ولذلك فالعفاف ـ في رأي الإسلام ـ ، والذي يأمر به ، ويسعى لتكوينه وتنميته ، ويحرص على الحفاظ عليه ـ حق إجتماعي عام ، لا يختص بالفرد ، ولا ينتهي مع حدوده ، وليس من حقوقه ، لتكون له الخيرة في إسقاطه ، والتسامح فيه إذا شاء ، والحجاب يتبع العفة في كل ذلك .
ولأعجل بالقاريء فأتلوا عليه ها هنا بعض آيات الحجاب ليتضح له من دلالتها هذا الذي قلناه .
يقول ـ سبحانه ـ في الآية : ( 59 ) من سورة الأحزاب :
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .
ما معنى إيذاء المؤمنات الذي ذكرته الآية الكريمة ، وفرضت ـ للوقاية منه ، فريضة الحجاب ؟ .
ما معنى إيذاء المؤمنات ، غير أن يعترض الطامعون سبيلهن ، فيسمعن أو يرين من اقوالهم وحركاتهم ما يريب ؟ .
ما معنى غير هذا التعرض للعفاف الإسلامي ، الذي يريده الله للمرأة المسلمة ، والمجتمع المسلم ؟ .
وسيأتي في بحوث الكتاب ما يوضح ذلك ويجلوه .
ويقول في الآية : ( 30 ) وما بعدها من سوة النور :
( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُن . . ) .
ذلك أزكى لهم وأطهر ، أزكى لهم جميعاً . . . لإفرادهم ومجتمعهم .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 10 ـ
ولهذه الزكاة العامة الشاملة ، التي يجب أن تشمل المجتمع من أقصاه إلى أقصاه ، أمر الله المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم ، ويحفظوا فروجهم ، وأمر المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ، ويحفظن فروجهن .
ثم أمرهن بالحجاب الواقي : بإن يضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ، وإلا لمن تنتفي معه الريبة ، وتؤمن عنده الفتنة من النساء والأرحام القريبة ، والاصهار الدانية ، والتابع غير أولي الإربة ، والطفل الذي لم يظهر على عورة ، ولا يضربن بإرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ، فيستهوي ضعيف ، ويشرئب طامع ، ويترصد حالات الغفلة ، ويستخدم فنون الإغراء .
وحتى الآيات الخاصة ، التي فرضت الحجاب على ازواج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإنها تتصل بذلك وتؤكده .
فلهذا العفاف الإسلامي ، الذي يجب أن ينبع من من مهد الرسالة ، ومن منزل الرسول ( صلى الله علية وآله وسلم ) ، ومن هدي أزواجه وبناته الطاهرات المطهرات ، ثم يشع على آفاق المجتمع الإسلامي وأقطاره . . .
أقول : لتنشئة هذا العفاف ، وتنميته ، ولصيانته عما يخل ويخدش ، يقول الله ـ سبحانه ـ لمخدرات الرسول ( صلى الله علية وآله وسلم ) في الآية : ( 32 ) وما بعدها من سورة الأحزاب : ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا . وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى . . . ) .
( فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) ، وبماذا يطمع هذا الذي في قلبه مرض ؟ .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 11 ـ
إن طبيعته المريضة الملتاثة توهمه أن وراء اللين بالقول ليناً بالطباع فيتطلّع ويطمع ، ويحاول ويتعرّض .
وإذن فالآية تتضمن حصراً لدائرة المرض ، وحسماً لعدواه ، ووقاية من أعراضه وآثاره .
ومن اللفتات القرآنية الرائعة ، التي تسترعي الإنتباه : أنه يسمي اللين بالحديث ـ ها هنا ـ خضوعاً : ( فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) . . .
نعم فاللين بالقلب خضوع ، يجب أن تتسامى عنه المرأة الكريمة ، خصوصاً إذا كانت ليست كأحد من النساء .
