ومن أمثال هذه الوسيلة الاعتراض على النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للاَُمور التالية :
1 ـ عدم نزول القرآن على أحد أثريائهم .
2 ـ عدم إرسال الملائكة إليهم .
3 ـ تبديل الآلهة بإله واحد .
4 ـ جدّد الحياة يوم القيامة .
5 ـ عدم تملّكه لمعجزات متعدّدة كما كان لموسى ( عليه السلام ) ، وفي الوقت نفسه قدموا مقترحات لاِصلاح الوضع بينهم وبين النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مثل :
ـ أن يقوم بعبادة أصنامهم سنة ، على أن يعبدوا إلهه سنة أُخرى .
ـ تبديل القرآن على ألاّ يحتوي على شجب عبادة الاَوثان .
ـ مطالب مادية عجيبة مستحيلة ومتناقضة ، كأن يفجر لهم ينابيع ، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى ، وعندما قدم وفدٌ مسيحيٌ تكوَّن من عشرين رجلاً من قبل أساقفة الحبشة لتقصّي الحقائق في مكة والتعرّف على الاِسلام ، وزيارة النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مكّة ، فجالسوه في المسجد وكلّموه وسألوه بعض المسائل ، حتى عرض عليهم دينه وقرأ عليهم آيات من القرآن الكريم ، فتأثرت نفوسهم وآمنوا به وصدّقوه ، وكان أبو جهل قد شاهد ما حدث فوبَّخهم على موقفهم وبما عملوا دون أن يوَدّوا عملهم كوفد من بلدهم ، إلاّ أنّهم لم يردوا عليه إلاّ بخير ، فكان لهذا الموقف أثره السيء في قريش دفعهم إلى تكوين وفد من « النضر بن الحارث وعقبة ابن أبي معيط » للسير إلى أحبار يهود المدينة وسوَالهم عن دين الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأخبرهم اليهود أن يسألوه عن ثلاث ، إذا عرفها فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فهو متقوّل .

السيرة المحمدية _ 51 _

1 ـ عن فتيه ذهبوا في الدهر الاَوّل .
2 ـ عن رجل طوّاف .
3 ـ عن الروح ، ماهي ؟ فأجابهم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالآيات القرآنية ، عن الروح في الآية 85 من سورة الاِسراء ، وأصحاب الكهف وذي القرنين في سورة الكهف .
   فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قابل تلك الآراء الشاذة والمقترحات الموَذية بصبر عظيم وثبات هائل ، حرصاً منه على إبلاغ رسالته ، وبعد هذه الخطة الفاشلة ، نفذوا خطة أُخرى وهي : منع كلّ من رغب في الاِسلام وقدم إلى مكّة للتعرف على النبيوالاتّصال به ، وذلك بنشر الجواسيس في الطرقات للتعرض لهوَلاء ومنعهم من الوصول إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وممّن تعرضوا له في الطريق : الشاعر الاَعشى ، الذي قدم إلى مكّة ليهدي للرسول أبياتاً شعرية ويعلن إسلامه على يديه ، فأقنعوه بالعودة إلى بلده بعد أن أخبروه أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يحرم الخمر ، وكان الاَعشى يحب الخمر والنساء ، وقد مات في نفس العام فلم يفد على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (1) ، كما تعرّضوا للطفيل بن عمرو الدوسي الذي خشيت قريش أن يقوم بالاتصال بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو شاعر حكيم ، صاحب نفوذ وكلمة مسموعة في قبيلته ، فخوّفوه من كلام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسحره ، إلاّ أنّه عندما سمع شيئاً من أقوال الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دون وعي منه ، أحسن القولَ فأسلم وشهد شهادة الحقّ ، ورجع إلى بلاده داعياً قومه إلى الاِسلام ، إلى أن تمّ اتصاله بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بخيبر فبقي معه حتى قبض ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثمّّ شارك المسلمين بعد ذلك في معارك اليمامة زمن الخلفاء الراشدين ، وقتل فيها (1) .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 1 ـ 386 .

السيرة المحمدية _ 52 _

   وتطورت وسائل وأساليب قريش في التخلّص من دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإيقاف زحف تلك الدعوة الاِسلامية واتّساعها في مدّة غير طويلة ، إلى فرض حصار اقتصادي قويّ على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمين ، تُقطع به كلّالشرايين الحيوية لهم ، فتحدّ بذلك من سرعة انتشار الدين ، وتخنق موَسسه وأنصاره ، ولهذا وقَّع زعماء قريش في دار الندوة ميثاقاً كتبه : « منصور بن عكرمة » وعلّقوه في جوف الكعبة ، وتحالفوا على الالتزام ببنوده حتى الموت ، وذلك في السنة السابعة من البعثة ، وقد ضم الميثاق البنود التالية :
1 ـ عدم التعامل التجاري مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنصاره .
2 ـ عدم التزاوج منهم .
3 ـ عدم التحدّث معهم أو تناول الطعام معهم .
4 ـ وأن يكونوا يداً واحداً على محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنصاره ، فما كان من « أبي طالب »إلاّ أن طلب من بني هاشم وبني المطلب ، الاستعداد للدفاع عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والحفاظ على حياته وسلامته ، على أن يستقرّوا خارج مكّة في شعب بين جبال مكّة عُرِفَ بشعب أبي طالب ، والذي شمل بعض البيوت البسيطة ، كما عيَّن بعض الرجال في جوانب مختلفة ومتفرقة ، لمراقبة الطرق وحراسة المكان تحسباً لاَي طارىَ (2) .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 1 ـ 382 .
(2) السيرة النبوية : 1 ـ 350 ، تاريخ الطبري : 2 ـ 78 .

السيرة المحمدية _ 53 _

  ويشهد التاريخ أنّ أقوى العوامل في ثبات أقلية وصمودها في وجه الاَكثرية هو : قوة الاِيمان و الاعتقاد ، وهذا ما تجلّى في أبي طالب و بني هاشم في هذه المأساة ، فقد استمر الحصار ثلاثة أعوام ، جاع فيها الاَطفال والكبار متحمّلين قسوة الحال ، فكان يعيشُ الفردُ منهم على تمرة واحدة طوال اليوم ، وربما تقاسمها اثنان ، ولمّا كان لايُسمح لهم بالخروج من الشعب إلاّ في الاَشهر الحرم حيث يسود الاَمن في أنحاء الجزيرة العربية ، فيخرج بنو هاشم للشراء والبيع ثمّ العودة إلى الملجأ ، فإن ّالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يستغل هذا الموسم في نشر دينه ودعوته ، إلاّ أنّ تجّار قريش كانوا يزيدون في سعر السلعة إذا أرادها مسلمٌ ، على أن يقوم أبو لهب والوليد بن المغيرة بتعويض خسارة هوَلاء التجار ، كما أنّهم عينوا الجواسيس على الطرق الموَدية للشعب حتى يمنعوا الاتّصال بالمسلمين ، إلاّ أنّ بعضاً من أنصار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يوصل الطعام إليهم سراً خلال الليل كما أنّ قريشاً كانوا يصادرون مال كلّمن أراد التعامل مع أصحاب الشعب ، في الوقت الذي اشتدّ إيذاوَهم لمن أعلن إسلامه ، ولكنّهم تأكدوا بعد فترة ليست قليلة بأنّ حصارهم هذا لم يأت بنتيجة مرجوة ، ولم يتحقّق هدفهم منه و من غيره من الوسائل والاَساليب ، ففكروا في نقض الميثاق بأيّ شكل ، فقد صرّح « زهير بن أبي أُميّة » في مجلس قريش في المسجد الحرام بعدما اتّفق مع عدد آخر من المعارضين لمقاطعة بني هاشم ، يا أهل مكّة ، أنأكل الطعام ونلبس الثياب ، وبنو هاشم هلكى لا يُباع لهم ولا يُبتاع منهم ؟ واللّه لا أقعد حتى تُشَقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة .

السيرة المحمدية _ 54 _

  وقام « المطعم بن عدي » إلى الصحيفة ليشقّها ، فوجد أنّ الاِرضة قد أكلتها إلاّ عبارة : « باسمك اللّهم » فأسرع « أبو طالب » إلى الشِّعب يخبر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما جرى ، وانفك الحصار وعاد المحاصرون إلى منازلهم مرّة أُخرى ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد عَلِم بأمر تقطيع الصحيفة والاِرضة التي أكلتها إلاّ اسم اللّه ، فأخبر أبا طالب بذلك ، الذي قام بإخبار زعماء قريش بذلك ، واتّفق معهم على : إن كان حقّاً ما ذكر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاتّقوا اللّه وارجعوا عما أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم ، وإن كان باطلاً دفعته إليكم ، فإن شئتم قتلتُموه وإن شئتم استحييتموه ، فقالوا : رَضينا ، وتعاقدوا على ذلك ، إلاّ أنّهم نقضوا اتّفاقهم ونكثوا عهدهم لما شاهدوا وتأكدوا ما قاله النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بل ازدادوا شراً وعناداً ، ورجع بنو هاشم مرّة أُخرى إلى الشِّعب محاصَرين فيه فترة أُخرى ، حتى نقضها « هشام بن عمرو » فانتهى الحصار الاقتصادي لبني هاشم في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة النبوية الشريفة ، وإلى جانب ذلك ، فإنّ أفراداً من المسلمين تعرّضوا لاِيذاء قريش وتحمّلوا أشدّ أنواع العذاب ، واشتهر منهم :

1 ـ بلال الحبشي
   الذي كان غلاماً لـ « أُميّة بن خلف » و هو أشدّ أعداء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعمد إلى تعذيب هذا الغلام انتقاماً و تشفياً من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ أنّه تردد ـ أي أُميّة ـ من إلحاق الاَذى به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خوفاً من عشيرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الحامية له (1) .

2 ـ عمار بن ياسر
   الذي كان والده من السابقين إلى الاِسلام ، فعمد المشركون إلى إيذائهم وتعذيبهم بعد ما انضموا إلى المسلمين ، فكانوا يُخرِجون « عماراً وياسر وسمية » في وقت الظهيرة ويبقونهم طويلاً تحت أشعة الشمس ، حتى مات ياسر .

---------------------------
(1) قتله بلال بالاِضافة إلى ابنه بعد أن أُسر في معركة بدر .

السيرة المحمدية _ 55 _

   كما طعن أبو جهل بالرمح سُميّة في قلبها فماتت ، فاعتُبرا أوّل شهيدين في الاِسلام (1) ، أمّا عمّار فقد استخدم التقية للاِبقاء على نفسه ، حيث تظاهر بترك الدين الاِسلامي حسب طلبهم ، فانصرفوا عنه وتركوه ، ولما ندم على فعله ، طَمأنَه النبيُّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال له : « كيف تجد قلبك ؟ » قال : مطمئن بالاِيمان ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إن عادوا فَعُدْ » .

3 ـ عبد اللّه بن مسعود
  الذي أبدى استعداداً للقيام بتلاوة القرآن جهراً على مسامع قريش في المسجد الحرام ، فقرأ ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمن الرَّحيم* الرَّحْمن* عَلَّم القُرآن ) فقام إليه الجميع يضربونه في وجهه وهو يقرأ حتى أُدمي جسمه ووجهه فتركوه ، وهو مسرور بما عمله في تمكين قريش من الاستماع إلى كتاب اللّه تعالى وآياته المباركة (2) .

4 ـ أبو ذر
  أيضاً جاهر بالدين حين كان المسلمون يدعون سراً ، فقد نادى في المسجد : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله (3) ، ويوَكد التاريخ أنّ نداءه هذا كان أوّل نداء تحدّى جبروت قريش وظلمها ، أطلقه رجل غريب عن مكّة وأهلها ، فهجم عليه جماعة من قريش وضربوه بشدّة حتى أنقذه « العباس بن عبد المطلب » من الموت ، بحجّة أنّه من غفار ، وتمر تجارة قريش على بلده ، فخافوا على تجارتهم فأمسكوا عنه ، ولما لم يحن الوقتُ بعد للدخول في مواجهات ساخنة مع المشركين ، فإنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمره بأن يلحق بقومه يدعوهم للاِسلام : « إلحق بقومك فإذا بلغك ظهوري فأتني » ، وقد تمكن من التأثير في قومه ، فأسلم أبواه ، ونصف رجال قبيلته ـ غفار ـ ثمّ أسلم ا لباقي بعد هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة ، ثمّ تبعتها قبيلة « أسلم » التي وفدت على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واعتنقوا الاِسلام ، وقد التحق « أبو ذر » بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المدينة وأقام بها (4) وهو أوّل المجاهرين بالاِسلام ، ورابع أو خامس من أسلم ، فكان من السابقين والاَوّلين ، الذين لهم مكانة عظيمة عند اللّه تعالى ومقاماً لا يضاهى .

---------------------------
(1) بحار الاَنوار : 18 ـ 241 ، السيرة الحلبية : 1 ـ 300 .
(2) السيرة النبوية : 1 ـ 314 .
(3) حلية الاَولياء : 1 ـ 158 ، طبقات ابن سعد : 4 ـ 225 ، الاستيعاب : 4 ـ 63 .
(4) الدرجات الرفيعة : 225 ـ 230 .

السيرة المحمدية _ 56 _


موقف النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من إيذاء الكفّار للمسلمين
ـ الهجرة إلى الحبشة .
ـ الاِسراء والمعراج .
ـ سفره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الطائف .
ـ المرحلة الجديدة في الدعوة ونتائجها : بيعة العقبة .
ـ الهجرة الكبرى .
ـ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المدينة .

مواجهة المسلمين أمام أفعال قريش
1 ـ الهجرة إلى الحبشة
  تعتبر هجرة فريق من المسلمين إلى الحبشة دليلاً بارزاً على إيمانهم وإخلاصهم العميق لدينهم وربّهم ، فقد قرّر فريق من الرجال والنساء ، بهدف الحفاظ على عقيدتهم ، والتخلّص من أذى قريش ، والاِقامة في مكان آمن يقيمون فيه شعائرهم بحرية ويعبدون اللّه الواحد ، أن يغادروا مكة إلى جهة تحقّق أهدافهم ، فنصحهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاِتجاه إلى الحبشة قائلاً : « لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإنّ بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد ، وهي أرض صِدقٍ حتّى يجعل اللّه لكم فَرَجاً ممّا أنتم فيه » ، لماذا اختار الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تلك الاَرض ؟ ويتضح السّر إذا درسنا أوضاع الجزيرة العربية والمناطق المجاورة لها ، فالهجرة إلى المناطق العربية التي سكنها المشركون والوثنيون كانت تنطوي على خطر كبير على هوَلاء الاَفراد من المسلمين ، إذ أنّهم سيمتنعون عن قبولهم في أرضهم إرضاءً لقريش أو وفاءً وتعصّباً لدين الآباء .

