الثقافة والحضارة
  وفي الرجال مخدوعون أيضاً ، كما تخدع الفتاة عن سترها وكما تغر .
  هؤلاء هم الآباء المساكين يخادعون عن بناتهم ونساءهم وأعراضهم فيدفعون بها إلى التيار مخلصين راغبين ! .
  وبد هي أن باعث هؤلاء إلى صنيعهم هذا ، شيء غير النهم الجنسي الذي تحدثنا عنه من قبل .
  إن هؤلاء مخدعون بإسم العلم ، وبإسم التقدم والحضارة . .
  بهذه الاسماء الضخمة الفخمة ، التي يكررها أنصار الخلاعة ، ومقلدة الغرب ، وليس من الصعب على أحد أن يستخدم العناوين الهائلة أو المحببة وفق ما يريد .
  طلاء من اللفظ يزوقونه ، ويرددونه ، ويمعنون في تزويقه ، ويكثرون من ترداده ، لإنه ذريعتهم الوحيدة إلى ما يبتغون ، كأن اللفظ ـ وحده ـ دليل صواب الفكرة وإن خوى من المعنى ، وكأن الدعوى ـ بمجردها ـ هي برهان ثبوت نفسها وإن خلت من الصدق ! ! .
  ما هذا العلم الذي يفرض على الفتاة أن تتعرى وأن تتبذّل ؟ ! .
  وما هذه الحضارة ، وهذا التقدم اللذان يحتّمان على الآباء أن يجردوا بناتهم ، ثم يخرجوهن إلى الشارع . . . إلى النظار . . . إلى المتفرجين المتفرنجين ؟ ! .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 27 ـ

  ما هذا ؟ . . وما حقيقته ؟ . .
  إنه شيء لا يفهمه حتى العلم ، ولا تفهمه حتى الحضارة ، ولا يعرفه حتى التقدم .
  العلم فريضة دينية ، وفريضة إجتماعية ، وفريضة نفسية ، وفرضها على الرجل والمرأة ، وعلى الفتى والفتاة سواء بسواء ، كل على قدر طاقته ، وكل على حسب إستعداد مواهبه .
  والإسلام أحرص الأديان على ذلك ، وأكثرها إصراراً عليه ، وحثاً على تحصيله ، ونصوصه على ذلك مشهورة مأثورة ، وقد جرى أكثرها ـ لشهرته ـ مجرى الامثال ، وليس هذا موضع جدل ولا مساغاً لشك .
  ولكن : يجب ـ أيضاً ـ أن تتحد معاهد التعليم وتختلط ، ليجب خلع الستار والعذار ؟ ! .
  لما لا نؤسس لفتايتنا معاهد صحية ، تعلمها العلم ، وتصون لها الحياء والكرامة في وقت واحد ؟ .
  ولم نفرض عليها الإختلاط في المعهد لتسأل ـ محقة ـ عن الفرق بينها وبين الإختلاط في الشارع وفي المجتمع ؟ ! .
  ولعل الإختلاط في المعهد أنكى ضرراً ، وأمضّ أثراً من الإختلاط العام ، ذلك أن معهد التعليم يضم الصفوة من رجال الغد ، وهم معقد الأمل ، ومناط العمل ، فإنتشار الداء فيهم شلل ، للأعضاء العاملة في المجتمع ، وإبادة للطاقة القوية في الأمة .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 28 ـ

  والتقدم والحضارة . . هل معناهما التقليد البليد لعادات الغرب ، والإتباع الأعمى لخطواته ، والرجع المردد لنغماته ، على غير تمييز بين النافع منها والضارّ ، وبين المعوج والمستقيم ؟ .
  من القبيح بالأمة أن لا تكون مستقلة ـ بذاتها ـ حتى في هذه البدائه ، وحتى لا تفكر إلا بعقول غيرها ، ولا تشعر إلا بشعوره ، ولا تنظر في مصالحها وصوالحها إلا بمنظاره ! ! .
  من القبيح بالأمة أن تكون أمّعة إلى هذه الحدود ! .
  والذي لا يستطيع أن يفكر لنفسه بنفسه ، ولا يستطيع أن ينتزع عوائده من صميم حياته ، ومن ملابسات مجتمعه كيف يؤمل به أن يسمو إلى ذروة ، أو ينهض بأعباء ؟ ! .
  والتقليد معرة كبيرة شديدة ، فمعناه الصريح هو الجهل ، ومرده الواضح هو الضعف ، وفلسفته القريبة هي الصغار ، وعدم الإستقلال ، وهو في المجتمع أشد نكاية منه في الفرد .
  وقد لا تلام الامة عليه ، إذا كان تقليداً فيما ينفع ، فإن من العقل أن يفيد الإنسان من تجارب غيره ، ولكنها تمتهن وتحتقر ويسخر منها ، ومن سلوكها ، إذا كان تقليداً فيما يضر .
  وتكون أكثر إستيجاباً للمهانة والزراية ، والسخرية ، إذا كانت تعتقد ـ مع ذلك ـ إن هذا التقليد ضروري لها ولحياتها ، لإنه جهل مكرر ، وضعف متمكن ، وصغار ذاتي قاتل .
  وهذه هي الأدواء الأولى التي تفتك بالأمم ، وتقتل معنوياتها ـ وتحكم عليها بالدمار ، وعلى أمجادها بالإندثار .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 29 ـ

