قومه أو المنقطع عن الخير ، فردّ الله عليه بأنّه هو المنقطع من كلّ خير .
  ولما فيه قوله ( إنّا أعطيناك ) م الامتنان عليه صلى الله عليه وآله وسلم جيء بلفظ المتكلّم مع الغير الدالّ على العظمة ، ولما فيه من تطبيب نفسه الشريفة أكدّت الجملة بإنّ ، وعبّر بلفظ الإعطاء الظاهر في التمليك .
  وبالجملة لا تخلو من دلالة على أنّ ولد فاطمة عليها السلام ذرّيّته صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا في نفسه من ملامح القرآن الكريم ، فقد كثّر الله تعالى نسله بعد كثرة لا يعادلهم فيها أيّ نسل آخر ، مع ما نزل عليهم من النوائب ، وأفنى جموعهم من المقاتل الذريعة (1) .
  وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى : ( إنّا أعطيناك الكوثر ) ، والقول الثالث : الكوثر أولاده .
  قالوا : لأنّ هذه السورة إنما نزلت ردّاً على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ، ثم العالم ممتليّ منهم ولم يبق من بني ـ اميّة في الدنيا أحد يعبأ به ! ثمّ انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكيّة وأمثالهم (2) .
  وقال أيضاً : إنّا إذا حملنا الكوثر على كثرة الأتباع أو على كثرة الأولاد وعدم انقطاع النسل كال هذا إخباراً عن الغيب ، وقد وقع مطابقاً له ، فكان معجز (3) .
  وقال الآلوسي في تفسير : ( إنّ شانئك هو الأبتر ) ، الأبتر : الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر ، وأمّا أنت فتبقى ذرّيّتك ... عليه دلالة على أنّ أولاد البنات من الذرّيّة (4) .
  وقال العلامة القزوينيّ : ووجه المناسبة أنّ الكافر شمت بالنبّي صلى الله عليه وآله وسلم حين مات أحد أولاده وقال : إنّ محمداً أبتر ، فإن مات مات ذكره .
  فأنزل الله هذه السورة على نبيّه عليه السلام تسلية له ، كأنّه تعالى يقول : إن كان ابنك قد مات فإنّا أعطيناك فاطمة ، وهي وإن كانت واحداة وقليلة ولكنّ الله سيجعل هذا الواحد كثيراً .

---------------------------
(1) الميزان : 20 | 370 ـ 371 .
(2) التفسير الكبير : 32 | 124 .
3) التفسير الكبير : 32 | 128 .
(4) روح المعاني : 30 | 247 .

الاسرار الفاطمية _ 401 _

  وتصديقاً لهذا الكلام ترى في العالم ـ اليوم ـ ذرّية فاطمة الزهراء عليه السلام الذين هم ذرّية رسول الله عليه السلام منتشرين في بقاع العالم ، ففي العراق حوالي مليون ، وفي إيران حوالي ثلاث ملايين ، وفي حصر خمس ملايين ، وفي المغرب ، الأقصى خمس ملايين ، وفي الجزائر وتونس وليبيا عدد كثير ، وكذلك في الاردن وسوريا ولبنان والسودان وبلاد الخليج والسعوديّة ملايين ، وفي اليمن والهند وباكستان والأفغان وجزر أندونيسيا حوالي عشرين ملايين ، وقلّ أن تجد في البلاد الإسلاميّة بلدة ليس فيها أحد من نسل السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام ، ويقدّر مجموعهم بخمسهة وثلاثين مليوناً ، ولو اجريت إحصائيّات دقيقة وصحيحة فلعلّ العدد يتجاوز هذا المقدار (1) .
  ويؤيّد ما استفادة العلاّمة ( ره ) وغيره أخبار كثيرة وردت من الفريقين العامّة والخاصّة ، كما روى الحافظ الكنجيّ الشافعيّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إنّ الله عزّ وجلّ جعل ذرّية كلّ نبيّ في صلبه ، وإنّ الله عزّ وجلّ جعل ذرّيّتي في صلب علي بن أبي طالب ) .
  قلت : رواه الطبراني في معجمه الكبير ، في ترجمة الحسن .
  فإن قيل : لا اتّصال لذرّيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعلّي عليه السلام إلا من جهة فاطمة عليها السلام ، وأولاد البنات لا تكون ذرّيّة لقول الشاعر :
بـنـونا  بـنـو iiوبـناتنا      بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد
  قلت : في التنزيل حجّة واضحة تشهد بصحّة هذه الدعوى ، وهو قوله عزّ وجلّ في سورة الأنعام : ( ووهبنا له ( أي لإبراهيم ) إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذرّيّته ( أي ذّريّة نوح ) داود وسليمان ( إلى أن قال ) وزكريّا ويحيى وعيسى وإلياس ) (2) .
  فعدّ عيسى عليه السلام من جملة الذرّيّة الذين نسبهم إلى نوح عليه السلام وهو ابن بنت لا اتّصال له إلا من جهة امّه مريم .
  وفي هذا أكدّ دليل [ على ] أنّ أولاد فاطمة عليها السلام ذرّيّة للنبّي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عقب له إلا من جهتها ... وقد قال عطاء ومن شايعه من المفسّرين : الهاء من قوله ( ومن ذرّيّته ) راجعة إلى إبراهيم .
  ويحصل في هذا فائدة

---------------------------
(1) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد : ص 86 ـ 87 . (2) الأنعام : 84 ـ 85 .

الاسرار الفاطمية _ 402 _

  اخرى لطيفة وهو أنه عدّ من جملة الذرّيّة الذين نسبهم إلى إبراهيم لوطاً ولم يكن من صلبه ، لأنّ لوطاً ابن أخي إبراهيم ، والعرب تجعل العمّ أباً كما أخبر عزّ وجلّ عن ولد يعقوب حيث قال : ( نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ) ومعلوم أنّ إسماعيل عمّ يعقوب ولكن نزّله منزلة الأب ، فيحصل من هذا جواز انتساب أولاد عليّ عليه السلام إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الإطلاق ، لأنّه أخوه وهو منه بمنزلة هارون من موسى ، كما نسب الله لوطاً إلى إبراهيم ، ولوط إنّما هو ابن أخيه ، وكذلك هنا ... ابن حصين عن عمر قال : سمعت رسول الله يقول : كلّ بني أنثى فإنّ عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة ، فإنّي أنا عصبتهم وأنا أبوهم (1) .
  وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل : يا فاطمة ، ما بعث الله نبيّاً إلا جعل له ذرّيّة من صلبه ، وجعل ذرّيّتي من صلب عليّ ، ولولا عليّ ما كانت لي ذرّيّة (2) .
  قال ابن أبي الحديد في ذيل كلام عليّ عليه السلام : ( املكوا عنّي هذا الغلام لا يهدّني ، فإنّني أنفس بهذين ـ يعني الحسن والحسين (ع) ـ على الموت لئلاً ينقطع بهما نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) (3) .
  فإن قلت : أيجوز أن يقال للحسن والحسين وولدهما أبناء رسول الله وولد رسول الله وذرّيّة رسول الله ونسل رسول الله ؟
  قلت : نعم ، لأنّ الله سماهم أبنائه في قوله تعالى : ( ندع أبنائنا وأبنائكم ) (4) ، وإنما عنى الحسن والحسين ... وسمّى الله تعالى عيسى ذرّيّة إبراهيم في قوله : ( ومن ذرّيّته دواد وسليمان ـ إلى أن قال ـ ويحيى وعيسى ) ... فإن قلت : فما تصنع بقوله تعالى : ( ما كان محمّد أبا أحدٍ من رجالكم ) (5) ؟
  قلت : أسألك عن أبوّته لأبراهيم بن مارية ، فكلّ ما تجيب به عن ذلك فهو جوابي عن الحسن والحسين عليهما السلام .
  والجواب الشامل للجميع أنّه عنى زيد بن حارثة ، لأنّ

---------------------------
(1) كفاية الطالب : 379 .
(2) البحار : 43 | 101 .
(3) نهج البلاغة : الخطبة 205 .
(4) آل عمران : 61 .
(5) الأحزاب : 40 .

