وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( لمّا خلق الله آدم وحوّاء تبخترا في الجنّة ، فقال آدم لحوّاء : ما خلق الله خلقاً هو أحسن منّا ، فأوحى الله إلى جبرئيل عليه السلام : ائت بعبديّ الفردوس الأعلى ، فلمّا دخلا الفردوس نظرا إلى جارية على درنوك من درانيك الجنّة ، وعلى رأسها تاج من نور ، وفي أذنيها قرطان من نور قد أشرقت الجنان من حسن وجهها ، فقال آدم : حبيبي جبرئيل ! من هذه الجارية التي قد أشرقت الجنان من حسن وجهها ؟ فقال : هذه فاطمة بنت محمد نبيّ من ولدك يكون في آخر الزمان ، قال : فما هذا التاج الذي على رأسها ؟ قال : يعلها عليّ بن أبي طالب عليه اسلام ... قال : فما القرطان اللذان في اذنيها ؟ قال : ولداها الحسن والحسين ، قال آدم : حبيبي جبرئيل ! خلقوا قبلي ؟ قال : هم موجودون في غامض علم الله قبل أن تخلق بأربعة آلاف سنة ) (1) .
فـي الدّرّ كوّنها الباري iiوصوّرها      مـن  قبل إيجاد خلق اللوح iiوالقلم
وتـوّجت تـاج نـور حوله iiدرر      يضي كالشمس أو كالنجم في الظلم
لـله  اشـباح نـور طالما iiسكنوا      سـرّ الـغيوب فسادوا سائر iiالامم
  قال العلامة المقرّم : اشتهرت الصدّيقة بالزهراء لجمال هيئتها والنور الساطع في غرّتها ، حتّى إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء كما يزهر الكوكب لأهل الارض ، وإن حضرت للإستهلال أوّل الشهر لا يرى نور الهلال لغلبة نور وجهها على ضيائه (2) ...
  وعن سلمان الفارسّي ( ره ) مرفوعاً قال : كنت جالساً عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد إذا دخل العبّاس بن عبد المطّلب ، فسلّم ، فردّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورحّب به ، فقال : يا رسول الله بما فضّل الله علينا أهل البيت عليّ بن أبي طالب والمعادن واحدة ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذن أخبرك يا عمّ ، إنّ الله خلقني وخلق عليّاً ولا سماء ولا أرض ولا جنّة ولا نار ولا لوح ولا قلم ، فلمّاً أراد الله عزّ وجلّ بدو خلقنا تكلمّ بكلمة فكانت نوراً ، ثمّ تكلمّ بكلمة ثانية فكانت روحاً ، فمزج فيما بينهما واعتدلا ، فخلقني وعليّاً منهما ) .

---------------------------
(1) البحار : 43 | 52 .
(2) وفاة الزهراء : 15 .

الاسرار الفاطمية _ 427 _

  ثمّ فتق من نوري نور العرش ، فأنا أجلّ من العرش .
  ثمّ فتق من نور عليّ نور السماوات ، فعليّ أجلّ من السماوات .
  ثمّ فتق من نور الحسن نرو الشمس ، ومن نور الحسين نور القمر ، فهما أجلّ من الشمس والقمر .
  وكانت الملائكة تسبّح الله تعالى وتقول في تسبيحها : ( سبّوح قدّوس من أنوارها ما أكرمها على الله تعالى ) ! فلمّا أراد الله تعالى أن يبلو الملائكة أرسل عليهم سحاباً من ظلمة ، وكانت الملائكة لا تنظر أوّلها من آخرها ولا آخرها من أوّلها ، فقالت الملائكة ، إلهنا وسيّدنا منذ خلقتنا ما رأينا مثل ما نحن فيه ، فنسألك بحقّ هذه الأنوار إلا ما كشفت عنّا .
  فقال الله عزّ وجلّ : وعزّتي وجلالي لأفعلنّ ، فخلق نور فاطمة الزهراء عليها السلام يومئذ كالقنديل ، وعلّقه في قرط العرش ، فزهرت السماوات السبع والأرضون السبع ، من أجل ذلك سمّيت فاطمة ( الزهراء ) .
  وكانت الملائكة تسبّح الله وتقدّسه ، فقال الله : وعزّتي وجلالي ، لأجعلنّ ثواب تسبيحكم وتقديسكم إلى يوم القيامة لمحبّي هذه المرأة وأبيها ...
  إذن قد تبين من هذه الأخبار والأحاديث الشريفة الوجه من تسميتها بالزهراء فتارة لأشراق نورها للإمام علي عليه السلام وأخرى لأن الأرض والسموات العلى زهرت من نورها ، وتارة أخرى نتيجة عبادتها ودخول نورها إلى بيوتات المدينة وإشعاع هذا النور على جميع الناس آنذاك .
خجلاً  من نور iiبهجتها      تتوارى الشمس بالشفق
وحـياءً  مـن شمائلها      يتغطى الغصن iiبالورق
  10 ـ البتول
  جرت عادة الباحثين والكاتبين حول حياة السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها عند التعرض لاسمها المبارك ( البتول ) البحث حول قانون العلية والمعلولية كقانون وسنة ربانية جعلها البارىء عزوجل منذ الخلقة الاولى ، فنجد أنه لا يوجد معلول دو علة مؤثرة فيه أو لا توجد أسباب إلا ولها مسبب حقيقي ، وبعبارة أخرى لا

الاسرار الفاطمية _ 428 _

  يوجد أي شيء دون أن تكون له علة مؤثرة فيه ، وعلى هذا الأساس نجد أن الكثير قد طعنوا في اسمها الذي نحن بصدد الوقوف معه في هذه الصفحات حيث يقتضي اسم البتول مخالفة قانون العلية كل ذلك لما لهذا الإسم ( البتول ) من معنى مؤثر وفاعل على طبيعة الحياة البشرية ، ولو أن هؤلاء الذين وقفوا موقف التعنت لهذه الكرامة ولهذا المقام السامي وتأملوا في مراجعة القوانين الكونية والسنن الإلهية لوجدوا أن هناك الكثير من هذه القوانين قد خرقت وبتأييد من الله تعالى وهذا ما نجده من خلال مراجعة القرآن الكريم باعتباره المصدر الأول للتشريع الإسلامي ولقضايا المهمة التي ربما لا يوجد لها حل ( ونزلنا القرآن تبياناً لكل شيء ) أي لا يوجد شيء من الامور التي تعرض لنا في الحياة إلا وله أساس ومعرفة وبيان من القرآن الكريم ، أما من الذي يستطيع إدراك هذا البيان ومعرفته المعرفة الحقة فهذا ما نراه واضحاً بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده : ثم من بعد ذلك نرجع إلى الذين أوصى بهم الأئمة بالعودة اليهم بعد غيبة القائم عجل الله تعالى فرجه ( وأما الحوادث الواقعة في زمن الغيبة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم ) ، إذن لا بد بالنتيجة النهائية أن نرجع إلى القرآن الكريم ونرى هل ان هناك قوانين شذ عنها الكثير من الناس وحسب ما ارتضاه تبارك وتعالى ؟
  ( نعم ) بهذا القول سوف يجيبنا القرآن الكريم فثمة هناك شواهد واضحة البرهان جلية البيان ، صريحة في معناها متقدة في مغزاها أثبتت من خلال واقعيتها مدى صحة مدركيتها فهذه النار التي جعلت لإبراهيم عليه السلام برداً وسلاماً وخالفت قوانين الطبيعة في سلوكها وخاصيتها المحرقة وهذه شجرة من يقطين أنبتت ليونس عليه السلام بعد أن نبذه الحوت بالعراء وهو سقيم ، مع العلم بأن حبة اليقطين تحتاج إلى مدة غير قصيرة ، حتى تثبت وتورق وتستر بورقها جسم إنسان أو غير إنسان ، وهكذا نجد في شذوذ الكثير من المسائل عن القوانين والسنن الإلهية ، فهذه مريم مخالفة في ولادة عيسى عليه السلام من غير أب مسألة قانون التناسل البشري الطبيعي ، وكذلك هناك طوائف عديدة وأمثلة واضحة تدل دلالة صريحة على أنه هناك الكثير من القوانين قد خرقت بقدرة الله تعالى باعتباره هو مسبب الأسباب الطبيعي بل هو الجاعل لهذه السنن القدرة بهذه

