من رواتها ، وعلمائها ، ومحدّثيها ، وفقهائها ، وقد نقل الشيخ من كلامهم المقرون بدعوى الإجماع والقطع ما فيه مقنع وكفاية ، فراجع (1).
ولعلّ الشيخ فهم من هذا الكلام ما صرّح به بعض تلامذته أعني لزوم نصب طريق تعبّدي غير ما جرى عليه سيرة العقلاء ، كما ينبئ عنه تقييده الطريق بالخاصّ ، واحتماله الإرجاع إلى الطرق التي جري عليها ديدن العقلاء في امتثال أحكام الملوك إلى آخره.
فإن كان ذلك ، فلا يخفى على المتأمل في كلامه أنّه لا عين ولا أثر فيه للطريق بهذا المعنى ، وحسبه أن يكون هناك طرق عقلائية قد أمضاها الشارع ، واكتفى بها في امتثال أوامره ونواهيه ، وأمر بسلوكها ، واعتمد في إطاعته عليها ، ولا شك أنّ خبر الثقة الضابط من أظهر افرادها ، وأوضح مصاديقها ، وموافقة الطريق الشرعي لطريقة العقلاء ممّا يقويه ولا يوهنه ، فأيّ داع يدعو الشارع إلى الطريق المخترع ، وأيّ داع يدعو صاحب الفصول إلى تكلّف إثباته ؟ وأنت تعلم بأنّه ذكر هذا الدليل على إثبات حجّية الخبر الّذي عرفت أنّه أصحّ طرق العقلاء.
وما ذكره من أنّ تلك الطرق لو كانت لاشتهرت اشتهار الشمس في رابعة النهار ، فقد حصلت ولله الحمد والمنة ، ودلّت الأدلّة الواضحة على حجّية الشريفين : الكتاب والسنّة ، وإن كان ثمّة ريب فهو في حدّ السنّة أو تعيين مصاديقها ، كما ستعرف إن شاء الله.
وما ذكره خلال كلامه من احتمال إحالة الشارع العباد في طريق امتثال أحكامه إلى ما هو المتعارف بينهم في امتثال أحكامهم العرفية ، إلى آخره (2).
فإن كان مع التمكن من الحجّة عندهم كخبر الثقة ، فاعتماد العقلاء على الظنّ ممنوع ، فلو فرض أنّ أحدهم نصب طريقا لعبده في امتثال أوامره ، وصرّح له بأنّه جعل خبر فلان حجّة عليه ، أتراه يعذره إذا ترك الأخذ به ، واعتمد على ظنونه ؟ .
وأمّا مع عدم التمكن منه ، فلا شك في جميع ما ذكره حتى فيما استعاذ منه هنا ، وفي مواضع اخر ، أعني تعيّن الامتثال بالاحتمال إذا فقدت الطرق الظنّية.
والحاصل ، أنّ جميع ما مرّ من كلامه ، وشطرا ممّا يأتي منه يرد على صاحب الفصول لو أراد وجوب نصب الطريق غير العقلائي عقلا ، ويصحّ ما ذكره في دفع ما يقال من أنّ منع نصب الطريق لا يجامع القول ببقاء التكليف ، وأمّا مع كون المراد ما يعمّ الجعل والإمضاء ، فلا سبيل إلى منع قبح التكليف ، وحكم العقل بالعمل بالظنّ مع عدم الطريق الخاصّ لا يرفع وجوب نصب الطريق على الشارع.
ولقد حمل بعض تلامذة الشيخ نصب الطريق في كلام صاحب الفصول على غير ذلك ، فأطنب بل أفرط في الاعتراض عليه.
وقد أنصف الأستاذ في الحاشية حيث لم ينكر كون المراد من الطرق الخاصة ما يعمّ ما نصبها من الطرق المتعارفة بين العقلاء إمضاء لسيرتهم ولو بعدم الردع عنه ، قال : ( ومعه لا مجال لعدم نصبها ، ودعواه بيّنة ، وإنكاره مكابرة ) (1).
وما ذكره من اعتراف صاحب الفصول بما نقله عنه فلم يظهر لي ارتباطه بالمقام إلاّ بتكلّف ، فهل كان المتوقع منه أن يقول بلزوم نصب الطريق إلى تلك الطرق ، فيلزمه لزوم نصبه إلى طريق الطريق وهكذا إلى ما لا نهاية له ؟! عاد كلامه طاب ثراه : ( وربما يستشهد للعلم الإجمالي بنصب الطريق
--------------------
(1) حاشية فرائد الأصول : 87.
وقاية الاذهان
_ 713 _
أنّ المعلوم من سيرة العلماء في استنباطهم هو اتّفاقهم على طريق خاص وإن اختلفوا في تعيينه ، وهو ممنوع.
أولا : بأنّ جماعة من أصحابنا كالسيد رحمه الله وبعض من تقدّم عليه وتأخّر عنه منعوا نصب الطريق الخاصّ ، بل أحاله بعضهم.
وثانيا : لو أغمضنا عن مخالفة السيد وأتباعه ، لكن مجرّد قول كلّ من العلماء بحجّية طريق خاص أدّى إليه نظره لا يوجب العلم الإجمالي بأنّ بعض هذه الطرق منصوبة لجواز خطأ كلّ واحد منهم فيما أدّى إليه نظره ، واختلاف الفتاوى في الخصوصيّات لا يكشف عن تحقّق القدر المشترك ، إلاّ إذا كان اختلافهم راجعا إلى التعيين على وجه ينبئ عن اتّفاقهم على قدر مشترك نظير الأخبار المختلفة في الوقائع المختلفة ، فإنّها لا توجب تواتر القدر المشترك إلاّ إذا علم من أخبارهم كون الاختلاف راجعا إلى التعيين ، وقد تحقّق ذلك في باب التواتر الإجمالي والإجماع المركّب ) (1).
أقول : أمّا اعتراضه الأول فقد كفانا بنفسه ـ طاب ثراه ـ مئونة الجواب عنه بما سبق منه في تقرير السيرة والإجماع بوجوه عديدة ، وبيان عدم قدح مخالفة السيد في انعقاده ، واعتذاره عنه بأعذار شتّى ، وادّعاؤه الإجماع حتى منه مع عدم التمكن من العلم أو مطلقا ، فنحن نذكره بما ذكره ، ونأمر الناظر بالرجوع إليه ، فلعمر الحقّ إنّه لم يبق في القوس منزعا ، ولا للزيادة عليه موضعا ، وكذا فيما ذكره ثانيا ـ وما ذكره إلاّ جدلا ـ لأنّ من المعلوم لدى من له أدنى تأمّل بطريقتهم ، وتتبّع في كلماتهم أنّ خبر الثقة الثبت ، الحاوي للشرائط ، الخالي عن العلّة والمعارض ، متّفق عليه عندهم ، فترى أحدهم إذا استدلّ بخبر على حكم فرعي لا يردّه خصمه إلاّ بضعف الراوي ، أو جهالته ، أو شذوذه وندرته ، أو بوجود
--------------------
(1) فرائد الأصول : 130.