الاسرار الفاطمية _ 403 _

  العرب كانت تقول : زيد بن محمّد ، على عادتهم في تبنّي العبيد ، فأبطل الله ذلك ونهى عن سنّة الجاهليّة ... قيل لمحمّد ابن الحنفيّة : لم يغرّر بك أبوك في الحرب ولم لا يغرّر بالحسن والحسين ؟ فقال : لأنّهما عيناه ، وأنا يمينه ، وهو يذبّ عن عينيه بيمينه (1) .
  وروى الخطيب عن عبدالله بن عبّاس قال : كنت أنا وأبي العبّاس بن عبد المطّلب جالسين عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ دخل علي بن أبي طالب ، فسلّم فردّ عليه رسول الله : وبشّ به وقام إليه واعتنقه قبّل بين عينيه وأجلسه عن يمينه ، فقال العبّاس : يا رسول الله ، أتحبّ هذا ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : يا عمّ رسول الله ، والله لله أشدّ حباً له منّي ، إنّ الله جعل ذرّية كلّ نبيّ في صلبه ، وجعل ذرّيتي في صلب هذا (2) .
  وجرت مناظرة طويلة بين الإمام موسى بن جعفر عليهم السلام وبين هارون الرشيد ، وفيه قال له هارون : لم جوّزتم للعامّة والخاصّة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم ويقولون لكم : يا بني رسول الله ، وأنتم بنو عليّ ؟ وإنّما ينسب المرء إلى أبيه ، وفاطمة إنّما هي وعاء ، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جدّكم من قبل أمّكم ! فقلت : يا أمير المؤمنين ، لو أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه ؟ فقال : سبحان الله ! ولم لا اجيبه بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك .
  فقلت : لكنّه عليه السلام لا يخطب إليّ ولا ازوّجه . فقال : ولم ؟ فقلت : لأنّه ولدني ولم يلدك .
  فقال : أحسنت يا موسى .
  ثم قال : كيف قلتم إنّا ذرّيّة النبي ، والنبيّ صلى الله عليه وآل وسلم لم يعقب ، وإنّما العقب للذكر لا للانثى ، وأنتم ولد الابنة ولا يكون لها عقب ؟ فقلت : أسألك بحقّ القرابة والقبر ومن فيه إلا ما أعفيتني عن هذه المسألة ، فقال : أولا تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد عليّ ، وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم ؟ كذا انهي إليّ ، ولست أغفيك في كلّ ما أسالك عنه حتّى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله ، فأنتم تدّعون معشر ولد عليّ أنّه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو إلا وتأويله عندكم ، واحتججتم بقوله عزّ وجلّ : ( ما فرّطنا في

---------------------------
(1) شرح النهج : 11 | 26 .
(2) تاريخ بغداد : 1 | 316 ـ 317 .

الاسرار الفاطمية _ 404 _

  الكتاب من شيء ) (1) .
  وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم .
  فقلت : تأذن لي في الجواب ؟ قال : هات .
  فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ( ومن ذرّيّته داود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريّا ويحيى وعيسى ) (2) ، من أبو عيسى ، يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ليس لعيسى أب ، فقلت : إنّما الحقناه بذراري الأنبياء عليهم السلام من طريق مريم عليها السلام ، وكذلك الحقنا بذراري النبّي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل امّنا فاطمة عليها السلام .
  أزيدك يا أمير المؤمنين ؟ قال : هات .
  قلت : قول الله عزّ وجلّ : ( فمن حاجّك فيه من بعد ما جائك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وابنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) (3) ، ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تحت الكساء عند مباهلة النصاري إلا عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، وكان تأويل قوله عزّ وجلّ ( أبنائنا ) الحسن والحسين ( ونسائنا ) فاطمة ( وأنفسنا ) عليّ بن أبي طالب .
  إنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ جبرئيل قال يوم احد : ( يا محمّد ، إنّ هذه لهي المواساة من عليّ ، قال : لأنّه منّي وأنا منه ، فقال : جبرئيل : وأنما منكما يا رسول الله ، ثمّ قال : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتي إل عليّ ) فكان كما مدح الله عزّ وجلّ به خليله عليه السلام إذ يقول : ( فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ) (4) ، إنّا معشر بني عمّك نفتخر بقول جبرئيل إنّه منّا . فقال : أحسنت يا موسى ـ الحديث (5) .
  عن عبد الصمد بن بشير ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قال لي أبو جعفر عليه السلام : يا أبا الجارود ، ما يقولون في الحسن والحسين عليها السلام ؟ قلت : ينكرون علينا أنّهما ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : فبأيّ شيء احتججتم عليهم ؟ قلت : بقول الله عزّ وجلّ في عيسى بن مريم : ( ومن ذرّيّته داود وسليمان ( إلى قوله ) وكذلك نجزي

---------------------------
(1) الأنعام : 38 .
(2) الأنعام : 84 .
(3) آل عمران : 61 .
(4) الأنبياء : 60 .
(5) البحار : 48 | 127 .

الاسرار الفاطمية _ 405 _

  المحسنين ) ، وجعل عيسى من ذرّية إبراهيم ، قال : فأيّ شيء قالوا لكم ؟ قلت : قالوا : قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصلب .
  قال : فبأيّ شيء احتججتم عليهم ؟ قال : قلت : احتججنا عليهم بقول الله تعالى : ( قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم ) الآية : قال : فأيّ شيء قالوا لكم ؟ قلت : قالوا قد يكون في كلام العرب ابني رجل واحد ، فيقول : أبنائنا ، وإنّما هما ابن واحدٍ .
  قال : فقال أبو جعفر عليه السلام : والله يا أبا الجارود لاعطينّكها من كتاب الله تسمّى لصلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يردّها إلاّ كافر .
  قال : قلت : جعلت فداك ، وأين ؟ قال : حيث قال الله ( حرمّت عليكم امّهاتكم وبناتكم ( إلى أن ينتهي إلى قوله ) وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) (1) ، فسلهم يا أبا الجارود ، هل حلّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نكاح حليلتهما ؟ فإن قالوا : نعم ، فكذبوا والله وفجروا ، وإن قالوا : لا فهما والله ابناه لصلبه ، وما حرمتا عليه إلاّ للصلب (2) .
  وعن عامر الشعبيّ إنّه قال : بعث إلىّ الحجّاج ذات ليلة ، فخشيت ، فقمت وتوضّأت وأوصيت ، ثم دخلت عليه فنظرت فإذا نطع منشور وسيف مسلول ، فسلّمت عليه ، فردّ السلام فقال : لا تخف ، فقد أمنتك الليلة وغداً إلى الظهر ، وأجلسني عنده ، ثمّ أشار فأتي برجل مقيّد بالكبول والأغلال ، فوضعوه بين يديه فقال : إنّ هذا الشيخ يقول : إنّ الحسن والحسين كانا ابني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ليأتينّي بحجّة من القرآن وإلا لأضربنّ عنقه .
  فقلت : يجب أن تحلّ قيده فإنّه إذا أحتجّ فإنّه لا محالة يذهب ، وإن لم يحتجّ فإنّ السيف لا يقطع هذا الحديد ، فحلّوا قيوده وكبوله ، فنظرت فإذا هو سعيد بن جبير ، فحزنت بذلك وقلت : كيف يجد حجّة على ذلك من القرآن ؟ فقال له الحجّاج : أئتني بحجّة من القرآن على ما ادّعيت وإلا أضرب عنقك .
  فقال له : انتظر فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك ، فقال : انتظر ، فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك ، فقال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قال : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب ) إلى

---------------------------
(1) النساء : 23 .
(2) البحار: 43 | 233 .