السيرة المحمدية _ 57 _

  وكذلك لم تصلح المناطق التي عاش بها اليهود والنصارى لذلك إذ أنّ الصراع المذهبي والطائفي كان شائعاً بينهما ، فلم تكن الاَوضاع لتسمح بدخول طرف ثالث في حلبة الصراع ، كما أنّ هوَلاء الفريقين ـ اليهود والنصارى ـ كانوا يحتقرون العنصر العربي أساساً ، ممّا يمنع التعايش معهم ، أمّا المناطق الخارجية ، فإنّ اليمن كانت تحت حكم الفرس ، الذين لم يقبلوا بدعوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيما بعد ، حتى إنّ إمبراطور فارس طلب من عامله على اليمن ، القيام بالقبض على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإرساله إليه ، وكذلك الحيرة فقد كانت تحت النفوذ الاِيراني وسيطرته ، أمّا الشام فكانت بعيدةً عن مكّة المكرّمة ، لم تصلح للجوء المسلمين إليها ، كما أنّها كانت سوقاً لقريش تربط سكانها بهم روابط وعلاقات وثيقة ، وهي علاقات اقتصادية قوية ، ولذا فإنّ الفريق الموَمن غادر مكة ليلاً في غفلة من المشركين نحو ميناء جدّة للسفر عبر مينائها إلى أرض الحبشة ، حيث وصلوا في الوقت الذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على أُهبة الاِقلاع ، فبادرالمسلمون إلى ركبوها لقاء نصف دينار عن كلّ راكب ، وكان الفريق مكوناً من عشرة أو خمسة عشر شخصاً ، بينهم أربع من النسوة المسلمات ، ولم يكونوا من قبيلة واحدة ، بل انتمى كلّ واحد منهم إلى قبيلة معينة ، وقد حدث ذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (1) .
   وقد حاول المشركون في مكّة اللحاق بهم ، فبعثوا جماعة من رجالهم لاِعادتهم إلى مكّة ، إلاّ أنّ السفينة كانت قد غادرت الميناء .

---------------------------
(1) بحار الاَنوار : 18 ـ 412 .

السيرة المحمدية _ 58 _

   وكان روَساء « دار الندوة » بمكة وأقطابها ، يعلمون جيدا أضرار هذه الهجرة وآثارها على أوضاعهم ، ولذا اهتموا في إعادتهم فوراً إلى ديارهم ، وقد تبعت هذه الهجرة ، خروج جماعة أُخرى بلغ عددها 83 فرداً على رأسهم : « جعفر بن أبي طالب » ابن عمّ الرسول حيث تمّت بحريّة ، وقد اصطحبوا فيها نساءهم وأولادهم ، إلى أرض الحبشة أيضاً ، وقد وجد المسلمون أرضها كما وصفها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : عامرةً ، وبيئة آمنة حرة ، تصلح لعبادة اللّه تعالى بحرّية وأمان ، وبيّنت « السيدة أُمّ سلمة » الوضع بقولها : « لما نزلنا أرض الحبشة ، جاورنا بها خير جار ، النجاشي ، أمننا على ديننا ، وعبدنا اللّه تعالى ، لا نُوَذى ، ولا نسمع شيئاً نكرهه » ، وقد حدثت هذه الهجرة في رجب من السنة الخامسة من النبوة ، وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة ، فأقاموا شعبان ورمضان ، وقدموا في شوال ، لما بلغهم أنّ قريشاً أسلمت فعاد منهم قوم وتخلف آخرون (1) ، إلاّ أنّ ذلك كان كذباً ، فلم يدخل منهم مكّة إلاّالقليل ، وعادت الاَكثرية إلى الحبشة ثانية ، وكان ممّن دخل مكّة منهم : « عثمان بن مظعون » الذي دخل بجوار الوليد بن المغيرة ، ولكنّه ردّ عليه جواره فاختار جوار اللّه ليواسي المسلمين ويشاركهم آلامهم ومتاعبهم ، ممّا جعله يتلقّى فيما بعد شيئاً من تعذيب الكفّار وأذيتهم فأصابوا عينه ، وحينما علمت قريش ما أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن وحرّية ، ثار فيهم الحسد ، وتوجّسوا خيفة من نفوذهم هناك في الحبشة ، التي اعتبرت أرضها الآن قاعدة قوية لهم ، كما أنّهم تخوفوا من اعتناق نجاشي الحبشة لدينهم ، فيكسبوا تأييده ، ممّا يدفعه إلى محاربة مكّة فيما بعد للقضاء على حكومة المشركين الوثنيين في شبه الجزيرة العربية .

---------------------------
(1) الكامل في التاريخ : 2 ـ 52 .

السيرة المحمدية _ 59 _

   ولذا فقد اجتمع الاَقطاب في « دار الندوة » للتشاور في هذا الاَمر الخطير ، فاستقر رأيهم على إرسال وفد منهم إلى البلاط الحبشي لاستمالة القواد والوزراء بالهدايا القيمة ، لاِخراج المسلمين من أرضهم ، فقد تحدّدت تعليماتهم إلى رئيس الوفد : عمرو بن العاص ، وعبد اللّه بن أبي ربيعة : ادفعا إلى كلّ بطريقٍ هديته قبل أن تكلّما النجاشي فيهم ، ثمّ قدّما إلى النجاشي هداياه ، واسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلّمهم ، وحينما توجّها إلى الملك الذي تقبّل الهدايا ، قالا له : أيّها الملك إنّه قد ضوى ـ أي لجأ ليلاً ـ إلى بلدك منّا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم إليهم ، فهم أبصر بهم وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه ، وقد شجعهم على قولهم هذا بطارقتُه الذين حصلوا على الهدايا من قبل ، إلاّ أنّ النجاشي الحكيم العادل رفض إجابة مطالبهم دون أن يرجع إلى المسلمين فيرى رأيهم ، وعندما حضروا أمامه بقيادة « جعفر بن أبي طالب » الناطق باسمهم ، سأله الملك : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومَكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل ؟ ، فقال جعفر بن أبي طالب بعد أن وصف حالهم قبل الاِسلام وكيف أنّ اللّه هداهم بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وأمرنا أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ، فصدّقناه وآمنا به واتّبعناه على ما جاء به من اللّه ، فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئاً ، وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلّ لنا .

السيرة المحمدية _ 60 _

  فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الاَوثان ، وأن نستحلّ ما كنّا نستحلُّ من الخبائث ، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ألا نُظلَم عندك أيّها الملك (1) ، وقد أثّرت كلمات « جعفر » البليغة وحديثه العذب تأثيراً عجيباً في نفس النجاشي حتى أغرورقت عيناه بالدموع ، وخاصة عندما قرأ عليه بعض الآيات القرآنية التي تخص عيسى و مريم « عليهما السلام » فبكى النجاشي وبكى أساقفتُه معه ، وقال : « إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة » ، ويقصد أنّ القرآن والاِنجيل كلام اللّه و أنَّهما شيء واحد ، ثمّ التفت نحو موفدي قريش قائلاً : انطلقا فلا واللّه لا أسلمَهم إليكما ، إلاّ أنّ « عمرو بن العاص » فكّر في حيلة جديدة تخلّصهم من موقفهم السّيء والمخزي ، وهي : أن يخبر الملك بما يسيء إلى المسيح ( عليه السلام ) فقال في اليوم التالي للملك : إنّهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً ، ولكنَّ جعفراً أجاب الملك في ذلك : نقول فيه الذي جاءنا به نبيّنا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، ممّا سرّالنجاشي و رضي به وقال : هذا واللّه هو الحقّ ، وقال للمسلمين : اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي ، من سَبّكُم غُرِم ، ما أحبّ أنّ لي دبراً من ذهب ، وإنّي آذيت رجلاً منكم ، ثمّ ردّعلى وفد قريش هداياهم قائلاً : فلا حاجة لي بها ، فواللّه ما أخذ اللّه منّي الرشوة حين ردّ عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه (2) ، لا فخرجوا من عنده خائبين مقبوحين .

---------------------------
(1) أوّل الخطاب في ص 20 من الكتاب .
(2) السيرة النبوية : 1 ـ 338 ، إمتاع الاَسماع : 21 ، بحار الاَنوار : 18 ـ 414 .