ولتنشئة هذا العفاف وتنميته ، وصيانة حدوده عما يخلّ ويخدش ، يقول للمؤمنين في الآية : ( 53 ) من السورة نفسها :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ . . . وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِن . . . ) .
الحجاب ضمان قانوني للعفة ، يقيها من أن تتردّى أو تضعف في نفس الفرد ، ومن أن تزيغ أو تهن في طباع الأمة ، ودعاة التبرج ، إنما يدعون إلى هذه السوأى ـ وإن كانوا ينكرون ـ .
وهذا الكتاب يلمح إلى نتائج ذلك ، ويؤمي إلى أسبابه .
وبعد ، فلست أرى في العنوان حدّة ، بعد ان كان يحدّد الموضوع الذي من اجله وقع الخلاف ، ومن أجل البقيا عليه وضع الإسلام هذا العلاج ، وما اصنع أنا للموضوع ذاته ، إذا كان بطبعه يملي نوعاً من الحدة ؟ ! .
أما الجرس الموسيقي الذي شفع صديقي الاديب رأيه فيه فلا ، يكفي وحده سبباً للتحوير .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 12 ـ
حديث مكرر
حديث الحجاب حديث مكرر ، وقد أوشك اللسان ، بل وأوشك القلم أن يملّه لطول تكرراه ، وحكم العقل اليقظ الواعي فيه بيّن صريح لا لجلجة فيه ، ولا لبس ولا خفاء ، وحكم الله ـ باريء العقل ، وخالق الإنسان ، ومدبّر أموره ، وعالم طواياه ومصالحه ـ أبين وأصرح ، ووطائد الحكم فيه جلية قوية ، وروافده ومؤكداته أوفر واضح .
وما كان الإنسان ـ بعد هذا كله ـ ليقف ، أو ليتردّد ، وما كان له أن يلتفت أو يتساءل .
. . .ما كان له ان يأتي شيئاً من ذلك لولا هذه الوقدة ، التي تضطرم بها أعصابه يوم يراهق ، ثم تبقى تتقد وتستعر ، وتكبر وقدتها ، ويتعقد أمرها ، وتتكثّر مطاليبها ، وتستمر مع الإنسان طوال حياته ، إذا بقي معه عقل المراهقة ، فلم يقو أن يضع للسعار حداً ، ولم يطق أن يجعل للمعضلة حلاً .
وغرائز هذا الكائن البشري نهمة جداً حين يلقى لها الحبل على الغارب .
ومن خصائصها أنها تشتد وتضرى ، ويعظم إشتدادها وضراوتها ، كلما تكررت الإستجابة إليها ، كالنار يقوى ضرامها كلما كثر وقودها .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 13 ـ
ومن طبعها ـ كذلك ـ أنها تستلم للقائد البارع ، إذا أخذ قيادها برفق ، وأوقفها عند حدها بحزم ، كالنار إذ تمد بالوقود المعتدل ، وإذ توجه للغاية النافعة المجدية .
. . ما كان الإنسان ليرّد حكم الله وحكم العقل في مسألة الحجاب ، ثم يختطّ له خطوطاً لا تبتني على القواعد الثابتة المتينة ، التي يجب أن تناط بها الأحكام ، وتقوم عليها الآراء ، وخصوصاً في أمثال هذه المعضلات ، التي تقلق مصير الإنسان ، وتهدد سلامة
المجتمع ، وتضعضع أركانه .
. . ما كان الإنسان ليرتكب شيئاً من ذلك ، لولا هذه اللهفة الشديدة العنيدة التي تعصف به ، وتقلق مضجعه ، وتستعمل ـ لبلوغ غاياتها ـ ضروب الحيل ، وتستخدم شتى الأساليب حتى إذا ملكت زمام المرء ، وإحتكمت في امره ، وإستعبدت إرادته ، إستحالت جوعة دائمة لا تشبع ، وغفلة شديدة لا تنقع .