الاسرار الفاطمية _ 406 _

  قوله ( وكذلك نجزي المحسنين ) .
  ثم سكت .
  وقال للحجّاج : اقرأ ما بعده ، فقرأ : ( وزكريّا ويحيى وعيسى ) ، فقال سعيد : كيف يليق ههنا عيسى ؟ قال : إنّه كان من ذرّيّته ، قال : اين كان عيسى من ذرّيّة إبراهيم ولم يكن له أب بل كان ابن ابنة فنسب إليه مع بعده ، فاحسن والحسين أولى أن ينسبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع قربهما منه .
  فأمر له بعشرة آلاف دينار وأمر بأن يحملوها معه إلى داره ، وأذن له في الرجوع .
  قال الشعبّي : فلما أصبحت قلت في نفسي : قد وجب عليّ أن آتي هذا الشيخ فأتعلّم منه معاني القرآن ، لأنّي كنت أظنّ أنّي أعرفها فإذا أنا لا أعرفها ، فأتيته فإذا هو في المسجد وتلك الدنانير بين يديه يفرّقها عشراً عشراً ويتصدّق بها ، ثم قال : هذا كلّه ببركة الحسن والحسين عليهما السلام ، لئن أغممنا واحداً لقد أفرحنا ألفاً وأرضينا الله ورسوله (1) .
  4 ـ الطاهرة
  من الأسماء الجميلة والتي تدل على معنى يصبو إليه كل مؤمن هو الطهارة الباطنية والظاهرية ، حيث سميت به فاطمة سلام الله عليها ، وقد دلت عدة روايات مهمة في هذا الباب على مدى طهارتها عليها السلام هذا بالإضافة إلى الشواهد الأخرى التي أيدت هذه المسألة عنها عليها السلام من أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة بل هي المحور الذي يدور عليه أهل البيت عليهم السلام ، وأفضل دليل على طهارتها هو آية التطهير ، فهي سلام الله عليها مطهرة نقية مبرءة من كل الأرجاس الظاهرية والباطنية وإليك بعض الأحاديث والشواهد التي تدل على أنها طاهرة سواء الطهارة الظاهرية أو الباطنية .
  فلقد ورد عن أبي جعفر ، عن آبائه : قال : إنّما سمّيت فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ( الطاهرة ) لطهارتها من كلّ دنس ، وطهارتها من كلّ رفث ، وما رأت قطّ يوماً حمرة

---------------------------
(1) البحار : 43 | 229 .

الاسرار الفاطمية _ 407 _

  ولا نفاساً (1) .
  وعن الصادق عليه السلام قال : إنّ الله حرّم النساء على عليّ ما دامت فاطمة حيّة ، لأنّها طاهرة لا تحيض (2) .
  ولقد بيّن العلامة المولى محمد علي الأنصاري وجه الطهارة عن أهل البيت : بما فيهم فاطمة سلام الله عليها حيث قال : ووجه الطهارة في جميع ما ذكر منهم من حيث الحكمة أنّ منشأ النجاسة ونحوها إنّما هو جهة النفسانيّة ، وليس في تلك الأنوار الإسفهبديّة جهة النفسانيّة بالمرّة ولو مثقال ذرّة .
  وما ورد في طهارة أجسادهم الشريفة إنّما هو محمول على أجزائها الظاهريّة والباطنيّة من كلّ حيثيّة ، وإلا فظواهر الأجساد طاهرة من كلّ مسلم أيضاً فلا يكون لهم حينئذ فضل من هذه الجهة ... (3) .
  أما قضية سد الأبواب بالنسبة للمسجد النبوي الشريف إلاّ لأهل البيت عليهم السلام في زمن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي أفضل شاهد على طهارتهم الظاهرية والباطنية .
  وقال العلامة الأميني (4) رحمه الله إشارة إلى هذا المسألة : إنّ سدّ الأبواب الشارعة في المسجد كان لتطهيرة عن الأدناس الظاهريّة والمعنويّة ، فلا يمرّ به أحد جنباً ، ولا يجنب فيه أحد .
  وأمّا ترك بابه صلى الله عليه وآله وسلم وباب أمير المؤمنين عليه السلام فلطهارتهما عن كلّ رجس ودنس بنصّ آية التطهير ، حتّى إنّ الجنابة لا تحدث فيهما من الخبث المعنوي ما تحدث في غيرهما ... وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا إنّ مسجدي حرام على كلّ حائض من النساء وكلّ جنب من الرجال إلاّ على محمد وأهل بيته عليهم السلام علي وفاطمة والحسن والحسين (5) ( صلوات الله عليهم أجمعين ) .
  وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا لا يحلّ هذا المسجد لجنب ولا الحائض إلاّ لرسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ، ألا قد بيّنت لكم الأسماء أن لا تضلّوا (6) ...

---------------------------
(1) البحار : 43 | 19 ، 16 ، مصباح الأنوار على ما في العوالم : 222 مخطوط .
(2) الماقب : 3 | 110 ، التهذيب : 7 | 475 ، بشارة المصطفى : 306 .
(3) اللمعة البيضاء : 24 .
(4) الغدير : 3 | 211 .
(5) سنن البيهقي : 7 | 65 .
(6) سنن البيهقي : 7 | 65 .

الاسرار الفاطمية _ 408 _

  فزبدة المخض من هذه كلّها أنّ إبقاء ذلك الباب والإذن لأهله بما أذن الله لرسوله ممّا خصّ به مبتنٍ على نزول آية التطهير النافية عنهم كلّ نوع من الرجاسة .
  وقال العلامة الشيخ السعيد جمال الدين الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني رحمه الله : وروي الصدوق في كتاب ( من لا يحضره الفقيه ) عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرسلاً أنّه قال : ( إنّ فاطمة ( صلوات الله عليها ) ليست كأحد منكنّ ، إنّها لا ترى دماً في حيض ولا نفاس كالحوريّة ... ) ولا يخفى ما في هذه الروايات من المافاة لما سبق في حديث قضاء الحائض للصوم دون الصلاة من أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر فاطمة عليه السلام بذلك .
  ووجه الجمع حمل أمره صلى الله عليه وآله وسلم لها عليها السلام على إرادة تعليم المؤمنات ، وهو نوع من التجوّز في الخطاب شائع ، ولعلّ المقتضي له في هذا الموضع رعاية خفاء هذه الكرامة كغيرها ممّا ينافي ظهوره بلاء التكليف (1) .
  وفي ختام هذا البحث ينبغي أن تلاحظ ما جاء في غسلها ووصيّتها عليه السلام قبل الوفاة ، وهو أدلّ دليل وأقوى حجّة على أنّها كانت طاهرة ميمونة في حياتها وبعد مماتها ، ولم يحدث الموت فيها رجاسة ولا دناسة ، مع أنك تعلم أنّه ممّا لا خلاف فيه تنجّس البدن بعد الموت وبعد خروج النفس عنه ، ولأجل ذلك لا بدّ أن يغسّل الميّت حتّى يطهّر بدنه وينظّف جسمه ، إلا أنّ سيّدة النساء عليه السلام أوصت أن لا يكشفها أحد ، وأن تدفن بغسلها قبل الوفاة .
  روى أحمد في مسنده عن أمّ سلمى ( زوجة أبي رافع ) قالت : اشتكت فاطمة شكواها التي قبضت فيه ، فكنت امرّضها ، فأصبحت يوماً كأمثل من رأيتها في شكواها تلك ، قالت : وخرج عليّ لبعض حاجته ، فقالت : يا امّه اسكبي لي غسلاً .
  فسكبت لها غسلاً ، فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغسل ، ثم قالت : يا أمّه أعطيني ثيابي الجدد ، فأعطيتها ، فلبستها ، ثم قالت : يا أمّه قدّي لي فراشي وسط البيت ، ففعلت ، واضطجعت واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدّها ، ثم قالت : يا امّه إنّي مقبوضة الآن وقد تطهّرت ، فلا يكشفني أحد ، فقبضت مكانها ، قالت : فجاء عليّ فأخبرنه (2) .

---------------------------
(1) منتقى الجمان : 1 | 224 .
(2) مسند أحمد : 6 | 461 ، وكذلك ورّد هذا الخبر في كتب مختلفة للعامّة والخاصّة ، منها ( الاصابة ) لابن حجر في ترجمتها عليها السلام ، و ( حليةالأولياء ) : 2 | 43 ، و ( كشف الغمّة ) : 1 | ص 502 ، و ( الماقب ) لابن شهر آشوب : 3 | 364 ، و ( المستدرك ) للمحدث النوريّ : 1 | 104 في نوادر الغسل .

