر : 94 ـ 95 .

السيرة المحمدية _ 44 _

  وقد اتّخذ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أُسلوباً مميزاً في دعوة أقربائه ، إذ أنّه أعدّ لهم مائدةً كبرى ، لـ 45 فرداً من سراة بني هاشم ووجهائهم ، ليكشف لهم أمر رسالته خلال تلك الضيافة ، إلاّ أنّ الجو لم يناسب الحدث ، فانفضّ المجلس دون تحقيق الغرض ، ممّا اضطرّه إلى إعادتها في اليوم التالي ، فقام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد تناول الطعام ، خطيباً فيهم وقال : « إنّ الرائد لا يكذب أهله ، واللّه الذي لا إله إلاّ هو ، إنّي رسول اللّه إليكم خاصةً وإلى الناس عامةً ، واللّه لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعَثُنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبنّ بما تعملون ، وإنّها الجنة أبداً والنار أبداً ، يا بني عبدالمطلب ، إنّي واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه عزّوجلّ أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يوَمن بي ويوَازرني على هذا الاَمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟ » فقام علي ( عليه السلام ) وهو في الثالثة عشرة أو الخامسةعشرة من عمره قائلاً : « أنا يا رسول اللّه أكونُ وزيرُك على ما بعثك اللّه » ، وبعدما تكرّر هذا الموقف ثلاث مرّات ، أخذ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيد عليّ « عليه السلام » والتفت إلى القوم قائلاً : « إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا » ، فضحك الجميع مستهزئين ، وقالوا لاَبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه وجعله عليك أميراً (1) ، إنّ هذا الاِعلان عن وصاية الاِمام علي ( عليه السلام ) وخلافته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر النبوة ، يفيد أنّ هذين المنصبين ليسا منفصلين ، فقد أعلنهما الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في يوم إعلانه للدعوة والنبوة ، ممّا يوَكد أنّ النبوة والاِمامة يشكّلان قاعدة واحدة ، وإنّهما حلقتان متصلتان لا يفصل بينهما شيء ، كما أنّ موقف الاِمام علي ( عليه السلام ) يكشف عن مدى شجاعته الروحية ، حينما أعلن بكلّ جرأة وشجاعة ، موَازرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حضور قوم ضمّ شيوخهم وسادتهم ، معلِناً استعداده للتضحية في سبيل دينه ، وهو غلام لم يتعد الخامسة عشرة .

---------------------------
(1) هذا ملخّص لتفصيل ما رواه أكثر المفسرين والموَرّخين دون أن يشكّك في صحته أحد ، إلاّ ابن تيمية الذي اتخذ موقفاً فريداً من أهل البيت « عليهم السلام » راجع تاريخ الطبري : 2 ـ 62 ، الكامل : 2 ـ 40 ، مسند أحمد : 1 ـ 11 ، شرح نهج البلاغة : 13 ، 210 .

السيرة المحمدية _ 45 _

  وقد تناول « أبوجعفر الاِسكافي » هذا الموقف موضحاً إذ كتب يقول : هل يكلّف عمل الطعام ، ودعاء القوم ، صغيرٌ غير مميّز وغيرُ عاقل ؟ ! و هل يوَتَمن على سرّ النبوة طفل ؟ ! وهل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلاّ عاقل لبيبٌ وهل يضع رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يده في يده ، ويعطيه صفقة يمينه بالاَخوة والوصية والخلافة ، إلاّ وهو أهلٌ لذلك ، بالغُ التكليف ، محتمل لولاية اللّه ، وعداوة أعدائه ، ما بالُهذا الطفل لم يأنس بأقرانه ولم يلصق بأشكاله ، ولم يُر مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه ، ولم ينزَع إليهم في ساعة من ساعاته ، بل ما رأيناه إلاّماضياً على إسلامه ، مصمّماً في أمره ، محقّقاً لقوله بفعله ، ولصق برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بين جميع من حضره ، فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته (1) .

7 ـ الدعوة العامة وتطوّر ردود أفعال قريش تجاهها
  بعد تلك السنوات الثلاث ، عمد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى إعلان الدعوة جهراً ، حين وقف ذات يوم على صخرة عند جبل الصفا منادياً بصوت عالٍ : « أرأيتكم إن أخبرتكم إنّالعدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدّقونني ؟ » قالوا : بلى ، قال : « فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد » (1) ، فرد عليه أحدهم : تبّاً لك ألهذا دعوتنا ؟ فتفرّق الناس على أثر ذلك ، إلاّ أنّه بعد فترة من الدعوة العامة ، تشكلت جماعة قوية متعاطفة متحابّة ، من السابقين واللاحقين ، أو القدامى والجدد ، كانت بمثابة إنذار لاَوساط الكفر والشرك والوثنية ، وهم المخالفون ، وقد تألّفت تلك الجماعة من قبائل مختلفة منعوا الكفّار من التعرض لهم ، إذ لم يكن اتّخاذ أي قرار حاسم بحقّهم ، أمراً سهلاً ومريحاً ، ولذا قرر سادة قريش مواجهة قائد تلك الجماعة ومحركهم ، بوسائل الترغيب والترهيب ، بالاِغراء والتطميع ، والاِيذاء والتهديد ، واستمرت برامج قريش وموقفها من الدعوة بهذه الاَساليب طيلة عشر سنوات هي عمر الدعوة العامة في مكة ، حتى اتّخذوا قرارهم النهائي بالتخلّص منه بقتله ، في الوقت الذي تمكن ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من إبطال موَامرتهم وإفشالها بالهجرة إلى المدينة ، وقد بدأوا التحرك في مطالبة كفيله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبي طالب بأن يبعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عنهم قائلين له : يا أبا طالب إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفَّه أحلامنا ، وضلّل آباءنا ، فإمّا أن تكفّه عنّا ، وإمّا أن تُخلّي بينا وبينه ، إلاّ أنّ أبا طالب رَدّهم بقولٍ جميلٍ حكيمٍ (2) .

