أنحاء الاعتبار ، ولو تفحّصت لوجدت ذلك في كلام غيره أيضا.
وقد فسّر ذلك في بحث قصد الأمر ، فقال : ( المطلوب في الأمر المطلق حصول الفعل مجرّدا عن القيدين ، أي من غير اعتبار شيء منهما ) (1).
ولو لا ما قلناه لم يكن وجه لتفسير الواضح ، فمؤاخذته على ذلك مؤاخذة على اللفظ ومشاحّة فيه.
ثمّ ما ذكره من ابتناء ذلك على أن تكون القربة من القيود اللاحقة للمأمور به ، فدعوى لا شاهد عليها ، ولا أنه مذهب صاحب الفصول في مسألة اعتبار قصد القربة ، ولا ابتناء لهذا الجواب على ذلك أصلا ، بل هو مبني على انقسام متعلّق الأمر إلى قسمين المستلزم لانقسام الترك إليهما أيضا ، وهذا أمر واضح ، إذ الأمر ينقسم إلى توصّلي لا تعتبر فيه القربة ، وتعبّدي تعتبر فيه ، ومهما كان وجه اعتباره يحصل الانقسام ، فلا موقع لقوله : ( لا يقال .... ).
وقد علّم هذا الفاضل الموالي حيلة يحتالون بها على اعتبار قصد القربة بالأمر بالفعل أوّلا ، والتبسه بالمقصود ثانيا ، وتلك الحيلة جارية في المقام ، وكافية فيه.
وبالجملة ، اعتبار القربة في المطلوب الواقعي ممّا لا شكّ فيه ، ولا ينازع فيه أحد وإن اختلفوا في وجه اعتباره ، فالانقسام بحسب الواقع حاصل ، وهذا يكفي صاحب الفصول أمكن اعتباره في الأمر أم لا.
ولله درّ فراسة العمّ ، فقد علم أنّ كلامه لغموضه يخفى على أوائل الأنظار ، فقال آخر البحث : ( وعليك بإمعان النّظر فيه ، فإنه من الغموض بمكان ) (2).
صدق ـ طاب ثراه ـ لو كان هذا الفاضل أجاب ملتمسه ، وأمعن النّظر لم
يكن يخفى على مثله في نبله وفضله ، إنّ لازم ذلك ـ بعد الانقسام المذكور ـ ليس التناقض الّذي توهّمه ، والترك المتقرّب به ليس نقيضا للفعل المطلق ، ولا بعد في أن يكون لكلّ من الفعل مع القربة وتركه كذلك ، مصلحة تدعو الآمر إلى الأمر بهما ، فيحصل التقرّب بكلّ منهما.
على أنّ صاحب الفصول ممّن يذهب إلى إمكان كون المصلحة في الأمر ، وقد قال هذا الفاضل في خاتمة كلامه : ( نعم يصح ذلك في القيود التي تكون من قبيل الإجابة للمؤمن ، فالصوم من حيث إنّه صوم مستحب ، وتركه من حيث إنّه إجابة للمؤمن يمكن أن يكون مستحبّا ، فالتقرب به ليس تقربا بترك الصوم (1) ، بل بعنوان الإجابة المتّحدة مع الترك ، وبذلك يظهر بطلان المقايسة المذكورة ) (2).
كلاّ ، لم يظهر بطلان المقايسة بل ظهر أنّ هذا الفاضل بعد هذا النزاع ، شديد نزع إلى قول الفصول ، بل اعترف بمقالته بعد تغيير لفظ التقييد بالقربة إلى التقييد بعنوان الإجابة ، وعلى هذا جرى في الوجه الّذي جعله حاسما للإشكال في العبادات المكروهة التي لا بدل لها من جنسها ، فقال : ( لا ضير في أن يكون طرفا النقض من شيء واحد ولو من حيث اندراجهما (3) تحت عنوان آخر ذي مصلحة مقتضية لهما (4) ، كفعل الأكل المندرج تحت عنوان إجابة المؤمن [ المستلزم ] (5) لترك المندرج تحت عنوان الصوم ، وحيث إنّه لا يسعنا الجمع بين المتناقضين ، فلا محالة يصير التكليف بهما تكليفا على وجه التخيير بين الفعل
--------------------
(1) تأمّل فيه ، إذ الجهة تعليليّة ، فهو بمنزلة قوله : أكرم زيدا لأنه عالم ، ولا تكرمه لأنه فاسق ( منه ).
(2) مطارح الأنظار : 134.
(3) في الأصل والمصدر : اندراجها ، وما أثبتناه هو الصحيح.
(4) في المصدر : للأمر بهما.
(5) زيادة يقتضيها السياق.
وقاية الاذهان
_ 378 _
بعنوانه والترك بعنوانه ) (1).
ثم بعد تطويل وإسهاب ، قال : ( لعلّ وجه الأمر والنهي هو أن يكون الفعل والترك بداعي الأمر والنهي لحصول الامتثال ، وليس المقيّد في المقام هو القربة ، كما زعمه بعض الأجلّة ، بل المقيّد هو العنوان الخارج الملازم ، والقربة إنما هي معتبرة فيه ) (2).
نشدتك الله تعالى ، إلاّ أن تقابل هذا الوجه الّذي يرجى بقوله : لعلّ ، أن يكون حاسما للإشكال ، وبين كلام الفصول ، فهل تجد فرقا يصلح للفارقيّة بينهما ؟ إلاّ أنه غيّر لفظ التقييد بالقربة إلى التقييد بالعنوان لظنّه عدم إمكان التقييد بها.