الاسرار الفاطمية _ 409 _

  وقال في ( كشف الغمّة ) : واتفاقهما من طرق الشيعة والسنة على نقله مع كون الحكم على خلافة عجيب ، فإنّ الفقهاء من الطرفين لا يجيزون الدفن إلا بعد الغسل إلا في موضع ليس هذا منه ... ولعلّ هذا أمر يخصّها عليها السلام .
  نعم إنّها عليها السلام كأبيها في طهراتها كما تقدّم عن الصدق عليه السلام إنّه لمّا سئل : هل اغتسل عليّ حين غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : النبّي طاهر مطهّر ولكن اغتسل عليّ عليه السلام وجرت به السنة .
  5 ـ الزكية
  ومعنى هذا الاسم مماثل ومرادف للمباركة ، والذي يقتضي الحال ان الزكاة هي النمو والزيادة في الشيء على وجه ما بحيث يكون ذا أثر واضح نتيجة تلك الزيادة التي تطرأ عليه ، فالزهراء زكية من جهة أن الله تعالى قد جعل ذرية الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ازدادت ونمت عن طريق الرحم الطاهر للزهراء سلام الله عليها فلقد كثر وبانت ذرية الرسول من جهتها سلام الله عليها وهذا يقتضي أن تكون الزهراء هي المنبع الذي عن طريقه كثرة ذرية رسول الله ، فهي الزكية بكثرة بركتها على شيعتها ويمن المراجعة في هذا الموضوع في باب اسمها المباركة فإنه كما هي مباركة فهي زكية بسبب اخلاصها وحبها الله تعالى تفانيها في ذات الله .
  6 ـ الراضية
  من الأمور المهمة والتي تكون ذا أهمية كبيرة في معرفة درجة أيمان الفرد المسلم مسألة الرضا عن الله تعالى ، فمقام الرضا يحتاج إلى معرفة ويقين حتى يصل إليه الإنسان ويكون من الراضين بما قسم الله تعالى حتى يصل في النهاية إلى مرحلة إيمانية

الاسرار الفاطمية _ 410 _

  عالية جداً ، وكما ورد في دعاء كميل ( وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً ) أي أن الإنسان المؤمن يطلب من الله تعالى أن يوصله إلى مقام الرضا منه جل وعلا في كل ما يقسمة له سواء من خير أو غير ذلك ، ومع هذا كله فلقد ورّد في عدة أحاديث مروية عن أهل بيت العصمة عليهم السلام أن رأس طاعة الله تعالى الصبر والرضا عن الله تبارك وتعالى .
  فلقد جاء في الحديث الشريف عن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال : ( الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله ، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحب أو كره ، لم يقض الله عز وجل له فيما أحب أو كره إلا ما هو خير له ) (1) لأنه سبحانه وتعالى كما ورد في بعض الأخبار ـ عند حسن ظن عبده المؤمن به ، إضافة إلى أن الله سبحانه لا يختار لعبده إلا ما فيه خيره ومصلحته ، وان خفيف تلك المصلحة على العبد لمحدوديته وقصوره عن الإحاطة بمصالحه ومفاسده .
  وجاء في حديث آخر عن أبي عبدالله عليه السلام قال : إنّ أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عز وجل (2) .
  فمن خلال هذا الحديث وأحاديث أخرى يظهر مقام الزهراء سلام الله عليها العلي حيث أنها كانت راضية عن الله تعالى بكل ما قدر لها من خير وبلاء ، وهذا ينم عن الحالة الإيمانية عند فاطمة سلام الله عليها ، فمبلاحظة اسمها إلا لمن حاز على مرتبة شريفة وسامية ، فبملاحظة أمور أخرى في حياتها سلام الله عليها يتضح ويظهر آنها عليها السلام كانت ذا مرتبة علمية وعرفانية بلغت أوج عظمتها ، وكما ورد على لسان المعصوم عليه السلام ( نحن حجج الله على الخلق وجدتنا فاطمة حجة الله علينا ) والحجة لا يكون على الآخرين إلا إذا كان ذو مقام علمي وسامي على الآخرين وإلا لا يكون حجة على غيره .
  إذن فاطمة كانت راضية وهذا يظهر من خلال أبسط تأمل لحياتها وما جرى عليها

---------------------------
(1) اصول الكافي : 2 | 66 .
(2) اصول الكافي : 2 | 66 .

الاسرار الفاطمية _ 411 _

  من الظلم والأذى ، وبما قدّر لها من مرارة الدنيا ومشقاتها ومصائبها وبلاياها .
  وبمراجعة بعض الروايات في المقام يظهر ان هناك حالة ترابط بين اسم الصديقة لفاطمة سلام الله عليها وبين اسمها الراضية ، فهناك حالة تلازم كما يظهر من الحديث الذي سوف أنقله إليك بين حالة الرضا بقضاء الله تعالى وبين الصدّيق الذي يكون عند الله بهذا المقام ، فلقد روي عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال : ( قال الله عز وجل : عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له ، فليرض بقضائي ، وليصبر على بلائي ، وليشكر نعمائي أكتبه ، أكتبه يا محمد من الصدّيقين عندي ) (1) .
  وتمام هذا الحديث منطلق على سيرتها الذاتية عليها السلام فهي كانت راضية بقضاء الله تعالى وصابرة على ما جرى عليها من الظلم والهوان ، وكانت شاكرة لله تعالى فالشكر يدى على الرضا ، وبملاحظة أسماء الزهراء في الرواية المتقدمة في أول الفصل نجد أن من أسماءها الصديقة وأن من الأسماء الأخرى لها هو الراضية ، إذن الرضا يؤدي بالعبد إلى درجة الصديقين ، والزهراء من خلال استقراء حياتها وسيرتها الذاتية نجد أنها كانت راضية بكل ما قدر الله لها ، فهي إذن صديقة وهذا من أفضل البراهين على أنها كانت صديقة سلام الله عليها .
  أما من خلال الأحاديث والأقوال الواردة في المقام فهي كثيرة والتي من خلالها بينت أن فاطمة سلام الله عليها كانت الراضية ،وكما قلنا أن سيرتها الذاتية طافحة بالأحداث الكثيرة التي أثبت أنها كانت راضية بما قدر الله لها ، فعن علي بن أعبد قال : قال لي عليّ رضي الله عنه : ألا أحدّثك عنّي وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت من أحبّ أهله إليه ؟ قلت : بلى .
  قال : إنّها جرّت بالرحى حتّى أثّر في يدها ، واستقت بالقربة حتّى أثّر في نحرها ، وكنست البيت حتّى اغبرّت ثيابها ، وأوقدت القدر حتّى دكنت ثيابها ، وأصابها من ذلك ضرّ ، فأتي النبيّ عليه السلام خدم ، فقلت : لو أتيت أباك فسألته خادماً .
  فأتته فوجدت عنده حدّاثاً ، فاستحيت فرجعت ، فأتاها من الغد ، فقال : ما كان حاجتك ؟ فسكتت ، فقلت : أحدّثك يا رسول عليه السلام ، جرّت عندي

---------------------------
(1) اصول الكافي : 2 | 68 .

