العرب في اول الاسلام ... والطب اننا نلاحظ ، ان الاسلام قد ظهر في حين كان الطب لا يزال يقطع مراحل طفولته ، وكان العرب في علم الطب خاصة اضعف من سائر الامم ، لانهم لم يكن لديهم حكومة مركزية يتوفر في ظلها عنصر الامن والاستقرار ، ليكون ثمة مجال للتنافس والسعي لتحقيق الطموحات التي يمكن ان تعتلج في نفوس الكثيرين لاسباب مختلفة .
  وباستثناء الحارث بن كلدة الذي استأثر بشيء من الشهرة الواسعة ، والتي لم تكن له لولا انه تعلم الطب على ايدي الجنديشابوريين ، وباستثناء ابن حذيم .
  فاننا لانجد في العرب ما يشجعنا على ان نعتبرهم قد اسهموا في تقدم هذا العلم ، بل ليس ما يشجعنا لان نعتبر انه قد كان عندهم اطباء بالمعنى الحقيقي للكلمة ، وحتى ابن كلدة ، وابن حذيم فاننا لانعرف مقدار ما كانا يتمتعان به من براعة وحذق في هذا المجال ، وليس لهم آثار علمية ، ولا في التاريخ ما يمكن ان نستدل به على شيء من هذا ، وقد تقدم بعض ما يشير الى ذلك في الفصل السابق .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 28 ـ

الطب في الصدر الاول الاسلامي :
  لقد اشرنا فيما سبق الى : ان الاسلام يعتبر الطب وظيفة شرعية ، واحد الواجبات التي لا مجال للتساهل فيها .
  كما ان من يراجع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والائمة عليهم السلام ، وما وصل الينا من كلام لهم في الطب والعلاج ، وهو ثروة كبيرة جدا ، لا تتناسب مع ما لاحظناه من سير هذا العلم في القرن الاول الهجري ونصف الثاني ـ نعم ان المراجع لذلك ـ يخرج بحقيقية هامة ، تتلخص في انهم عليهم السلام كانوا يحاولون بعث نهضة شاملة في هذا المجال ، تتسم بالشمولية والعمق والدقة ، مستمدة ذلك من الواقعية الرائدة التي تعتمد عليها ، وعلى هدى من المعاني الانسانية النبيلة التي تتجه اليها .
  ولكن الذي يظهر : هو ان العرب لم يستطيعوا ان يكونوا في مستوى هذا الحدث الجديد ، الذي هو ظهور الاسلام ... وانما كانت طموحاتهم وتوجهاتهم منصبة على مجالات اخرى ، تتناسب مع ما كانوا يعانونه من تأثرات وتغيرات نفسية وفكرية ، وغيرهما ، مما طرأ عليهم بعد ظهور الاسلام فيهم .
  ولا نبعد كثيراً اذا قررنا هنا حقيقة : انه قد كان ثمة اثر كبير للتوجهات التي كانت تفرضها عليهم طموحاتهم ، التي ولدت في ظل ظروف موضوعية معينة متعددة بعد ظهور الاسلام ... والتي كانت تتجه اكثر الى نزعة التسلط والقهر للامم الاخرى ، وبسط النفوذ على اكبر قدر ممكن من البلاد ... وقد ساعد على ذلك بشكل فعال ... بعض سياسات الحكام الذين جاؤا بعد الرسول صلى الله عليه وآله ـ باستثناء علي عليه السلام ـ الذين كانوا غير مستعدين للاستعانة بغير العرب الا بالمقدار الذي يرفع ضرورتهم ، من دون اي توجه الى حاجات ابناء شعبهم ، او حتى التفكير فيها ... هذا عدا عن انهم شعوبا وحكاما لم تسطع

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 29 ـ

  نفوسهم وعقلياتهم ان ترقى الى مستوى الحدث الذي كان بمثابة القفزة الواسعة التي عرضت على مجمل حياتهم وواقعهم بظهور الاسلام فيهم .
  كل ذلك مع عدم توجههم لاهداف وتعاليم نبيهم ودينهم ، وعدم اهتمامهم بالعمل على تطبيقها وتحقيقها .
  نعم ... فبقيت علوم كثيرة ، ومنها علم الطب مهملة عندهم ، ان لم تكن معدومة الى مطلع الدولة العباسية ، التي جاءت بعد انتهاء الحكم الاموي ، الذي ساهم في اشباع الرغبة في الحكم والتسلط ، وبدأ الاتجاه الى حياة الاستقرار والرخاء ومواجهة متطلبات الحضارة ، الامر الذي كان يفرض عليها الاستجابة لهذه المتطلبات والحاجات ، التي يصعب اهمالها او تجاهلها .
  فكان عصر النهضة العلمية ، وبدأ العصر الذهبي ... واستطاع المسلمون في فترة وجيزة جدا ان يحققوا على صعيد العلم والمعرفة اعظم المنجزات التي يمكن ان تحققها امة في فترة زمنية كهذه .

دور غير المسلمين في النهضة العلمية :
  وكان طبيعيا ان يكون ظهور علم الطب بقوة عند المسلمين في اجواء كهذه في مطلع الدولة العباسية ، بمساعدة متخصصين من الامم الاخرى ، ولا سيما اولئك الذين انتهت اليهم المعارف الطبية الى تلك الفترة من الزمن ، وهم اهل جند يشابور .
  وترجم هؤلاء وغيره الكثير من الكتب الطبية ، ومارسوا الطب في بلاط الخلفاء وغيرهم من الاعيان ، وحصلوا على الاموال بأرقامها الخيالية .
  ولا غرو ان نجد الحكام والخلفاء يهتمون في ان يكون اطباؤهم من هؤلاء الذين هم من غير المسلمين ، بل من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، حتى لقد كان للمتوكل ( 56 ) طبيبا كلهم من النصارى (1) ... فانهم ما كانوا يطمئنون الا

**************************************************************
(1) تاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني ص 200 عن طبقات الاطباء ج 2 ص 140 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 30 ـ

  اليهم ، ولا يعتمدون في تنفيذ مآربهم السياسية ـ كتصفية خصومهم (1) ـ الا عليهم .
  رغم وجود النطاسيين في هذا الفن من المسلمين ، والذي كان لهم فيه اليد الطولى ، ابداعاً واختراعاً ، وشموليةً وعمقاً ، مثل : احمد بن ابي الاشعث ، وعلي بن عيسى الكحال ، واحمد بن محمد الطبري ، وابن الصوري ، وغيرهم ممن يعد بالعشرات ، والمئات .
  وقد كان علماء المسلمين يلومون الخلفاء والوزراء في تعظيمهم النصارى للتطبب (2) .
  نعم ... لقد استعان المسلمون بغيرهم في عالم الطب ... ولكنهم لم تمض عليهم مدة وجيزة حتى حققوا فيه اعظم المنجزات ، التي يمكن ان يحققها انسان في فترة وظروف كتلك التي مرت على المسلمين آنذاك ... حتى لقد ارسوا القواعد والاسس الصحيحة والسليمة لقيام النهضة الطبية في هذا القرن الرابع عشر الهجري ... وعلى تلك القواع ، وهاتيك الاسس والمنجزات العظيمة اعتمدت اوربا وغيرها في نهضتها الطبية الحاضرة ، كما هو معلوم .
  هذا ... ونحن نشير هنا الى مجمل بسيط عن الحركة العلمية الطبية الاسلامية ، وما يرتبط بذلك ، مع مراعاة الاختصار الشديد ، حسبما يقتضيه المقام ... فنقول :

