تأليف :
ضامن بن شدقم بن علي الحسيني المدني
متوفى بعد 1082 هـ
تحقيق :
السيد تحسين آل شبيب الموسوي


الاهداء :
   الى شهداء الحق والفضيلة . . .
   الى الذين سقطوا بسهام الغدر . . .
   في معارك :
   الجمل . . .
   وصفين . . .
   والنهروان . . .
   أهدي جهدي المتواضع

مقدمة تمهيدية :
   الحمد لله ناصر الحق ومخزي الباطل ، وصلى الله على نبينا محمد سيد المرسلين ، وعلى آله الاخيار المنتجبين .
   ان الفتنة التي ظهرت بالبصرة بعد بيعة الامام علي ( عليه السلام ) بمدة قليلة كان سببها ما احدثه طلحة والزبير من نكث بيعتهما التي بايعا بها امير المؤمنين ( عليه السلام ) طائعين غير مكرهين ، ثم خروجهما من المدينة الى مكة يظهران العمرة ، ثم اجتماعهما بعائشة التي كانت تراقب الوضع السياسي عن كثب في المدينة ، ثم التحاق عمال عثمان الهاربين من الامصار بأموال المسلمين بهما ، وقد اجمعوا في اجتماعهم على الطلب بدم عثمان ، فأجابهم الى مرادهم الغوغاء الذين استهوتهم الفتنة .
   وكان رأي الجماعة التوجه الى الشام والالتحاق بمعاوية ، لكن محاولة عبد الله بن كريز بن عامر ، عامل عثمان الهارب من البصرة ان يغير وجهة القوم الى البصرة ، باعتباره كان عاملا لعثمان عليها ، ولعثمان فيها انصار ، بعدها قرر القوم التوجه الى البصرة بعد ان زودهم يعلى بن امية والي عثمان على اليمن الذي هرب ايضا بأموالها والتحق بهم بستمائة بعير وستمائة الف درهم ، وكذلك جهزهم ابن عامر بمال كثير .

واقعة الجمل _ 2 _

   لكن لنعد الى الوراء قليلا لنرى حقيقة هؤلاء القوم الذين يحملون الضغائن في صدورهم لال بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والذين اخبر بهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في اكثر من موضع ، ففي رواية انس بن مالك ، قال : ان النبي وضع رأسه على منكبي علي فبكى ، فقال له : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : « ضغائن في صدور اقوام لا يبدونها حتى أفارق الدنيا » (1) .
   وروي ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان ذات يوم جالساً ، وحوله علي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، فقال لهم : « كيف بكم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتى ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : أنموت موتا أو نقتل ؟ فقال : بل تقتل يا بني ظلما ، ويقتل أخوك ظلما ، وتشرد ذراريكم في الارض ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : ومن يقتلنا يا رسول الله ؟ قال : شرار الناس » (2) الحديث .
   وعلى الرغم من هذا كان الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يحذر الامة من انتهاك كرامة اهل بيته ، ويتوعد كل من يفعل بهم ذلك أن يكون مصيره النار لا محالة ، ثم خص جماعة منهم بالتحذير كما فعل مع الزبير حين قال له : « إنك ستخرج عليه وانت ظالم له » (3) ، كما حذر عائشة من أن تكون هي التي تنبحها كلاب الحوأب .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ( ترجمة الامام علي ) 2 : 321 ـ 327 .
(2) الارشاد 2 : 13 .
(3) مروج الذهب م 2 : 371 .

واقعة الجمل _ 3 _

   لكن كل تحذيرات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يعبأ بها القوم ، فكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على يقين بأن اشرار الامة ستمتهن كرامة اهل بيته ( سلام الله عليهم ) لذا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اخبر علياً ( عليه السلام ) بأنه سيكون له يوم مع أراذل الامة ، كما في قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لسهيل بن عمرو لطلبه على رد من أسلم من مواليهم : « لتنتهين يا معشر قريش أو ليبعث الله عليكم رجلاً يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله ، فقال له بعض أصحابه : من يا رسول الله ؟ هو فلان ؟ قال : لا ، قال : ففلان ؟ قال : لا ، ولكنه خاصف في الحجرة ، فنظروا فإذا علي ( عليه السلام ) في الحجرة يخصف نعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » (1) .
   كما في قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للامام علي ( عليه السلام ) : « تقاتل يا علي على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله » (2) ، وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لامير المؤمنين ( عليه السلام ) : « تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين » (3) ، وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « علي مع الحق والحق مع علي ، اللهم أدر الحق مع علي حيثما دار » (4) .

---------------------------
(1) انظر : تذكرة الخواص : 40 ، كشف الغمة 1 : 335 ، اُسد الغابة 4 : 26 ، اعلام الورى : 189 ، مناقب الخوارزمي : 128 ، مجمع الزوائد 5 : 186 ، فرائد السمطين 1 : 162 .
(2) حلية الاولياء 1 : 67 ، مناقب ابن المغازلي : 298 ، الصواعق المحرقة : 123 .
(3) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 80 .
(4) اعلام الورى : 159 ، تاريخ بغداد 14 : 321 ، المستدرك 3 : 124 .

واقعة الجمل _ 4 _

   وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي ( عليه السلام ) : « قاتل الله من قاتلك ، وعادى من عاداك » (1) .
   اذن ما حقيقة هؤلاء الذين يقاتلون امير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وما حقيقة هؤلاء الناكثين الذين امر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليا ( عليه السلام ) بقتالهم .
   نقول : النكث في اللغة ، هو نكث الاكسية والغزل ، قريب من النقض ، واستعير لنقض العهد ، قال الله تعالى : ( وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم (2) ـ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) ، والنكث كالنقض ، والنكيثة كالنقيضة ، وكل خصلة نكث فيها القوم يقال لها نكيثة ، قال الشاعر : « متى يك أمر للنكيثة أشهد » (3) ، وعلى هذا الاساس فكل من صفق على يد الامام علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) بالبيعة ثم نكث بيعته فهو مشمول بأخبار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليا بقتاله ، ولاشك أن طلحة والزبير كانا من الذين خصهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكلمة « الناكثين » في صدر الحديث الانف الذكر .
   فأين هم من احاديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحق امير المومنين ( عليه السلام ) ؟

---------------------------
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 81 .
(2) التوبة (9) : 12 .
(3) اساس البلاغة : 472 ، المفردات في غريب القرآن : 504 .