فما هذه اللوثة التي يسومون العقل أن يركبها في مسألة الحجاب ، وما هذه السوأى التي يتطلّبونها للمرأة بإسم الحرية ، وما هذه الهنأة التي يرددونها ، ويكثرون من تردادها بإسم المحاماة عن المرأة ، والدفاع عن حقوقها . . . ما هذا جمعيه إلا بعض الوسائل التي يتخذها المسعور ذريعة لغايته ، وإلا بعض الأساليب التي يحتال بها لطلبته .
إنه ينادي بأسم المرأة ليقترب منها ، ويتظلم لها ليجتلب رضاها.
يصنع ذلك لتعجب المرأة به ، وتطمئن إليه ، وتقف إلى جنبه .
والنساء جنس رقيق المشاعر ، مشبوب العاطفة ، ملتهب الإحساس ( يغرّهن الثناء ) ـ كما يصفهن الإستاذ أحمد شوقي ـ ، ويخدعهن التظلّم ، ويفتنهن الأنتصار .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 14 ـ
يغرهن الثناء عليهن وإن يكن المثني كاذباً ، ويخدعهن التظلّم من أجلهن ، وأن يكن المتظلم مداجياً ، ويفتنهن الإنتصار ، وإن يكن المنتصر ظالماً .
بلى ؛ وإنه لظلم . . . لظلم عظيم .
لظلم للمرأة ، وظلم للحق ، وإتهام للعقل ، وإتهام لحكمة الله ( سبحانه ) ، وإفتراء على تشريعه ، وتعدٍ عن حدوده ، أن يقول قائل من الناس : المرأة مظلومة بفريضة الحجاب . . .
أن يقولوا هذا القول ، ليوقعوا المرأة في الشبك الذي نصبوا ، وفي الحفيرة التي حفروا ؟ ! .
لتقع المسكينة في ايديهم ، وبين انيابهم وأظفارهم ، فريسة شهية الطعم ، ميسّرة الإصطياد ، أنى أتجهوا ، وأنى كانوا ، في الشارع ، وفي السوق وفي المقهى والمطعم ، وفي أي مكان ولجو أو أرادوا ، خاص أو عام ! ! .
لتحقق لهم ها هنا ، في بلاد الشرق ، وفي بلاد الإسلام ، إباحية وجدوها ، أو حدّثوا عنها في بلاد الغرب ، أو في الدنيا الجديدة .
إن الشرق لن يخادع ـ بعد ـ بالأحلام والأوهام ، وإن المسلمين لن يغرّوا عن دينهم ، بعد أن علموا ـ حق العلم ـ أن دينهم هو مصدر قوّتهم ، وموحد كلمتهم ، ولن يحقّقوا أماني المستعمرين في بيوتهم ، ولن يحتفظوا ببذور الإستعمار وجذوره في نفوسهم وقلوبهم ، وفي طباع فتياتهم وفتيانهم .
إنهم لن يفعلوا ذلك أبداً ، وحسبهم تجارب أليمة قاسية عرفوها لحقائق الغرب ، فكيف بإباطيله ؟ ! .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 15 ـ
مع الفتاة
قد تخادع الفتاة عن أمرها ، فتبرز كما يشتهي الهاوون الغاوون ( كاسية عارية ) ، ويقضي الشياطين منها لباناتهم بالمغازلة والمعابثة ، وبالنظرات الخائنة المسعورة . . . إلى آخر ما وضع للإنطلاق من حدود ، ـ إن كانت للإنطلاق حدود ، وكانت لهذه الحدود نهاية ـ .
ولكن الشاب لن يخادع عن أمره ، ولن يختار فتاة كهذه لشركة حياته .
لن يختارها أبداً لشركة حياته ـ وإن إفتنّت له بضروب الإغراء ـ . . وإذا إختارها ـ لوجود حالات ، أو أسباب تفرض عليه هذا الإختيار ـ ، فإنها لن تحتلّ من قلبه منزلة الزوجة الكريمة ، التي يجد السعادة بالسكون إليها .
