يكون كلّ نبي يبين الحكم لورثته بخلاف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، أو يتركون البيان كما تركه صلى الله عليه وآله وسلم فجرى على سنّة الذين خلوا من قبله ، من أنبياء الله عليهم السلام : فإن كان الأوّل ، فمع أنّه خلاف الظاهر ، كيف خفي هذا الحكم على جميع أهل الملل والأديان ، ولم يسمعه أحد إلاّ أبوبكر ، ومن يحذو حذوه ، ولم ينقل أحد أنّ عصا موسى عليه السلام فجرى على وجه الصدقة إلى فلان ، وسيف سليمان عليه السلام صار إلى فلان ، وكذا ثياب سائر الأنبياء وأسلحتهم وأدواتهم فرقّت بين الناس ، ولم يكن في ورثة أكثر من مائة الف نبي ، قوم ينازعون في ذلك ، وإن كان بخلاف حكم الله عزوجل ، وقد كان أولاد يعقوب عليه السلام مع علوّ قدرهم يحسدون على أخيهم ، ويلقونه في الجبّ لما رأوه أحبّهم إليه ، أو وقعت تلك المنازعة كثيراً ، ولم ينقلها أحد في الملل السابقة وأرباب السير ، مع شدّة اعتنائهم بضبط أحوال الأنبياء وخصائهم ، وما جرى بعدهم كما تقدم ، وإن كان الثاني ، فكيف كانت حال ورثة الأنبياء أكانوا يرضون بذلك ولا ينكرون ؟ فكيف صارت ورثة الأنبياء جميعاً يرضون بقول القائمين بالأمر مقام الأنبياء ، ولم ترض به سيّده النساء ؟ أو كانت سنة المنازعة جارية في جميع الامم ، ولم ينقلها أحد ممّن تقدّم ، ولا ذكر من انتقلت تركات الأنبياء إليهم ، إنّ هذا لشيء عجاب ، وأعجب من ذلك ، أنّهم ينازعون في وجود النص على أمير المؤمنين عليه السلام ، مع كثرة الناقلين له من يوم السقيفة إلى الآن ، ووجوه الأخبار في صحاحهم ، وادّعائهم الشيعة تواتر ذلك ، من أول الأمر إلى الآن ويستندون في ذلك إلى أنه لو كان حقاً ، لما خفي ذلك لتوفر الدواعي إلى نقله وروايته ، فانظر بعين الإنصاف أن الدواعي لشهرة أمر خاص ، ليس الشاهد له إلاّ قوم مخصوص من أهل قرن معين أكثر ، أم لشهرة أمر قل زمان من الأزمنة من لدن آدم عليه السلام إلى الخاتم صلى الله عليه وآله سلم عن وقوعه فيه ؟ مع أنّه ليس يدعو إلى كتمانه وإخفائه في الامم السالفة داع ، ولم يذكره رجل في كتاب ، ولم يسمعه أحد من أهل ملّة ، ولعمري لا أشك في أن من لزم الإنصاف وجانب المكابرة ، والإعتساف ، وتأمل في مدلول الخبر وأمعن النظر ، يجزم قطعاً بكذبه وبطلانه ، وإن كان القسم الثماني ، وهو أن يكون إتماد أبي بكر في تخصيص الآيات بالخبر من حيث رواية الرواة له دو علمه بأنه من كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، لسمعه باذنه فيرد عليه أيضاً

الاسرار الفاطمية _ 455 _

  وجوه من النظر :
  الأوّل : أن ما ذكره قاضي القضاة ، من أنه شهد بصدق الرواية في أيام أبي بكر : عثمان وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمان ، باطل غير مذكور في سيرة ورواية من طرقهم وطرق أصحابنا ، وإنما المذكور في رواية مالك بن أوس التي رووها في صحاحهم : أنّ عمر بن الخطاب لمّا تنازع عنده أمير المؤمنين عليه السلام والعبّاس استشهد نفراً فشهدوا بصدق الرواية : ولنذكر ألفاظ صحاحهم في رواية مالك بن أوس على اختلافها ، حتّى يتضح حقيقة الحال : روي البخاري ومسلم وأخرجه الحميدي ، وحكاه في جامع ( الأصول ) في الفرع الرابع من كتاب الجهاد من حرف الجيم ، عن مالك أنّه قال : أرسل إليّ عمر فجئته حين تعالى النهار ، قال : فوجدته في بيته جالساً على سرير مفضياً (1) ، إلى رماله ، متكئاً على وسادة (2) من أدم ، فقال لي : يا مالك ، أنّه قد دفّ أهل أبيات من قومك (3) وقد أمرت فيهم برضخ (4) فخذه فأقسم بينهم قال : قلت : لو أمرت بهذا غيري ، قال : خذه يا مالك ، قال : فجاء يرفأ (5) فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد ، فقال عمر : نعم فأذن لهم فدخوا ، ثمّ جاء فقال : هل لك في عباس وعلي عليه السلام قال : نعم فأذن لهما : فقال العباس : اقض بيني وبين هذا ، فقال القوم أجل ! فاقض بينهم وارحهم ، قال مالك بن أوس : فخيل إلى أنهم قد كانوا قدموهم لذلك ، فقال عمر اتّئدوا (6) : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نوّرث ما تركنا صدقة ؟ قالوا : نعم ، ثم أقبل على العبّاس وعليّ عليه السلام فقال : أنشدكما بالله الذي بأذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمان أنّ رسول

---------------------------
(1) أي ملقياً نفسه على الرمال لا حاجز بينهما ، ورمال السرير ـ بالكسر : ما رمل أي نسج ، جمع رمل بمعنى مرمول كالخلق بمعنى المخلوق ، والمراد به أنّه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف ولم يكن على السرير وطا سوى الحصير .
(2) الوسادة : المخدّة .
(3) ودفّ أهل أبيات : أي دخلوا المصر ، يقال : دفّ دافّة من العرب .
(4) الرضخ ـ بالضاد والخاء المعجمتين ـ : العطاء القليل .
(5) يرفاً ـ بالراء والفاء والهمز علي صيغة المضارع ـ : كينع ، علم مولى عمر بن الخطاب .
(6) اتئدوا : امر من التؤدة أي التاني والتثبت .

الاسرار الفاطمية _ 456 _

  الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ؟ قالا : نعم ، إلى آخبر الخبر ، ثمّ حكى في جامع الأصول ، عن البخاري ومسلم ، أنّه قال عمر لعلي عليه السلام : قال أبوبكر : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا نورث ، ما تركناه صدقة ، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً ، خائناً ، وتزعمان أنّه فيها كذا كما نقلنا سابقاً ، وحكي في جامع الاصول ، عن أبي دواد ، أنّه قال أبو البختري : سمعت حديثاً من رجل فأعجبني ، فقلت : اكتبه لي ، فاتي به مكتوباً مدبراً (1) ، دخل العباس وعلي عليه السلام على عمر ، وعنده طلحة والزبير وعبدالرحمان وسعد وهما يختصمان ، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعد : ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كل مال النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة ، إلاّ مااطعمه أهله ، أو كساهم ، إنا لانورث ؟ قالوا : بلى (2) .
  توضيح : ولا يذهب على ذي فطنة أن شهادة الاربعة التي تضمنتها الرواية الاولى والثانية على اختلافهما ، لم يكن من حيث الرواية والسماع عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، بل لثبوت الرواية عندهم بقول أبي بكر ، بقرينة أن عمر ناشد علياً عليه السلام والعباس : أتعلمان أن الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة ؟ فقالا : نعم ، وذلك لانه لا يقدر أحد في ذلك الزمان على تكذيب تلك الرواية ، وقد قال عمر في آخر الرواية : رأيتماه ، يعني أبا بكر كاذباً آثماً غادراً خائناً ، وكذا في حق نفسه ، والعجب أن القاضي لم يجعل علياً عليه السلام والعباس شاهدين على الرواية مع تصديقهما كما صدّق الباقون ، بل جميع الصحابة لأنهم يشهدون بصدقهما .
  وقال ابن أبي الحديد بعد حكاية كلام السيد رضى الله عنه في أن الاستشهاد كان في خلافة عمر دون أبي بكر ، وأن معول المخالفين على إمساك الأمة عن النكير على أبي بكر دون الاستشهاد ما هذا لفظه : قلت : صدق المرتضى فيما قال ، أما عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومطالبة فاطمة عليها السلام بالإرث فلم يرو الخبر إلاّ أبا بكر وحده ، وقيل : إنّه رواه معه مالك بن أوس ابن الحدثان ، وأما المهاجرين الذين ذكرهم قاضي القضاة فقد شهدوا بالخبر في خلافة عمر ، وتقدم ذكر ذلك ، وقال في الموضع المتقدم الذي أشار إليه ،

---------------------------
(1) أي مسنداً .
(2) جامع الاصول : 3 | 311 .

الاسرار الفاطمية _ 457 _

  وهو الفضل الذي ذكر فيه روايات أبي البختري على مارواه أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، بإسناده عنه : قال جاء عليّ والعباس إلى عمر ، وهما يختصمان ، فقال عمر لطلحة والزبير وعبدالرحمان وسعد : أنشدكم الله ، أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كل مال نبي فهو صدقة إلاّ ما أطعمه أهله ، إنّا لا نورّث ! فقالوا : نعم ، قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتصدّق به ، ويقسم فضله ، ثمّ توفّي ، فولّيه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنتما تقولان ، إنه كان بذلك خاطئاً ، وكان بذلك ظالماً وما كان بذلك إلاّ راشداً ، ثم ولّيته بعد أبي بكر فقلت لكما : إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهده الذي عهد فيه ، فقلتما : نعم ، وجئتماني الآن تختصمان ، يقول هذا : اريد نصبي من ابن أخي ، ويقول هذا : اريد نصبي من امرأتي ! والله لا أقضي بينكما إلاّ بذلك .
  قال ابن ابي الحديد : قلت : وهذا أيضاً مشكل ، لأن أكثر الروايات أنّه لم يرو هذا الخبر إلاّ أبا بكر وحده ، ذكر ذلك معظم المحدثين ، حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في إحتجاجهم في الخبر برواية الصحابي والواحد .
  وقال شيخنا أبو علي : لا يقبل في الرواية إلاّ رواية إثنين كالشهادة ، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلّهم ، واحتجّوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده ، قال : ( نحن معاشر الأنبياء لانورث ) حتّى أن أصحاب أبي علي تكلف لذلك جواباً ، فقال : قد روي أن أبا بكر يوم حاجّ فاطمة عليها السلام قال : انشد الله امرءً سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا شيئاً !
  فروى مالك بن أوس بن الحدثان : أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا الحديث ينطق بأنه استشهد عمر وطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعداً ، فقالوا : سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأين كانت هذه الرواية أيّام أبي بكر ! ما نقل أنّ أحداً من هؤلاء يوم خصومة فاطمة عليها السلام وأبي بكر روى من هذا شيئاً ، انتهى .
  فظهر أنّ قول القاضي ليس إلا شهادة زور ، ولو كان لما ذكره من إستشهاد أبي بكر مستند لاشار إليه كما هو الدأب في مقام الإحتجاج ، وأما هذه الرواية التي رواها ابن أبي الحديد فمع أنّها لا تدل على الإستشهاد في خلافة أبي بكر ، فلا تخلو من تحريف ، لما عرفت من أن لفظ رواية