واقعة الجمل _ 5 _

   واين هم من حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يعلن للملأ : « إن وليتم عليا يسلك بكم الطريق المستقيم » (1) .
   لكن الرسول العظيم يرى كل هذه الامور من وراء ستر رقيق ، ويخبر اهل بيته وعترته بما تؤول إليه امورهم بعده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ففي رواية عن الامام علي ( عليه السلام ) ، يقول : « عهد الي رسول الله : ان الامة ستغدر بك » (2) ، لذلك لم يجد الامام عليه السلام بدا من قتال القوم كما قال : « ما وجدت بدا من قتال القوم أو الكفر بما انزل الله » (3) .
   بعد هذه المقدمة القصيرة ، هل نطمئن الى ان طلحة والزبير هم حقيقة من الذين بشروا بالجنة على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ عند العودة الى احاديث الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حق اهل بيته وما تناقله الرواة على مستوى جميع المذاهب ، والروايات التي جاءت مستفيضة ومتواترة وحسنة الاسناد ، وكذا الروايات الكثيرة المسندة في حق من نصب العداوة والبغضاء لاله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
   نجد بأن حقيقة التبشير بالجنة لا اساس لها من الصحة ، وإن كان بعض فرق السنة والجماعة روجوا لهذا الحديث ، وجاءوا بتأويلات باهتة حفظا لماء الوجه ، فقالوا : إن ذلك من الاجتهاد ، وعمل كل فريق منهم على رأيه ، فكان بذلك مأجورا وعند الله تعالى مشكورا ، وإن كانوا قد سفكوا فيه الدماء وبذلوا فيه الاموال (4) .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ( ترجمة الامام علي عليه السلام ) 3 : 90 ـ 94 .
(2) المصدر السابق 3 : 148 ـ 161 .
(3) المصدر السابق 3 : 220 ـ 221 .
(4) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 58 .

واقعة الجمل _ 6 _

   ونقول : فأي اجر في سفك الدماء وانتهاك المحارم ، والخروج على الامام العادل ، وشق عصا المسلمين وسرقة بيوت اموالهم ؟ فإذا كان الشك يداخلهم في قتال علي ( عليه السلام ) ، فالحافظ ابن عساكر يخبرنا في رواية بسند عن عبيد الله بن ابي الجعد ، قال : سئل جابر بن عبد الله عن قتال علي ، فقال : ما يشك في قتال علي الا كافر (1) .
   وإذا سلمنا بأن حديث العشرة المبشرين في الجنة صحيح ومتفق عليه ، فالامام علي ( عليه السلام ) احد المبشرين بالجنة ، وطلحة والزبير هما ايضا من المبشرين بالجنة ، فمن خلال فتنة الجمل ، فيجب ان يكون احد الطرفين المتحاربين على حق والاخر على باطل ، فقتلي صاحب الحق شهداء ويدخلون الجنة ، وقتلى الباطل اشقياء ويدخلون النار ، فمن غير المعقول ان يكون كلا الطرفين على حق ، وتهرق في سبيلهما الدماء ، وإذا عرضنا الموضوع على الدين والعقل فأي منهما صاحب الحق والعدل ؟ وهذا مما لا يحتاج الى زيادة تفكير ، وقد جاءت الاية الكريمة مصداقا لقوله تعالى : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (2) فيحشر قتلى علي مع علي ويستقبلهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويحشر قتلى الطرف الثاني امثال بني ضبة وغيرهم يتقدمهما طلحة والزبير ، والله يعلم اي زواية يشغلون ! وهو مما يعزز قولنا كما جاء في رواية ابن المغازلي ، قال : أخبرنا احمد بن محمد بن عبد الوهاب اذنا ، عن القاضي ابي الفرج احمد بن علي ، قال : حدثنا أبو غانم سهل بن اسماعيل بن بلبل ، قال : حدثنا أبو القاسم الطائي ، قال : حدثنا محمد بن زكريا الغلابي ، حدثنا العباس بن بكار ، عن عبد الله بن المثنى ، عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس ، عن ابيه ، عن جده ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على شفير جهنم ، لم يجز إلا من معه كتاب ولاية علي بن ابي طالب » (3) .
   والمعروف ان طلحة والزبير وامثالهم مزقوا هذا الكتاب وجحدوا فيه ، وجعلوه خلف ظهورهم ، فأنى لهم وعبور الصراط ؟

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ( ترجمة الامام علي ( عليه السلام ) ) 3 : 420 ـ 143 .
(2) الاسراء (17) : 71 .
(3) مناقب ابن المغازلي : 242 ، العمدة : 369 .

واقعة الجمل _ 7 _

طلحة والزبير يؤلبان على عثمان :
   من المواقف التي ساهمت في زيادة حدة التوتر ما بين موقف الثوار المتشدد الذي يطالب عثمان بأصلاحات أو بخلع نفسه ، وبين عثمان الذي كان متصلبا ايضا في مواقفه تجاه مطالبهم ، حتى شددوا عليه قبضة الحصار المفروض والذي دام أربعين يوما ، وموقفا طلحة والربير اللذين ساهما في الوقيعة به وادى ذلك الى مقتله .
   يروي الشيخ المفيد ( اعلا الله مقامه ) انه قال : ( ولما أبى عثمان ان يخلع نفسه تولى طلحة والزبير حصاره ، والناس معهما على ذلك ، فحصروه حصرا شديدا ، ومنعوه الماء ، فأنفذ الى علي ( عليه السلام ) يقول : إن طلحة والزبير قد قتلاني بالعطش ، والموت بالسلاح احسن .
   فخرج علي ( عليه السلام ) معتمدا على يد المسور بن مخرمة الزهري حتى دخل على طلحة بن عبيد الله ، وهو جالس في داره يبري نبلا وعليه قميص هندي فلما رآه طلحة رحب به ووسع له على الوسادة ، فقال له علي ( عليه السلام ) : « إن عثمان قد أرسل إلي أنكم قد قتلتموه عطشا وان ذلك ليس بالحسن ، والقتل بالسلاح أحسن له ، وكنت آليت على نفسي أن لا أرد عنه أحدا بعد أهل مصر ، وأنا أحب ان تدخلوا عليه الماء حتى تروا رأيكم فيه » .
   فقال طلحة : لا والله لا نعمة عين له ، ولا نتركه يأكل ويشرب ! فقال علي عليه السلام : « ما كنت أظن أن اكلم أحدا من قريش فيردني ، دع ما كنت فيه يا طلحة » ، فقال طلحة : ما كنت أنت يا علي في ذلك من شيء ، فقام علي ( عليه السلام ) مغضباً ، وقال : « ستعلم يابن الحضرمية (1) أكون في ذلك من شيء أم لا ! ثم انصرف » (2) .
   وروى أبو حذيفة إسحاق بن بشر القرشي أيضا ، قال : حدثني يزيد بن ابي زياد ، عن عبد الرحمن بن ابي ليلى ، قال : والله إني لأنظر الى طلحة ، وعثمان محصور ، وهو على فرس أدهم ، وبيده الرمح يجول حول الدار ، وكأني أنظر الى بياض ما وراء الدرع (3) .