وقد عرفت أنّ عمدة جواب الفصول التي بنى أساس الجواب عليها ، تقسيم كلّ من الفعل والترك إلى عباديّ وغير عباديّ ، وبه تخلّص عن التكليف بالنقيضين ، وعرفت أنّ صاحب الفصول لا ينكر العنوان الّذي صار سببا للحكم ، بل لا بدّ له منه إن لم يكن الصلاح في نفس الطلب.
ثمّ راجع وجدانك ، فهل يسعه إلاّ الاعتراف بأنّ هذا بضاعة الفصول ردّت إليه بعد ما اعترض عليه ؟ أليس قوله : ( لعلّ وجه الأمر والنهي هو أن يكون الفعل والترك بداعي الامتثال ) (3) هو بعينه مطلب الفصول ؟ فلتكن القربة هي العنوان ، أو تكون معتبرة في ذلك العنوان الّذي ربّما يجهل.
وقد علّل نفسه ـ فيما أسقطناه من كلامه ـ بأنه لا حاجة إلى معرفته تفصيلا ، فأيّ فرق يحصل في المقام ؟
ولو سلّمنا أنّ صاحب الفصول يجعل العنوان نفس القربة ، وأغمضنا عمّا تقدّم من المنع وبيان سنده ، فهذا الفاضل ينازعه في مسألة أخرى محلّها باب
الأوامر.
وأما الجواب ، فهو ذلك الجواب ، ولكن سلبه بزّته (1) بعد ما أخلق ديباجته ، لأنّ الفصول جعل متعلّق كلّ من الطلبين غير متعلّق الآخر ، فصحّ جوابه حتّى على القول بامتناع الاجتماع.
وأما هذا الفاضل وجّهه بما لا يرضى به حتى القائل بالجواز ، لأنّه وجّه الطلبين في أول كلامه إلى النقيضين ـ راجع أول كلامه المنقول ـ غايته كلّ بجهة ، وفيه وفي أمثاله لا بدّ من وقوع الكسر والانكسار بين المصلحتين شأن كثير من الواجبات والمحرّمات ، إذ قلّما تجد واجبا خاليا من جميع جهات الصلاح ، أو محرّما ليس فيه وجه للصلاح ، وقد قال تعالى في المحرّمين العظيمين : ( فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ) (2) فإذا اجتمع طلب الصوم مع طلب تركه لإجابة المؤمن فلا بدّ من فعليّة أحدهما ، وعدم فعليّة الآخر ، فإذا كانت مصلحة الإجابة هي الأشدّ ، فلا يعقل تعلّق الطلب الفعلي بالصوم.
وهذا أوضح من أن يخفى على مثل هذا الفاضل ، ولكنه يراوغ (3) عن انقسام كلّ من متعلّقي الطلبين إلى قسمين ، كما حقّقه صاحب الفصول ، ثم لا يجد بدّا من الاعتراف به ، كما هو مقتضى سائر كلامه.
حكى الفاضل النراقي عن بعض مجوّزي اجتماع الأمر والنهي الاستدلال بإجزاء غسل واحد عن الجنابة والجمعة ، زعما منه أنّ ذلك من باب
--------------------
(1) البزّة بالكسر : الهيئة ، الصحاح 3 : 865 ، مجمع البحرين 4 : 8 ( بزز ).
(2) البقرة : 219.
(3) أي : يميل إليه في خفاء ، مجمع البحرين 5 : 10 ( روغ ).
وقاية الاذهان
_ 380 _
اجتماع الواجب والمندوب ، فيكون من باب اجتماع الحكمين (1).
وهذا من طريف الاستدلال ، لأنّ لفظ الإجزاء الّذي ورد في النص وفتاوى الفقهاء ، وجعله هذا المستدل عنوان دليله ، معناه : الاكتفاء الّذي معناه عدم الاجتماع إذ لو كان الآخر ـ الكافي عنه ـ موجودا لم يكن ذلك اكتفاء ، كما في سائر موارد إطلاق هذين اللفظين.
فالإجزاء في الغسل نظير إجزاء صلاة الفريضة عن تحيّة المسجد ، حيث إنّ الغرض من تشريع صلاة التحيّة أن لا يخرج الداخل فيه إلاّ بصلاة ، ويحصل هذا الغرض بالفريضة ، ولا يبقى مقتض لصلاة التحيّة ، لا أنّ الظهر ـ مثلا ـ وهي أربع ظهر ، وتحيّة وهي ركعتان.
وكذلك الغسل فإنّ الغرض منه الطهارة عن الأوساخ الواقعيّة ، والكون على الطهارة في أوقات وأمكنة خاصة ، وبعد غسل الجنابة يحصل الغرض ولا يبقى محلّه.
نعم لعلّ له وجها على بعض الأقوال في تلك المسألة من لزوم نيّة الجمع ونحو ذلك ، فإنّ المسألة ذات أقوال كثيرة.
وكان الأولى بهذا المستدلّ أن يستدلّ بالتعليل الوارد في الميّت الجنب ، من قولهم عليهم السلام : ( يغسل غسلا واحدا يجزئ ذلك للجنابة ولغسل الميت لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة ) (2).
وعدّ بعضهم مطلق تداخل الأسباب من الاجتماع ، واستدلّ بها على الجواز.
ولكي يتّضح الحال في تداخل الأسباب يلزم النّظر في أقسام المسبّبات ،
--------------------
(1) مناهج الأصول : الورقة : 30.
(2) الكافي 3 : 154 ـ 1 ، الفقيه 1 : 92 ذيل حديث 419 ، التهذيب 1 : 432 ـ 1384 ، الاستبصار 1 : 94 ـ 680.
