والإمام ( عليه السلام ) لم يجازف في تأييد حركة ابن الزبير التي ستؤول إلى السقوط ، وما سيتحمل من تبعات ذلك من قبل بني أمية ، وهو ( عليه السلام ) انعزل عن هذه الأحداث ليترك الأمور تنقشع وشيكا عن هزيمة ابن الزبير وغلبة عبد الملك بن مروان ، ومن ثم فإن الفريقين غير جديرين للنصرة والمبايعة ، وكلاهما طلاب مناصب وأتباع دنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، فأي توافق سيبديه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) مع آل الزبير حتى على مستوى المصاهرة ، يعد توافقاً سياسياً وتأييداً شرعياً في حسابات النظام الأموي القادم ، فهل يبقى أدنى احتمال لإمكانية التقارب بين الإمام ( عليه السلام ) حتى يعمد إلى مصاهرة مصعب بن الزبير المغامر السياسي النزق ؟ !
   فالإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) يتجنب التقارب الظاهري مع الزبيريين ، خوفاً من عواقب ذلك المزامن لأفول النجم الزبيري وشيكا ، لذا فاحتمال زواج السيدة آمنة من مصعب بن الزبير غير ممكن تبعاً لهذه الظروف الآنفة ، والأبعد من ذلك أن يكون الزواج قد تم دون رغبة الإمام ( عليه السلام ) كما سيأتي مناقشة ذلك لاحقاً .

المناقـشتان :

المناقشة الأولى :

   ذكر سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ما نصه : وأول من تزوجها ـ أي سكينة ـ مصعب بن الزبير قهرا . . . (1) ، يثبت النص الذي أمامنا عدم وقوع الزواج ، وهو إحدى القرائن المؤيدة إلى ما نذهب إليه .

---------------------------
(1) تذكرة الخواص : 249 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 101 _

   وذلك لأمرين :
الأمر الأول : يستبعد النص وجود أي توافق بين بني هاشم وبين الزبيريين ، أي أن الفجوة القائمة بين البيتين يؤكدها هذا النص ، وذلك فإن وقوع الزواج قهراً لا يعني إلا عدم التوافق وقبول أحد الطرفين بالآخر ، وهو الأمر الذي كنا نؤكده سابقاً من عدم وجود أي تقارب وتفاهم بين البيتين ، وبالتالي أية رغبة في التفاهم ، بل حالة العداء والكراهية ظاهرة على تصرفات أحدهما للآخر .

الأمرالثاني : إننا نتوقف في مسألة وقوع هذا الزواج القهري ، فإن عبد الله بن الزبير لم يحكم سيطرته على المدينة بعد ، حتى يتسنى لأخيه مصعب قهر بني هاشم على الزواج من آمنة ، فالهاشميون رفضوا البيعة لعبد الله بن الزبير كما مر ، وعرفت ما اتخذه عبد الله من إجراءات مشددة في إجبار الهاشميين على بيعته ، وهددهم بتحريقهم إن لم ينصاعوا بعد ذلك ، ومع هذا فلم يستطع عبد الله بن الزبير مع سطوته أن يفرض بيعته على الهاشميين ، فإن لبني هاشم قوتهم النابعة من احترام المسلمين لهم ، مع ما عانوه من جور حكامهم إلا أن هيبتهم لا تزال تطغى على قلوب الناس ، وعلي بن الحسين ( عليه السلام ) يمثل الأنموذج الأمثل في هيمنته على القلوب وحبه وتكريمه ، وحادثة انفراج الحجيج له لاستلام الحجر بمرأى من هشام بن عبد الملك إحدى الشواهد التي تؤكد محبة الناس له ، فهو لا يزال يمثل واقعة الطف بكل فصولها الفجيعة .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 102 _

   والإمام ( عليه السلام ) لم يبتعد عما نزل في ساحة آله من القتل والأسر والتنكيل ، فهو لا يزال يستذكر ما حصل لأبيه الشهيد ( عليه السلام ) ولآل بيته من الذبح وسفك الدماء وكان الناس يرون مظلومية الإمام الحسين ( عليه السلام ) شاخصة في ولده علي ابن الحسين ( عليهما السلام ) الذي لم يبعد أذهان الأمة عن مجريات ذلك اليوم الرهيب ، وما فعله بنو أمية بأهل هذا البيت الطاهر ، والناس وإن لم يقدموا النصرة لآل البيت ( عليهم السلام ) وقتذاك وما أظهروه من تخاذل ونكوص ، فإن المأساة تعيش في وجدانهم ، وفصولها تستعيدها ذاكرتهم ، ولا يزال الأشخاص الذين حضروا المأساة يعيشون بين ظهرانيهم ، كعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) والسيدة آمنة وأخواتها الطاهرات ، حتى إن بني مروان تحاشوا في بادئ الأمر سفك دماء الهاشميين ، وأظهروا الورع في أول أمرهم من اضطهاد العلويين ، وذلك لما أحسوه من خطر المجازفة في دمائهم بعد واقعة الطف التي تحفظهاً ذاكرة الأمة ، ومظلومية أهل البيت ( عليهم السلام ) شاخصة لديهم ، لذا فإن عبد الملك بن مروان يبدي تحفظه في دماء آل أبي طالب لا عن قناعته في حرمة دمائهم ، بل عن خوفه على مستقبل دولته الفتية المحاطة بمعارضات سياسية قوية تهدد كيانه .
   قال اليعقوبي في تاريخه : وكان عبد الملك قد كتب إلى الحجاج وهو على الحجاز : جنبني دماء آل أبي طالب ، فإني رأيت آل حرب لما تهجموا بها لم ينصروا (1) ، وهو ما يعكس شعور المسلمين في نظرتهم لآل البيت ( عليهم السلام ) ، فيترجمها عبد الملك بن مروان في كتابه هذا وتحفظه على سفك دماء آل أبي طالب حتى حين .

