خفافاً (1) ، وأحمشكم فألفاكم غضاباً (2) ، فوسمتم (3) غير ابلكم ، وأوردتم غير شربكم (4) ، هذا والعهد قريب ، والكلم (5) رحيب ، والجرح لمّا يندمل (6) ، والرسول لمّا يقبر (7) زعمتم خوف الفتنة (8) ، ( ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنم لمحيطة بالكافرين ) (9) .
  فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنّى تؤفكون ؟ وكتاب الله بين أظهركم (10) ، اموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة (11) ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، قد خلّفتموه وراء ظهوركم ، أرغبةً عنه تريدون ، أم بغيره تحكمون ، ( بئس للظالمين بدلاً (12) ) (13) ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من

---------------------------
(1) أي مسرعين إليه .
(2) أحمشت الرجل : أغضبته ، وأحمشت النار : ألهبتها ، أي حملكم الشيطان على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه ، أو من عند انفسكن ، وفي المناقب القديم : ( عطافاً بالعين المهملة والفاء ، من العطف بمعنى اليل والشفقة ، ولعلة أظهر لفظاً ومعنى .
(3) الوسم : أثر الكي ، يقال : وسمته ـ كوعدته ـ وسماً .
(4) الورود : حضور الماء للشرب ، والايراد : الاحضار ، والاحضار ، والشرب بالكسر : الحظً من الماء ، وهما كنايتان عن أخذ ما ليس لهم بحق من الخلافة والإمامة وميراث النبوة ، وفي الكشف : ( وأوردتموها شرباً ليس لكم ) .
(5) الكلم : الجرح ، والرحب بالضم : السعة .
(6) الجرح بالضم ، الاسم ، وبالفتح المصدر ، و ( لما يندمل ) أي لم يصلح بعد .
(7) قبرته : دفنته .
(8) ( ابتداراً ) مفعول له للأفعال السابقة ، ويحتمل المصدر بتقدير الفعل ، وفي بعض الروايات : ( بداراً زعمتم خوف الفتنة ) أي ادعيتم وأظهرتم لناس كذباً وخديعة أنا اجتمعنا في السقيفة دفعاً لفتنة ، مع أن الغرض كان غصب الخلافة عن أهلها وهو علين الفتنة ، والالتفات في ( سقطوا ) لموافقة الآية الكريمة .
(9) التوبة : 49 .
(10) ( هيهات ) للتبعيد ، وفيه معنى التعجب كما صرح به الشيخ الرضي ، وكذلك ( كيف ) و ( أني ) تستعملان في التعجب ، وأفكه ـ كضربه ـ : صرفه عن الشي وقلبه ، أي إلى أين يصرفكم الشيطان وأنفسكم والحال أن كتاب الله بينكم ! وفلان بين أظهر قوم وبين ظهرانيهم أي مقيم بينهم محفوف من جانبيه أو من جوانبه بهم .
(11) الزاهر : المتلألئ المشرق ، وفي الكشف : ( بين أظهركم ، قائمة فرائضه ، واضحة دلائله ، نيرة شرائعه .
(12) الكهف : 50 .
(13) ( بدلاً ) أي من الكتاب ما اختاروه من الحكم الباطل .

الاسرار الفاطمية _ 483 _

  الخاسرين ) (1) .
  ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها (2) ثم أخذتم تورون وقدتها (3) ، وتهيّجون جمرتها (4) ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي (5) ، وإطفاء أنوار الدين الجلي ، وإهماد سنن النبي الصفي (6) ، تسرون خشوا في أرتعاء (7) ، وتمشون لأهله ووله في الخمر والضراء (8) ، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى (9) ، ووخز السّنان في الحشا (10) ، وأنتم تزعمون ألاّ إرث لنا ، ( أفحكم

---------------------------
(1) آل عمران : 85 . (2) ريث ـ بالفتح ـ بمعنى قدر ، وهي كلمة يستعملها أهل الحجاز كثيراً ، وقد يستعمل مع ما ، يقال : لم يلبث إلا ريثما فعل كذا ، وفي الكشف هكذا : ( ثم لو تبرحوا ريثاً ) وقال بعضهم : هذا ولم تريثوا حتها إلا ريث ، وفي رواية ابن أبي طاهر : ( ثم لم تريثوا اختها ) وعلى التقديرين ضمير المؤنث راجع إلى فتنة وفاة الرسول صلى الله عليه وآله .
وحتّ الورق من الغصن : نثرها ، أي لم تصبروا إلى ذهاب أثر تلك المصيبة ، ونفرة الدابة ، بالفتح : ذهابها وعدم انقيادها .
والسلس ، بكسر اللام : السهل اللّين المنقاد ، ذكره الفيروز آبادي ، وفي مصباح اللغة : سلسل سلساً من باب تعب : سهل ولإن ، والقياد بالكسر : ما يقاد به الدابة من خبل وغيره .
(3) في الصحاح : ( ورى الزّند يري ورياً : إذا خرجت ناره ، وفي لغة اخرى : ( وري الزند يري ، بالكسر فيهما ، وأوريته أنا وكذلك وريته توريةً ، وفلان يستورى زناد الضلالة ) .
ووقده النار بالفتح : وقودها ، ووقدها : لهبها .
(4) الجمرة : المتوقد من الحطب ، فاذا برد فهو فحم ، والجمر بدون التاء جمعها .
(5) الهتاف ، بالكسر : الصياح ، وهتف به أي دعاه .
(6) إهماد النار ك : إطفاؤها بالكلية ، والحاصل أنكم انما صبرتم حتى استقرت الخلافة المغصوبة عليكم ، ثم شرعتم في تهييج الشرور والفتن واتباع الشيطان وإبداع البدع وتغيير السنن .
(7) الإسرار : ضد الإعلان ، والحسو بفتح الحاء وسكون السين المهملتين : شرب المرق وغيره شيئاً بعد شي : والارتغاء : شرب الرغوة وهو زبد اللبن ، قال الجواهري : ( الرغوة مثلثة ) : زبد البن ، وارتغيت : شربت الرغوة ، وفي المثل : ( يسر حسواً في ارتغاء ) يضرب لمن يظهر أمراً ويريد غيره ، قال الشعبي لمن سأله عن رجل قبل أم امرأته [ قال ] : ( يسر حسواً في ارتغاء ، وقد حرمت عليه امرأته ) .
وقال الميداني : قال أبو زيد والأصمعي : أصله الرجل يؤتى باللبن فيظهر أنه يريد الرغوة خاصة ولا يريد غيرها فيشربها وهو في ذلك ينال من اللبن ، يضرب لمن يريك أنه يعينك وإنما يجر النفع إلى نفسه .
(8) الخمر ، بالتحريك ما واراك من شجر وغيره ، يقال : نوارى الصيد عني في خمر الوادي ، ومنه قولهم : دخل فلان في خمار الناس ـ بالضم ـ أي ما يواريه ويستره منهم ، والضراء الضاد المعجمة المفتوحة والراء المخففة : الشجر الملتفت في الوادي ، ويقال لمن ختل صاحبه وخاده : يدب له الضراء ويمشي له الخمر ، وقال الميداني : قال ابن الأعرابي : الضراء ما انخفض من الأرض .
(9) الحزّ ، بفتح الحاء المهملة : القطع أو قطع الشي من غير إبانة ، والمدى بالضم : جمع مدية وهي السكّين والشفرة .
(10) الوخز : الطعن بالرمح ونحوه لا يكون نافذاً ، يقال : وخزه بالخنجر .

الاسرار الفاطمية _ 484 _

  الجاهلية تبغون ومن أحسن من حكماً لقوم يوقنون ) (1) أفلا تعلمون ؟ بلى تجلّى لكم كالشمس الضاحية (2) أنّي ابنته .
  أيها المسلمون أاغلب على إرثيه (3) يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ، ولا أرث أبي ؟ ( لقد جئت شيئاً فرياً (4) ) (5) ، أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ، ونبذتمونه وراء ظهوركم ، إذ يقول : ( وورث سليمان داود ) (6) ، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا عليها السلام إذ قال ربّ ( هب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب ) (7) وقال : ( واولوا الأرحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله ) (8) وقال : ( يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظ الانثيين ) (9) وقال : ( إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين ) (10) ، وزعمتم ألاّ حظوة لي (11) ، ولا إرث من أبي لا رحم بيننا !

---------------------------
(1) المائدة : 50 ، وفيها ( يبغون ) .
(2) أي الظاهرة البيّنة ، يقال : فعلت ذلك الأمر ضاحية أي علانية .
(3) في رواية ابن أبي طاهر : ( وبها معشر المهاجرة ابتز إرث أبيه ) قال الجوهري : ( إذا أغريته بالشي قلت : ويها يا فلان ، وهو تحريض ) انتهى .
ولعل الانسب هنا التعجب .
والهاء في ( أبيه ) في الموضعين ( وإرثيه ) ـ بكسر الهمزة بمعنى الميراث ـ للسكت ، كما في سورة الحاقة ، ( كتابيه وحسابيه وماليه وسلطانية ) تثبت في الوقف وتسقط في الوصل .
وقرئ بإثباتها في الوصل أيضاً ، وفي الكشف : ( ثم أنتم أولاء تزعمون أن لا إرث ليه ) فهو أيضاً كذلك .
(4) اقتباس من سورة مريم : 27 .
(5) أي أمرأ عظيما بديعا ، وقيل : أي أمرأ منكراً قبيحاً ، وهو مأخوذ من الافتراء بمعنى الكذب ، واعلم أنه قد وردت الروايات المتظافرة ـ كما ستعرف ـ في أنها عليها السلام ادّعت أن فدكاً كانت نحلة لها من رسول الله صلى الله عليه وآله ـ فلعل عدم تعرضها ـ صلوات الله عليها ـ في هذه الخطبة لتلك الدعوى ليأسها عن قبولها إياها ، إذ كانت الخطبة بعد ما ردّ أبو بكر شهادة أمير المؤمنين عليه السلام ومن شهد معه ، وقد كان المنافقون الحاضرون معتقدين لصدقه ، فتمسكت بحديث الميراث لكونه من ضروريات الدين .
(6) النمل : 16 .
(7) مريم : 6 .
(8) الأنفال : 75 .
(9) النساء : 11 .
(10) البقرة : 180 .
(11) بكسر الحاء وضمّها وسكون الظاء المعجمة : المكانة والمنزلة ، ياقل : حظيت المرأة عند زوجها : إذا دنت من قبله .

الاسرار الفاطمية _ 485 _

  أفخصّكم الله بأية أخرج منها أبي ؟ أم هل تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان ، ولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟ ! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي (1) ؟ فدونكها مخطمة مرحولة (2) تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزّعيم محمدّ (3) ، والموعد القيامة ، وعند الساعة ما تخسرون (4) ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، ( ولكل نبأٍ مستقرّ وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه (5) ويحلّ عليه عذاب مقيم ) (6) .
  ثم رمت بطرفها (7) نحو الأنصار فقالت : يا معاشر الفتية (8) ، وأعضاد الملّة (9) ، وأنصار الإسلام ! ما هذه الغميزة في حقّي (10) ؟ والسّنة عن

---------------------------
(1) في الكشف : ( فزعمتم أن لا حظ لي ولا إرث لي من أبيه ، أفحكم الله بآية أخرج أبي منها ، أم تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان ، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي ؟ أفحكم الجاهليّة ( الآية ) ، إيها معاشر المسلمة أأبتزّ إرثيه ؟ الله أن ترث أباك ولا ارث أبيه ؟ لقد جئتم شيئاً فرياً ) .
(2) الضمير راجع إلى فدك المدلول عليها بالمقام ، والأمر بأخذها للتهديد ، والخطام ، بالكسر : كل ما يوضع في أنف البعير ليقاد به ، والرحل ـ بالفتح ـ للناقة كالسرج للفرس ، ورحل البعير ـ كمنع ـ شد على ظهره الرحل ، شبهتها عليها السلام في كونها مسلمة لايعارضه في أخذها احد بالناقة المنادة المهياة للركوب .
(3) في بعض الروايات : ( والغريم ) أي طالب الحق .
(4) كلمة ( ما ) مصدرية ، أي في القيامة يظهر خسرانكم .
(5) ( ولكل نبأ مستقر ) أي لكل خبر ـ يريد نبأ العذاب او الايعاد به ـ وقت استقرار ووقوع ( وسوف تعلمون ) عند وقوعه ( من ياتيه عذاب يخزيه ) .
(6) الاقتباس من موضعين : احدهما سورة الانعام ، والاخر في سورة هود قصة نوح عليه السلام حيث قال : ( ان تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) فالعذاب الذي يخزيهم الغرق والعذاب المقيم عذاب النار .
(7) الطرف بالفتح : مصدر طرفت عين فلان : اذا نظرت ، وهو ان ينظر ثم يغمض ، والطرف أيضا : العين .
(8) المعشر : الجماعة ، والفتية بالكسر : جمع فتى وهو الشاب والكريم السخي ، وفي المناقب ( يا معشر البقية ، وأعضاد الملة وحصنة الاسلام ) وفي الكشف : ( يا معشر البقية ، ويا عماد الملة وحصنة الاسلام ) .
(9) الأعضاد : جمع عضد بالفتح : يقال : عضدته كنصرته لفظار ومعنى .
(10) قال الجواهري : ( ليس في فلان غميزة ، أي مطعن ) ، ونحوه ذكر الفيروز آبادي وهو لا يناسب المقام إلاّ بتكلف ، وقال الجواهري : ( رجل غمز ، أي ضعيف ) .
وقال الخليل في كتاب العين : ( الغميزة بفتح العين المعجمة والزاي : ضعفة في العمل وجهلة في العقل ، ويقال : سمعت كلمة فاغتمزتها في عقله ، أي علمت انه احمق ) وهذا المعنى انسب .
وفي الكشف : ( ما هذه الغميزة ) بالفاء المفتوحة وسكون التاء ، وهو السكون ، وهو أيضا مناسب ، وفي رواية ابن ابي طاهر بالراء المهملة ، ولعله من قولهم : غمر على اخيه ، أي حقد وضغن ، او من قولهم ،غمز عليه ، أي اغمى عليه ، أو من الغمر ، بمعنى الستر ، ولعله كان بالضاد المعجمة فصحف ، فان استعمال اغماض العين في مثل هذا المقام شايع .