التبرج من خدع المستعمر
  والتبرج خدعة من خدع المستعمر الظالم ، ينشد منها إقصاء المسلمين عن دينهم ، وزلزلتهم في عقيدتهم ، وتنكّرهم لشريعتهم .
  ودين الإسلام هو الحرب الأول على الإستعمار ، وهو القوة الكبرى التي لا طاقة له بها ، وهو الرباط الوثيق الذي يجمع قلوب أتباعه على الأخوّة ، ويؤلف بينهم على العقيدة ، ويكفل لهم بالنصرة ، ولقد جرب المستعمر ذلك بنفسه ، حين اعد جميع قواه ، وإستحث جميع اعوانه ، وشن على الأسلام حروبه الصليبية ، التي إستمرت مائة عام .
  أجل إن دين الإسلام يأبى الإستعمار بشتى ألوانه ، ويحاربه بشتى طرائقه ، ويعمل ـ جهده ـ لإقتلاع جذوره ، وإبادة بذوره ، ويعدّ له ما إستطاع من قوة ، ويجهّز ما أمكن من عدة ، ويجند الضمائر والعقول والنفوس لكفاحه ، قبل أن يجند الأجسام والقوى ، فلا بد للمستعمر من حربه في نفوس أتباعه وعقولهم ، ولا بد له من كفكفة سلطانه على قلوبهم وضمائرهم ، إذا كان جاداً في إستعمارهم .
  والتمادي في الشهوة أمر محبب للكثير من الناس ، والحد منها عملية لا تروق للكثرة من هذا الكثير ، ومن خصائص الدين مطلقاً ـ ودين الإسلام على الخصوص ـ إنه يربأ بالإنسان أن تستعبده الشهوة ، وأن تستنفد كل طاقاته ، وتستغل جميع نشاطه ، وإنه يضع للمسألة حلاً عادلاً ، فاصلاً ، ينصف فيه هذه الغريزة من الإنسان ، و لا يحيف فيه ، على ما سواه من الغرائز والركائز التي ركبت فيه .
  وبذلك سنحت للمستعمر الفرصة التي ينتظر ، وتهيأ له المجال الذي ، يطلب ، فمهّد للخلاعة في الأوساط المسلمة ، ومكن للشهوات فيها أن تنطلق ، وجعل الإختلاط حتى في معاهد العلم ، وأشاع أنها الحرية ، وإنه التحضّر والتقدم .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 30 ـ

  صنع ذلك لإنه يدري ـ حق الدراية ـ أن الشهوة متى أستمكنت في النفوس ثقل عليها ظل الدين ، وتمنت زواله ، ورغبت في كفكفة سلطانه ، ولقد اشرف على الغاية ، وأوشك أن يحصل على الثمرة ، لولا ضربة الله . . .
  . . لولا ضربة الله التي سينالها كل من يتنكر لدينه ، ولولا قدرة الله التي تعهدت بحفظ كتابه .
الحضارة والتقدم
  الحضارة والتقدم تطور في الثقافة ، وتمكّن في العلم ، وإرتقاء في الصناعة ، وإرتفاع في الإنتاج والعمران . .
  والحضارة والتقدم علو في الأخلاق ، وإستقامة في السلوك ، وصدق في المعاملة ، وقوة في الحفاظ ، وإعتصام بالكرامة . .
  والحضارة والتقدم التفاف من الأمة حول مبادئها القويمة ، وإستمساك منها بدينها الحق ، وقيمها العالية ، وجمعها لإسباب القوة ، وتوكيدها لوشائج الاخوة ، وتعزيزها لمظاهر التضامن .
  وليس من الحضارة ـ أبداً ـ ولا من التقدم ، ولا من العلم ، ولا من المدنية ، الاتّضاع بالموازين ، والهبوط في القَيم ، والترهّل في السلوك ، والتملق للشهوة .
  ليست هذه الأشياء من الحضارة ، ولا من التقدم ، ولا من العلم ، ولا من المدنية في شيءٍ ـ أبدأً ـ ، وإن إتخذت أسماء أخرى ، وتحلّت بسمات أخرى ، فإن الواقع لا تغيره الأسماء ، ولا السمات .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 31 ـ

الضعف النفسي

  ومن عجيب حال بعض المسلمين ـ اليوم ـ أنهم أصبحوا ينظرون إلى التبرج على أنه ضرورة يقتضيها تطور الحياة ، وينظرون ـ تبعاً لذلك ـ في حكم الإسلام ، بوجوب الحجاب على المرأة على انه موطن ضعف في التشريع الإسلامي ، ولذلك فإنهم يرون وجوب تغيير هذا الحكم تبعاً للتطور .
  ومن أجل ذلك ، فبعض الكتاب المسلمين يقف من هذا الحكم موقف المدافع المعتذر ، المتوجس من لصوق تهمة ، المحاذر من عروض وصمة ، فهو يتناول النصوص ، ويتجوّز في الحقائق ، ويتنكر للتفسير ، ويتمحّل في التاريخ ، ويأتي ـ في ذلك ـ بما يمكن وما لا يمكن ، ليقولها صريحة فصيحة ، لا غمغمة فيها ولا خفاء :
  ( إن الإسلام لم يأمر بحجاب ، وإن التاريخ العربي والإسلامي لم يكن يعرف الحجاب ) .
  ومن اجل ذلك ، فبعض المتسلطين ، من المسلمين ، يحاولون أن يخمدوا ، صوت الإسلام بوجوب الحجاب ، حتى إنهم لو إستطاعوا لحذفوا آيات القرآن التي تدل عليه ! .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 32 ـ

  ولنتساءل جادين :
  هل نظر هؤلاء ـ كمسلمين أو غير مسلمين ـ في آيات الكتاب الكريم ، ونصوص السنة المطهرة في الحجاب ، فوجودها غير دالة ولا مشيرة ؟ .
  هل درسوا ركائز حكم الإسلام بوجوب الحجاب ، فأيقنوا أن هذا الحكم خلوّ من المصلحة ، بعيد عن الحكمة ؟ .
  هل قارنوا بين حكم الإسلام وحكم غيره في هذه المشكلة ، فرأوا أن حكم غير الإسلام أحرى بالقبول ، وأحق بالترجيح ؟ .
   لا . لا . . إنهم لم يتكلّفوا شيئاً من ذلك أبداً . . ولكنه الضعف النفسي أمام المغريات ، وأمام إدعائات الغرب ودعاياته ، ثم الإستسلاف لمقاييسه ، التي وضعها في المرأة ، ونظرته الخاصة لعلاقة الرجل بها ، وعلاقتها بالرجل .
  نعم ، إنه الضعف النفسي أمام مغريات الغرب ، وأمام أزيائه الحديثة المثيرة ، ودعاياته المشوّقة ، وأساليبه في الإستهواء والإستدراج ، وأمام قوته الهائلة ، وقد توهم الضعفاء أن للتبرج ، دخلاً كبيراً فيها ، وأمام تقدّمه في ميادين العلوم ، وقد ظن الجاهلون أن للخلاعة أثراً عظيماً فيه .
  إنه الضعف النفسي ، وكثيراً ما يكون الضعف النفسي وحده هو الدافع الأصيل لإنسان إلى أعتناق مذهب من المذاهب ، أو إختيار رأي من الآراء ، ثم يطفق ـ بعد ذلك ـ يلفق الحجج ، ويتكلّف الشواهد على صحة أختياره ، يستر بها ضعفه ، ويقنع ـ أو يغالط ـ بها عقله .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 33 ـ