الاسرار الفاطمية _ 458 _

  أبي البختري على ما رواه أبو داود ، وحكاه في جامع الاصول (1) : ألم تعلموا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كلّ مال النبي صدقة أسمعتم (2) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما رواه الجوهري ، على أنّه لا يقوم فيما تفر دّوابه من الأخبار حجّة علينا ، وأنّما الإحتجاج بالمتفق عليه ، أو ما اعترف به الخصم والإستشهاد على الرواية لم يثبت عندنا لا في أيّام أبي بكر ولافي زمن عمر ثمّ أورد السيد رحمه الله على كلام صاحب المغني بأنا لو سلّمنا إستشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجة ، لأن الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم ، وهو في حكم أخبار الآحاد ، وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجري هذا المجرى ، لأن المعلوم لا يخص إلاّ بمعلوم ، قال : على أنّه لو سلم لهم أنّ الخبر الواحد يعمل به في الشرع لا حتاجوا إلى دليل مستأنف على نّه يقبل في تخصيص القرآن لأن مادل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز النسخ به ، وتحقيق هاتين المسئلتين من وظيفة اصول الفقه .
  والثاني : أنّ رواه الخبر كانوا متّهمين في الرواية بجلب النفع من حيث حلّ الصدقة وما أجاب به شارح كشف الحق من الفرق بين الرواية والشهادة ، وأنّ التهمة إنّما تضر في الشهادة دون الرواية ، فسخيف جداً ولم يقل أحد بهذا الفرق غيره .
  الثالث و الرابع : ما تقدم في الإيراد الثالث والرابع من القسم الأوّل .
  الخامس : ما تقدم من وجوب البيان للورثة .
  أما القسم الثالث : وهو أن يكون مناط الحكم على علم أبي بكر مع شهادة النفر ، وكذلك الرابع : وهو أن يكون الإعتماد على روايته معهم ، فقد ظهر بطلانها مما سبق ، فإن المجموعة وإن كان أقوى من كل واحد من الجزئين ، إلاّ أنه لا يدفع التهمة ولامناقضة الآيات الخاصة ولا باقي الوجوه السابقة ، وقد ظهر بما تقدم أن الجواب عن قول أبي علي : ( أتعلمون كذب أبي بكر أم تجوزون صدقة ، وقد علم أنّه لا شيء يعلم به كذبه قطعاً فلابد من تجويز كونه صادقاً كما حكاه في المغني ) هو أنا نعلم كذبه قطعاً والدليل عليه :

---------------------------
(1) 3 | 311 .
(2) كذا في البحار .

الاسرار الفاطمية _ 459 _

  ما تقدم من الوجوه الستّة المفصلة ، وأن تخصيص الآيات من هذا الخبر ليس من قبيل تخصيها في القاتل والعبد كما ذكره قاضي القضاة .
  إذ مناط الثاني روايات معلومة الصدق ، والأول خبر معلوم الكذب .
  وقد سبق في خطبة فاطمة عليها السلام إستدلالها بقوله تعالى : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وبثلاث من الآيات السابقة ، وهو يدل مجملاً ، على بطلان ما فصّلوه من الأجوبة ، ثمّ إن بعض الاصحاب حمل الرواية على وجه لا يدل على ما فهم منها الجمهور وهو أن يكون ما تركناه صدقة مفعولاً ثانياً للفعل أعني ( نورث ) سواء كان بفتح الراء على صيغة المجهول من قولهم : ورثت أبي شيئاً ، أو بكسرها من قولهم : أورثه الشيء أبوه .
  وأما بتشديد الراء فالظاهر أنه لحن ، فإن التوريث إدخال أحد في المال على الورثة كما ذكره الجوهري وهو لا يناسب شيئاً من المحامل ويكون صدقة منصوباً على أن يكون مفعولا لتركنا ، والإعراب لا تضبط في أكثر الروايات ، ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف على الصدقة فتوهّم أبو بكر أنه بالرفع وحينئذ يدل على أن ماجعلوه صدقة في حال حياتهم لا ينتقل بموتهم إلى الورثة أي مانووا فيه الصدقة من غير أن يخرجوه من أيديهم لايناله الورثة حتى يكون للحكم إختصاص بالإنبياء عليهم السلام ولا يدل على حرمان الورثة مما تركوه مطلقاً ، والحق أنه لا يخلو عن بعد ، ولا حاجة لنا إليه لما سبق ، وأما الناصرون لأبي بكر فلم يرضوا به وحكموا ببطلانه ، وإن كان لهم فيه التخلص عن القول بكذب أبي بكر ، فهو إصلاح لم يرض به أحد المتخاصمين ، ولا يجري في بعض رواياتهم .
  واعلم أن بعض المخالفين استدلوا ـ على صحّة الرواية وما حكم به أبو بكر ـ بترك الامة النكير عليه ، وقد ذكر السيد الأجل رضى الله عنه في الشافي كلمهم ذلك على وجه السؤال ، وأجاب عنه بقوله فإن قيل : إذا كان أبو بكر قد حكم بخطأ في دفع فاطمة عليها السلام من الميراث واحتج بخبر لا حجة فيه ، فما بال الامة اقرتّه على هذا الحكم ولم تنكر عليه وفي رضاها وإمساكها دليل على صوابه ، قلنا قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا ، إلاّ في الموضع الّذي لا يكون له وجه سوى الرضا وبينا في الكلام على إمامة أبي بكر هذه الموضع بياناً شافياً .

الاسرار الفاطمية _ 460 _

  وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال جواباً جيّد المعنى واللفظ ، نحن نذكره على وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها .
  قال : وقد زعم ناس أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبابكر وعمر في منع الميراث وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النكير عليهما ، ثمّ قال : فيقال لهم : لئن كان ترك النكير دليلاً على صدقهما ليكونن ترك النكير على المتظلمين منهما والمحتجين عليهما والمطالبين لهما بدليل دليلاً على صدق دعواهم وإستحسان مقالتهم لا سيما وقد طالت المشاحات ، وكثرت المراجعة والملاحات ، وظهرت الشكيمة ، واشتدت الموجدة ، وقد بلغ ذلك من فاطمة عليها السلام حتى أنّها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر وقد كانت ، قالت له حين أتته طالبة بحقها ومحتجة برهطها : من يرثك يا أبا بكر ، إذا مت ؟ قال : أهلي وولدي ، قالت : فما بالنا لا نرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما منعها ميراثها وبخسها حقها ، واعتل عليها ، ولج في أمرها ، وعاينت التهضم ، وآيست من النزوع ، ووجدت مس الضعف وقلة الناصر ، قالت : والله لأدعونّ الله عليك ، قال : والله لا دعون الله لك .
  قالت : ـ والله ـ لا اكلمك أبداً ، قال : والله أهجرك أبداً ، فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلاً على صواب منعه إنّ في ترك النكير على فاطمة عليها السلام دليلاً على صواب طلبها ، وأت ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت عادلاً ، أو تقطع واصلاً ، فإذا لم نجدهم أنكروا على الخضمين جميعاً فقد تكافأت الامور واستوت الاسباب والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم ، وأوجب علينا وعليكم ، وإن قالوا كيف يظن ظلمها والتعدي عليها ؟ وكلما ، ازدادت فاطمة عليها السلام غلظة ازداد عليها ليناً ورقّة حيث تقول : ـ والله ـ لا اكلّمك أبداً فيقول : والله لا أهجرك أبداً ، ثم تقول : والله لأدعونّ الله عليك فيقول : والله لأدعون الله لك ، ثم يحتمل هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والرفعة وما يجب لها من التنويه والهيبة ، ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذراً أو متقرباً كلام المعظم لحقها ، المكبر لقيامها والصائن لوجهها ، والمتحنن عليها : ما أحد أعزّ عليّ منك فقراً ولا حبّ إليّ منك غنىّ

الاسرار الفاطمية _ 461 _

  ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه فهو صدقة ، قيل لهم : ليس ذلك بدليل على البرائة من الظلم والسلامة من الجور ، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً وللخصومة معتاداً أن يظهر كلام المظلوم وذلّة المنتصف ، وجدة الوامق ، ومقة المحق ، وكيف جعلتم ترك النكير حجّة قاطعة ودلالة واضحة ؟ وقد زعمتم أنّ عمر قال على منبره : متعتان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعة النساء ومتعة الحجّ ، أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ، فما وجدتم أحداً أنكر قوله ، ولا استشنع مخرج نهيه ، ولا خطأه في معناه ، ولا تعجب منه ولا استفهمه ، وكيف تقضون بترك النكير ، وقد شهد عمر يوم السقيفة ، وبعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الأئمة من قريش ثم قال في مكانه : لو كان سالم حيّاً ما يخالجني فيه شك حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين جعلهم شورى وسالم عبد لأمراة من الأنصار وهي اعتقته وحازت ميراثه ، ثم لم ينكر ذلك من قريش قوله منكر ولا قابل إنسان بين قوليه ولا تعجب منه ، وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة ولا رهبة عند دليلاً على صدق قوله وثواب عمله ، فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي والقتل والإستحياء والحبس والإطلاق فليس بحجة تشفي ولا دليل يغني ، قال : وقال آخرون : بل الدليل على صدق قولهما وصواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل وردّ النصوص ، ولو كانوا يقولون ويصفون ما كان سبيل الامة فيهما إلاّ كسبيلهم فيه وعثمان كان أعزّ نفراً وأشرف رهطاً وأكثر عدداً وثروة وأقوى عدة .
  قلنا : إنهما لم يجحدا التنزيل ولم ينكرا المنصوص ولكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ادّعيا رواية وتحدثا بحديث لم يكن محالاً كونه ولا يمتنع في حجج العقول مجيئه وشهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه ، ولعل بعضهم كان يرى التصديق للرجل إذا كان عدلاً في وهطه مأموناً في ظاهره ، ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة ، ولا جرّب عليه غدرة ، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن وتعديل الشاهد ، ولأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج والذي يقطع بشهادته على

