آية الله العظمى الشيخ محمد أمين زين الدين ( قُدس سره )



بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
   الحمد لله ولي كل نعمة ، ومصدر كل رحمة ، وصلواته الطيبة المباركة على سيد بريته ، محمد والمصطفين من آله ، والمستخلصين من أصحابه .
   ( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ، إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِين ) .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 2 ـ

حديثي هذا

   قارئي العزيز :
   قلت لك ـ في تقديم الطبعة الأولى لهذا الكتيب ـ :
  أنت الذي سايرتني من مطلع الحديث إلى ختامه ، فشاركتني حلوه ومرّه ، وقائمه وحصيده ، وأنت الذي ستختزل ساعة من عمرك لتقرأه ، فتبسم لي إذ أبسم ، وتأسى معي إذ آسي ، ثم أنت الذي ستنتصب للحكومة ـ بعد ذلك ـ فتقضي عليه بالصواب أو الخطأ ، وبالنجاح أو الإخفاق ، فمن أحق منك بإن يهدى إليه الحديث ؟.
  ولم أجد ـ بعد أربع سنين مرت على طبعته تلك ، وبعد الحوادث التي مر بها تاريخ الكتاب ـ ، ما يحملني على أن أغيّر من قولي شيئاً ، فالكتاب لا يزال منك وإليك .
  وقارئتي المسلمة ، هي الموضوع الذي من أجله سيق الحديث ، وصيغت حروفه ، وكان تاريخه ، فهي أحق الناس ـ جميعهم ـ بإن تقرأه ، ثم تحاكمه وتحكم عليه .
  وحتى أولئك اللاتي كن يهتفن بسقوط الكاتب ، وبسقوط الكتاب ، في يوم من الأيام ، أوقن إنهن لم يقرأن الكتاب ، ولم يتبّينّ قصد الكاتب ، فماذا عليهن لو قرأن الكتاب جيداً ، وأصدرن رأيهن فيه عن علم ؟ . .
  وقلت لقارئي ـ فيما قلت ـ : حديثي هذا حديث تشتاقه قلوب ، وتمقته قلوب ، ونصيحتي إليك أن تنفرد لقراءته ـ أولاً ـ ، ثم تختار ـ بعد إتمام قراءته ـ ما شئت ، فليس على حكم الحاكم من أن ينبري للمشكلة وهو مائل إحدى الكفتين .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 3 ـ

   وأزيد ها هنا : أن الخروج من أحكام العاطفة ، والتخلص من تبعات الهوى ، يفتقران إلى مزيد من التوقّي ، ومزيد من التجرد ، وإلى بعدٍ في النظر ، ودقةٍ في الملاحظة ، وكل أولئك أمور لا بدّ منها لمن يتحرّى النظر الصحيح ، ويصدر الحكم الصحيح .
  ووصفت له حديثي هذا بإنه وقفى على حكم الإسلام في الحجاب ، وإيماءة إلى الأدواء التي حتّمت عليه وصف هذا العلاج ، ومطارحة مع فريق يرغبون أن يخضعوا دين الله لما يشتهون ، ليتسنّى لهم القصد الذي يطلبون .
  وحين رددت النظرة فيه لإقدّمه للقارىء في طبعته الثانية ، لم أر له وصفاً يخالف هذا الوصف ، فالمدد الذي إتصل بفصوله ، والشرح الذي إمتزج بإصوله ، لم يغّيرا من هذه الملامح ، ولم يعدّلا من هذه السمات .
  والعجلة التي إعتذرت إلى القارىء منها في تقديم الكتاب أول مرة ، هي العجلة التي تعاودني عند تقديمه هذه المرة ، فإن الظروف التي عدت فيها للحديث ، تشبه أختها التي بدأته فيها ، وهي ـ في كلتا الحالتين ـ ظروف مرتبكة ، فرضت عليّ ان اعجل ، وفرضت عليّ اختصر ، وللعجلة والإختصار اعراض لا تفارقهما في الغالب ، وقد عوّدني قارئي على قبول العذر في ذلك .
  وبعد فحسبي أن أكون قدّمت قولة الإسلام لبنيه وبناته صريحة ، لا غموض فيها ، ولا ميل ، والله ـ سبحانه ـ وليّ التوفيق ، وبعونه بلوغ الغاية ، وتحقيق الأمل .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 4 ـ

قصة

  قال لي احد أساتذتي الذين أعتز بهم (1) : أقرأت ما نشرته صحيفة ( . . . ) حول حجاب المرأة ؟ .
  فقلت : لا .
  فقال : هل لك ان تقرأه ؟ ، ثم هل لك أن تجيب عنه إذا قرأته ؟.
  فقلت : أمّا قراءة ما نشرته الصحيفة فسأقرؤه ، وأما الجواب فقد يكون لي من اعمالي ما يمنعني عنه .
  فسكت رويداً ، ثم قال : قلت هل لك أن تجيب عما نشرته الصحيفة ـ إذا قرأته ـ ، لا لأهتمام في المنشور ذاته ، فليس فيه رأي يستحق المناقشة ، بل لما قد يجر وراءه من عقابيل وأحابيل ، ولا سيما أن المقال ينطوي على تحريف شائن لنظرة الإسلام في الحجاب ، وقولة القرآن فيه .
  وقرأت المقال صباح تلك العشية ، وقرأت العدد الذي يلي ذلك العدد من الصحيفة ، فقد كان يحتوي على صلة للموضوع ، ثم فكرت في قول ذلك المرجع الديني الكبير : هل لك أن تجيب .
  نعم ، ليس فيما قالته الصحيفة ما يستحق الرد ـ كما قال ذلك المرجع الديني في آخر حديثه ، بل وليس فيه ما لم يسمع ، ولم يتكرر قوله وسماعه ، ولم يتكرّر معه نقده وردّه .