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي 230 : 2 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 103 _

هذه مكانة آل البيت عليهم السلام في قلوب الأمة ، فمتى يتاح لمصعب وأمثاله أن يقهروا أهل هذا البيت على أمر غير راضيه ؛ ليتعاملوا معهم على أساس القهر والقوة ، وإذا كانت حادثة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) يمكن قبولها ، فإن ذلك تكذبه واقعة السيدة فاطمة بنت الحسين ( عليهما السلام ) التي حاول عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري أن يخطبها قهراً ، فأبت وشكت أمرها إلى يزيد بن عبد الملك ، فلنر ما حل بعبد الرحمن هذا في رواية اليعقوبي وغيره ، وما آل إليه مصيره بمجرد محاولة التجرؤ على قهر السيدة فاطمة بنت الحسين ( عليهما السلام ) من الزواج منه .
   قال اليعقوبي : وخطب عبد الرحمن فاطمة بنت الحسين بن علي ، فأرسل إليها رجالاً يحلف بالله لئن لم تفعلي ليضربن أكبر ولدها بالسياط ، فكتبت إلى يزيد بن عبد الملك كتاباً ، فلما قرأ كتابها سقط عن فراشه وقال : لقد ارتقى ابن الحجام مرتقى صعباً ، من يسمعني ضربه وأنا على فراشي هذا ؟ فكتب إلى عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النضري وكان بالطائف أن يتولى المدينة ، ويأخذ عبد الرحمن بن الضحاك بأربعين ألف دينار ، ويعذبه حتى يسمعه ضربه ، ففعل ذلك ، فرئي عبد الرحمن وفي عنقه خرقة صوف يسأل الناس (1) .
   هذا مصير من حاول أن يقهر أهل البيت على أمر غير راضين به ، ولا يقل عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري شرفاً عن مصعب بن الزبير ، فهو ابن أبي بحر حليم العرب وسيدها ، كما كان يلقبه معاوية بن أبي سفيان ، ومع هذا فلم يتحمل يزيد بن عبد الملك أن يتجرأ عبد الرحمن على قهر السيدة فاطمة بنت الحسين من الزواج ، فاحتمال وقوع الزواج قهراً من قبل مصعب بن الزبير للسيدة آمنة أمر غير مقبول من خلال ماذكرناه من قرائن .

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي 240 : 2 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 104 _

المناقشة الثانية :
   روى ابن عبد ربه أنه : لما قتل مصعب خرجت سكينة بنت الحسين تريد المدينة ، فأطاف بها أهل العراق وقالوا : أحسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله ، فقالت : لا جزاكم الله عني خيراً ، ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد ، قتلتم أبي وجدي وعمي وزوجي ، أيتمتموني صغيرة وارملتموني كبيرة (1) .
   يشير الخبر إلى مصاحبة سكينة بنت الحسين لمصعب بن الزبير عند وروده الكوفة ، والخبر رغم إرساله إلا أن مؤرخي مقتل مصعب بن الزبير أرسلوه إرسال المسلمات دون مناقشته سنداً ودلالة .
   أما سنده : فقد ذكرنا إرساله فهو ساقط عن الاعتبار ، وأما دلالته: فإنه يريد إثبات قضيتين أشغلت الكثير ممن نحى المنحى الزبيري في كتابة التاريخ .

أما القضية الأولى: فهي محاولة تأكيد زواج آمنة من مصعب بن الزبير ، وكونه جاء بأهله إلى الكوفة فقتل هناك .

---------------------------
(1) العقد الفريد 150 : 5 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 105 _

   والحق أن هؤلاء خلطوا بين « آمنة » سكينة بنت الحسين التي أوردتها روايات مصعب بن الزبير حتى ارتكز في أذهانهم أن سكينة هذه التي ترافق مصعب في مسيره إلى الكوفة هي بنت الحسين ( عليه السلام ) ، إلا أن الحق في ذلك أن سكينة التي رافقت مصعبا في مسيره هي سكينة ابنته وليست زوجته ، فهي بنت مصعب من زوجته فاطمة بنت عبد الله بن السائب .
   قال ابن كثير في البداية والنهاية : وكان لمصعب من الولد عكاشة وعيسى الذي قتل معه ، و « سكينة » وأمهم فاطمة بنت عبد الله بن السائب (1) ، فسكينة التي رافقت مصعباً هي ابنته وليست بنت الحسين كما اختلط على رواة الخبر ، وليس لـ « آمنة » سكينة بنت الحسين في أحداث مصعب أية دخالة .