  وألا فأية حجة تستحق الإحترام أقاموها وهم يوجبون التبرج ؟ .
  وأي نقد يستحق التقدير أوردوه ، وهم يمنعون الحجاب ؟ . .
   اية حجة قوية ، وأي نقد صحيح تمسّكوا به ، وهم يرون هذا الرأي ، ويمعنون فيه إلى حدّ الإفراط ، غير ترديد أقوال الغرب ، المبتنية على مقاييسه في المرأة ، وعلى نظرته للعلاقة بها ؟ . .
   وكان عليهم ان ينظروا في هذه المقاييس ، وفي هذه العلاقة ، بما هم مسلمون ، أو بما هم مجردون متحررون .
   أما أن يأخذوا المقاييس والنظرات الدعاوى ـ كما هي ـ دون تحقيق ولا تمحيص ، ثم يحملوها ـ كذلك ـ على الإسلام ، أو يحملوا الإسلام عليها ـ وإن أبت نصوصه ، وأنكرت قواعده ، وإحتج تاريخه ـ ، فهذا هو موضوع الغرابة ، وهذا هو برهان الضعف .
   ولنقف على مجمل هذه المقاييس ، لنعرف مبلغها من الصحة ، وقوتها على إثبات هذه النتائج الضخمة .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 34 ـ

الحـريـة

  وهذه هي النقطة الأولى التي يرتكز عليها البحث ، ويبدأ منها الإنطلاق في الحديث .
  والحرية هي المعنى الذي أطنب ـ في وصفه ، وفي الدعوى إليه ـ كتاب القرن التاسع عشر والقرن العشرين في الغرب ، وأسهب في تمجيده أدباؤهم وخطباؤهم .
   وهي المبدأ الذي إدعى كل مشروع ـ بعد ثورة فرنسا ـ أنه يدين به ، ويسعى لتحقيقه .
   ولنتسائل ـ مقدماً ـ لنعين موضوع الحديث :
   ألهذه الحرية المطلوبة حد تنتهي عنده ولا تتجاوزه ، أم هي الإنطلاق الكامل لا إلى حد ، ولا إلى نهاية ، كما يقصد دعاة الحرية من غربيين ومستغربين ، وكما يحملونه عليها من نتائج ، ويذكرون لها من آثار ؟ .
   إن الحرية الفردية ـ بهذا المعنى ، الواسع الشامل ـ تعني الفوضى المطلقة ، التي تمزق المجتمع شر ممزق ، وتكتب عليه الدمار والبوار ، بل وتمزق الفرد ذاته ، وتأتي على سعادته ، وعلى حريته هذه التي اريد لها الإنطلاق ، فلا يمكن أبداً أن تكون ركيزة لقانون ، ولا يمكن أن يشرع للحفاظ عليها قانون .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 35 ـ

فإذا تعارضت الحريات الفردية ـ ولا بد لها من أن تتعارض ، ولا بد لها من أن تتصادم ، إذا فرضنا لكل واحدة منها هذه السعة وهذا الشمول ـ ، فما هو موقف القانون إزاء هذه المعارضة ؟ .
   وكيف يستطيع مشروع القانون أن يضمن للحريات المتعارضة إطلاقها دون أن يضطر ـ فيها أو في بعضها ـ إلى تقييد ؟ .
   وإذا إعتدى أحد الشخصين على حرية الآخر في هذا المجال ، فما دخالة القانون ، إزاء هذا الإعتداء ؟ .
   وهل يعد ذلك منه إعتداء يستوجب عليه الجزاء لإنه حيف على نصيب غيره من الحرية ، أم هو عدل لإنه اخذ بحقه المشروع منه ؟ .
  وإذا أضرت حرية الفرد أو الأفراد بحق الجماعة ، فما هو الحل الصالح في ذلك ، وكيف السبيل ؟ ! .
   وإذن فلا بد من تقييد الحرية التي يعترف بها القانون ويحترمها ، بإن لا تتصادم مع حرية الغير . . .
   بإن لا تتصادم مع حقوق الجماعة ، ولا مع حقوق الأفراد الآخرين .
   وبمقتضى هذه النظرة الأصيلة الفطرية ، فلكل فرد من الأفراد حرية تعترف بها ، الفطرة ، ويعترف بها العقل ، ويحب ـ كذلك ـ أن يعترف بها القانون ، وهذه الحرية تستتبع حقوقاً يجب الحفاظ عليها ، والعمل لصيانتها في حدود أن لا تزاحم حريات الأفراد الآخرين ، ولا تهدر حقوقهم ، ولا تزاحم كذلك مصلحة الجماعة ، ولا تهدر حقوقها .
   وللجماعة ـ بإزاء ذلك ـ حقوق ومصالح تعترف بها الفطرة ، ويعترف بها العقل ، ويجب كذلك أن يعترف بها القانون ، وأن يعمل لصيانتها ، في حدود أن لا تهدر حقوق الفرد المشروعة ، وأن لا تمحق شخصيته ، وهذه هي النظرة الجامعة العادلة ، التي يجب أن يؤسس عليها القانون الجامع العادل .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 36 ـ