**************************************************************
(1) كان هذا الحديث بعد منتصف الشهر التاسع من سنة 1958 ، وبعد مضي شهرين تقريباً من ثورة 14 تموز .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 5 ـ

  كل ذلك حق لا ريب فيه ، ولكن أليس من الحق كذلك أن تعلن كلمة الله عالية صافية ، كلما أراد المغرضون إخفاءها ، أو أرادوا تحريفها وفقاً لما يرغبون ؟ ! .
  فلأكتب إذاً حول حكم الإسلام في الحجاب ، وحكمته فيه ، وحول الدوافع التي حتّمت عليه أن يحكم بوجوبه ، ليسمع قولة الإسلام في ذلك من يريد أن يسمع ، وليس في المسلمين من لم يسمع ، ليسمعها نقية من كل شوب ، بعيدة عن أي تحريف .
  وبعد ايام وضعت أول نسخة من هذا الحديث بيد أول قارىء ، وإبتدأ تاريخه الذي اشرت إليه ، وأجملت ذكره ، وقد كان للسلطة القائمة ـ في تلك البرهة ـ موقف من الكتاب لا يحمده الإسلام ، ولا ينساه المسلمون في النجف ، والله وحده الرقيب الحسيب .
  نعم ، وقد علم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
   ( وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون )(1) .
  وقد قلت لصديق لقيني متحمساً في تلك المناسبة : حسب الكتاب نجاحاً ـ والحمد لله ـ أنه أشعر المسلمين الغافلين ـ ها هنا ـ بإن دينهم تحاك له الأحابيل .
  نعم ، حسب الكتاب نجاحاً أنه أدّى للمسلمين هذه الرسالة ، كاملة غير منقوصة ، وواضحة غير خفية ، ليعرفوا ، موقفهم ، ويقوموا بواجبهم ، ولعل الكتاب لا ينال بعض هذا الفوز لو مكنت له الظروف فإنتشر دون منع ، وقرىء دون حرج .

**************************************************************
(1) ـ الزمر : 48 .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 6 ـ

  ولقد عجبت كثيراً ، وعجب أصدقائي الذين قرؤوا الكتاب ، وسيعجب الآخرون الذين سيقرؤونه ـ بعد هذا ـ ، لماذا كان ذلك المنع ؟ ، ولماذا كان الإصرار عليه ، والمبالغة فيه ؟ !
  تمنع كلمة الإسلام أن يجهر بها في بلاد الإسلام ، وبين أبنائه وفي حكومة يعلن دستورها ـ المؤقت والدائم ـ : أن دينها الذي لا تستبدل به ديناً سواه هو الإسلام ؟ ! .
  تمنع كلمة الإسلام أن تقال في هذه البلاد ، وتحت ظل هذه الحكومة ، ثم لا تمنع كلمات ، وأقوال ، وكتب ، ونشرات ، تنابذ الإسلام ، بل وتنال من قدسه ؟ ! .
  ولست اقصد ـ من قولي هذا ـ : أن تمنع هذه الدعوات والإدعاءات ، فإن الإسلام لا يخشى منها أبداً ، ولا يهوله أمرها ، ولا يجد فيها ما يصلح أن يعدّ منافساً .
  ولكن المقصود من ذلك القول : أن يفسح المجال لكلمة الإسلام كما يفسح لغيرها سواء بسواء ، فتنتشر دعوته دون تحريف ، وتعلن حجته دون منع ، وتبين حكمته دون ميل .
  أن يصنع كذلك ؛ ليتخذ العقل الواعي سبيله في البحث الحر والموازنة الكاملة ، والإستنتاج الصحيح .
  أما أن تخنق وتوأد هي وحدها دون ما سواها ، فهذا ما لم يدر في حسبان ! ! .
  وبعد الإستنكار الشديد من الطبقات المؤمنة في النجف ، وبعد الإحتجاج البالغ من المراجع العليا في الدين ، عادت النسخة المخطوطة الوحيدة المصادرة من الكتاب ، وعلى كل صفحة منها ختم للمنع ،

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 7 ـ

وتحت كل سطر منها خط أحمر ، حتى تحت الآيات القرآنية التي ذكرت في طوايا الكتاب ، وحتى تحت الشواهد التي أقتبست فيه من صحف مشهورة ، ومن كتب منشورة ، ومن تقارير رسمية كتبت بعد الإحصاء ، وأعلنت بعد التثّبت ، وقدمت إلى المراجع المختصة ليتخذ لها إجراء ! ! .
  عادت النسخة الوحيدة المصادرة ، وكأن الإستنكار والإحتجاج إنما وقع لتعود النسخة ملطخة بالمداد الأحمر .
  أما كيف إستطاع الكتاب ان يفلت من هذا الحصار ، وأن يتخلص من هذه القيود لينتشر في إيران ، ثم يصل النجف مطبوعاً منشوراً ـ وإن لم تصل منه غير نسخ معدودة ـ ، فهذا ما يعود الفضل فيه إلى جهد الأديب الفاضل الشيخ هادي الأميني ( حفظه الله ووفقه ) .
  وبعد كل ما حدث من تساؤل القراء عن الكتاب ، وتبادلهم نسخه القليلة ، وإلحاح الكثير منهم على إعادة طبعه ، ومن الحوادث التي لا تزال تجدّ حول موضوع الحجاب ، والتجارب المستمرة التي تؤكد حكم الإسلام بوجوبه ، علمت من كل أولئك أن الكتاب بحاجة إلى طبعه مرة ثانية ، لعله يرفع غفلة ، أو لعله يقيم حجة ، أو لعله يؤدي امانة مفروضة ـ على ادنى التقادير ـ .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 8 ـ