السيرة المحمدية _ 61 _

2 ـ الاِسراء والمعراج
  بدأ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رحلته الفضائية من بيت « أُمّ هانىَ » أُخت الاِمام علي ( عليه السلام ) (1) إلى بيت المقدس في فلسطين ، والّذي يسمّى المسجد الاَقصى ، وتفقّد بيت لحم مسقط رأس السيّد المسيح ( عليه السلام ) ومنازل الاَنبياء وآثارهم ، وصلّى عند كلّ محراب ركعتين ، ثمّ بدأ في القسم الثاني من رحلته ، المعراج إلى السماوات العلى ، فشاهد النجوم والكواكب ، واطّلع على نظام العالم العلوي ، وتحدّث مع أرواح الاَنبياء والملائكة ، واطلع على مراكز الرحمة والعذاب ـ الجنّة والنار ـ ورأى درجات أهل الجنّة ، وتعرّف على أسرار الوجود ورموز الطبيعة ، ووقف على سعة الكون وآثار القدرة الاِلهية المطلقة ، ثمّ واصل رحلته حتى بلغ سدرة المنتهى ، فوجدها مسربلة بالعظمة المتناهية والجلال العظيم ، وهنا كان قد انتهى برنامج الرحلة ، فأُمر بالعودة من حيث أتى ، فمرّ في طريق عودته ، على بيت المقدس ثانية ، ثمّ توجه نحو مكّة ، مارّاً على قافلةٍ تجاريةٍ خاصّة بقريش ، وبعيرٌ لهم قد ضلّ في البيداء يبحثون عنه ، وشرب من مائهم ، ثمّ ترجّل عن مركبته الفضائية ـ البراق ـ في بيت أُمّ هانىَ ، قبل طلوع الفجر ، فأخبرها بما حدث ، كما كشف عنه في أندية قريش صباح نفس تلك الليلة ، إلاّ أنّ قريشاً كعادتها كذّبته وأنكرته ، على أساس عدم استطاعة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) القيام بذلك في ليلة واحدة ، وطلبوا منه أن يصف بيت المقدس ، فوصفه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصفاً شاملاً ، مع ما شاهده في الطريق ، وخاصة عير قريش ، التي أكد لهم بأنّها الآن في موقع التنعيم ، فلم تمض لحظات حتى طلعت عليهم العير ، فحدّثهم أبو سفيان بكلّما أخبرهم به الرسول من ضياع بعيرهم في الطريق والبحث عنه (2) ، وقد اختلفت الاَقوال عن وقت حدوث الاِسراء والمعراج ، فادّعى « ابن هشام و ابن إسحاق » انّه وقع في السنة العاشرة من البعثة الشريفة ، وذهب الموَرّخ « البيهقي » انّه حدث في السنة الثانية عشرة منها ، بينما قال آخرون إنّه وقع في أوائل البعثة ، في حين أنّ فريقاً رابعاً أكد وقوعه في أواسطها ، وربما يقال في الجمع بين هذه الاَقوال انّه كان لرسول اللّهمعارج متعدّدة ، وهناك اعتقاد أنّ المعراج الذي فرضت فيه الصلاة وقع بعد وفاة أبي طالب ( عليه السلام ) في السنة 10 من البعثة ، والذين تصوّروا أنّ المعراج وقع قبل هذه السنة مخطئون ، لاَنّ النبي ص كان محصوراً في شعب أبي طالب منذ عام 8 وحتى 10 ، فلم يكن المسلمون مستعدّين لوضع التكاليف عليهم .


---------------------------
(1) مجمع البيان : 6 ـ 395 ، السيرة النبوية : 1 ـ 396 .
(2) بحار الاَنوار : 18 ـ 283 و 410 .

السيرة المحمدية _ 62 _

   وأمّا سنوات ما قبل الحصار ، فعلاوة على ضغوط قريش على المسلمين ، والتي كانت مانعاً من فرض الصلاة عليهم ، فإنّ المسلمين كانوا قلّة ، ولم يكن نور الاِيمان وأُصول الاِسلام قد ترسخت بعد في قلوب ذلك العدد القليل ، ولذا يستبعد أن يكونوا قد كلّفوا بأمرٍ زائدٍ مثل الصلاة في مثل تلك الظروف ، أمّا ما ورد في بعض الاَخبار والروايات ، بأنّ الاِمام عليّاً (عليه السلام) صلّى مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة بثلاث سنوات ، فليس المراد منها الصلاة المكتوبة ، بل كانت عبارة عن عبادةٍ خاصةٍ غير محدّدة ، أو كان لمراد منها الصلوات المندوبة والعبادات غير الواجبة (1) ، وأمّا بالنسبة لما قيل وذكر عن معراج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جسمانياً أو روحانياً ، فقد قيل فيه الكثير ، بالرغم من أنّ القرآن الكريم والاَحاديث النبوية توَكّد أنّ ذلك حدث جسمانياً ، إلاّ أنّ بعض الآراء ترى أنّذلك وقع روحانياً ، أي أنّ روح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طافت في تلك العوالم ثمّ عادت إلى جسده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرّة أُخرى ، وذهب آخرون إلى أنّ كلّ ذلك حدث في عالم الروَيا ، وروَيا الاَنبياء صادقة (2) ، وربما دلّ تكذيب قريش وانزعاجها واستنكارها لحديث الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أنّذلك حدث جسمانياً ، وإذا كان المراد من المعراج الروحاني والتفكير في عظمة الحقّ وسعة الخلق والتدبير في مخلوقات اللّه ومصنوعاته ومشاهدة جماله وجلاله ، فلا شكّ أنّ ذلك ليس من خصائص رسولنا الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بل إنّ كثيراً من الاَنبياء والاَولياء امتلكوا هذه المرتبة ، بينما أعتبره القرآن الكريمُ من خصائصه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونوع من الامتياز الخاصّ بهص ، كما أنّحالة التفكير في عظمة الخالق والاستغراق في التوجه إليه ، كانت تتكرر للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كلّ لليلة ، وليس ليلة بعينها كما جرى وحدث في المعراج ، أمّا في العلم الحديث ، فإنّ القوانين الطبيعية والعلمية الحالية لا تتلاءم مع معراج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذلك للاَسباب التالية :
1 ـ إنّ الابتعاد عن الاَرض يتطلب التخلّص من جاذبيتها ، أي إبطال مفعولها ، والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد خرج عن محيط الجاذبية وأصبح في حالة انعدام الوزن ، فكيف تمكن أن يطوى هذه المسافات بدون الوسائل والاَدوات اللازمة ، وعدم توافر الغطاء الواقي ، الذي يصون الجسم من التبعثر والذوبان بفعل السرعة الهائلة ؟


---------------------------
(1) يراجع في ذلك الكافي : 3 ـ 482 .
(2) نقل العلاّمة الطبرسي في تفسير مجمع البيان إجماع علماء الشيعة على جسمانية المعراج : 6 ـ 395 .