---------------------------
(1) السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : 1 ـ 194 .
(2) السيرة النبوية : 1 ـ 264 .

السيرة المحمدية _ 46 _

  ولكن الدين الجديد انتشر بقوّة بين العرب ، والقادمين إلى مكّة خلال الاَشهر الحرم ، فأدرك طغاة قريش أنّ محمّدا ًبدأ يفتح له مكاناً في قلوب جميع القبائل ، فكثّر أنصاره منها ، الاَمر الذي دفعهم إلى مقابلة أبي طالب مرةً أُخرى ، ليذكّروه إشارة وتصريحاً ، بالاَخطار التي أحدقت بهم وبعقائدهم نتيجة نفوذ الاِسلام وقوّته : إنّا واللّه لا نصبرُ على هذا من شتم آبائنا وعَيب آلهتنا حتى تكفّه عنّا أو ننازله وإيّاك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين ، فسكّن غضبهم وأطفأ ثائرَتهم وهدّأ خواطرهم ، ليتم معالجة هذه المشكلة بطريقة أفضل ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأخبره بأمرهم ، فردّ عليه بالجواب التاريخي الخالد ، والذي يعتبر من أسطع وألمع السطور في حياة قائد الاِسلام الاَكبر محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يا عمّ ، واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمرَ في يساري على أن أترك هذا الاَمر حتى يظهِرَه اللّه ، أو أهلك فيه ، ماتركته » ، ممّا أثر في عمّه بتلك الكلمات العظيمة ، فأظهر استعداده الكامل للوقوف إلى جانبه قائلاً : إذهب يا ابن أخي فقل ما أحببتَ ، فواللّه لا أُسْلِمَكَ لشيءٍ أَبداً » ، وحاولت قريشٌ مساومة أبي طالب مرةً أُخرى ، للتخلّص من النبي « صلى الله عليه وآله وسلم » ودعوته ، إلاّ أنّه رفض أي نوع من المساومة في هذه القضية ، محافظاً على محمّد ودينه ، فسلكوا طريقاً آخر ، ووسيلة أجدى لاِثناء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن المضي في دعوته ، وهي تطميعه بالمناصب والهدايا والاَموال والفَتَيات الجميلات : فإن كنتَ إنّما جئتَ بهذا الحديث تطلبُ به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثر مالاً ، وإن كنتَ إنّما تطلب الشرفَ فينا فنحن نسوِّدُكَ ونشرِّفك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك تابعاً من الجنّ قد غلب عليك ، بذلنا أموالنا في طِبّك ، إلاّ أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لعمّه : « يا عمّ أريدهم على كلمةٍ واحدة يقولُونها ، تدين لهم العرب ، وتوَدّي إليهم بها العجم الجزية » ، قالوا : ما هي ؟ قال : « لا إله إلا ّاللّه » ، فقاموا فزعين قائلين : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إِن ْهذا لشيء عجابٌ ) (1) .

---------------------------
(1) السيرة الحلبية : 1 ـ 303 ، تاريخ الطبري : 2 ـ 65 .

السيرة المحمدية _ 47 _

8 ـ استخدام الاَساليب المتعدّدة لمنع انتشار الدعوة الجديدة
  بعد استخدام أُسلوب الاَخذ والردّ مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن طريق كفيله ، وعدم جدواه ، اضطرّت قريش إلى تغيير أُسلوبها ونهجها مع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في منع انتشار دينه ، مهما كلّف الثمن ، فقرّروا اتخاذ سلاح السخرية والاستهزاء ، والاِيذاء والتهديد ، وكان أبو طالب من جانب آخر ، قد طلب من بني هاشم جميعاً القيام بحماية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلبّوا نداءه سواء بدافع الاِيمان أو الرحم ، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع من إيقاع الاَذى بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلّما وجدوا الفرصة السانحة ، وخاصةً إذا وجدوه وحيداً بعيداً عن أعين حماته ، إنّ التاريخ يشهد بأنّ وجود رجال ذوي بأس شديد وقوة بين صفوف المسلمين ، مثل « حمزة » الذي أصبح فيما بعد أحد كبار قادة الاِسلام ، كان لهم أثر كبير في حفظ الاِسلام وحماية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودعم جماعته ، فقد جاء عنه : لما أسلم حمزة عرفت قريش أنّ رسول اللّه « صلى الله عليه وآله وسلم » قد عزّ وامتنع ، فكفّوا عمّا كانوا يتناولون منه (1) ، أمّا أساليب قريش فتعددت في الاِيذاء والاِيقاع بالرسول وجماعته ، فقد كمن أبو جهل للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حينما وقف للصلاة بين الركن اليماني والحجر الاَسود ، ليضربه بحجر ، إلاّ أنّه رجع عن عزمه دون أن ينفّذ خطته ، مجيباً أصحابه في ذلك : قمت إليه لاَفعل به ما قلت لكم البارحة ، فلمّا دنوتُ منه عرض لي دونه ما لا رأيت مثله في حياتي ، فتركته (2) .