الاسرار الفاطمية _ 486 _

  ظلامتي (1) ، أما كان صلى الله عليه وآله وسلم أبي يقول : ( المرء يحفظ في ولده ) ؟ سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالةً (2) ، ولكم طاقة بما احاول ، وقوّة على ما أطلب وازاول ! أتقولون مات محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟! فخطب جليل استوسع وهيه (3) ، واستنهر فتقه ، وانفتق رتقه (4) ، وأظلمت الأرض لغيبته ، وكسفت النجوم لمصيبته (5) ، واكدت الآمال (6) ، وخشعت

---------------------------
(1) السنة بالكسر : مصدر وسن يوسن ـ كعلم يعلم ـ وسنا وسنة ، والسنة : اول النوم او النوم الخفيف ، والهاء عوض عن الواو ، والظلامة بالضم كالمظلمة بالكسر : ما اخذه الظالم منك فتطلبه عنده ، والغرض تهييج الانصار لنصرتها ، او توبيخهم على عدمها ، وفي الكشف بعد ذلك ، : ( ما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يحفظ ) .
(2) سرعان مثلثة السين : وعجلان بفتح العين كلاهما من أسماء الأفعال بمعنى سرع وعجل ، وفيهما معنى العجب ، أي ما اسرع واعجل ، وفي رواية ابن ابي طاهر : ( سرعان ما اجديتم فاكديتم ) يقال : اجدب القوم أي أصابهم الجدب ، واكدى الرجل : اذا قل خيره ، والاهالة بكسر الهمزة : الودك وهو دسم اللحم ، وقال الفيروز آبادي : ( قولهم : سرعان اذا اهالة ، اصله ان رجلا كانت له نعجة عجفاء وكانت رغامها يسيل من منخريها لهزالها ، فقيل له : ما هذا الذي يسيل ؟ فقال السائل : سرعان ذا اهالة ، ونصب ( اهالة ) على الحال : وذا اشارة إلى الرغام او تميز على تقدير نقل الفعل كقولهم : تصبب زيد عرقا ، والتقدير : سرعان اهاله هذه ، وهو مثل يضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وقته ) انتهى .
والرغام بالضم : ما يسيل من انف الشاة والخيل ، ولعل المثل كان بلفظ عجلان ، فاشتبه على الفيروز ابادي او غيره ، او كان كل منهما مستعملا في هذا المثل ، وغرضها صلوات الله عليها التعجب من تعجيل الانصار ومبادرتهم إلى احداث البدع ، وترك السنن والاحكام ، والتخاذل عن نصرة سيد الانام ، مع قرب عهدهم به ، وعدم نسيانهم ما اوصاهم به فيهم ، وقدرتهم على نصرتها واخذ حقها ممن ظلمها ولا يبعد ان يكون المثل اخبارا مجملا بما يترتب على هذه البدعة من المفاسد الدنيوية وذهاب الاثار النبوية .
(3) الخطب ، بالفتح : الشان والأمر عظم أو صغر ، والوهي كالرمي : الشق والخرق يقال : وهي الثوب : اذا بلي وتخرق واستوسع .
(4) استنهر : استفعل من النهر ـ بالتحريك ـ بمعنى السعة ، أي اتسع ، والفتق : الشق ، والرتق ضده ، انقتق أي انشق ، والضماير المجرورات الثلاثة راجعة إلى الخطب بخلاف المجرورين بعدهما فانهما راجعان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(5) كسف النجوم : ذهاب نورها ، والفعل منه يكون متعديا ولازما ، والفعل كضرب . وفي رواية ابن ابي طاهر مكان الفقرة الاخيرة : ( واكتأبت خيرة الله المصيبة ) والاكتئاب : افتعال من الكآبة بمعنى الحزن . وفي الكشف : ( واستنهز فتقه ، وفقد راتقه ، وأظلمت الأرض ، وأكتأبت لخيرة الله ـ إلى قولها ـ واديلت الحرمة ـ ) من الادالة بمعنى الغلبة .
(6) يقال : اكدى فلان أي بخل او قل خيره .

الاسرار الفاطمية _ 487 _

  من الجبال ، واضيع الحريم (1) ، وازيلت الحرمة عند مماته (2) ، فتلك والله النّازلة الكبرى (3) ، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة (4) أعلن بها كتاب الله ـ جل ثناؤه ـ في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم (5) هتافاً وصراخاً وتلاوة وإلحاناً (6) ، ولقبله ما حلّ بأنبياء الله ورسله ، حكم فصل (7) وقضاء حتم (8) : ( وما محمد إلا رسول قد خلت (9) من قبله الرسول أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم (10) ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين (11) ) (12) .

---------------------------
(1) حريم الرجل : ما يحميه ويقاتل عنه .
(2) الحرمة : ما لا يحل انتها كه ، وفي بعض النسخ : ( الرحمة ) مكان ( الحرمة ) .
(3) النازلة : الشديدة .
(4) البائقة : الداهية .
(5) فناء الدار ، ككساء : العرصة المتسعة امامها ، والممسى والمصبح ، بضم الميم فيها ـ مصدران وموضعان من الاصباح والامساء .
(6) الهتاف : بالكسر : الصياح ، والصراخ ، كغراب : الصوف او الشديد منه ، والتلاوة ، بالكسر : القراءة والالحان : الافهام يقال : ألحنه القول أي افهمه اياه ، ويحتمل ان يكون من اللحن بمعني الغناء والطرب ، قال الجوهري : ( اللحن واحد الالحان واللحون ، ومنه الحديث : اقرأوا القرآن بلحون العرب ، وقد لحن قرائته اذا طرد به وغرد ، وهو الحن الناس اذا كان احسنهم قراءة او غناء ) انتهى ، ويمكن ان يقرأ على هذا بصيغة الجمع ايضا ، والأوّل اظهر ، وفي الكشف : ( فتلك نازلة اعلن بها كتاب الله في قبلتكم ممساكم ومصبحكم هتافا هتافا ) .
(7) الحكم الفصل : هو المقطوع به الذي لا ريب فيه ولا مرد له ، وقد يكون بمعنى القاطع الفارق بين الحق والباطل .
(8) والحتم في الاصل : احكام الامر ، والقضاء الحتم هو الذي لا يتطرق إليه التغيير .
(9) مضت .
(10) الانقلاب على العقب : الرجوع القهقري ، اريد به الارتداد بعد الإيمان .
(11) آل عمران : 144 .
(12) الشاكرون : المطيعون المعترفون بالنعم الحامدون عليها ، قال بعض الامائل : واعلم ان الشبهة العارضة للمخاطبين ، بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم اما عدم تحتم العمل بأوامره وحفظ حرمته في أهله ، فان العقول الضعيفة مجبولةعلى رعاية الحاضر اكثر من الغايب وانه اذا غاب عن ابصارهم ذهب كلامه عن اسماعهم ووصاياه عن قلوبهم ، فدفعها اشارة إليه صلوات الله عليه واله ـ من اعلان الله جل ثناؤه واخباره بوقع تلك الواقعة الهايلة قبل وقوعها وان الموت مما قد نزل بالماضين من انبياء الله ورسله ـ تثبيتا واخباره بوقوع تلك الواقعة الهايلة قبل وقوعها وان الموت مما قد نزل بالماضين من انبياء الله ورسله ـ تثبيتا للامة على الإيمان ، وازالة لتلك الخصلة الذميمة عن نفوسهم ، ويمكن ان يكون معنى الكلام .
اتقولون مات محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته ليس لنا زاجر ولامانع عما ، نريد ولانخاف احدا في ترك الانقياد للاوامر وعدم الانزاجار عن النواهي ، ويكون الجواب ما يستفاد من حكاية قوله سبحانه ( افأن مات او قتل ) الآية لكن لايكون حينئذ لحديث اعلان الله سبحانه واخباره ، بموت الرسول مدخل في الجواب إلاّ بتكلف ، ويحتمل ان يكون شبهتهم عدم تجويزهم الموت على النبي صل الله عليه وآله وسلم كما افصح عنه عمر بن الخطاب ، وسيأتي في مطاعنه ، فبعد تحقق موته عرض لهم شك في الأيمان ، ووهن في الاعمال ، فلذلك خذلوها وقعدوا عن نصرتها ، وحينئذ مدخلية حديث الاعلان وما بعده في الجواب واضح .
وعلى التقادير لا يكون قولها ـ صلوات الله عليها ـ ( فخطب جليل ) داخلا في الجواب ولا مقولا لقول المخاطبين على استفهام التوبيخي ، بل هو كلا مستأنف لبث الحزن والشكوى ، بل يكون الجواب ما بعد قولها ( فتلك والله النازلة الكبرى ) ويحتلم ان يكون مقولا لقوهم ، فيكون حاصلا شبهتهم ان موته صلى الله عليه وآله والذي هو اعظم الدواهي قد وقع ، فلا يبالي بما وقع بعده من لمحظورات ، فلذلك لم ينهضوا بنصرها ، والانتصاف ممن ظلمها ، ولما تضمن ما زعموه كون مماته صلى الله عليه وآله أعظم المصائب سلمت عليها السلام اولا في مقام تلك المقدمة لكونها محض الحق ثم نبهت على خطابهم في انها مستلزمة لقلة المبالاة بما وقع والقعود عن نصرة الحق وعدم اتباع اوامره صلى الله عليه و آله بقولها اعلن بها كتاب الله إلى اخر الكلام ، فيكون حاصل الجواب : ان الله قد اعلمكم بها قبل الوقوع واخبركم بانها سنة ماضية في السلف من انبيائه وحذركم الانقلاب على اعقابكم كيلا تتركوا العمل بلوازم الإيمان بعد وقوعها ، ولا تهنوا عن نصرة الحق وقمع الباطل ، وف تسليمها ما سلمته اولا دلالة على ان كونها اعظم المصائب مما يؤيد وجوب نصرتي ، فاني انا المصاب بها حقيقة وان شاركني فيها غيري ، فمن نزلت به تلك النازلة الكبرى فهو بالرعاية احق واحرى ، ويحتمل ان يكون قولها عليها السلام ( فخطب جليل ) من اجزاء الجواب ، فتكو شبهتهم بعض الوجوه المذكورة او المركب من بعضها مع بعضها مع بعض ، وحاصل الجواب حينئذ انه اذا نزل بي مثل تلك النازلة وقد كان الله عزوجل اخبركم بها وامركم ان لا ترتدوا بعدها على اعقابكم ، فكان الواجب عليكم دفع الضيم عني والقيام بنصرتي ، ولعل الانسب بهذا الوجه ما في رواية ابن ابي طاهر من قولها ( وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله ) بالواو دون الفاء .
ويحتمل ان لا تكون الشبهة العارضة للمخاطبين مقصورة على احد الوجوه المذكورة بل تكون الشبهة لبعضهم بعضا وللآخرى اخرى ، ويكون كل مقدمة من مقدمات الجواب اشارة إلى دفع واحدة منها .
أقول : ويحتمل ان لا تكون هناك شبهة حقيقية ، بل يكون الغرض انه ليس لهم في اتكاب تلك الامور الشنيعة حجة ومتمسك إلاّ ان يتمسك احد بامثال تلك الامور الباطلة الواهية التي لا يخفى على احد بطلانها ، وهذا شايع في الاحتجاج .