القضية الثانية : محاولة الخبر التأكيد على نظرة أموية مختلقة ، مفادها أن الذين قتلوا الحسين بن علي ( عليهما السلام ) هم شيعة الحسين ( عليه السلام ) وليس لبني أمية دخل في ذلك ، محاولة منهم لإبعاد المسؤولية عن الأمويين ، وإلقائها على عاتق الشيعة الذين راسلوا الحسين ( عليه السلام ) وأقنعوه بالمسير إليهم ، فوثبوا عليه وقتلوه .
   وبهذا يحاولون أن يجردوا الأمويين عن وصمة عار ما ارتكبوه في حق سبط الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهي محاولات خاسرة كما ترى ، فالشيعة لا يمكن أن يتحملوا مسؤولية سفك دماء آل البيت الأطهار ( عليهم السلام ) ، والكوفة عرفت بولائها لهذا البيت الطاهر ، فهم حملة أخبارهم ورواة حديثهم وأجلة أصحابهم ، ومأساة الطف إحدى نزعات بني أمية في محاولة استئصال أهل هذا البيت ( عليهم السلام ) ، ولا يمكن للتاريخ أن يتنكر ما ارتكبه هؤلاء من سفك دماء الأطهرين منافسة لهم وخشية على سلطانهم ، والذين ناصروا بني أمية هم خوارج هذه الأمة وشذاذها من شاميين ومرتزقة يقتاتون على موائد الأمويين ، ولا يمكن بعد ذلك للشيعة أن يلتقوا مع أعدائهم التقليديين الأمويين ، ليتحالفوا معهم على محاربة أهل البيت ( عليهم السلام ) وسفك دمائهم .

---------------------------
(1) البداية والنهاية 8 : 322 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 106 _

   وبهذا حاول الخبر التأكيد على قضيتي زواج آمنة من مصعب بن الزبير ، ومحاولة إلقاء مسؤولية شهادة الحسين بن علي ( عليهما السلام ) على عاتق شيعته ، وبراءة الأمويين من عار ما جنوه حرصا منهم على الملك والسلطان ، والنتيجة : عدم وقوع زواج السيدة « آمنة » بنت الحسين ( عليهما السلام ) من مصعب بن الزبير ؛ لعدم تمامية الأخبار الزبيرية الضعيفة الواردة في هذا الشأن ، فضلاً عن قرائن تمنع من وقوع مثل هذا الزواج الذي صورته روايات زبيرية فقط ، رواها الزبير بن بكار ومصعب الزبيري وعروة بن الزبير ، وقد عرفت حالهم فلا نعيد .

ثانياً : عبد الله بن عثمان ابن حزام :
   وهو ضمن القائمة الثانية من أزواج « آمنة » سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) التي روتها الأخبار ، وسنكتفي في رد الرواية لضعفها ، وذلك إذا ما علمنا أن رواة الخبر هما الزبيريان المعروفان ، الزبير بن بكار وعبد الله بن مصعب الزبيري ، وتقدم شرح حالهما من الضعف ورد أحاديثهما ، وكونهما يرويان المناكير ويكثران عن الضعفاء ، إلى غير ذلك من الطعون التي ذكرها أهل الجرح وطعنوا في وثاقتهما ، هذا أولا .
   وثانياً : أن خبر زواج عبد الله بن عثمان ابن حزام أكده الزبيريون ؛ لكون أمه رملة بنت الزبير بن العوام ، فخؤولته الزبيرية تدفع بالرواة الزبيريين إلى إثباته ، محاولة منهم للحصول على موقف التوافق بين البيتين ، آل علي وآل الزبير ، وتصوير حالة من التقارب والتفاهم بينهما ، تغطية منهم على أحداث الجمل ، وما كان من خروج الزبير بن العوام في تلك المعركة الخاسرة على إمام زمانه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وأن آل البيت ( عليهم السلام ) لا يزالون ينظرون إلى الزبير وآله بعين الرضا والقبول ، وهذا ما لا يمكن قبوله فعلا ؛ إذ لا يزال الزبير وآله من الخارجين على إمام زمانهم ، ومواقف عبد الله بن الزبير العدائية لآل البيت ( عليهم السلام ) يشهد بها تاريخه المعروف بمغامراته ، ومحاولات التقارب المفتعلة لاسباغ الشرعية على البيت الزبيري موهونة لا يمكن قبولها ، ولا زال التباعد بين هذين البيتين ظاهراً على مواقف الفريقين ، فلا يمكن تحسين صورة الزبيريين بحالات الزواج المتعددة من السيدة آمنة ، وتبقى الفجوة بين الأطروحتين عميقة لا يمكن إلغاؤها ، وفي ضمن نظرة العداء والخلاف بين آل علي وآل الزبير لا يمكن أن نتصور صحة خبر زواج عبد الله بن عثمان من السيدة آمنة فضلاً عن ضعف سنده وسقوطه عن الاعتبار .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 107 _

   ومما يثير الشك في صحة هذه الدعوى ، ما رواه أبو منصور البغدادي ، عن المدائني ، عن مجالد ، عن الشعبي : أن سكينة نشزت على زوجها عبد الله ابن عثمان ابن حزام فشكتها أمه رملة بنت الزبير بن العوام إلى عبد الملك (1) .
   ولا ندري مكان عبد الملك من قضية النشوز هذه ، مع وجود أخيها الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) ، الذي بإمكانه حل هذه القضية الخاصة بأخته آمنة وزوجها ، وهي ليست من الأهمية بمكان حتى تلجأ أم عبد الله إلى رفع أمر ابنها وزوجته إلى عبد الملك ، وكان يومئذ خليفة يقيم في الشام ، ورملة بنت الزبير في المدينة ، فما الذي دعا رملة إلى أن تشكو كنتها إلى الخليفة ؟ ! وهل تقتضي هذه الحادثة الخاصة ـ التي لا علاقة لها بشؤون الخلافة ـ أن يستمع الخليفة إلى دعاوي نشوز امرأة على زوجها ؟ ! ثم إن الحادثة معلومة دوافعها ، وهي محاولة تصوير السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) بارتكاب مخالفات الشريعة ، والخروج عن طاعة الزوجية دون مراعاة الأحكام ، وبهذا سيحصل رواة هذا الخبر إلى تصوير أهل البيت ( عليهم السلام ) المعروفين بقداستهم وورعهم ، إلى أهل بيت من عامة الناس يرتكبون ما يرتكبه الآخرون من مخالفة أحكام الدين ومحظورات الشريعة ، أما رواة الخبر مثل مجالد والشعبي فليسا بشيء ، أما مجالد : فقد عده ابن عدي في الضفعاء .