الحجاب بين السلب والإيجاب

  هكذا يقترح صديق حميم أن يكون عنوان الكتاب في طبعته المقبلة ـ إن شاء الله ـ ، وكأنه يجد في العنوان السابق ـ الذي عرف به الكتاب ـ شيئاً من الحدة ، فهو يروم التلطيف منها بهذا التحوير ، وهو يشفع رأيه هذا بإن في العنوان الجديد صناعة لفظية ترقق من جرسه ، وهي صناعات يحبها ، بل ويغرم بها فريق من الأدباء الذين ينزعون إلى القديم .
  وأنا أكبر لصديقي رأيه ، وأعجب بملاحظته للفظ والمعنى ، وأستمحيه المعذرة لإقول :
  سيرى القارىء في مطاوي الحديث ، ومن مساق الإحتجاج فيه ، أن منابع الخلاف في هذه المسألة بين الإسلام وخصومه ، وإن البواعث التي حتّمت على الإسلام أن يقول قولته في الحجاب ، إنما هي أمور تحوم حول العفاف ذاته .
  ورأي الإسلام الصريح : أن الحجاب إنما هو ضمان قانوني للعفة ، يصونها عن الإنزلاقات العاطفية ، التي توجبها فتنة العري ، وعن الإعتداء الأثيم الذي تمكّن له مظاهر التبرج والخلاعة .
  ليس عفاف المرأة وحدها ، ولا عفاف الرجل وحده ، بل عفاف المجتمع كله ، من ألفه إلى يائه .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 9 ـ

  ولذلك فالعفاف ـ في رأي الإسلام ـ ، والذي يأمر به ، ويسعى لتكوينه وتنميته ، ويحرص على الحفاظ عليه ـ حق إجتماعي عام ، لا يختص بالفرد ، ولا ينتهي مع حدوده ، وليس من حقوقه ، لتكون له الخيرة في إسقاطه ، والتسامح فيه إذا شاء ، والحجاب يتبع العفة في كل ذلك .
   ولأعجل بالقاريء فأتلوا عليه ها هنا بعض آيات الحجاب ليتضح له من دلالتها هذا الذي قلناه .
  يقول ـ سبحانه ـ في الآية : ( 59 ) من سورة الأحزاب :
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .
   ما معنى إيذاء المؤمنات الذي ذكرته الآية الكريمة ، وفرضت ـ للوقاية منه ، فريضة الحجاب ؟ .
   ما معنى إيذاء المؤمنات ، غير أن يعترض الطامعون سبيلهن ، فيسمعن أو يرين من اقوالهم وحركاتهم ما يريب ؟ .
   ما معنى غير هذا التعرض للعفاف الإسلامي ، الذي يريده الله للمرأة المسلمة ، والمجتمع المسلم ؟ .
   وسيأتي في بحوث الكتاب ما يوضح ذلك ويجلوه .
  ويقول في الآية : ( 30 ) وما بعدها من سوة النور :
( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُن . . ) .
   ذلك أزكى لهم وأطهر ، أزكى لهم جميعاً . . . لإفرادهم ومجتمعهم .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 10 ـ

  ولهذه الزكاة العامة الشاملة ، التي يجب أن تشمل المجتمع من أقصاه إلى أقصاه ، أمر الله المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم ، ويحفظوا فروجهم ، وأمر المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ، ويحفظن فروجهن .
   ثم أمرهن بالحجاب الواقي : بإن يضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ، وإلا لمن تنتفي معه الريبة ، وتؤمن عنده الفتنة من النساء والأرحام القريبة ، والاصهار الدانية ، والتابع غير أولي الإربة ، والطفل الذي لم يظهر على عورة ، ولا يضربن بإرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ، فيستهوي ضعيف ، ويشرئب طامع ، ويترصد حالات الغفلة ، ويستخدم فنون الإغراء .
   وحتى الآيات الخاصة ، التي فرضت الحجاب على ازواج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإنها تتصل بذلك وتؤكده .
   فلهذا العفاف الإسلامي ، الذي يجب أن ينبع من من مهد الرسالة ، ومن منزل الرسول ( صلى الله علية وآله وسلم ) ، ومن هدي أزواجه وبناته الطاهرات المطهرات ، ثم يشع على آفاق المجتمع الإسلامي وأقطاره . . .
  أقول : لتنشئة هذا العفاف ، وتنميته ، ولصيانته عما يخل ويخدش ، يقول الله ـ سبحانه ـ لمخدرات الرسول ( صلى الله علية وآله وسلم ) في الآية : ( 32 ) وما بعدها من سورة الأحزاب : ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا . وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى . . . ) .
  ( فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) ، وبماذا يطمع هذا الذي في قلبه مرض ؟ .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 11 ـ

