ثم إنّ الشرط إذا كان مأخوذا في الواجب على نحو المقارنة مع الفعل ، فلا بد من إيجاده معه ، وإلاّ لزم تفويت الواجب ، وإذا كان الشرط تدريجيّا كالنهار المشروط به وجوب الصوم يكون إطلاق الأمر تدريجيّا مثله ، ففي المثال يكون بوجود كلّ جزء من أجزاء النهار إطلاق أمر الإمساك فيه ، ويتدرج الإطلاق بمرور أجزاء الوقت ، حتى يستوعب النهار كلّه.
  ومثله القدرة التي هي شرط في وجوبه إذ القدرة على إمساك جميع النهار ليست حاصلة أول النهار ، بل هي حاصلة على كلّ جزء في زمان وجوده ، فلا بدّ ـ إذن ـ من إطلاق الأمر على ما وصفناه ، وإلاّ لم يجب الصوم ، ولا ما كان من بابه أبدا.
  وكان السيد الأستاذ يعبّر عن هذا النحو من الإطلاق بالإطلاق التدريجي ، فمع العلم بحصول القدرة إلى آخر زمان الفعل تجب المقدمات الوجودية له مطلقا ، ويلزم الشروع في الفعل أوّل زمان وجوبه.
  فقول الفاضل المقرر : ( ولا يعقل الاشتغال بالواجب قبل تحقّق الشرط ، حيث إنّ تمام الشرط لا يمكن إلاّ بتمام الفعل كما في مثال الاغتراف ، وكذلك في مثال الصلاة والإزالة ) (1) إلى آخره ، خال عن التحصيل ، وحكم بالامتناع على الواجبات التدريجية مطلقا ، إذ لا فرق بين الشرط المحرّم والسائغ من هذه الجهة ، كما يتضح بالتأمّل فيما أسلفناه ، وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
  خامسها : يشترط في تصحيح الضدّ بقاعدة الترتب صلاحية الوقت للضدّ والعلم ببقاء المصلحة فيه والمقتضي له ، وعدم تبدّلها بمصلحة الأهم أو ذهابها به فلا يصحّح الصوم المنذور في شهر رمضان ، ولا الطهارة المائية في ضيق الوقت ـ على وجه ـ ويبتنى صحة الظهر آخر الوقت على القول بالاشتراك بين

--------------------
(1) مطارح الأنظار : 59.

وقاية الاذهان _ 296 _

  الفرضين في جميع الوقت وإن كان العصر أحقّ بآخر الوقت منه ، بخلاف ما لو قيل باختصاصه بالعصر ، وهذا إحدى ثمرات تلك المسألة ، بل أجداها.
  وجملة القول : أنّ هذه القاعدة مختصة بالمتزاحمين اللذين يعلم ببقاء مقدّمات الطلب فيهما ، وبعدم المانع إلاّ من ناحية عدم قدرة المكلّف عليه إذا أتى بالمهمّ ، فإن علم ذلك كما في إنقاذ الغريقين فذاك ، وإلاّ فالعمومات والإطلاقات كافية في ذلك كما نبّه عليه العلاّمة ـ الجدّ ـ فقال في أثناء كلام له ما هذا بعضه بلفظه : ( ما ذكرناه هو مقتضى إطلاق الأمرين بعد ملاحظة التقييد الثابت بحكم العقل ، فإنّ إطلاق كلّ من الأمرين يقتضي بمطلوبيّة الفعل على سبيل الإطلاق ، ولمّا لم يكن مطلوبيّة غير الأهم في مرتبة الأهم ، لوضوح تعيّن الإتيان بالأهم وعدم اجتماعه معه في الوجود لزم تقييد الأمر المتعلّق بغير الأهم على تقدير إتيانه بالأهمّ ، وأما القول بتقييد الطلب المتعلّق به بمجرّد معارضته بطلب الأهمّ مطلقا ولو كان بانيا على عصيانه وإخلاء الزمان عنه فممّا لا داعي إليه ، وليس في اللفظ ولا في العقل ما يدل على ذلك ) (1) إلى آخره.
  ولكن ينبغي التأمل في ذلك لما يقال : من أنّ الأمر لا يكون له إطلاق بالنسبة إلى عنوان المزاحمة المتأخرة عنه رتبة ، فتأمل.
  ولعلّ كلامه ـ طاب ثراه ـ ليس فيما حملناه عليه ، بل في مقام إثبات وجود الأمر بالمهمّ ، إذ الّذي يثبت بهذه القاعدة إمكان الأمر به لا وقوعه.
  ويمكن أن يقال : إنّ الإطلاقات كما تدل على تعلّق الأمر بجميع الأفراد ،

--------------------
(1) هداية المسترشدين : 243 ـ 244.

وقاية الاذهان _ 297 _
  تدلّ أيضا على وجود المقتضي لها لذلك ، فإذا لم يمكن الاستدلال بالإطلاق على الأمر لهذه الشبهة يبقى دلالته على وجود المقتضي لسلامته عن المزاحمة فيه.
  والمقام يحتاج إلى زيادة التأمل ، ويهون الأمر حصول العلم في أكثر موارد التزاحم ، بل في كلّها إلاّ نادرا بوجود المقتضي في كلّ من المتزاحمين.
  ونقول في بيان المقصود : إذا تزاحم أمران أحدهما أهمّ من الآخر فلا يمكن أن يتعلّق أمران مطلقا بكلّ من المتزاحمين ، ولكن يمكن أن يتعلّق أمر مطلق بالأهمّ منهما ، ويتعلّق بالمهم أمر مشروط بعصيان الأمر الأول.
  فلنا في المقام دعويان ، وليس الوجه في الأولى منهما أنّه يؤول إلى الأمر بالجمع بين الضدّين كما سبق إلى كثير من الأنظار ، وتداولته الألسن ، لأنّ كلّ أمر لا يقتضي إلاّ وجود متعلّقه فقط من غير اعتبار حيثية أخرى ، ولا نظر إلى آمر آخر ، كيف وعنوان الجمع متأخر رتبة عن الأمرين معا ، فلا يعقل اعتبارهما فيه ، بل الوجه فيه أنّ إطلاق الأمر يقضي بصرف القدرة على امتثاله وحفظها له ولو من قبل عصيان غيره ، وسدّ جميع طرق عدم متعلّقه ولو كان بإيجاد ضدّه ، فاللازم من إطلاق الأمرين صرف القدرة التي لا تسع إلاّ أحدهما عليهما معا ، وهذا هو التكليف بما لا يطاق المحال صدوره من الحكيم.
  ولكن لا يلزم ذلك في صورة إطلاق الأمر بالأهم ، وكون الأمر المتعلّق بالمهم مشروطا بعصيان الأمر الآخر ، لأنه مع امتثال الأهم لا تكليف بالمهمّ أصلا ، لفقدان شرطه الّذي هو عصيان الأهم ، ومع فرض العصيان فالقدرة حاصلة على المهمّ ومدّخرة لأجل صحة التكليف به.
  وقصارى ما يلزم منه عدم قدرته عليه لو كان ممتثلا للأمر المطلق ، ومثل هذا لا يمنع من الأمر ، ولا يلزم منه التكليف بغير المقدور ، وله نظائر كثيرة عرفيّة وشرعيّة يأتي بعضها مع مزيد بيان لذلك إن شاء الله.
  وبالجملة ، مزاحمة الأمرين لا يكون إلاّ لاقتضاء الأمر طرد جميع الأضداد