الاسرار الفاطمية _ 429 _

  الكيفية كل هذا المقال الذي قلنا به وبيّنا الشيء اليسير منه لكي نرجع إلى قضية فاطمة سلام الله عليها في كونها بتول منقطعة عن الحيض ، فهل هذا اخلاف وتغير في قانون الطبيعة أم هي كرامة من الله تعالى لها ؟
  وهل لهذه مسألة وجه يخرج عنه المتحير فكره إلى الصحيح من البيان ؟ نعم نقول في فاطمة عليها السلام كانت بتول بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى وسبق أن قلنا أن هذه المسألة لم تكم الفريدة من نوعها ، بل توجد شواهد قرآنية عليها ومن خلال أبسط استقراء للقرآن الكريم نرى هذا الشيء الواضح .
  أما بيان البتول والوقوف عليها ، وبيان الوجه في ذلك فهذا ما سيظهر لنا من خلال مراجعة كتب اللغة والحديث والتاريخ لنرى كيف كانت فاطمة سلام الله عليها بتول بكل ما تحمل هذه الكلمة من مدلولات واضحة .
  أما بيان معنى هذه الكلمة من خلال مراجعة كتب اللغة فيظهر من خلال هذه الكتب أنه سئل أحمد بن يحيى عن فاطمة رضوا الله عليها بنت سيدّنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لم قيل لها : البتول ؟ فقال : لا نقطاعها عن نساء أهل زمانها ونساء الامّة عفافاً وفضلاً وديناً وحسباً .
  وقيل : لانقطاعها عن الدنيا إلى الله عزّ وجلّ ... وقيل : تبتيل خلقها انفراد كلّ شيء عنها بحسنه لا يتّكل بعضه على بعض .
  قال ابن الأعرابيّ : المبتّلة من النساء : الحسنة الخلق ، لا يقصر شيء عن شيء لا تكون حسنة العين سمجة الأنف ، ولا حسنة الأنف سمجة العين ، ولكن تكون تامّة (1) .
  وقال ابن الأثير : وامرأة بتول : منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم : وبها سمّيت مريم أمّ المسيح عليهما السلام .
  وسمّيت فاطمة ( البتول ) لانقطاعها من نساء زمانها فضلاً وديناً وحسباً .
  وقيل : لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى (2) .
  وقال الطريحي : والبتول فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قيل : سمّيت بذلك لانقطاعها إلى الله وعن نساء زمانها فضلاً ، وعن نساء الامّة فضلاً وحسباً وديناً (3) .

---------------------------
(1) لسان العرب : مادة بتل .
(2) النهاية : مادة بتل .
(3) مجمع البحرين : مادة بتل .

الاسرار الفاطمية _ 430 _

  وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( سمّيت فاطمة بتولاً لأنّها تبتّلت وتقطّعت عمّا هو معتاد العورات في كلّ شهر ، ولأنّها ترجع كلّ ليلة بكراً ، وسمّيت مريم بتولاً لأنّها ولدت عيسى بكراً ) (1) .
  وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( وإنّما سمّيت فاطمة ( البتول ) لأنّها تبتّلت من الحيض والنفاس ... ) (2) .
  وعن عليّ عليه السلام قال : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل : ما البتول ؟ فإنّا سمعناك يا رسول الله تقول : إنّ مريم بتول ، وفاطمة بتول ؟ فقال : البتول التي لن تر حمرةً قطّ ، أي لم تحض ، فإنّ الحيض مكروه في بنات الأنبياء ) (3) .
  وعن عائشة قال : إذا اقبلت فاطمة كانت مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانت لا تحيض قطّ ، لأنّها خلقت من تفّاحة الجنّة ، ولقد وضعت الحسن بعد العصر ، وطهرت من نفاسها ، فاغتسلت وصلّت المغرب (4) ...
  وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنّ ابنتي فاطمة حوراء ، إذ لم تحض ولم تطمث ) (5) .
  وروى الحافظ أبو بكر الشافعي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إبنتي حوراء آدمية لم تحض ولم تطمث ... ) (6) ... الخ .
  وروى ابن عساكر عن أنس بن مالك عن ام سليم قالت : لم تر فاطمة ( رضي الله عنها ) دماً في حيض ولا في نفاس (7) .
  وروى الطبري عن أسماء بنت عميس قالت : قبلت : ( أي ولدت ) فاطمة بالحسن فلم أر لها في حيض ولا نفاس ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أما علمت أن ابنتي طاهرة ، لا يرى لها دم في طمث ولا ولادة ) (8) .

---------------------------
(1) احقاق الحق : 10 | 25 ، المناقب المرتضوية 119 .
(2) ينابيع المودة : 260 .
(3) معاني الأخبار : 64 .
(4) أخبار الدول : 87 ، احقاق الحق : 10 | 244 .
(5) ذخائر العقبى : 26 .
(6) تاريخ بغداد : 3 | 331 .
(7) التاريخ الكبير لابن عساكر : 1 | 391 .
(8) نزهة المجالس : 227 .

الاسرار الفاطمية _ 431 _

  وعن أبي عبدالله عليه السلام قال : ( حرّم الله النساء على عليّ ما دامت فاطمة حيّة ، لأنها طاهرة لا تحيض ) (1) .
  وفي كتاب ( مولد فاطمة عليها السلام ) لابن بابويه ، يرفعه إلى أسماء بنت عميس قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كنت شهدت فاطمة إنّ فاطمة خلقت حوريّة في صورة إنسيّة (2) .
  وعن أبي جعفر عليه السلام ، عن آبائه : قال : ( إنّما سمّيت فاطمة بنت محمّد ) الطاهرة ( لطهارتها من كلّ دنس ، وطهارتها من كلّ رفث ، وما رأت قطّ يوماً حمرةً ولا نفاساً ) (3) .
  أقول : يظهر من التأمل في كلمات أصحاب الصحاح من أهل اللغة والبيان أنهم حملوا معنى الانقطاع بالنسبة للفظ البتول محملاً جيداً وفسروه بأنه انقطاع عن نساء زمان فاطمة سلام الله عليها من ناحية العفة والفضل والدين والحسب ، وكذلك حملوه على الزهد عن الدنيا وانقطاعها سلام الله عليها عن الدنيا وهذه المعاني التي حملوا اسم البتول عليها وان كانت جيدة ومفيدة وواضح من خلال السليقة العربية ومفاهيمها إلا واقع الحال والمقام لا يساعد على هذا الحمل ولا يظهر فيه نتيجة وجود مرجحات وشواهد وقرائن واضحة لمن أراد استقصاءها في معنى اسم البتول ، وخير شاهد على هذه القرائن هو ما قدمناه من الروايات الواردة في المقام من الخاصة والعامة ، فهي أفضل دليل على أن المراد من كلمة واسم البتول هو ما أطلقت وبينت الروايات الشريفة ، فالمقول الذي نقول به ونرجحه على كلمات أهل اللغة في معنى البتول في انه هذا الاسم ظاهر في التي لم تر حمرة قط ولم تحض أبداً وهو الذي يساعد عليه المقام فتأمل في هذه الروايات المباركة .
  أما ما يظهر من كلمات بعض الذين وقفوا موقف المتحير ولا يجد أي طريق لحل هذه المعضلة والتي حسب آرائهم انها مخالفة لنظام العلل والمعاليل والأسباب ، وان

---------------------------
(1) البحار : 43 | 16 .
(2) البحار : 43 ، ص 7 .
(3) البحار : 43 | 19 .

