الأكذوبة الثانية : سكينة وحديث الأزواج :

   هناك عدة قوائم دبجت في تعداد أزواج سكينة :
الأولى : قائمة أبي الفرج الاصفهاني :
   روى الإصفهاني قال : حدث الزبير بن بكار قال : حدثني عمي مصعب ، قال : تزوجت سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) عدة أزواج ، أولهم عبد الله ابن الحسن بن علي وهو ابن عمها وأبو عذرتها ، ومصعب بن الزبير ، وعبد الله بن عثمان الحزامي ، وزيد بن عمرو بن عثمان ، والأصبغ بن عبد العزيز ولم يدخل بها ، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ولم يدخل بها (1) .
   على أن الإصفهاني روى أن الذي تزوج سكينة هو عمرو بن حكيم بن حزام وهو عم والد عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام كما أورد ذلك ابن سعد وابن خلكان وسبط ابن الجوزي في قوائمهم مما يعني اضطراب خبر زواجها من عبد الله بن عثمان بن عبد الله ، فمرة يتزوجها عبد الله بن عمرو ومرة يتزوجها عم أبيه ، فما الذي يعنيه هذا الاضطراب ؟ ‍!

---------------------------
(1) الأغاني 158 : 16 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 80 _

   قال الاصفهاني : عن أبي الأزهر قال : حدثنا حماد بن اسحاق ، عن أبيه ، عن الهيثم بن عدي ، عن صالح بن حسان وغيره : إن سكينة كانت عند عمرو بن حكيم بن حزام ، ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان ، ثم تزوجها مصعب بن الزبير ، فلما قتل مصعب خطبها إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف . . . إلى آخر الرواية (1) وسيأتي البحث فيها لاحقاً .

الثانية : قائمة ابن سعد :
   قال : تزوجها مصعب بن الزبير بن العوام ، ابتكرها فولدت له فاطمة ، ثم قتل عنها ، فخلف عليها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام بن خويلد . . . فولدت له عثمان ـ الذي يقال له : قرين ـ وحكيما وربيحة ، فهلك عنها ، فخلف عليها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فهلك عنها ، فخلف عليها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، كانت ولته نفسها فتزوجها فأقامت معه ثلاثة أشهر ، فكتب هشام بن عبد الملك إلى واليه بالمدينة أن فرق بينهما ففرق بينهما ، وقال بعض أهل العلم: هلك عنها زيد بن عمرو ابن عثمان ، وتزوجها الأصبغ بن عبدالعزيز بن مروان (2) .

---------------------------
(1) الأغاني 161 : 16 .
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد 475 : 8 في قسم النساء اللواتي لم يروين عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وروين عن أزواجه وغيرهن .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 81 _

الثالثة : قائمة ابن خلكان :
   قال : تزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها ، ثم تزوجها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام فولدت له قرينا ، ثم تزوجها الأصبغ بنعبدالعزيز بن مروان وفارقها قبل الدخول ، ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان ، فأمره سليمان بن عبد الملك بطلاقها ففعل (1) .

الرابعة : قائمة سبط ابن الجوزي :
   قال : وأما سكينة فتزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها ، فتزوجها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام فولدت له عثمان الذي يقال له : قرير [ والظاهر أنه قرين كما عليه غيره ] ، ثم تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان أخو عمر بن عبد العزيز ، ثم فارقها قبل الدخول بها ، وماتت في أيام هشام بن عبد الملك . . .
   قال سبط ابن الجوزي : وأول من تزوجها مصعب بن الزبير قهراً ، وهو الذي ابتكرها ثم قتل عنها وقد ولدت له فاطمة (2) .
   هذه قوائم أربع اخترناها لبيان مواضع الاختلاف في تعداد أزواج « آمنة » سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، ومصدر هذه القوائم أكثرها زبيرية يرويها الزبير بن بكار ، عن عمه مصعب الزبيري وقد عرفت حالهما ، فلا حاجة إلى أن نعيد ما ذكره علماء الرجال من ضعفهما وكذبهما وانحرافهما عن عليّ وعن آله ( صلوات الله عليهم ) لذا فهي ساقطة عن الاعتبار سندا ، كونها بين مرسلة وبين ضعيفة برجالها ، إلا أن ذلك لا يمنعنا من مناقشتها وبيان متناقضاتها ، حتى لا يخفى على ذوي الأبصار محاولات الوضع المتعمد على هذه الشخصية الطاهرة ، وكيف أن آل الزبير عمدوا إلى الانتقاص من منافسيهم أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ووصموا كل شائنة فيهم وألصقوها بأهل هذا البيت الطاهر ؟ ومن ذلك حديث الأزواج ، حيث اشتهر عن عائشة بنت طلحة تعدد الأزواج ، وكان أولهم مصعب ، فألصقوا هذه الحادثة بالسيدة « آمنة » سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، وأبعدوها عن أشخاصهم ، وسيأتي تفصيل ذلك قريبا إن شاء الله .

---------------------------
(1) وفيات الأعيان 394 : 2 رقم 268 .
(2) تذكرة الخواص سبط ابن الجوزي : 249 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 82 _

القائمة الموحدة
   ويمكننا الآن أن نوحد هذه القوائم ليتسنى لنا مناقشة الجميع من خلال مناقشة هذه القائمة الموحدة ، وغرضنا من ذكر عدة قوائم ليتضح للقارئ الكريم اضطراب الرواة وتضاربهم في افتعال مثل هذه الحادثة ، والتي تقتضيها مصالح سياسية مقيتة ، أهمها : إلغاء الخلاف الفكري بين أهل البيت ( عليهم السلام ) وبين هذه المجموعات السياسية ؛ وإعطائها مسحة من الشرعية ؛ وإلغاء ما يمكن أن يقال عن هؤلاء من تجاوزه على أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتقدمهم عليهم وغصب حقوقهم ، تماماً كما وضعت قصة زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم ، وقد أبطلنا هذه الشبهة في كتابنا « كشف البصر » (1) .
   على أن هذه القوائم من الأزواج تتسم بتشكيلاتها السياسية ، فالأزواج المذكورين هم بين زبيريين إلى أمويين إلى مروانيين ، وهذا دليل وحده يكفي لإثبات أن القوائم الموضوعة رتبت على أساس منحى سياسي خاص ، يراد منه إلغاء الخلاف الفكري بين هذه التوجهات السياسية وبين أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والشطب على مبتنيات الخلاف بين المدرستين .

---------------------------
(1) كشف البصر عن زواج أم كلثوم من عمر للمؤلف ، يستعرض روايات الفريقين وعدم دلالة الجميع على واقعة الزواج ، فراجع .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 83 _

   وسيكون ترتيب هذه القائمة الموحدة هكذا :
1 ـ مصعب بن الزبير ، حسب رواية الإصفهاني وابن سعد وابن خلكان وسبط ابن الجوزي .
2 ـ عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ، حسب رواية الإصفهاني وابن سعد وابن خلكان وابن الجوزي .
3 ـ الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان ، كما في رواية ابن سعد ، أما الإصفهاني وابن خلكان وسبط ابن الجوزي فقالوا : لم يدخل بها .
4 ـ زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان ، فهو برواية الإصفهاني وابن سعد وابن خلكان ، أما سبط ابن الجوزي فلم يذكره .
5 ـ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، لم يذكره غير الإصفهاني وابن سعد ، واتفقاً أنه لم يدخل بها ، ولم يذكره ابن خلكان وسبط ابن الجوزي .
6 ـ أما عبد الله بن الحسن بن علي ، فهو حسب رواية الإصفهاني فقط .

   وبذلك فقد اشتملت القائمة الموحدة على مصعب بن الزبير وعبد الله ابن عثمان ، وهما الاسمان المشتركان في القوائم الأربع ، وسيتم مناقشة هذين الاسمين بشيء من التفصيل ؛ ليمكننا تحديد الواقع من أحاديث الزواج هذه ، ثم نأتي على بقية الأسماء ، كل بما يقتضيه البحث .

أولاً: مصعب بن الزبير :
   ليتسنى لنا صحة دعاوى زواج مصعب بن الزبير من السيدة « آمنة » سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، علينا أن نلقي نظرة سريعة على الخط الزبيري منذ نشوئه ، للحصول على رؤية واقعية عن توجهات هذا البيت الزبيري وأتباعه ، وهل بالإمكان سيتم ثمة تقارب بين الزبيريين المعروفين بتوجهاتهم غير العلوية وبين الهاشميين ؟

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 84 _

   سؤال سيخرجنا من منعطفات مآزق الروايات الموضوعة من قبل رواة زواج السيدة « آمنة » سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، من هم آل الزبير ؟
   يعد الزبير بن العوام مؤسس الخط الزبيري ـ إذا صح التعبير ـ فهو الذي سن توجهات آله ، وألقى لهم آراءه في علاقاته على المستوى الديني ، وطموحاته على المستوى السياسي .
   كان الزبير بن العوام حليفا لعلي ( عليه السلام ) يوم السقيفة ، وكان من الذين انظموا إلى علي ( عليه السلام ) ، وممن أبوا بيعة أبي بكر ، بل كان من المعترضين الأشداء عليها ، فهو لن يغمد سيفه ما لم تستقر البعية لعلي بن أبي طالب ، بعد ما سمع من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحقية علي ( عليه السلام ) في الخلافة ، لذا فإن ابن قتيبة في « الإمامة والسياسة » يصور لنا موقف الزبير المتصلب في رفض البيعة لأبي بكر ، وإصراره على أحقية علي ( عليه السلام ) في البيعة قائلاً : وأما علي والعباس بن عبد المطلب ومن معهما من بني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم وعمهم الزبير بن العوام ، فذهب إليهم عمر في عصابة فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم فقالوا : انطلقوا فبايعوا أبابكر ، فأبوا ، فخرج الزبير بن العوام بالسيف ، فقال عمر : عليكم بالرجل فخذوه ، فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار . . .(1) .

---------------------------
(1) الإمامة والسياسة 15 : 1 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 85 _

   وقال الطبري : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال : والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه (1) .
   هذه الصورة تعطينا تصورا عن موقف الزبير إبان بيعة الشيخين ، ويبقى الزبير معارضا ملتزماً جانب الرفض لنظام الشيخين ، إلا أن ذلك لا يكون بالضرورة موقفا مناصرا للإمام علي ( عليه السلام ) ، حيث لم توقفنا النصوص التاريخية على مواقف النصرة للإمام بقدر ما كان معارضا معانداً ، لا يرى أهلية لشيخي تيم وعدي أن يتقدما على ابن صفية الذي عرف بأنه ابن عمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فضلاً عن مواصفات الخلافة ؟ ! هذا ولم يكن للزبير إبان عهد الشيخين أية ميزات اجتماعية ، فضلاً عن إلغاء دوره السياسي كذلك .
   لذا فإن عهد عثمان بن عفان يعد متنفساً لتوجهات الزبير الاجتماعية ، فبنى القصور واقتنى الأموال كما ذكر المسعودي فقال : وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الضياع والدور منهم الزبير بن العوام ، بنى داره بالبصرة وهي المعروفة . . . وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار ، وخلف الزبير ألف فرس وألف عبد وأمة . . . (2) .
   أي سيجد الزبير حينئذ متنفسا يستطيع من خلاله أن يمارس دوره الاجتماعي باقتنائه الأموال والقصور ، إلا أنه يبقى محبوساً سياسياً ، أي لا يزال ملغى الدور السياسي الذي يطمح أن يصل إليه الزبير بعد إشباعه ماليا ، وسيكون دوره الاجتماعي منقوصاً ما لم يكمله بحضوره السياسي في الأحداث العامة ، ولم يجد الزبير أفضل من فرصة يوم الدار ، يوم محاصرة عثمان تأليب الثوار عليه ، منضماً بذلك إلى الحركة الثورية التي قررت إيقاف انتهاكات عثمان الدينية والاجتماعية وحتى السياسية ، فرأى الزبير أن مناورة الانضمام إلى الثوار ستعطيه فرصة سياسية ناجحة ، يستغلها من أجل تثبيت موطئ قدم له .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 443 : 2 .
(2) مروج الذهب 350 : 2 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 86 _

   وكان حليفه طلحة كذلك ، وكان طلحة شديداً على عثمان حتى قال عثمان : اللهم اكفني طلحة بن عبيد الله فإنه حمل عليّ هؤلاء وألبهم ، والله إني لأرجو أن يكون منها صفراً ، وأن يسفك دمه . . . (1) .
   كتاب طلحة والزبير في تحريض المسلمين على قتل عثمان بل كان الزبير يعمل على قتل عثمان ، ولعل في ذلك أمنيته في انحياز الأمر إليه ، وهو ما كشفه الأشتر حين قرأ كتابه وكتاب طلحة في التحريض على قتل عثمان ، قال ابن قتيبة الدينوري : إن الأشتر قال لطلحة والزبير بعدما تظاهرا بعدم الرضا عن قتل عثمان ، وبعثوا إلى الأشتر في الكف عن محاصرته قال : تبعثون إلينا وجاءنا رسولكم بكتابكم وهاهو ذا ، فأخرج كتابا فيه : « بسم الله الرحمن الرحيم ، من المهاجرين الأولين وبقية الشورى ، إلى من بمصر من الصحابة والتابعين ، أما بعد : أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها ، فإن كتاب الله قد بدل ، وسنة رسول الله قد غيرت ، وأحكام الخليفتين قد بدلت ، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله والتابعين بإحسان إلا أقبل إلينا ، وأخذ الحق لنا وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم ، وفارقكم عليه الخلفاء ، غلبنا على حقنا واستولي على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله » .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 411 : 3 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 87 _

   أليس هذا كتابكم إلينا ؟ فبكى طلحة ، فقال الأشتر : لما حضرنا أقبلتم تعصرون أعينكم ، والله لا نفارقه حتى نقتله . . . (1) .
   فكان الزبير ممن يحث الناس على قتل عثمان ، بل خاذلا له مؤلباً عليه ، خارجاً عن المدينة حتى لا يشهد قتله ويطالب بنصرته ، قال ابن الأثير في كامله : إن الزبير خرج من المدينة قبل أن يقتل عثمان . . . (2) أي أيام حصاره في الدار .
   وهكذا حصل الزبير على مكسبه السياسي بعد قتل عثمان ، وتحول الأمر إلى علي ( عليه السلام ) ظنا منه أن الفرص السياسية قد سنحت له بعد أن قاد معارضته السياسية ضد نظام نقم عليه المسلمون ، وحسب أن سيكون له موطئ قدم في العهد الجديد حينئذ .
   قال اليعقوبي في تاريخه : وأتى عليا طلحة والزبير فقالا : إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة فأشركنا في أمرك ، فقال : أنتما شريكاي في القوة والاستقامة وعوناي على العجز والأود (3) .
   ومعنى ذلك أن علياً ( عليه السلام ) لم يشركهما في الأمر ، فسارا إلى البصرة يطالبان بدم عثمان ومعهما عائشة وهم من خلال ذلك يطمحون للوصول إلى مآربهم السياسية ، فكانت وقعة الجمل التي ذهب ضحيتها آلاف المسلمين ولقي طلحة والزبير حتفهما في مغامرة سياسية فاشلة ، ولعبة لم يحكما أمرها بعد ، فقتلا على يد من خرجا معهم ، وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ .

---------------------------
(1) الامامة والسياسية 34 : 1 .
(2) الكامل في التاريخ 87 : 3 .
(3) تاريخ اليعقوبي 77 : 2 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 88 _

   آل الزبير . . . تقليدية عداء ومنافسات سياسية محمومة وضعت الحرب أوزارها بعد هزيمة حلفاء الجمل عائشة وطلحة والزبير ، إلا أن العداء لآل علي لم ينته بعد ، والمنافسات السياسية لم تحط رحالها ، ورواد مدرسة الجمل قد بدأ نشاطهم توا ، فهذا عبد الله بن الزبير يتربص الأحداث ، ويتحين الفرص ، ولم يكن في همه إلا الحصول على مبادرات المناصب التي ستتركها أحداث ما بعد يزيد . فبنو مروان احتلبوا تقلبات ماتركته خطبة معاوية بن يزيد ، الذي أعلن عن عدم أهليته للخلافة مع وجود الشرعية الإلهية المتمثلة بالإمام زين العابدين عليه السلام ، فتركها منصرفا إلى حيث اختار له بنو أبيه من الموت قبل أن تكون تلك سُنّة يشيع أمرها فيخرج الملك من أيديهم . ويتسابق على الخلافة من لا خلاق له فيها من بني مروان وآل الزبير ، فيغلب بنون مروان على آل الزبير الذين حصلوا على مكة مقرا له ومكنوا عبدالله بن الزبير من أمرهم . عرف آل الزبير بعدائهم لبني هاشم ، وقد مثل ذلك بأبشع صوره عبدالله بن الزبير . قال اليعقوبي: وتحامل عبد الله بن الزبير على بني هاشم تحاملا شديدا ، وأظهر لهم العداوة والبغضاء حتى بلغ ذلك منه أن ترك الصلاة على محمد في خطبته ، فقيل له: لم تركت الصلاة على النبي ؟ فقال : إن له أُهيل سوء يشرئبون لذكره ، ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 89 _

   وأخذ ابن الزبير محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس وأربعة وعشرين رجلاً من بني هاشم ليبايعوا له فامتنعوا ، فحبسهم في حجرة زمزم ، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ليبايعن أو ليحرقنهم بالنار . . . (1) .
   حدث المسعودي أن عبد الله بن الزبير تجاوز في عدائه لآل علي ( عليه السلام ) حتى إنه كان ينال من علي ( عليه السلام ) في خطبه ، قال : خطب ابن الزبير فنال من علي (2) ، على أن عبد الله بن الزبير يفضح دخيلته في عدائه لبني هاشم في محاورته مع ابن عباس ، فقد ذكر المسعودي عن سعيد بن جبير أن عبد الله ابن عباس دخل على ابن الزبير ، فقال له ابن الزبير : أنت الذي تؤنبني وتبخلني ؟ قال ابن عباس : نعم ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ليس المسلم يشبع ويجوع جاره ، فقال ابن الزبير : إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة . . . (3) .
   فضلاً عما كان يتظاهر به من الزهد والعبادة دجلا ومراء في كسب قلوب الناس والحرص على الملك . . . قال المسعودي : وأظهر ابن الزبير الزهد في الدنيا والعبادة مع الحرص على الخلافة ، وقال : إنما بطني شبر فما عسى أن يسع ذلك من الدنيا ، وأنا العائذ بالبيت والمستجير بالرب ، وكثرت أذيته لبني هاشم مع شحه بالدنيا على سائر الناس . . . (4) .

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي 178 : 2 .
(2) مروج الذهب 89 : 3 .
(3) المصدر السابق ، وأنت جد عليم بالخير الصحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبي ذر ، وابن عباس ، أنهم كانوا يقولون : ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله ، والتخلف عن الصلوات ، والبغض لعلي بن أبي طالب ، بل ، أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « بغض بني هاشم والأنصار كفر » ، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 118 : 11 ، ح 11312 ، وأحاديث الباب في الصحاح والمسانيد المعتمدة كثيرة ، فراجعها في مظانها .
(4) المصدر السابق : 87 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 90 _

   هذا حال آل الزبير ، وهذه سيرة شيخهم عبد الله ، فما ظنك بغيره ؟ وماذا عسى أن يكون مصعب بن الزبير في عدائه لبني هاشم ومخالفته لهم ؟ !

مصعب بن الزبير يؤوي قتلة الحسين ( عليه السلام ) :
   مثل مصعب بن الزبير نموذجاً سيئاً في الانتهاكات المرتكبة بحق أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فهو لم يكتف بملاحقة شيعتهم فحسب ، بل بلغ من عدائه انضمام قتلة أهل البيت ( عليهم السلام ) إليه ؛ ليشكلوا قادة جيشه ، ورؤوس أنصاره .
   ومصادر التاريخ تحدثنا أن مصعب بن الزبير استقطب قتلة الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته ، وجعلهم قادة جيشه ؛ لإحباط محاولات المختار بن أبي عبيد الثقفي ، الذي تصدى لملاحقة قتلة الحسين وأهل بيته ( عليهم السلام ) .
   فإن المختار لما بعث غلاماً له في طلب شمر بن ذي الجوشن ، لحق الغلام بشمر ، وكان قد خرج من الكوفة في جمع من أصحابه ، ثم كان ما كان من قتل شمر غلام المختار ، ونزوله قرية الكلتانية ، ومنها بعث بكتاب إلى مصعب بن الزبير يعلمه الالتحاق به عنوانه : للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن ، لكن إرادة الله لم تمهل اللعين بالالتحاق بابن الزبير ، إذا عثر على الكتاب ، وعرف مكان شمر فحوصر ، وجرت معركة قتل فيها شمر (1) .
   وكان سراقة بن مرداس البارقي قد اسره المختار ، فلما أحس القتل ، عمل حيلة للنجاة ، فنجا بها ، وقال : ما كنت في أيماني هذه حلفت لهم ـ يعني المختار وأصحابه ـ بها قط أشد اجتهادا ولا مبالغة في الكذب مني في أيماني هذه التي حلفت لهم بها أني قد رأيت الملائكة تقاتل معهم ، فخلوا سبيله ، فهرب ، فلحق بعبد الرحمن بن مخنف عند المصعب بن الزبير بالبصرة (2) .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 52 : 6 .
(2) تاريخ الطبري 55 : 6 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 91 _

   وقال ابن خلدون : وبحث ـ أي المختار ـ عن مرة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن الحسين ، فدافع عن نفسه ، ونجا إلى مصعب بن الزبير . . . وطلب سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين ، فلحق بالبصرة . . . وأرسل في طلب محمد بن الأشعث وهو في قريته عند القادسية ، فهرب إلى مصعب ، وهدم المختار داره ، وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين ، فلحقوا بمصعب ، وهدم دورهم (1) .
   قال الطبري : وطلب ـ يعني المختار ـ رجلا من خثعم يقال له : عبد الله ابن عروة الخثعمي ـ كان يقول : رميت فيهم باثني عشر سهماً ضيعة ـ ففاته ولحق بمصعب ، فهدم داره (2) .

مصعب بن الزبير : تركة العداء الزبيري لآل علي وشيعته :
   قال المسعودي : فكان جملة من أدركه الإحصاء ممن قتله مصعب مع المختار سبعة آلاف رجل ، كل هؤلاء طالبون بدم الحسين وقتلة أعدائه ، فقتلهم مصعب وسماهم الخشبية ، وتتبع مصعب الشيعة بالقتل بالكوفة وغيرها ، وأتى بحرم المختار فدعاهن إلى البراءة منه ففعلن إلا حرمتين له : إحداهما بنت سمرة بن جندب الفزاري ، والثانية ابنة النعمان بن بشير الأنصاري ، وقالتا : كيف نتبرأ من رجل يقول ربي الله ؟ ! كان صائم نهاره قائم ليله ، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهله وشيعته ، فأمكنه الله منهم حتى شفى النفوس .

---------------------------
(1) تاريخ ابن خلدون 34 : 3 ، الكامل في التاريخ 243 : 4 ، 244 .
(2) تاريخ الطبري 65 : 6 ، الكامل في التاريخ 244 : 4 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 92 _

   فكتب مصعب إلى أخيه عبد الله بخبرهما وماقالتاه فكتب إليه : إن هما رجعتا عما هما عليه وتبرأتا منه وإلا فاقتلهما ، فعرضهما مصعب على السيف ، فرجعت بنت سمرة ولعنته وتبرأت منه وقالت : لو دعوتني إلى الكفر مع السيف لكفرت ، أشهد أن المختار كافر ، وأبت ابنة النعمان بن بشير وقالت : شهادة أرزقها فأتركها ؟ كلا انها موتة ثم الجنة والقدوم على رسول الله وأهل بيته ، والله لا يكون ، آتي مع ابن هند فأتبعه وأترك ابن أبي طالب ؟ اللهم اشهد أني متبعة لنبيك وابن بنته وأهل بيته وشيعته ، ثم قدمها فقتلت صبراً .
   ففي ذلك يقول الشاعر:
إن  من أعجب الأعاجيب iiعندي
قتلوها  ظلماً على غـير iiجـرم
كـتب القـتل والقـتال iiعـلينا


قـتـل بـيضاء حـرة iiعطبول
إن  للـه درهـا مـن iiقـتيـل
وعلـى الغانيات جرُ الذيول (1)
   هذا هو مصعب بن الزبير بصورته البشعة ، يؤوي قتلة الحسين ( عليه السلام ) ويسالمهم ، ويعدهم من قادة جيشه وحملة لوائه ، فضلا عما فعله بشيعته وأنصاره والآخذين بثأره ، مما يكشف عن مدى ما يحمله من حقد وعداء لأهل هذا البيت الطاهر ، واختلافه الشديد بينه وبينهم ، بل الفجوة بين أطروحتين متغايرتين ، الأطروحة الزبيرية التي تدين بالعداء لأهل البيت ، ودفعهم عن مقامهم ، بل محاولة تصفيتهم ، وبين توجهات الأطروحة العلوية المعروفة .

---------------------------
(1) مروج الذهب 113 : 3 ، وروى اليعقوبي في تاريخه 182 : 2 ، الحادثة بإضافات أخر ، ونسب الأبيات إلى عمر بن أبي ربيعة ، ومثله ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد 155 : 5 في ذكر دولة بني مروان ، خبر المختار ابن أبي عبيد ، مع اختلاف في ألفاظ البيتين الأولين .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 93 _

فأين التقارب إذن ؟
   وإذا كان هذا حال مصعب بن الزبير ومواقفه من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فمتى يتاح له التقارب مع بني هاشم ، الذين لا يزالون يحتفظون بمواقف التنكيل والتشريد التي ارتكبها عبد الله بن الزبير ، وقد عزم على إحراقهم وإفنائهم ، ومصعب بن الزبير هو إحدى الصنائع الزبيرية التي ما فتأت تعمل على إنجاح الأطروحة الزبيرية بالتنكيل والتقتيل لأهل البيت وأشياعهم ، فهل يمكننا بعد هذه المقدمات التاريخية من استعراض حال آل الزبير ، أن يجد علي بن الحسين ( عليهما السلام ) مبرراً لزواج مصعب بن الزبير من أخته « آمنة » سكينة بنت الحسين ؟ !
   وإذا اعترض أحدهم قائلاً : بأن الزواج ـ خصوصا في ذلك الوقت ـ لا علاقة له بالمواقف الشخصية ، وأن مسألة المصاهرة لا تعدو عن اقتران بين زوجين ، لا يمثلان كل منهما توجها سياسياً أو فكرياً يناقض أو يوافق الطرف الآخر ، فإن ذلك المقول غير دقيق ؛ إذ بالعكس فقد كان الزواج ـ خصوصاً في ذلك الوقت ـ يمثل حالات تقارب سياسي ، واستقطاب اجتماعي ، يحصل من خلاله الشخص على تأييد أصهاره أو محاولة منه لتأمين جانبهم وتخفيف احتمال الوقيعة به ، وهذا دأب ذي الشأن منهم .
   وما زواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تشكيلات متعددة إلا صورة لهذه الحالة السائدة لدى المجتمع القبلي ، الذي يعيش تحت وطأة التعصبات القبائلية ، والأعراف العربية الملتزمة وقتذاك ، فقد كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستقطب في مصاهراته المتعددة بيوتات لها خطرها في التيارات السياسية المتربصة بالدين الحنيف .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 94 _

   إذن ففي خضم أحداث التنافس الزبيري لبني هاشم وعدائهم إياهم ، بل وفي هذه الأحداث السياسية الهائجة المتوترة ، لا يمكننا قبول حكاية زواج مصعب بن الزبير لسكينة « آمنة » بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، فإن ذلك محاولة قصصية يراد من وضعها وافتعالها إلغاء ما عرف من تقليدية العداء الزبيري ـ العلوي ، وإظهار التوافق بين البيتين ، ومحاولة إسباغ الشرعية على حركة آل الزبير ، هذا من جهة .
   ومن جهة أخرى ، محاولة إضفاء الشبه بين تصرفات عائشة بنت طلحة زوجة مصعب بن الزبير المعروفة بلهوها وترفها ، وبين السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) المعروفة بورعها وتقواها ، ومحاولة سلخ صفة التقوى هذه عن السيدة آمنة ، والتعامل معها على أساس ما يتعامل به مع نساء الزبيريين والأمويين ، والتقليل من شأن مسحة الاحتشام والتعفف على نساء أهل هذا البيت الطاهر ، وخلط ما يقع لنساء الزبيريين والأمويين من انتهاكات شعرية ومخالفات عرفية ورميها على أهل البيت ( عليهم السلام ) .

محاولات زبيرية للطعن على أهل البيت ( عليهم السلام ) :
   ولم يكتف آل الزبير من أكذوبة زواج مصعب بن الزبير من السيدة آمنة ( عليها السلام ) ، بل أمعنوا في الانتقاص من مكانة أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والازدراء بهم ، ورفع شأن مخالفيهم كما في الرواية الزبيرية التالية :
   روى الاصفهاني : قال مصعب : وحدثني مصعب بن عثمان : أن علي ابن الحسين أخاها حملها إليه فأعطاه أربعين ألف دينار (1) .
   هكذا يصور الزبيريون ما يحلو لهم من انتقاص قدر أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وحاجتهم إلى آل الزبير ، فيستعطون أرزاقهم ويتقربون لهم للحصول على أعطياتهم ، وقد تنكر الراوي إلى حقائق تاريخية تظهر شأن علي بن الحسين عليهما السلام وقدره حتى من أعدائه ، وهو ( عليه السلام ) كان يعيش بعد واقعة الطف في أخطر ظرف سياسي يتربص لتحركاته ، ومع هذا فقد هيمن ( عليه السلام ) على قلوب أعدائه ، فضلا عن شيعته ومريدية .

---------------------------
(1) الأغاني 159 : 16 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 95 _

   فقد كانت وقعة الحرة في المدينة شاهدا على تعظيم علي بن الحسين ( عليهما السلام ) في أعين أعدائه فضلاً عن أتباعه ، وكان مسرف بن عقبة حين دخل المدينة لم يتعرض لعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) ، بل قال حين رأي الإمام ( عليه السلام ) : إن أمير المؤمنين أوصاني بك خيراً .
   وروى ابن سعد في الطبقات أن مروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان كانا يحبان علي بن الحسين ( عليهما السلام ) ويجللانه (1) .
   على أن هذا التجليل لا يعني الاعتقاد ، بقدر ما يعني رضوخهما لواقع الأمر مما كان عليه الإمام ( عليه السلام ) ، من الهيمنة على قلوب المسلمين وتعظيمهم له ، بل كان له سيرته المعروفة في البر والعطاء ، وكان موفور المال غير محتاج إلى أحد ، بل كان ( عليه السلام ) يعطي للمحتاجين ، فقد روى ابن الجوزي أن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) دخل على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل محمد يبكي ، فقال علي : ماشأنك ؟ قال : عليّ دين ، قال : كم هو ؟ قال : خمسة عشر ألف دينار ، قال : فهو عليّ .
   وما رواه أيضا من أن رجلا كان يتعرض لعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) ، فأمر له الإمام بألف درهم وألقى عليه خميصة كانت عليه ، فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسول (2) .

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى 421 : 3 .
(2) صفة الصفوة 393 : 1 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 96 _

   إلى غير ذلك من كرائم صفاته وجليل عطاياه ، فهل كان بعد ذلك يحتاج إلى عطايا آل الزبير ليحمل أخته إلى مصعبهم فيعطيه ألف ألف درهم ؟ ! ومتى عرف آل الزبير بالعطاء ؟ إذ لم ير منهم سوى الشح والضيق على الرعية ، حتى ضج الناس من بخل آل الزبير ، فقال قائلهم وهو أبو وجزة مولى الزبير :
إن المـوالي أمست وهـي iiعـاتبة
مـاذا عـلينا ومـاذا كـان يرزؤنا

عـلى الخليفة تشكو الجوع iiوالحربا
أي  الملوك على ما حولنا غلبا  (1)
   وقال الضحاك بن فيروز الديلمي :
تـخـبـرنا  أن سـوف تكـفيك iiقـبضة
وأنـت  إذا مـا نـلت شـيئا iiقـضمـته
فـلـو كـنـت تجزي إذ تـبيت iiبنـعمة


وبـطـنك شـبرا أو أقـل من iiالشــبر
كـما قضمت نار الـغضى حطب الـسدر
قـريـبـا  لـردتك العطوف على iiعمرو (2)
   وعمرو هذا هو أخو عبد الله بن الزبير ، قتله حرصا على الملك دون تحرج في سفك دماء حتى إخوته ومقربيه ، فروايات آل الزبير في الطعن على أئمة آل البيت ( عليهم السلام ) ، ورفع منزلة ذويهم ، تكذبها وقائع التاريخ ، وتناقضها شواهد أخر أعرضنا عن ذكرها .
   والنتيجة : بعد استعراضنا لمقدمات تاريخية مهمة تشير إلى مواقف آل الزبير من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وعدائهم لهم ، وعدم توافقهم ، فإن حكاية زواج مصعب بن الزبير من السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) تمنعها مقتضيات دينية واجتماعية عدة .

---------------------------
(1) مروج الذهب 88 : 3 .
(2) المصدر السابق .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 97 _

أما المقتضيات الدينية :
   فقد عرفنا عداء مصعب لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، وعدم توافقه معهم ، حيث لاحق شيعتهم وقتلهم تبعا لأخيه عبد الله بن الزبير ، فقد نكل ببني هاشم وأراد تحريقهم ، فعداؤهم لآل البيت ( عليهم السلام ) يكشف عن انحرافهم عن ولايتهم ، ويدل على مخالفتهم لما أمر به الله ورسوله من الطاعة لهم والالتزام بنهجهم ، وبذلك فأي تخلف عنهم ( صلوات الله عليهم ) يعد تخلفا عن طاعة الله ورسوله ، فطاعة الله ورسوله تدور مدار ولاية علي وطاعته ، والإيمان مرهون بالتمسك بنهج أهل البيت ( عليهم السلام ) .
   أخرج الحاكم في مستدركه عن أبي ذر ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليا فقد أطاعني ، ومن عصى عليا فقد عصاني » (1) .
   أخرج بسند صحيح عن أبي عبد الله الجدلي أنه دخل على أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الموسم مع جماعة من الناس ليسلموا عليها ، فسمعها تقول: ياشبث (2) بن ربعي ، فأجابها رجل جلف جاف : لبيك يا أمتاه ، قالت : أيسب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ناديكم ؟ قال : وأنى ذلك ! قالت : فعلي بن أبي طالب ؟ قال : إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا ، قالت : فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : « من سب علياً فقد سبني ، ومن سبني فقد سب الله تعالى » (3) .