وقاية الاذهان
_ 714 _
المعارض له ، أو بإعراض الأصحاب عنه ، ونحو ذلك ، ولا ترى أحدا من متقدّميهم ومتأخريهم يسلّم منه اجتماع الشرائط ، وفقدان الموانع في خبر ، ثم يخالفه فيه ، ويفتي بخلافه ، وإن كنت على شك منه ـ وحوشيت عنه ـ فما عليك لو راجعت كتب الأصحاب وتصفّحتها بابا بعد باب ، فلا ترى أن فعلت في المسائل الخلافية إلاّ الاتّفاق على ما قلناه ، ولا يكون سبب الاختلاف إلاّ الاختلاف في شرطية أمر في الحجيّة ، أو حصول الشرط وعدمه ، فمنهم من يكتفي بكون الراوي ثقة وإن كان فاسد المذهب ، ويخالفه من يشترط فيه أن يكون إماميّا ، ويرى أحدهم ضعف محمد بن سنان فيطرح روايته ، ويرى غيره خلاف ذلك فيعمل بها ، وربما تعارضت الأخبار فاختلفت في جهات الترجيح الأنظار ، إلى غير ذلك من الجهات الكثيرة التي ليس المقام مقام عدّها واستقصائها.
وعلى هذا المنهج الواضح ترى نهج جميعهم في جميع كتب الفقه من عباداتها ، ومعاملاتها ، وحدودها ، ودياتها ، ولا نرى متّسما بسمة العلم يسلّم صحّة الخبر الّذي يستدلّ به خصمه ، ويسلّم خلوّه عن العلّة والمعارض ، ثم يخالفه ، ويذهب إلى غيره إلاّ أن يكون السيد أو أحد أتباعه ، وقد سمعت من الشيخ الوجه في عدم قدح ذلك فيما نحن بصدده.
أو بعد هذا كلّه يبقى أدنى ريب في أنّ الخبر الصحيح الخالي عن العلّة والمعارض بعنوان أنّه خبر كذلك مسلّم حجّيته عندهم ؟
وهل يحسن أن يقاس ذلك بما ذكره الشيخ في ردّ دعوى الإجماع حتى من السيد وأتباعه؟ وهو قوله : ( ألا ترى أنه لو اتّفق جماعة ـ يعلم رضاء الإمام بعملهم ـ على النّظر إلى امرأة ، لكن يعلم أو يحتمل أن يكون وجه نظرهم كونها زوجة لبعضهم ، وأمّا لآخر ، وبنتا لثالث ، وأم زوجة لرابع ، وبنت زوجة لخامس ) (1) أليس الفرق بين هذا المثال وبين
--------------------
(1) فرائد الأصول : 101.
وقاية الاذهان
_ 715 _
المقام أبين من فلق الصباح ؟
عاد كلامه : ( وربّما يجعل تحقق الإجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه ولو مع انسداد باب العلم كاشفا عن أنّ المرجع إنّما هو طريق خاص ، وينتقض أولا بأنه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق أيضا طريقا خاصّا للإجماع على المنع عن العمل فيه بالقياس ، ويحلّ ثانيا بأنّ مرجع هذا إلى الإشكال الآتي في خروج القياس عن مقتضى دليل الانسداد ، فيدفع بأحد الوجوه الآتية ) (1).
أقول : يأتي آخر البحث ـ إن شاء الله ـ بيان أنّ المنع عن القياس وأضرابه من أقوى الأدلّة على المذهب الحقّ من انحصار الامتثال في الطرق الشرعية ، وبطلان الظنّ المطلق ، ونقتصر هنا على نقل كلامه الّذي صرّح فيه باختياره هذا الّذي تصدّى لرده.
قال طاب ثراه في الجواب عن الدليل الأول من الأدلّة التي ذكرها لحجّية مطلق الظن من غير خصوصيّة للخبر ما نصه : ( استحقاق الثواب والعقاب إنّما هو على تحقّق الطاعة والمعصية اللتين لا تتحققان إلاّ بعد العلم بالوجوب والحرمة أو الظنّ المعتبر بهما ، وأما الظنّ المشكوك الاعتبار فهو كالشك ، بل هو هو بعد ملاحظة أنّ من الظنون ما أمر الشارع بإلغائه ويحتمل أن يكون المفروض منها ) (2).
انتهى المقصود نقله من جوابه الّذي ارتضاه ، وصريحه : أنّ المنع عن بعض الظنون يجعل الظنّ المشكوك الاعتبار كالشك ، بل يحوّله إلى الشك ، ويجعله هو هو بعينه لا يتحقق به طاعة ولا معصية ، ولا يستحق به ثواب ولا
عقاب ، فما ذا الّذي نقمه من هذا القول وقد قال بمثله ، وبلغ في المبالغة فيه إلى حدّ لم يصل إليه هذا القائل ، حيث جعل الظن غير المعتبر شكّا بالحمل الشائع.
هذا وأما الإجماع الّذي ادّعاه فيحقّ لنا أن نسأل عنه ونقول : هل هو محصّل أو منقول ؟ فما طريق تحصيله إن كان محصّلا ؟
ومن الناقل له إن كان منقولا ؟ ومن الطريف جدّاً أنّ الإجماع على عدم جواز العمل بالقياس في نفس الأحكام الشرعية حال الانسداد ممّا ينكره مثل المحقق القمي (1) ، ويجعله الشيخ أول الأجوبة عن إشكال خروج القياس (2) ، مع تلك التصريحات الكثيرة من أئمة العلم ـ قديمهم وحديثهم ـ بإجماع الشيعة على بطلانه ، وتركهم كتب مثل الإسكافي أحد السلف الّذي عزّ في الخلف مثله ، ومع تواتر النصوص الواردة في بطلانه ، ثم يدّعي الإجماع على عدم الجواز في تعيين الطريق به الّذي لم يصرح به أحد ، ولا جاء فيه خبر واحد ، ولم يوجد إلاّ في صحيفة الاحتمال.
وليكن الأمر كما ذكره في حلّ الإشكال من أنّ مرجع هذا الإشكال في خروج القياس ، فما الّذي يمنع صاحب الفصول من دفعه بأحد تلك الوجوه ؟ وإذا كان القائلون بالظن المطلق يمكنهم الجواب عن خروج القياس في نفس الأحكام الشرعية ، على أنّ دليلهم بزعمهم عقلي لا يقبل التخصيص ، أفلا يمكن القائل بالظن الخاصّ أن يأتي بمثله أو بأحسن منه ؟ مع أنّ عمدة مقدّمات دليله النقل ، فيجيب عن هذا النقض تارة بالتزام الجواز وهو أهون بكثير من التزام الفاضل القمي من جوازه في نفس الأحكام أو يدّعي عدم حصول الظن منه بعد ورود النهي عنه ، وما المجازفة فيه بأشدّ منها في عدم حصول الظن منه في
--------------------
(1) انظر قوانين الأصول 1 : 449.
(2) فرائد الأصول : 157.
وقاية الاذهان
_ 717 _
نفس الأحكام ، وهكذا في عدّة أخرى من تلك الوجوه.
عاد كلامه : ( فإن قلت : ثبوت الطريق إجمالا ممّا لا مجال لإنكاره حتى على مذهب من يقول بالظن المطلق ، فإنّ غاية الأمر أنه يجعل الظن المطلق طريقا عقليا رضي به الشارع فنصب الشارع الطريق بالمعنى الأعمّ من الجعل والتقرير معلوم ، قلت : هذه مغالطة ) إلى آخره ، ثم أخذ في بيان المغالطة بما أصاب به شاكلة الصواب ، وأجاب عنها بأحسن جواب (1) ، ونحن لم نرض بقول هذا القائل ، فلا يهمّنا الدفاع عنه.