  إن طبيعته المريضة الملتاثة توهمه أن وراء اللين بالقول ليناً بالطباع فيتطلّع ويطمع ، ويحاول ويتعرّض .
  وإذن فالآية تتضمن حصراً لدائرة المرض ، وحسماً لعدواه ، ووقاية من أعراضه وآثاره .
  ومن اللفتات القرآنية الرائعة ، التي تسترعي الإنتباه : أنه يسمي اللين بالحديث ـ ها هنا ـ خضوعاً : ( فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) . . .
  نعم فاللين بالقلب خضوع ، يجب أن تتسامى عنه المرأة الكريمة ، خصوصاً إذا كانت ليست كأحد من النساء .
  ولتنشئة هذا العفاف وتنميته ، وصيانة حدوده عما يخلّ ويخدش ، يقول للمؤمنين في الآية : ( 53 ) من السورة نفسها :
   ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ . . . وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِن . . . ) .
   الحجاب ضمان قانوني للعفة ، يقيها من أن تتردّى أو تضعف في نفس الفرد ، ومن أن تزيغ أو تهن في طباع الأمة ، ودعاة التبرج ، إنما يدعون إلى هذه السوأى ـ وإن كانوا ينكرون ـ .
  وهذا الكتاب يلمح إلى نتائج ذلك ، ويؤمي إلى أسبابه .
  وبعد ، فلست أرى في العنوان حدّة ، بعد ان كان يحدّد الموضوع الذي من اجله وقع الخلاف ، ومن أجل البقيا عليه وضع الإسلام هذا العلاج ، وما اصنع أنا للموضوع ذاته ، إذا كان بطبعه يملي نوعاً من الحدة ؟ ! .
  أما الجرس الموسيقي الذي شفع صديقي الاديب رأيه فيه فلا ، يكفي وحده سبباً للتحوير .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 12 ـ

حديث مكرر

  حديث الحجاب حديث مكرر ، وقد أوشك اللسان ، بل وأوشك القلم أن يملّه لطول تكرراه ، وحكم العقل اليقظ الواعي فيه بيّن صريح لا لجلجة فيه ، ولا لبس ولا خفاء ، وحكم الله ـ باريء العقل ، وخالق الإنسان ، ومدبّر أموره ، وعالم طواياه ومصالحه ـ أبين وأصرح ، ووطائد الحكم فيه جلية قوية ، وروافده ومؤكداته أوفر واضح .
  وما كان الإنسان ـ بعد هذا كله ـ ليقف ، أو ليتردّد ، وما كان له أن يلتفت أو يتساءل .
  . . .ما كان له ان يأتي شيئاً من ذلك لولا هذه الوقدة ، التي تضطرم بها أعصابه يوم يراهق ، ثم تبقى تتقد وتستعر ، وتكبر وقدتها ، ويتعقد أمرها ، وتتكثّر مطاليبها ، وتستمر مع الإنسان طوال حياته ، إذا بقي معه عقل المراهقة ، فلم يقو أن يضع للسعار حداً ، ولم يطق أن يجعل للمعضلة حلاً .
  وغرائز هذا الكائن البشري نهمة جداً حين يلقى لها الحبل على الغارب .
  ومن خصائصها أنها تشتد وتضرى ، ويعظم إشتدادها وضراوتها ، كلما تكررت الإستجابة إليها ، كالنار يقوى ضرامها كلما كثر وقودها .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 13 ـ


  ومن طبعها ـ كذلك ـ أنها تستلم للقائد البارع ، إذا أخذ قيادها برفق ، وأوقفها عند حدها بحزم ، كالنار إذ تمد بالوقود المعتدل ، وإذ توجه للغاية النافعة المجدية .
  . . ما كان الإنسان ليرّد حكم الله وحكم العقل في مسألة الحجاب ، ثم يختطّ له خطوطاً لا تبتني على القواعد الثابتة المتينة ، التي يجب أن تناط بها الأحكام ، وتقوم عليها الآراء ، وخصوصاً في أمثال هذه المعضلات ، التي تقلق مصير الإنسان ، وتهدد سلامة المجتمع ، وتضعضع أركانه .
  . . ما كان الإنسان ليرتكب شيئاً من ذلك ، لولا هذه اللهفة الشديدة العنيدة التي تعصف به ، وتقلق مضجعه ، وتستعمل ـ لبلوغ غاياتها ـ ضروب الحيل ، وتستخدم شتى الأساليب حتى إذا ملكت زمام المرء ، وإحتكمت في امره ، وإستعبدت إرادته ، إستحالت جوعة دائمة لا تشبع ، وغفلة شديدة لا تنقع .
  فما هذه اللوثة التي يسومون العقل أن يركبها في مسألة الحجاب ، وما هذه السوأى التي يتطلّبونها للمرأة بإسم الحرية ، وما هذه الهنأة التي يرددونها ، ويكثرون من تردادها بإسم المحاماة عن المرأة ، والدفاع عن حقوقها . . . ما هذا جمعيه إلا بعض الوسائل التي يتخذها المسعور ذريعة لغايته ، وإلا بعض الأساليب التي يحتال بها لطلبته .
  إنه ينادي بأسم المرأة ليقترب منها ، ويتظلم لها ليجتلب رضاها.
  يصنع ذلك لتعجب المرأة به ، وتطمئن إليه ، وتقف إلى جنبه .
  والنساء جنس رقيق المشاعر ، مشبوب العاطفة ، ملتهب الإحساس ( يغرّهن الثناء ) ـ كما يصفهن الإستاذ أحمد شوقي ـ ، ويخدعهن التظلّم ، ويفتنهن الأنتصار .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 14 ـ