الاسرار الفاطمية _ 432 _

  قصية أن فاطمة سلام الله عليها لا ترى الدم ولا الحيض وأمثال هذه القذارة ، فحسب قولهم انها مخالفة لحديث الإمام الصادق عليه السلام حيث قال : ( أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسبابها فجعل لكل شيء سبباً ) وذلك من جهة خروجها عن هذا النظام الأكمل في الطبيعة فنقول : قد تبين الحال من خلال مراجعة القرآن الكريم وان الكثير من الشواهد القرآنية تدل دلالة قطعية على أن الله تعالى قد تصرف في ملكه وقهر الكثير من القواعد المطردة في الطبيعة الكونية ( ذلت لقدرتك الصعاب وتسببت بلطفك الأسباب ) ( ويا مسبب الأسباب من غير سبب ) .
  وقد علق المحقق الهمداني (1) على هذه المسألة ببيان واضح ذو فائدة جلية ومضامين عالية وغير مخالفة لما هو الأساس من هذه المسألة حيث قال : توجد في القرآن الكريم طائفة من القصص والوقائع والحوادث لا يساعد عليها جريان العادة المشهورة في عالم الطبيعة على نظام العلّة والمعلول المعهودة ، كحمل مريم سلام الله عليها ، فإنّها مع أنّه لم تمسسها بشر حملت بولدها عيسى عليه السلام ، وكحمل سارة بإسحاق عليه السلام مع أنّها كانت عجوزاً ، وكحمل امرأة زكريّا بيحيى مع أنّها كانت عاقراً ، وأمثال ذلك في العجزات وخوارق العادات التي يثبتها القرآن لعدّة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام ، فإنّ كلّ ذلك امور خارقة للعادة .
  فبعد هذا البيان يظهر للقارئ الكريم بطلان ما يقال : إنّ الحيض في النساء من لوازم الخلقة ، فخلوّ المرأة عنه نقص ، وإنّ العادة الشهريّة علامة وسبب للولادة ، لأنّا نقول : ليس الخروج من مضايق الطبيعة نقصاً بل ربما يكون كرامة يا لها من كرامة ! على أنّ الحيض بنفسه قذارة ورجس ، كما قال الله عزّ وجلّ ( قل هو أذىً ) أي قذارة يتأذّى منها ، فإنّ المرأة حين حدثت لها العادة الشهريّة تنفعل وتخجل وتنكسر ولا ترضى أن تصرّح بها لكلّ أحد وإن كان أمسّ الناس إليها من الرجال والنساء ، وقد تحدث فيها ضعف ، ومن ذلك سقطت عنها في هذه الأيّام الصلاة والصوم ، وحرم عليها اللبث في

---------------------------
(1) فاطمة بهجة قلب المصطفى : 160 ـ 161 .

الاسرار الفاطمية _ 433 _

  المساجد ، وغير ذلك من الأحكام المذكورة في كتب الفقه ، حتّى حين حاضت صارت ناقصة الإيمان كما نبّه عليه الإمام عليّ عليه السلام بقوله : ( فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيّام حيضهنّ ) (1) .
  فعل هذا : إنّ الل عزّ وجلّ تفضّل على سيّدة النساء فاطمة البتول العذراء سلام الله علهيا بالولادة الكاملة من دون رؤية هذه القذارة .
  وهذا فضيلة سامية لها ، وتطهير زائد في ذاتها سلام الله عليها .
  وإنّ الله عزّ وجلّ لا يرضى أن تتلوث سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين بهذه القذارة أو غيرها ظاهرة كانت أو باطنة ، كما قال في حقّها : ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) ، وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : يا حميراء إنّ فاطمة ليست كنساء الآدميّين لا تعتلّ كما يعتللن (2) .

---------------------------
(1) نهج البلاغة : خطبة 78 .
(2) البحار : 43 | 16 .

الاسرار الفاطمية _ 435 _

البحث الخامس عشر : فدك عنوان الولاية

الاسرار الفاطمية _ 437 _

  
لبعض أشراف مكة (1)
ما لعيني قد غاب عنها كراها (2)       وعـراها مـن عـبرةٍ iiماعراها
ألــدارٍ نـعمت فـيها iiزمـاناً      ثــم  فـارقتها فـلا iiأغـشاها
أم لـحـيّ بـانوا بـاقمار iiثـمً      يـتجلّى  الـدجى بضوء iiسناها
حـاش لـله لـست أطمع نفسي      أخـر الـعمر فـي اتّباع هواها
بـل  بكائي لذكر من خصّها iiالله      تـعـالى  بـلـطفه iiواجـتباها
خـتـم الله رسـلـه iiبـأبـيها      واصـطفاه  لـوحيه iiواصطفاها
وحـباها  بـالسيّدين iiالـزكيين      الأمـامين حـنه حـين حـباها
ولـفكري  في الصاحبين iiالّلذين      اأمـامين  مـنه حـين iiحـباها
مـنعا بـعلها مـن العهد iiوالعقد      وكــان الـمـنيب iiوالأوّاهـا
واسـتـبدّا  بـأمـرةٍ iiدبّـراها      قـبل دفـن الـنبيّ iiوانـتهزاها
وأتـت فـاطم تـطالب iiبالأرث      مـن  الـمصطفى فـما iiورثاها
لـيت  شـعري لم خولفت iiسنن      الـقرآن  فـيها والله قـد iiأبداها
نـسخت آيـة الـمواريث iiمنها      أم  هـما بـعد فـرضها iiبدّلاها
قــالا  أبــوك جـاء iiبـهذا      حـجة  مـن عـنداهم iiنصباها
قـال  لـلأنبياء حـكم بـأن iiلا      يـورثوا  فـي القديم iiوانتهراها
أفـبنت  الـنبىّ لـم تدر إن iiكا      ن  نـبيّ الـهدى بـذلك iiفـاها
بـضعة من محمدٍ خالفت ما iiقال      حـاشـا مـولاتـنا حـاشـاها
سـمعته  يـقول ذاك iiوجـاءت      تـطلب الارث ضـلة وسـفاها
هـي كـانت لـله أتقى iiوكانت      افـضل  الـخلق عـفّةً iiونزاها
أو تـقول الـنبيّ قد خالف iiالقر      آن  ويـح الأخـبار ممن رواها
سـل بإبطال قولهم سورة iiالنمل      وسـل مـريم الـتي قـبل iiطه

---------------------------
(1) * : يقول السيد الأمين في المجالس السنية ص 101 ج 5 وجدت هذه القصيدة بخط الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي ويظهر أنها لبعض أشراف مكة .
(2) الكرى : النعاس .

الاسرار الفاطمية _ 438 _

فـهما  يـنبئان عن إرث iiيحيى      وسـلـيمان مـن أراد iiانـتباها
فـدعت واشتكت إلى الله من iiذا      ك وفـاضت بـدمعها iiمـقلتاها
ثـمّ قـالت فنحلة لي من iiوالدي      الـمـصطفى فـلـم iiيـنحلاها
فـأقامت بـها شـهوداً iiفـقالوا      بـعـلها شـاهد لـها iiوابـناها
لم يجيزوا شهادة ابني رسول الله      هــادي  الأنـام إذ iiنـاصباها
لـم يـكن صـادقاً عـلي ولافا      طـمـة  عـندهم ولا iiولـداها
كـان  أتـقى لـله مـنهم iiفلان      قـبح  الـقائل الـمحال iiوشاها
جـرّعاها  مـن بـعد iiوالـدها      الغيض  مراراً فبئس iiماجرعاها
لـيت شـعري ما كان iiضرّهما      الـحفظ لـعهد النبيّ لو iiحفظاها
كـان  إكـرام خاتم الرّسل iiالها      دي  الـبشير النذير لو iiاكرماها
ولـو  ابـتيع ذاك بـالثمن iiالغا      لـي  لما ضاع في اتّباع iiهواها
ولـكان الـجميل أن iiيـقطعاها      فـدكاً لا الـجميل أن يـقطعاها
أتـرى  الـمسلمين كانوا iiيلومو      نـهما  فـي العطاء لو iiأعطياها
كـان تحت الخضراء بنت iiنبيّ      صـادقٍ  نـاطقٍ أمـين iiسواها
بـنت  مـن أمّ مـن حليلة iiمن      ويـل  لـمن سنّ ظلمها iiوأذاها
قـل  لنا أيها المجادل في iiالقول      عـن الـغاصبين إذ iiغـصباها
أهـما مـا تـعمّداها كـما iiقلت      بـظـلم كـلاّ ولا iiاهـتضماها
فـلـماذا  إذ جـهـزت iiلـلقاء      لـله عـند الممات لم يحضراها
شـيعت  نعشها ملائكة iiالرحمن      رفـقـاً بـهـا ومـا iiشـيعّاها
كـان  زهداً في أجرها أم iiعناداً      لأبـيـها الـنبيّ لـم iiيـتبعاها
أم لأنّ الـبتول أوصـت iiبـألا      يـشهدا  دفـنها فـما iiشـهداها
أغضباها  وأغضبا عند ذاك iiالله      ربّ الـسـماء إذ iiأغـضـباها
وكــذا أخـبـر الـنبي بـأنّ      الله يـرضى سـبحانه iiلرضاها
لا  نـبـيّ الـهدى أطـيع iiولا      فـاطمة أكـرمت ولا iiحـسناها
ولأيّ  الامــور تـدفن iiسـرّاً      بـضعة المصطفى ويعفى iiثراها