---------------------------
(1) الحضرمية : هي ام طلحة ، وهي الصعبة بنت عبد الله بن عباد بن ربيعة بن أكبر بن مالك بن عوين بن مالك بن الخزرج بن اياد بن الصدف بن حضرموت من كندة يعرف ابوها عبد الله بالحضرمي .
انظر : طبقات ابن سعد 3 : 214 ، الاستيعاب 2 : 219 .
(2) تاريخ الطبري 4 : 385 ، التمهيد والبيان : 152 ، العقد الفريد 2 : 267 .
(3) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 146 .

واقعة الجمل _ 8 _

   وفي رواية ابن الاثير ، قال : وقد قيل ان عليا كان عند حصر عثمان بخيبر ، فقدم المدينة والناس مجتمعون عند طلحة ، وكان ممن له أثر فيه ! فلما قدم علي أتاه عثمان ، وقال له : أما بعد فإن لي حق الاسلام وحق الاخاء والقرابة والصهر ، ولو لم يكن من ذلك شيء وكنا في الجاهلية ، لكان عارا على بني عبد مناف ان ينتزع أخو بني تيم ، يعني طلحة ، أمرهم ، فقال له علي : « سيأتيك الخبر » ، ثم خرج الى المسجد فرأى أسامة فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة ، وهو في خلوة من الناس ، فقال له : « يا طلحة ما هذا الامر الذي وقعت فيه ؟ » فقال : يا ابا الحسن بعدما مس الحزم الطبيين .
   فانصرف علي حتى اتى بيت المال فقال : ( افتحوه ) فلم يجدوا المفاتيح ، فكسر الباب واعطى الناس ، فانصرفوا من عند طلحة حتى بقي وحده ، وسر بذلك عثمان ، وجاء طلحة فدخل على عثمان وقال له : يا أمير المؤمنين أردت امرا فحال الله بيني وبينه ! فقال عثمان : والله ما جئت تائبا ، ولكن جئت مغلوبا ، الله حسيبك يا طلحة (1) .
   وفي رواية اخرى ، قال عبد الله بن عباس بن ابي ربيعة : دخلت على عثمان فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه ، فمنهم من يقول : ما تنتظرون به ؟ ومنهم من يقول : انظروا عسى ان يراجع ، قال : فبينما نحن واقفون إذ مر طلحة فقال : أين ابن عديس ؟ فقام إليه فناجاه ثم رجع ابن عديس فقال لاصحابه : لا تتركوا احدا يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده ، فقال لي عثمان : هذا ما أمر به طلحة ، اللهم اكفني طلحة فإنه حمل عليّ هؤلاء وألبهم علي ! والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا وأن يسفك دمه ! (2) .
   اما موقف الزبير من قضية حصار عثمان ، فهو لم يكن افضل من صاحبه كما جاء في رواية ابي حذيفة القرشي ، عن الاعمش ، عن حبيب بن ابي ثابت ، عن ثعلبة بن يزيد الحماني قال : أتيت الزبير ، وهو عند أحجار الزيت ، فقلت له : يا با عبد الله قد حيل بين أهل الدار وبين الماء ، فنظر نحوهم وقال : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب ) (3) .
   وفي رواية ابي اسحاق قال : لما اشتد بعثمان الحصار عمل بنو أمية على إخراجه ليلا الى مكة وعرف الناس ذلك فجعلوا عليه حرسا ، وكان على الحرس طلحة بن عبيدالله وهو أول من رمى بسهم في دار عثمان ، قال : واطلع عثمان وقد اشتد به الحصار وظمي من العطش فنادى : أيها الناس ! أسقونا شربة من الماء وأطعمونا مما رزقكم الله ، فناداه الزبير بن العوام يا نعثل ! لا والله ، لا تذوقه (4) .

---------------------------
(1) الكامل في التاريخ : 3 : 167 .
(2) المصدر السابق 3 : 174 .
(3) سبأ : 34 ، 54 . العقد الفريد 4 : 299 ، مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 146 .
(4) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 146 .

واقعة الجمل _ 9 _

   وذكر ابن ابي الحديد المعتزلي ، قال ، قال أبو جعفر : وكان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون الفا ، فقال طلحة له يوماً : قد تهيأ مالك فاقبضه ، فقال : هو لك معونة على مروءتك ، فلما حصر عثمان ، قال علي ( عليه السلام ) : « أنشدك الله إلا كففت عن عثمان ! » فقال : لا والله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها . فكان علي ( عليه السلام ) يقول : « لحا الله ابن الصعبة ! أعطاه عثمان ما أعطاه وفعل به ما فعل ! » (1) .
   بعد هذه الاحاديث الدالة على مساهمة طلحة والزبير مساهمة فعالة ، حتى ضيقوا الخناق عليه ، ومنعوا من دخول الماء إليه ، حتى كان يستنجد عدة مرات بالامام علي ( عليه السلام ) ، فيحاول الامام على الرغم من ممانعة طلحة إيصال الماء الى عثمان ، فيروي ابن الاثير في هذا الشأن : فقال علي لطلحة : « أريد أن تدخل عليه الروايا ، وغضب غضبا شديدا حتى دخلت الروايا على عثمان » (2) .
   حتى قتل عثمان بتحريض منهم ، ثم بعدها يتظاهرون بالطلب بدمه الذي هم سفكوه ، بعد مبايعتهم علياً ( عليه السلام ) ، فأظهروا الندم ، وأثاروا الفتنة ، وجمعوا من حولهم الغوغاء ، واصحاب النفوس المريضة امثال : مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، والوليد بن عقبة بن ابي معيط ، وعبد الله بن كريز بن عامر ، ويعلى بن أمية ، وغيرهم من امثالهم كثير .
   فما عسانا ان نقول لقوم جاهدوا رد تلك الشبهات عن تلك الزمرة الناكثة ، وما عسانا ان نقول لهم وحججهم خاوية امام وثائق التاريخ الدامغة .

وعائشة ايضا :
   واما عائشة فلها النصيب الاوفر في تأليب الناس وتحريضهم على الفتك بعثمان ، قال الشيخ المفيد ( رحمه الله ) : ( فهو أظهر مما وردت به الاخبار من تأليب طلحة والزبير ، فمن ذلك ، ما رواه محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن مشايخه ، عن حكيم بن عبد الله ، قال : دخلت يوما بالمدينة المسجد ، فإذا كف مرتفعة وصاحب الكف يقول : أيها الناس ! العهد قريب ، هاتان نعلا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقميصه ، كأني أرى ذلك القميص يلوح وأن فيكم فرعون هذه الأمة ، فإذا هي عائشة ، وعثمان يقول لها : اسكتي ! ثم يقول للناس : إنها امرأة وعقلها عقل النساء فلا تصغوا الى قولها ) (3) .
   وروى الحسن بن سعد قال : ( رفعت عائشة ورقة من المصحف بين عودين من وراء حجلتها ، وعثمان قائم ، ثم قالت : يا عثمان أقم ما في هذا الكتاب ، فقال : لتنتهن عما انت عليه أو لأدخلن عليك جمر النار !