**************************************************************
(1) فقد كان ابن اثال النصراني ، طبيب معاوية هو الاداة التي يستخدمها معاوية في تصفية خصومه السياسيين ، ( عيون الانباء ص 171 / 172 ، والتراتيب الادارية ج 1 / 461 ونسب قريش لمصعب الزبيري ص 327 وغيره ) ، كما ان المعتصم قد تخلص من المأمون على يد يوحنا بن ماسويه النصراني ( عيون الانباء ص 254 ) وابو الحكم النصراني الدمشقي كان يعتمد عليه معاوية في تركيب الادوية لاغراض قصدها منه ( عيون الانباء ص 175 والتراتيب الادارية ج 1 ص 461 ) وغير ذلك كثير ، لا مجال لتتبعه .
(2) البحار ج 81 ص 209 عن الدعوات للراوندي .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 31 ـ

الطب في القرن الاول الهجري :
  قد اشرنا فيما سبق الى انه قد كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله بعض المعاريف من الاطباء آنئذ ، والى بعض معارفهم ، ونزيد هنا :
  ان قوماً من الانصار قالوا : يا رسول الله .
  ان لنا جاراً يشتكي بطنه ، افتأذن لنا ان نداويه ؟ قال ( ص ) : بماذا تداوونه ؟ قالوا : يهودي هاهنا يعالج من هذه العلة ، قال : بماذا ؟ قالوا : بشق بطنه ، فيستخرج منه شيئاً ، فكره ذلك رسول الله ( ص ) ولم يجبهم ، فعاودوه . مرتين او ثلاثا ، فقال : افعلوا ماشئتم ، فدعوا اليهودي فشق بطنه ، ونزع منه رجراجا كثيرا ، ثم غسل بطنه ، ثم خاطه وداواه ، فصح ... واخبروا النبي بذلك ، فقال : ان الذي خلق الادواء جعل لها الدواء ... الخ (1) .
  وعن ابن سنان عن ابي عبد الله ( ع ) قال : سألته عن الرجل ينفصم سنه : ايصلح له ان يشدها بذهب ؟ وان سقطت ، ايصلح ان يجعل مكانها سن شاة ؟ قال : نعم ، ان شاء ، ليشدها بعد ان تكون ذكية ... وعن الحلبي ، عنه عليه السلام مثله (2) .
  وعن زرارة ، عن ابي عبد الله عليه السلام ، قال : سأله ابي وانا حاضر ، عن الرجل يسقط سنه ، فيأخذ من اسنان ميت ، فيجعله مكانه ، قال : لا بأس (3) .
  وقد تقدم : انه ( ص ) قد امر الضحاك بأن يتخذ انفا من ذهب ... وتقدم : ان الحارث بن كلدة ـ وقد اختلف في اسلامه ـ قد الف كتابا في الطب .
  وفيما عدا ذلك ، فاننا لا نجد في القرن الاول الهجري ، بل ... وحتى مطلع

**************************************************************
(1) البحار ج 62 ص 73 ، وطب الامام الصادق عليه السلام ص 16 كلاهما عن دعائم الاسلام .
(2) البحار ج 66 ص 51 / 52 عن مكارم الاخلاق ص 109 .
(3) المحاسن للبرقي 644 والبحار ج 66 ص 50 و 540 عنه وعن مكارم الاخلاق ص 109 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 32 ـ

  الدولة العباسية اي نشاط طبي عند المسلمين ـ الا ما يذكر عن النبي ( ص ) ، والائمة المعصومين عليهم السلام ـ ولا اسماء بعض اطباء عاشوا في الجاهلية ، وصدر الاسلام مثل : ابن ابي رمثة ، والحارث بن كلدة ، والنضر بن الحارث ، وغيرهم ممن قدمنا ويذكر ايضا : انه لما ضرب امير المؤمنين علي عليه السلام جمع له الاطباء ، وكان ابصرهم بالطب ابن عمريا ، اثير بن عمرو السكوني . وكان صاحب كرسي يتطبب (1) كما ان الذي جيء به لعلاج عمر حينما طعن كان من الانصار من بني معاوية (2) .
  اما في عهد بني امية ، فنجد ان الحكام كانوا يعتمدون على بعض الاطباء من اهل الملل الاخرى ، كابن اثال النصراني ، وابي الحكم النصراني ، وثياذوق ، وابن ابجر المسيحي (3) طبيب عمر بن عبد العزيز ، وان كان البعض يحاول أن يدعي : أن خالد بن يزيد كان ماهرا في الطب أيضا (4) ، ولكن ذلك لايمكن الاعتماد عليه ، نعم يمكن ان يكون قد شجع على ترجمة بعض الكتب الطبية كما سيأتي واذا كان حقا له بصر بهذا العلم فانه ولا شك لم يتعد المجال النظري ، فلم يمارسه في يوم من الايام . والمشتهر عنه هو ميله الى صناعة الكيمياء ، اما اتقانه لعلم الطب فلم نجده الا عند ابن خلكان .
  ونجد ايضا في جملة من يعد ممن له معرفة بالطب ، بعض النساء اللواتي عشن في زمنه صلى الله عليه وآله ، مثل : رفيدة ، التي كان لها خيمة في مسجد الرسول لمداواة المرضى والجرحى ، وامرأة من عذرة ، وليلى الغفارية ، وام سليم وام عطية ، وربيع بنت معوذ ، وغيرهن ... ممن سنذكرهن مع المصادر في

**************************************************************
(1) معجم البلدان ج 1 ص 93 والجوهرة في نسب علي بن ابي طالب وآله للتلمساني البري ص 115 / 116 .
(2) تاريخ عمر لابن الجوزي ص 245 .
(3) راجع بعض الهوامش المتقدمة عن قريب ، حول دور هؤلاء الاطباء في الاغتيالات التي كان ينفذها الحكام على ايديهم ضد خصومهم السياسيين .
(4) وفيات الاعيان ج 1 ص 168 والتراتيب الادارية ج 2 ص 263 عنه .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 33 ـ

الفصل الخامس من القسم الثاني من هذا الكتاب :
  حين الكلام على معالجة وتمريض المرأة للرجل ... فالى هناك .
  وكانت ام جميلة تعالج من الكلف ، وقد سألت عائشة عن ذلك ، فأمرتها بالاستمرار على ذلك (1) .
  وفي عهد بني امية ، كانت زينب الاودية تتطبب ، وتعالج العين والجراح (2) واخيرا ... فاننا لا نجد في تتبع الحركة الطبية في هذه الفترة كبير فائدة ، لانها كانت ضعيفة جدا ، بل تكاد تكون معدومة .
  استدراك : ويذكر في الاطباء في القرن الاول : مرة بن شراحيل الطبيب كما عند البلاذري في انساب الاشراف ج 2 ص 357 ، كما ان رواية ابن سنان الانفة تدخل في نشاط القرن الثاني ، اما رواية زرارة فيحتمل فيها ذلك .