---------------------------
(1) بلاغات النساء : 146 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 108 _

   قال علي بن المديني : قلت ليحيى بن سعيد : فمجالد ؟ قال : في نفسي منه . . . (1) .
   وعن بشر بن آدم ، قلت لخالد بن عبد الله الواسطي : دخلت الكوفة وكتبت عن الكوفيين ولم تكتب عن مجالد ؟ قال : لأنه كان طويل اللحية ، [ وهي كناية عن استخفاف الواسطي بمجالد ] ، وعن يحيى قال : مجالد بن سعيد ، ضعيف ، وفي موضع آخر : مجالد وحجاج لا يحتج بحديثيهما ، وقال ابن عدي : سمعت ابن حماد يقول : قال السعدي : مجالد بن سعيد يضعف حديثه ، وعن عبد الرحمن بن مهدي يقول : سمعت سفيان يقول : أشعث ـ يعني ابن سوار ـ أثبت من مجالد ، وكان يحيى يضعف حديث مجالد بن سعيد وكان ابن مهدي لا يروي عنه ، وعن ابن مهدي : لا يروى عنه ، وعن ابن أبي عصمة ، عن أبي طالب : سألت أحمد بن حنبل عن مجالد ، فقال : ليس بشيء ، يرفع حديثا منكرا لا يرفعه الناس وقد احتمله الناس .
   وقال النسائي: مجالد بن سعيد ، كوفي ضعيف (2) ، أما الشعبي : فهو عامر بن شراحيل بن عبد ، أبو عمرو الهمداني ، أنموذج من نماذج العداء والبغض لعلي وشيعته ، فكان لا يروي عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) على الرغم من روايته وحفظه ، واعترف بذلك ابن حجر في تهذيب التهذيب فقال : وقال الدار قطني في العلل : لم يسمع الشعبي من علي إلا حرفاً واحداً ما سمع غيره (3) .
   وهو يعني رواية الشعبي عن علي رواية واحدة على الرغم مما عرف به من حفظه ، ولم يقتصر الأمر على ذلك ، بل أوغل في عدائه لعلي ( عليه السلام ) بحجة أن الشيعة كانوا السبب في تجنبه مروياته عنه ( عليه السلام ) فقال : لقد بغضوا إلينا حديث علي بن أبي طالب (4) ، وإذا كان هذا حال الشعبي في عدائه وبغضه لعلي ( عليه السلام ) ، فمتى يتم لنا قبول مروياته خصوصا ما يتعلق بأهل البيت ( عليهم السلام ) ، والرواية واضحة الطعن والتوهين لأهل البيت وهي من موارد الخلاف والشك في صحة الحادثة وعدم وقوعها .
---------------------------
(1) الكامل في الضعفاء لابن عدي 168 : 8 .
(2) الكامل في الضعفاء 169 : 8 ـ 170 .
(3) تهذيب التهذيب 62 : 4 .
(4) العقد الفريد لابن عبد ربه 223 : 2 ، وراجع ما ذكره ابن عبد ربه من كلام الشعبي في الشيعة ، وكونهم يهود هذه الأمة .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 109 _

   أما ما رووه عن ولادة السيدة آمنة من عبد الله بن عثمان ابن حزام ولداً اسمه قرين (1) فغير صحيح ، فإن قرينا المعروف هو قرين بن المطلب بن السائب بن أبي وداعة وأمه زبيبة (2) .
   وليس لقرين بن عبد الله بن عثمان من وجود ، ولم تشر إلى ذلك المصادر الرجالية ، ولعل مقتضيات الواقعة أجبرت رواتها إلى اختلاق مثل هذه الشخصية الموهومة .
   إذن لم يثبت زواج السيدة « آمنة » بنت الحسين ( عليهما السلام ) من عبد الله بن عثمان ابن حزام لضعفها سنداً ، وعدم تماميتها دلالة .

ثالثاً : الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان :
وهو ممن أشارت إليه روايات الإصفهاني وابن خلكان وسبط ابن الجوزي ، واتفقت على عدم الدخول بها ـ إن صح وقوع ذلك ـ إلا خبر ابن سعد في الطبقات فقال: تزوجها ، ولعله أشار إلى الأعم من الدخول وعدم الدخول ، واتفاقهم على عدم الدخول يشير إلى ما قصده ابن سعد من عدم الدخول كذلك .
   والخبر لا يمكن قبوله بقرينة مهمة ، وهي : أن الأصبغ بن عبد العزيز كان والياً لعبد الملك بن مروان في مصر ، والسيدة آمنة بنت الحسين إقامتها في المدينة ، وهي لم تغادرها أبدا ، فكيف يتسنى لهذا المرواني من زواجها ؟ بل كيف ومتى وقع العقد ولم يدخل بها ؟ وما هي أسباب عدم الدخول ؟

---------------------------
(1) وجاء في الأغاني 161 : 16 أن سكينة ولدت من هذا الحزامي بنتا ، وقبلها في صفحة 159 ذكر أبوالفرج أن هذه البنت لمصعب بن الزبير .
وأما قرين فهو المسمى بعثمان ولد زيد بن عمرو بن عثمان ، كما قال في الأغاني 163 : 16 ، روايات الواحدة تلو الأخرى متهافتة ، وكل رواية تنقض الأخرى ، والكل في تناقض وتهافت .
(2) راجع الطبقات الكبرى لابن سعد 127 : 4 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 110 _