الاسرار الفاطمية _ 488 _

  أيها بني قيلة ! (1) أاهضم تراث أبيه (2) وأنتم بمرأى منّي ومسمع (3) ، ومبتدأ

---------------------------
(1) ايها ـ بفتح الهمزة والتنوين ـ بمعنى هيهات ، وبنو قيلة : الاوس والخزرج قبيلتا الانصار ، وقيلة بالفتح : اسم ام لهم قديمة وهي قيلة بنت كاهل .
(2) الهضم : الكسر يقال : هضمت الشيء أي كسرته ، وهضمته : اذا ظلمه وكسر عليه حقه ، والتراث ، واصل التاء فيه الواو .
(3) أي بحيث اراكم واسمعكم ( اسمع ظ ) كلامكم ، وفي رواية ابن ابي طاهر : ( منه ) أي من الرسول صلى الله عليه واله و سلم .

الاسرار الفاطمية _ 489 _

  ومجمع (1) ؟! تلبسكم الدّعوة ، وتشملكم الخبرة (2) ، وأنتم ذوو العدد والعدّة ، والأداة والقوّة ، وعندكم السلاح والجنّة ، توافيكم الدعوة فلا تحبيبون ، وتأتيكم الصّرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح (3) ، معروفون بالخير والصّلاح ، والنجّبة التي انتجبت (4) ، والخيرة التي اختيرت ! (5) قاتلتم العرب ، وتحمّلتم الكذّ والتعب ، وناطحتم الامم (6) ، وكافحتم البهم (7) ، فلا نبرح أو تبرحون (8) ، نأمركم فتأتمرون (9) حتى دارت بنا رحى الإسلام (10) ،

---------------------------
(1) والمبتدأ في اكثر النسخ بالباء الموحدة مهموزاً ، فلعل المعنى انكم في مكان يبتدأ منه الامور والاحكام ، والاظهر أنه تصحيف المنتدا بالنون غير مهموز بمعنى المجلس ، وكذا في المناقب القديم ، فيكون ( المجمع ) كالتفسير له ، والغرض الاحتجاج عليهم بالاجماع ( بالاجماع ـ خ ل ) الذي هو من اسباب القدرة على دفع الظلم ، واللفظان غير موجودين في رواية ابن ابي طاهر .
(2) ( تلبسكم ) على بناء المجرد أي تغطيكم وتحيط بكم ، والدعوة : المرة من الدعاء أي النداء كالخبرة ـ بالفتح ـ من الخبر بالضم بمعنى العلم ، او الخبرة بالكسر بمعناه .
والمراد بالدعوة نداء المظلوم للنصرة ، وبالخبرة علمهم بمظلوميتها صلوات الله عليها .
والتعبير بالاحاطة والشمول للمبالغة او للتصريح بان ذلك قد عمهم جميعاً ، وليس من قبيل الحكم على الجماعة بحكم البعض او الاكثر ، وفي رواية ابن ابي طاهر : ( الحيرة ) بالحاء المهملة ، ولعلة تصحيف ، ولا يخفى توجيهه .
(3) الكفاح : استقبال العدو في الحرب بلا ترس ولا جنة ، ويقال : فلا يكافح الامور أي يباشرها بنفسه .
(4) النجبة ، كهمزة : النجيب الكريم ، وقيل : يحتمل ان يكون بفتح الخاء المعجمة او سكونها بمعنى المنتخب المختار ، ويظهر من ابن الاثير انها بالسكون تكون جمعا (5) الخيرة ، كعنية : المفضل من القوم المختار منهم .
(6) أي حاربتم الخصوم ودافعتموها بجد واهتمام كما يدافع الكبش قرنه بقرنه ، واليهم : الشجعان كما مر ومكافحتها : التعرض لدفعها من غير توانٍ وضعف .
(7) في المناقب : ( لنا هل البيت قاتلتم وناطحتم الامم وكافحتم البهم ) .
(8) ( أو تبرحون ) معطوف على مدخول النفي ، فالمنفي احد الأمرين ، ولا ينتفي إلاّ بانتفائهما معاً ، فالمعنى لا نبرح ولا تبرحون .
(9) أي كما لم نزل آمرين ، وكنتم مطيعين لنا في اوامرنا ، وفي كشف الغمة : ( وتبرحون ) بالواو ، فالعطف على مدهول النفي ايضا ويرجع إلى مامر ، وعطفه على النفي اشعارا بأنه قد كان يقع منهم براح عن الاطاعة كما في عزوة احد وغيرها بخلاف أهل البيت عليهم السلام اذا لم يعرض لهم كلال عن الدعوة والهداية ، بعيد عن المقام ، والاظهر ما في رواية ابن ابي طاهر من ترك املعطوف رأسا : ( لانبرح نأمركم ) أي لم نزل عادتنا الأمر ، وعادتكم الايتمار ، وفي المناقب ( لا نبرح ولا تبرحون نأمركم ) فيحتمل ان يكون ( أو ) في تلك النسخة ايضا بمعنى الواو ، أي لانزال نأمركم ولا تزالون تأتمرون ، ولعل ما في المناقب اظهر النسخ واصوبها .
(10) دوران الرحى كناية عن انتظام امرها ، والباء للسببية .

الاسرار الفاطمية _ 490 _

  ودرّ حلب الأيام (1) ، وخضعت نعرة الشرك (2) ، وسكنت فورة الإفك (3) ، وخمدت نيران الكفر (4) ، وهدأت دعوة الهرج (5) ، واستوسق نظام الدين (6) ، فأنّى جرتم بعد البيان (7) ، واسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام (8) ، وأشركتم بعد الإيمان ؟ ( ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق ان تخشوه إن كنتم مؤمنين (9) ) (10) .

---------------------------
(1) در اللبن : جريانه وكثرته ، والحلب بالفتح : استخراج ما في الضرع من اللبن ، وبالتحريك : اللبن المحلوب ، والثاني اظهر للزوم ارتكاب تجوز في الاستناد ، او في المسند إليه على الأوّل .
(2) والنعرة بالنون والراء المهملتين مثال همزة : الخيشوم والخيلاء والكبر او بفتح النون من قولهم نعر العرق بالدم أي فار .
فيكون الخضوع بمعنى السكون ، او بالغين المعجمة من نغرت القدر أي فارت ، وقال الجوهري ( نغر الرجل ـ بالكسر ـ أي اغتاض ، قال الاصمعي : هو الذي يغلي جوفه من الغيظ ، وقال ابن السكيت : يقال : ظل فلان يتنعر على فلان أي يتذمر عليه ) .
وفي اكثر النسخ بالثاء المثلثة المضمومة والغين المعجمة وهي نقرة النحر بين الترقوتين . فخضوع ثغرة الشرك كناية عن محقه وسقوطه كالحيوان الساقط على الأرض ، نظيره قول امير المؤمنين ـ صلوات الله عليه وسلامه عليه ـ : ( انا وضعت كلكل العرب ) أي صدورهم .
(3) الافك بالكسر : الكذب وفورة الافك : غليانه وهيجانه .
(4) خمدت النار : أي سكن لهبها ولم يطفاً جمرها ، ويقال : همدت ـ بالهاء ـ اذا طفي جمرها ، وفيه اشعار بنفاق بعضهم وبقاء مادة الكفر في قلوبهم ، وفي رواية ابن ابي طاهر : ( وباخت نيران الحرب ) قال الجوهري : ( باخ الحر والنار والغضب والحمى أي سكن وفتر ) .
(5) هدأت أي ، سكنت ، والهرج ، الفتنة والاختلاط ، وفي الحديث : الهرج القتل .
(6) استوسق أي اجتمع وانضم ، من الوسق بالفتح وهو ضم الشيء إلى الشيء ، واتساق الشيء : انتظامه ، وفي الكشف : ( فناويتم العرب ، وبادهتم الامور ) إلى قولها عليها السلام ( حتى دارت لكم بنا رحى الاسلام ، ودر حلب البلاد وخبت نيران الحرب ) يقال : بدهه بأمر أي استقبله به ، وبادهه : فاجاه .
(7) كلمة ( اني ) ظرف مكان بمعنى ( أين ) وقد يكون بمعنى ( كيف ) أي من اين حرتم وما كان منشأه ؟ و ( جرتم ) اما بالجيم من الجور وهو الميل عن القصد والعدول عن الطريق ، أي لماذا تركتم سبيل الحق بعد ما تبين لكم ، او بالحاء لمهملة المضمومة من الحور بمعنى الرجوع او النقصان ، يقال : ( نعوذ بالله من الحور بعد الكور ) أي من النقصان بعد الزيادة ، واما بكسرها من الحيرة .
(8) النكوص : الرجوع إلى الخلف .
(9) التوبة : 13 .
(10) نكث العهد ، بالفتح : نقضه والإيمان جمع يمين وهو القسم ، المشهور بين المفسرين ان الآية نزلت في اليهود الذين نقضوا عهودهم ، وخرجوا مع الاحزاب ، وهموا باخراج الرسول من المدينة ، وبدأوا بنقض العهد والقتال ، وقيل : نزلت في مشركي قريش وأهل مكة حيث نقضوا ايمانهم التي عقدوها مع الرسول والمؤمنين على ان لا يعاونوا عليهم اعدائهم ، فعاونوا بني بكر على خزاعة ، وقصدوا اخراج الرسول صلى الله عليه وآله من مكة حين تشاوروا بدار الندوة وأتاهم ابليس بصورة شيخ نجدي ـ إلى اخر مامر في القصة ـ ، فهم بدأوا بالمعاداة والمقاتلة في هذا الوقت ، أو في يوم بدر ، او بنقض العهد ، والمراد بالقوم الذين نكثوا ايمانهم في كلامها ـ صلوات الله عليها ـ اما الذين نزلت فيهم الآية ، فالغرض بيان وجوب قتال الغاصبين للامامة ولحقها ، الناكثين لما عهد اليهم الرسول صلى الله عليه وآله في وصيه عليه السلام وذوي قرباه وفي أهل بيته كما وجب بأمره سبحانه قتال من نزلت الآية فيهم ، او المراد بهم الغاصبون لحق هل البيت عليهم السلام ، فالمراد بنكثهم ايمانهم نقض ما عهدوا إلى الرسول حين بايعوه من الانقياد له في اوامره والانتهاء عند نواهيه وان لا يضمروا له العداوة ، فنقضوه وناقضوا ما امرهم به ، والمراد بقصدهم بقصدهم اخراج الرسول عزمهم على اخراج من كنفس الرسول وقائم مقامه بامر الله وامره عن مقام الخلافة ، وعلى ابطال اوامر ووصاياه في أهل بيته النازل منزلة اخراجه من مستقره وحينئذ يكون من قبيل الاقتباس ، وفي بعض الروايات : ( لقوم نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدأوكم اول مرة اتخشو نهم ) .
فقوله ( لقوم ) متعلق بقوله ( تخشونهم ) .