السيرة المحمدية _ 63 _

2 ـ وكيف تمكن من العيش والحياة في أعالي الجو بدون وجود أوكسجين ؟
3 ـ وكيف تمكن أن يصون نفسه من الاَشعة الفضائية والاَحجار السماوية ؟
4 ـ وإذا كان الاِنسان يعيش تحت ضغط معين من الهواء لا يوجد في الطبقات العليا من الجو ، فكيف حافظ على حياته هناك ؟
5 ـ لا يستطيع أيّ جسم أن يتحرّك بسرعة تفوق سرعة النور ، التي هي 30 ألف كم في الثانية ، فكيف استطاع النبي السير بتلك السرعة الهائلة ويرجع إلى الاَرض سالمَالجسم ؟ ! والجواب على ذلك سهل ويسير ، فإنّ البشر استطاع بأدواته وآلاته العلمية والتكنولوجية أن يعالج مشكلات عديدة في مجال ارتياد الفضاء ، مثل مشكلة الاَشعة الفضائية وانعدام الغاز اللازم للتنفس ، كما أنّ العلماء يخطّطون للعيش على سطح الكواكب كالقمر والمريخ ، وبذا فإنّ العلم يوَكّد سهولة ارتياد الفضاء وعدم استحالته ، فإذا كان البشر في إمكانه أن يقوم بذلك عن طريق الاَدوات والآلات العلمية ، فإنّ الاَنبياء يمكنهم فعلَها بواسطة قدرة اللّه سبحانه و تعالى وفعله ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عرج بعناية وقدرة اللّه الذي خلق الوجود كلّه ، وأقام هذا النظام البديع ، فجميع العلل الطبيعية والموانع الخارجية مسخَّرة للّه تعالى وخاضعة لاِرادته ، ومطيعة لاَمره ، وكأنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخبر البشرية وحتى الّذين يعيشون في هذا القرن : إنّني فعلت هذا بدون أيّة وسيلة ، وإنّ ربّي قد منّ عليّوعرّفني على نظام السماوات والاَرض ، وأطلعني بقدرته وعنايته على أسرار الوجود ورموز الكون .

السيرة المحمدية _ 64 _

  وقال الاِمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) في ذلك : « إنّ اللّه يوصَف بمكان ولا يجري عليه زمان ، ولكنّه عزّ وجلّ أرادَ أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته ، ويكرمهم بمشاهدته ، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه ، وليس ذلك على ما يقوله المشبِّهون ، سبحان اللّه تعالى عمّا يصفون » (1) .
3 ـ سفر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الطائف توفيت السيدة خديجة ( عليها السلام ) بعد وفاة أبي طالب ، بشهر وخمسة أيّام ، في السنة العاشرة من البعثة (2) ، وهي التي سمّاها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عام الحداد أو الحزن ، ومنذ هذا الوقت واجه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ظروفاً صعبة قاسية قلّما واجهها من قبل ، فقد اصطدم منذ بداية السنة الحادية عشرة بأحوال قاسية مفعَمة بالعداء والحقد والاَخطار التي هدّدت حياته الشريفة ، بل افتقاد إمكانية نشر الدعوة ، فلمّا هلك أبو طالب ، نالت قريش من رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الاَذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً ، وفي البيت عندما بكت ابنته على وضعه هذا قال : « ما نالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب » (3) ، وقد دفع هذا الاَمر المتردّي ، أن يبحث الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن بيئة أُخرى أفضل من بيئته لنشر الدعوة فيها ، فاختار الطائف التي كانت تعتبر مركزاً هاماً آنذاك،فقرر السفر إليها وحيداً لمقابلة زعماء ثقيف ، لعلّه يكسب نجاحاً في مهمته أو أنصاراً جدداً .

---------------------------
(1) علل الشرائع : 55 ، البحار : 18 ـ 347 ، تفسير البرهان : 2 ـ 400 .
(2) تاريخ الخميس : 1 ـ 301 .
(3) السيرة النبوية : 1 ـ 415 ، بحار الاَنوار : 19 ـ 5 .

السيرة المحمدية _ 65 _

  إلاّ أنّ عرضه لم يوَثر فيهم ، بل إنّهم ردّوا عليه بصبيانية أوضحت تملّصهم من قبول الدعوة أو اعتناق الدين ، بل أنّهم تمادوا في سلوكهم العدواني فأحاط به جمعٌ كبير منهم يسبّونه ويصيحون به ، فالتجأ إلى بستان « عتبة وشيبة ابني ربيعة » للتخلّص من هوَلاء السفهاء ، وعمد إلى ظل جلس فيه وهو يتصبب عرقاً ، فقد ألحقوا الاَذى بمواضع عديدة من بدنه الشريف ، كما أنّ رجليه سالت منهما الدماء ، ولما دعا اللّه سبحانه وتعالى أن يعينه على هوَلاء الاَشرار ، فقد تقدّم إليه ابنا ربيعة ـ اللّذان كانا ينظران إليه و يريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف ـ بطبق من عنب قدمه إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غلام لهما اسمه « عداس النصراني » من أهل نينوى ، فلمّا رأى ما يعلمه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من علوم عن المسيح ( عليه السلام ) أسلم على يديه ، إلاّ أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يتمكن من الرجوع إلى مكّة بسهولة ، حيث خاف أذى المشركين ، ممّا جعله يترك « نخلة » وهي واد بين الطائف ومكة ، إلى حراء ، فالتقى رجلاً من بني خزاعة طلب منه أن يخبر « المطعم بن عدي » بحالته ، ويسأله أن يجير رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى يدخل مكة في أمان ، ورغم أنّ « المطعم » كان وثنياً ، إلاّ أنّه قبل أن يجيره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فدخل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة ليلاً ، ونزل في بيت « مطعم » و بات فيه ، ثمّ دخل في الصباح مع أهل بيته إلى المسجد الحرام ثمّ إلى منزله (1) ، ولم ينس الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمله الطيب هذا ، بل تذكّره حتى بعد وفاة المطعم ، إذ أنّه أعلن في معركة بدر عن استعداده للاِفراج عن جميع الاَسرى لو كان حيّاً ، تقديراً لما قام به من إجارة وخدمة كبيرة له .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 1 ـ 381 ، بحار الاَنوار : 19 ـ 7 .

السيرة المحمدية _ 66 _

   وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستخدم كلّوسيلة وطريقة لنشر دعوته ، فكان يقوم بالدعوة في كلّوقت وكلّ مكان ، منتهزاً الفرص المناسبة لذلك ، مثل استغلاله لاَسواق العرب الشهيرة : عكاظ والمجنة وذي المجاز ، حيث كان الخطباء والشعراء يقفون فيها ليلقوا ما عندهم من شعر وخطب ، وفكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقف على مكان مرتفع خاطباً : « قولوا لا إله إلاّاللّه تفلحوا ، وتملكوا بها العرب ، وتذلّ لكم العجم ، وإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة » (1) ، كما أنّه كان يلتقي في مواسم الحج بروَساء القبائل وأشرافها يعرض عليهم دينه ، ويدعوهم إلى اللّه سبحانه ، ويخبرهم بأنّه نبي مرسل ، ويقول ابن هشام في ذلك : كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يسمع بقادم من العرب إلى مكة له اسم وشرف إلاّتصدّى له فدعاه إلى اللّه وعرض عليه ما عنده .

المرحلة الجديدة في الدعوة ونتائجها الموَثرة
4 ـ بيعة العقبة
  سكنت يثرب قبيلتا الاَوس والخزرج في القرن الرابع الميلادي يعد هجرتهم من اليمن ، وهم من القحطانيين ، كما سكن بجانبهم اليهود القادمين من شمال الجزيرة العربية ، وكثيراً ما كان يحضر منهم جماعة إلى مكّة ، فكان النبي يلتقي بهم ويتصل معهم عارضاً عليهم دينه ، وقد كان لهذه اللقاءات والاتّصالات أثرها فيما بعد ودافعاً لهجرة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى يثرب ، فقد كان حجاجهم ينقلون أخباره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أهاليهم ، ممّا مكنهم التعرف عليه وعلى أهدافه ، وقد تمّت تلك الاتّصالات فيما بين سنوات 11 ، 12 ، 13 من البعثة ، ومن أشهر من تشرّف بمقابلة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « سويد بن الصامت » الذي أسلم ونشر الاِسلام بين قومه ، إلاّ أنّ الخزرج قتلته قبل يوم بعاث (2) ، « إياس بن معاذ » الذي رأى في إسلام أهله تخلّصاً من النزاع والتناحر بينهم ، ليصبحوا بفضل الدين الجديد إخوة تزول بينهم أسباب العداء والقتال .