وقاية الاذهان _ 298 _
  حتى متعلّق الأمر الآخر ، وسدّ جميع أبواب العدم على متعلّقه والإلزام بعدم صرف القدرة على أيّ ضدّ كان له ، والمنع من تفويت متعلّقه ولو بإتيان غيره ، إلى غير ذلك من التعبيرات المختلفة المنتهية إلى حقيقة واحدة وهي اقتضاؤه عدم الترك مطلقا ، وهذا شأن الواجب المطلق.
  ولو كان الأمر المتعلّق بالمهم كذلك لزم جميع ذلك ، ولكنه ـ كما عرفت ـ أمر مشروط بعصيان الأمر الآخر ، ولا اقتضاء له مع وجوده أصلا ، حتى أنّه لو فرض محالا إمكان الجمع بين الضدّين وأتى بالمتزاحمين لم يكن المهم مأمورا به ، لفقدان شرطه الّذي هو عصيان أمر الأهمّ ، فإذن الأمر بالمهمّ لا يطرد إلاّ غير الأهمّ من الأضداد ، ويقضي بسدّ جميع أبواب العدم إلاّ من ناحية إتيان الأهمّ.
  ونقول توضيحا للمقصود ، وتنقيحا للبحث في المثال المعروف في هذا الباب ، وهو تزاحم الصلاة أول وقتها مع إزالة النجاسة عن المسجد : إنّ الأمر الفوري المطلق متعلّق بالإزالة ، والأمر المشروط بعصيان هذا الأمر المطلق متعلّق بالصلاة لوجود المقتضي لها بالفرض كما مرّ في المقدّمة الخامسة ، ولا تضادّ بين الأمرين في ذاتهما ، ولا بين مقدّماتهما بحكم المقدّمة الثالثة ، فعلى فرض عصيان الأمر بالأهم يتنجّز الأمر بالصلاة لحصول شرطه ، ولا يزاحمه الأمر بالإزالة لأنه لا إطلاق له بالنسبة إلى فرض العصيان بحكم المقدّمة الثانية ، فإذا علم المكلّف من نفسه وقوع المعصية فقد علم بحصول شرط المهمّ ، فتجب عليه مقدّماته الوجوديّة ولو كانت مقدّمة بحسب الزمان على العصيان على حذو نظائرها ، فيجب عليه الوضوء وتحصيل الساتر.
  وحيث إنّ العصيان يوجد تدريجا يكون إطلاق الأمر تدريجيّا بحكم المقدّمة الرابعة ، وله في كل آن ترك العصيان ، والخروج عن موضوع الأمر بالمهم لعدم اقتضائه تحصيل شرطه كما مرّ فيها أيضا ، وهذا المقدار كاف في ما قصدناه من بيان المراد من هذه القاعدة وإقامة الدليل عليها.

وقاية الاذهان _ 299 _
  وإن شئت زيادة عليه فانظر إلى ما نذكره في الجواب عن شبهات المنكرين لها ، وحيث إنّ كلام الأستاذ في الكفاية قد بلغ في ذلك الغاية ، وأتى مؤلّفها بما قصرت عنه أفكار موافقيه رأيت الاكتفاء به وبيان ما يتّجه عليه ، وهذا لفظه : ( ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرض واحد آت في طلبهما كذلك ، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما ، إلاّ أنه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما بداهة فعليّة الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة ، وعدم سقوطه بعد بمجرّد المعصية فيما بعد ما لم يعص ، أو العزم عليها مع فعلية الأمر بغيره أيضا ، لتحقق ما هو شرط فعليّته فرضا ) (1).
  أقول : قد عرفت في المقدّمة الثالثة أنّ طلب الضدّين ليس من المستحيل الذاتي ، وإنّما المستحيل وقوعه من الحكيم ما لزم منه التكليف بغير المقدور ، وآل إلى طلب المحال ، فإن لزم منه ذلك امتنع.
  ولو كان الفعلان متباعدين بحسب الزمان ، كما لو أمره بالحج في شهره ، وبالإطعام في شهر الصيام ، وليس له من المال ما يفي بهما معا ، وإن لم يلزم ذلك جاز ولو في زمان واحد.
  وبالجملة اتّحاد الزمانين وتعدّدهما لا مدخلية لهما في المحذور المذكور ، وعلى ما تصوّرناه من ترتب الأمرين لا يلزم ذلك أصلا ، إذ الأمران وإن كان يجمعهما زمان واحد ولكن لا تجمعهما رتبة واحدة ، لأن أحدهما مشروط بعصيان الآخر ، ومعناه عدم تحقّق مؤدّاه ، وعدم تأثيره ، وعدم قابليته للتأثير ، وذلك مرتبة متأخرة عن نفس الأمر ، بل هي مرتبة انعزاله عن مقتضاه ، وعدم صلاحيته للتأثير ، وهذه المرتبة مرتبة الواجب المشروط ، فكيف يكون في مرتبة الأمر الأول وهو متأخر

--------------------
(1) كفاية الأصول : 134.

وقاية الاذهان _ 300 _
  عنه تأخّر المعلول عن علّته ؟
  ولعلّ الوجه فيما أورده ، توهّم شمول إطلاق الأمر لحال العصيان ، وإن كان ذلك فقد عرفت ـ بما لا موضع للمزيد عليه ـ أنّ الأمر لا يعقل شموله لهذه الحال.
  وخلاصة القول : إنه لا تضادّ بين الأمرين ، بل التضادّ بين الفعلين ، والأمر على نحو الترتّب لا يؤول إلى الجمع بينهما أصلا ، إذ المفروض في وجود أحدهما عدم وجود الآخر وخلوّ المحلّ فأين المحال ؟
  وإن شئت زيادة الاتّضاح فعليك بمقايسة الإرادة التشريعيّة بالتكوينية ، فطال ما حاولت إيجاد أمر لمصلحة مهمّة فاشتغلت بعدّة من مقدماته ، ثم تصوّرت إمكان عدم حصوله فرتّبت في تلك الحال المقدّمات الموصلة إلى ضدّه الّذي دونه في المصلحة لئلا يفوتك الغرضان معا ، وإذا تذكّرت ما سبق في بابه من اتّحاد الإرادتين بحسب الحقيقة ، وأنّه لا فرق بينهما سوى جعل إرادة الغير إحدى مقدّمات الوجود في التشريعية فقط يتمّ لك القياس.
  عاد كلامه : ( لا يقال : نعم ولكنه بسوء اختيار المكلّف حيث يعصي فيما بعد بالاختيار ، فلولاه لما كان متوجها إليه إلاّ الطلب بالأهم ، ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار ، فإنه يقال : استحالة طلب الضدّين ليست إلاّ لأجل استحالة طلب المحال ، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليّته لا تختص بحال دون حال ، وإلاّ لصحّ فيما علّق على أمر اختياري في عرض واحد بلا حاجة في تصحيحه بالترتّب مع أنه محال بلا ريب ولا إشكال ) (1).
  أقول : أما الاعتراض فهو كلام من يسلّم اجتماع الأمرين ، ويحاول

--------------------
(1) كفاية الأصول : 134 ـ 135.

وقاية الاذهان _ 301 _
  الخلاص عن مضيقته بكونه بالاختيار ، ولات حين مناص ، وقد عرفت أنّ في الترتّب الّذي قرّرناه لا اجتماع أصلا ، فلا أمر بالمهمّ مع وجود الأهم ، ولا بالأهمّ إذا وجب المهمّ.
  وأما ما ذكره في الجواب من أنّ مناط الاستحالة هو طلب المحال فهو حقّ بلا ارتياب ، ولكن أين المحال ؟ وقد عرفت بواضح البيان أنّه بمكان من الإمكان.
  ثم إنّ الشرط في الأمر المهم ـ كما عرفت ـ هو العصيان المقارن ، فما وقع في كلامه من احتمال أنّ الشرط المعصية المتأخرة أو العزم عليها ، فقول لا يقول به المحقّقون من أهل هذا المذهب وستعرف قريبا ـ إن شاء الله ـ الوجه في تعبير بعضهم بالعزم على المعصية.
  ومنه يظهر الجواب عن قوله : ( وإلاّ لصح فيما علّق على أمر اختياري في عرض واحد ) فإنه يرد على من يسلّم الاجتماع.
  وببالي أنّه رحمه الله كان يمثله بقول الآمر : إن صعدت إلى السطح فطر إلى السماء ، وأنت تعلم بما بين الأمرين من الفرق ، إذ الاختيار في الأمرين المترتّبين باق للمكلّف إلى آخر جزء من العبادة ، وله في كل آن أن يشتغل بإتيان الأهمّ ، ولا يكون الخطاب بالضدّ متوجّها إليه أصلا ، وأين هذا من هذا المثال الّذي مقتضاه توجّه الأمر المطلق الفعلي بالمحال بعد الصعود ؟
  وبالجملة الّذي يظهر من كلامه في هذا الكتاب ، وفيما علّقه على رسائل الشيخ الأعظم ، وممّا سمعنا منه في مجلس الدرس أنّه يرى الفرق بين الترتّب وسائر أقسام التكليف بالمحال منحصرا في وجود المندوحة وعدمها فقط ، ولذا قال بعد ذلك :

--------------------
(1) مطارح الأنظار : 51 ـ 52.
(2) نضا ثوبه ، أي : خلعه ، الصحاح 6 : 2511 ( نضا ).