عاد كلامه ( وثانيا : سلّمنا نصب الطريق لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم ، بيان ذلك : أنّ ما حكم بطريقيته لعلّه قسم من الأخبار ليس بأيدينا اليوم إلاّ قليل ، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعلي بالصدور الّذي كان كثيرا في الزمان السابق لكثرة القرائن ، ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان ، أو خبر العادل ، أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو بالبيّنة الشرعية أو الشياع مع إفادته الظن الفعلي بالحكم ، ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان ، إذ غاية الأمر أن نجد الراوي في الكتب الرجالية محكي التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشي أو النجاشي وغيرهما ، ومن المعلوم أنّ مثل هذا لا يعدّ بيّنة شرعيّة ، ولذا لا يعمل بمثلها في الحقوق ، ودعوى حجّية مثل ذلك بالإجماع ممنوعة ، بل المسلّم أنّ خبر المعدّل بمثل هذا حجة بالاتفاق العملي ، لكن قد عرفت سابقا عند تقرير الإجماع على حجّية الخبر الواحد ، أنّ مثل هذا الاتّفاق العملي لا يجدي في الكشف عن قول الحجّة ، مع أنّ
--------------------
(1) فرائد الأصول : 131.
وقاية الاذهان
_ 718 _
مثل هذا الخبر في غاية القلّة ، خصوصا إذا انضمّ إليه إفادة الظن الفعلي ) (1).
أقول : مبنى هذا الدليل على دعوى القطع بأنّا مكلّفون فعلا بالعمل بالتكاليف الشرعية الواقعية المدلول عليها بالحجج الشرعيّة ، كما صرّح به ، وستعرف بيانه عند شرح قوله : ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد (2).
فإن صح منه هذا الدعوى فلا يرد عليه عدم معلوميّة بقاء الطرق ، ولا شطر من سائر الإيرادات الموردة عليه ، وإلاّ فالأجدر السؤال عن مستند هذا القطع إن كان القاطع يسأل عنه ، أو منع هذا القطع والاكتفاء به عن هذا التطويل.
ثم أقول : سرعان ما نسي قلم الشيخ ما زبره في أول الدليل الأول من الأدلّة العقلية على حجّية الخبر وهو : لا شك للمتتبع في أحوال الرّواة ـ المذكورة في تراجمهم ـ في أنّ أكثر الأخبار ، بل جلّها إلاّ ما شذّ وندر صادرة عن الأئمة عليهم السلام (3) (4).
--------------------
(1) فرائد الأصول : 131.
(2) الفصول الغرويّة : 277.
(3) فرائد الأصول : 102.
(4) إذ الوجدان يحكم بأنه كلّما كثرت أطراف الشبهة ضعف الاحتمال في كلّ واحد واحد من الأطراف ، فراجع نفسك فيما تستقذرها أو تحذرها إذا كان القذر أو المحذور بين إناءين ، ثم فيما كان بين عشرة فبين ألف فبين مائة ألف ، تجدها يحتمل وجوده في كلّ من الإناءين احتمالا متساويا ، ويضعف في كلّ منها في المراتب المتتالية حتى ينتهي إلى الاطمئنان بالعدم فيه إذا انتهت إلى المرتبة الأخيرة ، وهذا معنى : إن صعب إثباته بالبرهان سهله الوجدان ، وهذا من أحسن الوجوه في مسألة الفرق بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة.
ولعلّ قوله عليه السلام : ( أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض ؟ ) [ المحاسن : 495 ـ 597 ] ليس بحكم تعبّدي ، بل هو إرجاع للسائل إلى حكم فطرته ووجدانه على ما هو الغالب في الاستفهامات الواردة في موارد كثيرة من الكتاب والسنّة ( منه ).
وقاية الاذهان
_ 719 _
وظاهر لدى من راجع وجدانه وقاس المقام إلى أمثاله أنّ مثل ذلك يوجب الاطمئنان بجميع الأخبار ، لا سيّما إذا عرفت عدّة من ذلك الشاذ النادر بإعراض الأصحاب ، أو مخالفتها لضرورة المذهب ونحوهما ، وضعف الظنّ فيه بصنوف الموهنات ، وتأيّد الأكثر بالقرائن الكثيرة من تعاضد بعضه لبعض ، وموافقته لأصول المذهب ، وتكرّره في الأصول ، ووقوعه عند الطائفة موقع القبول ، إلى غير ذلك من ضروب المؤيّدات.
ثم إنّ دعوى عدم الشك فيما ذكر لا يجتمع مع هذا التضييق الشديد ، أعني تخصيص الحجّية بخبر العدل ، أو الثقة الثابت عدالته ووثاقته بالقطع ، أو الشياع والبيّنة ، إذ الحجّة المطلوبة في المقام هي الوافية بجميع الأحكام أو أكثرها ، ونحن نعلم أنّ هذه الأخبار التي بأيدينا اليوم هي تلك الموجودة في الزمان السابق ، ورواتها من عرف أكثرهم بالضدّ ممّا قال ، كما هو واضح لدى المتضلّع بعلم الرّجال.
واحتمال أنّ في الصدر الأول كانت روايات كثيرة كافية رواتها غير هؤلاء الرّواة المعروفين لم يصل إلينا رواياتهم ولا حالاتهم احتمال سوفسطائي ، لا يحنث الإنسان إذا حلف على بطلانه بغموس الأيمان.
هذا وما ذكره أخيرا من منع حجّية الاتّفاق العملي ، قد مرّ الكلام عليه فيما سبق.
عاد كلامه : ( وثالثا : سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنّية من أقسام الخبر ، والإجماع المنقول ، والشهرة ، وظهور الإجماع والاستقراء والأولويّة الظنّية ، إلاّ أنّ اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقّن [ من هذه ] (1) فإن وفي بغالب الأحكام اقتصر عليه ، وإلاّ فالمتيقّن من الباقي ، مثلا :
--------------------
(1) زيادة من المصدر.
وقاية الاذهان
_ 720 _
الخبر الصحيح ، والإجماع المنقول متيقّن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات ، إذ لم يقل أحد بحجّية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول ، فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ بعد وجود القدر المتيقّن ، ووجوب الرجوع إلى المشكوك إلى أصالة حرمة العمل ، نعم لو احتيج إلى العمل بإحدى أمارتين ، واحتمل نصب كلّ منهما صحّ تعيينه بالظنّ بعد الإغماض عمّا سيجيء من الجواب ) (1).
أقول : لا يخفى على من تأمل عبارة الفصول ، أنّ مبنى كلامه على عدم وجود القدر المتيقّن ، وهذا صريحه من أوله إلى آخره ممّا نقله الشيخ وممّا أسقطه منه ، وكأنه ـ طاب ثراه ـ لم يعط التأمّل فيها حقّه ، وإلاّ ما كان يخفى مثله على مثله ، وأنا الضمين بأن لا يخالف صاحب الفصول مرسومه ، ويجري على اقتراحه من الأخذ بالمتيقّن لو وجد بمقدار الكفاية ، ويرجع في غيره إلى الأصول العمليّة أو إلى أصالة حرمة العمل كما ذكره ، وكأنّه فرض وجود القدر المتيقّن كما يؤيّده قوله بعد ذلك : سلّمنا عدم وجود القدر المتيقن (2) ، ولكن لا يخفى أنّ جميع هذا التعب وتحمّل العناء والنصب لعدم وجود القدر المتيقّن بقدر الكفاية ، وإلاّ لم يبق موضع لدليل الانسداد ولا لما يدخل في بابه.
عاد كلامه : ( سلّمنا عدم وجود القدر المتيقّن ، لكن اللازم من ذلك وجوب الاحتياط لأنّه مقدّم على العمل بالظنّ لما عرفت من تقديم الامتثال العلمي على الظنّ ، اللهم إلاّ أن يدلّ دليل على عدم وجوبه ، وهو مفقود في المقام ) إلى آخره ، ثم أخذ ـ طاب ثراه ـ في دفع ادّعاء أنّ العمل بما ليس طريقا حرام (3) ، ولا يهمّنا
نقله ، إذ لا كلام لنا الآن عليه.