إنه يجد هذه الفتاة لقمة مبتذلة ، والإبتذال يسلب الكرامة ، وقد يزلزل الثقة .
إنه يجدها لقمة مبتذلة له ولغيره على سواء ، وهذا مالا يرضاه ـ في قرارة نفسه ، لفتاة يودّ أن تكون خاصة له دون من سواه ، كما تودّ هي أن يكون خالصاً لها دون من سواها . . .
إنه لن يرضى ذلك في قرارة نفسه أبداً ، ولن يعد الإقتران بمثل هذه الفتاة زواجاً سعيداً ، يسكن معه الحنين الطبيعي إلى الزوج ، ذلك السر العميق الذي أودعته القدرة الخالقة في طبيعة كل كائن من كل نوع ، والذي بسببه تأتلف الازواج ، وتتفاعل العناصر من جميع الأشياء .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 16 ـ
أنه لن يرضى ذلك في قرارة نفسه ابداً ، وما تزال القيم الخلقية تعمل عملها في صدور الناس أجمعين .
قد تخدع الفتاة ، ويلبس عليها الأمر بإسم الحرية ، وإسم التمدين ، وإسم الفن ، وإسم الثقافة ، وإسم العلم ، وإسم التقدم ، ولا يضيق على الماكرين ، أن يدرجوا في القائمة اسماء كثيرة أخرى ، يطيلون بها العدد ، ويخدّرون بها الفريسة .
قد تخدع الفتاة بهذه الإسماء ، وبما سواها من المغريات ، فتهتك الحجاب وتبرز إلى الميدان . . .
إلى الميدان الذي أراده لها الرجل ، وقال لها عنه : أنه ميدان الحياة ، وما هو إلا ميدان الشهوات ، وإلا فأية خاصة من الحياة الرتيبة السعيدة التي كانت تنقصها وهي في حجاب العفة ، الذي ضربه عليها الاسلام ـ إذا وفيت لها الحقوق العادلة ، التي قررها لها الإسلام ـ ؟ .
ويسير أن تصنع الفتاة ذلك ، ما دام الرجل يرغب فيه ، ويصر ، عليه ان يكون ، فإن الرغبة الإثيرة في نفس الإنثى هي أن تغري الرجل ، وأن تثير إعجابه ، وتحقق رغائبه .
على ان للفتاة وقدة كوقدة الفتى ، لن تفترق عنه في شيء ، إلا في شدة الحياء ، هذا الحجاب الخلقي الستير .
يسير أن يلبّس الأمر على الفتاة ، وأن تغرّ بشيء من هذه السبل فهي محببة إليها . . . ولكن ماذا بعد ذلك ؟ .
بعد ذلك : أن يستغويها الغاوي ، ثم ينفر بعيداً منها كما ينفر الوحش ، أو ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )
(1) .
**************************************************************
(1) الحشر : 16 .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 17 ـ
نعم ، ولا تزال المجتمعات ظالمة في بعض عاداتها ، فهي تدين الإناث بما لا تدين به الذكران .
ذلك هو منطق الغريزة المسعورة ، والغريزة لا ضمير لها ولا وفاء ، ولا ثبات لحكمها ولا دوام ، وذلك هو حكم إزدواج الشخصية ، فإن المرء المستسلم ، لغريزته لا بد وأن يتقمّص في ذاته شخصيتين متباينتين :
حيوانية تؤثر الإنطلاق ، وهذه التي تبتدىء الشوط بخداع الفريسة لإخراجها إلى الميدان ، ( وإيديولوجية ) تقدّس القيم ، وهذه تجيء في نهاية الشوط ، وعلى يدها يتم نحر الفتاة .
الا ترى إنصراف الشبان عن الزواج الشرعي ، هذا الإنصراف الكبير ؟ ، إن ما ذكرناه يفسّر لنا جانباً كبيراً منه .