وقاية الاذهان _ 302 _
  ( إن قلت : فرق بين الاجتماع في عرض واحد وبين الاجتماع كذلك (1) ، فإنّ الطلب في كل منهما في الأول يطارد الآخر ، بخلافه في الثاني ، فإنّ الطلب بغير الأهم لا يطارد طلب الأهم ، فإنّه يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهم ، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه وعدم عصيان أمره ، قلت : ليت شعري كيف لا يطارده (2) الأمر بغير الأهمّ ، وهل يكون طرده له إلاّ من جهة فعليّته ومضادة متعلّقة للأهم ؟ والمفروض فعليّته ومضادّة متعلّقه له ، وعدم إرادة غير الأهم على تقدير الإتيان به لا يوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه على تقدير عدم الإتيان به وعصيان أمره ، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادّة بين المتعلّقين ، مع أنه يكفي الطّرد من طرف الأمر بالأهم ، فإنّه على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضدّ كما كان في غير هذا الحال فلا يكون له معه أصلا مجال ) (3).
  أقول : ما ذكره رحمه الله أقوى شبهات منكر الترتّب ، وأنفذ سهم (4) في كنانته (5) ، وبالتأمّل فيما عرفناك به تعلم أنّ كلا من الأمرين لا يطارد الآخر ، أمّا أن المهمّ لا يطارد الأهمّ فلأنه مشروط بعصيان أمر الأهمّ الّذي هو مرتبة سقوطه عن التأثير ، ولا وجود لطلبه في هذه المرتبة ، فضلا عن فعليّته ، كما أنّه مع عدم العصيان لا وجود لأمر المهمّ ، ولهذا لو فرض ـ محالا ـ وجودهما معا في الخارج لم يكن الواجب إلاّ الأهمّ لعدم وجود شرط الأمر بالمهمّ.
  نعم كانت المطاردة تتمّ بينهما لو كان تحصيل شرطه واجبا ، وهذا خلاف

--------------------
(1) أي على نحو الترتب ( مجد الدين ).
(2) الضمير يرجع إلى طلب الأهم وهو مفعول ، والفاعل هو الأمر بغير الأهم والتقديم لأجل ضميريّة المفعول متصلا ( مجد الدين ).
(3) كفاية الأصول : 135.
(4) أي أقوى السهام أثرا ونفوذا ( مجد الدين ).
(5) الكنانة : جعبة السهم ، وبالفارسية ( تركش ) والضمير فيه راجع إلى منكر الترتب ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 303 _
  معنى المشروط.
  وأمّا عدم طرد الأهمّ للمهمّ ، فلما عرفت من عدم اقتضائه متعلّقه على تقدير عدم وقوعه ، ولا تكون المطاردة إلاّ من جهة اقتضاء الأمر الامتثال وبعثه إلى إتيان متعلّقه ، ولا اقتضاء ولا بعث في هذا التقدير ، فإذن الأمران متباعدان بأقصى مراتب البعد معنى وإن اتّحدا زمانا ، ولا فرق فيما هو مناط الإمكان بين هذا الترتب وبين ترتب وجوب الكفارة على عصيان أمر الصوم ، وما كان من بابه الّذي يعترف هذا الأستاذ وموافقوه بإمكانه.
  وبالجملة ، ونوافقه فيما ذكره في مناط استحالة طلب الضدّين وهو طلب المحال ، ونجعل الحكم دائرا مداره ، فنمنع من طلب الضدّين ما يؤول إلى المحال ولو في زمانين ، ونجوّز ما لا يؤول إليه ولو في زمان واحد ، وقد عرفت عدم لزومه على ما قلناه ، فلا داعي إلى تطلّب الحيلة (1) فيما وقع من طلب الضدّين في العرفيّات (2) ، على أنّ ما ذكره لا يجدي في التخلّص عن ذلك ، وهو قوله : ( لا يخلو إمّا أن يكون الأمر بغير الأهمّ بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقيقة ، وامّا أن يكون الأمر به إرشادا إلى محبوبيّته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لو لا المزاحمة ، وأنّ الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة ) (3) انتهى.
  وذلك لأنّ الوجدان في كثير من موارد التزاحم في العرفيّات يشهد ببقاء طلب الأهمّ ، وكيف يتجاوز عنه مع تمامية المقتضي ووجود المصلحة الملزمة ، وعدم المانع سوى العلم بعدم إطاعة المأمور ، وذلك لا يجدي لرفع اليد عنه ، وإلاّ امتنع تكليف العصاة ، ولا آية أجلى على بقاء الطلب من الحث على الفعل حال

--------------------
(1) من قوله : ( الحيلة ـ إلى قوله ـ العرفيّات ) عبارة الكفاية ، وغير مخفي ما فيه من البراعة ( مجد الدين ).
(2) كفاية الأصول : 135.
(3) كفاية الأصول : 135.

وقاية الاذهان _ 304 _
  الاشتغال بالضدّ ومحبوبيّة تركه إن أتى بالأهمّ ، والعقاب على تركه فلا تجدي الحيلة الأولى ، والثانية مثلها ، أو أقل جدوى لذلك بعينه منها.
  هذا وينبغي التأمّل في وجه ما ذكره من أنّ إتيان المهمّ يذهب ببعض ما استحقّه من العقوبة على ترك الأهم ، فهل ذلك لخصوصية يراها في المقام ، أم هو بناء منه على مسألة تكفير مطلق المعاصي بمطلق الطاعات ، أو الموازنة بينهما ، كما هو ظاهر كلامه في حاشية رسالة البراءة ، قال : ( يستحق بذلك مقدارا من الثواب فيقابل مقدارا ممّا استحقّه من العقاب ) (1).
  فإن كانت الأولى فهي لا تناسب إلاّ المتزاحمين المشتركين في المصلحة ، وأكثر موارد المسألة ليست من هذا القبيل كالمثال المشهور ، وأين مصلحة الصلاة من مصلحة الإزالة الراجعة إلى المفسدة في بقاء النجاسة في المسجد ؟
  وإن كان الثاني فجميع العبادات تشارك الضدّ في قابلية التكفير ولو لم تكن مزاحمة للأهمّ كتلاوة القرآن ونحوها.
  عاد كلامه : ( ثم إنه لا أظنّ أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين ، ضرورة (2) قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ، ولذا كان سيدنا الأستاذ ـ قدس سرّه ـ لا يلتزم به على ما هو ببالي ، وكنّا نورد به على الترتّب وكان بصدد تصحيحه ) (3).
  أقول : الأمر بكل من الضدّين عند القائل بالترتب أمر مولويّ فعلي ، ومن شأن هذا الأمر استحقاق العقاب على عصيانه عقلا ، كما من شأنه الثواب

--------------------
(1) حاشية فرائد الأصول للآخوند الخراسانيّ رحمه الله : 167.
(2) أي بداهة ( مجد الدين ).
(3) كفاية الأصول : 135 ـ 136.