أقول : إن كان الاحتياط في الطريق راجعا إلى الاحتياط في الفروع ، كما قال بعضهم ، فالدليل على بطلانه ذلك الدليل الدالّ على بطلانه في الفروع ، وكذلك إذا كان مستلزما له كالموردين المذكورين في آخر كلام الشيخ.
وإن كان غيره فعلى غموض في معناه واختلاف شديد في تقريره ، فلا أدري ما الّذي يصدّ صاحب الفصول من ادّعاه الدليل على بطلانه فيه مثل ما ادّعوه فيها وهم ـ كما تعلم ـ لم يستندوا في إبطال الاحتياط في الفروع إلى برهان قطعي ، بل كان أقصى جهدهم دعوى الإجماع على عدم وجوبه ، أو لزوم الحرج واختلال النظام في التزامه ، وإذا استند إلى أحدها أو إلى جميعها في بطلان الاحتياط في الطريق فلا أدري إلى م يسند الشيخ منعه في قوله : ( وهو في المقام ممنوع ) (1) ، ولو كان مجرّد المنع كافيا فقد منع كلاّ من تلك الوجوه جماعة من متابعيه ، بل لم يكتف بعضهم بمجرد المنع ، بل أقام الدليل عليه بزعمه.
ومن الطريف قول بعض المحشّين (2) من تلامذته وهو : ( فقد الدليل على عدم وجوب الاحتياط في المقام ظاهر ).
( أمّا الأول ـ يعني الإجماع ـ فظاهر ، وأما الثاني والثالث ـ يريد لزوم الاختلال والحرج ـ فلأنّ الاحتياط في المقام يوجب التوسعة على المكلّف لا الضيق عليه ، ضرورة أنّ أكثر الأمارات ينفي التكليف ولا يثبته ).
( اللهم إلاّ أن يقال : إنّ مقتضى الدليل هو وجوب العمل بما يوجب الإلزام على المكلّف لا بالأعم منه وممّا ينفيه ، لكنه فاسد من جهة أنّ المستدلّ لم
--------------------
(1) فرائد الأصول : 131 وفيه : وهو مفقود في المقام.
(2) هو الميرزا محمد حسن الآشتياني رحمه الله.
وقاية الاذهان
_ 722 _
يأخذه في عنوان مختاره ، ولم يعتبره شرطا فيه ) (1) انتهى ، فتأمّل فيه فإنّ فيه عجائب.
وبالجملة ، ففي معنى الاحتياط في الطريق خفاء ، وفي تقريره اختلاف ، كما مرّ ، ومن أجله تولّدت اعتراضات جديدة على كلام الفصول ، واستيفاء القول فيه يقف على حدّ الإطالة بالقلم ، ولا يستفيد الناظر فيه سوى السأم ، وفيما نذكره إن شاء الله في تفسير قوله : ( ومرجع القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ) ما يستأصل الشافه ، ويأتي على جميع ما لفّقوه.
عاد كلامه : ( وخامسا : سلّمنا العلم الإجمالي بوجود الطريق المجعول ، وعدم المتيقّن ، وعدم وجوب الاحتياط ، لكن نقول : إنّ ذلك لا يوجب تعيين العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطريق فقط ، بل هو مجوّز له ، كما يجوز العمل بالظنّ في المسألة الفرعية ).
( وذلك لأنّ الطريق المعلوم نصبه إجمالا إن كان منصوبا حتى حال انفتاح باب العلم ، فيكون هو في عرض الواقع مبرئا للذمة بشرط العلم به كالواقع المعلوم مثلا إذا فرضنا حجّية الخبر مع الانفتاح تخيّر المكلّف بين امتثال ما علم كونه حكما واقعيّا بتحصيل العلم به ، وبين امتثال مؤدّى الطريق المجعول الّذي علم جعله بمنزلة الواقع ، فكلّ من الواقع ومؤدّى الطريق مبرئ مع العلم به ، فإذا انسدّ باب العلم التفصيليّ بأحدهما تعيّن الآخر ، وإذا انسدّ باب العلم التفصيليّ بهما تعيّن العمل فيهما بالظنّ ، فلا فرق بين الظنّ بالواقع والظنّ بمؤدّى الطريق في كون كل واحد امتثالا ظنيّا ).
( وإن كان ذلك الطريق منصوبا عند انسداد باب العلم بالواقع ، فنقول : إنّ تقديمه حينئذ على العمل بالظنّ إنما هو مع العلم به وتميّزه عن غيره ، إذ
--------------------
(1) بحر الفوائد 1 : 209.
وقاية الاذهان
_ 723 _
حينئذ يحكم العقل بعدم جواز العمل بمطلق الظنّ مع وجود هذا الطريق المعلوم ، إذ فيه عدول عن الامتثال القطعي إلى الظنّي ، وكذا مع العلم الإجمالي ، بناء على أنّ الامتثال التفصيليّ مقدّم على الإجمالي ، أو لأنّ الاحتياط يوجب الحرج المؤدّي إلى الاختلال ).
( أمّا مع انسداد باب العلم بهذا الطريق ، وعدم تميّزه عن غيره إلاّ بإعمال مطلق الظن ، فالعقل لا يحكم بتقديم إحراز الطريق بمطلق الظن على إحراز الواقع بمطلق الظن ).
( وكأنّ المستدلّ توهّم أنّ مجرّد نصب الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدّى الطريق ، كما ينبئ عنه قوله : وحاصل القطعين إلى أمر واحد وهو التكليف الفعلي بالعمل بمؤديات الطرق (1) ، وسيأتي مزيد توضيح لاندفاع هذا التوهّم إن شاء الله ) (2).
أقول : بعد التأمل في جميع ما ذكره في الفصول هنا ، وبمراجعة ما ذكره قبله من أدلّة حجّية خبر الواحد وغيره ، لا يبقى ريب في أنّ صاحب الفصول يرى الطريق منصوبا حال الانفتاح أيضا.
وجميع ما أورده الشيخ حق لا مرية فيه ، إلاّ قوله : ( فلا فرق بين الظن بالواقع والظن بمؤدّى الطريق ) فإنّ فيه كلاما تعرفه عند التعرّض لكلام أخيه العلاّمة الجدّ.
وكذا ما أورده على الفرض الأخير لا بحث فيه ، إلاّ في قوله : ( فالعقل لا يحكم بتقديم إحراز الطريق بمطلق الظن على إحراز الواقع بمطلق الظن ) وتعرفه هناك أيضا.
ولكن قوله : ( وكأنّ المستدلّ توهّم أنّ مجرّد نصب الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدّى الطريق ) يوهم الترديد في مراد الفصول ، مع أنّ ذلك صريحه في عدّة مواضع ، بل هو الأصل الّذي بنى دليله عليه ، وهو الحق الّذي لا معدل عنه لكن على وجه يسلم من هذه الاعتراضات المتوجّه إليه من الشيخ وغيره ، ونؤخّر بيانه إلى أن يفي الشيخ بوعده ، أعني مزيد التوضيح لاندفاع هذا التوهّم ، ونزيده توضيحا عند شرح كلام أخيه الجدّ ، ونكتفي هنا بقولنا : إنّ هذا الّذي سمّاه توهّما قد جزم به في رسالة البراءة ، وتخلّص به عن الدليل العقلي المستدلّ به على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، ودونك كلامه بنصه : ( والجواب أولا : منع تعلّق تكليف غير القادر على تحصيل العلم ، إلاّ بما أدّى إليه الطرق غير العلمية المنصوبة له ـ وقد سمعت منه منع نصب الطريق (1) ـ فهو مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق لا بالواقع من حيث هو ، ولا مؤدّى هذه الطرق من حيث هو حتى يلزم التصويب أو ما يشبهه ، لأنّ ما ذكرناه هو المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره ، وثبوت التكليف بالعمل بالطرق ) (2) انتهى.