لا يتزوج الشاب المتعلم ، لإن المحجبة من الفتيات غير متعلمة في الغالب ، فهو لا يرتضي الإقتران بها لجهلها ، والسافرة منهن مبتذلة ، فهو لا يرتضي الإقتران بها ـ كذلك ـ لإبتذالها .
لا يتزوج الشاب لإنه لايجد الفتاة التي يرتضي ثقافتها ، ويرضي سلوكها .
وهو يصرّف طاقته من طريقها المحرم ، ـ إذ كان يستبيح ذلك ـ . . .
وإلا فهو الكبت ، والعقد النفسية ، والعصاب المضني المهلك .
أو الزواج غير المرضي ، وغير المنسجم ، وهي الإضطرابات النفسية التي ستنتقل إلى الأطفال فيما ينتقل إليهم من ميراث ، وهي الجناية الكبرى المختارة ـ أو غير المختارة ـ على جيل محبب بريء ! ! .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 18 ـ
مـع الفتـى
والفتـى ؟ . .
هذا الذي كان له ـ في فصول الرواية ـ دور البطل الجبار المخادع . . أتراه هكذا سالماً من أخطار هذه التجربة ؟ .
إن الوقدة الملتهبة المضطرمة في اعصابه هي التي ألجأته ، إلى إتخاذ ذلك الموقف لما ارخى لها العنان ، وهي التي صورت له المجون تحرراً ، وأثبتت له التحلل رشداً ، وهي التي اوحت إليه أن يقول كل الذي قال ، وأن يفعل كل الذي فعل .
بلى ؛ وهي التي وضعت له المقاييس الملتوية الملتاثة عن المرأة وعن حقوقها ، فدافع وناضل ، وكتب وخطب ، وإشتد وتحمّس .
وما كانت لتبلغ به هذا المبلغ كله ، لولا التحريض الدائم المتكرر ، الذي يلقاه من الانوثة الخليعة العارية ، في كل سبيل يمر به ، وفي كل مكان يدخله ، وجوعة الطعام يزيد في سعارها منظر الأكل اللذيذ . .
وما كانت لتبلغ به هذا المبلغ لو أنه كان صارم الإرادة قوي الشكيمة ، سديد التفكير . .
لو أنه كان كذلك فملك الزمام وأحسن القيادة ، وأخلص في التوجيه . .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 19 ـ
وما كانت لتبلغ به هذا المبلغ لو انه اسلم قياده لدين الله ، فإتبع هداه ، وإلتزم مناهجه ، ووقف عند حدوده . .
ولكنه إنطلق ، ولكنه جمح . . ولكنه أسلم قياد نفسه وعقله ، وكل مواهبه ، لغريزته المتوقدة المشبوبة .
والتحريض الذي يتلقّاه في كل نظرة ، والتشجيع الذي يناله في كل مغازلة . . . فماذا ينتظر منه بعد كل ذلك ؟ .
ماذا ينتظر منه بعد ذلك ، غير ان تثور الغريزة فيه إلى أقصى حدودها ، وأن تلتهب إلى أشد وقدتها ، وأن تلتهم كل طاقاته ، وتستعبد جميع مواهبه ومشاعره ، وأن يغلب الجانب العاطفي منه على جانب التفكير ، فلا يعود صالحاً لبناء مجد ، ولا لإقامة سؤدد ، ولا لإعلاء نفس ، ولا لأسعاد أمة ؟ .
ميوعة وتحلل ، وإزدواج في الشخصية وترهّل في الخلق ، وضعف في الإرادة ، وخور عن إحتمال العظائم من الأمور ، ومسخ في معالم الرجولة .
هذه مواريث الإختلاط ، ولإنطلاق مع الشهوات ، وإلقاء الحبل على الغارب فيها ، فهل يرغب الشاب منا أن يهبط إلى هذا الدرك ، وأن يحتّم على مستقبله بهذا الخسار ؟ .