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 2 : 161 .
(2) الكامل في التاريخ 3 : 166 .
(3) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 147 .

واقعة الجمل _ 10 _

   فقالت له عائشة : أما والله ، لئن فلعت ذلك بنساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليلعنك الله ورسوله ! وهذا قميص رسول الله لم يتغير وقد غيرت سنته يا نعثل (1) !
   وروى ليث بن ابي سليم ، عن ثابت الانصاري ، عن ابن ابي عامر مولى الانصار ، قال : كنت في المسجد فمر عثمان فنادته عائشة : يا غدر ! يا فجر ! أخفرت أمانتك ، وضيعت رعيتك ، ولولا الصلوات الخمس لمشى اليك الرجال حتى يذبحوك ذبح الشاة ! فقال عثمان : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (2) .
   هذه بعض الاحاديث اقتصرنا عليها في بيان موقف السيدة عائشة من مسألة الثورة على عثمان التي ادت الى مصرعه ، لكن لماذا هذا الانقلاب المفاجئ للسيدة عائشة بعد قتل عثمان ، وتولي امير المؤمنين ( عليه السلام ) لمقاليد الخلافة ؟ حتى صارت تجمع رؤوس الشقاق من حولها ، وتعبىء الجيوش لمخالفة الامام واظهار الفتنة ، وتكتب الرسائل الى بعض الشخصيات تطالبهم بنقض البيعة والالتحاق بها مع من تجمع حولها من المنافقين والاشرار تطالب بدم عثمان ، وكانت قبل سماعها تولي الامام امير المؤمنين الخلافة فرحة مسرورة تود لو ان طلحة أو الزبير توليا هذا الامر من بعد عثمان .
   يذكر انه لما قتل عثمان بن عفان خرج النعاة الى الافاق ، فلما وصل بعضهم الى مكة سمعت بذلك عائشة فاستبشرت بقتله وقالت : قتلته اعماله ، إنه احرق كتاب الله ، وامات سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقتله الله ، قالت : ومن بايع الناس ؟ فقال لها الناعي : لم ابرح من المدينة حتى أخذ طلحة بن عبيد الله نعاجاً لعثمان ، وعمل مفاتيح لابواب بيت المال ، ولا شك ان الناس قد بايعوه .
   فقالت : إيها ذا الاصبع ! قد وجدوك لها كافيا وبها محسنا ، ثم قالت : شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي لأتوجه الى منزلي ، فلما شد رحلها واستوت على مركبها سارت حتى بلغت سرفا (3) ـ موضع معروف بهذا الاسم ـ لقيها عبيد بن ام كلاب (4) ، فقالت له : ما الخبر ؟ فقال : قتل عثمان .

---------------------------
(1) انظر المصدر السابق م 1 : 147 .
« وكان اعداء عثمان يسمونه نعثلا ، تشبيها برجل من مصر ، كان طويل اللحية اسمه نعثل ، وقيل النعثل : الشيخ الاحمقُ ) .
انظر : النهاية 5 : 80 .
(2) التحريم : 66 ، وانظر : الفتوح م 1 : 419 ، الايضاح : 141 .
(3) سرف : بفتح اوله وكسر ثانيه ، على ستة اميال من مكة من طريق مر . معجم ما استعجم م 1 : 735 .
(4) في الكامل في التاريخ 3 : 206 عبيد بن ابي سلمة ، وهو ابن ام كلاب .

واقعة الجمل _ 11 _

   فقالت : قتل نعثل ؟ فقال : قتل نعثل ! فقالت : خبرني عن قصته وكيف كان أمره ؟ فقال : لما احاط الناس بالدار وبه رأيت طلحة بن عبيدالله قد غلب على الامر ، واتخذ مفاتيح على بيوت الاموال والخزائن ، وتهيأ ليبايع له ، فلما قتل عثمان مال الناس الى علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) ، ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره ، خرجوا في طلب علي يقدمهم الاشتر ، ومحمد بن ابي بكر ، وعمار بن ياسر حتى أتوا عليا ( عليه السلام ) وهو في بيت سكن فيه ، فقالوا له : بايعنا على الطاعة لك ، فتلكأ ساعة ، فقال الاشتر : يا علي إن الناس لا يعدلون بك غيرك ، فبايع قبل ان تختلف الناس ، قال : وفي الجماعة طلحة والزبير فظننت أن سيكون بين طلحة والزبير وعلي كلام قبل ذلك ، فقال الاشتر لطلحة : قم يا طلحة فبايع ، قم يا زبير فبايع ، فما تنتظران ؟ فقاما فبايعا وأنا أرى أيديهما على يده يصفقانها ببيعته ، ثم صعد علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) المنبر فتكلم بكلام لا احفظه ، إلا أن الناس بايعوه يومئذ على المنبر وبايعوه من الغد ، فلما كان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم ما جرى بعدي .
   فقالت : يا اخا بني بكر ، انت رأيت طلحة بايع عليا ؟ فقلت : إي والله ، رأيته بايعه ، وما قلت إلا ما رأيت ، طلحة والزبير أول من بايعه . فقالت : إنا لله ! أكره ـ والله ـ الرجل ، وغصب علي بن ابي طالب أمرهم وقتل خليفة الله مظلوما ! ردوا بغالي ، ردوا بغالي . فرجعت الى مكة ، قال : وسرت معها فجعلت تسألني في المسير وجعلت أخبرها بما كان ، فقالت لي : هذا بعدي وما كنت أظن أن الناس يعدلون عن طلحة مع بلائه يوم اُحُد .
   قلت : فإن كان بالبلاء فصاحبه الذي بويع أشد بلاء وعناء ، فقالت : يا أخا بني بكر لم أسألك غير هذا ، فإذا دخلت مكة وسألك الناس : ما رد ام المؤمنين ؟ فقل : القيام بدم عثمان والطلب به ! وجاءها يعلى بن منية ، فقال لها : قد قتل خليفتك الذي كنت تحرضين على قتله . فقالت : برئت الى الله من قاتله ، فقال لها : الان ! ثم قال لها : أظهري البراءة ثانيا من قاتله ، قال : فخرجت الى المسجد فجعلت تتبرأ ممن قتل عثمان (1) .
   لكن السيدة لم تزل مبغضة وماقتة لعلي عليه السلام منذ قصة الذين رموها بصفوان بن المعطل ، وما كان منها في غزوة بني المصطلق وهجر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، واستشارته في امرها أسامة بن زيد ، وذكر له قذف القوم بصفوان ، فقال له اسامة : لا تظن يا رسول الله إلا خيراً ، فإن المرأة مأمونة ، وصفوان عبد صالح ، ثم استشار عليا ( عليه السلام ) ، فقال له : ( يا رسول الله صلى الله عليك ، النساء كثيرة وسل بريرة خادمتها وابحث عن خبرها منها ) .