الاسرار الفاطمية _ 491 _

  ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض (1) ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض (2) ، وخلوتم بالدعة (3) ، ونجوتم من الضيق بالسّعة ، فمججتم ما وعيتم (4) ، ودسعتم الذي تسوّغتم (5) ، ( فإن تكفروا (6) أنتم ومن في الأرض جميعاً فإنّ الله لغني

---------------------------
(1) الرؤية هنا بمعنى العلم أو بالنظر بالعين ، وأخلد إليه : ركن ومال ، والخفض بالفتح : سعة العيش .
(2) المراد بمن هو احق بالبسط والقبض امير المؤمنين صلوات الله عليه ، وصيغة التفضيل مثلها في قوله تعالى : ( قل اذلك خير ام جنة الخلد ) .
(3) خلوت الشيء : انفردت به واجتمعت معه في خلوة ، والدعة : الراحة والسكون .
(4) مج الشراب من فيه : رمي به ، و ( وعيتم ) أي حفظتم .
(5) الدسع ، كالمنع : الدفع والقيء واخراج البعير جرته إلى فيه ، وساغ الشراب يسوغ سوغا : اذا سهل مدخله في الحلق ، وتسوغه : شربه بسهولة .
(6) صيغة ( تكفروا ) في كلامها عليها السلام اما من الكفران وترك الشرك كما هو الظاهر من سياق الكلام المجيد حيث قال تعالى : ( واذ تأذن ربكم لئن شكرتم لا زيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي بالمعنى الاخص ، والتغيير في المعنى لاينافي الاقتباس ، مع ان في الآية ايضا يحتمل هذا المعنى ، والمراد ان تكفروا انتم ومن في الارض جميعا من الثقلين فلا يضر ذلك إلا انفسكم فانه سبحانه غني عن شكركم وطاعتكم ، مستحق للحمد في ذاته ، او محمود تحمده الملائكة بل جميع الموجودات بلسان الحال ، وضرر الكفران عائد اليكم حيث حرمتم من فضله تعالى ومزيد انعامه واكرامه ، والحاصل انكم انما تركتم الإمام بالحق ، وخلعتم بيعته من رقابكم ، ورضيتم ببيعة ابي بكر لعلمكم بأن امير المؤمنين عليه السلام لايتهاون ولا يداهن في دين الله ولا تأخذه في الله لومة لاثم ، ويأمركم بارتكاب الشدائد في الجهاد وغيره ، وترك ما تشتهون من زخارف الدنيا ، ويقسم الفيء بينكم بالسوية ، ولايفضل الرؤساء والأمراء ، وان ابابكر رجل سلس القياد ، مداهن في الدين لارضاء العباد ، فلذا رفضتم الإيمان ، وخرجتم عن طاعته سبحانه إلى طاعة الشيطان ، ولا يعود وباله إلاّ اليكم ، وفي الكشف : ( إلاّ وقد أرى ـ ان قد اخلدتم إلى الخفض وركنتم إلى الدعة فمججتم الذي أوعيتم ، ولفظتم الذي سوغتم ) وفي رواية ابن ابي طاهر : ( فعجتم عن الدين ) ، يقال : ركن إليه ـ بفتح الكاف ـ وقد يكسرت أي مال إليه وسكن .
وقال الجوهري : ( وعجت بالمكان اعوج أي أقمت به ، وعجت غيري ، يتعدى ولا يتعدى ، وعجت البعير : عطفت رأسه بالزمام ، والعايج : الواقف ، وذكر ابن الاعرابي : فلان ما يعوج عن شي أي ما يرجع عنه ) .

الاسرار الفاطمية _ 492 _

  حميد ) (1) ألا وقد قلت ما قلت على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم (2) ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم (3) ، ولكنها فيضة النفس (4) ، ونفثة الغيظ (5) ، وخور القنا (6) ، وبثّة الصدور (7) ، وتقدمة الحجّة (8) .
  فدونكموها فاحتقبوها (9) دبرة الظّهر (10) ، نقبة الخفّ (11) باقية العار (12) ، موسومة بغضب الله وشنار الأبد (13) ، موصولة بنار الله الموقدة (14) التي تطلع على

---------------------------
(1) إبراهيم : 8 وفيها ( إن تكفروا ) .
(2) الخذالة : ترك النصر ، و ( خامرتكم ) أي خالطتكم .
(3) الغدر : ضد الوفاء ، واستشعره أي لبسه ، والشعار : الثوب الملاصق اللبدن .
(4) الفيض في الاصل كثرة الماء وسيلانه ، يقال : فاض الخبر أي شاع ، وفاض صدره بالسر أي باح به واظهره ، ويقال : فاضت نفسه أي خرجت روحه ، والمراد به هنا اظهار المضمر في النفس لاسيتلاء الهم وغلبة الحزن .
(5) النفث بالضم شبيه بالنفخ ، وقد يكون للمغتاط تنفس عال تسكينا لحر القب واطفاء لناثرة الغضب .
(6) الخور ، بالفتح والتحريك : الضعف ، ولاقنا : جمع قناة وهي الرمح ، وقيل : كل عصا مستوية او معوجة قناة ، ولعل المراد بخور القنا ضعف النفس عن الصبر على الشدة وكتمان الضر او ضعف ما يعتمد عليه في النصر على العدو ، والأوّل انسب .
(7) البث : النشر والاظهار والهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي يفرقه .
(8) تقدمة الحجة : اعلام الرجل قبل وقت الحاجة قطعا لاعتذاره بالغفلة والحاصل ان استصاري منكم وتظلمي لديكم واقامة الحجة عليكم لم يكن رجاء للعون والمظاهرة ، بل تسلية للنفس وتسكينا للغضب واتماما للحجة ، لئلا تقولوا يوم القيامة ( انا كنا عن هذا غافلين ) .
(9) الحقب ، بالتحريك : حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير ، يقال : احقبت البعير ، أي شددته به ، وكل ماشد في مؤخر رحل او قتب فقد احتقب ، ومنه قيل : احتقب فلان الاثم كأنه جمعه واحتقبه من خلفه ، فظهر ان الانسب في هذا المقام ( أحقبوها ) بصيغة الافعال ، أي شدوا عليها ذلك ، وهيأواها للركوب ، لكن فيما وصل الينا من الروايات على بناء الافتعال .
(10) الدبر ، بالتحريك : الجرح في ظهر البعير ، وقيل : جرح الدابة مطلقاً .
(11) النقب ، بالتحريك : رقة خف البعير .
(12) العار الباقي : عيب لا يكون في معرض الزوال .
(13) وسمته وسما وسمة : اذا اثرت فيه بسمة وكي : والشنار : العيب والعار .
(14) نار الله الموقدة : المؤججة على الدوام ، والاطلاع على الفئدة : اشرافها على القلوب بحيث يبلغ المها ، كما يبلغ ظواهر البدن ، وقيل : معناه ان هذه النار تخرج ، الباطن إلى الظاهر بخلاف نيران الدنيا ، وفي الكشف ( انها عليهم مؤصدة ) والمؤصدة : المطبقة .

الاسرار الفاطمية _ 493 _

  الأفئدة ، فبعين الله ما تفعلون (1) ( وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب (2) ينقلبون (3) ) .
  وأنا ابنة نذير لكم (4) بين يدي عذاب شديد ، ( فاعملوا (5) إنّا عاملون وانتظروا إنّا منتظرون )(6) .
  فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان ، فقال : يا ابنة رسول الله ، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً ، رؤوفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً : فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخاً لبعلك دون الأخلاء ، آثره على كل حميم ، وساعده في كل أمر جسيم ، لا يحبّكم إلاكل سعيد ، ولا يبغضكم إلا كل شقي : فأنتم عترة رسول الله صلى الله عليه وآله الطيبون ، والخيرة المنتجبون ، على الخير أدلّتنا ، وإلى الجنّة مسالكنا ، وأنت ـ يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء ـ صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودةٍ عن حقك ، ولا مصدودةٍ عن صدقك ، ووالله ، ما عدوت رأي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ( نحن معاشر الأنبياء لا نوّرث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً ، وإنما نورّث والحكمة ، والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة فلوليّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه ) .
  وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسّلاح يقابل به المسلمون ، ويجاهدون الكفار ، ويجالدون المردة (7) ثم الفجّار ، وذلك بإجماع من المسلمين لم أتفرّد به وحدي ، ولم

---------------------------
(1) أي متلبس بعلم الله اعمالكم ويطلع عليها كما يعلم احدكم ما يراه ويبصره ، وقيل في قوله تعالى : ( تجري باعيننا ) ان المعنى تجري بأعين اولياؤنا من الملائكة والحفظة .
(2) المنقلب : المرجع والمنصرف ، ( أيّ ) منصوب على انه صفة مصدر محذوف والعامل فيه ( ينقلبون ) لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه وانما يعمل فيه ما بعده والتقدير : ( سيعلم الذين ظلموا ينقلبون انقلابا أي انقلاب ) .
(3) الشعراء : آية 227 .
(4) أي انا ابنة من انذركم بعذاب الله على ظلمكم ، فقد تمت الحجة عليكم .
(5) الأمر في ( اعلموا ) و ( انتظروا ) للتهديد .
واما قول الملعون : ( الرائد لا يكذب اهله ) * فهو مثل استشهد به في صدق الخبر الذي افراه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الرايد : من يتقدم القوم يبصر لهم الكلاء ومساقط الغيث ، جعل نفسه لاحتماله الخلافة التي هي الرياسة العامة بمنزلة الرائد للامنة الذي يجب عليه ان ينصحهم ويخبرهم بالصدق .
* هذه الفقرة غير موجودة في الخطبة .
(6) اقتباس من سورة هود : اية 121 ، و 122 .
(7) المجالدة : المضاربة بالسيوف .

الاسرار الفاطمية _ 494 _

  أستبد (1) بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالي ، ومالي هي لك وبين يديك ، لا نزوي عنك (2) ولا ندّخر دونك ، ونت سيدة أمّة أبيك ، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا يدفع ما لك من فضلك ، ولا يوضع من فرعك وأصلك ، (3) حكمك نافذ فيما ملكت يدأي ، فهل ترين (4) أن اخالف في ذلك أباك صلى الله عليه وآله ؟
  فقالت عليها السلام : سبحان الله ! ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كتاب الله صادفاً (5) ، ولا لأحكامه مخالفاً ، بل كان يتّبع أثره (6) ، ويقفو سوره (7) ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور (8) ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته (9) .
  هذا كتاب الله حكماً عدلاً ، وناطقاً فصلاً ، يقول : ( يرثني ويرث من آل يعقوب ) ، ( وورث سليمان داود ) فبيّن عزّ وجلّ فيما وزّع عليه من الأقساط ، وشرّع من الفرايض والميراث ، وأباح من حظّ الذّكران والإناث ما أزاح علّة المبطلين (10) ، وأزال التّظنّي والشبهات في الغابرين (11) ، كلا ( بل سؤّلت لكم أنفسكم (12) أمراً فصبر جميل (13) والله المستعان على

---------------------------
(1) استبد فلان بالرأي ، أي انفرد به واستقل .
(2) أي لانقبض ولانصرف .
(3) أي لانحط درجتك ولا ننكر فضل اصولك واجدادك وفروعك واولادك .
(4) ترين : من الرأي بمعنى الاعتقاد .
(5) الصادف عن الشيء : المعرض عنه .
(6) الاثر ، بالتحريك وبالكسر ، اثر القدم .
(7) القفو : الاتباع والسور بالضم : كل مرتفع عال ، ومنه سور المدينة ، ويكون جمع سورة وهي كل منزلة من البناء ، ومنه سورة القرآن ، لأنها منزلة بعد منزلة ، وتجمع على سور بفتح الواو ، وفي العبارة يحتملها ، والضماير المجرورة تعود إلى الله تعالى أو إلى كتابه والثاني اظهر .
(8) الاعتدال : ابداء العلة والاعتذار ، والزور : الكذب .
(9) البغي : الطلب ، والغوايل : المهالك والدواهي اشارات عليها السلام بذلك إلى مادبروا ـ لعنهم الله ـ في اهلاك النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستيصال أهل بيته عليهم السلام في العقبتين وغيرهما مما أوردناه متفرقا .
أقول : سيأتي الكلام في مواريث الأنبياء في باب المطاعن ان شاء الله تعالى ، والتوزيع : التقسيم ، والقسط بالكسر : والحصة ولنصيب .
(10) الازاحة : الاذهاب والابعاد .
(11) التظني : اعمال الظن واصله التظنن ، والغابر ، الباقي : وقد يطلق على الماضي .
(12) التسويل : تحسين ماليس بحسن وتزيينه وتحبيبه إلى الإنسان ليفعله او يقوله : وقيل : هو تقدير معنى في النفس على الطمع في تماهه .
(13) أي فصبري جميل أو الصبر الجميل اولى من الجزع الذي لا يغني شيئا ، وقيل : انما يكون الصبر جميلا اذا قصد به وجه الله تعالى وفعل للوجه الذي وجب ، ذكره السيد المرتضى رضى الله عنه .