  يغرهن الثناء عليهن وإن يكن المثني كاذباً ، ويخدعهن التظلّم من أجلهن ، وأن يكن المتظلم مداجياً ، ويفتنهن الإنتصار ، وإن يكن المنتصر ظالماً .
  بلى ؛ وإنه لظلم . . . لظلم عظيم .
  لظلم للمرأة ، وظلم للحق ، وإتهام للعقل ، وإتهام لحكمة الله ( سبحانه ) ، وإفتراء على تشريعه ، وتعدٍ عن حدوده ، أن يقول قائل من الناس : المرأة مظلومة بفريضة الحجاب . . .
  أن يقولوا هذا القول ، ليوقعوا المرأة في الشبك الذي نصبوا ، وفي الحفيرة التي حفروا ؟ ! .
  لتقع المسكينة في ايديهم ، وبين انيابهم وأظفارهم ، فريسة شهية الطعم ، ميسّرة الإصطياد ، أنى أتجهوا ، وأنى كانوا ، في الشارع ، وفي السوق وفي المقهى والمطعم ، وفي أي مكان ولجو أو أرادوا ، خاص أو عام ! ! .
  لتحقق لهم ها هنا ، في بلاد الشرق ، وفي بلاد الإسلام ، إباحية وجدوها ، أو حدّثوا عنها في بلاد الغرب ، أو في الدنيا الجديدة .
  إن الشرق لن يخادع ـ بعد ـ بالأحلام والأوهام ، وإن المسلمين لن يغرّوا عن دينهم ، بعد أن علموا ـ حق العلم ـ أن دينهم هو مصدر قوّتهم ، وموحد كلمتهم ، ولن يحقّقوا أماني المستعمرين في بيوتهم ، ولن يحتفظوا ببذور الإستعمار وجذوره في نفوسهم وقلوبهم ، وفي طباع فتياتهم وفتيانهم .
   إنهم لن يفعلوا ذلك أبداً ، وحسبهم تجارب أليمة قاسية عرفوها لحقائق الغرب ، فكيف بإباطيله ؟ ! .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 15 ـ

مع الفتاة

  قد تخادع الفتاة عن أمرها ، فتبرز كما يشتهي الهاوون الغاوون ( كاسية عارية ) ، ويقضي الشياطين منها لباناتهم بالمغازلة والمعابثة ، وبالنظرات الخائنة المسعورة . . . إلى آخر ما وضع للإنطلاق من حدود ، ـ إن كانت للإنطلاق حدود ، وكانت لهذه الحدود نهاية ـ .
  ولكن الشاب لن يخادع عن أمره ، ولن يختار فتاة كهذه لشركة حياته .
   لن يختارها أبداً لشركة حياته ـ وإن إفتنّت له بضروب الإغراء ـ . . وإذا إختارها ـ لوجود حالات ، أو أسباب تفرض عليه هذا الإختيار ـ ، فإنها لن تحتلّ من قلبه منزلة الزوجة الكريمة ، التي يجد السعادة بالسكون إليها .
  إنه يجد هذه الفتاة لقمة مبتذلة ، والإبتذال يسلب الكرامة ، وقد يزلزل الثقة .
  إنه يجدها لقمة مبتذلة له ولغيره على سواء ، وهذا مالا يرضاه ـ في قرارة نفسه ، لفتاة يودّ أن تكون خاصة له دون من سواه ، كما تودّ هي أن يكون خالصاً لها دون من سواها . . .
  إنه لن يرضى ذلك في قرارة نفسه أبداً ، ولن يعد الإقتران بمثل هذه الفتاة زواجاً سعيداً ، يسكن معه الحنين الطبيعي إلى الزوج ، ذلك السر العميق الذي أودعته القدرة الخالقة في طبيعة كل كائن من كل نوع ، والذي بسببه تأتلف الازواج ، وتتفاعل العناصر من جميع الأشياء .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 16 ـ

  أنه لن يرضى ذلك في قرارة نفسه ابداً ، وما تزال القيم الخلقية تعمل عملها في صدور الناس أجمعين .
  قد تخدع الفتاة ، ويلبس عليها الأمر بإسم الحرية ، وإسم التمدين ، وإسم الفن ، وإسم الثقافة ، وإسم العلم ، وإسم التقدم ، ولا يضيق على الماكرين ، أن يدرجوا في القائمة اسماء كثيرة أخرى ، يطيلون بها العدد ، ويخدّرون بها الفريسة .
  قد تخدع الفتاة بهذه الإسماء ، وبما سواها من المغريات ، فتهتك الحجاب وتبرز إلى الميدان . . .
  إلى الميدان الذي أراده لها الرجل ، وقال لها عنه : أنه ميدان الحياة ، وما هو إلا ميدان الشهوات ، وإلا فأية خاصة من الحياة الرتيبة السعيدة التي كانت تنقصها وهي في حجاب العفة ، الذي ضربه عليها الاسلام ـ إذا وفيت لها الحقوق العادلة ، التي قررها لها الإسلام ـ ؟ .
  ويسير أن تصنع الفتاة ذلك ، ما دام الرجل يرغب فيه ، ويصر ، عليه ان يكون ، فإن الرغبة الإثيرة في نفس الإنثى هي أن تغري الرجل ، وأن تثير إعجابه ، وتحقق رغائبه .
  على ان للفتاة وقدة كوقدة الفتى ، لن تفترق عنه في شيء ، إلا في شدة الحياء ، هذا الحجاب الخلقي الستير .
  يسير أن يلبّس الأمر على الفتاة ، وأن تغرّ بشيء من هذه السبل فهي محببة إليها . . . ولكن ماذا بعد ذلك ؟ .
  بعد ذلك : أن يستغويها الغاوي ، ثم ينفر بعيداً منها كما ينفر الوحش ، أو ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (1) .