وقاية الاذهان _ 305 _
  على امتثاله ، فالتفكيك بين الملزوم ولازمه (1) ، أو بين لازمين بيّنين لملزوم واحد لا يصدر من أحطّ أهل العلم درجة فكيف بهؤلاء الأعلام القائلين به.
  ولو كان على يقين ممّا نقله عن سيده الأستاذ لكان هو الثقة الصدوق الّذي لا يرتاب أحد في صحّة نقله.
  وأمّا إذا كان على شك منه فنحن قاطعون ببراءة عالم مثله عن مثله ، بل لا بدّ للقائل بالترتّب من الالتزام بعقوبات متعدّدة إذا ترتّبت أوامر كذلك.
  وما ذكره من قبح العقاب على ما لا يقدر عليه ففيه أنّ القدرة حاصلة على كل من الضدّين ، وإلاّ لامتنع أصل التكليف ، وقد فرغنا عن إثبات إمكانه ، وكلامه على فرض تسليمه.
  أما القدرة على الأهمّ فحاصلة بالفرض ، وأما على المهمّ فهي أيضا حاصلة على تقدير ترك الأهمّ ، وهي كافية لتصحيح العقوبة كما كانت كافية لأصل التكليف ، ولا دليل على لزوم القدرة أزيد من ذلك ، بل يقطع بعدمه من نظر إلى نظائره الكثيرة الواقعة في العرف والشرع.
  فلو كان رجل في فلاة عزّ فيها الماء ، ومع عبده ماء في إناء فأمره بسقي فرسه فعصى ولم يسقه حتى هلك الفرس فعاقبه على مخالفته ، ثم عطش ولده ، فهل في أهل العرف من يمنعه من طلب الماء لولده ؟ قائلا : إنه لو كان ممتثلا أمرك الأول لم يكن متمكنا من امتثال أمرك الثاني ، ولو أمره وخالف حتى توفّي الولد فهل فيهم من يمنع عن عقابه ويملي عليه كلام هذا الأستاذ ( ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ) ؟ (2) كلاّ.
  ولو كان لرجل فيها من الماء ما يكفيه للوضوء ، فعصى ولم يتوضأ حتى

--------------------
(1) يعني بالملزوم الأمر ، وبلازمه استحقاق العقاب على عصيانه عقلا ، ويعني أيضا بلازمين بيّنين الثواب والعقاب ، وبملزومهما الأمر ( مجد الدين ).
(2) كفاية الأصول : 136.

وقاية الاذهان _ 306 _
  انقضى الوقت ، ثم صادف مسلما بلغ به العطش حدّ الهلاك فهل في أهل الشرع من يتوقف في وجوب حفظ نفسه ؟ وفي صحّة الأمر به ؟ وجواز العقاب على تركه ؟
  ثم لو بقي على حفظ الماء وترك الوضوء شهرا كاملا فهل يشك في صحّة عقابه على ترك جميع الصلوات الفائتة مع الطهارة المائية ؟ مع أنه لم يكن متمكنا إلاّ من بعضها.
  ومن هذا الباب ما لو وجب على رجل نفقة الأرقاب ، فلم ينفق عليهم حتى اجتمع له من المال ما يستطيع به الحج ، فلا شكّ في وجوب الحج عليه ، لحصول القدرة الفعليّة له وإن لم تكن حاصلة على تقدير امتثال أمر الإنفاق.
  ومثله ما لو كان لضعف بدنه لا يتمكن من تحمّل مشقة الصوم وتعب طريق الحج معا ، ولا شك في سقوط الحج عنه لو صام الشهر ، ولكنه لو عصى وبقيت القدرة على الحج فلا شك في وجوب الفرضين عليه ، وفي صحّة العقوبة على تركهما معا إلى غير ذلك من الأمثلة الّتي تجلّ لكثرتها عن التعداد.
  وإذا كان الحكم كذلك في زمانين فليكن كذلك في زمان واحد ، لعدم الفرق فيما هو المناط.
  والسرّ فيه : أنّ المناط في صحّة التكليف ، والعقاب على العصيان ، ليس القدرة على المجموع ، بل على الجميع وهي حاصلة على كل واحد من الأفعال على تقدير ترك الغير.
  ولهذا حكموا في عشرة متيمّمين صادفوا ماء لا يكفي إلاّ لطهور واحد منهم بأنه إذا سبق أحدهم إليه فتطهّر بقي التسعة على تيمّمهم ، ومع ترك الجميع انتقض تيمّم الجميع ، وما ذاك إلاّ لأنّ كل واحد منهم واجد للماء قادر عليه وإن لم تكن قدرة للمجموع ، ولا شك في صحّة عقاب الجميع مع الترك ، مع أنّ مثل هذا القول يتّجه عليه بعينه ، فيقال : كيف يعاقب عشرة على ترك فعل لا يقدر عليه سوى الواحد ؟ وفي الواجبات الكفائيّة نظائر كثيرة لذلك ، مع حكمهم

وقاية الاذهان _ 307 _
  بعصيان الجميع مع الترك.
  واعلم أنّ الفاضل المقرّر (1) رحمه الله زعم أنه يرد على هذه القاعدة ـ وسمّاها المقالة الفاسدة ـ أمران : أحدهما : تعدّد العقاب الّذي عرفت الكلام عليه.
  وثانيهما : التزام صحّة العمل فيما إذا تعلّق النهي بنفس العمل والعبادة ، ضرورة ممانعة غير الأهم عن فعل الأهم ، ومن هنا كان تركه مقدّمة له ، والمانع من العبادة منهي عنه ، فغير المهمّ بنفسه منهي عنه ، ولقد تصدّى لدفعه في التعليقة ، وستعرف التحقيق فيه (2).
  أقول : الظاهر أنه يريد به ما ذكره العلاّمة ـ الجدّ ـ من جواز اجتماع النهي الغيري مع الأمر النفسيّ ، وقد مرّ الوجه فيه وبعض الكلام عليه.
  ونقول أيضا : إنه على ما قرّرناه لا نهي أصلا حتى يتعلّق بالعبادة ويحتاج إلى العلاج ، لأنّ النهي غيريّ ناش عن الأمر بالفرض ، وإذا ثبت بما مرّ في مقدمات هذه القاعدة عدم شمول إطلاق الأمر لصورة العصيان ، فأين النّهي المنبعث عنه ؟ ولا بدّ أن ينتفي بانتفائه انتفاء المسبّب بانتفاء سببه.
  والظاهر أنّ هذا مراد العلاّمة ـ الجدّ ـ من كلامه المتقدم ، وفي كلامه شواهد على ذلك وإن كان التعبير بالاجتماع لا يخلو عن مسامحة.
  فاستبان من ذلك أنّ هذه القاعدة صالحة لدفع النهي وتصحيح الأمر معا ، ولا حاجة معها إلى الوجوه المتقدّمة لعلاج النهي.

--------------------
(1) هو الشيخ الجليل أبو القاسم الطهراني الكلانتري صاحب التقريرات [ المسمّى بمطارح الأنظار ] ، تلميذ شيخنا الأنصاري ومقرّر درسه ( مجد الدين ).
(2) مطارح الأنظار : 59.