ودع عنك العقبى التي يتحدث عنها الدين ، وينذر بها الناس أجمعين ن عقبى الجرأة على الله ـ سبحانه ـ بإنتهاك حدوده ، وإرتكاب محرماته .
ولقد رأينا بأبصارنا ما يصدّق ّ هذا القول في الغرب نفسه . . في الغرب الذي إبتدع هذه البدع ، وإختط هذه الخطط ، ثم سار عليها ، وسار على أثره المولعون ـ منا ومن غيرنا ـ بالتقليد .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 20 ـ
رأينا ما يصدّق ذلك في فرنسا ، نموذج الغربيين في الخلاعة ، وقدوتهم في الإنطلاق ـ ، حين أدركتها الحرب العالمية الثانية ، ولم تبقى فيها الخلاعة من سمات البطولة والرجولة شيئاً يستحق التقدير .
نعم ؛ رأينا هذه الدولة حين أدركتها هذه الحرب ، كيف طأطأت رأسها لأول لطمة ، ورفعت يديها عند أول هجمة ، كيف رفعت يديها كلتيهما لتتقي وتستسلم في آن واحد ، شيمة الخاشع الضارع ، الذي لا يقوى دفعاً ، ولا يملك نفعاً ؟ .
وما ظن القارىء بإمة إضطرت إلى أن تعفي خمسة وسبعين ألفاً من جنودها عن الخدمة ، وهي في أشد المآزق ، وفي امس الحاجة ، في السنتين الأوليين من سنّي الحرب الأولى ، إضطرت إلى أن تعفي هذا العدد الضخم من الجنود ، وتبعث بهم إلى المستشفيات ، لإنهم أصيبوا بمرض الزهري ؟ .
وما ظن القارىء بإمة يبتلي منها بهذا المرض وحده مائتان وإثنان وأربعون جندياً في آن واحد في ثكنة متوسطة ، ويموت منها ثلاثون ألف نسمة بهذا المرض وتوابعه في كل عام ؟ .
وما ظن القارىء بإمة بلغ تمكّن الشهوات فيها مبلغه المفرط ، حتى أوهن الاعصاب منها ، وخلخل الأركان ، وكاد أن يأتي على القوى في الأجساد ، وحتى إضطر حكام الجيش فيها أن يخفضوا من مستوى القوة والصحة الذي تفرضه الأنظمة في متطوعة الجيش .
. . إضطروا لإن يخفضوا من المستوى الصحي للمتطوعة في كل بضع سنين ، لإن الأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط المقررة يقلون على ممر السنين ، وهي لا تزال على هذه الضرورة المتزايدة وهذا التدرج في الضعف منذ أوائل القرن العشرين .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 21 ـ
ما ظن القارىء بإمةً هذا رصيدها الصحي للجيش الذي تريد منه حماية البلاد ودفع العدوان ؟ ! .
أما الحياة العامة فيها ، فيقول عنها ( بول بيورو ) ـ العالم الإجتماعي الفرنسي المعروف :
( إن من أراد من الباحثين أن يطالع حياتنا المدنية من خلال هذه النماذج للحياة ، التي لا يزال يعرضها كتاب مسرحياتنا منذ ثلاثين أو أربعين عاماً ، فلا جرم انه يستنتج أن جميع الأزواج المتزوجة في مجتمعنا قوم خونة ، متجردون من الوفاء اللازم للعشرة الزوجية ، فيكون كل زوج إما بليداً غافلاً ، أو يكون لزوجته بلاءً ونكبة ، وأما الزوجة ، فأحسن خصالها أن تكون في كل حين متبرمة من زوجها ، وتكاد تميل بهواها ، عنه إلى غيره )
(1) .
نعم ؛ وهكذا تفعل الميوعة ، وهكذا يصنع التحلل وهمود النخوة ، وخمود الجذوة .