الاسرار الفاطمية _ 462 _

  الغيب ، وكان ذلك شبهة على أكثرهم ، فلذلك قلّ النكير وتواكل الناس واشتبه الأمر ، فصار لا يتخلص إل معرفة حق ذلك من باطله إلاّ العالم المتقدم والمؤيد المرشد ، ولأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام ، وفي قلوب السفلة والطغات ما كان لهما من الهيبة والمحبة ، ولأنهما كانا أقل استيثاراً بالفيء واقل تفكهاً بمال الله منه ، ومن شأن الناس إهمال السلطان ماوفر عليهم أموالهم ولا يستأثر بخراجهم ولم يعطل ثغورهم ، ولأن الذي صنع أبو بكر من منع العترة حظها والعمومة ميراثها قد كان موافقاً لجلة قريش ولكبراء العرب ، ولأن عثمان أيضاً كان مضعوفاً في نفسه مستخفاً بقدرة لا يمنع ضيماً ولا يقمع عدواً ، ولقد وثب ناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير لامور لو أتى عمر أضعافها وبلغ أقصاها لما اجترؤا على اغتيابه فضلاً عن مباداته والإغراء به ومواجهته كما أغلظ عيينة بن حصين له : فقال : أما إنّه لو كان عمر لقمعك ومنعك ، فقال عيينة : إنّ عمر كان خيراً إلي منك أرهبني فابقاني ، ثم قال : والعجب أنّا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصومه ، ما هو أقرب استناداً وأوضح رجالاً وأحسن اتّصالاً حتّى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم نسخوا الكتاب وخصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما رووه وأكذبوا ناقليه وذلك أنّ كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه ويصدق ما وافق وضاه ، هذا آخر كلام الجاحظ ، ثم قال السيد رضى الله عنه : فإن قيل : ليس ما عارض به الجاحظ من الإستدلال بترك النكير ، وقوله كما لم ينكروا على أبي بكر فلم ينكروا أيضاً على فاطمة عليها السلام ولا غيرها من المطالبين بالميراث كالازواج وغيرهن معارضته صحيحة ، وذلك أن نكير أبي بكر لذلك ودفعه والإحتجاج عليه يكفيهم ويغنيهم عن تكلف نكير ولم ينكر على أبي بكر مارواه منكر فيستغنوا بإنكاره ، قلنا : أوّل ما يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد إحتجاجها بالخبر من التظلم والتألم والتعنيف والتبكيت وقولها على ما روي : والله لأدعون الله عليك ، ولا كلّمتك أبداً ، وما جرى هذا المجرى فقد كان يجب أن ينكره غيره فمن المنكر الغضب على المنصف وبعد فإن كان إنكار أبي بكر مقنعاً أو مغنياً عن إمكار غيره من المسلمين ،

الاسرار الفاطمية _ 463 _

  فإنكار فاطمة عليها السلام حكمه مقامها على التظلم منه يغني عن نكير غيرها ، وهذا واضح لمن أنصف من نفسه ، انتهى كلامه ( رفع الله مقامه ) الخامس : قال ابن أبي الحديد : اعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة عليها السلام أبا بكر كان في أمرين في الميراث والنحلة ، وقد وجدت في الحديث أنّها نازعت في أمر ثالث ومنعها أبو بكر إيّاها أيضاً وهو سهم ذي القربى ، روى أحمد بن عبدالعزيز الجوهري عن أنس ، أن فاطمة عليها السلام أتت أبا بكر فقالت : قد علمت الذي حرم علينا أهل البيت من الصدقات وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى ، ثم قرأت عليه قوله تعالى : ( واعلموا أنّما غنمتم من شيء فان الله خمسه وللرسول ولذي القربى ) الآية : فقال لها أبو بكر : بأبي أنت وأميّ وولدي وولدك ، السمع والطاعة لكتاب الله ولحقّ رسوله وحقّ قرابته وأنا أقرأ من كتاب الله الّذي تقرأين ، ولم يبلغ علمي منه أنّ هذا السهم من الخمس مسلّم إليكم كاملاً ، قالت : أملك هو لك ولا قربائك ؟ قال : لا ، بل أنفق عليكم منه وأصرف الباقي في مصالح المسلمين .
  قالت : ليس هذا بحكم الله تعالى ، فقال : هذا حكم الله فإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إليك في هذا عهداً صدقّتك وسلّمته كلّه إليك وإلى أهلك .
  قالت : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعهد إليّ في ذلك بشيء إلاّ أنّي سمعته يقول لمّا أنزلت هذه الآية : ابشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى ، قال أبوبكر : لم يبلغ من هذه الآية أن أسلم اليكم هذا السهم كلّه كاملاً ولكن لكم الغنى الّذي يغنيكم ويفضل عنكم ، هذا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهما فاسأليهم عن ذلك وأنظري هل يوافقك على ماطلبت أحد منهم ؟ فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر ، فقال لها مثل ما قال لها أبو بكر فتعجبت فاطمة عليها السلام من ذلك وتظنّت قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه .
  ثم قال : قال أحمد بن عبد العزيز : حدثّنا أبو زيد بإسناده إلى عروة قال : أرادت فاطمة عليها السلام أبا بكر على فدك وسهم ذي القربى تأبى عليها وجعلهما في مال الله تعالى .
  ثمّ روي عن الحسن بن عليّ عليه السلام : أنّ أبا بكر منع فاطمة عليها السلام وبني هاشم سهم ذي القربى وجعلها في سبيل الله في السلاح والكراع .
  ثمّ روي بإسناده عن محمّد بن

الاسرار الفاطمية _ 464 _

  إسحاق قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام قلت : أرأيت علياً عليه السلام حين ولّى العراق وما ولى من أمر الناس ، كيف صنع في سهم ذي القربى ؟ قال : سلك بهم طريق أبي بكر وعمر ، قلت : كيف ولم وأنتم تقولون ، ما تقولون : أما والله ما كان أهله يصدرون إلاّ عن رأيه ، فقلت : فما منعه ، قال : يكره أن يدعى عليه من مخالفة أبي بكر وعمر . انتهى
  ما أخرجه ابن أبي الحديد بن كتاب أحمد بن عبدالعزيز .
  وروي في جامع الأصول : من سنن أبي داود ، عن جبير بن مطعم : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئاً كما قسم لبني هاشم قال : وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير أنه لم يكن يعطي منه قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان عمر يعطيهم ومن كان بعده منه .
  وروى مثله بسند آخر ، عن حبير بن طعم ، ثمّ قال : وفي اخرى له والنسائي : لمّا كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهم ذي القربى في بني هاشم وبني عبد المطلب .
  ثمّ قال : وأخرج النسائي أيضاً بنحو من هذه الروايات من طرق متعددة بتغيير بعض ألفاظها وإتفاق المعنى .
  وروي أيضاً ، عن أبي داود بإسناده ، عن يزيد بن هرمز : أنّ ابن الزبير أرسل إلى ابن العباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن يراه ؟
  فقال له : لقربى رسول الله صلى الله عليه و آله سلم ، قسّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقّنا ورددناه عليه وأبينا أن نقبله .
  وروي مثله عن النسائي أيضاً وقال : وفي اخرى له مثل أبي داود ، وفيه : وكان الذي عرض عليهم أن يعين ناكحهم ويقضي عن غارمهم ويعطي فقيرهم وأبي أن يزيدهم على ذلك .
  وروى العياشي في تفسيره : رواية ابن عبّاس ورويناه في موضع آخر .
  وروى أيضاً : عن أبي جميلة ، عن بعض أصحابه ، عن أحدهما عليهم السلام ، قال : قد فرض الله الخمس نصيباً لآل محمد عليهم السلام فأبي أبو بكر أن يعطيهم نصيبهم ، حسداً وعداوة ، وقد قال الله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون ) ، والأخبار من طريق أهل البيت عليهم السلام في ذلك أكثر من أن تحصى ، وسيأتي

الاسرار الفاطمية _ 465 _

  بعضها في أبواب الخمس والانفال إن شاء الله تعالى ، فإذا اطّلعت على ما نقلناه من الأخبار من صحاحهم ، نقول : لا ريب في دلالة الآية ، على اختصاص ذي القربي القربى بسهم خاص ، سواء كان هو سدس الخمس كما ذهب إليه أبو العالية ، وأصحابنا ، ورووه عن أئمتنا عليهم السلام وهو الظاهر من الآية كما اعترف به البيضاوي وغيره ، أو خمس الخمس لإتّحاد سهم الله وسهم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وذكر الله للتعظيم كما زعم ابن عباس ، وقتادة وعطا ، أو ربع الخمس ، والأرباع الثلاثة الباقية للثلاثة الاخيرة ، كما زعمه الشافعي ، وسواء كان المراد بذي القربى أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ، وبعده الإمام من أهل البيت كما ذهب إليه أكثر أصحابنا ، أو جميع بني هاشم كما ذهب إليه بعضهم وعلى ما ذهب إليه الاكثر يكون دعوى فاطمة عليها السلام نيابة عن أمير المؤمنين عليه السلام تقيّة أو كان المراد بني هاشم وبني المطلب كما زعمه الشافعي ، أو آل عليّ ، وعقيل وآل عبّاس ، وولد الحارث بن عبد المطلب ، كما قال أبو حنيفة .
  وعلى أي حال فلا ريب أيضاً في أن الظاهر من الآية تساوي الستّة في السهم ، ولم يختلف الفقهاء في أنّ إطلاق الوصيّة والإقرار لجماعة معدودين يقتضي التسوية لتساوي السنة ، ولم يشترط الله عزّ وجلّ في ذي القربى فقراً أو مسكنة بل قرنه بنفسه وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم للدلالة على عدم الإشتراط ، وأما التقييد إجتهاداً فمع بطلان الإجتهاد الغير المستند إلى حجة فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدفع التقييد لدلالة خبر جبير وغيره على أنّه لم يعطيها ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيهم ، وقد قال أبوبكر في رواية أنس : لكم الغنى الّذي يغنيكم ويفضل عنكم ، فما زعمه أبو بكر من عدم دلالة الآية على أن السهم مسلم الذي القربى ووجوب صرف الفاضل من السهم عن حاجتهم في مصالح المسلمين مخالف للآية والأخبار المتفق على صحّتها ، وقد قال سبحانه في آخر الآية : ( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا ) ، واعترف الفخر الرازي في تفسيره بأن من لم يحكم بهذه القسمة فقد خرج عن الإيمان ، وقال تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فالئك هم الكافرون ) ، وقال : هم الفاسقون ، وقال هم الظالمون ، فاستحق بما صنع ما يستحقه الراد على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .

الاسرار الفاطمية _ 466 _

  السادسة : مادلت عليه الروايات السالفة وما سيأتي في باب شهادة فاطمة عليها السلام ، من أنّها أوصت أن تدفن سراً ، وأن لا يصلي عليها أبو بكر وعمر لغضبها عليهما في منع فدك وغيره من أعظم الطعون عليهما ، وأجاب عنه قاضي القضاة في ( المغني ) بأنه قد روي أنّ أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة عليها السلام وكبر أربعاً ، وهذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير على الميّت ولا يصح أنّها دفنت ليلاً ، وإن صحّ ذلك فقد دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً وعمر دفن ليلاً ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدفنون بالنهار ويدفنون بالليل ، فما في هذا ما يطعن به بل الاقرب في النساء أنّ دفنهنّ ليلاً أستر وأولى بالسنة .
  وردّ عليه السيّد الأجلّ في الثاني : بأن ما ادّعيت من أنّ أبا بكر هو الذي صلّى على فاطمة عليها السلام وكبر أربعاً ، وإنّ كثيراً من الفقهاء يستدلون به في التكبير على الميت فهو شيء ما سمع إلاّ منك وإن كنت تلقّيته عن غيرك فممن يجري مجراك في العصبّية وإلاً فالروايات المشهورة وكتب الآثار والسير خالية من ذلك ، ولم يختلف أهل النقل في أنّ أمير المؤمنين عليه السلام صلّى على فاطمة عليها السلام إلاّ رواية شاذّة نادرة وردت بأن العباس صلّى عليها .
  روى الواقدي : بإسناده ، عن عكرمة ، قال : سألت ابن عباس متى دفنتم فاطمة عليها السلام ؟ قال : دفناها بليلٍ بعد هدأة .
  قال : قلت : فمن صلّى عليها ؟ قال : عليّ عليه السلام .
  وروى الطبرسي ، عن الحرث بن أبي أسامة ، عن المدايني ، عن أبي زكريا العجلاني أن فاطمة عليها السلام عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت وقالت : سترتموني ستركم الله .
  قال أبو جعفرمحمد بن جرير : والثبت في ذلك أنّها زينب ، لأن فاطمة عليها السلام دفنت ليلاً ولم يحضرها إلاّ العباس وعليّ عليه السلام ، والمقداد والزبير .
  وروى القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه : عن الزهري ، قال : حدّثني عروة بن الزبير ، أنّ عائشة أخبرته : أنّ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستّة أشهر فلما توفيت دفنها علي عليه السلام ليلاً وصلّى عليها عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وذكر في كتابه هذا أنّ أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهما السلام دفنوها ليلاً وغيّبوا قبرها .

الاسرار الفاطمية _ 467 _

  وروى سفيان بن عيينة ، عن عمرو عن الحسن بن محمد : أنّ فاطمة عليها السلام دفنت ليلاً وروى عبدالله بن أبي شيبة ، عن يحيى بن سعيد العطار ، عن معمر ، عن الزهري : مثل ذلك ، وقال البلاذري في تاريخه : إن فاطمة عليها السلام لم تر مبتسمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها ، والأمر في هذا أوضح وأظهر من أن يطنب في الإستشهاد عليه ، وبذكر الروايات فيه ، فأما قوله ولا يصح ، أنّها دفنت ليلاً ، وإن صحّ فقد دفن فلان وفلان ليلاً فقد أنّ دفنها ليلاً في الصحّة كالشمس الطالعة ، وأن منكر ذلك كدافع المشاهدات ولم نجعل دفنها ليلاً بمجرد ، وهو الحجّة .
  فيقال : فقد دفن فلان وفلان ليلاً بل مع الإحتجاج بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة الّتي هي كالمتواتر أنها عليها السلام أوصت بأن تدفن ليلاً حتى لا يصلي عليها الرجلان ، وصرّحت بذلك وعهدت فيه عهداً بعد أن كانا استاذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما فلّما طال عليهما المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، في أن يستأذن لهما وجعلاها حاجة إليه فكلّما أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك وألحّ عليها فأذنت لهما في الدخول ثمّ أعرضت عنهما عند دخولهما ولم تكلمهما ، فلمّا خرجا قالت لأمير المؤمنين عليه السلام : قد صنعت ما أردت ، قال : نعم ، قالت : فهل أت صانع ما آمرك ؟ قال : نعم ، قالت : فإنّي أنشدك الله لا يصليا على جنازتي ، ولا يقوما على قبري ، وروي أنه عليه السلام عمى على قبرها ، ورشّ أربعين قبراً في البقيع ولم يرش على قبرها حتى لا يهتديا إليه ، وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها وإحضارهما للصلاة عليها ، فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلاً ، ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه وتأخر عنه ، لم يكن فيه حجّة ، انتهى كلامه رفع الله مقامه .
  ومما يدل من صحاح أخبارهم على دفنها ليلاً ، وأن أبا بكر لم يصلّ عليها ، وعلى غضبها عليه وهجرتها إيّاه : مارواه مسلم في ( صحيحة ) وأورده في ( جامع الاصول ) في الباب الثاني من كتاب الخلافة والإمارة من حرف الخاء عن عائشة ـ في حديث طويل ـ بعد ذكر مطالبة فاطمة عليها السلام أبا بكر في ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفدك وسهمه من خيبر ، قالت : فهجرته فاطمة عليها السلام ، فلم تكلّمة في ذلك حتى ماتت ، فدفنها علي عليه السلام ولم يؤذن بها

الاسرار الفاطمية _ 468 _

  أبابكر ، قالت : فكان لعلّي وجه من الناس حياة فاطمة عليها السلام فلّما توفيت فاطمة عليها السلام انصرفت وجوه الناس عن عليّ ، ومكثت فاطمة عليها السلام بعد رسول الله ستة أشهر ثم توفيت ، وروى ابن أبي الحديد : عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، عن هشام بن محمد ، عن أبيه ، قال : قالت فاطمة عليها السلام لأبي بكر : إنّ أمّ أيمن تشهد لي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاني فدك ، فقال : يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والله ما خلق الله خلقاً احب إلي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبيك ولوددّت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك ، والله لئن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري ، أتراني اعطي الأسود والأحمر حقّه وأظلمك حقّك وأنت بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّ هذا المال لم يكن للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولّيته كما كان يليه ، قالت : والله لا كلمتك أبداً قال : والله لا هجرتك أبداً قالت : والله لادعون الله عليك قال : والله لأدعون الله لك : فلّما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلي عليها ، فدفنت ليلاً وصلى عليها العباس بن عبد المطلب ، وكان بين وفاتها ووفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم إثنتان وسبعون ليلة ، ومما يؤيّد إخفاء دفنها ، جهالة قبرها والإختلاف فيه بين الناس إلى يومنا هذا ، ولو كان بمحضر من الناس لما اشتبه على الخلق ولا اختلف فيه .
  السابعة : ممّا يرد على الطعون على أبي بكر في تلك الواقعة .
  أنّه مكّن ازواج النبيّ التصرفّ في حجراتهّن بغير خلاف ولم يحكم فيها بأنّها صدقة ، وذلك يناقض ما منعه في أمر فدك وميراث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإن انتقالها إليهنّ إمّا على جهة الإرث أو النحلة والأوّل مناقض لروايته في الميراث ، والثاني يحتاج إلى الثبوت ببينّة ونحوها ولم يطالبهنّ بشيء منها كما طلب فاطمة عليها السلام في دعواها وهذا من أعظم الشواهد لمن له أدنى بصيرة على أنّه لم يفعل إلاّ عداوة لأهل بيت الرسالة ولم يقل ما قال إلاّ إفتراء على الله وعلى رسوله !!
  ولنكتف بما ذكرنا ، فإن بسط الكلام في تلك المباحث ممّا يوجب كثرة حجم الكتاب وتعسّر تحصيله على الطلاّب ، فانظر أيّها العاقل المنصف بعين البصيرة فيما اشتمل عليه الأخبار الكثيرة التي أوردوها في كتبهم المعتبرة عندهم ، من حكم سيدة النساء صلوات الله عليها مع عصمتها وطهارتها باغتصابهم للخلافة ، وأنّهم اتباع الشيطان وأنّه ظهر فيه حسيكة النفاق ، وأنّهم أرادوا إطفاء نور الدين وإهماد سننّ سيد

الاسرار الفاطمية _ 469 _

  المرسلين صلوات الله عليه وآله و أنّهم آذوا أهل بيته واضمروا لهم العداوة وغير ذلك ممّا اشتملت عليه الخطبة الجليلّة فهل يبقى بعد ذلك شك في بطلان خلافة أبي بكر ونفاقه ونفاق أهل بيته ؟!
  ثمّ أنّها عليها السلام حكمت بظلم أبي بكر في منعها الميراث صريحاً بقولها عليها السلام لقد جئت شيئاً فريّاً ، ودعت الأنصار إلى قتاله فثبت جواز قتله ، ولو كان إماماً لم يجز قتله ، ثمّ انظر إلى هذا المنافق كيف شبّه أمير المؤمنين وسيّد الوصيين وأخا سيد المرسلين وزوجته الطاهرة بثعالة شهيده ذنبه وجعله مريّاً لكل فتنة ! ثمّ إلى موت فاطمة صلوات الله عليها ساخطة على أبي بكر ، مغضبة عليه منكرة لإمامته وإلى انكار أبي بكر كون فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه آله وسلم مع كونه مخالفاً للآية والإجماع وأخبارهم وإلى أنّه انتزع فدك من يد وكلاء فاطمة عليها السلام وطلب منها الشهود مع أنّها لم تكن مدعية ، فحكم بغير حكم الله وحكم الرسول وصار بذلك من الكافرين بنص القرآن وإلى طلب الشاهد من المعصومة وردّ شهادة المعصومين الذين أنزل الله تعالى فيهم ما أنزل وقال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قال ، ومنعها الميراث خلافاً لحكم الكتاب وافترائه على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بما شهد الكتاب والسنة بكذبه فتبوء مقعده من النار وظلمه عليها صلوات الله عليها في منع سهم ذي القربى خلافاً لله تعالى ومناقضة لما رواه حيث مكن الازواج من التصرف في الحجر وغيرهما ممّا يستنبط من فحاوي ما ذكر من الأخبار ولا يخفى طريق استنباطها على أولي الابصار .

احتجاج فاطمة الزهراء عليها السلام على القوم لمّا منعوها فدك (1)
  روى عبدالله بن الحسن عليه السلام بإسناده عن آبائه عليهم السلام أنّه لمّا أجمع (2) أبو بكر على منع فاطمة عليها السلام فدك ، وبلغها ذلك ، لاثت خمارها على رأسها (3) ، واشتملت بجلبابها (4) ، وأقبلت في لمةٍ (5) من حفدتها (6) ونساء قومها ، تطأ ذيولها (7) ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (8) ، حتّى دخلت على أبي بكرٍ ـ وهو في حشدٍ (9) من المهاجرين