وقاية الاذهان
_ 381 _
وإذا تأمّلتها وجدت منها : ما لا يقبل التعدّد ، ولا الشدّة والضعف ، ومنها : ما يقبلهما معا ، ومنها : ما يقبل الأول دون الثاني ، ومنها : ما يقبل الثاني فقط كالقتل والضرب والنّظر إلى الشيء وصبغ الثوب.
فالمسبّبات الشرعية إن كانت من قبيل الأول ، فلا شك أنّ الأثر للسبب المتقدّم ، والأسباب اللاّحقة لا أثر لها لعدم إمكان حصول الشيء الواحد مرّتين.
وإذا كانت من قبيل الثاني ، فمقتضى القاعدة تأثير الجميع كيفيّة وعددا ، كما هو الحال في القسم الثالث بحسب التعدّد ، وفي الرابع بحسب الكيفيّة.
فإذا اجتمعت أسباب القتل فالأثر للسبب الأول ، ولا تأثير للأسباب اللاّحقة بمقتضى القاعدة ، بخلاف التعزير بالسوط ، فإنه يتعدّد بتعدّد الأسباب وتؤثّر في الشدّة لو فرض اختلاف أقسامه فيها.
ولا بد في الرابع من تأثير ذي الأثر الزائد ولو تأخّر وجوده.
وعلى ذلك إذا تعدّدت أسباب غسل الجنابة ، فالمؤثّر الجنابة الأولى ولا تأثير لغيرها إلاّ إذا كانت ذات أثر زائد كنجاسة العرق في الحاصلة عن الحرام ، فهو كأسباب النجاسة الخبثيّة لا يتعدّد إلاّ إذا كان أحد أسبابها الولوغ مثلا.
ويمكن أن يكون كذلك مع الحدث الأصغر ولهذا يرتفع بالغسل إذا الرافع للشديد رافع للضعيف.
وهذه أمور محتملة في مقام الثبوت ، وتعيين أحدها في مقام الإثبات وظيفة الدليل ، ومع الشك فالمرجع البراءة إذ الشك في تأثير الزائد ، كما أنّ الأصل الاشتغال بعد قيام الدليل على التأثير ، والشك في ارتفاع الجميع بفعل واحد.
وهذا ما يعبّر عنه بتداخل المسبّبات ، والبحث عن ذلك خارج عن المقام ، وتعرف تفصيله ـ إن شاء الله ـ في مسألة مفهوم الشرط ، وقد جرت العادة على التعرض له هناك.
والفرض أن جميع ذلك بمعزل عمّا يرومه المستدلّ ، ولو ثبت بالدليل
وقاية الاذهان
_ 382 _
التداخل في الأسباب أو المسبّبات في باب الأغسال لكان الوجه فيه ما عرفت.
وإنّما يجديه لو ثبت بالدليل وجود ماهيّتين في فرد واحد ، إحداهما متعلّقة الوجوب ، والأخرى [ متعلّقة ] الندب ، وليس في باب الأغسال ما كان من هذا القبيل ـ فيما يحضرني الآن ـ إلاّ ما عرفت من اجتماع الجنابة وغسل الميّت ، فإنّ ظاهر الرواية اجتماع واجبين كما عرفت ، وإن كان أمثال هذه الأمور ممّا يستدلّ به على اجتماع الحكمين فخير له التمسك بالنافلة المنذورة ، فإنّ آثار كلّ من التكليفين بادية عليها من عدم جواز الترك وثبوت العقاب عليه ، ومن بقاء آثار الاستحباب كعدم اشتراط السورة ، وجواز إتيانها على الراحلة ، فيكشف وجود أثر كلّ منهما على وجودهما.
وهذا أحد الوجوه المتصوّرة فيها ، والكلام عليها وبيان المختار منها خارج عن المقام ، وإن شئت التفصيل فعليك بما ذكرناه في مسألة نذر التطوّع في وقت الفريضة من كتاب كبوات الجياد في ميدان نجاة العباد ـ أو ـ نجعة المرتاد في شرح نجاة العباد (1) ، فإني ـ ولا أمدح نفسي ـ أوضحت فيه تلك المسألة المشكلة بما لم أسبق إليه.
وأما المانعون فلهم حجج قويّة ، راجع ما قرره الإمامان في الكتابين (2) ، وغيرهما من المشايخ ، فإنّ ثمّ ما ذكرناه من انضماميّة التركيب ووجود الماهيّتين معا في الخارج وإلاّ فلا مناص عن القول بالامتناع.
--------------------
(1) مخطوط.
(2) الشيخ محمد حسين في الفصول والشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين..
وأما القول الثالث وهو الجواز عقلا والامتناع عرفا ، فقد رموه بالضعف.
قال في الكفاية ما لفظه : ( لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلاّ طريق العقل ، فلا معنى لهذا التفصيل ـ إلى أن قال ـ وقد عرفت أنّ النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر والنهي بل في الأعمّ فلا مجال لأن يتوهّم أنّ العرف هو المحكّم في تعيين المداليل ) (1) ومثله أو ما يقاربه كلام غيره ، ولا ثمرة في نقلها.
ولزعمهم أنّ هذا القول في غاية الضعف تبرعوا في التوجيه ، فقد قال في الكفاية ما سمعت.
وقال الفاضل المقرّر : ( لعلّ الوجه فيه أنّه جمع بين دليل المجوّز من عدم اجتماع الضدّين في محلّ واحد ، وبين ما يظهر في العرف من فهم التعارض بين الأمر والنهي في مورد الاجتماع ) (2).