طأطأت للذل والإستكانة دولة كانت تزعم أنها ثانية دول الدنيا في القوة ، وأولاها في التمدين ، ولم تعدل من موقفها جيوش جرارة من حلفاءها تخف لنصرها ، وأدوات جبارة تقف في ظهرها ، فهل نطمع في تجربة أكبر من هذه التجربة ؟ ، وستكشف الليالي عن تجارب وتجارب تذكر وعبر للعبرة ، وتسجل للتأريخ .
. . ستكشف الأيام ذلك ولا محيد ، وسيراه الراؤون ، فإن غاية الشيء لا تنقطع عنه ، ولا بد من ظهورها في أعقابه ، متى تمهدت لها الفرصة ، وصحّت لها المناسبة .
وليست الكارثة كارثة فرد أو أفراد ، ولو كانت كارثة فرد لأمكن الإستغناء عنه ، بل و لوجب أن يستغني عنه ، كما يجب قطع العضو الموبوء عن الجسد السليم .
إنها ليست كارثة أفراد ، ولكنها كارثة أمة ، وكارثة الأمة ماحقة ساحقة ، لا يمكن التغاضي عنها ، ولا يسوغ التساهل فيها .
**************************************************************
(1) ـ يراجع فيما يتعلق بهذا الفصل ص : 105 ـ 113 من كتاب ( الحجاب ) ، للأستاذ أبي الأعلى المودوي .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 22 ـ
في الأسرة
والأسرة ؟
لقد عرفنا العقابيل التي تنالها من هذا الداء الوبيل .
عرفنا أنها ستكون قلقة النشوء ، قلقة الإستقامة .
فالشاب لا يرغب في أن يبتني أسرة ، لإنه لا يجد الصفات التي يعتبرها في الزوجة الصالحة ، والتي يعدّها ـ في قرارة نفسه ـ شروطاً للتزويج السعيد .
لا يتزوج الشاب لإنه لا يجد الفتاة التي يبتغيها ، ويرتضي ثقافتها ، ويرتضي سلوكها .
نعم ففتاة أحلامه غير فتاة شهواته .
هذه للمتعة العابرة ، وللسلوة الحاضرة ، وللتلهي القصير الموقوت ، أما تلك فللمجد يورث ، وللذكر يبقى ، وللحياة تهنأ ، وللسعادة تكمل وتدوم ، وللخلق العالي ، والسمات الكريمة تكتسب وتعطى ، وتتفاعل وتنسجم ، وللسكن الروحي الدائم ، وللحب المكين السعيد ، وللذرية الطيبة تنبت في المغرس الطيب ، وتغتذي من الصفات الطيبة ، وتربو وتتربى في الحجور الطيبة المهذبة .
لا يجد الشاب هذه الفتاة الصالحة فيمن يعرف من النساء ، ولذلك فهو يفرّ من التزويج ، لإنه يجد وثاقاً يقرنه بمن لا يرتضي .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 23 ـ
. . يفر من التزويج بعيداً بعيداً ، ويعتذر لمن يسأله عن سبب فراره بسنيّ التعليم ، وسني التجربة في المهنة ، وسني جمع الذخيرة لهذه الشركة الدائمة . .
يعتذر بهذا وبأمثاله لمن يسأله ، وإنه ليعلم ـ حق العلم ـ أن فراره من التزويج لأمر آخر ، لا يتصل بشيء مما يقول ، ولو أنه وجد فتاة أحلامه لما وجد مساغاً لكل ذلك ، أو لما وجد مساغاً لبعضه ـ على أدنى التقادير ـ .
وقد تضطرّه الحال ، وقد تضطره التقاليد ، وقد يضطره الإغراء ، فيختار لنفسه زوجة ، ويبتني له أسرة ، ولكنه يفعل ذلك ليخلق لنفسه ، ولزوجته المسكينة ، ولإطفاله الأبرياء الأطهار ، مشكلة عصية الحل ، بالغة الآثار ، عميقة الجذور .