   أما إعطاء الفرد حريته التامة المطلقة ، والإعتراف ـ بتبع ذلك ـ بإن له حقاً مطلقاً في نيل حريته هذه في جميع المجالات ، وإن أضرت بمصلحة الجماعة ، وأوجبت حيفاً على حقوقها ـ كما يقرره المبدأ الرأسمالي على علم بنتائجه هذه التي يستتبعها ، أو على غير علم ـ . . .
  . . . وأما إعطاء الأمة الحق المطلق في شتى الإتجاهات والمجالات ، وأن أضر بحقوق الفرد ، وكبّل حريته ، ومحق شخصيته ـ كما يقرره المبدأ الإشتراكي ، على علم بهذه النتائج التي تتبع ، أو على غير علم ـ . . .
  . . . أما النظرة إلى أحد الجانبين وحده ، وإعطائه الحق الكامل ، والحرية الواسعة الشاملة ـ وإن أضرت بالطرف الآخر ، وهدرت حقوقه ـ ، فهو حيف لا يمكن أن يرتكز عليه قانون عادل .
  وللإسلام نظرة أدق من كل أولئك ، وأوفى بتحقيق العدل ، ونشر السعادة والسلام والوئام .
  ذلك أن للحرية الفردية مجالات كثيرة ، فكل غريزة من غرائز الإنسان ، وكل نزعة من نزعاته ، وكل رغبة من رغائبه تطلب إنطلاقاً ، وتطلب حرية بعيدة المدى .
  والنشاط الحيوي ـ الذي يمد هذه الغرائز والنزعات والرغائب في الإنسان ـ محدود موقوت ، وليس من العدل مطلقاً أن يعترف النظام لبعض هذه الغرائز ، أو لبعض هذه النزعات بالحرية المطلقة ، في إستغلال هذا النشاط ـ وإن اضر بالحريات الأخرى للفرد نفسه ، وبحقوق سائر الغرائز والرغائب فيه ـ .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 37 ـ

  والنظرة الجامعة العادلة : أن يعترف لكل غريزة في الإنسان ، ولكل نزعة صحيحة فيه ، بحقها من النشاط ، ومن الإستجابة ، في حدود أن لا تحيف على حق غريزة أخرى ، ولا على حقوق الجسد العامة .
  والرجل والمرأة في هذه النظرة الإسلامية الدقيقة سواء بسواء .
  فلكل فرد من الجنسين أن يتمتع بحريته ، مالم يزاحم حقاً أو مصلحة لفرد آخر ، وما لم يزاحم حقاً آخر ، أو مصلحة اخرى للفرد ذاته ، ورخص الشريعة الإسلامية وتشريعاتها في هذه المجالات هي الكاشفة عن التحديد ، الموضحة لمعالمه .
  وبعد ؛ فإن من أشد الأمور غرابة أن يؤخذ مبدأ الحرية ـ بمعناه الواسع الشامل ـ مقياساً لتشريع الأحكام ، ثم لتشريع الأحكام في شؤون المرأة ، وفي أمر حجابها على الخصوص ، ثم يريدون من الإسلام أن يجري معهم في هذا المدى ، وأن يقرّهم على هذه المقاييس ، وعلى هذه النتائج ! ! .
   ومن هذا المبدأ ـ بمعناه الواسع الشامل ، إشتقوا كلمة تحرير المرأة ، وجعلوها علماً على جمعيات ومنظمات تقام هنا وهناك .
  وما أحرى هذه المؤسسات بالإنتشار ! ، وما أحقها بالتأييد ! ، وما أجدرها بعطف الإسلام وحدبه ، وتأييده ودعوته ! . . .
   ما أحراها بكل أولئك ، لو كان معناها تحرير المرأة من الجهل ، وتحريرها من الأوهام والخرافة ، والتقاليد الباطلة ، والعادات الجاهلة ، وتحريرها من العبودية والتحكّمات التي ضربت عليها في كثير من المجتمعات ، وفي طويل من القرون ، وتحريرها من النظريات الجائرة الوضيعة ، التي كانت ـ ولا تزال ـ تنظرها بعض المجتمعات في الغرب والشرق ، وفي القديم و الحديث ! ! .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 38 ـ

   ما أحرى هذه المؤسسات بالإنتشار وبالتأييد ، وبعطف الإسلام وحدبه عليها ، ودعوته إليها ، لو كانت ترمي إلى هذه المعاني الصحيحة ، وما يتصل بها ! .
   ولكنهم إنطلقوا بمعنى الحرية ـ هذه التي إشتقوا منها كلمة التحرر ـ إلى ما تنكره الفطرة ، وينكره العقل ، وينكره الدين ، فماذا ينتظرون من الإسلام بعد ذلك ، ومن الدعاة الناطقين بإسم الإسلام ؟ ! .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 39 ـ

مساواة الرجل والمرأة

  وهذه هي الركيزة الثانية التي هتف بها الغربيون ، وبلغوا في الهتاف بها والدعوة إليها ، وأقاموا عليها حكمهم في شأن المرأة ، وفي تعيين منزلتها من الرجل ، ومنزلتها من المجتمع .
  الغربيون مثوى ، والغربيون هوى .
   هتف بها أولئك ، وصفق لهم هؤلاء .
   المساواة التامة بين الرجل والمرأة . . .
   ولنتبين ما تعني هذه المساواة التي يهتف بها الهاتفون ؟ ! .
  . . . المساواة التامة في حقوق الحياة ، والمساواة في حقوق الإنسانية ، والمساواة التامة أمام محاكم العدل ، وسلطات التنفيذ ، والمساواة بين الرجل المسلم والمرأة المسلمة في حقوق الإسلام ؟ .
   نعم ، وكل اولئك قد كان ، وقد قرره الإسلام ، وثبّت قواعده ، وأقام دعائمه ، وشيد بناءه ، قبل هتاف الهاتفين بعديد من القرون ، فماذا يريدون غير ذلك ؟ .
   مساواة المرأة للرجل في كل مجال ، وفي كل وجهه ، وفي كل نشاط ؟ .
  فهل هذا من العدل ؟ ، وهل هو ما تقرره الفطرة ؟ .
  . . . فطرة الإنسان السوي المستقيم ، الذي لا يلتوي ، ولا يخادع .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 40 ـ