الطب في كلمات المعصومين :
  نعم ... لابد من التوفر الكامل على دراسة الثروة الطبية الهائلة ، التي اتحفنا بها النبي صلى الله عليه وآله ، واهل بيته الكرام عليهم الصلاة والسلام حيث انهم قد تكلموا في مختلف الشؤون الطبية بشكل واسع وشامل ، حتى في فترة الركود الفكري والعلمي في زمن الامويين وغيرهم ، حسبما تقدمت الاشارة اليه .
  وهذا ما يحتم التوفر التام على دراسة تلك الثروة ، لاستخلاص الكنوز الرائعة ، والحقائق الجليلة ، التي تضمنتها كلماتهم ، وحوتها تعاليمهم الفذة .
  واننا لعلى يقين من انه لو اوليت هذه النصوص ما تستحقه من عناية واهتمام لامكن الخروج بنتائج يمكن ان تكون على درجة كبيرة من الاهمية

**************************************************************
(1) كنز العمال ج 10 ص 45 والتراتيب الادارية ج 1 ص 463 كلاهما عن ابن جرير .
(2) عيون الانباء ص 181 ، والمفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ج 8 ص 387 وتاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني ص 201 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 34 ـ

  حتى بالنسبة للحياة الطبية الحاضرة .
  هذا ... ولا يسعنا هنا الا ان نعبر عن اسفنا العميق ، لاننا رأينا : ان المسلمين الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وآله ، والائمة عليهم السلام ... لا يهتمون ـ حتى شيعتهم ـ الا ببعض العلوم الطبية ، التي كرسوا لها كل اوقاتهم وجهودهم واهتماماتهم ، واهملوا ما عداها ... حتى اننا لنجد الائمة عليهم السلام يحاولون توجيههم نحو البحث عن العلل والاسباب ، فنجد الامام الباقر ( ع ) يأمر اصحابه اذا افتاهم بفتوى : ان يسألوه عن مخرج الفتوى ومأخذها من القرآن الكريم ... ولكن الملاحظ : هو ان ذلك التوجيه والتحريض لم يكن له الاثر المرجو والمطلوب ، حيث نجد : انهم ـ مع ذلك ـ كانوا يكتفون منه بالجواب عن المسألة فقط !! .
  ولعل عدم اهتمامهم هذا يفسر لنا ما نلاحظه من عدم وجود سند صحيح ـ غالبا ـ للروايات الواردة في الطب ، والمأكولات ، والادوية ونحوها ، ولا اهتم ارباب الجرح والتعديل بنقد اسانيدها وتصحيحها .
  وعلى كل حال ... فأما بالنسبة الى الطب فيما بعد القرن الاول الهجري فلا بد من ايجاز القول فيه على النحو التالي :
  المسلمون ... والطب :
  ويحاول كثيرون ، ولاهداف لاتخفى !! ان يعطوا المنجزات الطبية ، وكل تقدم علمي صفة قومية بالدرجة الاولى ، فهذا يركز :
  اليونان ...
  وهذا على المصريين ...
  وذاك على الفرس ...
  وذاك على العرب ...
  وهكذا ...
  ونقول لكل هؤلاء : لماذا لم تستطع تلك الامم في كل تاريخها الطويل

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 35 ـ

  الذي يعد بألوف السنين ، الذي عاشته قبل ظهور الاسلام ان تحقق تقدما يوازي او حتى يداني التقدم الذي حققته في هذه الفترة الوجيزة التي عاشتها في ظل الاسلام ؟ !
  بل ان كل منجزاتها بدون الاسلام ليست شيئا يستحق الذكر اذا ما قورنت بمنجزاتها في هذه الفترة المحدودة .
  مع ان تلك الامم قد كانت تمتلك ـ قبل الاسلام ـ الدولة القوية ، والموارد المادية الضخمة ، والمعنويات العالية ، والطموحات البعيدة ، حسبما يدعون ، او حسبما يريدون الايحاء به للبسطاء والسذج من الناس .
  وهكذا ... فانه يجب ان يعزى ما حققه المسلمون على اختلاف اجناسهم الى الاسلام نفسه ، واعتباره العامل الرئيس في تفجير الطاقات ، وتحقيق الطموحات .
  بل اننا نجد الاخرين الذين لم يعتنقوا الاسلام ، رغم انهم كانوا المعلمين الاول للمسلمين في علم الطب ، وهم اهل جنديشابور وغيرهم من اتباع الاديان المختلفة ، قد بدأ يتقلص ظلهم ، ويأفل نجمهم ، كلما زاد شمس المعارف الطبيبة في العالم الاسلامي (1) والذي كان يتم بسرعة مذهلة .
  نعم ... لقد تقلص ظلهم ، وافل نجمهم ، مع انه قد كان لخلفاء المسلمين وحكامهم عناية فائقة بهم ، واهتماما لا نظير له بشؤونهم .
  وحسبنا ما ذكرناه هنا ، ولننقل الكلام الى عصر النهضة العلمية لدى المسلمين ... والذي يستدعي منا الحديث في نقاط عديدة ، منها :
  1 ـ حركة الترجمة في العلوم الطبية وغيرها .
  2 ـ حركة التأليف ، وازدهار الطب عند المسلمين .
  3 ـ بعض المنجزات العلمية للمسلمين ، واثر المسلمين في النهضة الطبية الحديثة .
  4 ـ اثر المسلمين في الصيدلة .
  5 ـ اشارة الى بعض الخدمات الطبية ، كبناء المستشفيات ونحوها .