الاسرار الفاطمية _ 412 _

  بالرحى حتّى أثّر في يدها ، وحملت القربة حتّى أثّر في نحرها وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها ، ( و ) أوقدت القدر حتّى دكنت ثيابها ، فلمّا جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتسخدمك خادماً يقيها حرّ ماهي فيه .
  قال : اتّقي الله يا فاطمة ، وأدذي فريضة ربّك ، واعملي عمل أهلك ، إن أخذت مضجعلك فسبّحي ثلاثاً وثلاثين ، وكبّري أربعاً وثلاثين ، فتلك مائة ، فهي خير لك من خادم .
  فقالت : رضيت عن الله وعن رسوله ، ولم يخدمها (1) .
  ولقد ذكر المولى محمد علي الأنصاري شارح الخطبة ، في مسالة رضاها سلام الله عليها ومسألة من وجوه اقتضاها حال الرواية حيث قال : وإطلاق الرضيّة لرضاها عن الله ورسوله حين ذهبت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فطلبت منه خادمة وقالت : لا اطيق على شدائد أشغال البيت ، فعلّمها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تسبح فاطمة وبشّر لها بقوابه : فقالت ثلاثاً : رضيت عن الله ورسوله .
  فرجعت إلى بيتها فقالت : طلبت من أبي خير الدنيا ، فأعطاني خير الآخرة .
  أو لرضاها عن الله تعالى فيما أعطاها من القرب والمنزلة وطهارة الطينة وغير ذلك من المراتب والعالية في الدنيا والبرزخ والآخرة من حيث الجاه والمنزلة النعمة الشرف والفضيلة .
  أو لرضاها عنه تعالى في جعل الشفاعة الكبرى بيدها من الإنتقام من قتلة ولدها في الدنيا والآخرة (2) .
  7 ـ المرضية
  وهذا اسم آخر لفاطمة الزهراء سلام الله عليها ، والذي يظهر من خلال التأمل والتدير في السيرة الذاتية لها أنه هناك احتمالا ، في معنى كونها مرضية ، أحدهما هو كون جميع أعمالها وأفعالها وأقوالها وما صدر منها خلال مسيرة حياتها مرضية عند الله تبارك وتعالى فهي رضي الله عنها ورضت عنه ، فهي راضية مرضية راضية عن

---------------------------
(1) مسند فاطمة عليها السلام للحافظ البوطي : 110 .
(2) اللمعة البيضاء : 92 .

الاسرار الفاطمية _ 413 _

  الباري عز وجل ومرضية بما وعد الله تبارك وتعالى عباده بالرضوان الأكبر .
  والإحتمال الآخر أنها سلام الله عليها كانت مرضية ، من جهة ما أعطاها الله تبارك وتعالى من المقامات النورانية التي بها فضلها على غيرها وكذلك ، ومن خلال ما اعطاها تبارك وتعالى من الذرية الكثيرة حيث جعل منها الائمة الهاديين ، وكذلك هي مرضية سلام الله عليها من جهة أن لها مقام الشفاعة الكبرى وكما ورد في أحاديث مجيئها يوم القيامة وكيفية شفاعتها لشيعتا ومحبيها ، وهذا ما بحثناه في الفصل الخاص الذي بيناه فيه مقاماتها سلام الله عليها ، وأياً كان تفسير معنى المرضية سواء كان الاحتمال الأولى أو الثاني ، فغن فاطمة سلام الله عليها قد حازت وفازت بهذه المنزلة الرفيعة والدرجة الراقية فهي راضية مرضية أعمالها عند الله عز وجل ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) .
  8 ـ المحدّثة
  ونقف هنا في هذا الصفحات مع اسم آخر لفاطمة سلام الله عليها والذي نستفيده من خلال مراجعة مصادر اللغة إن هذا الإسم ومن دون تحريك حرف الدال نحتمل فيه اما أن تكون الدال المشدّدة مكسورة واما أن تكون الدال المشددة فيه مفتوحة .
  على الاحتمال الأول يكون معنى هذا الإسم أنها سلام الله عليها كانت تحدث امها خديجة عليه السلام وهذا ما يظهر من خلال مراجعة بعض الروايات ، حيث أنها سلام الله عليها كانت تحدث أمها وهي في بطنها ، وكما ورد عندما سئل رسول الله من زوجته خديجة اثناء دخوله عليها قائلاً لها مع تتحدثين قالت : الجنين الذي في بطني يؤنسني ويحدثني .
  وعلى الإحتمال الثاني وهو الأصح على ما يظهر من بعض الأحاديث في المقام ( وسوف تأتينا خلال البحث ) يكون معنى المحدّثة هو أنها سلام الله عليها كانت تحدثها الملائكة وتؤنسها وخصوصا بعد فقد أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
  وهنا سؤال يطرح نفسه في المقام وينقدح في ذهن القاري ء وهو هل من الممكن أن

الاسرار الفاطمية _ 414 _

  تكون الملائكة تحدث بعض الناس مع أن المعلوم أن الوحي انقطع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي حالة تكون تحديث الملائكة وامكان وقوعه ولو على غير نحو الوحي هل يقع هذا مع فاطمة سلام الله عليها ؟
  وللإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من مراجعة القرآن الكريم ونستقرأه في هذه المسألة وامكان وقوعها في الأمم السابقة باعتبار أن القرآن الكريم المصدر الأول للمسلمين في عرض الأشياء عليه .
  فنجد من خلال عدة آيات قرآنية كثيرة جداً ثبتت هذه الحقيقة وهي أن الملائكة يمكن أن تتحدث مع البشر ، فهذا صريح القرآن يثبت هذه الحقيقة الواضحة البرهان والتي لا يبقى معها شك وإليك بعض هذه الآيات القرآنية التي ثبتت هذه المسألة :
  1 ـ قال الله تعالى ( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً فاتخذت من دونهم حجاباً ... ) (1) .
  2 ـ ( وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك ... ) (2) .
  ان الظاهر من خلال التأمل في الآتين المباركتين أن مريم سلام الله عليها تحدثت مع الملائكة ، وهذا منأفضل الأدلة على مسألة تحدث الملائكة مع أناس ليسوا بأنبياء فإن مريم سلام الله عليها لم تكن بنبي ولم تكن إمام بل هي أم نبي من انبياء الله تعالى ، ومع ذلك فالملائكة تحدثت معها .
  3 ـ قوله تعالى : ( وامرأته قائمة ... ) (3) .
  4 ـ وقوله تعالى : ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) (4) .
  وقوله تعالى : ( فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا بكرة وعشياً ) (5) .
  ( فقضهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها ) (6) .
  ( وإذ أوحيت

---------------------------
(1) سورة مريم : آية 16 ـ 21 .
(2) آل عمران : 43 .
(3) هود آية : 71 ـ 73 .
(4) القصص : 7 .
(5) سورة مريم : آية 11 .
(6) فصلت : 12 .

الاسرار الفاطمية _ 415 _

  إلىالحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ) (1) .
  ( إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ) (2) .
  ( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ) (3) .
  ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) (4) .
  ( إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ) (5) .
  اذن يظهر من خلال هذه الآيات القرآنية وآيات أخرى أن الوحي ليس مختص بالأنبياء والرسل فقط بل هو يتعدى إلى أولياء الله تعالى ، نعم الوحي هنا في هذه الآيات المفهوم منه غير الوحي في إبلاغ الرسالات إلى الأنبياء بل هو شأن آخر من الوحي .
  فالوحي لغة الإعلام الخفي السريع ، واصطلاحاً الطريقة الخاصة التي يتصل بها الله تعالى برسله وأنبيائه لاعلامهم ألوان الهداية والعلم ، وانما جاء تعبير الوحي عن هذه الطريقة باعتبارها خفية عن الآخرين ولذا عبر الله تعالى عن اتصاله برسوله الكريم بالوحي (6) .
  قال سبحانه ( إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ... ) (7) .
  وقال الله تعالى ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) (8) .
  وهذه الآية الآخيره حددت معنى الوحي الذي يختص بالأنبياء والمرسلين أما الآيات الاخرى المتقدمة الذكر فلها معاني آخر للوحي ، والذي نقول به أن فاطمة الزهراء إنما كانت محدّثة من قبل الملائكة بنحو من أنحاء الوحي الذي بينته الآيات

---------------------------
(1) المائدة : 111 .
(2) الأنفال : 12 .
(3) النحل : 68 .
(4) القصص : 7 .
(5) طه : 38 .
(6) موجز علوم القرآن : 110 .
(7) النساء : 163 .
(8) الشورى : آية 51 .