---------------------------
(1) قال العلامة المجلسي رضي الله عنه في البحارج 8 | ص 114 ، ط الكمباني : ولنوضح الخطبة الغّراء عن سيدّة النساء صلوات الله عليها ، الّتي تحيّر من العجب منها والاعجاب بها أحد الفصحاء والبلغاء ، ونبني الشرح على رواية ، ( الاحتجاج ) ونشير أحياناً إلى الروايات الأخر .
(2) أي أحكم النيّة والعزيمة عليه .
(3) أي عصبته وجمعته يقال : لاث العمامة على رأسه يلوثها لوثاً ، أي شدّها وربطها .
(4) الجلباب ، بالكسر : يطلق على الملحفة والرداء والازارة ، والثوب الواسع للمرأة دون الملحفة والثوب كالمقنعة تغطّي بها المرأة رأسها وصدرها وظهرها .
والأول هنا أظهر .
(5) اللمة ، بضم اللام وتخفيف الميم : الجماعة .
قال في النهاية : ( في حديث فاطمة عليها السلام أنّها خرجت في لمة من نسائها ، تتوطّأ ذيلها إلى أبي بكر فعاتبته ، أي في جماعة من نسائها .
قيل : هي ما بين الثالثة إلى العشرة ، وقيل : اللمة : ( المثل في السن والترب ) .
وقال الجوهري : ( الهاء عوض من الهمزة الذاهبة من وسطه ، وهو مما اخذت عينه كسهٍ ومذ ، وأصلها فعلة من الملائمة وهي الموافقة ) ، انتهى .
أقول : ويحتمل أن يكون بتشديد الميم ، قال الفيروز آبادي : ( اللّمّة بالضم : الصاحب والاصحاب في السفر والمونس ، للواحد والجمع ) .
(6) الحفدة ، بالتحريك : الأعون والخدم .
(7) أي كانت أثوابها طويلة تستر قدميها وتضع عليها قدمها عند المشي .
وجمع الذيل باعتبار الأجزاء أو تعدد الثياب .
(8) في بعض النسخ ( من مشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) .
والخرم : الترك والنقص والعدول ، المشية بالكسر : الاسم من مشى يمشي مشيا ، أي لم تنقص مشيتها من مشيته صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً كأنّه هو بعينه .
قال في النهاية : ( فيه : ما خرمت من صلاة رسول الله شيئاً ، أي ما تركت ، ومنه الحديث : لم أخرم منه حرفاً ، أي لم أدع ) .
(9) الحشد ، بالفتح وقد يحرّك : الجماعة .
وفي الكشف : ( إنّ فاطمة عليها السلام لمّا بلغها إجماع أبي بكر على منعها فدكاً لاثت خمارها ، وأقبلت في لميمه من حفدتها ونساء قومها ، تجرّ أدراعها ، وتطأ في ذيولها ، ما تخرم من مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى دخلت على أبي بكر وقد حشد المهاجرين والأنصار ، فضرب بينهم بريطة بيضاء ـ وقيل : قبطيّة ـ فأنّت أنّه أجهش لها القوم بالبكاء ، ثمّ أمهلت طويلاً حتى سكنوا من فورتهم ، ثمّ قالت : ابتدىء بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد ، الحمد لله على ما أنعم ) .

الاسرار الفاطمية _ 471 _

  والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة (1) ، فجلست ، ثم أنّت أنّه أجهش القوم (2) لها بالبكاء ، فارتج المجلس (3) ثم أمهلت هنيّة (4) حتى اذا سكن نشيج القوم (5) ، وهدأت فورتهم (6) ، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله ، فعاد القوم في بكائهم ، فلّما أمسكوا عادت في كلامها ، فقالت عليها السلام : الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قدّم ، من عموم نعم ابتدأها (7) ، وسبوغ آلاء أسداها (8) ، وتمام مننٍ والاها (9) ، جمّ عن الاحصاء عددها (10) ، ونأى عن الجزاء أمدها (11) ، وتفاوت عن الإدراك أبدها (12) ، وندبهم

---------------------------
(1) الملاءة ، بالضم والمدّ : الريطة والازار ، ونيطت بمعنى علّقت ، أي ضربوا بينها عليها السلام وبين القوم ستراً وحجاباً .
والريطة ، بالفتح : الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين ، أوهي كلّ ثوب ليّن رقيق ، والقبطّية ، بالكسر : ثياب بيض رقاق من كتّان تتّخذ بمصر ، وقد يضمّ لأنّهم يغيّرون في النسبة .
(2) الجهش أن يفزع الإنسان إلى غيره وهو مع ذلك يريد البكاء كالصبيّ يفزع إلى امه وقد يتهيّا للبكاء يقال : جهش إليه ـ كمنع ـ وأجهش .
(3) الارتجاع : الاضطراب .
(4) أي صبرت زماناً قليلاً .
(5) النشيج : صوت معه توجع وبكاء كما يردد الصبيّ بكاءه في صدره .
(6) هدأت ـ كمنعت ـ أي سكنت . وفورة الشيء : شدته ، وفارالقدر أي جاشت .
(7) أي بنعم أعطاها العباد قبل أن يستحقوها . ويحتمل أن يكون المراد بالقديم الإيجاد والفعل من غير ملاحظة معنى الابتداء فيكون تأسيساً .
(8) السبوغ : الكمال ، والآلاء : النعماء ، جمع ألى ، بالفتح والقصر وقد يكسر الهمزة ، وأسدى وأولى وأعطى بمعنى واحد .
(9) والاها ، أي تابعها بإعطاء نعمة بعد اخرى بلافصل .
(10) جمّ الشيء أي كثر ، والجم : الكثير ، والتعدية بعن لتضمين معنى التعدي والتجاوز .
(11) الأمد بالتحريك : الغاية ( و ) المنتهي ، أي بعد عن الجزاء بالشكر غايتها .
فالمراد بالأمد إمّا الأمد المفروض إذلا أمد لها على الحقيقة ، أو الأمد الحقيقى لكل حد من حدودها المفروضة ، يحتمل أن يكون المراد بأمدها ابتداؤها ، وقد مر في كثير من الخطب بهذا المعنى .
وقال في النهاية : ( في حديث الحجّاج قال للحسن : ما أمدك ؟ قال : سنتان من خلافة عمر ، أراد أنه ولد لسنتين من خلافته ، وللإنسان أمدان : مولده وموته ) انتهى .
وإذا حمل عليه يكون أبلغ ، ويحتمل على بعد أن يقرأ بكسر الميم ، قال الفيروز آبادي : ( الآمد : المملوّ من خير وشرّ ، والسفينة المشحونة ) .
(12) التفاوت : البعد ، والأبد : الدهر ، والدايم ، والقديم الازليّ ، وبعده عن الإدراك لعدم الانتهاء .

الاسرار الفاطمية _ 472 _

  لاستزادتها بالشكر لا تصالها (1) ، واستحمد إلى الخلايق بإجزالها (2) ، وثنّى بالندب إلى أمثالها (3) .
  وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها (4) ، وضمن القلوب موصولها (5) ، وأنار في الفكر معقولها (6) ، الممتنع من

---------------------------
(1) يقال : ندبه لإمر وإليه فانتدب ، أي دعاه فأجاب ، واللام في قولها ( لاتصالها ) لتعليل الندب ، أي رغّبهم في استزاده النعمة بسبب الشكر لتكون نعمة متصلة لهم غير منقطعة عنهم .
وجعل اللام الاولى للتعليل والثانية للصلة بعيد ، وفي بعض النسخ : ( لإفضالها ) فيحتمل تعلقه بالشكر .
(2) أي طلب منهم الحمد بسبب إجزال النعم وإكمالها عليهم ، يقال : أجزلت له من العطاء ، أي أكثرت ، وأجزاك النعم ، كأنه طلب الحمد ، أو طلب منهم الحمد حقيقة لإجزال النعم .
وعلى التقديرين التعدية بإلى لتضمين معنى الانتهاء أو التوجه ، وهذه التعدية في الحمد شايع بوجه آخر ، يقال : أحمد إليك الله ، قيل ، أي أحمده معك ، وقيل : أي أحمد إليك نعمة الله بتحديثك إياها .
ويحتمل أن يكون ( استحمد ) بمعنى تحمّد ، يقال : فلان يتحمّد عليّ ، أي يمتن ، فيكون إلى بمعنى على ، وفيه بعد .
(3) أي بعد أن أكمل لهم النعم الدينوية ندبهم إلى تحصيل أمثالها من النعم الاخروية أو الأعم منها ومن مزيد النعم الدنيوية .
ويحتمل أن يكون المراد بالندب إلى أمثالها أمر العباد بالإحسان والمعروف وهو إنعام على المحسن إليه ، وعلى المحسن أيضاً ، لأنه به يصير مستوجباً للأعواض والمثوبات الدنيوية والاخروية .
(4) المراد بالاخلاص جعل الأعمال كلها خالصة لله تعالى ، وعدم شوب الرياء والأغراض الفاسدة ، وعدم التوسل بغيره تعالى في شيء من الامور ، فهذا تأويل كلمة التوحيد ، لأن من أيقن بأنه الخالق والمدبر وبأنه لا شريك له في الالهية فحق له أن لا يشرك في العبادة غيره ، ولا يتوجه في شيء من الامور إلى غيره .
(5) هذه الفقرة تحتمل وجوهاً .
الأول : أن الله تعالى الزم وأوجب على القلوب ما تستلزمه هذه الكلمة من عدم تركيبه تعالى وعدم زيادة صفاته الكمالية الموجودة وأشباه ذلك مما يؤول إلى التوحيد .
الثاني : أن يكون المعنى : جعل ما يصل إليه العقل من تلك الكملة مدرجاً في القلوب بما أراهم من الآيات في الآفاق وفي أنفسه ، أو بما فطرهم عليه من التوحيد .
الثالث : أن يكون المعنى لم يكلف العقول الوصول إلى منتهى دقايق كلمة التوحيد وتأويلها ، بل إنما كلف عامة القلوب بالإذعان بظاهر معناها وصريح مغزاها ، وهو المراد بالوصول .
الرابع : أن يكو الضمير في ( موصولها ) راجعاً إلى القلوب ، أي لم يلزم القلوب إلاّ ما يمكنها الوصول إليها من تأويل تلك الكلمة الطيبة والدقايق المستنبطة منها ، أو مطلقاً ، ولولا التفكيك لكان أحسن الوجوه بعد الوجه الأوّل ، بل مطلقاً .
(6) أي أوضح في الاذهان ما يتعقل من تلك الكلمة بالتفكر في الدلايل والبراهين .
ويحتمل إرجاع الضمير إلى القلوب .
والفكر بصيغة الجمع ، أي أوضح بالتفكر ما يعقلها العقول . هذا يؤيّد الوجه الرابع من وجوه الفقرة السابقة .