الاسرار الفاطمية _ 439 _

البحث الخامس عشر : فدك عنوان الولاية
  قد تعرض الكثير من الباحثين والمحققّين لقضية فدك وكتبت أقلامهم الشريفة في ما يتعلق بها من أمور عقائدية وولائية أفضل وأروح الكتب والتحقيقات سواء كانت هذه المؤلفات من الأفذاذ من العلماء الدينيين وكتّاب الشيعة المخلصين أو الذين تنورت بصيرتهم بنور الإيمان من جمهور العامة ، حيث تعتبر هذه الكتب من روائع التراث الأسلامي عبر مرّ السنين والدهور ، وفي خضم الأحداث إلى وقتنا الحاضر في أرث الزهراء عليها السلام خاصة والولاية لعلي عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عامة ، ويدافعون عن الباطل ويمدههم الشيطان بطغيانهم لحرف المسلمين عن الطريق المستقيم ، والمحجة البيضاء بولاية عليّ و أولاده الأئمة الاطهار عليهم السلام .
  فمن هذا المنطلق كان لابدلنا من وقفة يسيرة من عنوان الولاية والحق السليب من أهل بيت النبوة عليهم السلام تلك هي فداك التي جاءت لتعبر عن معاني الولاء أو البراءة بالنسبة للذين يقفون في سدة الحكم الإسلامي إذ بان رحلة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وفدك قرية بالحجاز ، بينهما وبين المدينة يومان ، وقيل : ثلاثة ، أفاءها الله إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في سنة ( سبع ) صلحاً ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل خيبر وفتح حصونها ، ولم يبق إلا ثلاث واشتد بهم الحصار ، راسلوا رسول الله يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل ، وبلغ ذلك من أهل فدك ، فأرسلوا الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك ، فهي ممالم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيها عين خوارة ونخيل كثير ، وهي التي أقطعها رسول الله فاطمة صلوات الله عليها (1) ولقد نزلت الآيات القرآنية الكريمة على قلب الرسول الأكرم كي تثبت حقيقة خالدة على من العصور ألا وهي منح فاطمة الزهراء فدكا

---------------------------
(1) معجم البلدان : 4 | 238 ، لسان العرب : 10 | 203 .

الاسرار الفاطمية _ 440 _

  وعلى لسان القرآن الكريم ، لذلك تعتبر فدك منحة ربانية قبل أن تكون هدية نبوية ، حيث جاء قوله تعالى : ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير * ما أفاء الله على رسوله من أهل القربى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل لكيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم * وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله ان الله شديد العقاب ) (1) .
  ليكون دليلاً على أنّ قوله تعالى ( وآت ذا القربى حقه ) هو كون فدك للصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام ، ولقد أيدت هذا القول الكثير من الكتب الواردة في تفسير قوله تعالى ( وآت ذا القربى حقه ) منها كشف الغمة (2) وتفسير العياشي (3) وكتاب تأويل الآيات (4) وتفسير مجمع البيان (5) وتفسير فرات (6) ، حيث أجمعت جميع هذه الكتب أنّ فدك هبة من الله تعالى في القرآن الكريم وعلى لسان الرسول لفاطمة عليها السلام ، والذي يظهر من جميع هذه الكتب ان فدك لفاطمة ولعقبها من بعدها أي للائمة عليهم السلام ، ولقد غصبت فدك ظلماً وعدواناً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أما الشاهد على كونها هبة من الله تعالى ما روي في تفسير الإمام الرضا عليه السلام ، في مسألة اصطفاء أهل البيت في الكتاب العزيز في أثني عشر موطناً ... قال عليه السلام : والآية الخامسة : قول الله عزوجل : ( وآت ذي القربى حقه ) ، خصوصية خصهم الله العزيز الجبار بها ، واصطفاهم على الأمة ، فلما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أدعوا إليّ فاطمة ، فدعيت له : ( فقال ، قالت : لبيك يا رسول الله ، فقال : هذه فدك ، هي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهي لي خاصة ، دون المسلمين ، قد جعلتها لك لما أمرني الله تعالى به ، فخذيها لك ولي ولدك ) (7) .

---------------------------
(1) الحشر : آية 6 ـ 7 .
(2) ج 1 | ص 476 .
(3) 2 | 287 ح 50 .
(4) 1 | 435 ح 5 ، البرهان : 3 | 264 ح 3 .
(5) 6 | 411 .
(6) 239 | ح 323 ، 322 | ح 437 .
(7) عيون أخبار الرضا : 1 | 233 ضمن ح 1 ، البرهان : 2 | 415 ح 2 ، غاية المرام : 323 ح 219 ، نور الثقلين : 5 | 275 .

الاسرار الفاطمية _ 441 _

  ولكن القوم لم يتحملوا أن تكون فدك خالصة لأهل بيت النبوة بل شحت عليها أنفس القوم ، وإلى ذلك أشار الإمام علي عليه السلام في رسالته لابن حنيف : ( بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أضلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم الله ) (1) ، والذي يظهر من جميع الروايات الواردة في المقام : إن فدك كانت فيئاً أفاءها الله على نبيه خاصة دون المسلمين لانه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فأنزل الله تعالى : ( وآت ذي القربى حقه ) فقال صلى الله عليه وآله وسلم لجبرائيل عليه السلام ومن ذا القربى ؟ وما حقه ؟ : أعط فاطمة فدكاً ، فأعطاها حوائط فدك ، ومالله ولرسوله فيها فدعا حوائط فدك ، وما الله ولرسوله فيها فدعا حسناً وحسيناً وفاطمة عليهم السلام وقال لها عليه السلام : إن الله قد أفاء على أبيك فدكاً ، واختصه بها ، فهي لي خاصة دون المسلمين ، أفعل بها ما أشاء .
  وقال : كان لأمك خديجة على أبيك مهر وأنّ أباك قد جعل فدك لك بذلك .
  أقول : يظهر من هذا الكلام أنّ مسألة المهر الحاضر للزوجة يكون في ذمة الرجل في حالة عدم دفعه بعد وفاة الزوجة ولابد من أعطاءه للورثة الذين هم أبناء الزوجة لذا كانت فاطمة وريثة أمها خديجة في مهرها فأعطاها فدك في قبال ذلك ، هذا مانستفيده من خلال الرواية وقال صلى الله عليه وآله وسلم : نحلتكها لتكون لك ولولدك من بعدك فخذيها ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : أكتب لفاطمة نحلة من رسول الله .
  وبالجملة فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها حقها بأمر الله فدكاً ، فكانت لها من الله تعالى وقد جعلها في حياته لها نحلة ، وأشهد على ذلك أمير المؤمنين وأم أيمن .
  وقالت فاطمة عليها السلام : لست أحدث فيها حدثاً وأنت حي ، أنت أولى بي من نفسي ومالي لك ثم قالت في احتجاجها عليها السلام في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا كتاب رسول الله أوجبها لي ولولدي دون احتجاجها عليها السلام في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا كتاب رسول الله أوجبها لي ولولدي دون المؤمنين ، وعلى كل فليس في الروايات في تعيين من له فدك ، ذكر على أو ما يشعر بأن فدكاً له وهو أول الأئمة ، أو لخصوص الأئمة من ولد الحسين عليه السلام ، أو للامامة ومن يتصدى لها ، بل هي عطية ونحلة وهبها وأعطاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام لذي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم ، وهم فاطمة وولديها الحسن والحسين عليهم السلام كما

---------------------------
(1) نهج البلاغة : 417 ضمن كتاب : 45 .