وهذا مذهب صاحب الفصول بعينه ، وقد أحسن في بيانه ، وتشييد أركانه ، وقد برّأه عن هجنة (3) التصويب وما يشبهه ، وجعله المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعية والعمل بالطرق العلمية ، واحتمل هنا نظيره في مسألة عمل القاضي بالظن في الطريق ، كما ستعرفه.
--------------------
(1) ما بين الشرطتين من المصنف.
(2) فرائد الأصول : 213.
(3) الهجنة ـ بضم الهاء ـ في الكلام : العيب والقبح ، القاموس المحيط 4 : 279 ، المصباح المنير : 635 ( هجن ).
وقاية الاذهان
_ 725 _
وظاهر أنّ جميع ما يورد على صرف التكليف عن الواقع إلى مؤدّيات الطرق من التصويب وشبهه يرد عليه بعينه.
عاد كلامه : ( فإن قلت : نحن نرى أنه إذا عيّن الشارع طريقا للواقع عند انسداد باب العلم به ، ثم انسدّ باب العلم بذلك الطريق ، كان البناء على العمل بالظن في الطريق دون نفس الواقع ، ألا ترى أنّ المقلّد يعمل بالظن في تعيين المجتهد ، لا في نفس الحكم الواقعي ، والقاضي يعمل بالظن في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات ، لا في تحصيل الحق الواقعي بين المتخاصمين.
قلت : فرق بين ما نحن فيه وبين المثالين ، فإنّ الظنون الحاصلة للمقلّد والقاضي في المثالين بالنسبة إلى الواقع أمور غير مضبوطة ، كثير المخالفة للواقع ، مع قيام الإجماع على عدم جواز العمل بها كالقياس ، بخلاف ظنونهما المعمولة في تعيين الطريق ، فإنّها حاصلة من أمارات منضبطة ، غالب المطابقة ، لم يدلّ دليل بالخصوص على عدم جواز العمل به.
فالمثال المطابق لما نحن فيه ، أن يكون الظنون المعمولة في تعيين الطريق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع لا يوجد بينهما فرق من جهة العلم الإجمالي بكثرة مخالفة إحداهما للواقع ، ولا من جهة منع الشارع عن إحداهما بالخصوص ، كما أنّا لو فرضنا أنّ الظنون المعمولة في نصب الطريق على العكس في المثالين كان المتعيّن العمل بالظن في نفس الواقع دون الطريق.
فما ذكرنا من العمل على الظن ـ سواء تعلّق بالطريق أم بنفس الواقع ـ فإنّما هو مع مساواتهما من جميع الجهات ، فإنّا لو فرضنا أنّ المقلّد يقدر على إعمال نظير الظنون التي يعملها لتعيين المجتهد في الأحكام الشرعية مع قدرة الفحص عمّا يعارضها على الوجه المعتبر في العمل بالظن لم يجب عليه العمل بالظن في تعيين المجتهد ، بل وجب عليه العمل بظنّه في تعيين الحكم الواقعي.
وكذا القاضي إذا شهد عنده عادل واحد بالحق لا يعمل به ، وإذا أخبره
وقاية الاذهان
_ 726 _
هذا العادل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة يأخذ به ، فإنّما هو لأجل قدرته على الاجتهاد في مسألة الطريق بإعمال الظنون ، وبذل الجهد في المعارضات ، ودفعها ، بخلاف الظنّ بحقيّة أحد المتخاصمين ، فإنّه ممّا يصعب الاجتهاد ، وبذل الوسع في فهم الحق من المتخاصمين لعدم انضباط الأمارات في الوقائع الشخصية ، وعدم قدرة المجتهد على الإحاطة بها حتى يأخذ بالأخرى ، وكما أنّ المقلّد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلّية ، كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع الشخصية فتأمل.
هذا ، مع إمكان أن يقال : إنّ مسألة عمل القاضي بالظن في الطريق مغايرة لمسألتنا ، من جهة أنّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطرق ، وأعرض عنه وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبدية مثل الإقرار ، والبينة ، واليمين ، والنكول ، والقرعة ، وشبهها ، بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعية ، فإنّ الظاهر أنّ مبناها على الكشف الغالبي عن الواقع ، ووجه تخصيصها من بين سائر الأمارات : كونها أغلب مطابقة ، وكون غيرها غير غالب المطابقة ، بل غالب المخالفة ، كما ينبئ عنه ما ورد في العمل بالعقول في دين الله ، ( وأنه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرّجال ) و ( أنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ) و ( أنّ الدين يمحق بالقياس ) ونحو ذلك.
ولا ريب أنّ المقصود من نصب الطريق إذا كان غلبة الوصول إلى الواقع لخصوصية فيها من بين سائر الأمارات ، ثم انسدّ باب العلم بذلك الطريق المنصوب ، والتجأ إلى إعمال سائر الأمارات التي لم يعتبرها الشارع في نفس الحكم لوجود الأوفق منها بالواقع ، فلا فرق بين إعمال هذه الأمارات في تعيين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي ، بل الظاهر أنّ إعمالها في نفس الواقع أولى لإحراز المصلحة الأوّلية التي هي أحقّ بالمراعاة عن مصلحة نصب الطريق ، فإنّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يتدارك المفسدة المترتبة
وقاية الاذهان
_ 727 _
على مخالفة الواقع اللازمة من العمل بذلك الطريق ، لا إدراك المصلحة الواقعيّة ، ولهذا اتفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق المنصوب في غير العبادات ممّا لا يعتبر فيه نية الوجه اتّفاقا ، بل الحقّ ذلك فيها أيضا ، كما مرّت الإشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط ) (1).
أقول : إن تمّ ما ادّعاه من الفرق بين المقلّد وبين ما نحن فيه ـ ولا يتمّ على إطلاقه ، كما ستعرف ـ فإنّ الأمر في القضاء بالعكس ، إذ لمعرفة المحقّ من المبطل في الدعاوي طرق منضبطة يجري عليها العقلاء من كلّ قوم وملّة يفصلون بها بين الخصوم ، ويصيبون الواقع غالبا ، بل إلاّ نادرا.
وحينما ترى قاضي العرف إذا رفع إليه دعوى السرقة ينظر إلى حال المتداعيين ، فإذا رأى المدّعي صالحا مثريا لم يعهد منه قط ارتكاب مأثمة ولا ادّعاء باطل ، ورأى المدّعى عليه خليعا (2) ، صعلوكا (3) ، حرفته الشحاذة (4) ، وعادته السرقة ، ماهرا في حرفته ، جاريا طول عمره على عادته ، قد قطعت للسرقة يده ، وكم سوّد بالسياط جلده ، ورآه جماعة واقفا ساعة التهمة على باب الدار ، وآخرون متسلّقا حائط الجار ، فبعد الاستنطاق والاستخبار ، واستقصاء الشواهد والآثار يحكم عليه بها ، مصيبا في حكمه ترى قاضي الشرع لا يسعه مع ذلك كلّه بعد فقد البيّنة إلاّ تحليفه ، مع علمه بأنّه لا يتحرّج من ألف يمين على فلس واحد.