---------------------------
(1) انظر : الفتوح م 1 : 434 ، الشافي 4 : 357 ، مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 161 و 162 و 163 .
   قال ابن الاثير في الكامل 3 : 206 : فانصرفت الى مكة وهي تقول : قتل والله عثمان مظلوماً ، والله لاطلبن بدمه ! فقال لها : ولم ؟ والله إن اول من أمال حرفه لأنت ، ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلا فقد كفر .
   فقالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الاخير خير من قولي الاول ، فقال لها ابن ام كلاب :
فـمنك  الـبداء ومنك iiالغير      ومـنك  الرياح ومنك iiالمطر
وأنـت  أمـرت بقتل iiالإمام      وقـلت  لـنا إنـه قـد iiكفر
فـهبنا أطـعناك فـي قـتله      وقـاتله عـندنا مـن iiأمـر
ولـم يسقط السقف من iiفوقنا      ولـم  ينكسف شمسنا iiوالقمر
وقــد بـايع الـناس ذا iiتدرإ      يـزيل الـشبا ويقيم iiالصعر
ويـلبس  لـلحرب iiأثـوابها       وما من وفى مثل من قد غدر
الى آخر القصيدة .

واقعة الجمل _ 12 _

   فقال له رسول الله صلى عليه وآله : ( فتول أنت يا علي تقريرها ) ، فقطع لها علي عليه السلام عسبا من النخل وخلا بها يسألها عني ( اي عن عائشة ) ويتهددها ويرهبها ، لا جرم أني لا أحب عليا ابدا (1) .
   فهذا تصريح منها ببغضها له ومقتها إياه ، قال شيخنا المفيد ( اعلا الله مقامه ) : ولم يكن ذلك منه ( عليه السلام ) إلا النصيحة لله ولرسوله واجتهاده في الرأي ، ونصحه وامتثاله لأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومسارعته الى طاعته (2) .
   ومن شدة بغضها وحقدها على امير المؤمنين ( عليه السلام ) حتى انها لا تستطيع ان تصرح باسمه ، ففي رواية عكرمة وابن عباس ، وأن عكرمة خبره عن حديث حدثته عائشة في مرض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، خرج متوكئا على رجلين من أهل بيته ، أحدهما الفضل بن العباس ، فقال عبد الله بن العباس لعكرمة : فلم تسم لك الاخر ؟ فقال : لا والله ما سمته ، فقال : أتدري من هو ؟ قال : لا ، قال : ذلك علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) ، وما كانت والله أمّنا تذكره بخير وهي تستطيع (3) .
   ولم تخف ام المؤمنين فرحها وسرورها عند سماعها باستشهاد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فذكر أبو الفرج الاصفهاني رواية بسند اسماعيل بن راشد قال : لما أتى عائشة نعي علي امير المؤمنين ( عليه السلام ) تمثلت :
فألقت عصاها واستقر بها النوى      كـما قـر عينا بالإياب المسافر
   ثم قالت : من قتله ؟ فقيل : رجل من مراد ، فقالت :
فـإن يـك نائيا فلقد iiبغاه      غلام ليس في فيه التراب
   فقالت لها زينب بنت أم سلمة : العلي تقولين هذا ؟ فقالت : إذا نسيت فذكروني ، ثم تمثلت :
ما  زال إهداء القصائد iiبيننا      باسم الصديق وكثرة الالقاب
حتى  تركت كأن قولك iiفيهم      في  كل مجتمع طنين iiذباب
   وذكر رواية ايضا عن ابي البحتري ، قال : لما ان جاء عائشة قتل علي عليه السلام سجدت (4) .

---------------------------
(1) مغازي الواقدي 1 : 430 ، صحيح البخاري 3 : 155 ، الكشاف 4 : 453 .
(2) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 157 .
(3) طبقات ابن سعد 2 : 231 ، مسند أحمد 6 : 38 ، صحيح البخاري 1 : 162 ، صحيح مسلم 4 : 138 ، المستدرك 3 : 56 ، السنن الكبرى 1 : 31 .
ومصنفات الشيخ المفيد م 1 : 158 .
(4) مقاتل الطالبيين : 55 ، وانظر أيضا : طبقات ابن سعد 3 : 40 ، تاريخ الطبري 5 : 150 ، بحار الانوار 32 : 340 .

واقعة الجمل _ 13 _

   وبقي هذا الحقد ملازما لها حتى بعد مصرع الامام علي ( عليه السلام ) ، ففي رواية مسروق انه قال : دخلت عليها فاستدعت غلاما بأسم عبد الرحمن ، فسألتها عنه ، فقالت : عبدي ، فقلت : كيف سميته بعبد الرحمن ؟ قالت : حبا لعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي (1) !!

رسائل طلحة والزبير والسيدة عائشة :
   بعد ان احكمت الفتنة ، واظهر القوم الشقاق والخلاف على حكومة امير المؤمنين ( عليه السلام ) الفتية ، وقد حاولوا استدراج من له تأثير في الساحة السياسية ، فكاتبوهم يطالبونهم بأتخاذ موقف مشابه لموقفهم في نكث بيعة الامام علي ( عليه السلام ) ، والمطالبة بدم عثمان ، وتحريض الناس للالتحاق بركب الشر ، لكن اجاباتهم كانت طعنة في خاصرة القوم ، فلقد كان اصحاب الشر يتوقعون ان يجنوا ولو شيئاً يسيراً من الذين كاتبوهم ، لكن الرد جاء مخيبا للامال ، وكان عنيفاً وقاسياً .
   كما كاتبهم من عاب عملهم الشائن ، وحذرهم الولوغ في الفتنة ، والسعي في شق عصا المسلمين واهراق دمائهم ، فقد كتبت ام سلمة الى عائشة عندما عزمت على الخروج الى البصرة : من ام سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى عائشة ام المؤمنين : سلام عليك ، فأني أحمد اليك الذي لا الله الا هو ، أما بعد : فإنك سدة بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبين امته ، وحجابك مضروب على حرمته ، قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه ، وسكن عقيراك فلا تصحريها ، الله من وراء هذه الامة ، لو علم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان النساء يحتملن الجهاد عهد إليك ، علت علت ! بل نهاك عن الفرطة في البلاد ، ان عمود الدين لا يثاب بالنساء ان مال ، ولا يرأب بهن ان صدع ، حماديات النساء غض الاطراف وخفض الاصوات ، وخفر الاعراض ، وضم الذيول ، وقعر الوهازة ، وما كنت قائلة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لو عارضك ببعض الفلوات ناصة قلوصا من منهل الى منهل ، قد وجهت سدافته وتركتك عهداه ، ان بعين الله مهواك ، وعلى رسوله تردين ، واقسم بالله لو سرت مسيرك هذا ، ثم قيل لي : يا ام سلمة : ادخلي الفردوس ، لاستحييت ان القى محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هاتكة حجابا قد ضربه عليّ .
   اجعلي بيتك حصنك (2) ، وقاعة الستر قبرك ، حتى تلقيه وانت على تلك ، أطوع ما تكونين لله إذا الزمته ، وانصر ما تكونين للدين ما حللت فيه ، ولو ذكرتك قولا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تعرفينه ، لنهشت به نهش الرقشاء المطرقة ، والسلام » (3) .