الاسرار الفاطمية _ 416 _

  الآنفة الذكر ، فلا محالة أن تكون قد حدثت من قبل الملائكة كما دل القرآن على إمكان وقوع ذلك كما حديث مع أم موسى وكيفية إيحاء الله تعالى لها .
  وثمة شواهد أخرى تدل على على أنها كانت محدثة من قبل الملائكة ، وهذا ما نجده في المأثور الروائي الذي نقل إلينا عبر الرواة والمحدثون .
  فعن إسحاق بن جعفر بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : إنّما سمّيت فاطمة محدّثة لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول : يا فاطمة ، إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين ، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين (1) .
  فتحدّثهم ويحدّثونها ، فقالت لهم ذات ليلة : أليست المفضّلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا : إنّ مريم كانت سيّدة نساء عالمها ، وإنّ الله جعلك سيّدة نساء عالمك وعالمها وسيّدة نساء الأولين والآخرين (2) .
  وعن عبدالله بن الحسن المؤدّب ، عن أحمد بن علي الاصفهاني ، عن إبراهيم بن محمد الثقفي ، عن اسماعيل بن بشّار قال : حدّثنا عليّ بن جعفر الحضرميّ بمصر منذ ثلاثين سنة قال : حدّثنا سليمان قال : محمد بن أبي بكر لمّا قرأ : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ) (3) ولا محدّث ، قلت : وهل يحدّث الملائكة إلاّ الأنبياء ؟ قال : إنّ مريم لم تكن نبيّة وكانت محدّثة ، وأمّ موسى بن عمران كانت محدّثة ولم تكن نبيّة ، وساره امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشّروها بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، ولم تكن نبيّة ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت محدّثة ولم تكن نبيّة (4) .
  وجاء في الكتاب القيم ( الغدير الذي يعتبر من أهم الكتب التي ألفت في حق ولاية أهل البيت عليهم السلام ) حول مسألة الأناس المحدثون حيث قال : ( أصفقت الامّة الإسلامية على أنّ في هذه كما لدى الامم السابقة اناس محدّثون ـ على صيغة المفعول ـ

---------------------------
(1) إشارة إلى الآية : 42 من سورة آل عمران .
(2) البحار : 43 | 78 .
(3) الحج : 52 .
(4) البحار : 43 | 79 .

الاسرار الفاطمية _ 417 _

  وقد أخبر بذلك النبّي الأعظم كما ورد في الصّحاح والمسانيد من طريق الفريقين الامّة والخاصّة ، والمحدّث من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة ، أو يلهم له ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى ، او ينكت له في قلبه من حقايق تخفى على غيره ، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه ، فوجود من هذا شأنه من رجالات هذه الأمّة مطبق عليه بين فرق الإسلام ، بيد أنّ الخلاف في تشخيصه ، فالشيعة ترى عليّاً أمير المؤمنين وأولاده الأئمة صلوات الله عليهم من المحدّثين ... ) (1) .
  وقال رحمة الله : ( إنّ في هذه الامّة اناس محدّثون كما كان في الامم الماضية ، وأمير المؤمنين وأولاده الأئمة الطاهرون علماء محدّثون وليسوا بأنبياء ، وهذا الوصف ليس من خاصّة منصبهم ولا ينحصر بهم بل كانت الصدّيقة كريمة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم محدّثة ، وسلمان الفارسيّ محدّثاً ، نعم كلّ الأئمّة من العترة الطاهرة محدّثون ، وليس كلّ محدّث بإمام ، ومعنى المحدّث هو العالم بالأشياء بإحدى الطرق الثلاث المفصّلة في الأحاديث ، هذا ما عند الشيعة ليس إلا ) (2) .
  وورد عن العلامة المناوي في ذيل الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حول مسألة تحديث الملائكة مع الناس ما نصه : ( قد كان فيما مضى قبلكم من الامم اناس محدّثون ) .
  قال القرطبيّ : الرواية بفتح الدال ، اسم مفعول جمع محدّث بالفتح أي ملهم ، أو صادق الظنّ ، وهو من القي في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى ، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد ، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ، أو من إذا رأى رأياً أو ظنّ ظنّاً أصاب ، كأنّه حدّث به والقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له ، وهذه كرامة بكرم الله بها من شاء من صالح عباده ، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء (3) .
  إذن يظهر من الأحاديث والأقوال المأثورة عن الخاصة والعامة أن مسألة تحديث

---------------------------
(1) الغدير : 5 | 42 .
(2) الغدير : 5 | 49 .
(3) فيض القدير : 4 | 507 .

الاسرار الفاطمية _ 418 _

  الملائكة لأناس ليسوا بأنبياء متسالمة وما شذ عنها إلا من يدعي الزور والبهتان ضد الشيعة ، فالأمم الماضية وقع فيها هذا الأمر وهذا ما ظهر لنا من خلال القرآن الكريم حيث آوحى الله إلى الحواريين وإلى الملائكة وإلى النحل وإلى أم موسى ...

مصحف فاطمة
  وعلى هذا الأساس كان مصحف فاطمة سلام الله عليها ، هذا المصحف الذي أثاروا عليه الأقاويل الباطلة التي ليس لها أي حقيقة وأي برهان سوى أنهم اعتبروا إطلاق هذا المصحف على أنه قرآناً غير القرآن الموجودة حالياً وأنه عند الشيعة يخفونه تقية ، وأمثال هذا الدعاوى الباطلة والتي لا تمت إلى الدين بصلةٍ وكل دليلهم الذي اعتمدوا عليه هو أن لفظ المصحف يطلق على القرآن لذلك قالوا بأن مصحف فاطمة قرآن غير هذا القرآن الكريم المتداول الآن .
  أما القول الصحيح في هذا المقام فبعد معرفة أن فاطمة سلام الله عليها كانت محدّثة دون أن تكون نبية وحسب ما ورد من الإستدلال على هذه المسألة ، فإن حديث الملائكة لها كان يكتب من قبل الإمام علي عليه السلام أو من قبل فاطمة نفسها سلام الله عليها وهذا ما يظهر من الأحاديث الآتية ، أما مضمون هذا المصحف وماهيته وكيف نعطي القول الفصل فيه فهذا ما سيتبين من خلال بيان معنى لفظ المصحف ، وماهية مضمون هذا المصحف وما فيه من العلم والأحاديث والأمور الغيبية .
  أما لفظ المصحف في صحاح اللغة : ورد في كتاب لسان العرب : المصحف والمصحف الجامع للصّحف المكتوبة بين الدفتين كأنه أصحف والكسر والفتح فيه لغة .
  وفي المصباح المنبر : والصحيفة قطعة من جلد أو قرطاس كتب فيه ... والجمع صحف بضمتين وصحائف ... والمصحف بضم الميم أشهر من كسرها .
  وفي أقرب الموارد : المصحف اسم مفعول ... وحقيقتها مجمع الصحف أو ما جمع منها بين دفتي الكتاب المشدود ... وفيه لغتان أخريات وهما المصحف والمصحف جمع

الاسرار الفاطمية _ 419 _

  مصاحف .
  إذن يظهر من هذه المعاني التي وردت في صحاح اللغة أن المصحف ما جمعت فيه الصحف وليس كما يدعى أنه قرآن غير هذا القرآن الموجودة .
  وهناك شواهد أخرى تثبت هذه الحقيقة حيث ورد في حديث عن الإمام أبي عبدالله عليه السلام أنه قال : مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد ، إنما هو شيء أملاها الله وأوحي إليها . قال : قلت : هذا والله العلم (1) .
  إن هذا الحديث يعطي دلالة واضحة على أن مصحف فاطمة سلام الله عليها يختلف اختلافاً كبيراً عن ما موجود في القرآن من جهة مضمونه ، وقد علق العلامة السيد محسن العاملي ( ره ) على هذه المسألة بقوله : ( لا يخفى أنه قد تكرر نفي أن يكون فيه شيء من القرآن والظاهر أنه لكون تسميته بمصحف فاطمة يوهم أنه أحد قد نسخ المصاحف الشريفة ، فنفى هذا الإيهام وفي بعض الأحاديث أن فيه وصيتها ، ولعل أحد محتوياته ، ثم إن بعضها دال على أنه من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام ) (2) .
  وعلق العلامة الخطيب محمد كاظم القزويني ( ره ) على هذه الرواية بقوله : ( وليس معناه أن القرآن الموجود بين أيدينا ناقص ، وأن مصحف فاطمة مكمل له ، كلا وألف كلا ، وليس معناه أن الله أنزل على فاطمة عليها السلام قرآناً وكل من ادعى غير هذا فهو إما جاهل أو معاند مفتر كذاب ) (3) .
  أقول : يظهر من أقوال علماء الشيعة الإمامية وعلى ما ورد في أحاديث أهل البيت أن مسألة مصحف فاطمة قد تسالمت عليه الشيعة ، ويؤمنون به ، ويعتبرونه من المواريث التي تركتها فاطمة سلام الله عليها لابناءها الأئمة المعصومين ، ولا يظهر هذا المصحف إلا بظهور الحجة بن الحسن العسكري عجل الله تعالى فرجه باعتباره الوريث الشرعي لجدته الزهراء سلام الله عليها .