وقاية الاذهان _ 308 _
  ( تنبيهات ) (1)
  أولها : أنّ الشرط في وجوب المهمّ هو العصيان المقارن ، ولا يعقل اشتراطه بغيره كالعزم عليه ، وذلك لأن التقرير المتقدّم مبنيّ على سقوط الأمر المطلق عن اقتضائه وسقوطه عن التأثير بوقوع خلاف مقتضاه ، وهذا مختصّ بصورة وقوع العصيان ، إذا العزم ونحوه لا يوجب سقوطه.
  فما وقع في كلام المحقّقين كالعلاّمة ـ الجدّ ـ من التعبير عن الشرط بالعزم ، فالظاهر أنّ الوجه فيه أنّ العزم كاشف عن تحقّق الشرط في وقته فتؤثّر الإرادة في بعث المكلّف نحو إتيان المهمّ وإيجاد المقدّمات اللازم حصولها قبل حصول الشرط على ما سلف بيانه.
  ثانيها : كما يمكن الترتّب بين الأمرين كذلك يمكن بين النهي والأمر بأن يكون مأمورا بالفعل على فرض عصيان النهي (2) ، كما ذكره جدّي الفقيه (3) في كشف الغطاء ، قال : ( وأيّ مانع يمنع المولى الحكيم أن يقول لعبده : لا تدخل الدّار ، وإن دخلت فاقعد في الزاوية الفلانية ؟ ) (4) أو ما هذا معناه (5).
  ويكفي في الجواب عن جميع ما أورد عليه ممّا تركنا التعرّض له حذار الإطالة مراجعة الوجدان ، فلو وقع حريق في دار وكان لصاحبها عقد ثمين في

--------------------
(1) تنبيهات خمسة ( مجد الدين ).
(2) ويمكن الترتب بين النهي والأمر بأن يكون منهيّا عن الفعل على فرض عصيان الأمر ، وكذلك يمكن الترتب بين النهيين ، فإذن يتصور الترتب أقساما أربعة ، وهذا المقام يحتاج إلى التوسعة ( مجد الدين )
(3) الشيخ جعفر النجفي ، وقد ذكرنا جهة نسبة المصنف إليه في حواشينا السابقة ( مجد الدين ).
(4) كشف الغطاء : 27 مضمونا.
(5) لمّا نقل تلك العبارة على ما هو بباله من غير يقين على مقاله ذكر هذا احتياطا ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 309 _
  زاوية منها ، فإنه يمنع ولده من دخول الدار ، ويؤثر هلاك العقد على أن تمسّ النار جسد ولده ، ولكن لو علم بأنه يخالفه في الدخول فلا شك أنه يأمره بإخراج العقد ، ولا يرضى بفوت مصلحة الفعل على تقدير وقوع مفسدة المنهي عنه.
  وفيما تقدّم في مسألة التوضّؤ بالآنية المغصوبة ، وما يأتي إن شاء الله في مسألة من توسّط أرضا مغصوبة زيادة توضيح وبيان.
  ثالثها : كما يقع التزاحم بين الواجبات يقع أيضا بين المستحبات ، بل لا يخلو كلّ مكلّف في كل زمان من عدّة متزاحمات منها مختلفة الأنواع والأصناف (1) ، ولا شك في عدم إمكان تعلّق الأوامر المطلقة بجميعها ، لأن استحالة التكليف بالمحال لا يختص بالتكليف الإلزاميّ ، وما ذكرناه من الترتب بين الواجبات يأتي بعينه في المستحبات بعد تخصيص لفظ الشرط (2) بالترك ، فيقال : يتعلّق الأمر المطلق بأهم المتزاحمات ، وبكل مهمّ على تقدير ترك الأهمّ منها ، وهكذا حتّى يستوعب الجميع ، وإذا تساوت عدّة منها يكون الأمر فيها على التخيير على النمط السابق بيانه.
  ولا مناص لمنكر الترتّب عن تخصيص الأمر بأهمّ الجميع ، والالتزام بعدم تعلّقه بغيره ، وأقصى ما تناله يده في تصحيح العبادات المهمّة هو الاكتفاء فيه بالمحبوبيّة الذاتيّة ، كما يقوله بعض الأساتيذ (3) ، وهذا على علاّته (4) المتقدّمة في بحث أقسام الأمر ، اللازم منه أن يمرّ على المكلّف ستّون وسنة وأكثر ولا يتعلّق به أمر التطوّع بالصوم والاعتكاف إذا كان له رحم تتوقف صلته على المسافرة ، بل

--------------------
(1) وهذا من باب ذكر الخاصّ بعد العام نظير قوله تعالى : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) لأن الأجناس تنقسم إلى الأنواع ، والأنواع تنقسم إلى الأصناف مثل الحيوان منقسم إلى الإنسان وغيره ، والإنسان إلى الروميّ والزنجيّ ( مجد الدين ).
(2) أي العصيان ( مجد الدين ).
(3) صاحب الكفاية ( مجد الدين ).
(4) العلاّت جمع للعلّة التي بمعنى الداء ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 310 _
  الرواتب اليومية لا تكون مأمورا بها إلاّ في فروض نادرة ، إذ الغالب مزاحمتها لقضاء حاجة مؤمن ، أو صلة رحم ونحوها ، على ما هو عليه من البعد.
  رابعها : كما يقع التزاحم بين تكليفين في زمان واحد يقع بينهما أيضا في زمانين ، فلو كان مع المكلّف من الماء ما يكفي لحفظ نفس واحدة من الهلاك ، وحضرته نفس محترمة وعلم بأنّه ستحضره أخرى بعد يوم ، فهل يجب عليه إنقاذ الحاضرة ولو كانت الثانية أهمّ منها فيقدّم ذمّي اليوم على مسلم غد ، أو يجري فيه على الأصل السابق فيترك حفظ الحاضرة إذا كانت الثانية أهمّ منها ، ويتخير مع التساوي ؟ وجهان.
  وبادئ النّظر يقتضي الأول نظرا إلى أنّ حفظها واجب ، وجد موضوعه وتحقق شرطه فتحققت فعليّته ، والثاني لم يجب بعد حتى يزاحم الأول ، ولكن يشكل ذلك بما مرّ بيانه (1) من عدم الفرق بين قسمي الواجب من هذه الجهة ، وأنّ المشروط كالمطلق في وجوب تحصيل مقدماته إذا علم بحصول شرطه في وقته ، ومن مقدّماته حفظ القدرة لامتثاله فيتزاحمان ، ويكون الحكم للعقل ، وحكمه ما عرفت.
  وهذا أقرب إلى قواعد الصناعة وإن لزم منه في فروع كثيرة ما يصعب الالتزام به ، على أنّ الوجه الأول أيضا لا يسلم من أمثاله ، وكيف يحكم الفقيه بتقديم حفظ بهيمة مثلا على حفظ مسلم فقيه علوي بمجرّد تقدّم الزمان ، أو تحقّق موضوع تلك قبل ذاك ؟ والمسألة محتاجة إلى مزيد تأمّل.
  خامسها : ذكرنا سابقا أنّ المنسوب إلى المحقق الثاني جواز تعلّق الأمرين المطلقين بالضدّين إذا لم يكونا مضيّقين ، وقد اختلفت الأنظار في توجيه ذلك ، ولتحقيق مرام محقّق مثله لا بدّ من نقل عبارة القواعد أوّلا ، ثمّ نقل ما يتعلّق

--------------------
(1) في المقدمة الرابعة ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 311 _
  بالمقام ممّا ذكره في جامع المقاصد (1).
  فنقول : قال في القواعد (2) : ( من كان عليه دين أو خمس أو زكاة أو شيء من الحقوق المالية لا تصح صلاته في سعة الوقت ) (3) وقال المحقّق المذكور في أثناء كلام له يعترض به عليه ، ما لفظه : « إن قيل : وجوب القضاء على الفور ينافي وجوب الصلاة في الوقت الموسّع ، لأنه حين وجوب الصّلاة إذا تحقق وجوب القضاء على الفور يلزم تكليف ما لا يطاق وهو باطل ، وإن لم يبق خرج الواجب عمّا ثبت له من صفة الوجوب الفوري.
  قلنا : لا نسلّم لزوم تكليف ما لا يطاق ، إذ لا يمتنع أن يقول الشارع : أوجبت عليك كلاّ من الأمرين ، لكن أحدهما موسّع والآخر مضيّق ، فإن قدّمت المضيّق فقد امتثلت وسلمت من الإثم ، وإن قدّمت الموسّع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم.
  والحاصل أنّ الأمر يرجع إلى وجوب التقديم ، وكونه غير شرط في الصحة والامتثال مع انتقاضه بتضيّق الوقت ، فإنه إن بقي الوجوب لزم ما سبق ، وإن خرج لزم خروج الواجب عن صفة الوجوب ، مع أنه لا دليل على الترجيح ، إذ هما واجبان مضيّقان قد تعارضا ، فلا بدّ من خروج أحدهما عن صفة الوجوب لئلا يلزم المحذور ، والدلائل تدل على خلافه ، ومع تسليمه فلا دليل يقتضي خروج واحد بعينه من الصلاة في آخر الوقت وقضاء الحق المضيّق ، فالحكم بصحّة الصلاة في آخر الوقت أيضا باطل لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجّح ، ولانتقاضه بمناسك يوم النحر ، فإن الترتيب فيها واجب ، ولو خالف أجزأت عن

--------------------
(1) وهو شرح للقواعد ( مجد الدين ).
(2) وهو للعلاّمة الحلي ( مجد الدين ).
(3) قواعد الأحكام 1 : 156.