الاسرار الفاطمية _ 495 _

  ما تصفون ) (1) .
  فقال أبو بكر صدق الله ورسوله ، وصدقت ابنته ، انت معدن الحكمة ، وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين وعين الحجّة ، لا أبعد صوابك ، ولا أنكر خطابك (2) هؤلاء المسلمون بيني وبينك ، قلّدوني ما تقلّدت ، وباتّفاق منهم أخذت ما أخذت (3) غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر (4) ، وهم بذلك شهود .
  فالتفتت فاطمة عليها السلام وقالت : معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل (5) ، المغضية (6) على الفعل القبيح الخاسر ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (7) ) (8) كلا بل ران على قلوبكم (9) ما أسأتم من أعمالكم ، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ، ولبئس ما تأوّلتم (10) ، وساء ما به أشرتم (11) ، وشرّ ما عنه اعتضتم (12) ، لتجدنّ ـ والله ـ محمله ثقيلاً (13) ، وغبّه وبيلاً (14) إذا كشف لكم الغطاء ، وبان ما وراءه

---------------------------
(1) يوسف : آية 18 .
(2) من المصدر المضاف إلى الفاعل .
(3) مراده بما تقلدوا ما اخذ فدك او الخلافة ، أي اخذت الخلافة بقول المسلمين واتفاقهم فلزمني القيام بحدودها التي من جملتها اخذ فدك ، للحديث المذكور .
(4) المكابرة : المغالبة والاستبداد والاستيثار : الانفراد بالشيء .
(5) القيل بمعنى القول : وكذا القال ، وقيل : القول في الخير ، والقيل والقال في الشر ، وقيل : القول مصدر ، والقيل والقال اسمان له .
(6) الاغضاء : ادناء الجفون ، واغضى على الشيء ، أي سكت ورضى به .
(7) روي عن الصادق والكاظم عليهما السلام في الآية : ان المعنى : أفلا يتدبرون القرآن فيقضوا بما عليهم من الحق ؟ وتنكير القلوب لا رادة قلوب هؤلاء ومن كان مثلهم من غيرهم .
(8) محمد : آية 24 .
(9) الرين : الطبع والتغطية ، واصله الغلبة .
(10) التأول والتاويل : التصيير والارجاع ونقل الشيء عن موضعة ، ومنه تأويل الالفاظ أي نقل اللفظ عن الظاهر .
(11) الاشارة : الأمر بأحسن الوجوده في أمر .
(12) شرّ ـ كفرّ ـ بمعنى ساء ـ ولاعتياض : أخذ العوض والرضاء به ، والمغنى : ساء ما اخذتم منه عوضا عما تركتم .
(13) المحمل ـ كمجلس ـ مصدر .
(14) الغب ، بالكسر : العاقبة ، والوبال ، في الاصل : الثقل والمكروه ، ويراد به في عرف الشرع عذاب الاخرة ، والعذاب الوبيل : الشديد .

الاسرار الفاطمية _ 496 _

  الضراء (1) .
  ( بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون (2) ) (3) و ( خسر هنالك المبطلون (4) ) (5) .
  ثم عطفت على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالت : (6)
قـد كـان بـعدك أنـباء iiوهـنبثة      لـو كـنت شاهدها لم تكبر iiالخطب
إنّـا  فـقدناك  فـقد الأرض iiوابلها      واختلّ قومك فاشهدهم وقد نكبوا (7)
وكـل  أهـل  لـه قـربى iiومنزلة      عند  الإله على الأدنين مقترب (8) ii

---------------------------
(1) الضراء ، بالفتح والتخفيف : الشجر الملتف كما مر ، يقال : توارى الصيد مني في ضراء ، والوراء يكون بمعنى خلف ، وبالاول فسر قوله تعالى : ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) .
ويحتمل ان تكون الهاء زيدت من النساخ ، او الهمزة ، فيكون على الاخير بتشديد الراء من قولهم ( وري الشي تورية ) أي اخفاه ، وعلى التقادير فالمعنى : وظهر لكم ما ستره عنكم الضراء .
(2) اقتباس من سورة الزمر ، 47 .
(3) أي ظهر لكم من صنوف العذاب ما لم تكونوا تنتظرونه ولا تظنونه واصلا اليكم ولم يكن في حسبانكم .
(4) الغافر : آي 78 .
(5) المبطل : صاحب الباطل ، من ابطل الرجل : اذا اتى بالباطل .
(6) في الكشف : ( ثم التفتت إلى قبر ابيها متمثلة بقول هند ابنة اثاثة ) ثم ذكر الابيات .
(7) قال في النهاية : ( الهنبثة : واحدة الهنابث ، وهي الامور الشداد المختلفة ، والهنبثة : الاختلاط في القول ، والنون زائدة ( وذكر ) فيه : ان فاطمة عليها السلام قالت بعد موت النبي صلى الله عليه وآله : ( قد كان بعدك انباء ) إلى اخر البيتين ، إلاّ انه قال : ( اشهدهم ولا تغب ) .
والشهود : الحضور ، والخطب ، بالفتح : الأمر الذي تقع فيه المخاطبة ، والشأن والحال ، والوابل : المطر الشديد ونكب فلان عن الطريق ـ كنصر وفرح ـ أي عدل ومال .
(8) القربى ، في الاصل : القرابة في الرحم ، والمنزلة : المرتبة والدرجة ، ولا تجمع ، والادنين : هم الاقربون ، واقترب أي تقارب ، وقال في مجمع البيان : ( في اقترب زيادة مبالغة على قرب ، كما ان في اقتدر زيادة مبالغة على قدر ) ويمكن تصحيح تركيب البيت وتأويل معناه على وجوه :
الأوّل ، وهو الاظهر : ان جملة ( له قربى ) صفة لاهل ، والتنوين في ( منزلة ) للتعظيم ، والظرفان متعلقان بالمنزلة لما فيها من معنى الزيادة والرجحان ، و ( متقرب ) خبر لكل ، أي ذو القرب الحقيقي ، اوعند ذي الاهل كل أهل كانت له مزية وزيادة على غيره من الاقربين عنه الله تعالى .
والثاني : تعلق الظرفين بقولها ( متقرب ) أي كل له قرب ومنزلة من ذي الاهل فهو بين عند الله تعالى مقترب مفضل علي ساير الادنين .
والثالث : تعلق الظرف الأوّل بالمنزلة ، والثاني بالمقترب ، أي كل أهل اتصف بالقربى بالرجل وبالمنزلة عند الله ، فهو مفضل على من هو أبعد منه .
الاحتمالات : ان يكون جملة ( له قربى ) خبرا للكل ، و ( مقترب ) خبرا ثانيا ، وفي الظرفين يجري الاحتمالات السابقة ، والمعنى ، ان كل أهل نبي من الأنبياء له قرب ومنزلة عند الله ومفضل على ساير الاقارب عند الامة .

الاسرار الفاطمية _ 497 _

أبـدت رجـال لنا نجوى iiصدورهم      لمّا مضيت وحالت دونك التّرب (1)
تـجهّمتنا رجـال واسـتخفّ iiبـنا      لمّا فقدت وكل الأرض مغتصب (2)
وكـنت بـدراً وقـوراً يستضاء iiبه      عـليك تـنزل من ذي العزة iiالكتب
وكـان  جـبريل  بـالآيات iiيونسنا      فـقد فقدت فكل الخير محتجب (3) ii
فـليت قـبلك كـان الموت iiصادفنا      لمّا مضيت وحالت دونك الكتب (4) ii
إنّـا رزئـنا بـما لم يرز ذو iiشجن      مـن  البريّة لا عجم ولا عرب (5) ii
  ثم انكفأت عليها السلام وأمير المؤمنين عليه السلام يتوقع رجوعها إليه ، ويتطلع طلوعها عليه (6) .
  فلما استقرت بها الدار (7) قالت لأمير المؤمنين عليه السلام : يابن أبي طالب ! اشتملت شملة الجنين (8) .

---------------------------
(1) بدا الأمر بدواً : ظهر ، وابداه : أظهر ، والنجوى : الاسم من نجوته ، اذا ساررته ، ونجوى صدورهم : ما أضمروه في نفوسهم من العداوة ولم يتمكنوا من اظهاره في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي بعض النسخ : ( فحوى صدورهم ) ، وفحوى القول : معناه ، ولم يسمع لسايرها بجمع انتهى .
فيمكن ان يكون بصيغة المفرد ، والتأنيث بتأويل الأرض ، كما قيل ، والاظهر انه بضم التاء وفتح الراء : جمع تربة ، قال في مصباح اللغة : ( التربة : المقبرة ، والجمع : ترب ، مثل غرفة وغرف ) ، وحال الشيء بيني وبينك أي منعني من الوصول اليك ، ودون الشيء : قريب منه ، يقال : دون النهر جماعة ، أي قبل ان تصل إليه .
(2) التهجم : الاستقبال بالوجه الكريه ، والمغتصب على بناء المفعول : المغصوب .
(3) المحتجب على بناء الفاعل .
(4) صادفه : وجده ولقيه . والكثب ، بضمتين : جمع كثيب وهو التل من الرمل .
(5) الرزء ، بالضم مهموزا : المصيبة بفقد الاعزة ، ورزيتا على بناء المجهول ، والشجن بالتحريك : الحزن ، وفي القاموس : ( العجم ، بالضم وبالتحريك ، خلاف العرب ) .
أقول : وجدت في نسخة قديمة لكشف الغمة منقولة من خط المصنف مكتوبا على هامشها بعد ايراد خطبتها ـ صلوات الله عليها ـ ما هذا لفظة : وجد بخط السيد المرتضى علم الهدى الموسوي ـ قدس الله روحه ـ انه لما خرجت فاطمة عليها السلام من عند أبي بكر ردها عن فدك استقبلها امير المؤمنين عليه السلام فجعلت تعنفه ثم قالت : اشتملت إلى اخر كلامها عليها السلام .
(6) الانكفاء : الرجوع ، وتوقعت الشيء واستوقته ، أي انتظرت وقوعه ، وطلعت على القوم : اتيتهم ، وتطلع الطلوع ، انتظاره .
(7) أي سكنت كانها اضطربت وتحركت لخروجها ، أو على سبيل القلب ، وهذا شايع ، يقال : استقرت نوى القوم واستقرت بهم النوى ، أي اقاموا .
(8) اشتمل بالثوب أي اداره على جسده كله ، والشملة ، بالفتح : كساء يشتمل به .
والشملة ، بالكسر ، هيئة الاشتمال ، فالشملة اما مفعول مطلق من غير الباب كقوله تعالى : ( نباتا ) او في الكلام حذف وايصال ، وفي رواية السيد : ( مشية الجنين ) وهي محل الولد في الرحم ، ولعلة اظهر ، والجنين : الولد مادام في البطن .

الاسرار الفاطمية _ 498 _

  وقعدت حجرة الظنين (1) نقضت قادمة الأجدل (2) ، فخانك ريش الاعزل (3) ، هذا ابن أبي قحافة (4) يبتزني نحيلة أبي وبلغة ابني (5) ، لقد أجهر في خصامي (6) ، وألفيته ألدّ في كلامي (7) ، حتى حبستني قيلة نصرها ، والمهاجرة وصلها (8) ، وغضّت الجماعة