ثم أورد على هذا الوجه بكلام طويل ، ومن ألفاظه في خلاله : ( أنّ العرف لا حكومة له في قبال العقل ، بل العرف مرتبة من مراتبه وطور من أطواره ، ولا يعقل اختلاف حكمي العقل والعرف في موضوع واحد ، مع أنّ العرف هم العقلاء ) (3).
وعندي توجيه هذا التوجيه أصعب من توجيه أصل القول ، والجمع بين هذا الإصرار على عدم إمكان الاختلاف بين العقل والعرف وبين ما هو المعلوم
من الاختلاف بينهما ليس بأمر هيّن.
أليس العقل يحكم بعدم إمكان انتقال العرض عن المعروض ؟ وأهل العرف يحكمون بانتقال لون الحنّاء إلى الكف ، وعدم وجود أجزائه فيه ، ويحكم الفقهاء بحكمهم ، فيقولون بطهارة الأجسام المصبوغة بالأصباغ النجسة. أليس الموضوع في أكثر موارد الاستصحاب ممّا يحكم العقل بعدم بقائه ويخالفه العرف ؟
وكيف نفذ حكم العرف في البقاء وعدمه ولم ينفذ في الاجتماع وعدمه ! ؟
وبالجملة مخالفة العقل والعرف في موارد لا تحصى كثرة ليس بالأمر الّذي يخفى على مثله ، ولعلّه ـ طاب ثراه ـ يريد أمرا وراء ما فهمنا من كلامه.
وقال بعض أهل العصر ما لفظه : ( لعلّ الوجه فيه أنّ متعلّق الأمر والنهي يكون متعدّدا بالنظر الدّقيق العقلي ، بناء على تعلّقهما بالطبائع ، حيث إنّهما متعدّدان ذاتا ، وفي مقام تعلّق الأحكام ولو كانا موجودين بوجود واحد يكون واحدا بالنظر المسامحي العرفي في مقام صدورهما عن المكلّف بلحاظ كونهما موجودين بوجود واحد ).
ثم أورد على هذا الوجه ـ الّذي لم يظهر لي معناه ـ بكلام طويل ، إن تمّ فهو وارد على ما توهّمه لا على صاحب هذا القول ، إلى غير ذلك ممّا لا أملك بنقله.
ومرجع الجميع حمل عدم الجواز العرفي في كلامه على الإمكان ، ومرجع الاعتراضات إلى أنّ الحكم بالإمكان وعدمه ليس من وظيفة العرف.
والظاهر أنّ الوجه اللائق بمثل قائله : أنه يريد عدم الجواز في مقام الامتثال بمعنى أنّ أهل العرف لا يرون إتيان المأمور به في ضمن الفرد المنهيّ عنه امتثالا للأمر.
وقد تكرّر في كلامهم أنّ الحكم في مقام الامتثال للعرف ، ولم يزل العلماء يستدلّون بمثله في أمثال المقام ، ويقولون : لو فعل كذا عدّ في العرف ممتثلا ، أو لم يعدّ فيه ، وإذا نازعهم خصمهم ، فلا ينازع كنزاع هؤلاء ، بل ينازع في الصغرى ،
وقاية الاذهان
_ 385 _
وهي عدم تسليم كونه في العرف كذلك.
فإذا حكم قوم ببطلان العبادة مع التكرار مستدلّين بأنه يعدّ في العرف لاعبا بأمر المولى لا ممتثلا ، فما ذا يكون حكمهم في محصنة نذرت أن تسرّ أحد أرحامها فمكّنته من نفسها ، فهل ترى أهل العرف يحكمون بأنها أدّت فرضها وبرّت نذرها ، أو يزيدون على الحكم بعدم الوفاء ، الحكم بأنها لاغية لاعبة مستخفّة طنّازة ؟.
وبالجملة ، لا أظن فقيها يقول بالامتثال في أمثال هذا المثال.
وهنا وجه آخر ليس بأبعد من سابقه وهو الجواز عقلا وعدم الجواز شرعا ، بمعنى أنّ الشرط في صحّة العبادات عدم الإتيان بها في الفرد المحرّم ، لقولهم عليهم السلام : ( لا يطاع الله من حيث يعصى ).
وقولهم عليهم السلام : ( ما اجتمع الحرام والحلال إلاّ غلب الحرام الحلال ) (1) ونحو ذلك ممّا عسى يظفر به المتتبّع في مسألة لباس المصلّي ومكانه ، فإن تمّ هذا ـ ولا يتم بعمومه ـ تكون الصلاة في الثوب المغصوب كالصلاة في الحرير ، وتكون أمثلة هذه المسألة في عداد مسألة النهي في العبادات.
إن كانت لهذه المسألة ثمرة مهمّة ، فهي الصلاة ونحوها في المكان واللباس المغصوبين ونحوهما إذا فرض اتّحادها أو بعض أجزائها مع الغصب ، فإنّها تصح على القول بالجواز ، وتبطل على القول بالمنع.
أما الصحّة ـ على الأول ـ فواضح ، لعدم الاجتماع الاتّحادي بينها وبين الغصب ، بل بما يشبه الاجتماع الموردي.
--------------------
(1) عوالي اللئالي 3 : 466 ـ 17 ، والحديث مروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وقاية الاذهان
_ 386 _
وأما البطلان ـ على الثاني ـ فلا ينبغي الريب فيه ، لأن الشيء الواحد الّذي لا يحلّل إلى شيئين لا يمكن أن يكون مأمورا به ومنهيّا عنه ، حسنا وقبيحا ، مقرّبا ومبعّدا ، طاعة ومعصية ، إلى غير ذلك من ضروب التضادّ والتناقض.