**************************************************************
(1) ولا يختص ذلك في علم الطب ، بل ينسحب على غيره من مختلف العلوم والمعارف كما يظهر لكل باحث ، فراجع .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 36 ـ

  الى غير ذلك من الامور التي يقتضيها البحث : والتي ربما لايمكن تجاهلها فالى المطالب التالية :

حركة الترجمة :
  لقد بدأت الترجمة في الحقيقة في القرن الاول الهجري ، ولكن بشكل محدود جدا ، ونشطت في مطلع الدولة العباسية ( التي اسست سنة 132 هـ ) وانتعشت اكثر في زمن هارون ، الذي توفي سنة 193 هـ . وبلغت ذروتها في زمن المأمون المتوفى سنة 218 هـ .
  وبنشاط حركة التأليف والابداع لدى المسلمين ... بدأت حركة الترجمة بالتراجع ، فلم يعد لها في اواسط القرن الثالث فما بعده رونق يميزها عن غيرها من النشاطات ، ان لم نقل : انها لم يعد لها رونق اصلا ... بل يرى البعض : ان اكثر الترجمات قد كانت ما بين اواسط النصف الاول من القرن الثاني ، وحتى النصف الاول من القرن الثالث (1) .
  وعلى كل حال ... فقد كان غير المسلمين هم الذين يقومون بأمر الترجمة بصورة عامة ، سواء في ذلك النصارى ، او اليهود ، او غيرهم ... فهم رواد هذه الحركة ، وعليهم كان الاعتماد فيها ... ولكننا لايجب ان ننسى هنا دور النوبختيين في الترجمة ، وهم من الفرس ، المسلمين ، الشيعة ، فانهم قد اسدوا خدمات جلى في هذا السبيل .
  ويقول كوستاف لوبون : ان اول كتاب طبي ترجم الى العربية قد ترجمه هارون سنة 685 ميلادية (2) ... ونحن نعتقد : انه قد غلط في ذلك ، فـ : اولاً : ان الكتاب هو كناش ( اي مجموعة فيها قواعد وفوائد طبية ) من مؤلفات ( اهرن ) ، وقد ترجمه ماسرجويه ، اما في زمن عمر بن عبد العزيز .

**************************************************************
(1) تاريخ طب در ايران ج 2 ص 194 .
(2) تمدن اسلام وعرب ص 609 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 37 ـ

  او انه ترجمه في زمن مروان بن الحكم ، وبقى في خزائن الكتب حتى اخرجه ابن عبد العزيز الى الناس (1) .
  وثانيا : اننا نجدهم يقولون : ان ابن اثال طبيب معاوية ـ الذي قتل في زمنه ـ قد سبق الى ترجمة كتاب في الادوية المفردة من اليونانية الى العربية (2) ... وبمثل ذلك يرد على من زعم ان خالد بن يزيد كان اول من ترجم كتب النجوم والطب ... الخ (3) ، ويقول وجدي : ان ابن وحشية قد ترجم عن الكلدان كتابا في السموم وذلك في سنة 170 ميلادية (4) .
  وهو غلط ايضا ، فان ابن وحشية قد عاش في اواخر القرن الثالث ، وفي مطلع القرن الرابع الهجري (5) ، ومما ذكرنا نعرف عدم صحة قولهم : ان جورجس هو اول من ابتدأ في نقل الكتب الطبية الى العربية عندما استدعاه المنصور (6) .
  وعلى كل حال ... فانهم يقولون : ان الخليفة العباسي هارون قد ارسل الى روما من جلب له الكتب الخطية الطبية ... كما انه هو نفسه قد جلب معه مخطوطات من انقرة ، وعمورية وغيرها من بلاد الروم ، وطلب من يوحنا

**************************************************************
(1) عيون الانباء ص 232 عن ابن جلجل ، وتاريخ الحكماء ص 324 / 325 وتاريخ طب در ايران ج 2 ص 194 وراجع ص 215 ، وتاريخ الاطباء والحكماء لابن جلجل ص 133 الترجمة الفارسية وهوامشه ، والتراتيب الادارية ج 2 ص 269 / 270 عن تاريخ آداب اللغة العربية ج 1 ص 233 .
(2) تاريخ طب در ايران ج 2 ص 141 .
(3) البيان والتبيين ج 1 ص 328 ، وشرح نهج البلاغة ج 15 ص 258 ، والتراتيب الادارية ج 2 ص 268 / 269 عنهما وعن اوائل السيوطي انه اول من ترجمت له كتب الطب راجع محاضرة الاوائل ص 71 ، والاوائل للعسكري ج 2 ص 145 .
(4) دائرة معارف القرن العشرين ج 5 ص 665 .
(5) تاريخ طب در ايران ج 2 ص 294 .
(6) عيون الانباء ص 279 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 38 ـ

  بن ماسويه ، ان يترجمها من اليونانية الى العربية (1) .
  اما في زمن المأمون فقد بلغ هذا الامر ذروته ، حتى ليذكرون ، انه كان يعطى وزن ما يترجم له ذهبا (2) ، بل لقد ذكر وجدي : ان المأمون قد جعل بعض شروط الصلح مع اليونانيين اعطاءه نسخة من كتاب نادر الوجود (3) .
  كما انه قد ارسل جماعة الى بلاد الروم ليأتوه بالمخطوطات (4) .
  واسس دار الحكمة المشهورة ، وكان فيها قسم للترجمة .. وبعضهم ينسب دار الحكمة للرشيد ، لكن من المؤكد انها قد بلغت اوج عظمتها في عهد المأمون (5) ...
  كما ان الاهتمام بجمع المخطوطات لم يكن مقصورا على الخلفاء ، بل كان غيرهم من الاعيان يهتم بذلك ايضا (6) ...
  وقد نقلوا الى العربية كتاب جالينوس وابقراط وغيرهما ... ومن المعروفين بالنقل : حنين بن اسحاق ، وحبيش الاعسم (7) واصطفان بن بسيل ، وثابت بن قرة ، واسحاق بن سليمان ، وابن البطريق ، ومنكه الهندي ، وقسطا بن لوقا البعلبكي .

**************************************************************
(1) تاريخ الحكماء للقفطي ص 380 ، وعيون الانباء ص 246 ، وتاريخ طب در ايران ج 2 ص 207 / 208 .
(2) عيون الانباء ص 260 ، وتاريخ طب در ايران ج 2 ص 242 .
(3) دائرة معارف القرن العشرين ج 5 ص 665 .
(4) الفهرست لابن النديم ص 353 ، وعيون الانباء ص 260 ، وتاريخ طب در ايران ج 2 ص 208 وتاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص 157 .
(5) تاريخ طب در ايران ج 2 ص 302 ، وغيره .
(6) تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص 157 ، وتاريخ طب در ايران ج 2 ص 242 / 207 والفهرست لابن النديم ص 353 / 354 .
(7) ولعل بعض ما ترجمه حبيش ، قد نسب الى حنين ، بسبب اشتباه الاسمين حين القراءة بسبب عدم نقط الكلمات في السابق ، حتى قيل : من جملة سعادة حنين صحبة حبيش له فان اكثر ما نقله حبيش نسب الى حنين ، راجع : تاريخ مختصر الدول لابن العبري ص 145 / 146 وتاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص 160 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 39 ـ

  وابن دهن ، وغيرهم كثير ، فراجع الباب التاسع من عيون الانباء للاطلاع على اسماء الكثيرين منهم ...