الاسرار الفاطمية _ 473 _

  الأبصار رؤيته (1) ، ومن الألسن صفته (2) ، ومن الأوهام كيفيته ، ابتدع الأشياء لامن شيء كان قبلها (3) ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلةٍ امتثلها (4) ، كونها بقدرته ، وذرأها بمشيته ، من غير حاجةٍ منه إلى تكوينها ، ولافائدة له في تصويرها إلاّ تثبيتاً لحكمته ، وتنبيهاً على طاعته (5) ، وإظهاراً لقدرته ، وتعبداً لبريته (6) ، وإعزازاً لدعوته (7) .
  ثمّ جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادةً لعباده عن نقمته (8) ، وحياشةً منه إلى جنته (9) .
  أشهد أن أبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله ، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله ، وسماه قبل أن اجتبله (10) ، واصطفاه قبل ان ابتعثه ، اذ الخلائق بالغيب مكنونة وبستر الأهاويل مصونة (11) ، وبنهاية العدم مقرونة ، علما من الله تعالى بمآيل

---------------------------
(1) يمكن أن يقرأ ( الأبصار ) بصيغة الجمع ، والمصدر ، والمراد بالرؤية العلم الكامل والظهور التامّ .
(2) الظاهر أنّ الصفة هنا مصدر ، ويحتمل المعنى المشهور بتقدير ، أي بيان صفته .
(3) ( لا من شيء ) أي مادة .
(4) احتذى مثاله : اقتدى به ، ( وامتثلها ) أي تبعها ولم يتعدّ عنها ، أي لم يخلقها على وفق صنع غيره .
(5) لأن ذوي العقل ينتبهون بمشاهدة مصنوعاته بأن شكر خالقها والمنعم بها واجب وأنّ خالقها مستحق للعبادة ، أو بأنّ من قدر عليها بقدر على الإعادة والانتقام .
(6) أي خلق البرّية ليتعبدهّهم ، أو خلق الأشياء ليتعبد البرايا بمعرفته والاستدلال بها عليه .
(7) أي خلق الأشياء ليغلب ويظهر دعوة الأنبياء إليه بالاستدلال بها .
(8) الذود والذياد ، بالذال المعجمة : السوق والطرد والدفع والإبعاد .
(9) حشت الصيد أحوشه : إذا جئته من حوإليه لتصرفه على الحبالة ، ولعل التعبير بذلك لنفور الناس بطباعهم عما يوجب دخول الجنة .
(10) الجبل : الخلق ، يقال : جبلهم الله أي خلقهم ، وجبله على الشيء أي طبعه عليه ، وعلى المعنى أنّه تعالى سماه لأنبيائه قبل أن يخلقه * ، ولعل زيادة البناء للمبالغة تنبيها على أنه خلق عظيم ، وفي بعض النسخ بالحاء المهملة ، يقال : احتبل الصيد ، أي أخذه بالحبالة ، فيكون المراد به الخلق أو البعث مجازاً ، وفي بعضها ( قبل أن اجتباه ) أي اصطفاه بالبعثة ، وكلّ منها لا تخلو من تكلف .
* قال السيوطي في ( الاتقان ) ج 2 | ص 141 اخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال : خمسة سموا قبل أن يكونوا : محمد : ومبشراً برسول يأتي من بعدي آسمه أحمد ...
(11) لعل المراد بالستر ستر العدم ، أو حجب الأصلاب والأرحام ، ونسبته إلى الأهاويل لما يلحق الأشياء في تلك الاحوال من موانع الوجود وعوائقه ويحتمل ان يكون المراد انها كانت مصونة عن الأهاويل بستر العدم إذ هي إنّما تلحقها بعد الوجود ، وقيل : التعبير بالأهاويل من قبيل التعبير عن درجات العدم بالظلمات .

الاسرار الفاطمية _ 474 _

  الأمور (1) ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بمواقع المقدور (2) ، ابتعثه الله تعالى إماماً لأمره (3) وعزيمةً على إمضاء حكمه ، وإنفاذاً لمقادير حتمه (4) .
  فرأى الامم فرقاً في أديانها ، عكّفاً على نيرانها (5) عابدة لأوثانها منكرةً لله مع عرفانها (6) .
  فأنارالله بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلمها (7) وكشف عن القلوب بهمها (8) ، وجلى عن الابصار غممها (9) وقام في الناس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصرهم من العماية (10) ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الطريق المستقيم ، ثمّ قبضه الله إليه قبض رأفةٍ واختيار (11) ورغبةٍ وايثار بمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم (12) عن تعب هذه الدار في راحةٍ ، قد حفّ بالملائكة

---------------------------
(1) على صيغة الجمع أي عواقبها ، وفي بعض النسخ بصيغة المفرد .
(2) أي لمعرفته تعالى بم يصلح وينبغى من أزمنة الامور الممكنة ، المقدورة وأمكنتها ويحتمل أن يكون المراد بالمقدور المقدر ، بل هو أظهر .
(3) أي للحكمة التي خلق الأشياء لأجلها .
(4) الإضافة في ( مقادير حتمه ) من قبيل اضافة الموصوف إلى الصفة ، أي مقاديره المحتومة .
(5) تفصيل وبيان للفرق بذكر بعضها ، يقال : عكف على الشيء ـ كضرب ونصر ـ أي أقبل عليه مواظباً ولازمه فهو عاكف ، ويجمع على عكّف بضم العين وفتح الكاف المشددة كما هو الغالب في فاعل الصفة نحو شهّد وغيّب ، والنيران جمع نار وهو قياس مطرد في جمع الأجوف نحو تيجان وجيران .
(6) لكون معرفته تعالى فطرية ، أو لقيام الدلائل الواضحة الدالة على وجوده سبحانه .
(7) الضمير في ( ظلمها ) راجع إلى الامم ، والضميران التاليان له يمكن ارجاعهما اليها وإلى القلوب والابصار . والظلم بضم الظاء وفتح اللام : جمع ظلمة ، استعيرت هنا للجهالة .
(8) البهم : جمع بهمة بالضم ، وهي مشكلات الامور .
(9) جلوت الأمر : أوضحته وكشفته ، والغمم : جمع غمة ، يقال : أمر غمّة ، أي مبهم ملتبس ، قال الله تعالى : ( ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ) قال أبو عبيدة : مجازها ظلمة وضيق ، وتقول غممت الشيء إذا غطيته وسترته .
(10) العماية : الغواية واللجاج ، ذكره الفيروز آبادي .
(11) واختيار ، أي من الله له ماهو خير له ، أو باختيار منه صلى الله عليه وآله ورضاً ، وكذا الايثار ، والأول أظهر فيهما .
(12) لعلّ الظرف متعلق بالايثار بتضمين معنى الضنة أو نحوها ، وفي بعض النسخ : ( محمد ) بدون الباء بتكون الجملة استينافيه ، أو مؤكدة للفقرة السابقة أو حالية بتقدير الواو .
وفي بعض كتب المناقب القديمة ( فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو أظهر .
وفي رواية كشف الغمّة : ( رغبة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم عن تعب هذه الدار ) وفي رواية أحمد بن أبي طاهر : ( بأبي عزّت هذ الدار ) ولعّل المراد دار القرار ، ولو كان المراد الدنيا تكون الجملة معترضة ، وعلى التقادير لايخلو من تكلف .

الاسرار الفاطمية _ 475 _

  الأبرار ورضوان الرّب الغفار ، ومجاورة الملك ، صلى الله على أبي نبيّه وأمينه على الوحي ، وصفيه وخيرته من الخلق ورضيه ، والسلام عليه رحمة الله وبركاته .
  ثمّ التفت إلى أهل المجلس وقالت : أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه (1) وحملة دينه ووحيه ، وأمناء الله على أنفسكم ، وبلغاؤه إلى الامم (2) ، وزعمتم حق لكم (3) لله فيكم ، عهد قدمه اليكم ، وبقية استخلفها عليكم (4) : كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بينة بصائره (5) ، منكشفة سرائره (6) ، متجلية ظواهره ، مغتبطة به أشياعه (7) ، قائد إلى الرضوان اتباعه ، مؤدٍ إلى النجاة إسماعه (8) ، به تنال حجج الله المنورة ، وعزائمه المفسرة ، ومحارمه المحذرة ، وبيناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة (9) ، وشرايعه المكتوبة .

---------------------------
(1) قال الفيروز آبادي : ( النصب بالفتح : العلم المنصوب ، ويحرك ، وهذا نصب عيني ، بالضم والفتح ) انتهى .
أي نصبكم الله لأوامره ونواهيه وهو خير الضمير ، و ( عباد الله ) منصوب على النداء .
(2) أي تؤدون الأحكام إلى ساير الناس لأنكم أدركتم صحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
(3) أي زعمتم أن ما ذكر ثابت لكم ، وتلك الأسماء صادقة عليكم بالاستحقاق ، ويمكن أن يقرأ على الماضي المجهول ، وفي إيراد لفظ الزعم إشعار بأنهم ليسوا متصفين بها حقيقة وإنما يدّعو ذلك كذبا ، ويمكن أن يكون ( حق لكم ) جملة اخرى مستانفة ، أي زعمتم أنكم كذلك وكان يحق لكم وينبغي أن تكونوا كذلك لكن قصرتم .
وفي بعض النسخ : ( وزعمتم حق له فيكم وعهد ) وفي كتاب المناقب القديم : ( زعمتم أن لا حق لي فيكم ، عهداً قدمه إليكم ) فيكون ( عهداً ) منصوباً باذكروا ونحوه * وفي الكشف : ( إلى الامم حولكم ، لله فيكم عهد ) .
* وفي الإحتجاج المطبوع : ( زعيم حقّ له فيكم وعهد ... ) فلا يحتاج إلى التكلف .
(4) العهد : الوصية ، وبقية الرجل : ما يخلفه في أهله ، والمراد بهما القران ، أو بالاوّل ما أوصاهم به في أهل بيته وعترته ، وبالثاني القرآن ، وفي رواية أحمد بن أبي طاهر : ( وبقيّة استخلفنا عليكم ومعنا كتاب الله ) فالمراد بالبقية أهل البيت عليهم السلام ، وبالعهد ما أوصاهم به فيهم .
(5) البصائر : جمع بصيرة وهي الحجّة .
(6) المراد بانكشاف السرائر وضوحها عند حملة القرآن وأهله .
(7) الغبطة أن يتمنى المرء مثل حال المغبوط من غير أن يريد زولها منه ، تقول : غبطته فاغتبط ، والباء للسبيية أي أشياعه مغبوطون بسبب اتباعه ، وتلك الفقرة غير موجودة في ساير الروايات .
(8) على بناء الافعال ، أي تلاوته ، وفي بعض نسخ الاحتجاج وساير الروايات : ( استماعه ) .
(9) المراد بالعزائم : الفرائض ، وبالفضائل : السنن ، وبالرخص : المباحات بل ما يشمل المكروهات ، وبالشرايع ما سوى ذلك من الاحكام كالحدود والديات والأعم ، وأما الحجج والبينات والبراهين فالظاهر أن بعضها مؤكدة لبعض ، ويمكن تخصيص كل منها ببعض ما يتعلق باصول الدين لبعض المناسبات ، وفي رواية أبي طاهر : ( وبيناته الجالية وجمله الكافية ) فالمراد بالبينات : المحكمات وبالجمل : المتشابهات ، ووصفها بالكافية لدفع توهم نقص فيها لاجمالها فإنها كافية فيما اريد منها ، ويكفي معرفة الراسخين في العلم بالمقصود منها فإنهم المفسرون لغيرهم ، ويحتمل أن يكون المراد بالجمل العمومات التي يستنبط منها الأحكام الكثيرة .