الاسرار الفاطمية _ 442 _

  دعاهم واعطاها لتكون لفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ولا إختصاص في عقب فاطمة عليها السلام بالأئمة من ولد الحسين دون الحسن عليهم السلام ، وبعد فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام تكون ميراثاً لعقب الحسن والحسين عليهم السلام .
ثمّ قالت فنحلة لي من iiوالدي      الـمصطفى فـلم iiيـنحلاها
فـأقامت  بـها شهوداً iiفقالوا      بـعلها شـاهد لـها iiوابناها
لم يجيزوا شهادة ابني رسول      الله هـادي الانام إذ ناصباها

إخراج عمال فاطمة عليها السلام من فدك
  وردت عدة أحاديث وروايات أثبتت حقيقة واضحة البرهان (1) جليلة البيان وهي أنه لما بويع أبو بكر ، واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار ، بعث إلى فدك وأخرج وكيل فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها ، فجاءت فاطمة عليها السلام مستعدية فطالبها بالبينة ، فجاءت بعلي والحسنين صلوات الله عليهم وأم أيمن المشهود لها بالجنة ، فرد شهادة أهل البيت عليهم السلام بجرّ النفع وشهادة أم أيمن بقصورها عن نصاب الشهادة ثم أدعتها على وجه الميراث ، فغضبت عليه وعلى عمر فهجرتهما ، واوصت بدفنها ليلاً ، لئلاً يصلّيا عليها فاسخطا بذلك ربّهما ورسوله ، واستحقا اليم النكال ، وشديد الوبال ، ثم لما انتهت الإمارة إلى عمر بن عبد العزيز ردّها على بني فاطمة عليهم السلام ، ثم انتزعها منهم يزيد بن عبدالملك ، ثم دفعها السفاح الى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام ، ثم أخذها المنصور ، ثم اعادها المهدي ، ثم قبضها الهادي ، ثم ردها المأمون لما جاءه رسول بني فاطمة ، فنصب وكيلاً من قبلهم وجلس محاكماً فردها عليهم ، وفي ذلك يقول دعبل الخزاعي :
أصبح وجه الزمان قد ضحكا      بـرد مـأمون هـاشماً iiفدكا

---------------------------
(1) العوالم : 707 الخاصة بفاطمة عليها السلام .

الاسرار الفاطمية _ 443 _

خطأ الخليفة الأوّل
  ولنبين خطأ أبي بكر في تلك القضية مع وضوحها بوجوه : أما أن فدكاً كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمما لا نزاع فيه ، وقد أوردنا من رواياتنا وأخبارنا للمخالفين مافيه كفاية ونزيده وضوحاً بما رواه في جامع الأصول : مما أخرجه من صحيح ( أبي داود ) عن عمر ، قال : إنّ أموال بني النضير مما أفاء الله على رسول مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة قرى عرينة وفدك عرينة وفدك وكذا وكذا ينفق على أهله منها نفقة سنتهم ، ثم يجعل ما بقى في السلاح والكراع عدة في سبيل الله وتلا : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ) الآية .
  وروي أيضاً : عن مالك بن أوس قال : كان فيما احتج به عمر أن قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث صفايا : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك ، إلى آخر الخبر .
  وروى ابن أبي الحديد : قال أبو بكر : حدّثني أبو زيد عمر بن شبّه ، قال : حدثنا حيان ابن بشير ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : أخبرنا ابن أبي زائدة (1) ، عن محمد ابن إسحاق ، عن الزهري ، قال : بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحقن دماءهم ويسيرهم ، ففعل ، فسمع ذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك ، وكانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، لانه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ( قال ) : قال أبوبكر : وروى محمد بن اسحاق أيضاً : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فرغ من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك ، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصالحوه على النصف من فدك ، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق ، أو بعد ما قدم المدينة (2) ، فقبل ذلك منهم وكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالصة له ، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، قال : وقد روي انه صالحهم عليها كلّها ، الله أعلم أيّ الأمرين كان ، انتهى .
  وسيأتي اعتراف عمر بذلك في تنازع عليّ عليه السلام والعباس ، وأما أنّه وهبها لفاطمة عليها السلام

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة : 16 | 210 .
(2) في الشرح : ما أقام بالمدينة .

الاسرار الفاطمية _ 444 _

  فلأنّه لاخلاف في أنّها صلوات الله عليها ادّعت النحلة مع عصمتها بالأدلة المتقدمة ، وشهد له من ثبت عصته بالأدلة الماضية والآتية والمعصوم لا يدّعي ، إلاّ الحقّ ولا يشهد إلاّ بالحقّ ويدور الحقّ معه ، حيثما دار ، وأمّا انها كانت في يدها صلوات الله عليها فلأنّها ادعتها بعد الوفاة صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الاستحقاق وشهد المعصوم بذلك لها ، فإن كانت الهبة قال الموت تبطل بموت الواهب ، كما هو المشهود ، ثبت القبض وإلاّ فلا حاجة إليه في إثبات المدّعى .
  قد مرّ من الأخبار الدالّة على نحلتها وانّها كانت في يدها عليها السلام مايزيد على كفاية المنصف بل يسدّ طريق إنكار المتعسف ، ويدّل على أنها كانت في يدها صلوات الله عليها ما ذكر أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف ، حيث قال : ( بلى عنها نفوس آخرين ، ونعم الحكم الله ) وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غير جدث ! ) (1) .
  وأمّا أنّ أبا بكر وعمر أغضبا فاطمة عليها السلام فقد اتضح بالاخبار المتقدمة ، ثم اعلم أنا لم نجد أحداً من المخالفين أنكر كون فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ، ولا أحداً من الأصحاب طعن على أبي بكر بإنكاره ذلك ، إلاّ ما تفطّن به بعض الافاضل من الاشارف ، من أنه يظهر من أخبار المؤالف والمخالف ذلك .
  وقد تقدم ما رواه ابن ابي الحديد في ذلك ، عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري وغيرها من الأخبار ،

---------------------------
(1) أقول : إنّ فدك كانت في أيديهم ، وتحت تصرّفهم ، وعلى هذا فلم يكن للخليفة الغاصب مطالبتهم بالبينة ، فإنّها خلاف موازين القضاء ، ولم يكن إقطاع الرسول صلى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام وأهلها أمراً فريداً يخصّها : ففي فتوح البلدان للبلاذري : 31 : انه صلى الله عليه وآله أقطع من أرض بني النضير أبا بكر وعبد الرحمن بن عوف وأبا دجانة ، وغيرهم ، وفي ص 34 : وأقطع الزبير بن العوام أرضاً من أرض بني النضير ذات نخل .
وفي ص 27 : وأقطع بلالا أرضاً فيها جبل ومعدن ، وقال مالك بن أنس : أقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلال بن الحارث معادن بناحية الفرع ، وأقطع علياً عليه السلام أربع أرضين : الفقيرين وبئر قيس والشجرة ، وفي ص 34 : وأبو بكر نفسه أقطع الزبير الجرف ، وعمر أقطعه العقيق ، أجمع ، فما أدري لماذا أخذوا من فاطمة نحلة أبيها صلى الله عليه وآله ؟ وهل كانت هي فقط من الأموال العامة للمسلمين ؟ نعم ، كان سبب ابتزازها نحلة فاطمة وأبنيها تكون دعماً لبيت الإمامة ملازمة .

الاسرار الفاطمية _ 445 _

  ولا يخفى ، ان ذلك يتضمن إنكار الآية وإجماع المسلمين : إذ القائل : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصرف شيئاً من غلّة فدك وغيره من الصفايا في بعض مصالح المسلمين ، لم يقل بأنها لم تكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بل قال : بأنه فعل ذلك على وجه التفضّل وابتغاء مرضاة الله ، وظاهر الحال أنه أنكر ذلك دفعاً لصحة النحلة ، فكيف كان يسمع الشهود على النحلة مع ادّعائه أنها كانت من أموال المسلمين .
  واعتذر المخالفون من قبل أبي بكر بوجوه سخيفة :
  الأول : منع عصمتها صلوات الله عليها ، وقد تقدمت الدلائل المثبتة لها .
  الثاني : أنه لو سلم عصمتها ، فليس للحاكم أن يحكم بمجرد دعواها ، وإن تيقن صدقها ، وأجاب أصحابنا بالادلة الدالة على أن الحاكم يحكم يعلمه ، وأيضاً اتّفقت الخاصة والعامة على رواية قصة خزيمة بن ثابت وتسميته بذي الشهادتين لما شهد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعواه ، ولو كان المعصوم كغيره لما جاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبول شاهد واحد والحكم لنفسه ، بل كان يجب عليه الترافع إلى غيره ، وقد روى أصحابنا : أن أمير المؤمنين عليه السلام خطّا شريحاً في طلب البينّة ، وقال : إن إمام المسلمين يؤتمن من امور على ماهو أعظم من ذلك ، وأخذ ما ادّعاه من درع طلحة بغير حكم شريح ، والمخالفون ، حرّفوا هذا الخبر وجعلوه حجة لهم ، واعتذروا بوجوه اخرى سخيفة لا يخفى على عاقل بعد ما أوردنا في تلك الفصول ضعفها ووهنها ، فلا نطيل الكلام بذكرها .