ولعلّ الشيخ لهذا أمر بالتأمّل ، وعدل عنه إلى ما هو أبعد وأعجب ، وهو احتمال أنّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطرق ، وأعرض عنه ، وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبدية.
ولا أرى هذا الاحتمال إلاّ وقد صدر منه ـ طاب ثراه ـ على سبيل سلطان الجدل ، وإلزام المناظر ولو بما يقطع بخلافه.
وكيف يحتمل مثله أنّ الشارع الّذي عرف منه ذلك الاهتمام ـ الّذي يجلّ عن الوصف ـ في حفظ أموال المسلمين ، وصيانة أعراضهم ، وحقن دمائهم يرفع ذلك الاهتمام بمجرد إقامة الدعوى من كاذب ، فلا يبالي بضياع الأموال ، ولا بهتك الأعراض ، وإراقة الدماء إذا شهد على أحدها بشهادة الزور ، أو صدر الحلف من حليف خمر وماخور (1) ، ويكون عنده سواء في الأموال المالك والغاصب ، وفي الفروج الزوج والعاهر ، وفي الدماء دم المسلم والحربي ! لا يكون هذا أبدا.
ويبقى بعد ذلك موضع للسؤال عن معنى الإعراض عن الواقع على وجه لا يستلزم التصويب المحال ، ويكون غير الّذي يتصور في سائر الأحكام (2).
هذا ، وأمّا ما ذكره من ( أنّ الظنون المعمولة في تعيين طرق القضاء حاصلة من أمارات منضبطة غالب المطابقة ) فالقضاء فيه موكول إلى الناظر بعد أن يتصفّح بابا من أبوابه.
وأمّا ما ذكره في وجه عدم عمل المقلّد بظنّه في نفس الحكم الواقعي ، فهو صحيح ، ولكن لا على إطلاقه ، إذ قد يكون اقتدار المقلّد على تحصيل الظنّ بالواقع من نفس الطرق التي يحصّله [ بها ] (3) المجتهد أقوى من المجتهد ، كالأحكام التي مبانيها مسائل لغوية أو نحوية ، فلا شك أنّ المقلّد اللغوي أو النحوي أشدّ اقتدارا ، وأصوب ظنّا ممّن يزيد عليه في الفقه ، ويقصر عنه في صناعته.
--------------------
(1) الماخور : مجلس الفسّاق ، الصحاح 2 : 812 ( مخر ).
(2) ولهذا البحث تتمّة تعرفها قريبا إن شاء الله ( منه ).
(3) زيادة يقتضيها السياق.
وقاية الاذهان
_ 729 _
ومناظرة الأصمعي مع أبي يوسف القاضي في معنى ( لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ) (1) وشهادته عليه بأنّ القاضي لم يفرّق بين ( عقلته ) و ( عقلت عنه ) حتى فهّمه ، مذكورة كأمثالها الكثيرة في مواضعها.
هذا ، وعمدة طريق المقلّد غالبا في تحصيل الظن في تعيين المجتهد أحد أمرين : إمّا شهادة أهل الخبرة ، وإمّا الشهرة ، ولكن من له بخبير لا يميل في شهادته مع الهوى ، وبشهرة لم يجلبها حطام الدنيا ، وفي النّظر في حال أبناء الزمان ما يغنيك عن البيان.
وأمّا قوله طاب ثراه : ( فلا فرق في إعمال هذه الأمارات في تعيين الطرق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي ، بل إعمالها في نفس الواقع أولى ) فستعرف ما فيه بما نبيّنه قريبا من مراد صاحب الفصول ، ونوضّحه من حقيقة هذا الدليل.
عاد كلامه : ( فإن قلت : العمل بالظن في الطريق عمل بالظن في الامتثال الظاهري والواقعي ، لأنّ الفرض إفادة الطريق للظن بالواقع ، بخلاف غير ما ظنّ طريقيّته ، فإنّه ظنّ بالواقع ، وليس ظنّا بتحقّق الامتثال في الظاهر ، بل الامتثال الظاهري مشكوك أو موهوم بحسب احتمال اعتبار ذلك الظنّ.
قلت : أوّلا إنّ هذا خروج عن الفرض ، لأنّ مبنى الاستدلال المتقدّم على وجوب العمل بالظن في الطريق وإن لم يكن الطريق مفيدا للظنّ به أصلا ، نعم قد اتّفق في الخارج أنّ الأمور التي يعلم بوجود الطريق فيها إجمالا مفيدة للظنّ شخصا أو نوعا لا أنّ مناط الاستدلال اتّباع الظنّ بالطريق المفيد للظنّ بالواقع.
وثانيا : أنّ هذا يرجع إلى ترجيح بعض الأمارات الظنية على بعض باعتبار الظنّ باعتبار بعضها شرعا دون الآخر ، بعد الاعتراف بأنّ مؤدّى دليل الانسداد حجّية الظنّ بالواقع لا بالطريق ، وسيجيء الكلام في أنّ نتيجة دليل
--------------------
(1) وردت هذه الجملة عن الشعبي ، انظر : سنن الدار قطني 3 : 178 ـ 277 ، وسنن البيهقي 8 : 104.
وقاية الاذهان
_ 730 _
الانسداد على تقدير إفادته اعتبار الظنّ بنفس الحكم كلّية ، بحيث لا يرجّح بعض الظنون على بعض ، أو مهملة بحيث يجب الترجيح بين الظنون ، ثم التعميم بعد فقد المرجّح والاستدلال المذكور مبني على إنكار ذلك كلّه ، وأنّ دليل الانسداد جار في مسألة تعيين الطريق وهي المسألة الأصولية ، لا في نفس الأحكام الواقعية الفرعية بناء منه (1) على ( أنّ الأحكام الواقعية بعد نصب الطريق ليست مكلّفا بها تكليفا فعليا إلاّ بشرط قيام الطرق عليها ، فالمكلّف به في الحقيقة مؤدّيات تلك الطرق لا الأحكام الواقعية من حيث هي ) (2).
وقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ نصب هذه الطرق ليست إلاّ لأجل كشفها الغالبي عن الواقع ، ومطابقتها له ، فإذا دار الأمر بين إعمال ظنّ في تعيينها أو في تعيين الواقع لم يكن رجحان للأول.
ثم إذا فرضنا أنّ نصبها ليس لمجرّد الكشف ، بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ، لكن ليس مفاد نصبها تقييد الواقع بها ، واعتبار مساعدتها في إرادة الواقع ، بل مؤدّى وجوب العمل بها جعلها عين الواقع ولو بحكم الشارع ، لا قيدا له.
والحاصل : أنّه فرق بين أن يكون مرجع نصب هذه الطرق إلى قول الشارع : ( لا أريد من الواقع إلاّ ما ساعد عليه ذلك الطريق ) فينحصر التكليف الفعلي حينئذ في مؤدّيات الطريق ، ولازمه إهمال ما لم يؤدّ إليه الطريق من الواقع ، سواء انفتح باب العلم بالطريق أم انسدّ ، وبين أن يكون التكليف الفعلي بالواقع باقيا على حاله إلاّ أنّ الشارع حكم بوجوب البناء على كون مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع فمؤدّى هذه الطرق واقع جعلي ، فإذا انسدّ طريق العلم إليه ، ودار الأمر بين الظنّ بالواقع الحقيقي وبين الظن بما جعله الشارع واقعا فلا ترجيح ،
--------------------
(1) الضمير في ( منه ) عائد إلى الشيخ محمد حسين الأصفهانيّ صاحب الفصول الغرويّة.
(2) الفصول الغرويّة : 277 نقلا بالمعنى.
وقاية الاذهان
_ 731 _
إذ الترجيح مبني على إغماض الشارع عن الواقع.