الاسرار الفاطمية _ 476 _

  فجل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر ، والزكاة تزكية للنفس (1) ونماء في الرزق (2) ، والصيام تثبيتاً للإخلاص (3) ، والحجّ تشييداً للدين (4) ، والعدل تنسيقاً للقلوب (5) ، واطاعتنا نظاماً للملة ، وإمامتنا أمانا من الفرقة ، والجهاد عزاً للإسلام ، والصبر معونةً على استيجاب الأجر (6) ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة ، وبر الوالدين وقايةً من السخط (7) ، وصلة الارحام منماةً للعدد (8) ، والقصاص حصناً للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين

---------------------------
(1) أي من دنس الذنوب ، أو من رذيلة البخل ، إشارة إلى قوله تعالى : ( تطهرهم وتزكيهم بها ) .
(2) إيماء إلى قوله تعالى ( وما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون ) ، على بعض التفاسير .
(3) أي لتشيد الإخلاص وإيقائه أو لا ثباته وبيانه ، ويؤيد الأخير أن في بعض الروايات : ( تبيينا ) .
وتخصيص الصوم بذلك لكونه أمراً عدمياً لا يظهر لغيره تعالى ، فهو أبعد من الرياء وأقرب الى الاخلاص .
وهذا أحد الوجوه في تفسير الحديث المشهور : ( الصوم لي وأنا أجزي به ) وقد شرحناه في حواشي الكافي وسياتي في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى .
(4) إنما خص التشيد به لظهوره ووضوحه وتحمل المشاق فيه وبذل النفس والمال له ، فالاتيان به أدل دليل على ثبوت الدين ، أو يوجب استقرار الدين في النفس لتلك العلل وغيرها مما لا نعرفه ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما ورد في الأخبار الكثيرة من أن علة الحج التشرف بخدمة الإمام وعرض النصرة عليه وتعلم شريع الدين منه ، فالتشييد لا يحتاج إلى تكلف .
وفي العلل ورواية ابن أبي طاهر : ( تسليةً للدين ) فلعل المعنى تسلية للنفس بتحمل المشاق وبذل الأموال بسبب التقيد بالدين ، أو المراد بالتسلية الكشف والأيضاح فإنها كشف الهم ، أو المراد بالدين أهل الدين ، أو اسند إليه مجازاً .
والظاهر أنه تصحيف ( تسنية ) وكذا في بعض نسخ العلل ، أي يصبير سبباً لرفعة الدين وعلوّه .
(5) التنسيق : التنظيم ، وفي العلل : ( مسكاً للقلوب ) أي ما يمسكها ، وفي القاموس : ( المسكة بالضم : ما يتمسك به وما يمسك الأبدان من الغذاء والشراب ، والجمع كصرد ، والمسك محركة : الموضع يمسك الماء ) .
وفي رواية ابن أبي طاهر والكشف : ( تنّسكا للقلوب ) أي عبادةً لها ، لأن العدل أمر نفساني تظهر آثاره على الجوارح .
(6) إذ به يتم فعل الطاعات وترك السيئات .
(7) أي سخطهما أو سخط الله تعالى ، والأول أظهر .
(8) المنماة : اسم مكان أو مصدر ميمي أي بصير سبباً لكثرة عدد الأولاد والعشاير ، كما أن قطعها يذر الديار بلاقع من أهلها .

الاسرار الفاطمية _ 477 _

  تغييراً للبخس (1) ، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس (2) ، واجتناب القذف حجاباً عن اللّغة (3) ، وترك السرقة إيجاباً للعفة (4) ، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية ، ( فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون ) وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنه ( إنّما يخشى الله من عباده العلماء ) .
  ثمّ قالت : أيّها الناس ! اعلموا أنّي فاطمة ، وأبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، أقول عوداً وبدءاً (5) ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً (6) : ( ولقد جاءكم رسول من أنفسكم (7) عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم (8) بالمؤمنين روؤف رحيم (9) ) (10) فإنّ تعزوه (11) وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المعزّي إليه صلى الله عليه وآله سلم ، فبلغّ الرسالة صادعاً بالنذارة (12) مائلاً عن مدرجة

---------------------------
(1) في ساير الروايات : ( للبخسة ) ، أي لئلا ينقص مال من ينقص المكيال والميزان إذ التوفية موجبة للبركة وكثرة المال ، أو لئلا ينقصوا أموال الناس ، فيكون المقصود أن هذا أمر يحكم العقل بقبحه .
(2) إي النجس أو ما يجب التنزه عنه عقلاً ، والأوّل أوضح في التعليل ، فيمكن الاستدلال على نجاستها .
(3) أي لعنة الله ، أو لعنة المقذوف ، أو القاذف ، فيرجع إلى الوجه الأخير في السابقة ، والأول أظهر ، إشارة إلى قوله تعالى : ( لعنوا في الدنيا والآخرة ) .
(4) أي لاولة عن التصرف في أموال الناس مطلقاً ، أو يرجع الى ما مر ، وكذا الفقرة التالية ، وفي الكشف بعد قوله ( للعفة ) : ( والتنزه عن أموال الأيتام ، والإستيثار بفيئهم إجارة من الظلم ، والعدل في الاحكام إيناساً للرعية ، والتبري من الشرك إخلاصاً للربوبية ) .
(5) أي أوّلاً وآخراً ، وفي رواية أبن أبي الحديد وغيره ( أقول عوداً على بدء ) .
والمعنى واحد .
(6) الشطط بالتحريك : البعد عن الحقّ ومجاوزة الحدّ في كل شيء ، وفي الكشف : ( ما أقول ذلك سرفاً ولا شططاً ) .
(7) أي لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية ، بل عن نكاح طيب ، كما روى عن الصادق عليه السلام ، وقيل : أي من جنسكم من البشر ، ثمّ من العرب ، ثمّ من بني إسماعيل .
(8) أي على إيمانكم وصلاح شانكم .
(9) التوبة : آية 128 .
(10) أي رحيم بالمؤمنين منكم ومن غيركم ، والرأفة : شدة الرحمة ، والتقديم لرعاية الفواصل ، وقيل : رؤوف بمن رآه ، رحيم بمن لم يره ، فالتقديم للاهتمام بالمتعلق .
(11) يقال : ( عزوته إلى أبيه ) أي نسبته إليه ، أي لن ذكرتم نسبه وعرفتموه تجدوه أبي وأخا بن عمّي ، فالاخوة ذكرت استطرداً ، ويمكن ان يكون الانتساب أعمّ من النسب ومما طرأ أخيراً ، ويمكن ان يقرأ ( وآخا ) بصيغة الماضي ، وفي بعض الروايات : ( فإن تعزّروه وتوقروه ) .
(12) الصدع : الإظهار تقول : صدعت الشيء ، أي أظهرته ، وصدعت بالحقّ إذا تكلمت به جهاراً ، قال الله تعالى : ( فاصدع بما مؤثر ) .
والنذارة بالكسر : الإنذار وهو الإعلام على وجه التخويف .

الاسرار الفاطمية _ 478 _

  المشركين (1) ، ضارباً ثبجهم (2) ، آخذاً بأكظامهم ، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة (3) ، يكسر الأصنام وينكت الهام (4) حتى انهزم الجمع وولوا الدبر ، حتى نفرّى اللّيل عن صبحه (5) وأسفر الحق عن محضه (6) ، ونطق زعيم الدين (7) ، وخرست شقاشق الشياطين (8) ، طاح وشيظ النفاق (9) ، انحلّت عقد الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الإخلاص (10) في نفر من البيض الخماص (11) ، وكنتم على شفا

---------------------------
(1) المدرجة : المذهب والمسلك ، وفي الكشف : ( ناكباً عن سنن مدرجة المشركين ) وفي رواية ابن أبي طاهر ( مائلاً على مدرجة ) أي قائماً للرد عليهم ، وهو تصحيف .
(2) الثبج بالتحريك : وسط الشيء ومعظمه ، والكظم بالتحريك : مخرج النفس من الحلق ، أي كان صلى الله عليه وآله لا يبالي بكثرة المشركين واجتماعهم ولا يداريهم في الدعوة .
(3) كما أمره سبحانه : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) .
وقيل : المراد بالحكمة : البراهين القاطعة ، وهي للخواص وبالموعظة الحسنة : الخطابات المقنعة والعبر النافعة ، وهي للعوام ، وبالمجادلة التي هي أحسن : إلزام المعاندين والجاحدين بالمقدمات المشهورة والمسلمة ، وأمّا المغالطات والشعريات فلا يناسب درجة أصحاب النبوات .
(4) النكت : إلقاء الرجل على رأسه ، ويقال : طعنه فنكته ، والهام جمع الهامة ، بالتخفيف فيهما ، وهي الرأس والمراد قتل رؤساء المشركين ، وقمعم وإذلا لهم ، أو المشركين مطلقاً وقيل : أريد به إلقاء الأصنام على رؤوسها ، ولا يخفي بعده لا سيما بالنظر إلى ما بعده ، وفي بعض النسخ : ( ينكس الهام ) وفي الكشف وغيره : ( يجذّ الاصنام ) ومن قولهم : جذذت الشيء : كسرته ، ومنه قوله تعالى : ( فجعلهم جذاذا ) .
(5) الواو مكان حتى كما في رواية ابن أبي طاهر أظهر : و ( تفرّى الليل ) أي انشق حتى ظهر ضوء الصباح .
(6) يقال : ( أسفر الصبح ) أي أضاء .
(7) زعيم القوم : سيّدهم والمتكلم عنهم ، والزعيم أيضاً الكفيل ، والإَضافة لاميّة ، ويحتمل البيانية .
(8) خرس بكسر الراء ، والشقاشق جمع شقشقة بالكسر ، وهي شيء كالرية يخرجها البعير من فيه إذا هاج ، وإذا قالوا للخطيب : ذو شقشقة فإنما يشبّه بالفحل ، وإسناد الخرس إلى الشقاشق مجازيً .
(9) يقال : طاح فلان يطوح ، إذا هلك أو أشرف على الهلاك وتاه في الارض وسقط ، والوشيظ المعجمتين : الرذل والسفلة من الناس ، ومنه قولهم : إياكم والوشايظ ، وقال الجوهري : ( الوشيظ ) : لفيف من الناس ( ليس ) أصلهم واحد ( أ ) أو بنو فلان وشيظة في قومهم أي هم حشو فيهم ، والوسيط بالمهملتين : أشرف القوم نسباً وأرفعهم محلاً : وكذا في بعض النسخ وهو أيضاً مناسب .
(10) يقال : فاه فلان بالكلام ـ كقال ـ أي لفظ به ، كتفوّه ، وكلمة الإخلاص كلمة التوحيد ، وفيه تعريض بأنه لم يكن إمانهم عن قلوبهم .
(11) البيض : جمع أبيض وهو من الناس خلاف الاسود ، والخماص بالكسر : جمع خميص ، والخماصة تطلق على دقة البطن خلقة وعلى خلوّه من الطعام ، يقال : فلان خميص البطن من أموال الناس ، أي عفيف عنها ، وفي الحديث : ( كالطير تغدو خماصاً ، وتروح بطاناً ) .
والمراد البيض الخماص إما أهل البيت عليهم السلام ويؤيده ما في كشف الغمة : ( في نفر من البيض الخماص الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ) ، ووصفهم بالبيض لبياض وجودهم ، أو هو من قبيل وصف الرجل بالاغر ، وبالخماص لكونهم ضامري البطون بالصوم وقلّة الاكل ولعفتهم عن أكل أموال الناس بالباطل ، أو المراد بهم من آمن من العجم لسلمان ـ رضي الله عنه ـ وغيره ، وياقل لأهل فارس : بيض ، لغلبة البياض على الوانهم وأموالهم ، إذا الغالب في أموالهم الفضة ، كما يقال لأهل الشام : حمر ، لحمرة ألوانهم وغلبة الذهب في أموالهم ، والأول أظهر ، ويمكن اعتبار نوع تخصيص في المخاطبين فيكون المراد بهم غير الراسخين الكاملين في الإيمان ، وبالبيض الخماص الكمل منهم .