المشتغلون بالطب في عصر الترجمة :
  اما الذين كانوا يمارسون الطب في عصر الترجمة ، فقد كان اكثرهم من غير المسلمين ... واكثرهم من نفس اولئك الذين كانوا يهتمون بالترجمة الى اللغة العربية ...
  وقد اشتهر في ذلك العصر من هؤلاء آل بختيشوع ، ابتداء من جرجيس الذي استقدمه المنصور من جنديشابور ، ثم ولده بختيشوع ، الذي استقدمه الرشيد ، (1) وجعله كبير ورئيس الاطباء ، ثم ابنه جبرئيل ، ثم ابنه بختيشوع ، الذي غضب عليه الواثق فاعاده الى جنديشابور وصادر كل مايملك ، ثم عاد فطلبه منها ، فوصلها بعد موت الواثق ... فاحتفى به المتوكل ، ثم يأتي عبيد الله بن بختيشوع .
  وهناك من مشاهير اطبائهم : يوحنا بن ماسويه ، الذي عينه المأمون رئيساً لبيت الحكمة سنة 215 ، وقسطا بن لوقا البعلبكي ، وثابت بن قرة ، وسعيد بن يعقوب ، وغيرهم كثيرون ...
  بين الشهرة ... والواقع :
  لقد اشتهر الجنديشابوريون في بادىء الامر بصناعة الطب ، بشكل ليس له مثيل ، وكان لتأييد الحكام لهم نصيب وافر من هذه الشهرة التي حصلت لهم ، وفي مقام التدليل على مدى همينة غير المسلمين في مجال الطب ، وانبهار الناس بهم

**************************************************************
(1) وقيل استقدمه المهدي لمعالجة ولده الهادي ، ثم عاد الى بلده ، فاستقدمه هارون راجع : مجلة الهادي سنة 2 عدد 2 ص 52 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 40 ـ

  وتبيعتهم لهم ، ولا سيما الجنديشابوريين منهم نذكر القصة التي رواها او صنعها الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ .
  وهي على النحو التالي :
  يقول الجاحظ :
  كان أسد بن جاني (1) رجلا طبيباً ، وفي فترة ما توقف عمله ، وكسدت سوقه ، فقال له احد الاشخاص : الاوبئة كثيرة في هذه السنة ، وقد انتشرت الامراض كثيرا بين الناس ، وانت رجل عالم ، ولك صبر واناة ، كما وانك خدوم للناس ، صاحب لسان ، وعارف بأحوال الناس ... ومع كل هذا فما هو السر في كساد سوقك ؟ !
  فأجاب : اولا : انني مسلم ، والناس قبل ان اكون طبيبا ، بل وقبل ان اخلق ، يعتقدون : ان المسلم لا يكون طبيبا ناجحا ...
  وثانيا : ان اسمى ( اسد ) في حين يجب ان يكون اسمى صليبا ، او مرابل ، او يوحنا ، او بيرا ... وكنيتي : ابو الحارث .
  في حين انها يجب ان تكون : ابا ـ عيسى ، او ابو زكريا ، او ابو ابراهيم ... وارتدى عباءة من الكتان الابيض (2) .
  في حين انه كان يجب ان البس عباءة من الحرير الاسود (3) نعم ...هكذا اصبح الناس

**************************************************************
(1) لانعرف عن هذا الرجل الا ما ذكره عنه الجاحظ ، ولاندري انه كان شخصية حقيقية او مخترعة للجاحظ ليعبر عن مفهوم معين بهذا الاسلوب الطريف .
(2) قال في عيون الانباء ص 654 : ( لما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن ايوب الكرك اتى الى دمشق موفق الدين يعقوب بن سقلاب النصراني ، وهو شاب على رأسه كوفية ، وتخفيفة صغيرة وهو لابس جوخة ملوطة زرقاء ، زي اطباء الفرنج ، وقصد الحكيم موفق الدين بن المطران وصار يخدمه ويتردد اليه لعله ينفعه ، فقال له : هذا الزي الذي انت عليه ما يمشي لك به حال في الطب في هذه الدولة بين المسلمين ، وانما المصلحة ان تغير زيك ، وتلبس عادة الاطباء في بلادنا ، ثم اخرج له جبة واسعة عنابية وبقياراً مكملا ، وامره ان يلبسهما ) انتهى ... وهذا يدل على تغيير الزي السابق المشار اليه في المتن .
(3) البخلاء ص 121 ط سنة 1960 وتاريخ طب در ايران ج 2 ص 204 ومجلة الهادي سنة 2 ـ عدد 2 ص 62 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 41 ـ

  يعتقدون في غير المسلمين ، وبالاخص الجنديشابوريين منهم ، كما ارادوا هم لانفسهم واراد لهم الحكام المتسلطون .
  وقد كان العلماء يلومون الخلفاء والوزراء في تعظيمهم النصارى للتطبب ، كما قدمنا ...
  ولكننا لو راجعنا الوقائع التاريخية ، واردنا ان نحكم عليها حكم المنصف والمتجرد عن كل هوى وتعصب ، فاننا نجد :
  انه لم يكن لدى الاطباء غير المسلمين تلك البراعة الخارقة للعادة في صناعة الطب ، وان كان لهم الفضل في نقل تراث الامم الاخرى الى لغة الاسلام ...
  وكمثال على ذلك نذكر : ان سلمويه يعتبر يوحنا بن ماسويه مثلا وهو اشهر طبيب في عهد المأمون من اجهل خلق الله بمقدار الداء والدواء (1) .
  كما ان ابا قريش (2) قد كان عند المهدي : ( نظير جرجس بن جبرائيل في المرتبة ، بل اكبر منه حتى تقدمه في المرتبة ، وتوفى المهدي واستخلف هارون الرشيد ، وتوفى جرجس ، وسار ابنه ( اي بختيشوع ) تبع ابي قريش في خدمة الرشيد ... (3) ) .
  ولكن التجليل والتعظيم ، والصيت الواسع كان لبختيشوع ، دون ابي قريش .. كما اننا نجد ان هذا الصيت العظيم للاطباء من غير المسلمين ، قد اثر على التاريخ كما يظهر ذلك من ملاحظة الموسوعات ، وكتب التراجم .
  فانهم يهتمون جدا في ترجمة الاطباء غير المسلمين ويطنبون فيها كثيرا ... اما الطبيب المسلم الحاذق

**************************************************************
الهادي سنة 2 عدد 2 ص 62 .
(1) تاريخ الحكماء ص 385 وعيون الانباء ص 237 .
(2) يقال : ان المهدي كناه بهذا اشارة الى عظمته التي جعلته بمنزلة اب للعرب كلهم حين يكون ابا لقريش ـ راجع عيون الانباء ص 216 .
(3) عيون الانباء ص 216 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 42 ـ