وبذلك ظهر ما في قول هذا المستدلّ (1) من أنّ التسوية بين الظنّ بالواقع والظن بالطريق إنّما يحسن لو كان أداء التكليف المتعلّق بكلّ من الفعل والطريق المقرّر مستقلاّ لقيام الظنّ في كلّ من التكليفين حينئذ مقام العلم به ، مع قطع النّظر عن الآخر ، وأمّا لو كان أحد التكليفين منوطا بالآخر مقيّدا له ، فمجرّد حصول الظنّ بأحدهما دون حصول الظنّ بالآخر المقيّد له لا يقتضي الحكم بالبراءة ، وحصول البراءة في حصول العلم بأداء الواقع إنّما هو لحصول الأمرين به نظرا إلى أداء الواقع ، وكونه من الوجه المقرّر لكون العلم طريقا إلى الواقع في العقل والشرع ، فلو كان الظنّ بالواقع ظنّا بالطريق جرى ذلك فيه أيضا ، لكنّه ليس كذلك ، ولذا لا يحكم بالبراءة معه ) انتهى (2).
أقول : ما ذكره في جواب هذا القائل من الخروج عن الفرض ، والرجوع إلى ترجيح بعض الأمارات على بعض ، فهو حقّ لا ريب فيه ، ولكن قوله : ( إنّ الاستدلال المذكور مبني على أنّ دليل الانسداد جار في مسألة تعيين الطرق ) وما نسبه إلى صاحب الفصول من بنائه على أنّ الأحكام الواقعية بعد نصب الطرق ليست مكلّفا بها تكليفا فعليا ، إلى آخر كلامه ، لا يظهر حقيقة الحال فيه إلاّ بعد بيان المراد من هذا الدليل ، وتقريره على الوجه الّذي أراده المستدلّ ، ولا بدّ من نقل بعض ما حذفه الشيخ من كلامه لتوضيح مرامه ، قال بعد المنقول منه بعدّة أسطر ، ما لفظه : ( واعلم أنّ العقل يستقلّ بكون العلم طريقا إلى إثبات الحكم المخالف للأصل ، ولا يستقلّ بكون غيره طريقا إليه ولو مع تعذّره ، حيث لا يعلم ببقاء
--------------------
(1) يعني بالمستدلّ : الشيخ محمد تقي الأصفهانيّ صاحب هداية المسترشدين.
(2) فرائد الأصول : 134 ـ 135 ، وانظر أيضا لقول ( المستدلّ ) : هداية المسترشدين : 394.
وقاية الاذهان
_ 732 _
التكليف معه ، بل يستقلّ حينئذ بعدم كون غير العلم طريقا في الظاهر ، وبسقوط التكليف ما لم يقم على حجّية غير العلم قاطع سمعي أو واقعي [ أو ظاهري ] (1) معتبر مطلقا ، أو عند انسداد باب العلم إلى الدليل مع حصوله ... ثم إن [ دلّ ] (2) الدليل السمعي بأحد أنواعه على حجّية طريق مطلقا كان في مرتبة العلم مطلقا ، فيجوز التعويل عليه ولو مع إمكان تحصيل العلم في تلك الواقعة ، وإن دلّ على حجّيته عند تعذّر العلم لم يجز التعويل عليه إلاّ عند تعذّره ، فيقدّم عليه العمل بالعلم وبما دلّ الدليل السمعي على قيامه مقامه مطلقا مع تيسّره ، وأما إذا انتفى الجميع ، وعلم ببقاء التكليف معه ثبت بحكم العقل وجوب العمل بالظن الّذي لا دليل على عدم حجّيته ، ثم الأقرب إليه ، وهذه مرتبة ثالثة متوقّفة على تعذّر المرتبتين المتقدّمتين ـ إلى أن قال ـ فاتّضح أنّ للطريق ثلاث مراتب لا يعوّل على اللاحقة منها إلاّ بعد تعذّر السابقة ) (3).
وكيف ينسب إليه مع هذا التصريح تقييد الأحكام الواقعية بالطرق أو صرفها إليها على نحو يوجب التصويب المحال أو المجمع على بطلانه ، كما لا يزال يلهج به المعترضون ! ؟.
ومن نظر في سائر ما أورده يجد مواضع أخرى شاهدة ببراءته عنه ، ويكفي لها تنظير المقام بمسألة القضاء ، قال في أثناء الردّ على التقرير المشهور لدليل الانسداد وإبطال الظنّ المطلق ما لفظه : ( وبالجملة ، فعلمنا بأنّا مكلّفون بالأحكام المقرّرة في الشريعة عند تعذّر طريق العلم والطريق العلمي إليها لا يفتح لنا باب الظنّ إليها بعد علمنا بنصب طرق مخصوصة إليها.
--------------------
(1) زيادة من المصدر.
(2) زيادة من المصدر.
(3) الفصول الغرويّة : 278.
وقاية الاذهان
_ 733 _
ألا ترى أنّ علمنا بأنّا مكلّفون في المرافعات بإيصال كلّ حقّ إلى صاحبه لا يوجب في حقّنا فتح باب الظنّ في تعيين الحقوق لعلمنا بأنّ الشارع كما كلّفنا بذلك كذلك جعل لنا إليها طرقا مخصوصة ، وكلّفنا بالعمل بمقتضاها كاليد ، والشهادة ، واليمين ، فإذا انسدّ علينا معرفة تلك الطرق أيضا لم نعمل بالظن في تعيين الحقوق ، بل في تعيين الطرق المقرّرة لها ) (1).
ولا بدّ لمنكري مقالته من أحد أمرين : إمّا مخالفة الإجماع وتجويز الرجوع في القضاء إلى مطلق الظنّ ، أو بيان الفرق بينه وبين سائر الأحكام ، ولو ضربوا عليه آباط الإبل مدّة شهرين لم يعثروا على أثر منه أو عين.
وما ذكره الشيخ ـ طاب ثراه ـ أواخر كلامه ـ المتقدّم نقله ـ من ( أنّ الظاهر أنّ مبنى الطرق المنصوبة على الأحكام الواقعية على الكشف الواقعي ، ووجه تخصيصها كونها أغلب مطابقة ، وكون غيرها غير غالب المطابقة ) إلى آخره (2) ، فلا يصلح أن يكون فارقا بينهما ، إذ السبب مشترك ، ولا شك أنّ الوجه في تخصيص الطرق المقرّرة للقضاء أيضا هو ما ذكر بعينه ، فلما ذا يرجع إلى مطلق الظن ؟
وأمّا بيان المراد من هذا الدليل وتقريره : فتوضيحه أنّ المستدلّ استدلّ به على أنّ المرجع بعد فرض الانسداد الكتاب والسنّة وما يلحق بهما ، ويؤول إليهما ، وبنى دليله على القطع ببقاء التكليف أولا ، وبوجود الحجّة عليها ثانيا ، ثم جمع بين القطعين ، فقال : ( ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليّا بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ) (3).
ومعناه أنّ فعلية التكاليف أو تنجيزها مشروطة بوجود الحجّة ، ولو
فرض أنّ هناك حكم واقعي لم ينصب الشارع إليه طريقا ، أي لا يكون عليه حجة ، لا يكون فعليا أو منجزا ، ثم ادّعى الإجماع على انحصار الحجّة في مدارك مخصوصة ، فقال في أثناء كلامه ما لفظه : ( فإنّا نقطع بأنّ الشارع لم يعتبر بعد الأدلّة القطعية في حقّنا أمارات اخر خارجة عن هذه الأمارات ).