فإذن يجب بحكم العقل إتيان المأمور به في ضمن غير الفرد المحرّم ، لأنّ الإطاعة واجب عقلا ، ولا إطاعة إلاّ بما عرفت ، وهذا حكم للعقل في مرحلة الإطاعة والامتثال.
ولو سلّمنا قول الأستاذ صاحب الكفاية : ( إنّ الصلاة صحيحة وإن لم يكن مأمورا بها ).
وقول غيره : ( إنّ دائرة المطلوب أوسع من الطلب ).
وتغيير بعض السادة من مشايخنا لفظ الامتثال بالأداء ، وادّعاء أنّها أداء لا امتثال.
وأصلحنا بهذا وأمثاله بعض تلك المفاسد ، لكن لا سبيل إلى إنكار حكم العقل بوجوب الإطاعة ، ولا إلى جعل العصيان طاعة.
والغريب أنّ كثيرا من عليّة الفنّ جعلوا البطلان بناء على المنع من باب التعارض ، وتقديم جانب النهي.
قالوا : ( لا بد من رفع اليد من أحد الدليلين للتعارض ، والرجوع إلى المرجّحات الدلاليّة والتعبديّة ) واستندوا في تقديم جانب النهي تارة إلى قوّة الدلالة ، لأنّ دلالة النهي بالعموم ودلالة الأمر بالإطلاق ( عن الإشارات ) تأمّل ما معناه.
أو لأنّ النهي ناظر إلى جهة الترخيص الثابت في الأمر ، فهو حاكم على الأمر ( عن الشيخ الأكبر ) تأمل أيضا.
وتارة بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، وببعض الروايات نحو
وقاية الاذهان
_ 387 _
قوله عليه السلام : ( إنّ اجتناب السيّئات أولى من اكتساب الحسنات ) (1) ونحو ذلك.
أقول : التعارض ـ كما تقرّر في محلّه ـ تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضادّ.
ومعناه : أن يرد من الشارع دليلان ، يثبت أحدهما حكما لموضوع ، ويثبت الآخر ضدّه أو نقيضه ، فيكون الحكم في مرحلة التكليف مردّدا بين حكمين يعلم بعدم أحدهما ، وهناك يكون الرجوع إلى المرجّحات.
ومسألة الاجتماع ممّا لا قصور لها في مرحلة التكليف ، إذ يعلم كلّ من الطلبين ولم يأل الشارع جهدا في بيانهما ، وكلاهما حكم ثابت لموضوعه ، وإنما الشك في مرحلة الامتثال المتأخّرة عن الحكم ، وأنه هل يمكن الإطاعة بما يقع به العصيان أم لا ؟ ورفع الشك فيه من وظيفة العقل لا الشرع ، بل ليس للشارع التصرّف فيه إلاّ بالتصرّف في الحكم ، كما في باب المتزاحمين.
وحكم العقل بتعيين الأهمّ للامتثال ، والتخيير مع التساوي ، إذ ليس للشارع التصرّف فيه إلاّ التصرّف في حكمه بجعل المهمّ هو الأهمّ ، أو جعل أحد المتساويين أهمّ من الآخر.
وبالجملة ، باب تعارض الدليلين وحدة المناط في الواقع ، والجهل بكون المناط مناط الأمر أم النهي ، ولا شك في أنّ رفع مثل هذا الشك من وظيفة الشارع ، وتطلّبه من الدليل ، وفي مسألة الاجتماع لا شك في وجود المناطين ، وليس من وظيفة الشارع رفع الشك فيه حتّى يرجع إلى الدليل.
فقاصد أربعة فراسخ يعلم ثبوت أحد التكليفين من الإتمام والقصر ، وعدم الآخر ، فيحق له التماس معرفته من الدليل ، ورجوعه إلى أصول التعارض
--------------------
(1) غرر الحكم 1 : 75 ـ 1559.
وقاية الاذهان
_ 388 _
والترجيح.
وأين هذا من المصلّي في الأرض المغصوبة ، العالم بتكليفين منجّزين ، الحاكم عقله بلزوم الجمع بين الغرضين ، فإذا أراد الرجوع إلى الترجيح ، فأيّ دليلي التكليفين ترى له أن يرجّح ؟ أدليل الصلاة وهو ضرورة الدين ، أم حرمة الغصب وهو إجماع المسلمين ؟.
ومن الطريف استدلال بعضهم بإطلاق دليل الأمر ، مع أنه قد مرّ عليك في مواضع شتّى ، أنه لا يعقل الإطلاق ولا التقييد في المقام وأمثاله.
وأيضا لو كان للأمر إطلاق يشمل ما يؤتى في ضمن الحرام لكان معناه تخصّص حرمة الغصب بغير صورة الامتثال ، ولو كان مقيّدا بغيره لكان حال هذه الصلاة حال الصلاة في الحرير ونحوه ، وعلى الفرضين لم يكن من مسألتنا هذه في شيء.
وقد تنبّه بعض أساتيذنا لبعض هذه المفاسد ، ورام الخلاص عنها ، فجعل المقام من باب التزاحم ، فلم يبعد عن الخطأ ، بل وقع فيه ، إذ المفروض تمكّن المكلّف من الجمع بين الغرضين ، فلا مزاحمة أصلا ، وعليه فأصغر المحرّمات يغلب أهمّ الواجبات.
نعم لو فقدت المندوحة ، فالمقام من باب التزاحم ، ولكن هذا خروج عن فرض المقام.
ويظهر من بعض كلماتهم أنّهم يحاولون بذلك تصحيح صلاة جاهل الغصبيّة وناسيها.