وقاية الاذهان _ 312 _
  الواجب الّذي في الذمّة ، وإنما تجزي إن كانت واجبة مع عدم الترتيب ، لامتناع إجزاء غير الواجب عن الواجب ، وإنما يعقل الوجوب على التقديرين ، والتأثيم على تقدير واحد بخصوصه بناء على ما قدّمناه ، فلو كان وجوب شيء يقتضي إيجاب ما يتوقف عليه وإن كان مقابله واجبا لامتنع الإجزاء هنا وفي كل موضع أشبهه ، وهذا من غوامض التحقيقات ) (1) انتهى المقصود من كلامه قدّس سرّه.
  والعلاّمة صاحب البدائع حاول توضيحه ، فأطال البيان ، وحاصل ما يستفاد منه حمل كلامه على الترتّب المشهور المتقدّم بيانه. وقد يحمل على ما سبق ذكره أول البحث (2) من تجويز تعلق الأمرين المطلقين بالمتزاحمين إذا لم يكونا مضيّقين ، ويدّعى أنّ العقل يجوّز قول السيد لعبده : أريد منك كنس الدار مع تبيّن الفجر بلا تأخير ، ورشّها منه إلى زوال الشمس بأن يكون أول الفجر وقتا للفعلين معا ومختصّا بأولها ، إذ لا مانع إلاّ توهّم لزوم التكليف بما لا يطاق وهو مفقود في المقام ، لتمكّن المكلّف من امتثال الأمرين معا بتقديم هذا وتأخير ذاك.
  وكلا الوجهين بعيدان من كلام هذا المحقّق ، وأوّلهما أبعدهما ، إذ الترتّب المشهور متوقف على مشروطية أحد الأمرين وإطلاق الآخر ، وليس في مجموع الكلام المتقدّم نقله عين للشرط ولا أثر ، وأنا أحاشي هذا الأستاذ عن مثل هذا ، وإنما هو من بعض أصحابه الّذي تكلّف تتميم الكتاب.
  وأما الثاني فهو صحيح إن كان المراد صلاحية الوقت للفعلين ، ووجود العلاقة اللازم وجودها بين الوقت والموقّت فيهما معا ، كما في وقت الظهرين والعشاءين على ما نقول به من اشتراك الوقت بينهما في جميع الوقتين وإن لزم

--------------------
(1) جامع المقاصد 5 : 13 ـ 14.
(2) بدائع الأفكار : 390.

وقاية الاذهان _ 313 _
  تقديم الأوليين لقولهم عليهم السلام : ( إذا زالت الشمس دخل الوقتان ـ أو وقت الصلاتين ـ إلاّ أنّ هذه قبل هذه ) (1) إلى آخره.
  وهذا قد يكون على نحو الشرطيّة إمّا مطلقا أو في خصوص حال التذكّر كما في الصلاتين ، وقد يكون عنوان التقدّم واجبا نفسيّا ، بمعنى أنّ في التقدّم مصلحة ملزمة ، وبتأخيره تفويت تلك المصلحة.
  والظاهر أنّ مناسك الحج الّذي ذكرها نقضا من هذا القبيل ، ولكن أين جميع ذلك من دفع الشبهة العقلية ؟ ومقابله حكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق ، وتخصيصه الموسّع بما بعد زمان المضيّق ، لأنّ البعث إليهما معا نفسيّا بعث إلى المستحيل ، وطلب لغير المقدور ، ولا فرق في مناط حكم العقل بالامتناع بين طلب المحال في ساعة واحدة أو في جميع الساعات ، فلو فرض أنّ السيّد أمر هكذا ، فالعقل يحكم بالتخصيص المذكور كي لا يلزم المحذور.
  ومن الطريف أنّ صاحبنا العلاّمة أدام الله أيامه حاول تصحيح ذلك ، فجعله مبنيّا على أمرين :
  أحدهما : أن لا يكون التخيير بين الأزمنة شرعيّا.
  وثانيهما : أن لا يقال باستلزام الأمر بالطبيعة السراية إلى الفرد ، وحاول بعد ذلك تصحيح ذلك مطلقا ، فقال : ( يمكن أن يقال : لا مانع من الأمر حتى على القول بالتخيير الشرعي أو على القول بسراية حكم الطبيعة إلى الأفراد ، لأنّ المانع من التكليف بما لا يطاق ليس إلاّ اللغوية ، وهي مسلّمة فيما إذا كان نفس الفعل غير مقدور كالطيران إلى السماء.
  وإذا كان بنفسه مقدورا ـ كما في ما نحن فيه ، غاية الأمر يجب بحكم

--------------------
(1) الكافي 3 : 276 ـ 5 ، الفقيه 1 : 139 ـ 647 ، التهذيب 2 : 26 ـ 73 ، الاستبصار 1 : 260 ـ 934.

وقاية الاذهان _ 314 _
  العقل امتثال أمر آخر من المولى ـ فلا يلزم اللغويّة ، إذ يكفي في ثمرة وجود الأمر أنه لو أراد المكلّف عصيان الواجب المعيّن يقدر على إطاعة هذا الأمر ، ومن ذلك يظهر أنّ قياس مقامنا بمثال الطيران إلى السماء ليس في محلّه ) (1) انتهى.
  ولا أدري متى كانت اللّغوية مناطا لقبح التكليف بغير المقدور أو لامتناعه وعهدنا بالقدرة وهي بنفسها شرط في جواز التكليف ، بل في تحقّق الطلب ، وأنّ الإرادة لا يعقل تعلّقها بغير المقدور تشريعيّة كانت أم تكوينيّة ، ولو أمكن إثبات كون اللغويّة هي المناط لسهل بيان الترتّب بلا احتياج إلى ما علمته من المقدّمات.
  وبالجملة لم يظهر لنا بعد محمل لهذا القول يليق بمقام قائله ، فكأنه يرى في مسألة فورية القضاء وما كان من بابها وجود أوامر ثلاثة يتعلّق اثنان منها بالواجبين ، وثالث بعنوان التقديم ، كما يدلّ عليه قوله في العبارة المتقدمة : ( وإن قدّمت الموسّع فقد امتثلت وأثمت في المخالفة ، والحاصل : أنّ الأمر يرجع إلى وجوب التقديم ) (2) إلى آخره.
  وعلى هذا فهو خارج عن حمى مسألتنا هذه التي لا مدخليّة لغرض التقديم فيها أصلا ، بل المناط فيه حكم العقل بالجمع بين الغرضين المتعلّقين بالمتزاحمين ، وحكمه بعدم إمكان البعث إلى المهمّ إذا استلزم عصيان الأهمّ ، بل هو من باب مناسك الحج التي استشهد بها حيث علم من الدليل وجود مصلحة ملزمة في التقديم زيادة على المصلحة الموجودة في أصل الواجبين ، وليس الإجزاء فيها إلاّ لفوت غرض التقديم ، وعدم إمكان تداركه على ما سبق بيانه في بحث الإجزاء.
  على أنه مع ذلك يصيبه نصيب من الإشكال ، إذ المجال فيه واسع للسؤال

--------------------
(1) درر الفوائد 1 : 106 ـ 107.
(2) جامع المقاصد 5 : 14.