وقال بعده بقليل ما لفظه أيضا : ( إنّا لمّا راجعنا طريقة أصحابنا وجدناهم يعتمدون في فروع الأحكام على طرق ومدارك مخصوصة ، مطبقين على نفي حجّية ما عداها ) إلى آخره (1).
وقال في أثناء الكلام على التقرير الثاني لدليل الانسداد ما نصّه : ( الّذي يظهر لنا من طريقة أصحابنا قديما وحديثا اقتصارهم على حجّية الظنون المخصوصة ، والتزامهم بأصالة عدم حجّية ظنّ لا دليل على حجّيته ، فإنّا لم نقطع من إطباقهم على ذلك بفساد حجّية مطلق الظنّ فلا أقلّ من حصول ظنّ قوي لنا به )
(2) إلى آخره.
وأيّد ذلك بالنهي عن عدّة من الأمارات ، فقال : ( إنّا كما نجد على الأحكام أمارات نقطع بعدم اعتبار الشارع إيّاها طريقا إلى معرفة الأحكام مطلقا وإن أفادت الظنّ الفعلي بها كالقياس ، والاستحسان ، والسيرة الظنية ، والرؤيا ، وظنّ وجود الدليل ، والقرعة ، وما أشبه ذلك ممّا لا حصر له ، كذلك نجد عليها أمارات أخر نعلم بأنّ الشارع قد اعتبرها كلاّ أو بعضها طريقا إلى معرفة الأحكام وإن لم يستفد منها ظنّ فعلي بها ولو لمعارضة الأمارات السابقة ) (3).
ثم ذكر العبارة المتقدمة قريبا ، وقال بعده : ( ومستند قطعنا في المقامين
الإجماع ، مضافا في بعضها إلى مساعدة الأخبار والآيات ، حتى أنّ القائلين بحجّية مطلق الظن كبعض متأخّري المتأخّرين لا تراهم يتعدّون في مقام العمل عن هذه الأمارات إلى غيرها ) (1).
وادّعى بعد ذلك أنّ تفاصيل تلك الأمارات المقطوع اعتبارها غير معلوم بالقطع ، فالواجب علينا الرجوع إلى معرفتها بالظن ، وأوضح ذلك في عدّة مواضع من كلامه ، ونقلها يوجب الإسهاب ، ومن شاء فليراجع الكتاب.
ثم استنتج من جميع ذلك وجوب الرجوع في معرفة الأحكام الفعلية التي لا طريق إليها بالقطع إلى الطرق الظنية فقط ، ولا شك في أنّه بعد تسلّم هذه المقدّمات لا تكون النتيجة إلاّ ذلك.
وأكثر ما أورده الشيخ ـ طاب ثراه ـ ومن تأخّر عنه بمعزل عنه وغير مرتبط به ، وما سبب ذلك إلاّ ما نبّهناك عليه أول الباب من أنّهم جعلوا هذا الدليل الدالّ على بطلان الظنّ المطلق بيانا لنتيجة الدليل على الظنّ المطلق ، مع أنّ هذا الدليل إن تأملته وجدته أجنبيّا عن دليل الانسداد المعروف ، ويكاد أن لا يجمعه معه إلاّ لفظ الانسداد فقط.
وأقول توضيحا له ـ وإن كنت أخالك في غنى عنه ـ : بعد ما عرفت أنّ هذا الدليل مركّب من مقدّمات :
أولها : بعد بقاء التكليف بالأحكام الواقعية ، ووجود الحجة على تلك الأحكام.
ثانيها : انحصار الحجة في الكتاب والسنّة وما يؤول إليهما.
ثالثها : عدم قطعية تفاصيلها بمعنى عدم إمكان تعيين الحجّة منها إلاّ نادرا.
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 278.
وقاية الاذهان
_ 709 _
لا سبيل لنا بحكم العيان ، وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ، ولا بطريق معيّن يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه ، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره ، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة ، وكلّفنا تكليفا فعليّا بالرجوع إليها في معرفتها ، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق ـ إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ، وحيث إنّه لا سبيل لنا غالبا إلى تعيينها بالقطع ، ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص ، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره ، فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظنّ الفعلي الّذي لا دليل على عدم حجّيته ، لأنه أقرب إلى العلم ، وإلى إصابة الواقع ممّا عداه ) (1).
وعلى هذه القطعة من كلامه اقتصر الشيخ في النقل ، وأورد عليه بقوله : ( وفيه أولا ، إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة للأحكام الواقعيّة ، وافية بها ، كيف ؟! وإلاّ لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار ، لتوفّر الدواعي بين المسلمين على ضبطها ، لاحتياج كلّ مكلّف إلى معرفتها أكثر من حاجته إلى مسألة صلواته الخمس.
واحتمال اختفائها مع ذلك ـ لعروض دواعي الاختفاء ، إذ ليس الحاجة إلى معرفة الطريق أكثر من الحاجة إلى معرفة المرجع بعد النبي ـ مدفوع بالفرق بينهما كما لا يخفى.
وكيف كان فيكفي في ردّ الاستدلال احتمال عدم نصب الطريق الخاصّ للأحكام وإرجاع امتثالها إلى ما يحكم به العقلاء ، وجرى عليه ديدنهم في امتثال أحكام الملوك والموالي ، إلى أن قال :
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 277.
وقاية الاذهان
_ 736 _
رابعها : حكم العقل بلزوم الرجوع إلى الظنّ في تعيينها.
خامسها : فعلية الأحكام التي تكون مؤدّى تلك الطرق الظنّية دون غيرها لو فرض وجوده.
ولا شك أنّ هذه المقدّمات إن تمّت فلا تكون النتيجة إلاّ ما ذهب إليه من حجّية الظنّ بالطريق خاصة ، بمعنى فعلية الأحكام التي تكون مؤدّى تلك الطرق دون الأحكام المظنونة التي لا تكون كذلك.
والدليل على المقدّمتين الأوليين هو ما مرّ نقله من كلامه من الإجماع ، والسيرة القطعيتان.
وعلى الثالثة الضرورة ، والوجدان ، وقد أوضحه في مواضع عديدة وهي لوضوحها في غنية عن البيان.
وعلى الرابعة نظير ما ذكروه في تقريب دليل الانسداد من عدم جواز الرجوع إلى البراءة ، وعدم وجوب الاحتياط ، وترجيح الظن على غيره في مقام الامتثال ، وتقريبه لا يخفى على المتأمّل ولا سيّما بعد الإحاطة بما مرّ في شرح كلام الشيخ الأعظم ، وبعد مراجعة ما ذكره صاحب الفصول في التقريب الثاني لدليل الانسداد من إبطال الرجوع إلى البراءة وغيرها.
وعلى الخامسة ، أنّ ذلك معنى حجّية الظن ، إذ الحجّة من شأنها أن تكون منجّزة للأحكام الواقعية في صورة المصادفة ، وتكون عذرا في مخالفتها عند عدم المصادفة ، حسب ما تقرّر في موضعه ، كما أنّ من شأن عدم الحجّة عدم فعلية التكليف ، وقبح العقاب على مخالفته ، ولا شك أنّ هذه المقدمات إن تمت لا تنتج إلاّ حجّية الظن بالطريق ، لكونه ظنّا بالحكم الفعلي دون مجرّد الظنّ بالواقع ، لأنه ليس ظنّا بالفعلي من الأحكام ، والعمدة منها المقدّمتان الأوليان اللتان بهما امتاز هذا التقريب لدليل الانسداد عن التقريب الآخر له ، وصار بهما في حرز حريز لا تناله يد الاعتراضات الموردة عليه.