---------------------------
(1) الحجرة ، بالضم : حظيرة الابل ، ومنه حجرة الدار ، والظنين ، المتهم ، والمعنى : اختفيت عن الناس الجنين ، وقعدت عن طلب الحق ونزلت منزلة الخائف المتهم ، وفي رواية السيد : ( الحجزة ) بالزاء المعجمة ، وفي بعض النسخ : ( قعدت حجزة الظنين ) ، وقال في النهاية : ( الحجزة : موضع شد الازار ، ثم قيل للازار حجزة ، للمجاورة ) ، وفي القاموس : ( الحجزة ، بالضم : معقد الازار ، ومن الفرس : مركب مؤخر الصفات بالحقو ) وقال : ( شدة الحجزة كناية عن الصبر ) .
(2) قوادم الطير : مقاديم ريشه ، وهي عشر في كل جناح ، واحدتها : قادمة ، والاجدل : الصقر .
(3) الاعزل الذي لاسلاح معه ، قيل : لعلها ـ صلوات الله عليها ـ شبهت الصقر الذي نقضت قوادمه ، بمن لا سلاح له ، والمعنى : تركت طلب الخلافة في أول الأمر قبل ان يتمكنوا منها ويشيدوا أركانها ، وظننت ان الناس لا يرون غيرك اهلا للخلافة ، ولا يقدمون عليك احدا ، فكنت كمن يتوقع الطيران من صقر منقوضة القوادم .
اقول : يحتمل ان يكون المارد انك نازلت الابطال ، وخض الاهوال ، ولم تبال بكثرة الرجال حتى نقضت شوكتهم ، واليوم غلبت من هؤلاء الضعفاء والارذال ، وسلمت لهم الأمر ولاتنازعهم ، وعلى هذا ، الاظهر انه كان في الاصل ( خاتك ) بالتاء المثناة الفوقانية فصحف ، قال الجوهري : ( خات البازي واختات ، أي انقض لياخذه ) وقال الشاعر : ( يخوتون اخرى القوم خوت الاجادل ) ، والخائتة : العقاب اذا انقضت فسمعت صوت انقضاضها .
والخوات : دوي جناح العقاب ، والخوات ، بالتشديد : ( الرجل الجريء ) ، وفي رواية السيد : ( نفضت ) بالفاء ، وهو يؤيد المعنى الأوّل .
(4) قحافة بضم القاف وتخفيف المهملة .
(5) الابتزار : الاستلاب واخذ الشيء بقهر وغلبة ، من البز بمعنى السلب ، والنحلة : فعلية مفعول ، من النحلة ـ بالكسر ـ بمعنى الهبة والعطية عن طيبة نفس من غير مطالبة او من غير عوض ، والبلغة بالضم : ما يتبلغ به من العيش يكتفي به ، وفي اكثر النسخ : ( بليغة ) بالتصغير ، فالتصغير في النحيلة ايضا انسب ، وابني اما تبخفيف الياء ، فالمراد به الجنس ، او تشديدها على التثنية .
(6) اجهاز الشيء : اعلانه ، والخصام : مصدر كالمخاصمة ، ويحتمل ان يكون جمع خصم ، أي اجهر العداوة او الكلام لي بين الخصام ، والأوّل اظهر .
(7) ( الفيته ) أي وجدته ، والالد : شديد الخصومة ، وليس فعلا ماضيا ، فان فعله على بناء المجرد ، * والاضافة في ( كلامي ) اما من قبيل الاضافة إلى المخاطب او إلى المتكلم ، و ( في ) للظرفية او السببية ، وفي رواية السيد ( هذا بني ابي قحافة ـ إلى قوله ـ لقد اجهد في ظلامتي ، والد في خصامتي ) .
قال الجزري : ( يقال جهد الرجل في الأمر ، اذا جد وبالغ فيه ، واجهد دابته ، اذا حمل عليها في السير فوق طاقتها ) .
* قد اتى فعله على بناء الافعال ايضا كما في القاموس وغيره .
(8) قلية ، بالفتح : اسم ام قديمة لقبيلتي الانصار ، والمراد بنو قيلة ، وفي رواية السيد : ( حين منعتني الانصار نصرها ) وموصوف المهاجرة الطائفة او نحوها ، والمراد بوصلها عونها .

الاسرار الفاطمية _ 499 _

  دوني طرفها (1) ، فلا دافع ولا مانع ، خرجت كاظمةً ، وعدت راعمةً (2) ، أضرعت خدّك (3) يوم أضعف حدّك (4) ، افترست الذئاب ، افترشت التراب (5) ، ما كففت قائلاً ، ولا أغنيت باطلاً (6) ، ولا خيار لي ، ليتني مت قبل هنيتي (7) ودون زلّتي (8) ، عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً (9) .

---------------------------
(1) الطرف ، بالفتح : العين ، وغضه : حفظه .
(2) في رواية السيد بعد قولها ( ولا مانع ولا ناصر ولا شافع ) خرجت كاظمة ، وعدت راغمة ( كظم الغيظ ) : تجرعه والصبر عليه ، ورغم فلان ، بالفتح : إذا ذل وعجز عن الإنتصاف ممن ظلمه ، والظاهر من الخروج ، الخروج من البيت وهو لا يناسب ( كاظمة ) إلاّ ان يراد بها الامتلاء من الغيظ فانه من لوازم الكظم ، ويحتمل أن يكون المراد الخروج من المسجد المعبر عنه ثانيا بالعود ، كما قيل في رواية السيد مكان ( عدت ) ( رجعت ) .
(3) ضرع الرجل ، مثلثة : خضع وذل ، وأضرعه غيره ، واسناد الضراعة إلى الخد ، لأنّه أظهر أفرادها وضع الخد على التراب ، أو لأنّ الذل يظهر في الوجه .
(4) اضاعة الشيء وتضييعه : اهماله واهلاكه ، وحد الرجل ، بالحاء المهملة : بأسه وبطشه ، وفي بعض النسخ بالجيم ، أي تركت اهتمامك وسعيك ، وفي رواية السيد : ( فقد أضعت جدك يوم اصرعت خدك ) .
(5) فرس الأسد فريسته ـ كضرب ـ وافترستها : دق عنقها ، ويستعمل في كل قتل ، ويمكن أن يقرأ بصيغة الغايب ، فالذئاب مرفوع ، والمعنى : قعدت عن طلب الخلافة ولزمت الأرض مع انك اسد الله والخلافة كانت فريستك ، حتى افترسها واخذها الذئب الغاصب لها ، ويحتمل ان يكون بصيغة الخطاب ، أي كنت تفترس الذئاب واليوم افترشت التراب ، وفي بعض النسخ : ( الذباب ) بالبائين الموحدتين ، جمع ذبابة ، فيتعين الأوّل ، وفي بعضها : ( افترست الذئاب ، وافترسك الذئاب ) ، وفي رواية السيد مكانهما : ( وتوسدت الوراء كالوزع ، ومستك الهناة والنزع ) ، والوراء بمعنى خلف والهناة : الشدة والفتنة ، والنزع : الطعن والفساد .
(6) الكف : المنع ، والاغناء : الصرف والكف ، يقال : اغن غني شرك ، أي اصرفه وكفه و ( و ) به فسر قوله سبحانه : ( انهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ) وفي رواية السيد : ( ولا أغنيت طائلا ) وهو أظهر .
قال الجوهري : ( يقال : هذا امر لا طائل فيه ، اذا لم يكن فيه غناء ومزية ) انتهى .
فالمراد بالغناء : النفع ، ويقال : ما يغني عنك هذا ، أي ما يجديك وما يفعك .
(7) الهنية بالفتح : العادة في الرفق والسكون ، ويقال : امش على هنيتك ، أي على رسلك ، أي ليتني مت قبل هذا اليوم الذي لابد لي من الصبر على ظلمهم ولامحصيص لي عن الرفق .
(8) الزلة ، بفتح الزاي كما في النسخ : الإسم من قولك : زللت في طين أو منطق ، إذا زلقت ، ويكون بمعنى السقطة ، والمراد بها عدم القدرة على دفع الظلم ، ولو كانت الكلمة بالذال المعجمة كان أظهر واوضح كما في رواية السيد ، فان فيها : ( والهفتاه ! ليتني مت قبل ذلتي ودون هنيتي ) .
(9) العذير بمعنى العاذر كالسميع ، أو بمعنى العذر كالأليم ، وقولها ( منك ) أي من أجل الإساءة إليك وايذائك ، و ( عذيري الله ) مرفوعان بالإبتدائية والخبرية ، و ( عادياً ) أما من قولهم : عدوت فلانا عن الأمر أي صرفته عنه ، أو من العدوان بمعنى تجاوز الحد ، وهو حال عن ضمير المخاطب ، أي الله يقيم العذر من قبلي في إساءتي اليك حال صرفك المكارة ودفعك الظلم عني ، أو حال تجاوزك الحد في القعود عن نصري ، أي عذري في سوء الأدب إنك قصرت في إعانتي والذب عني ، والحماية عن الرجل : الدفع عنه ، ويحتمل ان يكون ( عذيري ) منصوبا كما هو الشايع في هذه الكلمة ، و ( الله ) مجروراً بالقسم ، يقال : عذيرك من فلان أي هات من يعذرك فيه ، ومنه قول امير المؤمنين عليه السلام حين نظر إلى ابن ملجم ـ لعنه الله ـ : ( عذيرك من حليلك من مراد ) ، والأوّل أظهر .

الاسرار الفاطمية _ 500 _

  ويلاي في كل شارقٍ (1) ، مات العمد (2) ، ووهت العضد K شكواي إلى أبي ، وعدو أي إلى ربّي (3) .
  اللهم أنت أشدّ قوة وحولاً (4) ، وأحدّ بأساً وتنكيلاً (5) .
  فقال أمير المؤمنين عليه السلام : لا ويل عليك ، الويل لشانئك (6) ، نهنهي عن وجدك يا ابنة الصّفوة (7) وبقيّة النبوة ، فما ونيت عن ديني ، ولا أخطأت مقدوري (8) ، فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون ، كفيلك مأمون ، وما أعد لك أفضل مما قطع عنك (9) .

---------------------------
(1) قال الجوهري : ( ويل ) كلمة مثل ويح إلاّ انها كلمة عذاب ، يقال : ( ويله وويلك وويلي ، وفي الندبة ويلاه ) .
ولعله جمع بين الف الندبة وياء المتكلم ، ويحمتل ان يكون بصيغة التثنية ، فيكون مبتدأ والظرف خبره ، والمراد به تكرر الويل .
وفي رواية السيد : ( ويلاه في كل شارق ، ويلاه في كل غارب ، ويلاه مات العمد ، وذل العضد ـ إلى قولها عليها السلام ـ اللّهمّ أنت أشد قوة وبطشا ) .
والشارق : الشمس ، أي عند كل شروق شارق وطلوع صباح كل يوم ، قال الجوهري : ( والشرق : المشرق ، والشرق : الشمس ، يقال : طلع الشرق ، ولا آتيك ما ذر شارق ، وشرقت الشمس تشرق شروقا ، وشرقا ، أيضا ، أي طلعت اشرقت أي أضاءت ) .
(2) العمد ، بالتحريك وبضمتين : جمع العمود ، ولعل المراد هنا ما يعتمد عليه في الامور .
(3) الشكو : الإسم من قولك : شكوت فلانا شكاية ، والعدوى : طلبك إلى وآل لينتقم لك ممن ظلمك .
(4) الحول : القوة والحيلة والدفع والمنع ، والكل هنا محتمل .
(5) البأس : العذاب ، والتنكيل : العقوبة ، وجعل الرجل نكالا وعبرة لغيره .
(6) العذاب والشر لمبغضك ، والشناءة : البغض ، وفي رواية السيد : ( لمن احزنك ) .
(7) نهنهت الرجل عن الشيء فتنهنه ، أي كففته وزجرته فكف ، والوجد : الغضب أي امنعي نفسك عن غضبك ، وفي بعض النسخ : ( تنهنهي ) وهو أظهر ، والصفوة ، مثلثة : خلاصة الشيء وخياره .
(8) الوني ، كفتى : الضعف والفتور والكلال ، والفعل كوقى يقي ، أي ماعجزت عن القيام بما أمرني به ربيء وما تركت ما دخل تحت قدرتي .
(9) البلغة : بالضم : ما يتبلغ به من العيش ، والضامن والكفيل للرزق هو الله تعالى ، ومااعد لها هو ثواب الاخرة .

الاسرار الفاطمية _ 501 _

  فاحتسبي الله (1) ، فقالت : حسبي الله ، وأمسكت (2) .

كلامها عليها السلام مع نساء المهاجرين والأنصار عند ما يعدنها
  روى العلامة المجلسي رحمه الله عن الشيخ الثقة الصدوق رحمه الله : حدّثنا أحمد بن الحسن القطّان ، قال : حدثنا عبد الرحمان بن محمد الحسيني ، قال : حدثنا أبو الطيب محمد بن الحسين بن حميد اللخمي ، قال : حدثنا أبو عبدالله محمد بن زكرياً ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمان المهلّبي ، قال : حدثنا عبدالله بن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن عبدالله بن الحسن ، عن امه فاطمة بنت الحسين عليه السلام قالت : لما اشتدت علة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغلبها ، اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار ، فقلت لها ، يا بنت رسول الله : كيف أصبحت عن علّتك ؟ فقالت عليها السلام : أصبحت والله عائفة لدنياكم (3) ، قالية رجالكم (4) ، لفظتهم قبل أن عجمتهم (5) ، وشنئتهم بعد أن سبرتهم (6) ، فقبحاً

---------------------------
(1) الاحتساب : الاعتداد ، ويقال لمن ينوي بعمله وجه الله تعالى : احتسبه ، أي اصبري وادخري ثوابه عند الله تعالى ، وفي رواية السيد : ( فقال لها امير المؤمنين عليه السلام : لاويل لك ، بل الويل لمن احزنك ، نهنهي عن وجدك يابنية الصفوة وبقية النبوة ، فما ونيت عن حظك ، ولا اخطات ( مقدرتي ) ، فقد ترين ، فان ترزئي حقك ، فرزقك مضمون ، وكفيلك مأمون ، وما عند الله خير لك مما قطع عنك ، فرفعت يدها الكريمة وقالت : رضيت وسلمت ) ، قال في القاموس : ( رزأه ماله ـ كجعله وعلمه ـ رزءاً بالضم : اصاب منه شيئاً ) .
(2) ( بحار الانوار ) ج 8 ، ص 109 ـ 112 ، ط الكمباني .
وانما اوردنا الخطبة من نفس المصدر لامن ( الاحتجاج ) لأن الالفاظ المفسرة كانت على نسخة المؤلف ( ره ) ، ولها اختلاف معتد به مع النسخة المطبوعة من ( الاحتجاج ) وقد اشير إلى موارده في ضمن الشرح .
(3) عائفة : أي كارهة ، يقال : عاف الرجل الطعام يعافه عيافاً أذا كرهه .
(4) القالية : المبغظة ، قال تعالى : ( ما ودعك ربك وما قلى ) .
(5) لفظت الشيء من فمي : أي رميته وطرحته ، العجم : العض ، تقول : عجمت العود اعجمه ـ بالضم ـ اذا عضضته .
(6) شنأة ، كمنعه وسمعه : أبغضه ، وسبرتهم : أي اختبرتهم ، فعلى ما في اكثر الروايات المعنى : طرحتهم وأبغضتهم بعد امتحانهم ومشاهدة سيرتهم واطوارهم ، وعلى رواية الصدوق المعنى : اني كنت عالمة بقيح سيرته وسوء سريرتهم فطرحتهم ثم لما اختبرتهم شنأتهم وأبغضتهم ، أي تأكد انكاري بعد الاختبار ، ويحتمل ان يكون الأوّل اشارة إلى شناعة اطوارهم الظاهرة ، والثاني إلى خبث سرائرهم الباطنة .