وقاية الاذهان _ 315 _
  عن الوجه في جواز أمر الشارع بالموسّع مع تعلّق بعثه الفعلي إلى التقديم الّذي مرجعه إلى إتيان المضيّق فورا ، بل نهيه عن الموسّع بناء على اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه.
  هذا ، وأما ما ذكره في تضييق الوقت فالوجه فيه ظاهر ممّا مرّ في مقدّمات الترتّب من أنّ الحكم في مرحلة الامتثال للعقل وحده ، وحكمه تقديم الأهم إن كان أحدهما أهمّ ، وإلاّ فالتخيير ، فلا يصح قوله ، مع أنه لا دليل على الترجيح في الأول ، ولا نقول بالترجيح في الثاني ، ولا يمكنه القول به أيضا على مبناه ، ولا بدّ له من الإذعان بما قلناه ، إذ لا أمر بالتقديم في المتساويين قطعا.
  هذا كلّه في بيان تصور الأمر بالضدّ إذا كان عبادة.
  وقد يدّعى عدم لزوم وجود الأمر في تصحيح العبادة ، وأنه يكفي ملاكه ، كما قال في الكفاية : ( لا وجه لصحّة العبادة مع مضادتها لما هو أهمّ منها إلاّ ملاك الأمر ) (1) وقد سبق بعض النّظائر له والكلام.
  وهذا له وجه على ما قررناه من عدم توقف العبادة على وجود الأمر ، بل يكون عبادة ولو مع النهي ، ولكن كيف يقول به إذا جعل قصد الأمر مقوّما لمعنى العبادة ؟ فإنه لا مجال لتوهّم الأمر إذا كانت مزاحمة له في تمام الوقت كما صرّح به.
  هذا آخر ما أردنا إيراده في مباحث الأوامر ، ويتلوه القول في النواهي إن شاء الله ، ولله الحمد والفضل ، وعلى نبيّه وآله الصلاة والسلام.

--------------------
(1) كفاية الأصول : 136.

وقاية الاذهان _ 316 _
القول في النواهي

  المباحث المتعلّقة بالنهي منها ما يتعلّق بحقيقته ، ومنها ما يتعلّق بالدالّ عليه ، ولمّا كان شريك الأمر في كون كلّ منهما طلبا ، إلاّ أنّ هذا طلب الترك ، وذاك طلب الفعل ، يظهر الحال في أكثر المباحث المتعلّقة بالقسم الثاني ـ كالمباحث المتعلّقة بمطلق الطلب ـ بما تقدّم في مباحث الأمر.
  1 ـ فإذن ، النهي بمادّته وصيغته موضوع لطلب ترك متعلّقه ولو كان تركا ، ومستعمل فيه وإن كان بدواع أخر غير الطلب.
  ويحمل مجرّده على عدم الرضا بالفعل ( الحرمة ) لا لوضع اللفظ له ، ولا لخصوصيّة فيه من قرينة ونحوها ، بل لتمام الحجّة به وعدم صحة اعتذار المنهي إذا ارتكبه باحتمال كونه للكراهة.
  ولذا يجري عمدة ما ذكروه في حمله على التحريم من ذم العقلاء على المخالفة ، وحكمهم باستحقاق العقاب عليها في غير الألفاظ ، كما تقدم.
  2 ـ ويعتبر فيه كالأمر صدوره ممّن تلزم إطاعته ولو ادّعاء بجهة من الجهات من حيث إنه واجب الإطاعة ، ولا يكفي مطلق العلوّ ولا الاستعلاء إن لم يرجع إلى ادّعاء العلوّ ، ولا ممّن تجب إطاعته إذا لم يصدر من جهة وجوب الإطاعة ، ولذا لا يصدق على نهي الملك لغير رعيّته ، والمولى لغير عبده ، ولا على نهي من تجب طاعته إذا لم يصدر من تلك الجهة ، ولذا قال صلّى الله عليه وآله في جواب بريرة لمّا قالت : أتأمرني يا رسول الله ؟ : ( لا ، بل أنا شافع ) (1).
  واعتبر بعضهم فيه ـ كالأمر ـ العلوّ والاستعلاء معا ، وخصّه بكل منهما

--------------------
(1) سنن الدار قطني 3 : 294 ـ 183 ، صحيح البخاري 7 : 62 ، سنن ابن ماجة 1 : 671 ـ 2075.

وقاية الاذهان _ 317 _
  قوم ، واكتفى آخرون بأحدهما ، منهم الشيخ الإمام ـ الجدّ (1) ـ ولكنه شرط في العلوّ عدم ملاحظة خلافه باعتبار نفسه مساويا للمأمور أو أدنى منه ، قال طاب ثراه وهذا لفظه : ( والّذي يدلّ عليه ملاحظة العرف ، أما صدقه مع الاستعلاء وإن خلا من العلوّ فلظهور صدق الأمر بحسب العرف على طلب الأدنى من الأعلى على سبيل الاستعلاء ، ولذا قد يستقبح منه ذلك ، ويقال له : ليس من شأنك أن تأمر من هو أعلى منك.
  وأما الاكتفاء بالعلوّ الخالي عن ملاحظة الاستعلاء فلأنّ من الظاهر في العرف إطلاق الأمر على الصيغ الصادرة من الأمير إلى الرعيّة والسيّد بالنسبة إلى العبد وإن كان المتكلم غافلا عن ملاحظة علوّه حين الخطاب كما يتفق كثيرا.
  وممّا يشير إليه انحصار الطلب الصادر من المتكلم في الأمر والالتماس والدعاء ، ومن البيّن عدم اندراج ذلك في الأخيرين فتعيّن اندراجه في الأول.
  والحاصل : أنهم يعدّون الخطاب الصادر من العالي أمرا إذا لم يخفض نفسه ، وليس ذلك من جهة استظهار ملاحظة العلوّ ، لظهور صدقه مع العلم بغفلته أو الشك في اعتباره بملاحظة خصوص المقام.
  وقد يخلو المقام عن ملاحظة الاستعلاء قطعا ، كما إذا رأى السيّد أحدا وشكّ في كونه عبده أو رجلا آخر مساويا له أو أعلى ، فطلب منه شيئا بصيغة الأمر ، فإنّ الظاهر عدّه أمرا إذا كان عبده بحسب الواقع ، ولذا لو عصى العبد مع علمه بكون الطالب مولاه عدّ في العرف عاصيا.
  وأما عدم صدقه مع استخفاض العالي نفسه بجعلها مساوية مع المخاطب

--------------------
(1) ذكره في بحث الأوامر ، وحيث قد فاتنا تفصيل القول هناك تداركناه في هذا البحث ، وظاهر عدم الفرق بين الأمر والنهي من هذه الجهات ( منه ).

وقاية الاذهان _ 318 _
  أو أدنى ، فلظهور عدّه ـ إذن ـ ملتمسا أو داعيا في العرف ، كما أنه يعدّ المساوي أو الداني مع استعلائه آمرا.
  والحاصل : أن الطلب الحاصل بالأمر أو الالتماس أو الدعاء إنما ينقسم إلى ذلك بملاحظة علوّ الطالب أو مساواته أو دنوّه بحسب الواقع أو ملاحظته على سبيل منع الخلوّ ، والعرف شاهد عليه ) (1) انتهى ببعض اختصار.
  أقول : لا شك في صدق الأمر مع الاستعلاء الخالي عن العلوّ ، ولكنه لا يكون إلاّ بعد ادّعاء العلوّ ولعلّه هو.
  وما ذكره من غفلة المتكلم عن ملاحظة علوّه حين الخطاب فلمانع أن يمنع إمكان صدور الأمر مع الغفلة التامّة عن جهة صدوره كما في سائر الإنشاءات ، فكما لا يمكن غفلة البائع أو المطلّق عن كونه مالكا أو زوجا لا يمكن غفلة الآمر عن كونه مولى.
  وكما لا يخلو المشتري عن الالتفات ـ ولو إجمالا ـ بأنه يشتري البضاعة لنفسه أو لغيره ، لا يخلو الآمر من الالتفات إلى كونه آمرا أو شافعا.
  نعم من الممكن الواقع كثيرا عدم الالتفات التفصيليّ إلى جهة طلبه ، ونظائره في الأفعال الاختيارية غير عزيزة ، كالتنفس وقصد المكان البعيد طول الطريق.
  ويتضح لك ذلك إذا فرضت نفسك في محفل وفيهم الأعلى منك ، والمساوي لك ، ومعك عبدك أو خادمك ، فإنك لا توجّه أمرك بإحضار نعلك إلاّ إلى العبد والخادم ، وما ذاك إلاّ لالتفاتك الإجمالي إلى الجهة المذكورة.
  وأما توجيه الأمر إلى من يشك في أنه عبده أو غيره فلا ينافي صدوره من الجهة التي اعتبرناها فيه ، غايته ان يكون أمرا احتماليا ، وكم له من نظير في

--------------------
(1) هداية المسترشدين : 132.