بطلان دعوى عدم توريث الأنبياء عليهم السلام
  استدل أصحابنا على بطلان ذلك بآي من القرآن الكريم منها : قوله تعالى مخبراً عن زكريا عليه السلام : ( وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولّياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضيّاً ) قوله تعالى : ( ولياً ) أي : ولداً يكون أولى بميراثي ، وليس المراد بالواليّ من يقوم مقامه ولداً كان أو غيره ، لقوله

الاسرار الفاطمية _ 446 _

  تعالى حكاية عن زكريّا ( ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة ) .
  وقوله ( ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير المؤمنين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى ) ، والقرآن يفسّر بعضه بعضاً ، واختلف المفسرون في أن المراد بالميراث العلم أو المال فقال ابن عباس والحسن والضحاك : أن المراد به في قوله تعالى : ( يرثني ) وقوله سبحانه : ( ويرث من آل يعقوب ) ميراث المال .
  وقال أبو صالح : المراد به في الموضعين ميراث النبوة .
  وقال السدي ومجاهد والشعبي : المراد في الأول : ميراث المال ، وفي الثاني : ميراث النبوة ، وحكى هذا القول عن ابن عباس والحسن والضحاك .
  وحكي عن مجاهد ، أنه قال : المراد من الأول : العلم ، ومن الثاني : النبوة .
  وأما وجه دلالة الآية على المراد فهو أن لفظ الميراث في اللغة والشريعة والعرف إذا اطلق ولم يقيد ، لا يفهم منه إلاّ الأموال ومافي معناها ، ولا يستعمل في غيرها إلاّ مجازاً ، وكذا لا يفهم من قول القائل : ( لا وارث لفلان ) إلاّ من ينتقل إليه وأمواله وما يضاهيها دون العلوم وما يشاكلها ، ولا يجوم العدول ، عن ظاهر اللفظ وحقيقة إلاّ لدليل ، فلو لم يكن في الكلام قرينة توجب حمل اللفظ على أحد المعنيين ، لكفى في مطلوبنا ، كيف والقرائن الدالة على المقصود موجودة في اللفظ .
  أما أوّلاً : فلأنّ زكريا عليه السلام اشترط في وارثه أن يكون رضياً ، وإذا حمل الميراث على العلم والنبّوة لم يكن الإشتراط معنى ، بل كان كان لغواً عبثاً ، لأنّه إذا سأل من يقوم مقامه في العلم والنبوة فقد دخل في سؤاله الرضا ، وما هو أعظم منه ، فلا معنى لاشتراطها ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد : اللهم ابعث إلينا نبياً واجعله مكلفاً عاقلاً .
  وأما ترى أنه لا يحسن الخوف من بني العمّ ومن يحذر حذوهم يناسب المال دون النبوة والعلم ، وكيف يخاف مثل زكرياً عليه السلام من أن يبعث الله تعالى إلى خلقة نبياً يقيمه مقام زكرياً ولم يكن أهلاً للنبوة والعلم سواء كان من موالي زكرياً أو من غيرهم ، على أن زكرياً عليه السلام كان إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس ، فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته ، فإن قيل : كيف يجوز على مثل زكرياً عليه السلام الخوف من أن يرث الموالي ماله ، وهل هذا إلاّ الشحّ والبخل ؟
  قلنا : لمّا علم زكرياً عليه السلام من حال الموالي أنهم من أهل الفساد ، خاف أن ينفقوا أمواله

الاسرار الفاطمية _ 447 _

  في المعاصي ، ويصرفوه في غير الوجوه المحبوبة ، مع أنّ في وراثتهم ماله كان يقوي فسادهم وفجورهم ، فكان خوفه خوفاً من قوة الفسّاق ، وتمكنهم في سلوك الطرائق المذمومة وانتهاك محارم الله عزّ وجلّ ، وليس مثل ذلك من الشحّ والبخل ، فإن قيل : كما جاز الخوف على المال جاز الخوف على وراثتهم العلم ، لئلاّ يفسدوا به الناس ويضلّوهم ، ولا ريب في أنّ ظهور آثار العلم كان فيهم من دواعي إتباع الناس وإياهم وانقيادهم لهم ؟
  قلنا : لا يخلو هذا العلم الذي ذكرتموه من أن يكون هو كتب علمية وصحف حكمية ، لأنّه قد يسمى علما مجازاً ، أو يكون هو العلم الذي يملأ القلوب وتعيه الصدور ، فإن كل الأوّل ، فقد رجع إلى معنى المال ، وصح أن الأنبياء عليهم السلام يورثون الاموال وكان حاصل خوف زكرياّ عليه السلام أنه خاف من أن ينتفعوا ببعض أمواله نوعاً خاصاً من الإنتفاع ، فسأل ربّه ان يرزقه الولد حذراً من ذلك ، وإن كان الثاني : فلا يخل أيضاً من أن يكون هو العلم ، الّذي بعث النبي لنشره وأدائه إلى الخلق ، أو أن يكون علماً مخصوصاً لا يتعلق بشريعة ، ولا يجب إطلاع الأمة عليه كعلم العواقب وما يجري في مستقبل الأوقات ونحو ذلك .
  والقسم الأول : لا يجوز أن يخاف النبي من وصوله إلى بني عمّه ، وهم من جملة امته المبعوث إليهم لأن يهديهم ويعلمهم وكان خوفه من ذلك خوفاً من غرض البعثة .
  والقسم الثاني : لا معنى للخوف من أن يرثوه إذ أمره بيده ، ويقدر على ن يليقه إليهم ولو صحّ الخوف على القسم الأوّل لجرى ذلك فيه أيضاً فتأمل .
  هذا خلاصة ما ذكره السيّد المرتضى رضى الله عنه في الشافي عند تقرير هذا الدليل وما أورده عليه من تأخّر عنه يندفع بنفس التقرير ، كما لا يخفى على الناقد البصير فلذا لانسوّد بإيرادها الطوامير .
  الآية الثانية : قوله تعالى : ( وورث سليمن داود ) وقال : ( يا أيها الناس علّمنا منطق الطير واوتينا من كلّ شيء إن هذا لهو الفضل المبين ) وجه الدلالة هو أنّ المتبادر من قوله تعالى ورث : أنّه ورث ماله كما سبق في الآية المتقدمة ، فلا يعدل عنه إلاّ لدليل ،

الاسرار الفاطمية _ 448 _

  وأجاب قاضي القضاء في المغني : بأن في ما يدل على أن المراد وراثة العلم دون المال ، وهو قوله تعالى : وقال : ( يا أيّها الناس علّمنا منطق الطير ) ، فإنه يدل على أنّ الّذي ورث هو هذا العلم وهذا الفضل ، وإلاّ لم يكن لهذا تعلّق بالاول ، وقال الرازي في تفسيره : لو قال تعالى ورث سليمن داود ماله لم يكن لقوله تعالى وقال : ( يا أيها الناس علّمنا منطق الطير ) معنى ، وإذا قلنا : ورث مقامه من النبوّة والملك حسن ذلك ، لانّ علم منطق الطير يكون داخلاً في جملة ماورثه ، وكذلك قوله : ( واوتينا من كل شيء ) لأن وارث العلم يجمع ذلك ، ووارث المال لا يجمعه ، وقوله : ( إنّ هذا لهو الفضل المبين ) يليق أيضاً بما ذكر دون المال ، الّذي يحصل للكامل والناقص .
  وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده ، لا يليق إلاّ بما ذكرنا فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنّه لا يورث إلاّ المال فأما إذا ورث المال والملك معاً ، فهذا لا يبطل بالوجوه الّذي ذكرنا بل بظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ) ، وردّ السيّد المرتضى رضى الله عنه في الشافي كلام المغني بأنّه : لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصّة ، ثمّ يقول مع ذلك إنّا علّمنا منطق الطير ويشير بالفضل المبين إلى العلم والمال جميعاً ، فله في الأمرين جميعاً فضل على من لم يكن كذلك ، وقوله : ( وأوتينا من كلّ شيء ) يحتمل المال كما يحتمل العلم ، فليس بخالص لما ظنه ولو سلّم دلالة الكلام لما ذكره ، فلا يمتنع ، أن يريد أنه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا النوع من الإستدلال ، فليس يجب إذا دلّت الدلالة في بعض الألفاظ على المجاز أن نقتصر بها عليه ، بل يجب ان نحملها على الحقيقة التي هي الأصل ، إذا لم يمنع من ذلك مانع ، وقد ظهر بما ذكره السيد قدس سره ، بطلان قول الرازي أيضاً ، وكان القاضي يزعم أنّ العطف لو لم يكن للتفسير لم يكن للمعطوف تعلق بما عطف عليه ، وانقطع نظام الكلام وما اشتهر من أن التأسيس أولى من التأكيد ، من الأغلاظ المشهورة ، وكان الرازي يذهب إلى أنّه لامعنى للعطف ، إلاّ إذا كان المعطوف داخلاً في المعطوف عليه ، فعلي أي شيء يعطف حينئذ قوله تعالى : ( وأوتينا من كل شيء ) فتدبروا : أمّا قوله : أنّ المال يحصل للكامل والناقص ، فلو حمل الميراث على المال لم يناسب قوله : ( إن هذا الفضل المبين ) فيرّد عليه : أنّه إنما يستقيم إذا كانت الإشارة إلى أوّل الكلام فقط ، وهو وراثة المال وبعده ظاهر ،

الاسرار الفاطمية _ 449 _

  ولو كانت الإشارة إلى مجموعة الكلام كما هو الظاهر أو إلى أقرب الفقرات ، أعني قوله : ( واوتينا من كل شيءٍ ) لم يبق لهذا الكلام مجال ، وكيف لا يليق الإشارة دخول المال في جملة المشار إليه وقد منّ الله تعالى على عباده ، وفي غير موضع من كلامه المجيد بما أعطاهم في الدنيا من صنوف الأموال وأوجب على عباده الشكر عليه ، فلا دلالة فيه على عدم إرادة وراثة المال سواء كان من كلام سليمان أو من كلام المالك المنّان ، وقد ظهر بذلك بطلان قوله أخيراً إنّ كلام سليما أو من كلام المالك المنّان ، وقد ظهر بذلك بطلان قوله أخيراً إنّ ما ذكره الله من جنود سليمان لا يليق إلاّ بما ذكرنا ، بل الاظهر أنّ حشر الجنود من الجن والإنس والطير قرينة على عدم إرادة الملك من قوله : ( ورث سليمان داود ) فإنّ تلك الجنود لم تكن لداود حتّى يرثها سليمان ، بل كانت عظّية مبتدئاة من الله تعالى لسليمان عليه السلام ، وقد أجرى الله تعالى على لسانه أنّه أخبر الإعتراف بأنّ ما ذكره لا يبطل قول من حمل الآية على وارثةالملك معاً فإنّه يكفينا في إثبات المدّعى ، وسيأتي الكلام في الحديث الّذي تمسّك به .
  الآية الثالثة : ما يدّل على وارثة الاولاد والأرقاب ، كقوله تعالى : ( للرجال نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون ممّا قلّ نصيب أو كثر مفروضاً ) وقوله تعالى : ( وصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأثنين ) وقد اجتمعت الأمّة على عمومها إلاّ من أخرجه الدليل ، فيجب أن يتمسك بعمومها إلاّ إذا قامت دلالة قاطعة ، وقد قال سبحانه عقيب آيات الميراث : ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك هو الفوز العظيم * ومن يعص الله و رسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين ) ، ولم يقل دليل على خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : نحن معاشر الانبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة ، قال صاحب المغني : لم يقتصر أبو بكر على رواية حتّى استشهد عليه عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف ، فشهدوا به فكان لا يحل لأبي ، وقد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثاً ، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنّها صدقة وليس بميراث ، وأقلّ ما في الباب أن يكون الخير من أخبار الآحاد ، فلو أنّ شاهدين شهدا

الاسرار الفاطمية _ 450 _

  في التركة أنّ فيها حقّاً ، أليس كان يجب أن يصرفه عن الإرث ؟ فعلمه بما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع شهادة غيره أقوى ، ولسنا نجعله مدعياً ، لأنّه لم يدّع ذلك لنفسه وإنّما بين أنه ليس بميراث ، وأنه صدقة ولا يمتنع تخصيص القرآن بذلك كما يخص في العبد والقاتل وغيرهما .
  ويرد عليه : أنّ الإعتماد في تخصيص الآيات ، إمّا على سماع أبي بكر ذلك الخبر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويجب على الحاكم ان يحكم بعمله ، وإما على شهادة من زعموهم شهوداً على الرواية ، أو على مجموع الأمرين ، أو على سماعه من حيث الرواية منع انضمام الباقين إليه ، فإن كان الأول فيرد عليه بوجوه من الايراد عليه :
  الأول : ما ذكره السيّد رضى الله عنه في ( الشافي ) من أنّ أبا بكر في حكم المدّعي لنفسه والجار إليها نفعاً في حكمه ، لأن أبابكر وسائر المسلمين سوى أهل البيت عليه السلام تحل لهم الصدقة ، ويجوز أن يصيبوا منها ، وهذه تهمة في الحكم والشهادة ثمّ قال رضى الله عنه : وليس له ان يقول يقتضي أن لا تقبل شهادة شاهدين في تركة فيها صدقة بمثل ما ذكرتم ، وذلك لأن الشاهدين إذا شهدا بالصدقة فحظهما منها كحظّ صاحب الميراث ، بل سائر المسمين ، وليس كذلك حال تركة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأنّ كونها صدقة يحرّمها على ورثته ، ويبيحها لسائر المسلمين ، انتهى .
  ولعلّ مراده رحمهم الله أنّ لحرمان الورثة في خصوص تلك المادة شواهد على التهمة بأن كان غرضهم إضعاف جانب أهل البيت عليهم السلام ، لئلاّ يتمكنوا عن المنازعة في الخلافة ، ولا يميل الناس لنيل الزخارف الدنيوية ، فيكثر أعوانهم وأنصارهم ويظفروا بإخراج الخلافة والإمارة من أيدي المتغلبينّ ، اذ لا يشك أحد ممن نظر في أخبار العامة والخاصة ، في أن أمير المؤمنين عليه السلام كان في ذلك الوقت طالباً للخلافة ، مدّعياً لإستحقاقه لها ، وأنّه لم يكن إنصراف الاعيان والاشراف عنه ، وميلهم إلى غيره إلا لعلمهم بأنه لا يفضّل أحداً منهم على ضعفاء المسلمين ، وأنه يسوىّ بينهم في العطاء والتقريب ، ولم يكن إنصراف سائر الناس عنه إلا لقلة ذات يده ، وكون المال والجاه مع غيره .
  والأولى أن يقال في الجواب : أنه لم تكن التهمة لأجل أن له حصة في التركة ، بل لأنه