وأنت خبير بأنّ مانعيّة النهي عن الامتثال لو كانت بحسب ذاتها فالصلاة باطلة منهما أيضا ، وإن كانت بحسب فعليّتها فلا مانع عن الصحّة من غير فرق بين تغليب أحد الجانبين.
وأحسن وجه لتصحيح عبادتهما أن يقال : إنّ مع الجهل ـ بل مع النسيان ـ لا يتحقّق موضوع الغصب ، لأنه ليس مطلق التصرّف في مال الغير بغير إذنه
وقاية الاذهان
_ 389 _
غصبا ، بل الغصب ما كان على سبيل القهر والعدوان لغة وشرعا ، كما سيأتي توضيحه ، فالدخول دار الغير مخافة السبع أو لإنقاذ نفس محترمة ليس بغصب لا أنه غصب جوّزته الضرورة.
لهذه المسألة أمثلة كثيرة ، والمعروف المذكور في كتب الفقه وأصوله : الصلاة في المكان ، واللباس المغصوبين.
قال في الفصول : ( إذا قلنا بأن الكون جزء من الصلاة ، لم نرد به كون المكلّف أيّ وجوده كما قد يسبق إلى الوهم ، فإنه ليس جزءا من الصلاة ، ضرورة أنّ وجود الموضوع ليس جزءا من العرض القائم به ولا كونه في المكان ، أعني تحيزه فيه ، لأنّ مفهوم التحيّز خارج عن مفهوم الصلاة ، بل نريد به الأكوان التي يكون المصلّي عليها من حركاته وسكناته كقيامه وركوعه وسجوده.
ولا ريب أنّ القيام في المكان المغصوب عين الغصب وجزء من الصلاة ، وعلى حدّه بقيّة الأكوان ، فتكون الصلاة في المكان المغصوب بجميع أجزائها الفعلية غصبا ، لأنها عبارة عن حركات وسكنات (1) مخصوصة ، هي غصب إذا وقعت في المكان المغصوب ) (2).
وكتب الفقه وأصوله مشحونة بما ذكره طاب ثراه ، وبالفروع التي تتفرع عليه.
وعندي في بطلان الصلاة من جهة الغصب نظر ، لا بدّ أن أبدي وجهه
--------------------
(1) إن كان للسكون جمع فليكن سكونات ، ولعلّه جرى على المشهور ، أو هو غلط من النسّاخ ( منه رحمه الله ).
(2) الفصول الغرويّة : 137.
وقاية الاذهان
_ 390 _
لأرباب الأنظار وإن قابله بعضهم بالإنكار.
فأقول : إنّ هنا أمرين : غصب وتصرّف فيه ، أما الغصب فهو سلب سلطنة المالك ونحوه ، وجعلها لنفسه أو مشاركته فيها ، وهذا هو الّذي دلّ العقل والنقل على حرمته ، وجرى عنوان البحث في كتب الفقه عليه ، كقولهم : ( الغصب هو الاستقلال بإثبات اليد على مال الغير عدوانا وظلما ) وعليه بنوا عدّة فروع كالحكم بضمان العقار بمجرّد الاستقلال به.
وهذا كما ترى من مقولة الملك ، جدة كانت أو إضافة وهو غير التصرف لأنه من مقولة الفعل ، فالتصرف في الغصب ليس عين الغصب ، بل هو أمر متأخّر عنه طبعا من مقولة أخرى ، ولا ملازمة بينهما ، إذ كثيرا مّا يتحقّق الغصب بدون التصرّف فيه.
فلو كتب ظالم إلى قيّم أموره في بلد آخر ، بأن يمنع زيدا عن التصرّف في داره بقصد الاستيلاء عليها ، فهو غاصب من حين المنع وإن لم يتّفق له التصرف فيها أو تأخّر عنه سنة كاملة.
أو أجبر صاحب فرس على أن يربط فرسه في إصطبله فهو غاصب عاص ما دام سلطانه عليه وإن لم يركبه قط ، إلى غير ذلك من النّظائر.
وعليه ، فإذا ثبت حرمة تصرّف الغاصب في المغصوب ، فلا بدّ أن تكون بدليل غير دليل حرمة الغصب ، لما عرفت من أنّ الغصب أمر ، والتصرّف أمر آخر ، وهما من مقولتين متباينتين ، فالغاصب الثاوي في المغصوب عليه إثمان : إثم الغصب وإثم التصرّف فيه ، بخلاف الغاصب غير المتصرّف ، فإنّ عليه إثم واحد فقط.
ولا يبعد القول به ، بل الظاهر أنه لا بد منه ، لما تراه من مسلّميته عند الأصحاب ، والظاهر دلالة عدّة من الظواهر عليه ، ولكن مبنى المثالين على حرمة أمر ثالث زيادة على الأمرين ، وهي حرمة جميع التقلّبات من الحركات
وقاية الاذهان
_ 391 _
وأضدادها ، وتبديل صورة إلى صورة ، ووضع بوضع ، من صعود إلى نزول ونزول إلى صعود وقعود إلى قيام ، وقيام إلى قعود.
وبالجملة ، تبديل كلّ صورة ، ووضع ، وإحداث ، تغيير وحركة ، فإسراج الفرس وإلجامه ، ونزعهما عنه ، وركوبه ، والنزول عنه ، محرّمات اخر سوى أصل الغصب ، وكلّي التصرّف وتحريك الثوب المسبّب عن المشي حرام ثالث ، ولازم ذلك الالتزام بأنواع شتّى ، وضروب مختلفة في غصب ساعة واحدة ، بل بمحرّمات لا نهاية لها كما لا يخفى على المتأمل وجهه.
وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، بل مدّعي القطع بخلافه غير مجازف ، وحاشا الفقيه أن يلتزم به إذا التفت إلى لوازمه.
قال في الجواهر بعد ما حكم بصحّة صلاة المختار من المحبوس في المكان المغصوب ، وبيان الوجه فيه ، ما لفظه : ( ومن الغريب ما صدر من بعض متفقّهة العصر ، بل سمعته من بعض مشايخنا المعاصرين من أنه يجب على المحبوس الصلاة على الكيفية التي كان عليها أول الدخول إلى المكان المحبوس فيه إن قائما فقائم أو جالسا فجالس ، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة أيضا لما فيه من الحركة التي هي تصرف في المال بغير إذن صاحبه ، ولم يتفطّن إلى أنّ البقاء على السكون الأول تصرّف أيضا لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرف ، كما أنه لم يتفطّن أنه عامل هذا المظلوم المحبوس قهرا بأشدّ ما عامله الظالم ، بل حبسه حبسا ما حبسه أحد لأحد ، اللهم إلاّ أن يكون يوم القيامة مثله.
وقد صرّح بعض هؤلاء أنه ليس له حركة أجفان عيونه زائدا على ما يحتاج إليه ، ولا حركة يده أو بعض أعضائه كذلك ، بل ينبغي أن تخصّ الحاجة في التي تتوقف عليها حياته ونحوه ممّا ترجح على حرمة التصرّف في مال الغير ، وكل ذلك ناش عن عدم التأمل في أول الأمر ، والأنفة من الرجوع بعد ذلك ،
وقاية الاذهان
_ 392 _
أعاذ الله الفقه عن أمثال هذه الخرافات ) (1).
صدق رحمه الله في جميع ذلك ، ولو زاد على التنديد والملام أضعاف ما فعل لكان في محلّه ولم يكن ملوما عليه ، فإنّ الظالم لم يحجر عليه إلاّ الخروج ، وهذا الفقيه حجر عليه ما لا تحصى من لوازم الحياة.
كلاّ إنّ الشرائع القاسية الوحشيّة لتأنف من ذلك ، فكيف بالحنيفيّة الإسلامية ، لعن الله الحجّاج ، فإنّه على غشمه وظلمه لم يحبس أحدا مثل هذا الحبس.
وأقول بعد ذلك : إنه لا يعقل الفرق في الحكم بين الغاصب الظالم وبين هذا المظلوم ، ولا بد أن يلزّا في قرن (2) ، فإمّا أن يطلق له ما أطلق لذلك المحبوس أو يمضي حكم هذا الفقيه ، أو المتفقّه كما قال.
والوجه فيه ظاهر ، لأن تبديل الأوضاع إن كان حراما فلا بد أن لا يجوز إلاّ بمقدار الحاجة ولو من المحبوس ظلما لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها ، وإن لم يكن حراما فلا حرج فيه على الغاصب أيضا.
ومن ذلك يظهر لك مواقع النّظر في كلام الفصول وغيره ، لأنا لو سلّمنا كون الصلاة عبارة عن حركات وسكنات ، فلا نسلّم حرمتها لما عرفت.
ولا نسلّم أيضا أنّ القيام في المكان المغصوب عين الغصب لأنّ الغصب ـ كما عرفت ـ مباين للأفعال ، والمنطبق على التصرّف فيه مطلق التحيّز ، وهو غير منطبق على شيء من أجزاء الصلاة ، كما قرّره في أول كلامه.
نعم يتمّ ما ذكره لو قلنا بحرمة تبديل الأكوان والأوضاع ، وقد عرفت المنع عنه.
ثم إنّ صاحبنا العلاّمة ـ دام توفيقه ـ حاول تصحيح الصلاة بوجه آخر
--------------------
(1) جواهر الكلام 8 : 300.
(2) اللزّ الشد ، يقال : لزّه شدّه وألصقه ، والقرن ـ بالتحريك ـ : الحبل ، لسان العرب 5 : 405 و 13 : 366.
وقاية الاذهان
_ 393 _
فقال في حاشية كتابه : ( إنه يمكن أن يقال بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة ، على تقدير القول بعدم الجواز أيضا ، بأن لم يجعل الأكوان الخاصّة بأنفسها أجزاء للصلاة ، بل الأجزاء الأوضاع والهيئات الحاصلة منها ، فالصلاة في الدار المغصوبة لا تكون من مورد الاجتماع ) (1).
ولقد دقّق النّظر وأحسن ، لو لا أنّ الصلاة عند العرف والمتشرّعة جميعها من قبيل الأفعال باعتبار صدورها عن الفاعل ، ومع ذلك ليست جميع أجزاء الصلاة من قبيل الوضع ، فالتكبير والقراءة وواجب الذّكر من مقولة الكيف ، وهي إمّا عين الغصب ، كما قالوه في سائر الأجزاء ، ولا يبعد مساعدة العرف له ، وإمّا مسبّبة عن الغصب كما في الفصول (2) ، وإمّا كونها سببا له.
أما البطلان على الأول فواضح بلا حاجة إلى بيان.
وعلى الثاني فبما ذكره في الفصول من امتناع مطلوبيّة الفعل مع تحريم سببه.
وعلى الثالث فبما قرّره أستاذ سيّدنا الأستاذ في مسألة مقدّمة الحرام من أنّ المقدّمة المقدورة لترك الحرام إذا انحصرت في واحدة ، فحرمة الفعل تقتضي حرمة تلك المقدّمة ، وعليه بنى الحكم ببطلان الوضوء وإن لم يكن المصبّ منحصرا في المغصوب ، كما ذكره وذكرناه في بحث مقدّمة الواجب.