---------------------------
(1) طبقات ابن سعد : 1 ـ 216 .
(2) بعاث ، موضع جرت فيه حرب بين الاَوس والخزرج .

السيرة المحمدية _ 67 _

   وكذلك تمّت مبايعة ستة أفراد من الخزرج والاِيمان به وبالاِسلام : إنّا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ مثل ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّه بك ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم اللّه عليه ، فلا رجل أعزّمنك (1) ، وكان لهوَلاء تأثيرهم الاِيجابي في أهل يثرب ، حيث أسلم عددٌ منهم ، وقدم في السنة التالية 12 من البعثة ، اثنا عشر رجلاً منهم ، عقدوا مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيعة العقبة ، وهي أوّل بيعة في الاِسلام ، وكان أبرزهم : أسعد بن زرارة ، وعبادة الصامت ، وكان نصّ البيعة ، بعد الاعتراف بالاِسلام والاِيمان باللّه وبرسوله : « بايعنا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على ألاّ نشرك باللّه شيئاً ، ولا نسرق ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف » ، ويرد عليهم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إن وفيتم فلكم الجنة ، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى اللّه عزّوجلّ ، إن شاء عذّب وإن شاء غفر » ، وطلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يرسل إليهم من يعلّمهم القرآن والدين ، إذ أنّهم نشطوا في نشر الاِسلام بعد عودتهم إلى يثرب ، فبعث إليهم ، « مصعب بن عمير » الداعية النشط الذي تمكن من أن يجمع المسلمين في غياب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويوَمهم ويصلّي بهم (2) ، وهكذا فقد أحدث تقدُّم الاِسلام في يثرب ، هيجاناً كبيراً ، وشوقاً عجيباً في نفوس المسلمين من أهلها ، فانتظروا حلول موسم الحجّ للاِلتقاء بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فخرجت قافلة كبيرة منهم ضمت 500 نفر ، فيهم 73 مسلماً بينهم امرأتان ، فالتقوا بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي واعدهم بالعقبة : « موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق » ، وهي الليلة 13 من شهر ذي الحجّة ، فاجتمع بهم مع عمّه « العباس بن عبد المطلب » بعد أن مضى ثلث الليل ونام الناس ، حتى لا يشعروا بخروجهم .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري : 2 ـ 86 ، السيرة النبوية : 1 ـ 427 ، بحار الاَنوار : 19 ـ 25 .
(2) السيرة النبوية : 1 ـ 434 ، بحار الاَنوار : 19 ـ 25 .

السيرة المحمدية _ 68 _

  فتكلّم فيهم العباس قائلاً : إنّ محمّداً منّا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، فهو في عزّمن قومه ومنعة في بلده ، وإنّه قد أبى إلاّ الانحياز إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممّن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنّكم مسلّموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنّه في عزّومنعة من قومه وبلده ، ثمّ تكلّم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتلا القرآن ودعا إلى اللّه ورغّب في الاِسلام ثمّ قال : « أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم » ، فبايعوه على ذلك وهم في حماس وسرور عظيم ، كما أن ّالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عاهدهم على أن يبقى معهم ، ويكون بجانبهم في سلمهم وحربهم : « أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم » ثمّ قال لهم : « أخرجوا إليّمنكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم » ، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسي بن مريم ، وأنا كفيل على قومي ـ أي المسلمين ـ فأُبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون نساءكم وأولادكم » ، فقالوا : نعم ، فبايعوه على ذلك ، وكان النقباء ، 9 من الخزرج و 3 من الاَوس ، وقد انفضّ الجمع بعد ذلك ، بعد أن وعدهم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يهاجر إليهم في الوقت المناسب (1) ، أمّا بخصوص قبول أهل يثرب الدين الاِسلامي أسرعَ من أهل مكّة الذين رفضوه خلال ثلاثة عشر عاماً ، فإنّ هناك عاملين هامين كان لهما التأثير المباشر القويّ في ذلك :
1 ـ وجود اليهود بالمدينة ، وقيامهم بنشر الاَخبار عن ظهور نبي جديد ودين جديد ، ممّا هيّأ أهلها لقبول هذا الدين الذي كانوا ينتظرونه ، الاَمر الذي جعلهم أسرع في تقبلهم للدعوة خلال البيعة الاَُولى ، حين قال بعضهم لبعض : واللّه إنّه للنبيّ الذي توعّدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه .
2 ـ كما أن ّالحروب الطويلة التي جرت بين أطراف أهل يثرب ، والتي استمرت مائة وعشرين عاماً ، قد أنهكتهم وكادت أن تذهب بما تبقّى من رمقهم ، فملّوا الحياة ، وفقدوا كلّأمل في تحسن الاَحوال والاَوضاع ، فبحثوا عن مخلّص لما هم فيه من حالة سيئة ومشكلات مزمنة ، ولهذا تمنّوا أن يضع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حداً لاَوضاعهم المتردية فقالوا : « عسى أن يجمعهم اللّه بك ، فإن جمعهم اللّه بك فلا رجل أعزّ منك » ، وقد أحدث كلّذلك خوفاً عجيباً في قلوب قادة قريش وسادة مكة المشركين المتغطرسين ، إذ أنّ ذلك يعني أن ّالمسلمين وجدوا قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية ، تجمع كلّ طاقات المسلمين المبعثرة ، وتعمل معاً في نشر دينهم وعقيدتهم ، ممّا سيشكل خطراًجديداً يهدّدهم في الصميم ، ولهذا بادَرتْ قريشٌ في الاتّصال بالخزرجيّين للاستفسار عمّا حدث في العقبة ، فحلف لهم المشركون من أهل يثرب أنّه لم يحدث ما يوَذيهم أو يهدد مصالحهم ، ولم يعلموا عنه ، وهم في قولهم صادقون ، إذ أنّهم لم يعلموا بما حدث في العقبة .

---------------------------
(1) بحار الاَنوار : 19 ـ 25 ـ السيرة النبوية : 1 ـ 441 ، طبقات ابن سعد : 1 ـ 221 .