الاسرار الفاطمية _ 502 _

  لفلول الحد (1) ، وخور القناة (2) ، وخطل الرأي (3) ، ( بئس قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ) (4) لا جرم لقد قلدتهم ربقتها ، وشننت عليهم غارها (5) ، فجدعاً وعقراً وسحقاً للقوم الظالمين (6) .
  ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة (7) ، وقواعد النبوة ، ومهبط الوحي الأمين ، والطبين بأمر الدنيا والدين (8) ، ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما نقموا من أبي الحسن (9) ، نقموا والله منه نكير سيفه (10) ، وشدّة وطئه (11) ، ونكال وقعته (12) ، وتنمّره في ذات الله عزّ وجلّ (13) .

---------------------------
(1) قبحا ، بالضم ، مصدر حذف فعله ، اما من قولهم : قبحه الله قبحا ، او من قبح بالضم قباحة ، فحرف الجر على الأوّل داخل على المفعول ، وعلى الثاني على الفاعل ، والفلول بالضم : جمع فل بالفتح ، وهو الثملة والكسر في حد السيف ، وحكي الخليل في ( العين ) انه يكون مصدراً ، ولعله انسب بالمقام ، وحد الشيء : شباته ، وحد الرجل باسه .
(2) الخور بالفتح وبالتحريك : الضعف ، والقناة : الرمح .
(3) الخطل بالتحريك : المنطق الفاسد المضطرب ، وخطل الرأي : فساده واضطرابه .
(4) المائدة : 80 .
(5) الشن : رش الماء رشا متفرقا والسن بالمهملة : الصب المتصل ، ومنه قولهم : شنت عليهم الغارة اذا فرقت عليهم الغارة اذا فرقت عليهم من كل وجه .
(6) الجدع قطع الانف او الاذن او الشفة ، وهو بالانف اخص ، ويكون بمعنى الحبس ، والعقر بالفتح : الجرح ، ويقال في الدعاء على الإنسان : عقراً له وحلقا ، أي عقر الله جسده وأصابه بوجع في حلقه ، واصابه بوجع في حقله ، واصل العقر : ضرب قوائم البعير او الشاة بالسيف ثم اتسع فيه فاستعمل في القتل والهلاك ، وهذه المصادر يجب حذف الفعل منها ، والسحق بالضم : البعد .
(7) ويح كلمة تستعمل في الترحم والتوجع والتعجب ، والزحزحه ، التنحية والتعبيد .
والزعزعة : بالتحريك ، والرواسي من الجبال : الثوابت الرواسخ ، وقواعد البيت : اساسه .
(8) الطبين : هو بالطاء المهملة والباء الموحدة : الفطن الحاذق .
(9) في كشف الغمة : ( وما الذي نقموا من ابي الحسن ) ، يقال : نقمت على الرجل كضربت ، وقال الكسائي : كعلمت لغة ، أي عتبت عليه وكرهت شيئا منه .
(10) التنكير : الانكار ، والتنكير : التغير عن حال يسرك إلى حال تكرهما ، والاسم : النكير ، وما هنا يحتمل المعنين ، والأوّل اظهر أي انكار سيفه فانه عليه السلام كان لا يسل سيفه إلاّ لتغيير المنكرات .
(11) الوطأة : الأخذة الشديدة والضغطة ، وأصل الوطيء : الدوس بالقدم ويطلق على الغزو والقتل لأنّ من يطأ الشيء فقد استقصى في هلاكه واهانته .
(12) النكال : العقوبة التي تنكل الناس ، والوقعة : صدمة الحرب .
(13) تنمر فلان : أي تغير وتنكر واوعد ، لأنّ النمر لا تلقاه ابداً إلاّ متنكراً غضبان ، ( في ذات الله ) ، قال الطيبي : ذات الشيء : نفسه وحقيقته ، والمراد ما اضيف إليه ، وقال الطبرسي في قوله تعالى : ( واصلحوا ذات بينكم ) : كناية عن المنازعة والخصومة ، والذات : هي الخلقة والبينة ، يقال : فلان في ذاته صالح : أي في خلقته وبينته ، يعني اصلحوا نفس كل شيء بينكم ، او اصلحوا حال كل نفس بينكم ، وقيل : معناه : واصلحوا حقيقة وصلكم ، وكذلك معنى اللهم اصلح ذات البين : أي اصلح الحال التي بها مجتمع المسلمون ، انتهى .
أقول فالمراد بقولها : في ذات الله ، أي في الله ولله ، بناء على ان المراد بالذات الحقيقة ، او في الامور والاحوال التي تتعلق بالله من دينه وشرعه وغير ذلك كقوله تعالى : ( انه عليم بذات الصدور ) أي المضمرات التي في الصدور .

الاسرار الفاطمية _ 503 _

  والله لو تكافوا عن زمام نبذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه لا عتلقه (1) ، ولسار بهم سيراً سجحاً (2) ، لا يكلم خشاشه (3) ، ولا يتعتع راكبه (4) ، ولأوزدهم منهلاً نميراً فضفاضاً (5) تطفح ضفّتاه (6) ولأصدرهم بطاناً (7) ، قد تحيرّ بهم الريّ (8) غير متحل منه بطائل إلا بغمر الماء (9) وردعة شررة الساغب (10) ، ولفتحت عليهم بركات من

---------------------------
(1) التكاف ، تفاعل من الكف : هو الدفع والصرف ، والزمام ككتاب : الخيط الذي يشد في البرة والخشاش ثم يشد في طرفه المقود ، وقد يسمى المقود زماماً ، ونبذه : أي طرحه .
وفي ( الصحاح ) : ( اعتلقه : أي احبه ) ولعله هنا بمعنى تعلق به وان لم اجد فيم عندنا من كتب اللغة .
(2) السجح ، بضمتين : اللين السهل .
(3) الكلم : الجرح والخشاش بكسر الخاء المعجمة : ما يجعل في انف البعير من خشب ويشد به الزمام ليكون اسرع لا نقياده .
(4) تعتعت الرجل : أي اقلقته وازعجته .
(5) المنهل : المورد ، وهو عين ماء ترده الابل في المراعي ، وتسمى المنازل التي في المفاوز على طرق السفار : مناهل ، لأنّ فيه ماء ، قاله الجوهري ، وقال : ماء نمير : أي ناجع ، عذبا كان او غيره ، وقال الصدوق نقلا عن الحسين بن عبدالله بن سعيد العسكري : النمير : الماء النامي في الجسد ( في الحشد ـ ظ ) ، وقال الجوهري : ( الروي سحابة عظيمة القطر ، شديدة الوقع ويقال : شربت شربا روياً ) والفضفاض : الواسع ، يقال : ثوب فضفاض ، وعيش فضفاض ، ودرع فضفاضة .
(6) تطفح : أي تمتليء حتى تفيض ، وضفتا النهر بالكسر وقيل : وبالفتح ايضاً : جانباه .
(7) بطن كعلم : عظم بطنه من الشبع ، ومنه الحديث : تغدو خماصاً وتروح بطاناً ، والمراد عظم بطنهم من الشرب .
(8) تحير الماء : أي اجتمع ودار كالمتحير ، يرجع اقصاه إلى ادناه ، ويقال : تحيرت الأرض بالماء ، اذا امتلأت ، ولعل الباء بمعنى في ، أي تحير فيهم الري ، او للتعدية ، أي صاروا حيارى لكثرة الري ، والرى بالكسر والفتح : ضد العطش .
وفي رواية الشيخ : ( قد خثر ) بالخاء المعجمة والثاء المثلثة : أي اثقلهم ، من قولك : اصبح فلا خاثر النفس أي ثقيل النفس غير طيب ولا نشيط .
(9) حلي منه بخير : كرضي : أي اصاب خيراً ، وقال الجوهري : ( قولهم : لم يحل منها بطائل ، أي يستفاد منها كثير فائدة ) ، والتحلي : التزين ، والطائل : الغناء والمزية والسعة والفضل .
(10) الردع : الكف والدفع ، والردعة : الدفعة منه ، وفي جميع الروايات سوى معاني : الاخبار : ( سورة الساغب ) وفيه شررة الساغب ، ولعله من تصحيف النساخ ، والشرر : ما يتطاير من النار ، ولا يبعد ان يكون من الشره بمعنى الحرص ، وسورة الشيء بالفتح : حدته وشدته ، والسغب : الجوع .

الاسرار الفاطمية _ 504 _

  السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون .
  ألا هلمّ فاسمع وما عشت أراك الدهر العجب (1) ، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث ! إلى أيّ سناد استندوا ، وبأيّ عروة تمسّكوا ، استبدلوا الذّنابى والله بالقوادم (2) ، والعجز بالكاهل (3) ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (4) ، ( أفمن يهدي إلى الحقّ أحق أن يتبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) (5) .
  أما لعمر إلهك (6) لقد لقحت (7) فنظرة ريث ما

---------------------------
(1) في رواية ابن ابي الحديد : ( ألا هلمن فاسمعن ، وما عشتن اراكن الدهر عجبا ، إلى أي لجأوا واستندوا ، وبأي عروة تمسكوا ؟ لبئس المولى ولبئس العشير ولبئس للظالمين بدلا ) .
قال الجوهري : ( هلم يا رجل ، بفتح الميم : بمعنى تعال ، يستوي فيه الواحد والجمع والتأنيث ، في لغة أهل الحجاز ، وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين : هلما ، وللجمع هلموا ، وللمرأة : هلمي ، وللنساء هلممن ، والأوّل افصح ، واذا ادخلت عليه النون الثقيلة قلت : هلمن يا رجل ، وللمرأة هلمن بكسر الميم ، وفي التثنية هلمان للمؤنث والمذكر جميعا ، وهلمن يا رجال بضم الميم ، وهلممنان يا نسوة ) انتهى ، وعلى الروايات الاخر الخطاب عام ، وما عشتن : أي اراكن الدهر شيئا عجيبا لا يذهب عجبه وغرابته مدة حياتكن ، او يتجدد لكن كل يوم امر عجيب متفرع على هذا الحادث الغريب .
(2) الذنابي : بالضم : ذنب الطائر ، ومنبت الذنب ، والذنابي ، في الطاائر اكثر استعمالا من الذنب ، وفي الفرس والبعير ونحوهما الذنب اكثر ، وفي جناح الطائر اربع ذنابى بعد الخوافي ، وفي الفرس والبعير ونحوهما الذنب اكثر ، وفي جناح الطائر اربع ذنابي بعد الخوافي وهي مادون الريشات العشر من مقدم الجناح التي تسمى قوادم ، والذنابي من الناس : السفلة والاتباع .
(3) العجز كالعضد : مؤخر الشيء ، يؤنث ويذكر ، وهو للرجل والمرأة جميعا ، والكاهل : الحارك ، وهو ما بين الكتفين ، وكاهل القوم : عمدتهم في المهمات وعدتم للشدائد والملمات .
(4) رغما ، مثلثة : مصدر رغم انفه أي لصق بالرغام ، بالفتح ، وهو التراب ، ورغم الانف يستعمل في الدل والعجز عن الانتصار ، والانقياد على كره ، والمعاطس جمع معطس بالكسر والفتح وهو الآنف ، وقال الجوهري : ( شعرت بالشيء أشعر به شعرا أي فطنت له ومنه قولهم : ليت شعري ، أي ليتني علمت ) ، واللجا محركة : الملاذ والمعقل كالملجأ ، ولجأت إلى فلان اذا استندت إليه واعتضدت به ، والسند : ما يستند إليه .
(5) يونس : 35 .
(6) في بعض نسخ ابن ابي الحديد : ( اما لعمر الله ) وفي بعضها : ( اما لعمر الهكن ) ، والعمر بالفتح والضم بمعنى : العيش الطويل ، ولا يستعمل في القسم الا العمر بالفتح ، ورفعه بالابتداء ، أي لعمر الله قسمي ، ومعنى عمر الله بقاؤه ودوامه .
(7) لقحت كعلمت : أي حملت ، والفاعل فعلتهم ، او فعالهم ، او الفتنة ، او الازمنة .