  فإذا قسّمت الطبيعة أعباء الحياة ، وأثقالها إلى قسمين متكافئين :
متكافئين في القدر ، ومتكافئين في الأهمية ، ومتكافئين في التضحية ، ومتكافئين في التأثير ، بحيث لا تستقيم الحياة ، ولا تنسجم ، ولا تسعد ، ولا ترقى ، ولا تدوم ، إلا بهما مجتمعين . . .
   قلت : فإذا قسمت الطبيعة أعباء هذه الحياة إلى شطرين متكافئين ، ثم عهدت إلى الإنسان الذكر بإحد هذين القسمين ، وإلى الإنسان الأنثى ، بالقسم الثاني ، وأعدت كل واحد من الجنسين لوظيفته المعينة بتكوينه وتركيبه ، وبجميع اجزاءه وأبعاضه ، فهل يسوغ لنا ـ نحن ـ أن نتجاهل هذا التوجيه الطبيعي الحكيم ، ثم نطلب من الانثى أن تنهض بإعباء الحياة جميعاً . . . بحصة الإناث منها ، وحصة الذكور ؟ ! .
  إن القدرة الخالقة المدبرة أعدّت الأنثى ـ بتكوينها وبجميع أجزاءها ـ لوظيفة في الحياة لن يستطيع أن يقوم بها أقوى الرجال ، وأشدهم شكيمة ، وأبرعهم حيلة ، ومن الظلم والعسف أن نكلفها بإعباء الرجل ايضاً .
  أما أن المرأة ، أعدت ـ بجميع أجزائها ، وبجميع خلايا جسمها ـ أعداداً خاصاً ، يخالف إعداد الرجل في أجزائه وخلايا جسمه ، فقد اصبح هذا من بدهيات العلم ، التي فرغ من تقريرها وإثباتها ، ولم تعد مجالاً للشك .
   وإنظر أي كتاب شئت من الكتب التي يفصل فيها كيف يتكوّن فيها الجنين ، وكيف تتركب خليته الأولى الملقحة التي منها ينشأ ، وكيف تتكاثر خلاياه وتتوالد ، تجد الحقيقة ، التي لا مراء فيها ولا ريب .
  . . . تجد النظرية الثابتة ـ التي لا خلاف فيها من أحد ـ : أن الخلية الأولى الملقحة ـ التي يتكون منها جسم الأنثى ـ تتألف كروموساتها

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 41 ـ

من ( X ، X ) ثم تنشطر الخلية وتتكاثر بطريقة الإنقسام ، وكل خلية جديدة تتولد ، فهي من هذا النوع الخاص أيضاً ، ثم تتصنّف الخلايا ، ويتوجه كل صنف منها إلى بناء جانب معين من الجسم ، أو إلى إقامة جهاز خاص من أجهزته .
   ويتم بناء الجسم كله ، وتكوين أجهزته وغدده ، من هذا النوع الخاص من الخلايا ، وتفرز الغدد ، وتتحرك الاجهزة ، وتعمل القوى داخل الجسم ، وجميع إمدادها من هذا النوع ، وجميع إنتاجها لإقامة هذا النوع .
   وإن الخلية الأولى الملقحة التي يتألف منها جسم الذكر تتألف كروموساتها من ( Y ، X ) ، فإذا إنشطرت الخلية ، وتكاثرت ، كانت الخلايا المتولدة عنها كلها من هذا النوع ، وإستقام بناء الجسد ، وتم تكوين أجهزته من هذه المادة ، ثم كان النشاط الحيوي في جسم الذكر كله متميزاً بهذا الطابع ، منطبعاً بخاصته .
   أما الاجهزة الخاصة ، التي تختص بالأنثى ، وتختص بالذكر ، وتميز احد الجنسين عن الآخر وأثر هذه الأجهزة في توجيه النشاط ، وتوجيه الجسم ، وتوجيه السلوك . . أما هذا وتوابعه ، فهو غني عن البيان .
   أنظر أي كتاب شئت من كتب علم الأجنة ، تجد فيها هذه الحقائق مشروحة مبسطة . . . فما معنى ذلك ؟ ! .
   أليس معناه : أن القدرة الحكيمة الخالقة تعد الأنثى ـ بتكوينها ـ لوظائف خاصة في الحياة تخالف وظائف الذكر ، وتحمّلها أعباءً معينة ، تشاطر أعباءه ! .
   وإذن فهما متقابلان في مهمات الحياة ، متقاسمان لإثقالها ، متآزران على القيام بها .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 42 ـ

  والعدل الكامل في التشريع : أن يقدر هذا الإعداد الطبيعي ، فتوكل إلى كل من الجنسين مهمته المعينة ، التي توجه إليها بتكوينه ، وأن يكمل إعداده لها بتربيته وتعليمه . . أن يزود لها بتجارب المجربين والمجربات من أسلافه .
  وعلى ذلك تركزت نظرة الإسلام في توزيع الوظيفة ، وعليه أسس الأحكام والحقوق التي تخص المرأة ، والأخرى التي تخص الرجل ، وأقام العدل فيهما ، كلاً بمقدار ما يحتمل ، وكلاً بحسب ما أعدّ .
  وبعد ، فصِلة مسـألة الحجاب بحديث مساواة الرجل والمرأة ، فيما يعتقدون : أنه إذا وجبت المساواة التامة بين الذكر والأنثى كان من حق الأنثى أن تبرز إلى ميادين الحياة ، وأن تزاول أنواع النشاط فيها كما يبدو الذكر ، وكما يزاول ، سواء بسواء ، فما حجاب وما نقاب ؟ .
  أما وجوب أن تقيد الحرية الفردية ، بإن لا تزاحم حريات الأفراد الآخرين ، وأن لا تزاحم الحقوق العامة للمجمتع ، وأن لا تزاحم الحريات الأخرى لذلك الفرد نفسه . .
   . . وأما وجوب أن يراعي ـ في مساواة الرجل والمرأة ـ التوجيه الطبيعي الذي أودعه الخالق في تكوين كل واحد من الجنسين . .
   . . أما هذا وذاك فلا يستوجب الإهتمام عندهم ، لإنه يؤدي الى خلاف ما يشتهون ! .
  وأما دين الله فإنه يقول قولته : واضحة المعالم ، راسخة الدعائم ، رضي بها من رضي ، وأباها من أبى :
   ( فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) (1) .