السيرة المحمدية _ 69 _

  أمّا بخصوص قبول أهل يثرب الدين الاِسلامي أسرعَ من أهل مكّة الذين رفضوه خلال ثلاثة عشر عاماً ، فإنّ هناك عاملين هامين كان لهما التأثير المباشر القويّ في ذلك :
1 ـ وجود اليهود بالمدينة ، وقيامهم بنشر الاَخبار عن ظهور نبي جديد ودين جديد ، ممّا هيّأ أهلها لقبول هذا الدين الذي كانوا ينتظرونه ، الاَمر الذي جعلهم أسرع في تقبلهم للدعوة خلال البيعة الاَُولى ، حين قال بعضهم لبعض : واللّه إنّه للنبيّ الذي توعّدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه .
2 ـ كما أنّالحروب الطويلة التي جرت بين أطراف أهل يثرب ، والتي استمرت مائة وعشرين عاماً ، قد أنهكتهم وكادت أن تذهب بما تبقّى من رمقهم ، فملّوا الحياة ، وفقدوا كلّ أمل في تحسن الاَحوال والاَوضاع ، فبحثوا عن مخلّص لما هم فيه من حالة سيئة ومشكلات مزمنة . ولهذا تمنّوا أن يضع النبي ص حداً لاَوضاعهم المتردية فقالوا : « عسى أن يجمعهم اللّه بك ، فإن جمعهم اللّه بك فلا رجل أعزّ منك » ، وقد أحدث كلّذلك خوفاً عجيباً في قلوب قادة قريش وسادة مكة المشركين المتغطرسين ، إذ أنّ ذلك يعني أنّ المسلمين وجدوا قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية ، تجمع كلّ طاقات المسلمين المبعثرة ، و تعمل معاً في نشر دينهم وعقيدتهم ، ممّا سيشكل خطراً جديداً يهدّدهم في الصميم ، ولهذا بادَرتْ قريشٌ في الاتّصال بالخزرجيّين للاستفسار عمّا حدث في العقبة ، فحلف لهم المشركون من أهل يثرب أنّه لم يحدث ما يوَذيهم أو يهدد مصالحهم ، ولم يعلموا عنه ، وهم في قولهم صادقون ، إذ أنّهم لم يعلموا بما حدث في العقبة ، وحاولوا إلقاء القبض عليهم قبل خروجهم من مكّة ، إلاّ أنّهم كانوا قد توجهوا قبل ذلك نحو المدينة ، فظفروا بـ « سعد بن عبادة » الذي تولّوا ضربه بعد ربط يديه إلى عنقه ، حتى خلّصه منهم : « المطعمُ بن عدي » (1) ، وفي المدينة المنورة ، كان قد أسلم فيها كلُّ قبيلة « بني عبد الاَشهل » قبل أن يروا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأصبحوا من الدعاة إلى الاِسلام والمدافِعين عن عقيدة التوحيد ، بفضل نشاط الدعاة : مصعب بن عمير ، وأسعد بن زرارة ، اللّذين أثّرا في إسلام قادة القبيلة : أُسيد بن حضير وسعد بن معاذ ، ثمّ إسلام الباقي (2) ، وعندما اشتدّإيذاء قريش للمسلمين بعد إسلام جماعة من أهل يثرب ، طلب بعضُهم النجاة بنفسه والهجرة إلى أيّمكان ، فاستمهلهم الرسول « صلى الله عليه وآله وسلم » وقال : « لقد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب ، فمن أراد الخروج فليخرج إليها » (3) ، وبذا فقد ترك المسلمون مكّة وهاجروا إلى المدينة تدريجياً ، حتّى لا تعلم بهم قريش ، إلاّ أنّ زعماءها فطنوا لسرهم ، فمنعوا السفر والتنقل لاَيّ مسلم ، وإعادة كلّ من وجدوه أثناء الطريق ، وحبس زوجة كلّ مسلم أراد الهجرة ، ولكن لحسن الحظ ، لم يثمر كلّ ذلك ، فإنّ معظم المسلمين تمكّنوا من الفرار والهجرة إلى يثرب ، ما عدا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والاِمام علي ( عليه السلام ) و أبو بكر ، وعدد قليل من المسجونين والمرضى من المسلمين ، حتى حان الوقت الذي أقرّ فيه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الهجرة من مكة في شهر ربيع الاَوّل من السنة 13 من البعثة النبوية المباركة .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 1 ـ 449 .
(2) إعلام الورى : 59 ، بحار الاَنوار : 19 ـ 10 .
(3) طبقات ابن سعد : 1 ـ 226 .

السيرة المحمدية _ 70 _

5 ـ الهجرة الكبرى
  اجتمع روَساء قريش في دار الندوة ، للتشاور فيما حدث أخيراً ، من تجمع القوى والعناصر الاِسلامية وتمركزها في المدينة ، فاتّخذوا قراراً قاطعاً وحاسماً وخطيراً ، وهو القضاء على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والتخلص منه بقتله ، بواسطة اشتراك جميع القبائل في هذا العمل الاِجرامي حيث قال المقترح : فتختاروا من كلّ قبيلة رجلاً قوياً ثمّ تسلحوه حساماً عضباً ، وليهجموا عليه بالليل ويقطّعوه إرباً إرباً ، فيتفرّق دمه في قبائل قريش جميعها ، فلا يستطيع بنو هاشم و بنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلّها في صاحبهم ، فيرضون حينئذٍ بالدية منهم ، فاستحسن الجميع هذا الرأي واتّفقوا عليه ، ثمّ اختاروا القَتَلَة ، على أن يوَدّوا مهمتهم بالليل أثناء الظلام (1) ، إلاّ أن جبرائيل ( عليه السلام ) نزل على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبلغه بموَامرة المشركين فقرأ عليه قول اللّه تعالى : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيثبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يخرجُوكَ وَيمكرونَ وَيَمْكرُ اللّهُ واللّهُ خيْر الماكِرين ) (2) ، ثمّ إنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قرر أن ينام شخص في فراشه ليتصوّر المشركون أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) موجود في منزله لم يبرحه ، فيرتكز عملهم على محاصرة البيت دون الاهتمام بمراقبة الطرقات في نواحي مكة ، فنام الاِمام علي ( عليه السلام ) في فراش النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحاصر المنزل أربعون فرداً من قريش ، وخرج النبي ص من الباب دون أن يشعر به أفراد قريش المكلّفون بقتله ، حينما قرأ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سورة « يس » إلى قوله : ( فَهُمْ لا يُبْصِرُون ) ، وخروج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذه الصورة والكيفية، فسّره البعض بأنّ القوم المحاصرين كانوا نياماً لحظة خروجه ، إلاّ أنّ آخرين يرون إنّه خرج من البيت عن طريق الاِعجاز والكرامة دون أن يروه ويحسّوا به ، وقبيل طلوع الفجر عند ساعة الصفر ، هجم المتآمرون على فراش النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ففوجئوا بوجود الاِمام علي ( عليه السلام ) يكشف عن نفسه ، فغضبوا وندموا على انتظارهم الطويل حتّى الفجر ، ولاموا أبا جهل الذي منعهم من دخول البيت فحمّلوه مسوَولية فشل الخطة ، ولكنّهم أسرعوا في وضع خطه جديدة لترتيب أمر ملاحقته والقبض عليه .
  وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبو بكر قد أمضيا ليلة الهجرة وليلتين أُخريين في غار ثور الواقع في جنوب مكة ، وذلك ليعمّي على قريش فلا يتبعوا أثره ، إذ أنّ الطريق إلى المدينة يقع في شمال مكّة .
  وبالنسبة إلى مصاحبة أبي بكر للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهي مسألة تاريخية غامضة ، فيعتقد البعض أنّها كانت بالصدفة ، أي أنّه تقابل معه في الطريق فاصطحبه معه إلى غار ثور ، بينما يرى آخرون أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذهب في نفس الليلة إلى منزل أبي بكر فخرجا في منتصف الليل إلى الغار (3) .

---------------------------
(1) طبقات ابن سعد : 1 ـ 227 ، السيرة النبوية : 1 ـ 480 .
(2) الاَنفال : 30 . ليثبتوك : ليسجنوك .
(3) تاريخ الطبري : 2 ـ 100 .