---------------------------
(1) الشافي 4 : 306 ، بحار الانوار 32 : 341 ، مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 160 .
(2) وكانت ام سلمة تطالبها بتطبيق قوله تعالى ( وقرن في بيوتكن ) ، ففي تفسير روح المعاني للالوسي ، روى البزاز عن انس : ان النساء جئن الى رسول الله بعد نزول الاية فقلن : لقد ذهب الرجال بالفضل والجهاد ، فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين ؟ فقال : من قعد منكن في بيتها تدرك عمل المجاهدين ، وقال السيوطي : ان سودة بنت زمعة زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم تحج بعد نزول الاية فقيل لها في ذلك ، فقالت : اني حججت واعتمرت ، وأمرني ربي تعالى شأنه ان أقر في بيتي حتى تخرج جنازتي .
وأخرج مسووق : ان عائشة كلما قرأت ( وقرن في بيوتكن ) تبكي حتى تبل خمارها .
انظر : روح المعاني 22 : 6 ، الدر المنثور 5 : 196 .
(3) العقد الفريد 2 : 277 ، الامامة والسياسة 1 : 45 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 180 ، بلاغات النساء : 15 ، الاحتجاج 1 : 244 ، مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 236 .
« يذكر شيخنا المفيد ومؤرخون آخرون ان ام سلمة دخلت على عائشة وكلمتها » .

واقعة الجمل _ 14 _

رد عائشة على ام سلمة :
   فأجابتها عائشة : من عائشة ام المؤمنين الى ام سلمة : « سلام عليك ، فأني أحمد اليك الله الذي لا اله الا هو ، اما بعد : فما أقبلني لوعظك ، وأعرفني لحق نصحك ، وما انا بعمية عن رأيك ، وليس مسيري على ما تظنين ، ولنعم المسير مسير فزعت فيه الي فئتان متناحرتان من المسلمين ، فإن اقعد ففي غير حرج ، وان امض فإلى ما بد لي من الازدياد منه ، والسلام » (1) .

كتاب الاشتر الى عائشة :
   وكتب الاشتر من المدينة الى عائشة ، وهي بمكة : « اما بعد : فأنك ضعينة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد أمرك ان تقري في بيتك ، فإن فعلت فهو خير لك ، وإن ابيت الا ان تأخذي فسأتك ، وتلقي جلبابك ، وتبد للناس شعيراتك ، فأقاتلك حتى أردك الى بيتك ، والموضع الذي يرضاه لك ربك » (2) .
رد عائشة على الاشتر :
   فكتبت إليه في الجواب : « اما بعد : فأنك اول العرب شب الفتنة ، ودعا الى الفرقة ، وخالف الائمة ، وسعر في قتل الخليفة ، وقد علمت أنك لن تعجز الله حتى يصيبك منه بنقمة ينتصر بها منك للخليفة المظلوم ، وقد جاءني كتابك ، وفهمت ما فيه ، وسيكفينك الله ، وكان من اصبح مماثلاً لك في ضلالك وغيك ، ان شاء الله » (3) .

كتاب عائشة الى زيد بن صوحان :
   وكتبت عائشة الى زيد بن صوحان العبدي ، إذ قدمت البصرة .
   من عائشة ابنة ابي بكر ام المؤمنين حبيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى ابنها الخالص زيد بن صوحان ، « سلام عليك ، اما بعد : فأن اباك كان رأساً في الجاهلية ، وسيداً في الاسلام ، وإنك من ابيك بمنزلة المصلى من السابق ، يقال : كاد أو لحق ، وقد بلغك الذي كان في الاسلام من مصاب عثمان بن عفان ، ونحن قادمون عليك ، والعيان اشفى لك من الخبر ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فاقدم فانصرنا على أمرنا هذا ، فإن لم تفعل فثبط الناس عن علي بن ابي طالب ، وكن مكانك حتى يأتيك أمري ، والسلام » (4) .

---------------------------
(1) العقد الفريد 2 : 277 ، الامامة والسياسة 1 : 45 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 180 ، بلاغات النساء : 15 ، الاحتجاج 1 : 244 ، مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 236 .
(2-3) شرح نهج البلاغة 2 : 80 .
(4) العقد الفريد 2 : 227 ، تاريخ الطبري 4 : 476 ، رجال الكشي : 76 ، شرح نهج البلاغة 2 : 81 .

واقعة الجمل _ 15 _

رد زيد بن صوحان على عائشة :
   فكتب إليها زيد : من زيد بن صوحان الى عائشة ام المؤمنين : « سلام عليك ، اما بعد : فأن الله امرك بأمر وأمرنا بأمر : أمرك أن تقري في بيتك ، وأمرنا ان نقاتل الناس حتى لا تكون فتنة ، فتركت ما امرت به ، وكتبت تنهينا عما امرنا به ، فأمرك عندنا غير مطاع ، وكتابك غير مجاب ، والسلام » (1) .
   وفي رواية الطبري : كتب إليها : من زيد بن صوحان الى عائشة ابنة ابي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) حبيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « اما بعد : فأنا ابنك الخالص ان اعتزلت هذا الامر ، ورجعت الى بيتك ، وإلا فأنا اول من نابذك » .

كتاب عائشة الى حفصة :
   ولما بلغ عائشة نزول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بذي قار ، كتبت الى حفصة بنت عمر : « اما بعد ؛ فإنا نزلنا البصرة ونزل علي بذي قار ، والله داق عنقه كدق البيضة على الصفا ، إنه بذي قار بمنزلة الاشقر (2) ، إن تقدم نحر وان تأخر عقر » .
   فلما وصل الكتاب الى حفصة استبشرت بذلك ودعت صبيان بني تيم وعدي واعطت جواريها دفوفا وأمرتهن ان يضربن بالدفوف ، ويقلن : ما الخبر ما الخبر ؟ علي كالاشقر ، إن تقدم نحر وإن تأخر عقر ، فبلغ أم سلمة ( رضي الله عنها ) اجتماع النسوة على ما اجتمعن عليه من سب امير المؤمنين ( عليه السلام ) ، والمسرة بالكتاب الوارد عليهن من عائشة ، فبكت وقالت : اعطوني ثيابي حتى أخرج إليهن واقع بهن ، فقالت أم كلثوم بنت امير المؤمنين ( عليه السلام ) : أنا أنوب عنك فأنني أعرف منك ، فلبست ثيابها وتنكرت وتخفرت واستصحبت جواريها متخفرات ، وجاءت حتى دخلت عليهن كأنها من النضارة ، فلما رأت ما هن فيه من العبث والسفه ، كشفت نقابها وابرزت لهن وجهها ، ثم قالت لحفصة : إن تظاهرت انت وأختك على امير المؤمنين ( عليه السلام ) فقد تظاهرتا على اخيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من قبل ، فأنزل الله عزوجل فيكما ما أنزل ، والله من وراء حربكما ، فأنكرت حفصة وأظهرت خجلاً ، وقالت : إنهن فعلن هذا بجهل ، وفرقتهن في الحال ، فانصرفن من المكان (3) .