**************************************************************
(1) الحشر : 16 .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 17 ـ

  نعم ، ولا تزال المجتمعات ظالمة في بعض عاداتها ، فهي تدين الإناث بما لا تدين به الذكران .
  ذلك هو منطق الغريزة المسعورة ، والغريزة لا ضمير لها ولا وفاء ، ولا ثبات لحكمها ولا دوام ، وذلك هو حكم إزدواج الشخصية ، فإن المرء المستسلم ، لغريزته لا بد وأن يتقمّص في ذاته شخصيتين متباينتين :
  حيوانية تؤثر الإنطلاق ، وهذه التي تبتدىء الشوط بخداع الفريسة لإخراجها إلى الميدان ، ( وإيديولوجية ) تقدّس القيم ، وهذه تجيء في نهاية الشوط ، وعلى يدها يتم نحر الفتاة .
  الا ترى إنصراف الشبان عن الزواج الشرعي ، هذا الإنصراف الكبير ؟ ، إن ما ذكرناه يفسّر لنا جانباً كبيراً منه .
  لا يتزوج الشاب المتعلم ، لإن المحجبة من الفتيات غير متعلمة في الغالب ، فهو لا يرتضي الإقتران بها لجهلها ، والسافرة منهن مبتذلة ، فهو لا يرتضي الإقتران بها ـ كذلك ـ لإبتذالها .
  لا يتزوج الشاب لإنه لايجد الفتاة التي يرتضي ثقافتها ، ويرضي سلوكها .
  وهو يصرّف طاقته من طريقها المحرم ، ـ إذ كان يستبيح ذلك ـ . . .
  وإلا فهو الكبت ، والعقد النفسية ، والعصاب المضني المهلك .
  أو الزواج غير المرضي ، وغير المنسجم ، وهي الإضطرابات النفسية التي ستنتقل إلى الأطفال فيما ينتقل إليهم من ميراث ، وهي الجناية الكبرى المختارة ـ أو غير المختارة ـ على جيل محبب بريء ! ! .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 18 ـ

مـع الفتـى

  والفتـى ؟ . .
  هذا الذي كان له ـ في فصول الرواية ـ دور البطل الجبار المخادع . . أتراه هكذا سالماً من أخطار هذه التجربة ؟ .
  إن الوقدة الملتهبة المضطرمة في اعصابه هي التي ألجأته ، إلى إتخاذ ذلك الموقف لما ارخى لها العنان ، وهي التي صورت له المجون تحرراً ، وأثبتت له التحلل رشداً ، وهي التي اوحت إليه أن يقول كل الذي قال ، وأن يفعل كل الذي فعل .
  بلى ؛ وهي التي وضعت له المقاييس الملتوية الملتاثة عن المرأة وعن حقوقها ، فدافع وناضل ، وكتب وخطب ، وإشتد وتحمّس .
  وما كانت لتبلغ به هذا المبلغ كله ، لولا التحريض الدائم المتكرر ، الذي يلقاه من الانوثة الخليعة العارية ، في كل سبيل يمر به ، وفي كل مكان يدخله ، وجوعة الطعام يزيد في سعارها منظر الأكل اللذيذ . .
  وما كانت لتبلغ به هذا المبلغ لو أنه كان صارم الإرادة قوي الشكيمة ، سديد التفكير . .
  لو أنه كان كذلك فملك الزمام وأحسن القيادة ، وأخلص في التوجيه . .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 19 ـ

  وما كانت لتبلغ به هذا المبلغ لو انه اسلم قياده لدين الله ، فإتبع هداه ، وإلتزم مناهجه ، ووقف عند حدوده . .
  ولكنه إنطلق ، ولكنه جمح . . ولكنه أسلم قياد نفسه وعقله ، وكل مواهبه ، لغريزته المتوقدة المشبوبة .
  والتحريض الذي يتلقّاه في كل نظرة ، والتشجيع الذي يناله في كل مغازلة . . . فماذا ينتظر منه بعد كل ذلك ؟ .
  ماذا ينتظر منه بعد ذلك ، غير ان تثور الغريزة فيه إلى أقصى حدودها ، وأن تلتهب إلى أشد وقدتها ، وأن تلتهم كل طاقاته ، وتستعبد جميع مواهبه ومشاعره ، وأن يغلب الجانب العاطفي منه على جانب التفكير ، فلا يعود صالحاً لبناء مجد ، ولا لإقامة سؤدد ، ولا لإعلاء نفس ، ولا لأسعاد أمة ؟ .
  ميوعة وتحلل ، وإزدواج في الشخصية وترهّل في الخلق ، وضعف في الإرادة ، وخور عن إحتمال العظائم من الأمور ، ومسخ في معالم الرجولة .
  هذه مواريث الإختلاط ، ولإنطلاق مع الشهوات ، وإلقاء الحبل على الغارب فيها ، فهل يرغب الشاب منا أن يهبط إلى هذا الدرك ، وأن يحتّم على مستقبله بهذا الخسار ؟ .
  ودع عنك العقبى التي يتحدث عنها الدين ، وينذر بها الناس أجمعين ن عقبى الجرأة على الله ـ سبحانه ـ بإنتهاك حدوده ، وإرتكاب محرماته .
  ولقد رأينا بأبصارنا ما يصدّق ّ هذا القول في الغرب نفسه . . في الغرب الذي إبتدع هذه البدع ، وإختط هذه الخطط ، ثم سار عليها ، وسار على أثره المولعون ـ منا ومن غيرنا ـ بالتقليد .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 20 ـ