وقاية الاذهان _ 319 _
  ضروب الإنشاء ، فإنك تخاطب الشيخ المرئي في الظلام إذا احتملت أن يكون إنسانا يفهم الكلام ، والأعمي يلحّ في السؤال باحتمال وجود سامع يرجى منه النوال.
  ويرشد إلى كونه امرا اعتذاره من استعلائه وتوجيهه الأمر إليه إذا انكشف له أنه غير عبده ، ومن ذلك يظهر الوجه في عدّ العبد عاصيا إذا خالفه.
  وأما انحصار الطلب في الأقسام الثلاثة فما هو إلاّ حصره فيها بحسب مراتب الطالب ، لا بحسب الجهات التي يصدر منها الطلب ، وقد يصدر ممّن تجب طاعته لا من حيث وجوب الطاعة ، ولذا لا يكون أمرا ، وقد سمعت قوله صلّى الله عليه وآله : ( لا بل أنا شافع ) (1).
  وكما ينقسم بحسب المرتبة إلى الأقسام الثلاثة تنقسم الشفاعة إليها أيضا وإن (2) كان اللفظ منصرفا لدى الإطلاق إلى شفاعة الأعلى لغيره. ولو ثبت وجوب قبول شفاعة النبي فلا بدّ أن يكون لدليل آخر غير قوله تعالى : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (3) ونحوه.
  ومن هذا يظهر وجه النّظر فيما قرره أخوه ـ العلاّمة ـ في خبر بريرة ، وهذا لفظه : ( فنفى الأمر وأثبت الشفاعة وهي للندب ) (4).
  وفيما ذكره الفاضل القمي من أنّ ( دلالة الأمر على الاستعلاء يقتضي

--------------------
(1) سنن الدار قطني 3 : 294 ـ 183 ، صحيح البخاري 7 : 62 ، سنن ابن ماجة 1 : 671 ـ 2075.
(2) ولذا لا يطلق الشافع على من صلّى الله عليه وآله صلّى الله عليه وآله فهي كالأمر يختص بالعالي مع اشتراكها مع الدعاء بحسب الحقيقة.
ومنه يتضح الجواب عن استدلال المعتزلة على أنّ الشفاعة لا تكون في طلب زيادة الثواب ، وإلاّ لزم أن نكون شفعاء للنبي صلّى الله عليه وآله إذا صلّينا عليه ، وقد وقع في بحث الشفاعة من كتاب التجريد وبعض شروحه ما لا يخلو عن تأمل ، فراجع ( منه ).
(3) النساء : 59.
(4) الفصول الغرويّة : 63.

وقاية الاذهان _ 320 _
  الإيجاب والإلزام ، إذ لا معنى لإظهار العلو في المندوب ) (1).
  وهذا وأشباهه من الخلط بين الجهات التي ينقسم إليها الطلب من التقسيم باعتبار مرتبة الطالب ، أو رتبة الطلب ، أو الجهة التي يصدر منها الطلب ، فتبصّر.
  وبالجملة ، لا بدّ في صدق الأمر والنهي إلزاميّين كانا أو غيره من صدورهما من جهة الإطاعة ، نعم الظاهر لزوم حملهما عليها عند الإطلاق ، لنظير ما سبق في وجه حملهما على الوجوب والحرمة ، فراجع.
  3 ـ ولا يدل على فور ولا تراخ ولا استمرار ، بل يدل على طلب عدم الحدث الّذي تعلّقت الهيئة به.
  نعم لمّا كان ترك الطبيعة لا يحصل إلاّ بترك جميع الأفراد في جميع الأزمان ، لزمه الفور والاستمرار إلاّ أن تكون الطبيعة مقيّدة بشيء فتتبعها الهيئة.
  4 ـ وهو للكف عن الفعل ، لا لطلب الكف عنه ، كما ذهب إليه أكثر المتقدّمين.
  فإن أرادوا لزوم تعلّق النهي به لتوهم أنّ العدم غير مقدور فلا يمكن تعلّق التكليف به ، كما يظهر من حجّتهم المعروفة ، فهو واضح الفساد ، ضرورة أنّ العدم لو كان غير مقدور لم يكن الوجود أيضا مقدورا ، لتساوي نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم ، إذ القدرة على أحدهما اضطرار لا قدرة كما في الفصول (2).
  وإن أرادوا عدم حصول الامتثال وما يترتب عليه من القرب والثواب ونحوهما ، كما يظهر من دليلهم المنقول في غاية المأمول ، فهو حسن إلاّ أنه غير مجد في المقام ، إذ لا ملازمة بين ما يتعلّق به التكليف وبين ما يحصل به الامتثال كما

--------------------
(1) قوانين الأصول 1 : 81.
(2) الفصول الغرويّة : 121.

وقاية الاذهان _ 321 _
  في الأمر.
  5 ـ بيّنا في بحث الأوامر أنّ الطبيعة الصرفة غير قابلة لتعلّق الطلب بها ، وأنه لا بدّ من اعتبار أحد الأمرين من الوجود والعدم وان الوجود الملحوظ قد يكون على نحو الأفرادي ، وقد يكون على نحو العام المجموعي ، وقد يكون على نحو صرف الوجود الّذي يعبّر عنه بناقض العدم وطارده ، وأنّ الأخير هو المتيقّن منه والمعوّل عليه عند الشك ، ونقول بمثله في المقام ، إذ العدم الملحوظ في النهي لا يخلو من أحد هذه الأقسام نحو لا تشرب الخمر ، ولا تأخذ جميع الدراهم التي في الصرّة ، ولا تأكل الثوم يوم الجمعة.
  وعلى هذا إذا شك في بقاء النهي بعد المخالفة فمقتضى أصالة البراءة عدمه ، ولكن الغالب على النواهي هو الأول ، إذ النهي يتبع المفسدة الموجبة له ، والغالب فيها تكرّرها بتكرّر الأفراد كتأكّدها في المفاسد القابلة للشدّة والضعف ، والقلّة والكثرة ، والطول والقصر كضرب المؤمن وحبسه.
  فلا بدّ في معرفة ذلك من الرجوع إلى الدليل ، فإن وجد عموم أو إطلاق أو غيرهما فهو المتّبع ، وإلاّ فالأصل ما عرفت.
  وفي ذوق الفقاهة ومناسبة الأحكام لموضوعاتها ، وملاحظة الحكم الموجبة للنهي ما لا يدع موردا للأصل إلاّ النادر.
  ولذا يحكم على من نذر ترك الخمر بالحرمة وإقامة الحدّ في جميع مرّات التكرار ، وبالحنث ، والكفارة في أول المرّات فقط ، وهذا بناء على صدق الحنث على سائر المرّات.
  ولمانع أن يمنع ذلك ، ويجعل الحنث كالقتل غير قابل للتكرار ، وهو الظاهر إذ تعدّد الحنث لا يكون إلاّ بتعدّد المنذور ، فلا حنث مع عدم شمول النذر ، ولا شك مع الشمول ، ومع الشك فالمرجع الأصل.
  6 ـ ينقسم النهي إلى ما ينقسم إليه الأمر ، فيكون نفسيّا وغيريّا ، والأول