الاسرار الفاطمية _ 505 _

  تنتج (1) ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً (2) ، وذعافاً ممقراً (3) ، هناك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غب ما سنّ الأولون (4) ، ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً (5) .
  وطأمنوا للفتنة جأشاً (6) ، وأبشروا بسيف صارم (7) ، وهرج شامل (8) ، واستبداد من الظالمين (9) ، يدع فيئكم زهيداً (10) ، وزرعكم حصيداً (11) فياحسرتى لكم وأنّى بكم (12) ، وقد عمّيت ( قلوبكم ) عليكم أنلزمكموها (13) وأنتم لها كارهون (14) .

---------------------------
(1) النظرة بفتح النون وكسر الظاء : التأخير ، واسم يقوم مقام الانظار ، ونظرة اما مرفوع بالخبرية والمبتدأ محذوف كما في قوله : ( فنظرة إلى ميسرة ) أي فالواجب نظرة ونحو ذلك ، واما منصوب بالمصدرية ، أي انتظروا ( او انظروا ) نظرة قليلة ، والاخير اظهر كما اختاره الصدوق ، وريثما تنتج ، أي قدرما تنتج ، يقال : نتجت الناقة ـ على مالم يسم فاعله ـ تنتج نتاجا وقد نتجها اهلها نتجا ـ وانتجت الفرس : اذا حان نتاجها .
(2) القعب : قدح من خشب يروي الرجل ، او قدح ضخم ، واحتلاب طلاع القعب : هو ان يمتليء من اللبن حتى يطلع عنه ويسيل ، والعبيط : الطري .
(3) الذعاف كغراب : السم ، والمقر بكسر القاف : الصبر ، وربما يسكن ، وأمقر أي صار مرا .
(4) غب كل شيء : عاقبته .
(5) طاب نفس فلان بكذا : أي رضي به من دون ان يكرهه عليه احد ، وطابت نفسه عن كذاء أي رضي ببذله ، ونفسا ، منصوب على التمييز .
(6) في كتاب ناظر عين الغريبين : ( طأمنته : سكنته فاطمان ) .
والجأش مهموزا : النفس والقلب ، أي اجعلوا قلوبكم مطمئنة لنزول الفتنة .
(7) الصارم : القاطع ، والغشم : الظلم .
(8) الهرج : الفتنة والاختلاط ، وفي رواية ابن ابي الحديد : ( وقرح شامل ) فالمراد بشمول القرح ، اما للافراد او للاعضاء .
(9) الاستبداد بالشيء : التفرد به .
(10) الضمير المرفوع في ( يدع ) راجع إلى الاستبداد ، والفيء : الغنيمة والخراج وما حصل المسلمين من اموال الكفار من غير حرب ، والزهيد : القليل .
(11) الحصيد : المحصود ، وعلى رواية ( زرعكم ) كناية عن اخذ اموالهم بغير حق ، وعلى رواية ( جمعكم ) يحتمل ذلك ، وان يكون كناية عن قتلهم واستنصالهم .
(12) أي وانى تلحق الهداية بكم .
(13) عميت عليكم ، بالتخفيف : أي خفيف والتبست ، وبالتشديد على صيغة المجهول أي ، لبست ، وقرىء في الآية بهما ، والضمائر فيها ، قيل : هي مراجعة إلى الرحمة المعبر عن النبوة بها ، وقيل إلى البينة وقي المعجزة ، او اليقين والبصيرة في امر الله ، وفي المقام يحتمل رجوعها إلى رحمة الله الشاملة للامامة والاهتداء إلى الصراط المستقيم بطاعة امام العدل ، او إلى الإمامة الحقة ، وطاعة من اختاره الله وفرض طاعته ، او إلى البصيرة في الدين ونحوها .
(14) ( البحار ) 43 | 158 ـ 159 ، وقد اخذنا الشرح منه مع حذف الزوايد والمكررات واوردناه كالتعليقة كما فعلنا ذلك بشرح الخطبة الفدكية ، وقد اورد هذا الكلام جمع من الافذاذ من الخاصة والعامة وهم :
1 ـ ابن ابي الحديد المعتزلي المتوفى 655 في ( شرح النهج ) : 16 | 234 .
2 ـ ابن ابي طيفور احمد بن طاهر المتوفى 280 في ( بلاغات النساء ) 19 .
3 ـ ابن جرير بن رستم الطبري ، من اعلام القرن الرابع في ( دلائل الإمامة ) : 40 ـ 41 .
4 ـ الشيخ الثقة الصدوق ابن بابويه المتوفى 381 في ( معاني الأخبار ) : 354 ـ 355 .
5 ـ العلامة علي بن عيسى الاربلي قدس سره المتوفى 693 في ( كشف الغمة ) : 1 | 492 ـ 494 .
6 ـ الشيخ الجليل أبو منصور الطبرسي من اعلام القرن السادس ، في ( الاحتجاج ) : 1 | 147 ـ 149 .

الاسرار الفاطمية _ 506 _

  إن هذه الخطبة الفاطمية والدرة البيضاء لفي غاية الفصاحة ونهاية البلاغة من ناحية عذوبة ألفاظها وجميل محتواها وعظيم مضمونها الذي لابد للموالي والمخالف من الوقوف على مضمونها وطبيعة أهدافها التي أنشدتها الصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام والتي لم تخرج فيها عن حد الشرع المقدس بل سارت مع كل ما دعى إليه الرسول وأهل بيته الأطهار ، ففيها من الجلالة والنور بحيث لا بد من الإستضاءة من نورها الذي لو عرض على الظلمات لأضاءت منه ، ولو خوطب بها الجبال الشامخات لرأيتها خاشعة من بهاءها وجلالها ، وان كانت لم تترك الأثر الواضح على القلوب القاسية التي لم تمل إلى هداية بل كانت كالحجارة بل أن الحجارة لما يتفجر منها الماء الذي فيه حياة القلوب والنفوس ، فكانت سلام الله عليها في هذه الخطبة مظهرة لنور ثمار النبوة وعبق أرج الرسالة فهي عصن الدوحة المحمدية وحليلة العصمة العلوية ومجمع الأنوار الولائية فهي كلمة الله التامة وأم أبيها التي يفرغ لسانها عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي الصديقة الكبرى التي فطمت الخلق عن م معرفتها فضلاً عن معرفة أنوارها وكلامها الذي لا بد من الوقوف معه وتجلية أنواره ، ومعرفة أركانه وأهدافه فلذا لا بد من التعرض لأهداف هذه الخطبة لكي يتضح لنا برهانها الظاهر ، وكلامها المؤثر الذي ينبع م مشكاة النبوة المحمدية وظهر على لسان الأسرار الفاطمية .

الاسرار الفاطمية _ 507 _

أهداف خطبة الزهراء عليها السلام
  هناك مجموعة أهداف لتصلّب الزهراء في مواقفها :
  أوّلاّ ـ أرادت الزهراء استرجاع حقها المغصوب ، وهذا أمر طبيعي لكل إنسان غصب حقّه أن يطالب به بالطرق المشروعة .
  ثانياً ـ كان الحزب الحاكم قد استولى على جميع الحقوق السياسية والإقتصادية لبني هاشم ، وألغى جميع امتيازاتهم المادية والمعنوية ، فهذا عمر بن الخطاب يقول لابن عباس : أتدري ما منع قومكم ( أي قريش ) منكم بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت (1) ، هذا بالنسبة للخلافة ، وبالنسبة للأموال فقد منعوا بني هاشم فدك والميراث والخمس ـ أي سهم ذوي القربى ـ واعتبروهم كسائر الناس .
  وكان بنو هاشم وفي مقدّمتهم علي عليه السلام لا يقدرون على المطالبة بحقوقهم المغصوبة بأنفسهم ، فجعلت الزهراء من نفسها مطالبة بحق بني هاشم وحقها ، ومدافعة عنهم اعتماداً على فضلها وشرفها وقربها من رسول الله ، واستناداً إلى أنوثتها حيث النساء أقدر من الرجال في بعض المواقف . ومعلوم أن الزهراء إذا استردّت حقوقها استردّت حينئذ حقوق بني هاشم معها .
  ثالثاً ـ استهدفت الزهراء من مطالبتها الحثيثة بفدك فسح المجل أمامها للمطالبة بحق زوجها المغلوب على أمره ، والواقع أنّ فدك صارت تتمشّى مع الخلافة جنباً إلى جنب ، كما صار لها عنوان كبير وسعة في المعنى ، فلم تبق فدك قرية زراعية محدودة بحدودها في عصر الرسول ، بل صار معانها الخلافة والرقعة الإسلامية بكاملها .
  ومما يدل على هذا تحديد الأئمة لفدك ، فقد حدها علي عليه السلام في زمانه بقوله : حدّ منها جبل أحد ، وحدّ منها عريش مصر ، وحدّ منها سيف البحر ، وحدّ منها دومة الجندل (2) .
  وهذه الحدود التقريبية للعالم الإسلامي آنذاك .

---------------------------
(1) ذكره ابن ابي الحديد في شرح النهج : 12 | 53 ، والطبري في تأريخه : 5 | 31 .
(2) مجمع البحرين : مادة فدك .

الاسرار الفاطمية _ 508 _

  أما الإمام الكاظم عليه السلام فقد حدها للرشيد بعد أن ألحّ عليه الرشيد أن يأخذ فدكاً ، فقال له الإمام : ما آخذها إلا بحدودها ، قال الرشيد : وما حدودها ؟ قال : الحدّ الأول عدن ، والحدّ الثاني سمرقند ، والحدّ الثالث أفريقيّة ، والحدّ الرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية ، فقال له الرشيد : فلم يبق لنا شيء فتحوّل في مجلسي (1) ، أي أنّك طالبت بالرقعة الإسلامية في العصر العباسي بكاملها .
  فقال الإمام : قد أعلمتك أني إن حدّدتها لم تردّها .
  ففدك تعبير ثانٍ عن الخلافة الإسلامية ، والزهراء جعلت فدكاً مقدمة للوصول إلى الخلافة ، فأرادت استرداد الخلافة عن طريق استرداد فدك .
  ومما يدل على هذا تصريحات الزهراء في خطبتها بحق علي وكفاءته وجهاده ، فهي القائلة في خطبتها الكبيرة التي ألقتها في مسجد رسول الله : ( فأنقذكم الله بأبي محمد بعد بعد اللّتيّا والّتي ، وبعد أن مني يبهم الرجال وذؤبان العرب ومرده أهل الكتاب ، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله أو نجم قرن للشيطان ، أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه ( أي عليّاً ) في لهواتها ، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيد أولياء الله ، مشمّراً ناصحاً ، مجدّاً كادحاً ، وأنتم في رفاهيةٍ من العيش وادعون فاكهون آمنون ، تتربّصون بنا الدوائر ووتركّفون الأخبار ، وتنكصون عن النزال ، وتفرّون من القتال ) .
  وتقول أيضاً : ( ألا وقد أرى والله أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ) .
  وهو أمير المؤمنين .
  وكان لإشادة الزهراء بفضل علي عليه السلام في خطبتها أثر بالغ في نفوس الأنصار حتى هتف قسم منهم باسمه ، فاستشعر أبوبكر الخطر من هذه البادرة ، وشقّ عليه مقالتها ، فصعد المنبر وقال : ( أيها الناس ما هذه الرعة إلى كلّ قالة ، أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ألا من سمع فليقل ، ومن شهد فيلتكلّم ، إنّما هو ثعالة :

---------------------------
(1) أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين : القسم الثالث من الجزء الرابع : 47 ، عن ربيع الأبرار ، للزمخشري .