  رأينا ما يصدّق ذلك في فرنسا ، نموذج الغربيين في الخلاعة ، وقدوتهم في الإنطلاق ـ ، حين أدركتها الحرب العالمية الثانية ، ولم تبقى فيها الخلاعة من سمات البطولة والرجولة شيئاً يستحق التقدير .
  نعم ؛ رأينا هذه الدولة حين أدركتها هذه الحرب ، كيف طأطأت رأسها لأول لطمة ، ورفعت يديها عند أول هجمة ، كيف رفعت يديها كلتيهما لتتقي وتستسلم في آن واحد ، شيمة الخاشع الضارع ، الذي لا يقوى دفعاً ، ولا يملك نفعاً ؟ .
  وما ظن القارىء بإمة إضطرت إلى أن تعفي خمسة وسبعين ألفاً من جنودها عن الخدمة ، وهي في أشد المآزق ، وفي امس الحاجة ، في السنتين الأوليين من سنّي الحرب الأولى ، إضطرت إلى أن تعفي هذا العدد الضخم من الجنود ، وتبعث بهم إلى المستشفيات ، لإنهم أصيبوا بمرض الزهري ؟ .
  وما ظن القارىء بإمة يبتلي منها بهذا المرض وحده مائتان وإثنان وأربعون جندياً في آن واحد في ثكنة متوسطة ، ويموت منها ثلاثون ألف نسمة بهذا المرض وتوابعه في كل عام ؟ .
  وما ظن القارىء بإمة بلغ تمكّن الشهوات فيها مبلغه المفرط ، حتى أوهن الاعصاب منها ، وخلخل الأركان ، وكاد أن يأتي على القوى في الأجساد ، وحتى إضطر حكام الجيش فيها أن يخفضوا من مستوى القوة والصحة الذي تفرضه الأنظمة في متطوعة الجيش .
  . . إضطروا لإن يخفضوا من المستوى الصحي للمتطوعة في كل بضع سنين ، لإن الأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط المقررة يقلون على ممر السنين ، وهي لا تزال على هذه الضرورة المتزايدة وهذا التدرج في الضعف منذ أوائل القرن العشرين .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 21 ـ

  ما ظن القارىء بإمةً هذا رصيدها الصحي للجيش الذي تريد منه حماية البلاد ودفع العدوان ؟ ! .
  أما الحياة العامة فيها ، فيقول عنها ( بول بيورو ) ـ العالم الإجتماعي الفرنسي المعروف :
  ( إن من أراد من الباحثين أن يطالع حياتنا المدنية من خلال هذه النماذج للحياة ، التي لا يزال يعرضها كتاب مسرحياتنا منذ ثلاثين أو أربعين عاماً ، فلا جرم انه يستنتج أن جميع الأزواج المتزوجة في مجتمعنا قوم خونة ، متجردون من الوفاء اللازم للعشرة الزوجية ، فيكون كل زوج إما بليداً غافلاً ، أو يكون لزوجته بلاءً ونكبة ، وأما الزوجة ، فأحسن خصالها أن تكون في كل حين متبرمة من زوجها ، وتكاد تميل بهواها ، عنه إلى غيره ) (1) .
  نعم ؛ وهكذا تفعل الميوعة ، وهكذا يصنع التحلل وهمود النخوة ، وخمود الجذوة .
  طأطأت للذل والإستكانة دولة كانت تزعم أنها ثانية دول الدنيا في القوة ، وأولاها في التمدين ، ولم تعدل من موقفها جيوش جرارة من حلفاءها تخف لنصرها ، وأدوات جبارة تقف في ظهرها ، فهل نطمع في تجربة أكبر من هذه التجربة ؟ ، وستكشف الليالي عن تجارب وتجارب تذكر وعبر للعبرة ، وتسجل للتأريخ .
   . . ستكشف الأيام ذلك ولا محيد ، وسيراه الراؤون ، فإن غاية الشيء لا تنقطع عنه ، ولا بد من ظهورها في أعقابه ، متى تمهدت لها الفرصة ، وصحّت لها المناسبة .
   وليست الكارثة كارثة فرد أو أفراد ، ولو كانت كارثة فرد لأمكن الإستغناء عنه ، بل و لوجب أن يستغني عنه ، كما يجب قطع العضو الموبوء عن الجسد السليم .
  إنها ليست كارثة أفراد ، ولكنها كارثة أمة ، وكارثة الأمة ماحقة ساحقة ، لا يمكن التغاضي عنها ، ولا يسوغ التساهل فيها .

**************************************************************
(1) ـ يراجع فيما يتعلق بهذا الفصل ص : 105 ـ 113 من كتاب ( الحجاب ) ، للأستاذ أبي الأعلى المودوي .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 22 ـ

في الأسرة

  والأسرة ؟
  لقد عرفنا العقابيل التي تنالها من هذا الداء الوبيل .
  عرفنا أنها ستكون قلقة النشوء ، قلقة الإستقامة .
  فالشاب لا يرغب في أن يبتني أسرة ، لإنه لا يجد الصفات التي يعتبرها في الزوجة الصالحة ، والتي يعدّها ـ في قرارة نفسه ـ شروطاً للتزويج السعيد .
  لا يتزوج الشاب لإنه لا يجد الفتاة التي يبتغيها ، ويرتضي ثقافتها ، ويرتضي سلوكها .
  نعم ففتاة أحلامه غير فتاة شهواته .
  هذه للمتعة العابرة ، وللسلوة الحاضرة ، وللتلهي القصير الموقوت ، أما تلك فللمجد يورث ، وللذكر يبقى ، وللحياة تهنأ ، وللسعادة تكمل وتدوم ، وللخلق العالي ، والسمات الكريمة تكتسب وتعطى ، وتتفاعل وتنسجم ، وللسكن الروحي الدائم ، وللحب المكين السعيد ، وللذرية الطيبة تنبت في المغرس الطيب ، وتغتذي من الصفات الطيبة ، وتربو وتتربى في الحجور الطيبة المهذبة .
  لا يجد الشاب هذه الفتاة الصالحة فيمن يعرف من النساء ، ولذلك فهو يفرّ من التزويج ، لإنه يجد وثاقاً يقرنه بمن لا يرتضي .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 23 ـ