   كل هذه الاستفهامات وغيرها ، التي نضعها على الخبر توجب توهينه وعدم قبوله ، مما يعني عدم وقوع الزواج ، وما ذكرت من أخبارها أكثرها مرسلة ، وما أسند منها فضعيف ؛ لروايته من قبل الزبير بن بكار ومصعب الزبيري ، من أبطال وضع روايات وقصص سكينة ، وقد عرفت حالهما ، وقد أشرنا في مطاوي البحث إلى أن أخبار الزواج هي تشكيلات زبيرية ـ مروانية واضحة القصد ومعلومة الإرادة، وعلى هذا فخبر زواج الأصبغ بن عبد العزيز من السيدة آمنة بنت الحسين غير تام .

رابعاً وخامساً : زيد بن عمرو بن عثمان وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف :
   وهما المشتركان في قائمتي أبي الفرج الإصفهاني وابن سعد ، بل هما المشتركان في حدث واحد هكذا : قال ابن سعد : فخلف عليها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، كانت ولته نفسها ، فتزوجها ، فأقامت معه ثلاثة أشهر ، فكتب هشام ابن عبد الملك إلى واليه بالمدينة أن فرق بينهما ففرق بينهما . . . (1) .
   قال ابن خلكان : تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان ، فأمره سليمان بن عبد الملك بطلاقها ففعل . . . (2) ، يضعانا هذين النصين أمام تساؤلات مهمة :

الأول : اشتراك الاسمين في حدث واحد .

الثاني : ما الذي دفع هشام بن عبدالملك وسليمان بن عبد الملك أن يأمرا إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، وعمرو بن عثمان من طلاقهما للسيدة « آمنة » سكينة بنت الحسين ؟

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 320 : 6 .
(2) وفيات الأعيان 378 : 1 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 111 _

الثالث : هل كان لهذين الأمويين هشام وسليمان ولاية على نساء آل أبي طالب ، مع وجود الإمام علي بن الحسين عليهما السلام وآل علي وآل عقيل ، حتى يتوليا أمر طلاقهن وتسريحهن ؟ !

الرابع : ذكر الخبر أن السيدة آمنة ولت أمر نفسها إلى إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف فتزوجها . . . فأين كان أولياء أمورها كأخيها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، أو ابن أخيها الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) ، حتى تولي أمر نفسها إلى أبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الذي كان معروفا باختلاف موقفه من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتباينه عنهم ، كما كان عليه أبوه من قبل ؟ !
   هذه التساؤلات نضعها أمام خبري زواج السيدة آمنة من إبراهيم بن عبد الرحمن ، وزيد بن عمرو بن عثمان ، فهل نجد الإجابة الوافية لهذه التساؤلات حتى يتم لنا قبول الخبر أو رفضه ؟ أحسب أن الإجابة لذلك غير وافية ، ويبقى خبر زواج السيدة آمنة من إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف ، وزيد بن عمرو بن عثمان مردوداً ؛ إذ لم تكن هناك قرائن على صحة قيام مثل هذين الزواجين ، بل القرائن على خلافهما ، ومن هذه القرائن :

أولاً : صرح الإصفهاني في خبر خطبة أبراهيم بن عبد الرحمن أن سكينة بعثت إليه : أبلغ من حمقك أن تبعث إلى سكينة بنت الحسين بن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تخطبها ؟ فامسك عن ذلك (1) .

---------------------------
(1) الأغاني 161 : 16 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 112 _

   والخبر يشير إلى عدم وجود كفاءة بين الطرفين ، وإقدام إبراهيم على ذلك أمر مخالف لما ارتكز في أذهان الناس من عدم كفئه لبني هاشم ، ولسكينة بالخصوص ، فكيف يتم الزواج بعد ذلك ؟ !

ثانياً : أن ابن عساكر يروي أنها تزوجت الحسن بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من غير ولي ، في حين تذكر بقية الأخبار أن إبراهيم ابن عبد الرحمن قد تزوجها .
   قال ابن عساكر : نكحت سكينة بنت الحسين الحسن بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بغير ولي ، فكتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل أن فرق بينهما (1) ، وبهذا فإن الخبر يذكر مرة أنه تزوجها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، وأخرى أنه تزوجها ولده الحسن بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، فما معنى هذا الاضطراب ؟ إذن فخبر زواج السيدة آمنة من إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مضطرب أشد الاضطراب ، فمرة أنها تزوجته بعد أن ولته نفسها ، ومرة لم يدخل بها ، وأخرى رفضته كونه غير كفء لها ، وتارة أنها تزوجت من ولده الحسن بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، وهذا الاضطراب يؤكد عدم وقوع الحادثة لتناقضاتها الواضحة واضطرابها البين .

ثالثاً : أن خبر زواجها من زيد بن عمرو بن عثمان ثم طلاقها من قبل سليمان بن عبد الملك أمر يثير السخرية ، فهو يصور السيدة آمنة بأنها امرأة خرقاء ، ترتكب أعمالاً لا يقدم عليها إلا الأحمق ، فما معنى خروجها إلى مكة ثم عودتها إلى المدينة ثم خروجها إلى مكة ، وهكذا لا يقر لها قرار ، حتى إن ذلك أثار حفيظة الخليفة الأموي فأمر العثماني بطلاقها ؟ !