---------------------------
(1) العقد الفريد 2 : 227 ، تاريخ الطبري 4 : 476 ، رجال الكشي : 76 ، شرح نهج البلاغة 2 : 81 .
(2) هذا مثل يضرب لمن وقع بين شرين لا ينجو من احدهما ، وأول من قال به لقيط بن زرارة يوم جبلة ، وكان على فرس له أشقر .
انظر : كتاب الامثال : 262 ، وجمهرة الامثال 2 : 127 .
(3) انظر : شرح نهج البلاغة 14 : 13 : الفتوح م 1 : 467 ، بحار الانوار 32 : 90 .

واقعة الجمل _ 16 _

كتاب عائشة الى أهل المدينة :
   روى الواقدي عن رجاله قال : لما أخرج القوم عن عثمان بن حنيف لما خافوه من أخيه سهل بن حنيف ، كتبت عائشة الى اهل المدينة : « بسم الله الرحمن الرحيم ، ومن أم المؤمنين عائشة زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وابنة الصديق الى أهل المدينة ، اما بعد ؛ فإن الله أظهر الحق ونصر طالبيه ، وقد قال الله عز اسمه : ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (1) فأتقوا الله عباد الله واسمعوا واطيعوا واعتصموا بحبل الله جميعا وعروة الحق ، ولا تجعلوا على انفسكم سبيلاً ، فإن الله قد جمع كلمة أهل البصرة وأمروا عليهم الزبير بن العوام فهو أمير الجنود ، والكافة يجتمعون على السمع والطاعة له ، فإذا اجتمعت كلمة المؤمنين على امرائهم عن ملأ منهم وتشاور فأنا ندخل في صالح ما دخلوا فيه ، فإذا جاءكم كتابي هذا فأسمعوا وأطيعوا واعينوا على ما سمعتم عليه من امر الله .
   وكتب عبيد الله بن كعب لخمس ليال من شهر ربيع الاول سنة ست وثلاثين » (2) .

كتاب عائشة الى أهل اليمامة :
   وكتبت إلى أهل اليمامة وأهل تلك النواحي : « أما بعد ، فإني أذكركم الله الذي أنعم عليكم وألزمكم بالاسلام ، فإن الله يقول : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (3) فأعتصموا عباد الله بحبله وكونوا مع كتابه ، فإن أمكم ناصحة لكم فيما تدعوكم إليه من الغضب له والجهاد لمن قتل خليفة حرمه ، وابتز المسلمين أمرهم وقد أظهر الله عليه ، وإن ابن حنيف الضال المضل كان بالبصرة يدعو المسلمين الى سبيل النار ، وإنا أقبلنا إليها ندعو المسلمين الى كتاب الله ، وأن يضعوا بينهم القرآن فيكون ذلك رضا لهم وأجمع لأمرهم ، وكان ذلك لله عز وجل على المسلمين فيه الطاعة ، فإما أن ندرك به حاجتنا أو نبلغ عذرا ، فلما دنونا الى البصرة وسمع بنا أبن حنيف جمع لنا الجموع وأمرهم أن يلقونا بالسلاح فيقاتلونا ويطردونا وشهدوا علينا بالكفر وقالوا فينا المنكر ، فأكذبهم المسلمين وأنكروا عليهم ، وقالوا لعثمان بن حنيف : ويحك ! إنما تابعنا زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأم المؤمنين وأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وائمة المسلمين ، فتمادى في غيه وأقام على أمره ، فلما رأى المسلمين انه قد عصاهم ورد عليهم أمرهم غضبوا لله عز وجل ولأم المؤمنين ، ولم نشعر به حتى أظلنا في ثلاثة آلاف من جهلة العرب وسفهائهم ، وصفهم دون المسجد بالسلاح ، فالتمسنا أن يبايعوا على الحق ولا يحولوا بيننا وبين المسجد ، فرد علينا ذلك كله ، حتى إذا كان يوم الجمعة وتفرق الناس بعد الصلاة عنه ، دخل طلحة والزبير ومعهما المسلمون وفتحوه عنوة ، وقدموا عبد الله بن الزبير للصلاة بالناس ، وإنا نخاف من عثمان واصحابه ان يأتونا بغتة ليصيبوا منا غرة .

---------------------------
(1) الانبياء 21 : 18 .
(2) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 299 .
(3) الحديد : 23 .

واقعة الجمل _ 17 _

   فلما رأى المسلمون أنهم لا يبرحون تحرزوا لانفسهم ولم يحرج ومن معه حتى هجموا علينا وبلغوا سدة بيتي ومعهم هاد يدلهم عليه ليسفكوا دمي ، فوجدوا نفرا على باب بيتي فردوهم عني وكان حولي نفراً من القريشيين والازديين يدفعونهم عني ، فقتل منهم من قتل وانهزموا فلم نعرض لبقيتهم وخلينا ابن حنيف منا عليه ، وقد توجه الى صاحبه ، وعرفناكم ذلك عباد الله لتكونوا على ما كنتم عليه من النية في نصرة دين الله والغضب للخليفة المظلوم » (1) . كتاب طلحة والزبير الى كعب بن سور :    ولما اجمعت عائشة وطلحة والزبير واشياعهم على المسير الى البصرة ، قال الزبير لعبدالله بن عامر ـ وكان عامل عثمان على البصرة وهرب عنها حين مصير عثمان بن حنيف عامل علي ( عليه السلام ) إليها : من رجال البصرة ؟ قال : ثلاثة ، كلهم سيد مطاع : كعب بن سور في اليمن والمنذر بن ربيعة ، والاحنف بن قيس في البصرة .
   فكتب طلحة والزبير الى كعب بن سور : « اما بعد ، فأنك قاضي عمر بن الخطاب ، وشيخ اهل البصرة وسيد أهل اليمن ، وقد كنت غضبت لعثمان من الاذى ، فأغضب له من القتل ، والسلام » (2) .