  . . يفر من التزويج بعيداً بعيداً ، ويعتذر لمن يسأله عن سبب فراره بسنيّ التعليم ، وسني التجربة في المهنة ، وسني جمع الذخيرة لهذه الشركة الدائمة . .
  يعتذر بهذا وبأمثاله لمن يسأله ، وإنه ليعلم ـ حق العلم ـ أن فراره من التزويج لأمر آخر ، لا يتصل بشيء مما يقول ، ولو أنه وجد فتاة أحلامه لما وجد مساغاً لكل ذلك ، أو لما وجد مساغاً لبعضه ـ على أدنى التقادير ـ .
  وقد تضطرّه الحال ، وقد تضطره التقاليد ، وقد يضطره الإغراء ، فيختار لنفسه زوجة ، ويبتني له أسرة ، ولكنه يفعل ذلك ليخلق لنفسه ، ولزوجته المسكينة ، ولإطفاله الأبرياء الأطهار ، مشكلة عصية الحل ، بالغة الآثار ، عميقة الجذور .
  نعم ، فستخمد الثورة ، ويزول الإغراء ، وتخف المجاملة ، وسيحاول ، ـ جاداً ـ أن يوقف زوجته عن الحدود التي يرضاها ، ويفهمها القيم الخلقية التي يقدّسها .
  وسترى الزوجة أن ذلك منه تحدٍ لحريتها ، فإنها لم تعتد هذا النوع الذي يؤمى إليه من السلوك ، ولم تألف هذا الضرب ، الذي يفرضه ، من القيود ، وستغرس النبته عند أولى محاولة منه ، وأولى مخالفة منها ، وستنمو النبتة ، وتربو وتكبر وتثمر ، وتجني الأسرة ثمرها ، مراً كالصاب ، لاذعاً كالنار ، فأتكاً كالسم ، وسيزداد الأمر تعقداً كلما طال المدى ، فإزداد هو في الإصرار ، وإزدادت هي في العناد .

والأطفال الأبرياء ؟
  إنهم سينشؤون في منزل لا طمأنينة فيه ولا قرار ، وفي اسرة لا سكون لها ولا إنسجام ، وبين قلوب لا تعادل بينها ولا وئام .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 24 ـ

  بل وسيرثون القلق والعقد والعصاب النفسي من ( الجينات ) التي تتمازج بالتلقيح ، وسيتلقونها دروساً علمية مكررة من نظرات الشزر بين الأبوين ، ومن الآهات الخفية ، والحركات القلقة عند إجتماعهما ، ومن كلمات الشجار ، وإبتسامات الهزء في أحاديثهما ـ إذ هما لم يتجاوزا هذه الحدود ـ .
  سيكون هذا ميراث الاطفال الأبرياء من جرثومة التلقيح ، وسيكون هذا غذائهم مع الرضاع ، ومع الطعام ، وقبل الرضاع والطعام ، وستكون على هذا تنشئتهم مع الإيحاء والتلقين ، فماذا ينتظر من مستقبلهم ؟ .
  ما هذا ؟
  لقد ذهب الإبتذال بمناعة الفرد ، وبمناعة الاسرة ، وخلخل الضوابط والروابط ، حتى لا قاعدة ولا مرسى ! .
  ويهوّن الأمر ، ويخف وقعه ، لو ان جميع نوازع الإنسان ، وجميع هواجسه ومشاعره ، إصطلحت على ذلك ، كالحيوانات الطليقة مع الهوى ، المرسلة مع الغرائز ، إذن لأصبح الإنطلاق إلى حدٍ ـ أو لاً إلى حدٍ ـ ، أمراً طبيعياً لإبن آدم ، ولإستراح ـ بذلك ـ من التناقض ، والإنحلال والقلق ، والآلام والعقد المضنية ، المهلكة . . .
  لكن هيهات ان يعود هذا المخلوق حيواناً بعد أن خلق إنسان يفكّر ويتدبّر ، ويزن ويقارن ، ويستقرىء ويجرّب ، ويتحدى الطبيعة ، ويبتكر الاعاجيب ، ويكتشف الغوامض ، ويستنطق الصوامت .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 25 ــ

  وهيهات أن تصطلح ركائزه كلها على الأنطلاق ، فقد أودعت في نفس هذا الكائن ركائز عديدة ، متنوعة الإتجاه ، متخالفة الهوى ، ولكن يوفق ما بينها سوى الإعتدال .
  سلوا الطب عن عوارض التبذّل . .
  وسلو علم النفس عن أخطار المراهقة ، وسلوه عن العقد التي يوجبها التحلّل ، وسلوه عن أوباء الإندفاع مع الهوى ، وعن مخالفتها في نفسية المجتمع ، وفي صلات أفراده . .
  وسلوا علم الأخلاق عن قيمة الإعتدال ، وقيمة الحفاظ وضبط النفس . .
  ودعوا الدين لمن يطيب له أن يسأل الدين .