---------------------------
(1) بصائر الدرجات : 156 .
(2) أعيان الشيعة : 1 | 97 .
(3) فاطمة من المهد إلى اللحد : 83 .

الاسرار الفاطمية _ 420 _

مصحف فاطمة في الأحاديث الشريفة
  في حديث عن أبي عبدالله عليه السلام : ( ومصحف فاطمة ما أزعم أنّ فيه قرآناً وفيه ما يحتاج الناس إلينا ، ولا نحتاج إلى أحد حتّى إنّ فيه الجلده ونصف الجلده وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش ) (1) .
  وفي حديث طويل عن أبي عبدالله عليه السلام : ( وإنّ عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام ، وما يدريهم ما مصحف فاطمة ؟ قال : مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث ، مرّات ، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد ، إنّما هو شيء أملاها الله وأوى إليها ، قال : قلت : هذا والله العالم ... (2) ) .
  وفي حديث آخر : ( وخلّفت فاطمة مصحفاً ما هو قرآن ، ولكنّه كلام من كلام الله أنزل عليها ، إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطّ علي )(3) .
  وعن أبي عبدالله عليه السلام ، قيل له : إنّ عبدالله بن الحسن يزعم أنّه ليس عنده من العلم إلا ما عند النس ، فقال : ( صدق والله ما عنده من العلم إلا ما عند الناس ، ولكن عندنا والله الجامعة فيها الحلال والحرام ، وعندنا الجفر ، أفيدري عبدالله أمسك بعير أو مسك شاة ؟ وعندنا مصحف فاطمة ، اما والله ما فيه حرف من القرآن ، ولكنّه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطّ علي عليه السلام ، كيف يصنع عبدالله إذا جاء الناس من كلّ فنّ يسألونه ، أما ترضون أن تكونوا يوم القيامة آخذين بحجزتنا ، ونحن آخذون بحجزة نبيّنا ، ونبيّنا آخذ بحجزة ربّه ) ؟ (4) .
  وعن حمّاد بن عثمان قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : ( تظهر زنادقة سنة ثمانية وعشرين ومائة ، وذلك لأنّي نظرت في مصحف فاطمة .
  قال : فقلت : وما مصحف فاطمة ؟ فقال : إنّ الله تبارك وتعالى لمّا قبض نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم دخل على فاطمة من وفاته

---------------------------
(2) بصائر الدرجات : 151 ـ 161 .
(3) نفس المصدر السابق .
(4) نفس المصدر السابق .

الاسرار الفاطمية _ 421 _

  من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ ، فأرسل اليها ملكاً يسلّي عنها غمّها ويحدّثها ، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال لها : إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي .
  فأعلمته ، فجعل يكتب كلّ ما سمع حتّى أثبت من ذلك مصحفاً .
  قال : ثم قال : ( أما إنّه ليس الحلال والحرام ، ولكن فيه علم ما يكون ) (1) .
  وفي حديث آخر قال له الراوي : فمصحف فاطمة ؟ فسكت طويلاً ثمّ قال : ( إنّكم لتبحثون عمّا تريدون وعمّا لا تريدون ، إنّ فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وسبعين يوماً وقد كان دخلها حزن شديد على أبيها ، وكان جبرئيل يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ، ويطيّب نفسها ، ويخبرها عن أبيها ونكانه ، ويخبرها (2) .
  وعن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي عليها السلام عن مصحف فاطمة ، فقال : ( أنزل عليها بعد موت أبيها ، قلت : ففيه شيء من القرآن ؟ فقال : ما فيه شيء من القرآن ، قلت فصفه لي ، قال : له دفّتان من زبرجدتين على طول الورق ، وعرضه حمراوين ، قلت : جعلت فداك فصف لي ورقه ، قال : وروقه من درّ أبيض ، قيل له : كن فكان ، قلت : جعلت فداك فما فيه ؟ قال : في خبر ما كان وخبر ما يكون إلى يوم القيامة ، وفيه خبر سماءٍ سماءٍ ، وعدد ما في السموات من الملائكة ، وغير ذلك ، وعدد كلّ م خلق الله مرسلاً وغير مرسل وأسماؤهم ، وأسماء من أرسل إليهم ، وأسماء من كذّب ومن أجاب ، وأسماء جميع من خلق الله من المؤمنين والكافرين من الأولّين والآخرين ، وأسماء البلدان ، وصفة كلّ بلد في شرق الأرض وغربها ، وعدد ما فيها من المؤمنين ، وعدد ما فيها من الكافرين ، وصفة كلّ من كذّب ، وصفة القرون الاولى وقصصهم ، ومن ولي من الطواغيت ومدّة ملكهم وعددهم ، وأسماء الأئمّة وصفتهم ، وما يملك كلّ واحدٍ واحدٍ ، وصفة كبرائهم ، وجميع من ترددّ في الأدوار .
  قلت : جعلت فداك وكم الأدوار ؟ قال : ( خمسون ألف عام ، وهي سبعة أدوار ، فيه

---------------------------
(1) البحار : 43 | 80 .
(2) البحار : 43 | 80 .

الاسرار الفاطمية _ 422 _

  أسماء جميع ما خلق الله وآجالهم ، وصفة أهل الجنّة ، وعدد من يدخلها ، وعدد من يدخل النار ، وأسماء هؤلاء وهؤلاء ، وفيه علم القرآن كما أنزل ، وعلم التوراة كما انزلت ، وعلم الإنجيل كما انزل كما انزل ، وعلم الزبور ، وعدد كلّ شجرة ومدرة في جميع البلاد ) .
  قال أبو جعفر عليه السلام : ( ولمّا أراد الله تعالى أن ينزل عليها جبرئيل وميكائيل وإسرافيل أن يحملوه فينزلون به عليها ، وذلك في ليلة الجمعة من الثلث الثاني من الليل ، فهبطوا به وهي قائمة تصلّي ، فما زالوا قيّاماً حتّى قعدت ، ولمّا فرغت من صلاتها سلّموا عليها وقالوا : السلام يقرئك السلام ، ووضعوا المصحف في حجرها ، فقالت : لله السلام ومنه السلام وإليه السلام وعليكم يا رسل الله السلام ، ثمّ عرجوا إلى السماء ، فما زالت من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرأه حتّى أتت على آخره ، ولقد كانت عليها السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجنّ والإنس ، والطير والوحش ، والأنبياء والملائكة ) .
  قلت : جعلت فداك فلمن صار ذلك المصحف بعد مضيّها ؟ قال : ( دفعته إل أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمّا مضى صار إلى الحسن ثم إلى الحسين عليهما السلام ، ثم عند أهله حتّى يدفعوه إلى صاحب هذا الأمر ، فقلت : إنّ هذا العلم كثير ! قال : يا أبا محمد ، إنّ هذا الذي وصفته لك لفي ورقتين من أوّله ، وما وصفت لك بعد ما في الورقة الثانية ولا تكلّمت بحرف منه ) (1) .
  وختاماً للبحث حول اسم المحدثة نذكر ما قاله العلامة الهمداني تعليقاً حول الروايات الواردة في هذا المقام حيث قال تحت عنوان فائدتان : إنّ ما يستفاد من هذا الأخبار في شأن مصحف فاطمة سلام الله عليها في وجوه مختلفة :
  منها : ما يدلّ على أنّ الله تعالى أرسل ملكاً أو يأتيها جبرئيل بعد قبض نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم يحدّها عليه السلام ويكتب عليّ عليه السلام ، كما في الحديث الأوّل والثاني من البحار .
  ومنها : ما يدلّ على أنّ مصحف فاطمة عليه السلام كان موجوداً في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما

---------------------------
(1) دلائل الإمامة للطبري : 27 ـ 28 .