---------------------------
(1) تاريخ دمشق لابن عساكر ، تراجم النساء : 158 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 113 _

   قال الاصفهاني : بعد طلاق سكينة من الأصبغ المرواني فخلف عليها العثماني ، وشرطت عليه ألا يطلقها ولا يمنعها شيئاً تريده ، وأن يقيمها حيث خلتها أم منظور ، ولا يخالفها في أمر تريده ، فكانت تقول له : يا بن عثمان أخرج بنا إلى مكة ، فإذا خرج بها فسارت يوما أو يومين قالت : ارجع بنا إلى المدينة ، فإذا رجع يومه ذاك قالت : أخرج بنا إلى مكة ، فقال له سليمان بن عبد الملك : اعلم أنك قد شرطت لها شروطا لم تف بها فطلقها فطلقها (1) .
   وهذا التصرف الأهوج الذي صوره الخبر لا ينسجم مع امرأة سوية عاقلة ، بل هو يحكي عن تصرفات امرأة حمقاء لا هم لها إلا الخروج من المدينة ، ثم عودتها إليها ، ثم خروجها منها ، وهكذا دون طائل ، فكيف يمكننا قبول مثل هذا الهوس وحكايات الحمقى لامرأة توصف بأنها من عقائل قريش ؟ ! مما يعني أن خبر الزواج أمر موضوع يراد منه المس بكرامة هذا البيت العلوي الطاهر .

رابعاً : ومن القرائن المهمة على بطلان الخبر ، أن راويه هو أشعب ، وأشعب هذا متروك الحديث ضعيف ، يتعاطى الغناء واللهو ، ويكذب من أجل إضحاك الآخرين ، قال الأزدي : لا يكتب حديثه ، ونقل ابن حجر عنه في لسان الميزان أنه قال : أخذت الغناء عن معبد (2) .

---------------------------
(1) الأغاني 162 : 16 ، 163 .
(2) لسان الميزان 503 : 1 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 114 _

   هذا هو أشعب ، فهو ليس راوية ولا يؤخذ عنه ، بل عمد إلى التهريج واللهو ، وتكسب على موائد الخلفاء فأضحكهم دون تحرج في ارتكاب ما يخالف الشريعة من الكذب والتزوير ، وهذه إحدى مفترياته متقربا بذلك الى بني امية ، ومحاولاً تصوير التقارب بينهم وبين آل عليّ ( عليه السلام ) بهذه المصاهرة الكاذبة ، ومن جهة أخرى محاولا الإساءة إلى آل البيت عليهم السلام إرضاء لنزعة الأمويين في تزوير الحقائق وانتقاصهم ( عليهم السلام ) .
   هذه القرائن تؤكد دون أدنى شك على عدم وقوع الزواج من إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف ، وزيد بن عمرو بن عثمان ، فهي محض اختلاق وتزوير ، على أنه يجب التنويه ، إلى أن المؤرخين وأصحاب الأنساب أكدوا أن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ، وهو أخو زيد بن عمرو ، كان قد تزوج بأخت سكينة ـ فاطمة بنت الحسين ـ وكان عبد الله هذا موالا لأهل البيت ( عليهم السلام ) حافظاً لعهدهم كما ذكروه ، ولعلهم خلطوا في ذلك فجعلوا زواج سكينة بنت الحسين من زيد بن عمرو بن عثمان ، بدل زواج فاطمة بنت الحسين من عبد الله بن عمرو بن عثمان ، وهذه إحدى قرائن اضطراب الحادثة .

سادساً : عبد الله بن الحسن السبط :
   وهو المذكور في قائمة واحدة ، وهي قائمة أبي الفرج الإصفهاني فقط ، أما بقية القوائم فلم تذكره ، وانفراد أبو الفرج الإصفهاني في ذكر عبد الله بن الحسن من أزواج السيدة آمنة يفيدنا قرينة مهمة في صحة الزواج دون غيره ، فإن أبا الفرج الإصفهاني في صدد ذكر أزواج السيدة آمنة ، وذلك لتوجهاته في متابعة أنساب آل أبي طالب ، ونزعته في دراسة الأنساب ـ مع ما تلاحظ عليه من المؤاخذات في هذا المجال ـ فهو حينما يذكر أزواج السيدة آمنة ، يأخذ بنظر الاعتبار تعداد أزواجها بغض النظر عن مدة مكوثه معها وإقامته .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 115 _

   أما غير أبي الفرج الإصفهاني فإنهم يأخذون بالاعتبار أحوال أزواج « آمنة » سكينة بنت الحسين ، وما صاحب ذلك من وقائع وسير وملاحم وتراجم أزواجها ، وليس من اهتمامهم تعداد أزواجها بقدر ما يحاولون ذكر أحوالهم وتراجمهم وما وقع لها معهم ، وهو كما عرفت تأكيد لنزعتهم في متابعة مغامرات الغزل والتشبيب ، وملاحم العبث ومجالس اللهو والغناء ، دون الاهتمام في معرفة أنساب المترجم لهم ، بقدر اهتمامهم في التفكه بما وقع لهؤلاء واستملاح قصصهم ومغامراتهم ، وفي الوقت نفسه إمعانا في نزعة هؤلاء من أتباع توجهات أسيادهم من زبيريين ومروانيين ، وطرح ما يصبو إليه هؤلاء من الانتقاص بمقام أهل البيت الطاهر ( عليهم السلام ) ورمي ما « أصيبوا » به غيرهم .
   ويؤيد زواجها من عبد الله بن الحسن ، ما ذهب إليه أكثر مؤرخي الفريقين وجعلوه من المسلمات الثابتة ومن هؤلاء :
1 ـ أبو علي الطبرسي في « إعلام الورى » (1) .
2 ـ أبو الحسن العمري في كتاب « المجدي في أنساب الطالبيين » (2) .
3 ـ السيد محسن الأمين العاملي في « أعيان الشيعة » (3) .