الاسرار الفاطمية _ 451 _

  كان يريد أن يكون تحت يده ، ويكون حاكماً فيه يعطيه من يشاء ، ويمنعه من يشاء ويؤيده : قول أبي بكر فيما رواه في جامع الاصول من سنن أبي داود ، عن أبي الطفيل ، قال : جاءت فاطمة عليها السلام إلى أبي بكر تطلب ميراثها من أبيها ، فقال لها ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ الله إذا أطعم نبياً طعمة فهو للذي يقوم من بعده ، ولا ريب في أنّ ذلك ممّا يتعلق به الأغراض ، ويعد من جلب المنافع ، ولذا لا تقبل شهادة الوكيل فيما هو وكيل فيه والوصي فيما هو وصي فيه ، وقد ذهب قوم إلى عدم جواز الحكم بالعلم مطلقاً لأنّه مظنة التهمة ، فكيف إذا قامت القرائن عليه من عداوة ومنازعة ، وإضعاف جانب ونحو ذلك ، والعجب أنّ بعضهم في باب النحلة منعوا بعد تسليم عصمة فاطمة عليها السلام جواز الحكم بمجرد الدعوى وعلم الحاكم بصدقها ، وجوزوا الحكم بأن التركة صدقة ، للعلم بالخبر مع معارضته للقرآن وقيام الدليل على كذبه .
  الثاني : أنّ الخبر معارض للقرآن لدلالة الآية في شأن زكريّا وداود عليهم السلام على الوارثة وليست الآية عامّة حتّى تخصص بالخبر فيجب طرح الخبر ، لايقال : إذا كانت الآية خاصّة فينبغي تخصيص الخير بها ، وحمله على غير زكريا وداود عليهما السلام لأنّا نقول : الحكم بخروجهما عن حكم الأنبياء مخالف لإجماع الأمة ، لإنحصارها بالإيراث مطلقاً ، وعدمه مطلقاً ، فلا محيص عن الحكم بكذب الخبر ، وطرحه .
  الثالث : أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يرى الخبر موضوعاً باطلاً ، وكان عليه السلام لا يرى إلاّ الحق والصدق ، فلابد من القول بأنّ من زعم أنّه سمع الخبر كاذب .
  أما الأولى : فلما رواه مسلم ، في ( صحيحة ) وأورده في ( جامع الأصول ) أيضاً عن مالك بن أوس ـ في رواية طويلة ـ قال : عمر لعليّ عليه السلام والعبّاس ، قال أبو بكر : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا نورث ، ما تركناه صدقة ، فرأيتماه كاذباً آثمناً غادراً خائناً ، والله يعلم أنّه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثمّ توفي أبو بكر ، فقلت : أنا وليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذباً غادراً آثماً خائناً ، والله يعلم أنّي لصادق بار تابع للحقّ فولّيتها .
  وعن البخاري : في منازعة علي والعباس فيما أناه الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من بني

الاسرار الفاطمية _ 452 _

  النضير ، أنه قال عمر بن الخطاب : قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقبضها فعمل فيها بها عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأنتما حينئذ ـ وأقبل على علي عليه السلام والعباس تزعمان أن أبابكر فيها كذا ، والله يعلم أنّه فيها صادق بار راشد تابع للحق وكذلك زاد في حق ، نفسه ، قال : والله يعلم أنّي فيها صادق بار راشد تابع للحق ، إلى آخر الخبر ، وقد روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، : من كتاب ( السقيفة ) عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري ( مثله ) بأسانيد .
  وأما المقدمة الثانية : فلما مر وسيأتي من الأخبار المتواترة ، في أنّ عليّاً عليه السلام لا يفارق الحق والحق لا يفرقه ، بل يدور معه حيث ما دار ، ويؤيده روايات السفينة والثقلين وأضرابهما .
  الرابع : أنّ فاطمة عليها السلام أنكرت رواية أبي بكر ، وحكمت بكذبه فيها ، ولا يجوز الكذب عليها ، فوجب الرواية وراويها .
  أما المقدمة الاولى : فلما مر في خطبتها وغيرها ، وسيأتي من شكايتها في مرضها وغيرها ، وقد رووا في صحاحهم : أنها عليها السلام انصرفت من عند أبي بكر ساخطة ، وماتت عليه واجدة ، وقد اعترف بذلك ابن أبي الحديد ، وأما الثانية : فلما من من عصمتها وجلالتها عليها السلام .
  الخامس : أنّه لو كانت تركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقة ، ولم يكن لها صلوات الله عليها حظّ فيها ، لبيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحكم لها إذا التكليف في تحريم أخذها ، يتعلق بها ول بينه لها لما طلبتها لعصمتها ، ولايرتاب عاقل في أنّه لو كانت بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيتهأن تركتي صدقة لاتحل لما خرجت ابنته وبضعته من بيتها مستعدية ساخطة صارخة في معشر المهاجرين ، والانصار ، تعاتب إمام زمانها بزعمكم ، وتنسبه إلى الجور والظلم في غصب تراثها ، وتستنصر المهاجر ، والانصار ، في الوثوب عليه ، وإثارة الفتنة بين المسلمين ، وتهيّج الشرّ ، ولم تستقر بعد أمر الامارة والخلافة ، وقد أيقنت بذلك طائفة من المؤمنين ، أن الخليفة غاصب للخلافة ناصب لأهل الإمامة ، فصبّوا عليه اللعن والطعن إلى نفخ الصور وقيام النشور ، وكان ذلك من أكد الدواعي إلى شقّ عصا المسلمين ، وافتراق كلمتهم ، وتشتت الفتهم ، وقد كانت تلك النيران يخمدها بيان الحكم لها ولامير المؤمنين عليه السلام ، ولعله لا يجسر من اوتي حظاً من الاسلام على القول

الاسرار الفاطمية _ 453 _

  بان فاطمة عليها السلام مع علمها بأن ليس لها في التركة بأمر الله نصيب ، كانت تقدم على مثل ذلك الصنيع ، أو كان أمير المؤمنين عليه السلام مع علمه بحكم الله ، لم يزجرها عن التظلم والإستعداء ، ولم بالقعود في بيتها ، راضية بأمر الله فيها ، وكان ينازع العباس ، بعد موتها ويتحاكم إلى عمر ابن الخطاب ، فليت شعري هل كان ذلك الترك والإهمال لعدم الإعتناء بضعته الّتي كانت تؤذيه ما آذاها ، ويريبه مارابها ، أو بأمر زوجها وابن عمّه وأخيه المساوي لنفسه ومواسيه بنفسه ، أو لقلة المبالاة بتبليغ أحكام أحكام الله وأمر امته ، وقد أرسله الله بالحق بشيراً ونذيراً للعالمين .
  السادس : أنّا مع قطع النظر عن جميع ما تقدم ، نحكم قطعاً بأن مدلول هذا الخبر كاذب باطل ومن اسند إليه هذا الخبر ، لا يجوز عليه الكذب ، فلابد من القول بكذب من رواه ، والقطع بأنه وضعه وافتراه ، وأما المقدمة الثانية فغنية عن البيان .
  وأما الاولى : فبيانها أنّه قد جرت عادة الناس قديماً وحديثاً بالإخبار عن كل ما جرى ، بخلاف المعهود بين كافة الناس ، وخرج عن سنن عاداتهم ، سيمّا إذا وقع في كل عصر وزمان ، وتوفرت الدواعي ، إلى نقله وروايته ، ومن العلوم لكل أحد ، أن جميع الامم على اختلافهم في مذاهبهم يهتمون بضبط أحوال الأنبياء وسيرتهم ، وأحوال أولادهم ، وما المعلوم أيضاً أنّ العادة قد جرت من يوم خلق الله الدنيا واهلها ، إلى زمان انقضاء مدتها وفنائها ، بأن يرث الاقربون من الاولاد ، وغيرهم أقاربهم وذوي أرحامهم ، وينتقعون ماموالهم وما خلفوه بعد موتهم ، ولا شك لأحد في أنّ عامة الناس ، عالمهم وجاهلهم ، وغنيهم وفقيرهم وملوكهم ، ورعاياهم يرغبون إلى كل ما نسب إلى ذي شرف وفضيلة ، ويتبركون به ويحرزه الملوك في خزائنهم ، ويوصون به لاحب أهلهم ، فكيف بسلاح الانبياء في ثيابهم وأمتعتهم ، ألا ترى إلى الاعمى إذ أبصر في مشهد من المشاهد المشرفة ، أو توهمت العامة أنّه أبصر اقتطعوا ثيابه وتبركوا بها وجعلوها حرزاً من كل بلاء ، إذا تمهّدت المقدمات فنقول : لو كان ما تركه الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى الخاتم صلى ال عليه وآله وسلم صدقة ، لقسمت بين الناس ، بخلاف المعهود من توارث الآباء والاولاد وسائر الاقارب ، ولا يخلو الحال : إمّا أن