السيرة المحمدية _ 71 _

  في حين أنّ فريقاً ثالثاً يذهب إلى أنّ أبا بكر جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأرشده الاِمام علي ( عليه السلام ) إلى مخبأ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
   أمّا قريش فقد بادرت إلى بثِّ العيون والجواسيس في طرقات مكّة ، ومراقبة مداخلها ومخارجها ، وبعثت القافلة تقتص أثره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كلّ مكان وخاصة طريق مكة ـ المدينة ، كما عيّنت مائة من الاِبل جائزة لمن يقبض عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويردّه إليهم ، أو لمن يأتي عنه بخبر صحيح .
   وقد تمكّن المتتبعون لاَثر قدم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الوصول إليه عند باب الغار ، إلاّ أنّهم استبعدوا وجودهما فيه ، نظراً لنسج العنكبوت وبيض الحمام ، فاستمرّت محاولات البحث ثلاثة أيّام بلياليها دون جدوى .
  وقد تردّد على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خلال تواجده في الغار : علي ( عليه السلام ) وهند بن أبي هالة ( ابن خديجة ) حسب رواية الشيخ الطوسي في أماليه ، وعبد اللّه بن أبي بكر وعامر ابن فهيرة راعي أغنام أبي بكر ، حسب رواية كثير من الموَرّخين .
  والنقطة الهامة في هذه القضية هي مفاداة الاِمام علي ( عليه السلام ) النبيّ بنفسه ، وتعريض حياته لخطر الموت في سبيل الدين والاِسلام وحياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فهو نموذج رائع من الحبّ الحقيقي للحقّ ، وقد مدحه اللّه تعالى في كتابه العظيم قائلاً : ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاء مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رءُوفٌ بِالْعِباد ) (1) ، وقد دفعت هذه العملية التضحوية الكبرى كبار علماء الاِسلام إلى اعتبارها واحدة من أبرز وأكبر فضائل الاِمام ( عليه السلام ) وإلى وصفه بالفداء والبذل والاِيثار ، واعتبار الآية المذكورة في شأنه من المسلمات قلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ إليها (2) ، وقد طلب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الاِمام علي ( عليه السلام ) أن يبتاع بعيرين له ولصاحبه ، فقال أبو بكر : قد كنت أعددتُ لي ولك يا نبي اللّه راحلتين نرتحلهما إلى يثرب ، فدفع إليه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثمنهما (3) .
  كما أوصى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علياً ( عليه السلام ) بأن يوَدّي أمانته على أعين الناس ، وأمره بترتيب رحلة الفواطم : فاطمة الزهراء( عليها السلام ) ، وفاطمة بنت أسد أُمّ الاِمام علي ( عليه السلام ) وفاطمة بنت الزبير ، ومن يريد الهجرة معه من بني هاشم إلى يثرب ، وما يحتاجون له من زاد وراحلة .

---------------------------
(1) البقرة : 207 .
(2) مسند أحمد : 1 ـ 87 ، كنز العمال : 6 ـ 407 ـ الغدير : 2 ـ 47 .
(3) الكامل : 2 ـ 73 ، السيرة الحلبية : 2 ـ 53 .

السيرة المحمدية _ 72 _

  وقد هيّأ الاِمام ( عليه السلام ) أوّلاً ثلاث رواحل ودليلاً أميناً يدعى « أريقط » للترحال إلى المدينة ، فخرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع صاحبه متوجهَين إلى يثرب سالكَين الخط الساحلي .
  ومن هذه الليلة يبدأ تاريخ المسلمين ، حيث بدأوا يقيسون كلّ ما يقع من الحوادث بذلك العام فيحددون تاريخه وزمان حدوثه .
  ففي العام الاَوّل للهجرة ، حقق المسلمون انتصاراً عظيماً وباهراً، وتأسّست لهم فيه حكومة مستقلة ، وتخلّصوا من التشرذم والتبعثر ، وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطة واحدة وبيئة حرة ، لا أثر فيها للكبت والاضطهاد ، ممّا جعلهم لكلّ ذلك يتخذون هذا العام مبدأ لتاريخهم .
  فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه جعل التاريخ الهجري ، وإنّ أي إعراض وتجاهل له واختيار تاريخ آخر مكانه ، إعراض عن سنة رسول الاِسلام الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومخالفة لما رسمه للمسلمين .
  وأمّا ما اشتهر بين الموَرّخين من أنّ الخليفة « عمر بن الخطاب » هو الذي جعل هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مبدأ للتاريخ باقتراح وتأييد الاِمام علي ( عليه السلام ) فهو غير صحيح ، لاَنّ شيئاً من الاِمعان والتبصّر في مراسلات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومكاتباته المدرجة في كتب التاريخ والسيرة والحديث ، تثبت أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو الذي اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدأ للتاريخ ، فقد أرّخ رسائله وكتبه إلى أُمراء العرب وزعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة ، بذلك التاريخ الهجري ، فهناك كثير من الكتب أُرّخت قبل السنة 16 أو 17 من الهجرة ، وقد يكون في السنة الخامسة الهجرية .
  كما أنّ أصحابه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أرّخوا في أيّام حياته ، الحوادث الاِسلامية بهجرته ، فقالوا : وقع كذا في شهر كذا من الهجرة ، فمثلاً قيل : حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في شهر شعبان ، ستة عشر شهراً أو 17 شهراً أو 18 شهراً .
  وفي السنة الخامسة من الهجرة ، أمر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بإحلال السنة الهجرية مكان الشهر الهجري .

6 ـ وصول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة
  تمكّن « سراقة بن مالك » من اللحاق بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبي بكر وهما في الطريق إلى المدينة ، فدعا عليه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فجمح به فرسُه وطرحه أرضاً ، فعرف أنّ ذلك من دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليه ، فاعتذر له وطلب منه السماح له بالعودة على ألاّ يخبر أحداً بمكانهما وموقعهما ، ففعل ، وردّ كلّ من بحث عنهما في الطريق .

السيرة المحمدية _ 73 _

  أمّا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد وصل إلى قباء في 12 من شهر ربيع الاَوّل ، يوم الاثنين ، ونزل على : « كلثوم بن الهرم » شيخ بني عمرو بن عوف ، ولبث في قباء إلى آخر الاسبوع ، وبنى فيها مسجداً (1) ، وانتظر لحين قدوم الاِمام علي ( عليه السلام ) والسيدة فاطمة ( عليها السلام ) حيث كان قد لحق به الكفّار وحاولوا محاربته ، إلاّ أنّه ( عليه السلام ) تمكن من التخلص منهم ، فتركه القوم خائفين من غضبه وقوته ، فواصل سيره باتّجاه المدينة ، حيث وصلها في منتصف شهر ربيع الاَوّل ، ولمّا انحدر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من ثنية الوداع ـ وهي منطقة قريبة من المدينة ـ وحطّ قدمه على تراب يثرب ، استقبله الناس رجالاً ونساء ، كباراً و صغاراً ، استقبالاً عظيماً ، ورحّبوا به أعظم ترحيب ، مردّدين أناشيد فرحين به : طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ، وأصرّ القوم على النزول عند أحدهم ، إلاّ أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يقول عن ناقته : « خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة » ، فانتهت الناقة إلى أرض واسعة كانت ليتيمين من الخزرج يقال لهما : « سهل و سهيل » كانا في حجر أسعد بن زرارة ، فبركت على باب « أبي أيّوب خالد بن يزيد الاَنصاري »، فاغتنمت أُمّ أيّوب الفرصة وبادرت إلى رحل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فحلّته وأدخلته منزلها ، وعندما تنازع القوم في أخذه ، قال الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أين الرحل ؟ » فقالوا : أدخلته أُمّ أيّوب في بيتها ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « المرء مع رحله » ، وقد اتّفق كُتّاب السيرة على أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دخل المدينة يوم الجمعة ، حيث صلّى الجمعة في بني سالم بن عوف ، وهي أوّل جمعة جمعها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الاِسلام ، وخطب أوّل خطبة في المدينة كان لها الاَثر العميق في قلوب أهلها ونفوسهم .

---------------------------
(1) تاريخ الخميس : 1 ـ 338 .

السيرة المحمدية _ 74 _


  وفيه فصول
1 ـ الاَحداث في المدينة المنوّرة .
2 ـ أحداث السنة الثالثة والرابعة من الهجرة .
3 ـ أحداث السنة الخامسة والسادسة من الهجرة .
4 ـ أحداث السنة السابعة والثامنة من الهجرة .
5 ـ أحداث السنة التاسعة و العاشرة والحادية عشرة .
ـ الاَحداث في المدينة المنوّرة .

ـ السنة الاَولى من الهجرة .
ـ بناء مسجد في المدينة المنوّرة .
ـ الموَاخاة بين المهاجرين والاَنصار .
ـ معاهدة التعايش السلمي مع اليهود .
ـ السنة الثانية من الهجرة .
ـ تغيير اتّجاه القبلة .
ـ معركة بدر ونتائجها الاِيجابية .
ـ العمليات العسكرية الصغرى .
ـ زواج السيّدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .