تأليف :
السيد محمد علي بن يحيى الحلو
راجعه : الشيخ عباس الساويز الكاشاني


الإهداء :
   إلى الحجة المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف بين يديك إحدى حقائقكم المضيّعة . .
   فاقبلوها ـ سيدي ـ شاهداً على مظلومياتكم . .
محمد علي

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 2 _

كلمة المؤسسة

المواجهة بين الحق والباطل :

   المواجهة بين الخير والشر . . بين الحق والباطل . . بين أهل الله وأوليائهم وأهيل الشياطين وأتباعهم . . المواجهة بين هذين التيارين ، كانت على وجه البسيطة منذ سرت نزعة العدوان والشر إلى مسارب النفس الإنسانية وتأصلت فيها ، ومنذ داخلتها الوساوس الشيطانية ، ونسجت حول صفاء النفس ورحمانيتها غشاوة الكدورة والعداوة والبغضاء . . فراح تيار الشر والباطل يتلون في التصدي للخير والحق ، ويتعسف في ظلمه ومواجهته لتيار الحق .
   وفي كل زمان ومكان تجد أن التاريخ أثبت لنا ألوانا ، وصورا شتى من هذه المواجهة وهذا التعدي والجور والتنكيل بالحق وأهله ، باعتبار أن أهل الحق وأتباعه ثلة قليلة ، على طول التاريخ .
   وأن أتباع التيار الآخر المقابل لهم هم الكثرة الكاثرة ، وتشير إليه البداهة ، وهو ما أقره الذكر الحكيم بقوله : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 3 _

   ولذلك كان الأنبياء وأوصياؤهم وأهلوهم وذرياتهم ، على طول سلسلة النبوات المتعاقبة على البشرية ، باعتبار أنهم أصدق مصاديق الحق والخير ، بل هم منبع إشعاع الحقائق والخيرات ، وإليهم تعود كل مكرمة وفضيلة ؛ لذلك كانوا أشد بلاء ، وأكثر عرضة للطعون والمواجهة من قبل تيار الشر والباطل ، فكانوا ـ وهم المنزهون ـ يوصفون بأقبح الأوصاف ، وينعتون بأشنع النعوت .
   هذا في أحسن حالات الصراع ، ناهيك عن التشريد والمطاردة والتقتيل ، وهو السبب الذي حدى بالسماء أن ترسل هذا العدد الضخم والكبير من الأنبياء والمصلحين منذ بدء الخليقة ، وحتى النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
   ونبينا المصطفى الأقدس ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأهل بيته الأطهار ، وأوصياؤه الكرام البررة الذين اختارتهم السماء بعنايتها ، لم يكونوا بدعا من الرسل وأوصيائهم في أن تحيط بهم دوائر الشر والطغيان ، وأن تكال إليهم ظلما وعدوانا أنواع التهم ، وأن يطاردوا في أوطانهم ، ويلاحقوا في أصقاع منافيهم ، وجحور تواريهم ، وأن تجري عليهم صنوف البلاء ، وشدائد المحن ، وفظيعات الرزايا ، مما لم يجر له نظير في التاريخ أحيانا .
   وعقيلة قريش ، كما أطلق عليه البعض وهي آمنة بنت الحسين عليهما السلام ، لم تنفرد في قصة صراع الحق والباطل . . والخير والشر . . بل ، انفردت في أسلوب المواجهة هذه المرة بالشكل الذي لفق له المبطلون ، وزور حقائق التاريخ بعض أشرار التزوير ، ورواد الرذيلة والباطل ، فراحوا يغرون الأمة والبسطاء والسذج بأقاويل وتلفيقات زوروها من جربان سفاسفهم ، اتهموا بها وألصقوها بخيار هذه الأمة وسادتها ، يحدوهم الأمل في إسقاطهم من أعين الناس ، وإبعاد الأمة عنهم ؛ لأنهم رأوا أفئدة الناس تهوي إليهم ، وفي ذلك تبديد لأحلامهم ومطامحهم الدنيوية .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 4 _

هذا الكتاب :
   والكتاب الذي بين يديك هو نموذج من نماذج الصراع والمواجهة التي أشرنا إليها ، وهو يعد محاولة علمية جديدة في مضمار رد الزيف والباطل ضمن إطار المواجهة بين الخير والشر ، والحق والباطل ، فلقد بذل المؤلف ( حفظه الله ) جهداً علمياً ملحوظاً ومتميزاً في إخراج كتابه هذا مستعيناً بمهمات المصادر التاريخية والحديثية والأدبية ، وبين بشكل جلي تهافت الشبهات التي لم يُحبك صناعها صياغتها وتدبيجها ، وأبان عوارها ، وعدم انطباقها على من أرادوها غرضا لسهامهم الصفراء المسمومة .
   ومؤسستنا . . دفاعا عن حريم آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأداء لوظيفتها التي أنشئت من أجلها ، حينما عرض عليها المؤلف كتابه ، وجدت فيه أحد أسباب الدفاع عن أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، ومحاولة جيدة لتنزيههم عما ألحقه بهم أعداؤهم ، بل أعداء المذهب الحق ، والدين القويم .
   كما وجدت فيه فرصة ومادة علمية لإماطة اللثام عن خبط وخلط في كتب التاريخ والأدب في حق السيدة الجليلة آمنة بنت الحسين سلام الله عليهما ، والملقبة بسكينة ، ولغلبة لقبها عليها ، فقد تعارف على تسميتها بسكينة بين العام والخاص ، الأمر الذي أتاح فرصة ذهبية للمتصيدين في الماء العكر ، ولأصحاب المطامع والأغراض المشؤومة في استغلال هذا الاسم الكريم لإفراغ جام حقدهم ، وعدائهم لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وآله الأطهار ( عليهم السلام ) .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 5 _

   وتؤمن مؤسسة السبطين ( عليهما السلام ) العالمية بأن المنافحة عن أهل الحق ، إنما تعني إعلاء كلمة الحق ، ولذا فقد سلكت هذا السبيل ، متخطية العقبات والصعاب من أجل الوصول إلى الأهداف المنشودة التي رسمتها في نظامها .
   وكان لها أثارة في هذا الطريق من ذي قبل وهو كتاب « المولى في الغدير » ، والذي لقي استقبالا حافلا من العلماء والفظلاء ، وثناء جميلا للصياغة التي خرج بها الكتاب لأول مرة ، فهو فصل مستل من الجزء الأول من كتاب « الغدير » للعلامة الأميني ، وقد حوى هذا الفصل أهم أبحاث الغدير ، بل محورها الذي دارت عليه مجلداته الأحد عشر ، كما كانت للمؤسسة إصدارات أخر على هذا الطريق ، طريق الدعوة إلى تعقل الحق ، ونبذ العصبية المذهبية ، وقراءة التاريخ والتراث الإسلامي قراءة جديدة أكثر اتزانا وموضوعية ، ثم تلمس مواقع الحق والعدل ومعرفتها ؛ لغرض معرفة أهله ، ثم قبول الحق وإن كان فيه مرارة وشجا في الحلق ، فإن في ذلك إراحة الضمير ، ورضا الرب تعالى .
   وبعد عرض الكتاب على المؤسسة تمت مطالعته بدقة ، وأضافت إليه ما رأته ضروريا ، وما كان فات المؤلف ذكره من موارد ونكات مهمة ، كما عمدت إلى تدوين ثبت بالمصادر ، حتى خرج الكتاب بحلته النهائية هذه التي بين يديك .
   والمؤسسة إذ تقدم هذا الإصدار إلى الطليعة المسلمة والمؤمنة ، يحدوها الأمل من حملة الأقلام ، والقراء الأعزاء ، التوجه إلى النتيجة التي أسفر عنها الكتاب ، من التأكيد على الاسم الحقيقي للسيدة الجليلة عقيلة قريش والطالبيين آمنة بنة الحسين عليهما السلام ، والملقبة بسكينة ، وأن كل ما قيل من شعر فيها ، فهو في الحقيقة يعود على سكينة بنت خالد بن مصعب الزبيري ، ثم التحذر من نقل الروايات ، وخاصة روايات الأغاني ، التي أريد منها الطعن على أهل البيت ( عليهم السلام ) عموما ، والتقليل ـ باعتقادنا ـ من آثار واقعة الطف الدامية والأليمة ، والتي أخذت تلتهب وتأخذ طريقها في ضمائر الناس ، وتؤثر في النفوس ، باعتبار أن ابنة الحسين ( عليه السلام ) ، شهيد الطف ، وصريع الغدر الأموي ، هذه حالها . . وهذه سيرتها .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 6 _

فضائل « سكينة » في سطور :
   ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الكتاب ليس بصدد التعرض لحياة السيدة الكريمة آمنة بنة الحسين ( عليهما السلام ) ، وإلا لكان له معها موقف آخر ، إنما الكتاب بصدد رد الشبهات المحمومة التي دسها أعداء أهل البيت ( عليهم السلام ) في تضاعيف الكتب والمؤلفات ، وفي معرض وضع النقاط على الحروف لروايات طالما تناقلها المؤرخون والكتاب بين غافل عنها ، ومتغافل يريد الوقيعة في جانب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، كما يهيب بالأقلام المؤمنة والنزيهة الترفع عن نقل أكاذيب الأخبار وإلصاقها بأقدس البيوت وأشرفها .
   فإنه لم يعرف عن البيت النبوي الطاهر ، خاصة في أولاد الأئمة الأطهار ، وبالخصوص بين النساء ، من عرف بالميوعة والتهتك والابتذال إلى الحد الذي وصفوا به ابنة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، السبط الشهيد ، ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وسيد شباب أهل الجنة .
   ومن ينتقص من الإمام الحسين ( عليه السلام ) في ابنته ، إنما ينتقص من الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإنه قال : « حسين مني وأنا من حسين » ، والسيدة آمنة ( سلام الله عليها ) هي بضعة الحسين ( عليه السلام ) ، والذي كان يحبها حباً جما ، كان ( عليه السلام ) يظهر حبه لها ولأمها الرباب ( رضوان الله عليها ) .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 7 _

   والحسين ( عليه السلام ) معصوم ، والمعصوم لا يحب ولا يبغض إلا في الله ، والذي يحبه الإمام الحسين ( عليه السلام ) إنما هو من أحباء الله وأوليائه ، فهل سمعت أذن الدنيا أن الله يحب المتخلعين المرحين الفرحين ، وتلك آياته تنهى عن المرح ، كما أنه تعالى لا يحب الفرحين .
   ورد في الخبر أن الحسن المثنى بن الحسن السبط ( عليه السلام ) أتى عمه الحسين ( عليه السلام ) يخطب إحدى ابنتيه فاطمة وسكينة ، فقال له أبو عبد الله ( عليه السلام ) : « أختار لك فاطمة ، فهي أكثر شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
   أما في الدين : فتقوم الليل كله ، وتصوم النهار ، وفي الجمال : تشبه الحور العين ، وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى فلا تصلح لرجل » (1) .
   يالله . . يالله . . ما أعظمها من كلمة بحق هذه السيدة العظيمة المستغرقة في جميع أوقاتها في ذات الله ، فالمستغرق في الله ، هو الذي راح يسبح في الفناء ونزعت نفسه إلى الغاية القصوى من القداسة ، وابنة النبوة جديرة في الفناء في الذات الإلهية ، ولم لا وهي سليلة فاطمة وعلي والحسين ( عليهم السلام ) ، وتتصل بانبوة ينبوع السماء بواسطة جدتها الزهراء ( عليها السلام ) ، بل حسبها أن يقال: ابنة الحسين السبط عليه السلام .
   فهي بهذا الوصف الذي وصفها به أبوها ، لم تبق في قوس اللقاء الربوبي منزعا ، حتى بلغت الغاية في الاندفاع نحو القدس الذي لا يتناهي . وبعد هذا ، فمن أين يكون لها لفتة إلى ما حولها من نواميس الحياة ؟ ! ومن أين يتأتي لها ـ بعد ذلك الاستغراق ـ الانعطاف إلى لوازم معاشرة الناس ، وعوارض الدنيا الفانية ؟ ! لقد شغلتها الآخرة عن الاولى ، فهي بين عبادةوزهادة ، وتذكير وتفكير ، وتسبيح وتقديس ، ونظر دائم إلى نور الملكوت ، مما لا ترى معه شيئا يدور حولها ، هذا معنى الاستغراق مع الله .

---------------------------
(1) إسعاف الراغبين لمحمد بن الصبان المصري المطبوع بهامش نور الأبصار : 210 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 8 _

   ولا شك أن ابنة النبوة قد حازت أرقى وأعلى مراتب الاستغراق ، فالإمام ( عليه السلام ) يصف حالاتها بقوله : ( غالب عليها ) .
   ومن هنا جاء حب الإمام الحسين ( عليه السلام ) الشديد لها ، وقد أخذت بمجامع قلبه ، وتركته قداستها وطهرها يزداد حنوا عليها ، حتى وصفها ( عليه السلام ) بأنها : ( خيرة النساء ) ، لما وقف عليها يوم الطف ، ورآها باكية نادبة ، فقال :
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي
لا تحرقي قلبـي بدمعك iiحسرة
فـإذا قتلـت فأنت أولى iiبالذي


منك  البكاء إذا الحمام iiدهـاني
ما  دام مني الروح في iiجثماني
تـأتينـه يا خيـرة iiالنسـوان
   ولاندري كيف تكون منزلة من يصفها الإمام المعصوم من السمو والعظمة ، وهو حجة الله على عباده ، بأنها من خيرة النساء ؟ ! والسيدة آمنة ( عليها السلام ) علاوة على ذلك ، عاشت في كنف إمامين كان الجهال والأبعدون والمتسكعون وأهل اللهو ، فضلا عن العلماء وأصحاب النفوذ ، يهتدون بكلمة واحدة منهم ، ويصلحون بموقف بسيط ، أو إشارة عابرة ، والتاريخ شهيد على ذلك .
   فأخوها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وسيد الساجدين ، ذلك الذي تعرف البطحاء وطأته ، والبيت يعرفه والحل والحرم ، وحسبك به مربيا وهاديا ومرشدا ، وابن أخيها الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، باقر علوم آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ذلك الذي كانت علماء الدنيا وما زالت تنحني إجلالا له ، وخضوعا بما عنده من علوم الرسالة المحمدية الخالدة ، وبخوعا وتسليما له هيبة وفرقا من قوة الحجة وسطوع البرهان .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 9 _

   فهل يقبل منطق ، أو يرتضي لك عقل ، أن تعيش تلك السيدة الجليلة في ظلهما وفي بيوتهما ، وهي تدخل المغنين عليها وتستمع إليهم ، وتساهر الشعراء والمتخلعين حتى الصباح ؟ ماهذا الهراء والنعيق ؟ ! ولقد أحسن من قال : حدث العاقل بما لا يليق ، فإن صدق فلا عقل له .
   فالسيدة سكينة ما فارقت المدينة منذ عادت إليها بعد واقعة كربلاء ، بل ولم تتخلف ـ بما توحي إليه الشواهد ـ عن بيت أخيها السجاد عليه السلام ، الذي كان دائم البكاء والحزن على أبيه الحسين ( عليه السلام ) ، فلا غرو أن ورثت السيدة آمنة عن أخيها الحزن السرمدي على أبيها ، خاصة وقد أدركت هي حادثة الطف الأليمة ووعتها ، فهي يومذاك قد جاوزت سن التكليف قليلا ، ومع عدم وجود خبر قطعي يركن إليه في تحديد عمرها ، فإنه يمكن الاستنتاج من بعض القرائن والشواهد التاريخية أنها كانت بين ( 11 ـ 14 ) عاما ، ولعلنا نستطيع أن نستقرب تاريخ ولادتها بين سنتي 47 و 48 هـ .
   وبعد الإمام السجاد ( عليه السلام ) لاذت في كنف ابن أخيها الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، فهي امرأة وحيدة تحتاج إلى من يكفلها ، خاصة مع انقطاعها إلى العبادة ، وتبتلها لله عز وجل . وتاريخ الإمامين الهمامين بين يديك ، فهل تجد فيه أن بيوتهم كانت محتشدا للشعراء ؟ ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) .
   وهل تجد شيئا من هذا يتوافق مع ما زوره آل الزبير ، ونشره آل مروان ، وروج له من هو في الميل والهوى مع آل أمية ، والجميع هم أعداء الله وأعداء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأعداء أهل بيته ( عليهم السلام ) ؟ فالكذاب الأشر زبيري ، والمروج البطر أموي ، وناهيك بهما من مبغضين وعدوين لدودين لأهل البيت عليهم السلام بالخصوص ، ولبني هاشم عموما بما فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 10 _

   ولا نريد الدخول ـ هنا ـ في أبحاث تاريخية جانبية ، فتاريخ الأسرتين الأسود يشهد على سوء فعالهم ، وعدائهم للدين .
   لكن المهم الذي يجب أن يعرفه القارئ مسبقا ، أن رائد وضع الأحاديث والأخبار الطاعنة في أهل البيت ( عليهم السلام ) هو مصعب الزبيري ، ثم تلاه الزبير بن بكار ، بعد أن أخزتهم ابنتهم سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير ، بما شاع من ملاحمها ، ومغامراتها مع شعراء الخلاعة والمجون والمغنين ، في مجالس لهو وطرب وسكر يندى لها الجبين الحر والحيي ، ولكن من أين تخجل أوجه سكبت بلذات الفجور حياءها ؟ ! وبدل أن يدفنوا عارهم ، راحوا فزحزحوه إلى أشرف البيوت التي تقف في مواجهة باطلهم ، وانحرافهم عن الدين .
   ووجد المدائني ، رفيق مصعب ، ومن بعده المبرد والزجاجي وأبو علي القالي في هذه الأخبار مادة جيدة لمؤلفاتهم أولا ، وليحققوا بعض أغراضهم في النيل من البيت العلوي الطاهر ثانيا ؛ لما جبلوا عليه من نزعة أموية .
   وأخيراً جاء أبو الفرج الإصفهاني متوجا أعمال أولئك بكتابه « الأغاني » عيبة السفاسف ، وجراب الهزال ، وجعبة الضلال ، ويكفيك قول ابن الجوزي فيه عن غيره من الأقوال الكثيرة : ومن تأمل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر (1) .
   فهل يتصور عاقل ـ بعد هذا ـ أن أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، والذين أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمودتهم ، وآمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ـ سكينة ـ من ذوي القربى قطعا وجزما ، يصدر منهم مثل هذه القبائح والمنكرات ؟ ! ( أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ) .

---------------------------
(1) المنتظم 185 : 14 رقم 2658 وفيات سنة 356 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 11 _

   وهكذا جازى آل الزبير رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في عترته وذريته عليهم السلام ؟ ومن قبل ترك زعيمهم وكبيرهم خلف ابن الزبير بن العوام ، ونجعة السوء ، الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في خطبه في الجمعة والجماعة .
   وجانب آخر من حياتها يعطينا عنه خبرا ما جاء في الخبر من أن الحسن المثنى بن الحسن السبط لما اختار فاطمة بنت الحسين على اختها سكينة ، كان يقال : إن امرأة تختار على سكينة لمنقطعة القرين .
   وقد علمت من ذي قبل قول الإمام الحسين ( عليه السلام ) في ابنته فاطمة من أنها تقوم الليل كله ، وتصوم النهار ، فإذا كان هذا حال فاطمة وهي مع ذلك تصلح لرجل ، فما ظنك بأختها ، التي لا تصلح لرجل ، من حال التبتل والعبادة ؟
   وبعد هذا وذاك ، فأين تكون تلك المخاريق التي ألصقوها بابنة النبوة من مقيل الحق والصدق ؟ ألا إنها أهلك من ترهات البسابس .
   لا جرم أنهم جاءوا بأذني عناق ، فهذه سجية القوم تجاه أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ، شنشنة نعرفها من ( أخزم ) ، وقد ملؤوا حشفا بسوء كيلة ، وسيعلم الذين ظلموا محمداً وآل محمد أي منقلب ينقلبون ، والعاقبة لأهل التقوى .
   وأخيراً وليس آخراً رواية سهل بن سعد الساعدي الصحابي الشهير ، وقد صادف دخوله الشام يوم وصول سبايا كربلاء إليها ، وصادف أن سأل سكينة عن جاجتها ، بعد أن عرفها نفسه ، وعرفها باستحفائها السؤال ، فقالت له : قل لصاحب الرأس ـ تعني رأس الحسين ( عليه السلام ) ـ أن يقدم الرأس أمامنا ، حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 12 _

   مثل هذا الموقف من هذه السيدة العلوية الجليلة ، تستشعر منه مدى حرص ابنة النبوة ، وسليلة الإباء ، وغيرتها أنها لا ترضى بالنظر إليها وإلى حرم آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كباراً وصغاراً .
   وتتجلى من ذلك الموقف الغاية التي بلغتها « سكينة » ( سلام الله عليها ) من العفة والطهر والقداسة ، والروح الملائكية ، أو يصدر منها ـ بعد ذلك ـ ما نقلوا من أفائك ، من كانت هذه نشأتها وسلوكها وسيرتها حتى وفاتها ؟ ! ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ) .
   والنتيجة التي نخلص إليها حول إيمان وتقوى وزهد ابنة النبوة ، وربيبة الرسالة ، وصاحبة الخلق المحمدي ، والنهج العلوي ، والشمائل الحسينة ، هي ما نجمله في النقاط التالية :
1 ـ عاشت وتوفيت تحت ظلال الإيمان ، وفي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، جوار جدها المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وفي ظل أخيها وابن أخيها ( عليهما السلام ) .
2 ـ كان غالب عليها الاستغراق مع الله تعالى .
3 ـ كانت من خير نساء زمانها .
4 ـ إنها من ذوي القربى الذين أوجب الله مودتهم .
5 ـ إنها من أشرف وأرفع بيوت العرب ، بل الدنيا بأسرها .
6 ـ إنها لم تكن تصلح لزوج لعزوفها عن الدنيا كلية .
7 ـ كان الإمام الحسين ( عليه السلام ) يحبها حبا جما ، وله بها تعلق شديد ؛ لكثرة عبادتها وتبتلها لله تعالى ، والمعصوم لا يحب ولا يبغض إلا في الله ، ولمن هو مع الله في المبدأ والمنتهى .
8 ـ كانت شديدة الغيرة على بنات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، مع عفافها وشدة حفاظها على حجابها .
9 ـ ورثت إباء أبيها الإمام الحسين ( عليه السلام ) وشجاعته ، حيث ردت على طاغية زمانها وفرعونه يزيد بن معاوية ، واعترضت عليه ، وهي الصبية الصغيرة ، وقد عرفت أنها في أكثر التقادير كانت بنت (14) سنة .
   وفي الختام نقدم جزيل شكرنا للمحقق المفضال السيد عدنان علي الحسيني حفظه الله ؛ فأنه قد بذل غاية المجهود في تحقيق وتدقيق الكتاب بما لا مزيد عليه فجزاه الله خير الجزاء .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
عباس الساويز الكاشاني
عيد الغدير 1423

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 13 _

المقدمة :
   تبقى الكتابات التاريخية محبوسة الأنفاس بين ما احتكره أهل الصنعة من التزوير ، وبين ما استحسنه الحكام من كتابته ، بما ينسجم وتطلعاتهم في إلغاء مسلمات الواقع ، أو فرض تخيلات القصاصين على كاهل تاريخ يمتد بعطاءاته منذ بزوغ فجر الرسالة إلى ما شاء الله له أن يقوم .
   وإذا أردنا أن نحسن الظن بما سطره هؤلاء وأولئك من مروياتهم ، فلا ينبغي أن نتعامل معها بحسن ظن يفقدنا مصداقيتنا في الرغبة إلى معرفة الحق ومجرياته ، وشؤون الواقع وتطلعاته ، وهكذا تبقى المرويات التاريخية مكتمة ، لا يحق لها أن « تتفوه » عما أضافته يد الوضع عليها ، أو تلك النابعة من تخيلات القصاصين مجاراة لوضع سياسي قائم ، أو مدارة لنزعات تكتل معين ، أو تنفيذا لرغبة نفسية جامحة في الانتقاص من هذا ، وسلب محاسنه لتزويق صورة ذاك ، أو رمي هذا بداء ذاك دون وازع من دين ، أو تحرج من عرف ، أو حتى لو تعارض مع مبتنيات علمية ، أو أسس منطقية ، بل ومبادئ أخلاقية ، استجابة لمصالح شخصية عارمة ، أو طموحات سياسية هائجة ، تسحق معها كل مبدأ ، وتقتل من خلالها كل فضيلة ، وتوأد بسببها كل مكرمة .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 14 _

   وليس في منطق هؤلاء غير استدرار رضا أسيادهم ، وإشباع حاجات أوليائهم من « نهم » الوضع والتزوير ، ونزعة الكذب والتضليل .
   وهكذا يبقى الصراع قائما بين توجهات هؤلاء ، وأسس المنطق العلمي الذي من خلاله يقرأ الواقع التاريخي دون تزلف لعصبة ، أو مراء في حقيقة أو تجن على واقع .
   والذي بين أيدينا نموذج مما جنته الأهواء في كتابة التاريخ ، وما فرضته المصالح من تزوير ، وما أفرزته صراعات التكتلات السياسية من تضليل ، فخال لهم ما وضعوه « مسلمة » أجورها على ألسن السذج من الناس ، وأوهموا بها الحمقى من القصاصين ؛ ليستظرفوا بها كتبهم ، ويستملحوا بها قراءهم .
   وكان نصيب هؤلاء من تخيلاتهم في مروياتهم ، وطعونهم على أهل البيت ( عليهم السلام ) ، أن صوروا السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، الملقبة بسكينة ، أنها من أهل الظرافة والبطر ، فهي تتعاطى الغناء ، كما هي تتعاطى التحكيم بين الشعراء والمغنين ، وتترامى في أحضان أزواجها الأمويين والزبيريين دون وازع من دين أو مانع من عرف ، وكأنها « موقوفة » لبني مروان وآل الزبير ، فبين مفارق لها ، وبين كاره ، وبين خاطب ، وبين مطلق ، وكأن لم يكن من بني هاشم كفء يتولى أمرها ، أو ولي يحسن منعها عما ترتكبه مما يخالف الدين وينافي العرف .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 15 _

   في خضم هذه « الأهوال » التي تحدثها زوابع ثقافية ، يتسكع أصحابها على أبواب السلطان ، ويعيشون في دهاليز البلاط ، ويدفع بها هؤلاء ، ويتجاذبها أولئك . . ليحاولوا إقحامها في مرتكزات العامة ، ويدعوها لسذج الناس .
   لم تدم هذه المحاولات الخائبة طويلا حتى قيض الله لذلك من يبطل أحدوثتهم ، ويرد مكائدهم ، ليطالعنا الحجة المحقق السيد عبد الرزاق المقرم قدس سره ، الذي عرف بالدفاع عن أهل بيت العصمة والطهارة ( عليهم السلام ) ، فيثبت دجل الوضاعين ، مما ادعوه من وصمة الظرافة واللهو ، وتعدد الأزواج التي يلصقونها بالسيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) الملقبة « بسكينة » ، فأثبت براءتها عن كل تهمة وشائنة ، بكتابه الرائع « سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) » .
   وكتابنا هذا هو حلقة مكملة لجهود العلامة المقرم رضوان الله تعالى عليه ، وليميط اللثام عما ارتكبه هؤلاء القصاصين ؛ من تخيلات ترضي أهواء أسيادهم ، وتنتقص من مقامات آل البيت ( عليهما السلام ) .
   ولسوف يرى قراؤنا ما أحدثته السياسة من فجوة بين الحق الباطل ، وبين الحقيقة والخيال ، حرصا منا على تحرير القارئ من أسر توجهات الكتابات التاريخية المنفلتة عن قيم الدين ومبادئ العقل ، ومسلمات الوجدان ، وكان لمؤسسة السبطين ( عليهما السلام ) العالمية التي يشرف عليها آية الله السيد مرتضى الموسوي الإصفهاني « حفظه الله تعالى » ، الأثر الكبير في إنجاز هذا المشروع ورعايته ، وقد لمست الجد والإخلاص في إنجاز هذا العمل من لدن فضلائها الأخيار ، وأخص بالذكر سماحة العلامة الشيخ عباس الساويز الكاشاني الذي بذل جهده في مراجعة الكتاب ، والأستاذ السيد عدنان الحسيني في إخراجه ، ولجميع فريق عمل هذه المؤسسة الخيرة كل تقدير وإكبار ، سائلا المولى التسديد لهم لتقديم المزيد من مشاريع الدفاع عن أهل البيت ( عليهم السلام ) .

ذكرى شهادة الصديقة فاطمة الزهراء ( عليها السلام )
3 جمادى الثانية 1423 هـ              
السيد محمد علي السيد يحيى الحلو قم المقدسة    

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 16 _

تنويه :
   اسمها آمنة ، وقيل : أمينة ، وقيل : أميمة ، وسكينة لقب لقبتها به أمها ابن خلكان في وفيات الأعيان 1 : 378 .
   ورد في الكتاب اسم السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، بدل سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، توخيا لإثبات اسمها الصحيح ، وربما أشرنا إلى إثبات اسم السيدة آمنة إلى جانب اسم سكينة بنت الحسين ، إشارة إلى مسايرة بعض الأخبار الموضوعة بما تقتضيه سيرة البحث ، إمعانا في إرشاد القارئ وتنبيهه إلى استخدام اسم السيدة « آمنة » بدل « سكينة » ، وحرصا منا على تداول الاسم الصحيح وهو : السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) .

وراثة نبوية :
   « وأما الحسين فله جودي وشجاعتي » (1) .
   هكذا كان ميراثه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لولديه ، فورث الحسين ( عليه السلام ) جوده وشجاعته ، وورث الحسن ( عليه السلام ) هيبته وسؤدده .
   كان هذا الإرث النبوي يتقاسمه الوريثان من قبل ومن بعد ، فقبل وفاة جدهما كانت بوادر الإرث النبوي قد بدت على الغلاميين الهاشميين ، وهما يرفلان في عناية إلهية ما انفكت عنهم وعن أبويهما يوم جللهما بالكساء اليماني ، وقال : « اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وعلى آل محمد » وأنزل الله عز وجل : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (2) (3) .

---------------------------
(1) الإرشاد للمفيد 7 : 2 ، إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي : 210 ، الخصال للصدوق77 : 1 وفيه : جرأتي وجودي وفي رواية أخرى : سخائي وشجاعتي ، بحار الأنوار 293 : 43 ، مقتل الحسين للخوارزمي 105 : 1 ، الإصابة لا بن حجر 316 : 4 رقم 481 ترجمة زينب بنت أبي رافع ، أسد الغابة130 : 7 رقم 6955 ، البداية والنهاية 161 : 8 ، ذخائرالعقبى لمحب الدين الطبري : 129 ، المعجم الأوسط للطبراني 136 : 7 ح 6241 وفيه : كرامتي وجودي ، مجمع الزوائد 185 : 9 ، وأخرجه ابن منده ، وابن عساكر في تاريخه ، والمتقي الهندي في كنز العمال ، وأبو نعيم وغيرهم .
(2) الأحزاب 33 : 33 .
(3) المستدرك على الصحيحين 160 : 3 ح 4709 ، دار الكتب العلمية .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 17 _

   ولطالما كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم : « أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم » (1) .
   ولكم كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينوه عن حبه لابنيه هذين حتى أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما ترك مناسبة إلا وأشهد المسلمين على حبه إياهما .
   فما رواه أسامة بن زيد قال : طرقت باب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذات ليلة لبعض الحاجة ، فخرج إلي وهو مشتمل على شيء لا أدري ماهو ، فلما فرغت من حاجتي قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه ؟ فكشف فإذا حسن وحسين على وركيه فقال : « هذان ابناي وابنا ابنتي ، اللهم إني أحبهما فأحبهما ، وأحب من يحبهما » (2) .
   ولم يكن ذلك التنويه مقتصرا لأصحابه بل خص أهله وعمومته وأقرهم على حبهما وعظيم منزلتهما حتى صار ذلك مركوزا لدى الهاشميين من أهله كما هو مركوز عند المسلمين طرا .
   وعن مدرك بن عمارة قال : رأيت ابن عباس آخذا بركاب الحسن والحسين فقيل له : أتأخذ بركابهما وأنت أسن منهما ؟ فقال : إن هذين ابنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أوليس من سعادتي أن آخذ بركابهما (3) ؟ !
   هذه عناية الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لولديه ، ولم تنقطع هذه الرعاية الخاصة بانقطاع الوحي ، عند رحيله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى ملكوت الله الأعلى ؛ ليكون قرير العين بسبطيه هذين وأبويهما ، وهم يحملون عيبة علمه ومكنون حكمته ، وضن عليهم من التخلف عنهم وتركهم ، فقال : « يا أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي ، أمرين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » (4) .

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3 : 161 ح 4713 .
(2) سنن الترمذي 5 : 656 ح 3769 كتاب المناقب ، ب 31 مناقب الحسن والحسين .
(3) ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر من تاريخ دمشق ، تحقيق المحمودي : 146 ح 188 .
(4) المعجم الكبير للطبراني 3 : 65 .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 18 _

   ولم تكن أمته قد سمعت ما وعته بالأمس حتى تستعدي عليهم اليوم ، فهذا علي عليه السلام يهجره المهاجرون ، ويخذله الأنصار ، ويحيلونه إلى مأمور بعد ما كان أميرهم في غدير خم ، تلك الواقعة التي أكحلت عيون قوم وزكمت أنوف آخرين .
   فما كان من هؤلاء إلا ويسوقون علياً ( عليه السلام ) إلى بيعتهم مكثورا ، يخذله قومه وأهل مودته ، إلا نفر ثبت رغم بريق السيوف وشروع الأسنة ، وليس للحسن بن علي ( عليهما السلام ) شأن للنصرة عند هؤلاء القوم ، الذين آثروا ابن حرب على حربهم مع سبط الرسول فأسلموه عند الوقعة ، وأحبوا العافية عند نصرة الحق ، واختاروا الخضوع على العزة في ظل كتاب الله وعترة نبيهم ، ولم يحيلوا بينه وبين عدوه ، الذي جرعه غصص الفتن قبل أن يجرعه كأس المنون على يد زوجته جعدة بنت الأشعث ، فذهب صابرا محتسبا يشكو مالاقاه لربه ، ويبث ما عناه لجده .
   وفي كربلاء موعد القوم مع آل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حيث يناجزون سبطه الحبيب بكل خسيسة حرب ودخيلة صدور ، فينكفئون على آله بسيوف الحقد وسهام الغدر ، يرمونهم من كل ناحية ؛ ليكون لرضيعه سهم المنون كما كان له نصيب من الظمأ ، وانهالوا على أهله قتلاً وتنكيلاً ، فأحرقوا خيامهم ، وأركبوهم أسارى بغير وطاء ولا غطاء .
   لم تنته واقعة الطف بعد ، بل كأنها بدأت منذ لحظة تسييرهم سبايا ، فهذا الإمام زين العابدين عليه السلام يتصدى لخطط هؤلاء القوم ، الذين أذاعوا بين العامة أنهم أسرى خوارج ، فيقول عند دخوله الكوفة : «أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتهكت حرمته وسلبت نعمته وانتهب ماله وسبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا تراث ، أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا .

عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 19 _

   أيها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة وقاتلتموه ، فتبا لكم لما قدمتم لانفسكم ، وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي » ، فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالو : هلكتم وما تعلمون (1) .
   وهكذا يدأب الإمام على كشف الحقائق وفضح الأباطيل ، ثم هو بعد ذلك يتصدى لإحباط المحاولات في التمويه على الواقع ، ولم يقتصر الأمر على الإمام في جهده المقدس لكشف الحقائق ، فإن لربيبة الوحي دورا تلقيه ظروف الدعوة هذه .
   بعد وصول الركب إلى الكوفة كانت زينب بنت علي ( عليهما السلام ) تلملم جراحها ، وترنو إلى الإمام لئلا يصيبه مكروه ، وإلى العائلة لئلا تكترث من هول الوقعة ، وفجيعة المصاب ، ثم هي تقف ثابتة بثبات المبدأ ، شامخة بشموخ الرأس الشريف ، الذي علا على رمح عال يتطلع إلى ما يجري حوله من تخاذل القوم وصمود الآل .
   كانت زينب ( عليها السلام ) صامدة رغم ما تعانيه من تتابع الأهوال ، وهي في هذا تتابع الأحداث ، والخطب جلل ، والجرح لما يندمل ، فقالت من خطبة لها :
   « ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ؟ وأي كريمة له أبرزتم ؟ وأي دم له سفكتم ؟ وأي حرمة له انتهكتم ؟ لقد جئتم شيئاً إداً ، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً .

---------------------------
(1) مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم : 316 و317 . .