  العظيم فان ترجمته لاتتجاوز الاسطر القليلة ، الا اذا كان مثل الرازي ، وابن سينا اللذين لايمكن تجاهلهما ...
  يكفى ان نذكر : اننا نلاحظ : انهم يترجمون الزهراوي الذي اعتمد عليه الاوروبيون في الطب الجراحي وغيره لم يترجم الا بثلاثة اسطر ، وكذا بالنسبة لعلي بن العباس وقد اشرنا الى ذلك فيما تقدم .
  وقد بدا ان اهل جنديشابور كانوا مغرورين بأنفسهم جدا ، وقد تجاوزوا الواقع في تصوراتهم لقدراتهم الحقيقية ، حتى ليقول القفطي :
  ( ان الجنديشابوريين كانوا يعتقدون انهم اهل هذا العلم ، ولا يخرجونه عنهم وعن اولادهم وجنسهم ) (1) :
  نعم ... ولكن نجم جنديشابور قد افل ، واشعاعها قد خبا ، بنبوغ مهرة الاطباء ، افذاذ الفن واساطينه من المسلمين ـ وما اكثرهم ... وآخر من ورد اسمه كرئيس لمستشفى جنديشابور هو سابور بن سهل المتوفى سنة 255 (2) .
  وأخر وقعة ورد فيها اسم جنديسابور هي ما بين سنة 262 ـ 265 حيث يذكرون ان يعقوب بن ليث الصفار قد جعل جنديشابور مقرا له ، حينما تأهب لفتح خوزستان (3)

**************************************************************
(1) تاريخ الحكماء ص 174 ومجلة الهادي السنة 2 عدد 2 ص 62 في مقال للدكتور محمدي بعنوان : جامعة جنديشابور .
(2) راجع : الفهرست لابن النديم ص 413 .
(3) تاريخ الطبري مطبعة الاستقامة ج 8 ص 34 وعنه في مجلة الهادي سنة 2 عدد 56 مقال الدكتور محمدي ومعجم البلدان ج 2 ص 170 و 171 وفيه ان يعقوب بن الليث مات بها سنة 65 وقبره بها ...

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 43 ـ

حركة التأليف وازدهار الطب عند المسلمين :
  وكانت العلوم في فترة حركة الترجمة تنضج شيئا فشيئا لدى المسلمين ، وبدأت منذ عصر الترجمة حركة التأليف شيئا فشيئا ، ونشطت كثيرا في النصف الثاني من القرن الثالث ، وبدأ دور الترجمة بالتراجع والتقلص بنسبة ازدياد النشاط العلمي والتأليفي في البلاد .
  ويظهر : ان التأليف الاسلامي قد بدأ من النصف الاول من القرن الثالث ، حيث نجدهم يذكرون بعض المؤلفات لعلي بن ربن الطبري وغيره من الاطباء المسلمين ، الذين عاشوا في القرن الثاني ومطلع القرن الثالث ، هذا ... ان لم نقل : ان الحارث بن كلدة ـ اول مسلم الف في الطب ... على فرض ثبوت ذلك ... كما اشرنا اليه فيما تقدم ... (1) .
  والمهم هنا هو اننا نلاحظ : ان المسلمين قد عنوا بالطب عناية فائقة ، ونبغ منهم علماء كبار ، وجهابذة افذاذ انسوا من كان قبلهم ، ومهدوا السبيل لمن جاء بعدهم ، وعلى اساس نظرياتهم ، وابتكاراتهم ، ومنجزاتهم كانت النهضة الكبرى في القرن العشرين ، اي الرابع عشر الهجري ... فهم وحدهم آباء هذا العلم ـ كما كانوا آباء غيره من العلوم ـ في العصر الحديث .   كما اننا نجد : ان بغداد مقر الخلافة العباسية لم تعد هي المركز الطبي الوحيد ، فان انقسام الدولة الاسلامية الى ممالك صغيرة مستقلة قد حمل معه ظاهرة تكون مراكز كثيرة للعلوم الطبية في مختلف انحاء العالم الاسلامي ، كغزنة ، والقيروان ، ومصر وغيرها ، الامر الذي هيأ الجو لظهور نوابغ في هذا العلم في مختلف ارجاء الدولة الاسلامية ... ومهد السبيل لتخرج اعداد هائلة من الاطباء

**************************************************************
(1) وقد الف اسحاق بن حنين كتاب : تاريخ الاطباء ( الفهرست لابن النديم ص 429 ) ولعله من اول من صنف في موضوع تاريخ الطب ، ان لم يكن هو الاول ...

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 44 ـ

  من مختلف الاختصاصات ، ومن ثم انتاج اعداد ضخمة جدا من المؤلفات في هذا العلم ، لم يستطع المؤلفون في التراجم والموسوعات حتى احصاء اسمائها ، مع شدة عنايتهم بذلك ، واصرارهم عليه ... وعلى مؤلفات المسلمين ، ومنجزاتهم العلمية كانت النهضة الطبية المعاصرة ، كما سنشير اليه ... ونستطيع ان نجمل مظاهر الحضارة الاسلامية في المجال الطبي واثر المسلمين في النهضة الطبية الكبرى في العناوين والبحوث التالية :

المؤلفات الطبية واثرها في النهضة الاخيرة :
  يقول الدكتور فيليب حتى : ( في القرن العاشر للميلاد ظهر اطباء مسلمون من المرتبة العالية اغنوا بمؤلفاتهم التراث الطبي في الشرق وفي الغرب ، وكان معظم اولئك الاطباء من الفرس انما كانوا يؤلفون كتبهم باللغة العربية ) (1) .
  وعن كتاب القانون لابن سينا يقول : ( وقد ترجمه الى اللاتينية جرارد الكرموني في طليطلة في القرن الثاني عشر ، فاحتل بذلك محل الكتب المدرسية الطبية السابقة ، وظل كتابا مدرسيا قرونا عديدة .
  اما في الشرق فقد ظل كتاب القانون في الطب المرجع الاوحد في الطب ، الى ان حل محله الكتب الطبية العصرية التي ظهرت في القرن التاسع عشر ) (2) .
  اما محمد الخليلي ، فيقول : انه قد نشر من كتاب القانون طبعة عربية في روما سنة 1593 م وفي بولاق مصر سنة 1877 م وفي الهند سنة 1323 م .
  وظهرت له في اوربا عدة شروح ، وترجمت اجزاء اخرى منه الى اللغة الافرنسية ، والالمانية ، والانجليزية ، وغيرها من لغات اوربا ، كما ترجمت الى التركية ، والفارسية .
  وبالجملة : فقد كان القانون من اجل الكتب التي تدرس في جامعتي ( مونبليه )