نعم ، فستخمد الثورة ، ويزول الإغراء ، وتخف المجاملة ، وسيحاول ، ـ جاداً ـ أن يوقف زوجته عن الحدود التي يرضاها ، ويفهمها القيم الخلقية التي يقدّسها .
وسترى الزوجة أن ذلك منه تحدٍ لحريتها ، فإنها لم تعتد هذا النوع الذي يؤمى إليه من السلوك ، ولم تألف هذا الضرب ، الذي يفرضه ، من القيود ، وستغرس النبته عند أولى محاولة منه ، وأولى مخالفة منها ، وستنمو النبتة ، وتربو وتكبر وتثمر ، وتجني الأسرة ثمرها ، مراً كالصاب ، لاذعاً كالنار ، فأتكاً كالسم ، وسيزداد الأمر تعقداً كلما طال المدى ، فإزداد هو في الإصرار ، وإزدادت هي في العناد .
والأطفال الأبرياء ؟
إنهم سينشؤون في منزل لا طمأنينة فيه ولا قرار ، وفي اسرة لا سكون لها ولا إنسجام ، وبين قلوب لا تعادل بينها ولا وئام .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 24 ـ
بل وسيرثون القلق والعقد والعصاب النفسي من ( الجينات ) التي تتمازج بالتلقيح ، وسيتلقونها دروساً علمية مكررة من نظرات الشزر بين الأبوين ، ومن الآهات الخفية ، والحركات القلقة عند إجتماعهما ، ومن كلمات الشجار ، وإبتسامات الهزء في أحاديثهما ـ إذ هما لم يتجاوزا هذه الحدود ـ .
سيكون هذا ميراث الاطفال الأبرياء من جرثومة التلقيح ، وسيكون هذا غذائهم مع الرضاع ، ومع الطعام ، وقبل الرضاع والطعام ، وستكون على هذا تنشئتهم مع الإيحاء والتلقين ، فماذا ينتظر من مستقبلهم ؟ .
ما هذا ؟
لقد ذهب الإبتذال بمناعة الفرد ، وبمناعة الاسرة ، وخلخل الضوابط والروابط ، حتى لا قاعدة ولا مرسى ! .
ويهوّن الأمر ، ويخف وقعه ، لو ان جميع نوازع الإنسان ، وجميع هواجسه ومشاعره ، إصطلحت على ذلك ، كالحيوانات الطليقة مع الهوى ، المرسلة مع الغرائز ، إذن لأصبح الإنطلاق إلى حدٍ ـ أو لاً إلى حدٍ ـ ، أمراً طبيعياً لإبن آدم ، ولإستراح ـ بذلك ـ من التناقض ، والإنحلال والقلق ، والآلام والعقد المضنية ، المهلكة . . .
لكن هيهات ان يعود هذا المخلوق حيواناً بعد أن خلق إنسان يفكّر ويتدبّر ، ويزن ويقارن ، ويستقرىء ويجرّب ، ويتحدى الطبيعة ، ويبتكر الاعاجيب ، ويكتشف الغوامض ، ويستنطق الصوامت .
العفاف بين السلب والإيجاب ـ 25 ــ
وهيهات أن تصطلح ركائزه كلها على الأنطلاق ، فقد أودعت في نفس هذا الكائن ركائز عديدة ، متنوعة الإتجاه ، متخالفة الهوى ، ولكن يوفق ما بينها سوى الإعتدال .
سلوا الطب عن عوارض التبذّل . .
وسلو علم النفس عن أخطار المراهقة ، وسلوه عن العقد التي يوجبها التحلّل ، وسلوه عن أوباء الإندفاع مع الهوى ، وعن مخالفتها في نفسية المجتمع ، وفي صلات أفراده . .
وسلوا علم الأخلاق عن قيمة الإعتدال ، وقيمة الحفاظ وضبط النفس . .
ودعوا الدين لمن يطيب له أن يسأل الدين .