---------------------------
(1) اعلام الورى : 127 .
(2) المجدي في أنساب الطالبيين: 19 في باب أولاد الحسن بن علي ( عليهما السلام )، وعنه مقتل الحسين ( عليه السلام ) للسيد عبد الرزاق المقرم : 264 .
(3) أعيان الشيعة 343 : 5 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 116 _

4 ـ الشيخ عباس القمي في « منتهى الآمال » (1) .
5 ـ السيد عبد الرزاق المقرم في « سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) » وفي « مقتل الحسين ( عليه السلام ) » (2) .
6 ـ الشيخ محمد الصبان في « إسعاف الراغبين » (3) .
7 ـ أبو الفرج الإصفهاني في « الأغاني » (4) .
8 ـ المدائني في « المترادفات » (5) .

   هذا هو اتفاق أهل النسب والتاريخ ، من أن زوج السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) هو « عبد الله بن الحسن » الأكبر الملقب « بأبي بكر » وهو الذي استشهد في واقعة الطف ، أمه رملة ، وهي أم القاسم بن الحسن ( عليه السلام ) .
   على أن عبد الله بن الحسن هذا هو غير عبد الله بن الحسن الأصغر ، الذي لم يبلغ الحلم ، استشهد وله إحدى عشرة سنة ، قال السيد المقرم في شهادة عبد الله الأصغر : . . . فنظر عبد الله بن الحسن السبط ( عليه السلام ) وله إحدى عشرة سنة إلى عمه ، وقد أحدق به القوم فأقبل يشتد نحو عمه ، وأرادت زينب حبسه فأفلت منها ، وجاء إلى عمه وأهوى بحر بن كعب ليضرب الحسين فصاح الغلام : يا ابن الخبيثة أتضرب عمي ؟ فضربه واتقاها الغلام بيده فأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، فصاح الغلام : يا عماه ! ووقع في حجر الحسين فضمه إليه ، وقال : يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير ، فإن الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين . . . ورمى الغلام حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمه (6) .

---------------------------
(1) منتهى الآمال 683 : 1 كما حكاه عن بعض مشجرات الأنساب .
(2) سكينة بنت الحسين : 110 ، ومقتل الحسين ( عليه السلام ) : 264 .
(3) إسعاف الراغبين على هامش نور الأبصار : 202 .
(4) الأغاني 158 : 16 و 160 و 162 .
(5) المترادفات : 64 .
(6) مقتل الحسين للسيد المقرم : 280 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 117 _

   والنتيجة : فعبد الله بن الحسن اثنان : أحدهما عبد الله الأكبر الملقب بأبي بكر وهو زوج السيدة آمنة بنت الحسين ، والثاني هو عبد الله الأصغر الذي لم يبلغ الحلم .
   إذن عبد الله بن الحسن الأكبر هو زوج السيدة آمنة لم يعقب ، كما أنها لم تتزوج بعده فبقيت ( عليها السلام ) دون زواج حتى ماتت ( رضوان الله عليها ) في سنة ( 117 هـ ) في المدينة ، وهذا خلاف ما اختلقه بعضهم من تعدد أزواجها ( عليها السلام ) ، ولا غرابة في أن السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) لم تتزوج بعد شهادة زوجها عبد الله بن الحسن السبط ، فكان هذا ديدن البعض من نساء أهل الشرف ، والمنسوبات للبيوتات المعروفة وقتذاك ، فأمها الرباب لم تتزوج بعد الحسين ( عليه السلام ) ، ورفضت أن تستجيب لخاطب من الخطاب ، وهذه نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان بن عفان لما قتل زوجها رفضت خطبة معاوية كما ذكر ذلك ابن عبد ربه الأندلسي ، بل زاد في خبرها أنها قالت : إني رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثوب ، وقد خفت أن يبلى حزن عثمان في قلبي ، فدعت بفهر (1) فهشمت فاها وقالت : والله لا قعد مني رجل مقعد عثمان أبداً (2) .
   وقال بعضهم : إنها جدعت أنفها مخافة أن يخطبها خاطب ، فما حسبك بمن رأت مصارع أهلها مجزرين على أرض كربلاء ؟ فالسيدة آمنة ( عليها السلام ) عاشت مأساة المجزرة الدامية التي نالت أباها الحسين ( عليه السلام ) وأخوتها ، خصوصاً ما حدث لأخيها الرضيع عبد الله ، وزوجها عبد الله بن الحسن وأبناء عمومتها ، وما شاهدته من الأسر والسبي حيث يساقون هي وأهلها العقائل من بلد إلى بلد .