**************************************************************
(1) موجز تاريخ الشرق ص الادنى 192 .
(2) المصدر السابق ص 194 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 45 ـ

  و ( لوفان ) الى اواسط القرن السابع عشر ، كما كان البرنامج الطبي في قينا سنة 1520 م وفي فرنكفورت سنة 1558 م اكثره على القانون ، وعلى المنصوري .
  قال العلامة ساربوري في كتابه : تاريخ العلم : كان كتاب القانون ذلك المعلم الطبي العظيم توراة الطب ، اي دستوره المقدس .
  وقال الدكتور ( ماكس ما يرهوف ) في كتابه : تراث الاسلام : ان ابن سينا قد جمع في قانونه تراث اليونان الى اختبار العرب ، فكان اسمى ما بلغه من التنظيم العلمي العربي . ثم قال في موضع آخر : والمرجح انه لم يوضع في تاريخ الطب كتاب عنى العلماء بدراسته كهذا الكتاب ، اي القانون .
  ولكن منذ القرن السابع عشر الى التاسع عشر وضعت كتب افرنجية زاحمت القانون في نفوذه ، وان كان تأثيره لم ينقطع تماما ... (1) انتهى .
  والخلاصة : ان اوربا قد ظلت قرونا عديدة وكتب الشيخ الرئيس مرجعها الوحيد في الدراسة الطبية والفلسفية (2) .
  وكان ابن سينا يلقب في اوربا بملك الاطباء ، وظل كتابه يدرس الى سنة 1650 م في جامعة لوون في بلجيكا ، ومنبلييه في فرنسا (3) ...
  ويقول فيليب حتى عن كتاب ( الملكي ) لعلي بن العباس : انه الكتاب الوحيد الذي نقله الصليبيون الى اللغة اللاتينية .
  وقد ظل كتابا مدرسيا في الشرق والغرب الى ان حل محله الكتاب الذي وضعه ابن سينا ، وهذا اشبه بموسوعة طبية ) (4) .

**************************************************************
(1) راجع : معجم ادباء الاطباء ج 1 ص 116 .
(2) المصدر السابق ج 1 ص 115 .
(3) تاريخ طب در ايران ج 2 ص 569 .
(4) موجز تاريخ الشرق الادنى ص 193 وراجع : تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص 199 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 46 ـ

  ويذكر كوستاف لوبون : ان كتاب الملكي قد ترجم سنة 1127 وطبع في سنة 1523 م (1) .
  كما ان كتاب الحاوي للرازي قد ترجم الى اللاتينية ، وطبع مرارا ( يستعمل ككتاب مدرسي في المعاهد الطبية الاوربية ، ان علم الرازي وفضله على العلوم الطبية يرفعان من قدره ، ويجعلانه يحتل مرتبة بين عظماء المفكرين الخلاقين في اوربا الوسيطة ... ) (2) .
  وعلى كل حال ... فان كتب الرازي قد بقيت مدة طويلة جزءاً من الكتب الدراسية حتى القرن السابع عشر .
  وكذلك كتب ابن سينا ، ويوجد بها فرمان لمدرسة دار الفنون مؤرخ في سنة 1617 ميلادية (3) .
  ولم يقتصر الامر على كتاب الحاوي من مصنفات الرازي ، بل ان اكثر مصنفاته قد ترجمت الى اللاتينية وطبعت مرارا ابتداء من سنة 1509 ميلادية (4) .
  اما كوستاف لوبون فقد اجمل ما تقدم بقوله : ( لقد ترجمت كتب ابن سينا الى مختلف لغات الدنيا ، وبقيت حوالي ستة قرون تعتبر اصول ومباني الطب ، كما ان مدارس الطب ، وخصوصا دار الفنون في فرنسا وايطاليا كانت تقتصر على تدريس كتبه ، ولم يمض خمسون سنة ، على خروج كتبه من الدراسة في فرنسا ...
  ولايقصر عن ذلك اهتمام الاروبيين بكتب الرازي ترجمة وتدريسا . وهناك كتب ابن رشد الطبية التي طبعت مرارا في اوربا ، كذلك كتاب علي بن عباس ... .
  واكثر من ذلك ، فان كل الجراحين الذين جاؤا بعد القرن الرابع عشر للميلاد قد اعتمدوا ـ كما يقول هالر ـ على كتب الزهراوي الاندلسي ( المعروف

**************************************************************
(1) تمدن اسلام وعرب ص 611 .
(2) راجع : موجز تاريخ الشرق الادنى ص 193 .
(3) راجع : تمدن اسلام وعرب ص 610 .
(4) المصدر السابق ...

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 47 ـ

  بالبقاسس ) المتوفى سنة 1107 ميلادية ، صاحب كتاب : التصريف لمن عجز عن التأليف ، وقد اخترع هذا العالم بنفسه كثيرا من آلات الجراحة ، وبحث عن تفتيت الحصاة بشكل كامل ، مع ان هذا يعد ( غلطا ) من الاعمال الجديدة ، واول طبعة لكتابه باللاتينية كانت سنة 1497 وآخرها سنة 1861 ميلادية الخ كلامه (1) .
  وهناك ايضا كتاب التيسير لابن زهر الاندلسي ، الذي عاش في القرن السادس للهجرة ، وقد استفاد منه الافرنج في نهضتهم الحديثة (2) ويقول بروكلمان عن كتاب الزهراوي المنسوب الى الزهراء ضاحية في قرطبة ، والمتوفى سنة 1023 : ( والحق ان الاجيال التالية احتفلت احتفالا خاصا بالجزء المفرد للجراحة في هذا الكتاب بما يشتمل عليه من وصف مفصل للالات الجراحية ، فنقل الى اللاتينية في القرن الخامس عشر ، ونشر في طبعات عدة ) (3) .
  هذا ... وبمراجعة بسيطة الى لوائح مؤلفات الاطباء المسلمين والفروع التي تطرقوا اليها يعرف الى اي حد بلغ الطب عندهم في تشعباته وفروعه المختلفة ... ويكفى ان نذكر ان البعض يعتبر انه بعد ان شرع المسلمون يعملون مستقلين ، برز عطاؤهم المبتكر بصورة خاصة في حقل التطبيب ، وفي الرياضيات والجغرافيا (4) .
  وقد فاته انهم قد برز عطاؤهم المبتكر في غير ذلك من العلوم ايضا كالكيمياء وغيرها ، وقد يكون من بينها ما ابدعوا فيه اكثر من ابداعهم في هذه العلوم التي اشار اليها .
  واخيرا ... فان كوستاف لوبون يقول : بما ان الكتب الطبية العربية قد

**************************************************************
(1) تمدن اسلام وعرب ص 609 ـ 614 بتصرف وتلخيص .
(2) تاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني ص 200 .
(3) تاريخ الشعوب الاسلامية ص 314 .
(4) موجز تاريخ الشرق الادنى ص 191 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 48 ـ

  ترجمت عموما الى اللغات الاوربية ، فانها لم تتعرض للضياع كثيرا ، كما كان الحال بالنسبة لسائر الكتب (1) .
  ولكن الحقيقة هي : ان من يراجع كتب الموسوعات والتراجم يجد اسماء آلاف من الكتب الطبية فيها ـ وهم لم يذكروا الا قسما محدودا منها ـ ولم يوجد لها في هذه الايام عين ولا اثر ، فليراجع على سبيل المثال : كتاب : كشف الظنون ، وعيون الانباء ، وتاريخ الحكماء ، والفهرست لابن النديم وغيرها ليجد ان معظم الكتب الطبية الاسلامية ولا تعرف الا اسماء عدد محدود منها .

بعض منجزات المسلمين الطبية :
  انه لا ريب في ان الطب كان يعتبر في شرق البلاد الاسلامية وغربها من ارفع العلوم شأنا ، واسماها مقاما ، كما اشار اليه البعض (2) .
  كما انه لا ريب في ان للمسلمين بحوثا عميقة في الطب ، وحصلوا على نتائج كبيرة فيه (3) وقد طوروا علم الطب ، وفن الجراحة الى اعلى الدرجات (4) .
  وبقيت اوربا تعتمد على تصانيفهم في الجراحة حتى الازمنة المتأخرة ، وكذا استعمالهم البنج في الجراحة ، وغير ذلك كثير ... وقد اكتشفوا الكثير من المعالجات التي لا تزال متداولة الى اليوم (5) .
  كما ان الرازي هو اول من استعمل السبيرتو ، والفتيلة ذات الطرفين في معالجة الجراح ، كما انه اول من استعمل الماء البارد في الحمى الدائمة (6) .

**************************************************************
(1) تمدن اسلام وعرب ص 608 .
(2) تاريخ الشعوب الاسلامية لبروكلمان ص 314 .
(3) تمدن اسلام وعرب ص 608 .
(4) مختصر تاريخ العرب ص 283 ، وتمدن اسلام وعرب ص 616 .
(5) راجع : تمدن اسلام وعرب ص 616 .
(6) تمدن اسلام وعرب ص 609 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 49 ـ

  قال محمد الخليلي عن الرازي : ( هو اول من اكتشف زيت الزاج المسمى اليوم حامض الكبريتيك ، ويدعى في اللغة العربية الزاج الاخضر ، وكان قبلا يسمى زيت الرازي ، وقد استخرجه من كبريتات الحديد ، وطريقة استعماله لا تزال مستعملة كما هي ، وهو اول من استخرج الكحول ( اي السبيرتو ) ، واستحضرها من المواد النشوية والسكرية المختمرة : وهو اول من عرف الجدري وعزل المصابين به في مستشفاه ، وامر بعزلهم في البيوت .
  وهو اول من عرف الامراض السارية ، وهو اول من اخترع الخلال المعروف عند اطباء العرب ، وهو ان يثقب الجلد ، ويمرر فيه غليظ ليسيل الصديد من الدنبلة ، او اي ورم اخر ... انتهى ) (1) .
  وعلى كل حال فان في اكتشاف الرازي للسبيرتو ، واسيد السولفوريك يكون قد اسدى خدمة جلى للطب (2) .
  اما الفتائل ذات الطرفين ، والمشار اليها آنفاً ، فانها كانت لا تزال مستعملة الى اواسط النصف الاول من القرن الرابع عشر الهجري .
  كما ان الرزاي هو اول من شرح تشعبات الاعصاب في الرأس والرقبة بشكل واف وواضح ، وهو اول من اجرى عملية خياطة جرح المعدة بواسطة المصران المعوج في الغنم ، كما انه اول من اكتشف الطب المفصلي ، واستعمل القطن (3) .
  ويقول فيليب حتى : ( ... وقد الف الرازي اقدم كتاب طبي يميز فيه سريريا بين الحصبة والجدري ، ولسنا نعلم : ان الاغريق او غيرهم من الشعوب توصل الى هذه المعرفة قبل عهد الرازي ) (4) .

**************************************************************
(1) معجم ادباء الاطباء ج 2 ص 74 .
(2) تاريخ طب در ايران ج 2 ص 414 .
(3) راجع : تاريخ طب در ايران ج 2 ص 428 و 421 .
(4) موجز تاريخ الشرق الادنى ص 192 ، وراجع تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص 203 .

  الآداب الطبية في الاسلام   ـ 50 ـ

  ويضيف : ( ان علم الرازي وفضله على العلوم الطبية يرفعان من قدره ويجعلانه يحتل مرتبة بين عظماء المفكرين الخلاقين في اوربا الوسيطة . ) (1) ولست ادري اين هؤلاء العظماء الخلاقون في اوربا الوسيطة ؟ ! وهل كان في اوربا آنذاك عظيم ؟ ! او ليست اوربا لا تزال تعتمد على علم الرازي وامثاله من علماء المسلمين حتى الامس القريب ؟ ! ...
  او ليس يقولون ؟ ان محمد بن احمد الحتاتي الذي نشأ في القاهرة ، والمتوفى سنة 1052 هـ قد : ( رحل الى الروم ، ومكث بها مدة طويلة ، ولم يسعفه الدهر بما يروم ، فتنقل في المدارس حتى صار رئيس الاطباء في اسكى سرايا ثم رجع الى القاهرة ؟ (2) ) .
  ويدعى فيليب حتى : ان من مبتكرات كتاب الملكي لعلي بن العباس ( اشارة الى وجود الحركة الدموية الشعرية ، والى ان الطفل عند الولادة لا يخرج من تلقاء نفسه ، بل بفضل تقلصات عضلية الرحم (3) ) .
  وقد فاته ان الحقيقة هي : ان الامام الصادق عليه السلام هو اول من نبه الى حقيقة الدورة الدموية وشرحها واوضحها بشكل واف وكامل ، كما اثبته محمد الخليلي في كتابه : ( طب الامام الصادق عليه السلام ) (4) وقرر انه قد سبق هارفي ، الذي لايزال الكثيرون يهللون ويكبرون ويهتفون باسمه على انه هو مكتشف الدورة الدموية ، وقد سبق بها غيره ...

المنجرات الطبية لابن سينا :
  وعن ابن سينا وقانونه في الطب ، نجدهم يقولون : ان من حسنات

**************************************************************
(1) موجز تاريخ الشرق الادنى ص 193 .
(2) معجم ادباء الاطباء ج 2 ص 55 تأليف محمد الخليلي .
(3) موجز تاريخ الشرق الادنى ص 193 .
(4) طب الامام الصادق ( ع ) ص 30 / 31 .