**************************************************************
(1) ـ يونس : 108 .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 43 ـ

النظرة المادية

  والنظرة المادية الخالصة ، التي دان بها الغرب ، وفسر بها كل ما في الكون ، فالمادة كل شيء فيه ، وليس ثمة شيء سواها .
   . . . هي المبدأ الأول للكون والحياة والإنسان ، وهي الغاية الأخيرة لها جميعاً . .
   . . إليها تردّ كل علة ، وتؤول كل نتيجة ، وبها يتقوم كل مقياس ، فلا علة ، ولا مبدأ ، ولا غاية ، ولا مقياس ، غير المادة .
  ونتيجة معلومة محتومة لذلك ، فلا إله ، ولا رب ، ولا دين ، ولا خلق ، غير المادة وتوابعها ، ومقتضياتها ، وغير طرق توفيرها ، ووسائل الحصول عليها ، والإنتفاع بها .
  وقد اصبحت هذه النظرة عقيدة متأصلة لدى الغربيين ، درجوا عليها في سلوكهم ، وفي تفسيرهم للأشياء وتقييمهم لها ، وفي صلاتهم بالأشياء وبالناس ، وصلات الناس بهم ، ولتمحيص هذه النظرة وإبطالها ، وتبيين مواضع الزيف فيها ، كتب خاصة كثيرة ، أوضحت منها ما إلتبس .
  وفي الحلقة الأولى من كتابي ( الإسلام ) ، وفي مقدمة الحلقة الثانية منه : ( التوحيد في القرآن ) ، بحوث لا يستغنى عنها في هذا السبيل .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 44 ـ

   النظرة المادية الخالصة ، التي نسفت ـ هناك ـ كل عقيدة بإله و دين ، وقطعت كل صلة بخُلُق وشريعة ، وأبطلت كل تقدير لقيمة أو تقليد . .
  أقول : هذه النظرة المادية المجحفة ، هي المبدأ الأول لكل ذلك .
  وإذا كانت المادة هي كل شيء في هذه الحياة ، وإليها تردّ جميع العلل والمقاييس فيها ، فلماذا لا تزاحم المرأة الرجل في ميادين الكفاح من اجل المادة ، وفي سبل الحصول عليها ، وهي مثيلة الرجل في التكوين ، ونظيرته في القدرة ، وعديلته في كل ما يؤهّل لذلك ؟ .
  وإذا لم يكن إله ، ولم تكن شريعة ، ولم تكن أسس ثابتة للخلق والقيم الرفيعة ، وللآداب العالية ، فلماذا تبقى المرأة تحت نفوذ الرجل ، وتحت سيطرته ، يتحكّم في أمرها كما يريد ، ويشرّع فيها الأحكام والقوانيين كما يشاء ؟ .
  لماذا يكون ذلك ؟ . .
  ولماذا تبقى في كفالته وقيمومته ورعايته ، لا حول لها ولا طول إلا حيث يفسح الرجل لها المجال ، ويطلق لها التصرّف ، حسب شهواته وتحكماته ؟ ، والحجاب هو مظهر ذلك .

المادية والمغالاة في التقدير
  والنظرة ـ على ما يبدو ـ وليدة غلو وحقد معاً .
  هي وليدة مغالاة مفرطة في تقدير طريقة العلم ، التي إلتزم بها في إثبات النظريات ، وإستنتاج النتائج .
  فقد أخذ العلم على نفسه أن لا يؤمن بنظرية ، ولا يقرّ بنتيجة ، ولا يعطيها صفة الثبوت والقرار ، ما لم تثبتها التجربة ، وتشهد بصحتها الملاحظة ، وإنما إلتزم هذه الطريقة مفاداة عن مخادعة الحس ، ومغالطة الوهم .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 45 ـ

  وضروري أن المجال الممكن لشهادة الحس ، وشهادة التجربة ، وشهادة الملاحظة ، إنما هي الأمور المادية وحدها ، وما وراء المادة لا يمكن أن ينال بشيء من هذه الوسائل ، فهي خارجة عن نطاق العلم التجريبي .
  وخروجها عن مجال العلم التجريبي ، وإمتناعها أن تدرك بوسائله المحدودة لا يعني أبداً أن العم ينكرها ، أو يتنكر لها .
  إنها ليست من مجالاته الخاصة ليبحث فيها ، فليتركها للفكر المجرد ، وللفلسلفة التي تهمها هذه النواحي ، وتملك وسائل الإثبات فيها ، وليتركها للدين الذي أنزل لتصحيح هذه الناحية من التفكير الإنساني ، وزوده بما يسعف من البينات ، وأرشده إلى ما يثبت من ركائز الفطرة ، وضروريات العقل ، وموحيات الطبيعة .
  هذا هو سبيل الإنصاف الذي لم يعده العلم ، ولم يفارقه رعيل كبير من العلماء . . من العلماء التجريبيين ، بل ومن أقطاب الحركة فيه ، فهم يؤمنون بالله إيماناً لا ريبة فيه ، ومنهم من يؤمن بالدين وبالخلُق إيماناً لا مداجاة معه ، وهم يعتزون بإيمانهم ، ويجهرون به ، ويذكرون مثبتاته ، وإعترافاتهم بذلك مشهورة مذكورة .
  أخذ العلم نفسه بهذه الطريقة في إثبات النتائج ، فتقدم تقدمه المطّرد ، وأنتج نتائجه المدهشة ، وفاز فوزه العظيم .
  وأفرط بعض الناس ، فإستمسكوا بهذه الطريقة ـ ذاتها ـ لإثبات كل شيء ، فأنكروا وجود ما لم يدركه الحس ، ولم تنله التجربة ، ولم تبلغه الملاحظة .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 46 ـ

  أنكروا وجود شيء وراء المادة ، لإن الآلات والملاحظات والتجارب لا تصل إليه ، وما لم يصل اليه الحسّ والآلات والتجارب فهو معدوم .
  وإذن ، فما وراء المادة كله وهم وخداع . .
  وإذن ، فالله ، والدين ، والخلق ، وما يتبع ذلك ، وما ينتظم بسلكه ، كله وهم وخداع .
  هكذا أوصلهم الإستنتاج .