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 131 : 3 ، ح 4617 وصححه الذهبي في التلخيص .
(2) في المصدر : شبيب ، وأحسبه تصحيفا ، فالأوصاف التي وصف بها لا تنطبق إلا على شبث بن ربعي الرياحي التميمي اليربوعي .
(3) المستدرك على الصحيحين 130 : 3 ، ح 4616 ، سكت عنه الذهبي في التلخيص ؛ لأنه صحح الحديث الذي قبله ، وهو : « من سب علياً فقد سبني » . ولا يبعد أنه أراد تصحيحه ، لكن نفسه لم تطاوعه .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 98 _

   وأخرج عن أبي ذر ( رحمه الله ) كذلك قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يا علي من فارقني فقد فارق الله ، ومن فارقك يا علي فقد فارقني » (1) .
   وإذا استعرضنا تاريخ آل الزبير ، وما كانوا عليه من المفارقة لعلي وانحرافهم عنه ، والنيل منه وسبه ، اتضح لنا جليا مدى عدائهم وعدم توافقهم مع آل علي بعد ذلك ، على أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يتحرى مواطن الاتفاق والالتزام بولاية علي عليه السلام دون موارد الانحراف والضلال ، هذا هو مقتضى سيرة المؤمنين ، فكيف بالإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يتصاهر مع بيوت مخالفيه دون مراعاة جانب الإيمان والورع والتقوى ؟ ! مما يكشف لنا عن عدم إمكانية وقوع زواج مصعب من آمنة حسب المقتضيات الدينية التي كان يراعيها الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) .

أما المقتضيات الاجتماعية :
   وهي التي تشمل المقتضيات السياسية كذلك ، فالزبيريون طلاب منصب وإمارة كما هو معروف ، وهم المنافسون لخصومهم السياسيين من بني مروان ، الذين انكفؤوا في استغلال الفرص السياسية بعد انعزال معاوية ابن يزيد عن السلطة ، وخلو الساحة السياسية عمن يشغل منصبه ، فتسارع مروان إلى اقتناص الفرصة السياسية هذه كونه الوريث السياسي للأمويين ، فنصب نفسه لرأس نظام أموي مرواني جديد ، وهو ما حدى بمنافسيه السياسيين إلى استغلال هذه الظروف السياسية ، فوثب عبد الله بن الزبير على مكة بعد صراعات دموية عنيفة ، مقتطعا بذلك مكة وما والاها ، وضاما إلى إمارته البصرة وما حاذاها ، حتى طمع في الكوفة ، فكانت وقعة مصعب مع المختار ، وما نجم عنها من سفك دماء شيعة علي ( عليه السلام ) ، وإعلانها إمارة زبيرية بعد ذلك .

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 133 : 3 ، ح 4624 ، قال الحاكم : صحيح الإسناد .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 99 _

   لم يكن هذا الوضع الزبيري قد أراح عبد الملك بن مروان الذي يعد موطد الحكم الأموي المرواني فعلا ، فابن الزبير قد امتد نفوذه في أرجاء البلاد الإسلامية وشاع أمره ، وحيل ذلك بين نفوذ بني أمية المهدد كيانهم من آل الزبير ، وبين طموحاتهم المستقبلية التي ترنو إلى السيطرة على جميع الأنحاء الإسلامية دون منافس عسكري أو معارض سياسي له سطوته وآثاره ، وطبيعي أن يكون لهذا المنافس القوي في حسابات الأمويين الأولوية في تصفيته ، وانتزاع ما في يده من الإمارة ، وقد رافق ذلك تحسبا حذرا من تحركات الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) الذي فرغ توّاً من واقعة الطف ، وقد رأى مصارع أبيه وآل بيته أمامه ينفذه الأمويون بأبشع صوره ، ولا بد أن يكون علي بن الحسين ( عليهما السلام ) متربصاً لآل أمية متحيناً فرص الثأر والانتـقام ، فأية حركة مناقضة لبني أمية ستكون فرصة علي بن الحسين ( عليهما السلام ) بعد ذلك ، هكذا كان ظن الأمويين ، فكانوا يراقبون مواقف الإمام ( عليه السلام ) من الأحداث الجارية ، وكانوا يحسبون التأييد لآل الزبير ـ إن حصل ـ إسباغاً للشرعية على آل الزبير ، لذا فهم في وجل من أية تحركات ينجم عنها تأييد علي بن الحسين ( عليهما السلام ) لمنافسيهم الأقوياء ، إلا أن الإمام ( عليه السلام ) لم يتوافق مع الحركة الزبيرية أبداً ، وذلك لما ذكرنا من عداء عبد الله بن الزبير لبني هاشم عموماً ، وللإمام خصوصاً ، هذا من جهة .
   ومن جهته علم الإمام ( عليه السلام ) ـ بغض النظر عما يكنه علمه اللدني المقدس ـ من عدم مصير الخلافة لآل الزبير ، فإن الأحداث السياسية الهائجة كانت توحي بفشل حركة آل الزبير ، وعدم رغبة الناس فيهم .