الاسرار الفاطمية _ 479 _

  حفرةٍ من النار (1) ، مذفة الشارب ، ونهزة الطامع (2) ، وقبسة العجلان (3) ، وموطىء الاقدام (4) ، تشربون الطرق (5) ، وتقتاتون الورق (6) ، أذلةً خاسئين (7) ، ( تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ) (8) .
  فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم بعد اللتيا والتي (9) ، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب (10) ، ( كلما

---------------------------
(1) شفا كل شيء : طرفه وشفيره ، أي كنتم على شفير جهنم مشرفين على دخولها لشرككم وكفركم .
(2) مذقة الشارب : شربته ، والنهزة بالضم : الفرصة ، أي محل نهزته ، أي كنتم قليلين أذلاء يتخطفكم الناس بسهولة .
(3) القبسة بالضم ، شعلة من نار يقتبس من معظمها ، والإضافة إلى العجلان لبيان القلة والحقارة .
(4) وطي الاقدام مثل مشهور في المغلوبية والمذلة .
(5) الطرق بالفتح : ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتعبر .
(6) الورق بالتحريك : ورق الشجر ، وفي بعض النسخ : ( تقتاتون القد ) وهو بكسر القاف وتشديد الدال : سير يقد من جلد غير مدبوغ ، والمقصود وصفهم بخباثة المشرب وجشوبة المأكل لعدم اهتدائهم إلى ما يصلحهم في ديناهم ، ولفقرهم وقلة ذات يدهم ، وخوفهم من الاعادي .
(7) الخاسىء : المبعد المطرود .
(8) التخطف : استلاب الشيء وأخذه بسرعة ، اقتبس من قوله تعالى : ( واذكروا اذ انتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس فآويكم وايدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) .
وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام إن الخطاب في تلك الآية لقريش خاصة ، والمراد بالناس ساير العرب أو الاعم .
(9) اللتيا بفتح اللام وتشديد الياء : تصغير التي ، وجوز بعضه فيه ضم اللام ، وهما كنايتان عن الداهية الصغيرة والكبيرة .
(10) يقال : مني بكذا ـ على صيغة المجهول ـ أي ابتلي ، وبهم الرجال ـ كصرد ـ : الشجعان منهم ، لأنهم لشدة بأسهم لا يدري من أين يؤتون ، وذؤبان العرب : لصوصهم وصعاليكهم الذين لامال لهم ولا اعتماد عليهم ، والمردة : العتاة المتكبرون المجاوزون للحد .

الاسرار الفاطمية _ 480 _

  أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ) ، أو نجم قرن للشيطان (1) ، وفغرت فاغرة من المشركين (2) قذف أخاه في لهواتها (3) ، فلا ينكفىء (4) حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه (5) ، مكدوداً في ذات الله (6) ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله سيد أولياء الله (7) ، مشمّراً ناصحاً (8) ، مجداً كادحاً (9) ، وأنتم في رفاهية من العيش ، وادعون فاكهون آمنون (10) ، تتربصون بنا الدوائر (11) ، وتتوكّفون

---------------------------
(1) نجم الشيء ـ كنصر ـ نجوماً : ظهر وطلع ، والمراد بالقرن : القوّة ، وفسر قرن الشيطان بامته ومتابعيه .
(2) فغر فاه ، أي فتحه ، يتعدى ولا يتعدى ، والفاغرة من المشركين : الطائفة العادية منهم تشبيهاً بالحية أو السبع ، ويمكن تقدير الموصوف مذكراً على أن يكون التاء للمبالغة .
(3) القذف : الرمي ، ويستعمل في الحجارة ، كما أن الحذف يستعمل في الحصا ، يقال : هم بين حاذف وقاذف ، واللهوات بالتحريك : جمع لهاة وهي اللحمة في أقصى سقف الفم ، وفي بعض الروايات : ( في مهواتها ) بالميم وهي بالتسكين : الحفرة وما بين الجبلين ونحو ذلك .
وعلى أي حالٍ المراد أنه صلى الله عليه وآله كلما أراده طائفة من المشركين أو عرضت له داهية عظيمة بعث علياً عليه السلام لدفعها وعرضه للمهالك ، وفي رواية الكشف وابن أبي طاهر : ( كلما حشوا ناراً للحرب ونجم قرن للضلال ) ، قال الجوهري : ( حششت النار : أوقدتها ) .
(4) انكفأ ، بالهمزة : أي رجع ، من قولهم : كفأت القوم كفأ : إذا أرادوا وجهاً فصرفتهم عنه إلى غيره فانكفؤا ، أي رجعوا .
(5) الصماخ ، بالكسر ، ثقب الاذن ، والاذن نفسها ، وبالسين كما في بعض الروايات لغة فيه ، والاخمص : مالا يصيب الأرض من باطن القدم عند المشي ، ووطي الصماخ بالاخمص عبارة عن القهر والغلبة على أبلغ وجه ، وكذا اخماد اللهب بماء السيف استعارة بليغة شايعة .
(6) المكدود : من بلغه التعب والأذى ، وذات الله : أمره ودينه وكلّ ما يتعلق به سبحانه ، وفي الكشف : ( مكدوداً دؤوباً في ذات الله ) .
(7) بالجر صفة الرسول ، أو بالنصب عطفاً على الأحوال السابقة ، ويؤيد الأخير ما في رواية ابن أبي طاهر ( سيداً في أولياء ) .
(8) التشمير في الأمر : الجدّ والإهتمام فيه .
(9) الكدح : العمل والسعي .
(10) قال الجوهري : ( الدعة : الخفض ، تقول منه : ودع الرجل فهو وديع أي ساكن ، ووادع أيضاً ، يقال : نال فلان المكارم وادعاً من غير كلفة ) ، وقال : ( الفكاهة بالضمّ : المزاح ، وبالفتح مصدر فكه الرجل ـ بالكسر ـ فهو فكه : إذا كان طيب النفس مزاجاً والفكه أيضاً : الاشر والبطر ) وقريء ( ونعمة كانوا فيه فاكهين ) أي أشرين ، وفاكهين أي ناعمين ، والمفاكهة : الممازحة ، وفي رواية ابن أبي طاهر : ( وأنتم في بلهنية وادعون آمنون ) قال الجوهري : ( هو في بلهنيةٍ من العيش أي سعة ورفاهية ، وهو ملحق بالخماسي بألف في آخره ، وإنّما صارت ياء لكسرة ماقبلها ) وفي الكشف : ( وأنتم في رفهنية ) وهي مثلها لفظاً ومعنى .
(11) صروف الزمان وحوادث الأيام والعواقب المذمومة ، وأكثر ما تستعمل الدائرة في تحول النعمة إلى الشدة ، أي كنتم تنتظرون نزول البلايا علينا ، وزوال النعمة عنا .

الاسرار الفاطمية _ 481 _

  الأخبار (1) ، وتنكصون عند النزال (2) ، وتفرون عند القتال .
  فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهر فيكم حسيكة النفاق (3) ، وسمل جلبات الدين (4) ، ونطق كاظم الغاوين (5) ، ونبغ خامل الأقلّين (6) ، وهدر فنيق المبطلين (7) .
  فخطر في عرصاتكم (8) ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه ، هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين (9) ، وللغرّة فيه ملاحظين (10) .
  ثم استنهضكم (11) فوجدكم

---------------------------
(1) التوكّف : التوقع ، والمراد إخبار المصائب والفتن ، وفي بعض النسخ : ( تتواكفون الإخيار ) ، يقال : واكفه في الحرب أي واجهه .
(2) النكوص : الإحجام والرجوع عن الشئ ، والنزال بالكسر : أن ينزل القرنان عن إبلهما إلى خيلهما فيتضاربا ، والمقصود من تلك الفقرات أنّهم لم يزالوا منافقين لم يؤمنوا قطً .
(3) الحسيكة : العداوة ، قال الجوهري : ( الحسك : حسك السعدان ، الواحدة : حسكة وقولهم : في صدره عليّ حسيكة وحساكة أي ضغن وعداوة ) ، وفي بعض الروايات ( حسكة النفاق ) فهو على الاستعارة .
(4) سمل الثوب ـ كنصر ـ صار خلقاً ، والجلباب بالكسر : الملحفة ، وقيل : ثوب واسع للمرأة غير الملحفة ، وقيل : هو إزار ورداء ، وقيل : هو كالمقنعة تغطّي به المرة رأسها وظهرها وصدرها .
(5) الكظوم : السكوت .
(6) نبغ الشي ـ كمنع ونصر ـ أي ظهر ، ونبغ الرجل : اذا لم يكن في ارث الشعر ثم قال وأجاد ، والخامل : من خفي ذكره وصوته وكان ساقطاً لانباهة له ، والمراد بالأقلين : الأذلون ، وفي بعض الروايات : ( الأوّلين ) وفي الكشف : ( فنطق كاظم ، ونبغ خامل ) .
(7) الهدير : ترديد البعير صوته في حنجرته ، والفنيق : الفحل المكرم من الإبل الذي لا يركب ولا يهان لكرامته على أهله .
(8) يقال : خطر البعير بذنبه يخطر ـ بالكسر ـ خطراً و خطراناً : إذا رفعه مرة بعد مرة وضرب به فخديه ، ومنه قول الحجاج لما نصب المنجنيق على الكعبة : ( خطّارة كالجمل الفنيق ) ، شبه رميها بخطران الفنيق .
(9) مغرز الرأس ، بالكسر : ما يختفي فيه ، وقيل : لعل في الكلام تشبيهاً للشيطان بالقنفذ ، فإنه انما يطلع رأسه عند زوال الخوف ، أو بالمرجل الحريص المقدم على أمر ، فانه يمد عنقه إليه ، والهتاف : الصياح ، ( وأللفاكم ) أي وجدكم .
(10) الغرة ، بالكسر : الاغترار والانخداع ، والضمير المجرور راجع إلى الشيطان .
وملاحظة الشيء : مراعاته ، وأصله من اللحظ وهو النظر بمؤخر العين ، وهو اينما يكون عند تعلق القلب بشيء ، أي وجدكم الشيطان لشدة قبولكم للإنخداع كالذي كان مطمح نظره أن يغتر بأباطيله ، ويحتمل أن يكون ( للعزة ) بتقدم المهملة على المعجمة ، وفي الكشف : ( واللعزة ملاحظين ) أي وجدكم طالبين للعزة .
(11) النهوض : القيام ، واستنهضه لأمر أي امره بالقيام إليه .