المادية والحقد
  وهي ـ بعد ـ وليدة حقد مكين دفين .
  حقد مكين على الكنيسة ، وعلى رجال الدين الذين إرتكبوا الشطط في العصور الوسطى ، وإنتهجوا العسف ، وتحكّموا في رقاب الناس ، وفي دمائهم وفي أموالهم ، وفي علومهم ومعارفهم ، وحموا الإقطاع ، ومكّنوا لإستبعاد الضعفاء ، وحاربوا العلم وشلّوا المواهب ونكّلوا بأولي النبوغ من العلماء والمفكرين ، وفتكوا بأحرارهم .
   والتاريخ مليء بسوءات هذه الفترة الظالمة المظلمة .
   وكان من رد الفعل على هذه الإجراءات القاسية : أن ينبذ الناس قول الكنيسة ، وإلهها ، ودينها ، ومعارفها ، وكل ما تدعوا إليه ، وتؤمن به ، وتكدح في سبيله . . .
   . . أن يحاربوا الكنيسة في كل ما تعتقد ، وترمي إليه . .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 47 ـ

   وساعد هذا الحقد على الثورة ، ومكّن لتأثيره وإنتشاره ما تحتويه معارف الكنيسة من التهافت ، وما يتضمنه تشريعها من العسف ، فكانت الثورة الكبرى في القرن الثامن عشر ، ثم كان من توابع ذلك أن رفض الناس هناك كل دين ، وكل ما يمت إلى الدين .
  والنظرة المادية للكون وليدة ذلك الغلوّا المفرط ، وهذا الحقد الثائر ، فلا ينتظر منها إنصاف ولا إعتدال .
   وليس موضع الغرابة أن يتمسك بها غربي شهد ذلك العسف ، وقاسى آلامه ، ولمس آثاره ، ولكن موضع الغرابة أن يستمسك بها ، ويدعوا إليها مسلم ، أيقن بنبوة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وصدق بكتابه ، وآمن بشريعته .
  فكيف التوافق بين ذلك ؟ ، وكيف الإنسجام ؟ ! .
  إنها نظرة ملحدة ، والقائلون بها ـ من الغرب ـ لا ينكرون هذه الصفة ، بل يجهرون بها عند نقد الأديان والاخلاق .
  أما أصحابنا المسلمون ، الذين يردّدون أصداء الهاتفين بها من سواهم ، فأكثر المحامل رفقاً بهم . . إنهم يجهلون .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 48 ـ

علاقة الرجل بالمرأة في الغرب

  وتبعاً للنظرة المادية الآنف ذكرها ، التي طغت على الغرب ، وفسَر بها الحياة ، وأرجع إليها عللها وغاياتها ، وأقام العلاقات الإجتماعية عليها ، فماذا ينتظر لعلاقة الرجل بالمرأة اكثر من أن تكون علاقة ذكورة وأنوثة ، يجتمعان لحاجة ، ويفترقان عند إنقضائها ؟ . .
  ما ينتظر لها أن تكون أكثر من علاقة حيوان بحيوانه ، لا ينشدان وراء المتعة المؤقتة شيئاً ، ولا ينظر أحدهما إلى الآخر إلا أنه موضع الإستجابة لفاقته الجنسية .
  وإذا إستظلا معاً تحت سقف واحد ، أو إستكنّا بين جدران منزل واحد ، فإنما يقصدان بذلك ان يمهّدا مكاناً معيناً لقضاء تلك اللبانة .
  وما علاقة رجل بإمرأة لا يضطر إليها إلا في قضاء هذه المتعة ؟ ! .
  إن الرجل يجد مئات ، أو ألوفاً من النساء ، يفين له هذه الضرورة ـ إذا شاء ـ ، وإن المرأة تجد كذلك مئات ، أو ألوفاً من الرجال ، يقومون لها بسداد هذه الفاقة ـ إذا شاءت ـ ، فلماذا يتقيدان بشخص معيّن ، ويرتبطان بصلة معينة ؟ .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 49 ـ

  وإن الإنطلاق يوفر لهما اللذاذة ، ويضاعف لهما المتعة ويعفيهما من التبعات .
  أما عبء المعيشة ، فقد إستقل كل واحد منهما عن صاحبه بالعمل و بالإنتاج و وبالنفقة ، ولم يعد محتاجاً إليه بشيء من ذلك .
  وأما بناء الأسرة ، فما الحاجة إليه بعد ان أمكن قيام المجتمع من آحاد متفرقة ، فالكل للأمة و الكل للدولة ، والكل للوطن الجامع العام ؟ .
  وأماغريزة الامومة ، وغريزة الأبوة ، فما قيمتها بعد ان تغيرت الموازين وإنقلبت المقاييس ؟ ، وموانع الحمل ، ومسقطات الاجنة ، هي المفزع الذي يريح من كل أولئك .
  وإذا ألحّت غريزة الامومة وغريزة الابوة ، إلحاحهما الشديد ، وضايقتا الابوين مضايقتهما العنيدة ، فلا حرج في ان تحمل الانثى ، ثم تعهد الطفل المحاضن والمراضع .
  أما الأمور والآثار الأخرى ، التي يتحدث عنها المثاليون من اهل العواطف ، فقد تبدلت جميعاً بتبدل القيم ، وزالت بزوال التقاليد ، وذهبت بذهاب الدين والشرائع والأخلاق .
  ماذا ينتظر لعلاقة الرجل و المرأة ـ تحت ظل تلك النظرة ـ أن تكون اكثر من ذلك ؟ .
  وماذا ينتظر للمرأة نفسها تحت ظل تلك النظرة ، وتحت ظل تلك العلاقة غير ان تندفع إلى الميادين التي يندفع إليها الرجل هناك ؟ . .
   . . إلى الميادين كافة . . كافة ، ما يجمل ذكره ، وما لا يجمل .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 50 ـ

  والنتائج التي تترتب على هذا الإندفاع ـ كلها ـ لا ضير فيها ، ولا غضاضة ، ما دامت تثمر المادة ، أو تثمر اللذاذة ، أو تثمرهما معاً ، وما دامت المساواة بين المرأة والرجل يجب أن تكون تامة من كل وجه ، وما دامت الحرية يجب أن تكون مطلقة في كل سبيل ! ! .
  وفي وصف هذه الظاهرة ، وفي بيان مدى تغلغلها في نفوس الغربيين ، يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه ( الحجاب ) ( ص 115 ) :
  ( سبعة أو ثمانية في الألف هو معدل الرجال والنساء الذين يتزوجون في فرنسا اليوم ، ولك أن تقدر من هذا المعدل المنخفض كثرة النفوس التي لا تتزوج من أهاليها .
  ثم هذا النزر القليل من الذين يعقدون هذا الزواج ، قلّ فيهم من ينوون به التحصّّن ، وإلتزام المعيشة الصالحة ، بل هم يقصدون به كل غرض سوى هذا الغرض ، حتى أنه كثيراً ما يكون من مقاصد زواجهم أن يحللوا به الولد النغل ، الذي قد ولدته المرأة قبل النكاح ، ويتخذوه لهم ولداً شرعياً ) .
  ثم نقل عن العالم الإجتماعي الفرنسي ( بول بيورو ) : ( أن ذلك قد أصبح من العادات الجارية في طبقة العاملين في فرنسا ) .
  وفي ( ص : 94 ) من كتاب ( الحجاب ) أيضاً ، يحدثنا عن العالم الفرنسي الآنف الذكر أنه : ( قد عاد من الهيّن المعتاد في ( برغندي ) ، و ( بون ) ، وغيرهما من الأقاليم ، أن تكون الفتاة قد عاشرت عدة من الأخدان قبل زفافها ، ثم لا تجد في نفسها حرجاً من حكاية قصة حياتها الماضية لخاطبها عند الزواج ، وكل هذا الفجور منها لا يثير سخطاً أو كراهية حتى في اقاربها الأدنين ، بل هم يخوضون في أحاديث غرامها بإنبساط ، كأني بهم يتحدثون عن لعبة رياضية ، أو شغل تجاري .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 51 ـ