كتابهما الى الاحنف بن قيس :
   وكتبا الى الاحنف بن قيس : « اما بعد ، فأنك وافد عمر ، وسيد مضر ، وحليم اهل العراق ، وقد بلغك مصاب عثمان ، ونحن قادمون عليك ، والعيان أشفى لك من الخبر ، والسلام » (3) .

---------------------------
(1) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 310 ، 302 .
(2) الامامة والسياسة 1 : 48 .
(3) الامامة والسياسة 1 : 48 .

واقعة الجمل _ 18 _

كتابهما الى المنذر بن ربيعة :
   وكتبا الى المنذر : « اما بعد ، فأن أباك كان رئيسا في الجاهلية ، وسيدا في الاسلام وإنك من أبيك بمنزلة المصلى من السابق ، يقال كاد أو لحق ، وقد قتل عثمان من انت خير منه ، وغضب له من خير منك ، والسلام » (1) .

رد كعب بن سور على طلحة والزبير :
   فكتب كعب بن سور الى طلحة والزبير : « اما بعد ، فإنا غضبنا لعثمان من الاذى ، والغير باللسان ، فجاء أمر الغير فيه بالسيف ، فإن يك عثمان قتل ظالما فما لكما وله ؟ وإن كان قتل مظلوما فغيركما أولى به ، وإن كان أمره أشكل على من شهده فهو على من غاب عنه أشكل » (2) .

رد الاحنف عليهما :
   وكتب الاحنف اليهما : « اما بعد ، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمر لانشك فيه الا قتل عثمان ، وانتم قادمون علينا ، فإن يكن في العيان فضل نظرنا فيه ونظرتم ، وإلا يكن فيه فضل فليس في ايدينا ولا ايديكم ثقة ، والسلام » (3) .

رد المنذر بن ربيعة عليهما :
   وكتب المنذر اليهما : « اما بعد ، فأنه لم يلحقني بأهل الخير إلا ان اكون خيرا من اهل الشر ، وإنما اوجب حق عثمان اليوم حقه امس ، وقد كان بين أظهركم فخذلتموه ، فمتى استنبطتم هذا العلم ، وبدا لكم هذا الرأي » (4) .

---------------------------
(1) الامامة والسياسة 1 : 48 .
(2) المصدر السابق 1 : 48 .
(3 ـ 4) الامامة والسياسة 1 : 48 .
ملاحظة : يظهر ان كعب بن سور وقع في شباك الفتنة ، وغرر به حتى قتل في المعركة ، فعندما طاف الامام ( عليه السلام ) على القتلى مر به مقتولا وفي عنقه المصحف ، فقال : « نحوا المصحف وضعوه في مواضع الطهارة » ثم قال : « أجلسوا إلي كعبا » . فأجلس ورأسه ينخفض الى الارض فقال : « يا كعب بن سور قد وجدت ما وعدك ربك حقا ؟ ! » ثم قال : « أضجعوا كعبا » فتجاوزه .
انظر : مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 392 .

واقعة الجمل _ 19 _

كتاب الصلح بين أصحاب الجمل وعثمان بن حنيف :
   لقد أصر الناكثون على التمادي في غيهم ، حتى صار النكث والغدر سجية ملازمة لهم اينما حلوا ، وشعارا يجمعون حوله الانتهازيين والسفهاء وأصحاب السوء ، فهم لم يكتفوا بخيانة امير المؤمنين ( عليه السلام ) حتى غروا بعثمان بن حنيف ، وقد كان الاخيرة قد وقع اتفاقا للصلح بينهم على شروط اتفقوا عليها ، منها ايقاف القتال ، وان يكون لعثمان بن حنيف دار الامارة والمسجد وبيت المال ، ولطلحة والزبير وعائشة ما شاؤوا من البصرة ، ولا يهاجون حتى يقدم امير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فأن أحبوا ذلك دخلوا في طاعته ، وإن أحبوا ان يقاتلوا (1) .
   وقيل انهم أوقفوا القتال وتصالحوا ، على ان يبعثوا رسولا الى المدينة ، حتى يرجع الرسول بالجواب الذي يبتغيه ابن حنيف ، والذي كان من اهم بنود الصلح ، وهو : هل طلحة والزبير اكرها على بيعة الامام علي ( عليه السلام ) ؟ فإذا كان الجواب ( نعم ) خرج ابن حنيف من البصرة وأخلاها لهما ، وإن كان الجواب بالنفي خرج طلحة والزبير (2) ، وارسل كعب بن سور لهذا المهمة ، وفي هذه الفترة القصيرة حاولوا كسب الوقت الى جانبهم ، بمكاتبة من له القدرة في توسيع دائرة الخلاف على الحكومة الشرعية بقيادة ابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
   ومع هذا لم يصبروا على ابن حنيف كثيرا ، فمزقوا كتاب الصلح ، وغدروا به في ليلة مظلمة ذات رياح ، فخرج طلحة والزبير وأصحابهما حتى أتوا دار الامارة وعثمان بن حنيف غافل عنهم ، وعلى الباب السبابجة يحرسون بيوت الاموال وكانوا قوما من الزط قد استبصروا وأئتمنهم عثمان على بيت المال ودار الامارة ، فأكب عليهم القوم وأخذوهم من اربع جوانبهم ووضعوا فيهم السيف فقتلوا منهم اربعين رجلاً صبراً ! يتولى منهم ذلك الزبير خاصة ، ثم هجموا على عثمان فأوثقوه رباطا وعمدوا الى لحيته ـ وكان شيخا كثّ اللحية ـ فنتفوها حتى لم يبق منها شيء ، وقال طلحة : عذبوا الفاسق وانتفوا شعر حاجبيه واشفار عينيه واوثقوه بالحديد .
   فلما اصبحوا اجتمع الناس اليهما وأذن مؤذن المسجد لصلاة الغداة فرام طلحة ان يتقدم للصلاة بهم فدفعه الزبير وأراد ان يصلي بهم فمنعه طلحة ، فما زالا يتدافعان حتى كادت الشمس ان تطلع فنادى اهل البصرة : الله الله ، يا أصحاب رسول الله ، في الصلاة نخاف فوتها ! فقالت عائشة : مروا ان يصلي بالناس غيرهما ، فقال لهم يعلى بن منية : يصلي عبد الله بن الزبير يوماً ومحمد بن طلحة يوماً حتى يتفق الناس على امير يرضونه ، فتقدم ابن الزبير وصلى بهم ذلك اليوم (3) .

---------------------------
(1) الامامة والسياسة 1 : 68 ، العقد الفريد 4 : 313 ، تاريخ خليفة بن خياط : 183 ، نهاية الارب 20 : 37 .
(2) الكامل في التاريخ 3 : 214 ، تاريخ الطبري 4 : 464 ـ 467 ، جمهرة رسائل العرب 1 : 321 .
(3) انظر : مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 283 ، انساب الاشراف 1 : 227 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 181 ، تاريخ الطبري 4 : 468 .