---------------------------
(1) الكامل : 2 ـ 56 .
(2) السيرة النبوية : 1 ـ 298 .

السيرة المحمدية _ 48 _

  ولا شكّ أنّ قوةً غيبيةً أدركت الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في تلك اللحظة وحفظته ، كما وعده اللّه تعالى قائلاً : ( إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئين ) (1) فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يواجهُ في كل ّيوم نوعاً خاصاً من الاَذى والمضايقة من هوَلاء الاَشرار ، وأشهرهم : عقبة بن أبي معيط الذي شتمه وضربه ، فكان أشدّ خصومه وبغضاً له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعمّه أبو لهب الذي تعرض للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لاَذاه مع زوجته أُمّ جميل ، فقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يجاورهم فقاموا بإيذائه وإزعاجه ، بإلقاء الرماد والتراب على رأسه الشريف ، ونشر الشوك على طريقه أو عند باب بيته ، والاَسود بن عبد يغوث ، أحد المستهزئين ، والوليد بن المغيرة ، شيخ قريش وحكيمها وأكبر الملاّك فيها ، وأُمية وأُبيّ ، ابنا خلف ، وأبو جهل ( أبو الحكم بن هشام ) ، والعاص بن وائل ، والد عمرو بن العاص الذي وصف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاَبتر ، وعندما فشلت أساليب قريش وأسلحتها الصديئة في القضاء على الدين الجديد وأهله ، عمدوا إلى استخدام سلاح جديد لعلّه يكون أقوى من سوابقه ، للحيلولة دون انتشار الاِسلام واتساع رقعته ، وقطع علاقته بالمجتمع العربي ، وهو سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومن أساليبه : الاتّهامات الباطلة ، وقد أقرّوا استخدامها في دار الندوة ، حين طرحوا فكرتها على « الوليد بن المغيرة » (2) الذي كان ذا مكانة مميزة عندهم ، فقال : يا معشر قريش ، إنّه قد حضر هذا الموسم وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ويرد قولكم بعضه بعضاً ، ورأى ألاّ يقولوا عنه كاهن أو مجنون أو ساحر .

---------------------------
(1) الحجر : 95 .
(2) أبو خالد بن الوليد .

السيرة المحمدية _ 49 _

  وهكذا تحيّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّهص حتّى اتّفقوا على أن يقولوا : إنّه ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه وأخيه وزوجته وعشيرته ، والدليل على ذلك ما أوجده من خلاف وانشقاق وتفرّق بين أهل مكّة الّذين عرفوا بالوحدة والاِتفاق (1) ، كما أشاعوا عنه الجنون ، وأنّما يقوله ويقرأه ما هو إلاّ من نسج الخيال ومن أثر الجنون الذي لا يتنافى مع الزهد والاَمانة ، وقد ردّالقرآن الكريم على جميع تلك الاتهامات في آيات كثيرة وفنّدها وقد استمر أُسلوبهم في الاتهام والتشويش على شخصية النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والرسالة المحمدية بكلّالصور والمظاهر ، فوصفوه بالكاهن ، والساحر ، والمجنون ، وأنّه معلّم من قبل نصراني ، وكذّاب و مفتر و شاعر ، وما يقوله أضغاث أحلام ، ولما لم تأت كلّ تلك الاتهامات بالنتيجة المرجوّة ، ولم تنفع في الاِيقاع به ، لمعرفة الناس بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصفاته وأخلاقه منذ سنين بعيدة ، اتجهوا إلى أُسلوب آخر ، وهو معارضة القرآن الكريم عن طريق « النضر بن الحارث » أحد أعداء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي تعلم في العراق شيئاً من أساطير الفرس وحكاياتهم ، ليقصّ منها على الناس فيلهيهم عن السماع لرسول اللّهوالاِصغاء للقرآن الكريم ، إلاّ أنّ ذلك لم يدم طويلاً ، فقد سأمت قريش أحاديثه فتفرقت عنه ، فاتجهوا إلى أُسلوب المجادلات الجاهلية والمآخذ السخيفة على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورسالته ، وهي تبرز تكبّرهم وعنادهم وجهلهم التي طبعوا عليها .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 1 ـ 270 .