  وإذا كان موعد النكاح ، ودخل الزوج الذي يكون عارفاً ، لا بحياة عروسه السابقة فحسب ، بل بإخدانها الذين قد بقوا يتمتعون بجسدها إلى تلك الآونة أيضاً ، فإنه يحاول ـ جهده ـ ألا يبدو منه ما يوهم الناس أن بنفسه كدرا في شيء مما يعلم من مشاغل عروسه الماضية ) .
  ويقول عنه أيضاً في ( ص 117 ) : ( إن زنا المحصنات والمحصنين لا يعدّ من العيب أو اللوم في فرنسا ، فإذا كان أحد من المحصنين متخذاً خليله دون زوجته ، فلا يرى لإخفاء الأمر من لزوم ، ويعد المجتمع فعله ذلك شيئاً عادياً طبيعياً في الرجال ) .
  وعن كتاب تاريخ الفحشاء ، للكاتب الإنجليزي ( جورج رائيلي أسكات ) :
  ( ولا تزال تكثر النساء اللآتي يزاولن العلاقة الجنسية قبل الزواج من غير ما تحرّج ، وفي حكم النادر والشاذ وجود الأبكار ، اللآتي يكن ـ في الحقيقة والواقع ـ أبكاراً عندما يعقدون النكاح ، عقد الوفاء الأبدي ، أمام منبر الكنيسة ) .
  ويذكر الكاتب الاسباب التي أفضت بإحوال المجتمع إلى هذا الحد ، فيعد من هذه الأسباب : الولوع الفاحش بالتبرج ، الذي قد بعث في نفس كل فتاة أشد الحرص على الأزياء الفاتنة من احدث الطرز ، ثم حرية النساء المطلقة ، فقد بلغ من ضعف رعاية الآباء ، ورقابتهم لبناتهم ، أن قد تهيأ لهم من الحرية والإنطلاق ، ما لم يكن ميسوراً حتى للأبناء قبل ثلاثين أو اربعين عاماً ، ثم تهافت النساء على الأشغال التجارية ، ووظائف المكاتب ، والحرف المختلفة ، حيث يختلطن بالرجال صباحاً و مساءً . . . ويقول بعد ذلك :

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 52 ـ

  ( وقد حط ذلك من المستوى الخلقي في الرجال والنساء ، وقلل جداً من قوة المدافعة في النساء لإعتداءات الرجال على عفتهن ، ثم أطلق العلاقة الشهوانية بين الجنسين من كل القيود الخلقية . . . فالآن أصبحت الفتيات لا يخطر ببالهن الزواج ، أو الحياة العفيفة الكريمة ، حتى صار اللهو والمجون الذي يطلبه ـ في الزمان الغابر ـ أوغاد الناس تطلبه كل فتاة اليوم ) (1) .
  ثم ماذا ؟ .
  ثم يريد القارىء مني أن أنقل له كل ما ترجم عن الكتاب الغربيين في هذا السبيل ؟ .
  وقد سقت له هذه الشواهد ، ليعرف أن علاقة المرأة بالرجل هناك لم تعد أكثر مما وصفتها له في أول الحديث .
  ومنع الحمل ، ووأد النسل ، المنتشران إنتشاراً عظيماً في تلك الربوع ؟ . .
  أليسا شاهدين على صدق تلك الدعوى ؟ . . على أن علاقة الرجل بالمرأة علاقة شهوة مجرّدة ، فهما يطلبان التخلص من نتائجهما ويلتمسان له الأسباب ، وهي لديهم ميسورة موفورة ، تباع في كل بلدة ، وفي كل قرية ، دون أي حذر ، ودون أي مراقبة .
  فهل علمت أن ستمائة ألف نسمة ـ على الاقل ـ يمنع توليدها في فرنسا في كل سنة ـ على ما يقدر الإخصائيون ـ من جراء هذه العادة المنتشرة في البلاد ، وأن أربعمائة ألف جنين أخرى تسقط من بطون أمهاتها (2) .

**************************************************************
(1) ـ الحجاب ص : 141 ـ 143 .
(2) ـ ن . ـ م ـ ص : 119 .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 53 ـ

  وإن في امريكا يسقط مليون ونصف مليون حمل ـ على اقل التقدير ـ في كل سنة ، ويقتل آلاف من الأطفال من فور ولادتهم ـ على ما يقول القاضي الأمريكي ( بن لندسي ) ، رئيس محكمة جنايات الصبيان بـ ( دنور ) ـ (1) . .
  وإن (95) في المائة من العلاقات الجنسية الحاصلة اليوم بين الرجال والنساء يحولون بينها وبين نتائجها الفطرية بتدابير منع الحمل (2) ، ثم لا يعد هذا العمل لديهم إجراماً يعاقب عليه القانون .
  هذه علاقة الرجل بالمرأة ، وعلاقة المرأة بالرجل ، في ظل تلك النظرة المادية ، فهل نطمع بشواهد اكثر ، ونتائج اكبر ؟ ! .
  وهل في هذا السلوك ، وفي هذه النتائج ما يشرّف المرأة ، ويرفع من قدرها ، بل وما يشرّف الرجل والمجتمع ، و يرفع من قدرهما ؟ ! .

**************************************************************
(1) ـ ن . م ـ ص : 40 .
(2) ـ ن . م ـ ص : 139 .