---------------------------
(1) الفهر ، والفهرة : حجر رقيق تسحق به الأدوية .
(2) العقد الفريد لا بن عبد ربه 174 : 3 ، وفي طبعة دارالكتاب بتحقيق الأبياري ورفقائه : 242 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 118 _

حزن الفاطميات :
   ومن السذاجة أن يتغافل هؤلاء المؤرخون الحمقى عن قضية لا يمكن إلغاؤها عن الواقع ، وهي فداحة الفاجعة التي أصابت آل البيت ( عليهم السلام ) في كربلاء ، وقد حضر المأساة وشاهد فصولها كاملة نساء آل علي ( عليه السلام ) ، وما تركته هذه الأحداث في نفوسهن الطاهرة من الحزن والبكاء الدائم على شهداء الواقعة ، وما عانينهن من ذل الأسر وسبيهن ووقوفهن في مجالس أعدائهن ، ومساءلتهن بشماتة ألغت معها كل معايير الشريعة ، وما تعارف عند المسلمين من كرامة أهل هذا البيت ( عليهم السلام ) واحتشامه ، فهل يبقى بعد ذلك احتمال لعاقل وغيور أن يقبل قصص تعدد الأزواج ، وحياة اللهو التي تمارسها السيدة آمنة كما صورها هؤلاء السذج ؟ بغض النظر عن الموانع الدينية التي عرف بها أهل هذا البيت رجالاً ونساءً ، فإن الحالة النفسية التي يعيشها الفرد منهم يستحيل قبول سلوك مثل هذه الحياة العبثية ، والانتقال بين أحضان الأزواج ، من زبيريين إلى مروانيين وأمويين ، ولو كانت أكذوبة تعدد الأزواج قد صورتها هذه الأخبار الموضوعة أنهم من بني هاشم ، أمكن تصديقها لتوفر الكفاءة الدينية ، ومن ثم العرفية في هكذا زواج ، فما حسبك وهؤلاء الأزواج من أعداء أهل البيت ( عليهم السلام ) ؟

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 119 _

   على أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) صور حزن الفاطميات بقوله : « ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ، ولا رؤي الدخان في بيت هاشمي خمس حجج إلى أن قتل عبيد الله بن زياد » (1) .
   بل إن السيدة آمنة ( عليها السلام ) حينما وصلت المسجد النبوي في المدينة صاحت : يا جداه إليك المشتكى مما جرى علينا ، فوالله ما رأيت أقسى من يزيد ، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شراً منه ولا أجفى وأغلظ ، فلقد كان يقرع ثغر أبي بمخصرته وهو يقول : كيف رأيت الضرب يا حسين (2) ، هكذا عبرت السيدة آمنة عن لوعتها وتفجعها للمصاب ، فكيف تنسى بعد ذلك وترتكب حياة تعدد الأزواج ؟ ! والسيدة الرباب أمها بكت على أبي عبد الله حتى جفت دموعها ، فأعلمتها بعض جواريها بأن السويق يسيل الدمعة ، فأمرت أن يصنع لها السويق لاستدرار الدموع (3) .
   والإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يدعو إلى الحزن على أبي عبد الله ( عليه السلام ) ويتعجب ممن لا يحزن من أجله ، ولا يبكي على مأساة ، فقال في خطبته حين وصول المدينة بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال : « أيها القوم ، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو عبد الله الحسين ( عليه السلام ) وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته وداروا برأسه في البلدان ، من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية ، أيها الناس ، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله ؟ أم أي فؤاد لا يحزن من أجله ؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها ؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، والملائكة المقربون ، وأهل السماوات أجمعون .

---------------------------
(1) مقتل الحسين للقرم : 376 .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 120 _

   أيها الناس ، أي قلب لا ينصدع لقتله ؟ أم أي فؤاد لا يحن إليه ؟ أم أي سمع يسمع بهذه الثلمة التي ثلمة في الإسلام ولا يصم ؟ أيها الناس ، أصبحنا مشردين مطرودين مذودين شاسعين عن الأمصار كأننا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكابناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين أن هذا إلا اختلاق ، والله لو أن النبي تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم اليهم الوصية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأفجعها وأكظها وأفظها وأمرها وأفدحها ، فعند الله نحتسب ما أصابنا ، وما بلغ بنا ، فإنه عزيز ذو انتقام » (1) .
   هذه هي وصية الإمام ( عليه السلام ) لشيعته بملازمة الحزن وتجدده عند ذكر سيد الشهداء ( عليه السلام ) ، وما ينبغي لهم ، فكيف بحال أخته الطاهرة السيدة آمنة ( عليها السلام ) وغيرهن من الفاطميات ؟ !

محاولة تشويه الحقائق :
   إذن إذا عرفنا أحزان أهل البيت ( عليهم السلام ) وتفجعهم من وقع المأساة ، علمنا أن حزنهم هذا إدانة للأمويين ولمن نحى منحاهم ، والحزن الدائم الذي رفعه أهل البيت ( عليهم السلام ) شعارا لمظلوميتهم ، حاول أعداؤهم مسخه وتغييره إلى حالات من التوافق والانسجام بينهم وبين أعدائهم ، بل إلغاء أحزانهم ( عليهم السلام ) وإحالتها إلى قضية وقتية ، شعر بها أهل البيت ( عليهم السلام ) بالانقباض إبان واقعة الطف ، وانتهى الأمر بنسيانها وإسدال ستار العلاقات الطيبة بين أهل البيت عليهم السلام وبين الأمويين ، وأن المسألة لم تكن كما تصورها شيعتهم ، بل هي لا تعدو عن منازعة على سلطان انتهت بغلبة أحدهما وإعادة التفاهم بين الطرفين ، وجعلوا دلالة ذلك علاقات الزواج بين السيدة « آمنة » سكينة وبين أزواجها الزبيريين والأمويين ، وبذلك شطبوا على كل الأحداث التي مرت ، من خلال تحسين العلاقات بين الطرفين ، إضافة إلى إلغاء طابع المأساة الذي طبع به أهل البيت ( عليهم السلام ) حياتهم ، احتجاجا على ظالميهم .

---------------------------
(1) مقتل الحسين عليه السلام للمقرم :374 .