الاسرار الفاطمية _ 423 _

  لاحظت في حديث ( البصائر ) بقوله عليه السلام : ولكنّه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطً عليّ عليه السلام .
  ومنها : ما يدلّ على أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إليها كا لاحظت في الحديث الثالث من ( البصائر ) بقوله عليه السلام : ( إنّما هو شيء أملاها الله وأوحى إليها ) .
  ويستفاد أيضاً أنّ مصحفها سلام الله عليها يشتمل على جميع الأحكام الشرعيّة من نصف الجلدة أو جلدة واحدة حتى أرش الخدش ، وأنّ فيه أسماء جميع الناس والكائنات جميعها من الشجر والمدر وغير ذلك كما في حديث ( دلائل الإمامة ) ، وفيه ذكر الحوادث المهمّة إلى يوم القيامة .
  ويستفاد أيضاً أنّ من مصادر علوم أهل البيت عليهم السلام وكانوا يرجعون إليه (1) .
  9 ـ الزهراء
  وهو من أشهر أسماءها وأشهرها شيوعاً عند الشيعة ، فنراهم كثيراً ما يسمون أسماء مواليدهم من الاناث بهذا الاسم المبارك اضافة إلى اسمها فاطمة ، وقد تقدم بنا الحديث في كيفية تطابق الإسم على المسمى وبيان فلسفته ، وكذلك الحال في هذا المقام ، ففاطمة سلام الله عليها سميت بهذا الإسم ( زهراء ) لأن نورها الذي زهرت به السموات والأرض ولم يأت هذا الإسم اعتباطاً وإنما جاء ليعبر عن طبيعة ذاتها ، فنجد ومن خلال مطابقة الكثير من الروايات التي تروي مبدء نور فاطمة وخلقته ان لها نوراً يسطع من جبينها ومن وجهها المتلألىء بنور الله تعالى والذي كان من شأنه أن زهرت به السموات والأرض كرامةً من الله تعالى لها ولمقامها السامي عنده ، أما بيان هذا الاسم فانه لا يحتاج إلى كثير تأمل وخاصة بالنسبة للمطلع على الأسماء العربية ، فانها بسيطة ومفهومةً عندما تطرق الأذهان ، ومع ذلك نقف مع هذه الروايات التي تبين علة تسميتها الزهراء ففي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال :

---------------------------
(1) فاطمة بهجة قلب المصطفى : ص 176 .

الاسرار الفاطمية _ 424 _

  ( ثم أظلمت المشارق والمغرب ، فشكت الملائكة إلى الله تعالى أن يكشف عنهم تلك الظلمة ، فتكّلم الله جلّ جلاله كلمة فخلق منها روحاً ، ثمّ تكلّم بكلمة فخلق من تلك الكلمة نوراً ، فأضاف النور إلى تلك الروح وأقامها مقام العرش ، فزهرت المشارق والمغارب فهي فاطمة الزهراء ، ولذلك سمّيت ( الزهراء ) لأنّ نورها زهرت بن السموات (1) ) ، الحديث .
  وعن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام : يا ابن رسول الله ، لم سمّيت الزهراء ( زهراء ) ؟ فقال : ( لأنّها تزهر لأمير المؤمنين عليه السلام في النهار ثلاث مرّات بالنور ، كان يزهر نور وجهها الغداة والناس في فراشهم ، فيدخل بياض ذلك النور إلى حجراتهم بالمدينة ، فتبيض حيطانهم ، فيعجبون من ذلك ، فيأتون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيسألونه عمّا رأوا ، فيرسلهم إلى منزل فاطمة عليها السلام فيأتون منزلها فيرونها قاعدة في محرابها تصلّي والنور يسطع من محرابها من وجهها ، فيعلون أنّ الذي رأوه كان من نور فاطمة ، فإذا انتصف النهار وترتّبت للصلاة ، زهر نور وجهها عليها السلام بالصفرة فتدخل الصفرة في حجرات الناس ، فتصرّ ثيابهم وألوانهم ، فيأتون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيسألونه عمّا رأوا ، فيرسلهم إلى منزل فاطمة عليها السلام فيرونها قائمة في محرابها وقد زهر نور وجهها عليها السلام بالصفرة ، فيعلمون أنّ الذي رأوا كان من نور وجهها ، فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس ، أحمّ وجه فاطمة ، فأشرق وجهها بالحمرة فرحاً وشكراً لله عزّ وجلّ ، فكان تدخل حمرة وجهها حجرات القوم وتحمرّ حيطانهم ، فيعجبون من ذلك ويأتون فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس ، احمرّ وجه فاطمة ، فاشرق وجهها بالحمرة فرحاً وشكراً الله عزّ وجلّ ، فكان تدخل حمرة وجهها حجرات القوم وتحمرّ حيطانهم ، فيعجبون من ذلك ويأتون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويسألونه عن ذلك ، فيرسلهم إلى منزل فاطمة ، فيرونها جالسة تسبّح وتمجّده ونور وجهها يزهر بالحمرة ، فيعلمون أنّ الذي رأوا كان من نور وجه فاطمة عليها السلام ، فلم يزل ذلك النور في وجهها حتّى ولد

---------------------------
(1) البحار : 40 | 44 ، ارشاد القلوب ، 403 ، الفضائل لابن شاذان : 172 .

الاسرار الفاطمية _ 425 _

  الحسين عليه السلام ، فهو يتقلّب في وجوهنا إلى يوم القيامة في الأئمة منّا أهل البيت إمام بعد إمام ) (1) .
  وعن أبي هاشم العسكري قال : سألت صاحب العسكر عليه السلام : لم سمّيت فاطمة ( الزهراء ) عليه السلام ؟ فقال : ( كان وجهها يزهر لأمير المؤمنين عليه السلام من أوّل النهار كالشمس الضاحية ، وعند الزوال كالقمر المنير ، وعند غروب الشمس كالكوكب الدرّيً ) (2) .
  وعن الحسن بن يزيد قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام : لم سمّيت فاطمة ( الزهراء ) ؟ قال : ( لأنّ لها في الجنّة قبّة من ياقوت حمراء ارتفاعها في الهواء مسيرة سنة ، معلّقة بقدرة الجبّار ، لا علاقة لها من فوقها فتمسكها ، ولا دعامة لها من تحتها فتلزمها ، لها مائة آلف باب ، على كلّ باب بألف من الملائكة ، يراها أهل الجنة كما يرى أحدكم الكوكب الدرّيً الزاهر في افق السماء ، فيقولون : هذه الزهراء لفاطمة ) (3) .
  وعن ابن عمارة ، عن أبيه قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن فاطمة لم سمّيت ( زهراء ) ؟ فقال : ( لأنّها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض ) (4) .
  وعن جابر ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قلت : لم سمّيت فاطمة الزهراء زهراء ؟ فقال : ( لأنّ الله عزّ وجلّ خلقها من نور عظمته ، فلمّا أشرقت أضاءت السموات والأرض بنورها ، و غشيت أبصار الملائكة ، وخرّت الملائكة لله ساجدين ، وقالوا : إلهنا وسيّدنا ، ما هذا النور ؟ فأوحى الله إليهم : هذا نور من نوري ، وأسكنته في سمائي ، خلقته من عظمتي ، اخرجه من صلب نبيّ من أنبيائي ، افضّله على جميع الأنبياء ، واخرج من ذلك النور أئمّة يقومون بأمري ، ويهدون إلى حقّي ، وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي ) (5) .

---------------------------
(1) البحار : 43 | 11 ح 2 ، علل الشرائع 1 | 180 ح 2 .
(2) البحار : 43 | 16 ، المناقب : 3 | 110 .
(3) البحار : 43 | 16 ، المناقب : 3 | 111 .
(4) معاني الأخبار : 64 ح 15 ، دلائل الإمامة : 54 .
(5) البحار : 43 | 12 .