هذا ، وفي المقام فروع طريفة لو لا خشية الإطالة لذكرنا نموذجا منها ، وحسب الطالب ما فصّل منها في الفصول.
وقد تعدّى قوم الحدّ في الحكم ببطلان الصلاة في موارد لا يحتمل فيها الاتّحاد بينها وبين الغصب ، حتى بلغ بعضهم فيه مرتبة الشطح.
منها : الحكم ببطلانها في الخيمة المغصوبة ، بل المغصوب بعض أطنابها
وأوتادها ، بل وفي فيء الجدار المغصوب خلطا بين التصرّف في الغصب وبين الانتفاع به حال الصلاة.
ومنعها بعضهم في الدار المبنيّة جدرانها باللّبن المغصوبة ، وصرّح بعضهم : ولو بلبنة واحدة ، بل في البلد إذا كان في سوره آجرة مغصوبة.
فلو غصب غاصب شبرا من جبل ( قاف ) الّذي يقال : إنه محيط بالدّنيا لكان لازم هذا القائل بطلان الصلاة في كرة الأرض بأجمعها.
وإذا سألت هؤلاء عن المستند في هذه الفتاوى لأجابوك بأنها تعدّ تصرّفا في العرف ، ولطال ما أثقل كأهل العرف بأمثاله ، والله العاصم.
هذا كلّه في النهي غير المأخوذ في موضوع الأمر ، وأما المأخوذ فيه ، نحو : صلّ ولا تصلّ في الحرير ، فقد عرفت أنّه خارج عن مسألة الاجتماع ، وهو مورد بحث دلالة النهي على الفساد ، وهو الفرق بين المسألتين.
نعم ، لو كان النهي نهي تحريم لكان لازمه الفساد ، أمّا على الامتناع فظاهر ، وكذلك على جواز الاجتماع لأن الّذي جزء المجوّز هو وجود الجهتين التقييديّتين الّذي ينحلّ الفرد بهما إلى موجودين ، وليس المقيّد شيئا غير المطلق ، وهما متّحدان ، كما أوضحه في الفصول (1) بما لا يحتاج معه إلى زيادة إيضاح.
وما ذكره صاحبنا ـ دام توفيقه ـ من أنه من الممكن أن يكون العمل المشتمل على الخصوصيّة موجبا للقرب من حيث ذات الفعل وإن كان إيجاده في تلك الخصوصيّة مبغوضا (2) إلى آخر ما ذكره. فباب الإمكان المجرّد لا يسدّ إلاّ
على تعدّد الواجب ، والممكنات في عالمها كثيرة ، وفي فتح هذا الباب سدّ لإثبات الشروط والموانع في أبواب الفقه ، عباداتها ومعاملاتها.
نعم يستفاد ذلك في بعض المواضع من الأدلة الخاصّة.
هذا حال النهي بحسب مدلوله وهو التحريم ، وأما دلالته عليه ، فقد مرّ غير مرّة أن هيئة النهي لا تدلّ إلاّ على طلب الترك فقط ، فلا دلالة لها بحسب الوضع على فساد ، وغيره.
نعم لا يبعد دلالته عليه باللزوم بالمعنى الأخصّ ، فتكون دلالة لفظية ، ويؤيّده فهم العرف ، ولذا ترى الفقهاء يستدلّون في أبواب الفقه على الفساد بالنهي ، ولعلّ القائل بدلالته عليه شرعا ينظر بطرف خفي إلى هذه السيرة.
وتعجّب المقرّر الفاضل من صاحب الفصول ، وتفرقته بين الوضع واللغة (1) ، وهذا كلام الفصول بنصّه : ( الحقّ أن النهي في العبادات يقتضي الفساد عقلا ، ويلزمه وضعا عرفا ولغة ـ إلى أن قال ـ وأما في المعاملات فلا يقتضيه عقلا ولا وضعا مطلقا ، ويقتضيه بحسب الإطلاق عرفا ) (2) إلى آخر ما ذكره.
ما قاله مطابق لما عرفت من الدلالة اللفظية باللزوم بالمعنى الأخص مؤيدا بفهم العرف ، وعدمها بحسب أصل الوضع ، وأين هذا الّذي نسبه إليه هذا الفاضل من التفرقة بين الوضع واللغة ، وتعجّب منه ؟ هذا هو العجب.
وأعجب منه قوله في أثناء كلام له : ( من غير فرق في ذلك بين أن الدالّ على التحريم هو صيغة النهي ، أو أحد الألفاظ المساوية له في المعنى المذكور ، كما
في قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (1) خلافا لبعض الأجلّة حيث خصّ الحكم بصيغة النهي ، زعما منه أنّه صريح في الدلالة على الفساد ، وأنّ فرض الكلام فيما إذا استند التحريم إلى العقد ، كأن يقال : يحرم عقد كذا ، فتوجّه النزاع المعروف إليه غير مسلّم وأنت خبير بضعفه فلا حاجة إلى تطويل الكلام فيه ) (2) انتهى بألفاظه ، على ما فيه من التعقيد والإعضال.
ودونك كلام الفصول بنصه : ( ثم قد يتخيّل أنّ النزاع في المقام لا يختص بصيغة النهي ، بل يجري فيها وفيما يجري مجراها كلفظ التحريم في قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (3) الآية ، وذكر الصيغة في العنوان وارد على سبيل التمثيل ، وضعفه ظاهر لأنّ المفهوم من إسناد التحريم إلى المذكورات تحريم وطئهنّ والاستمتاع بهنّ ، وهو صريح في فساد العقد عليهنّ ، لدلالته على نفي ترتب الآثار على عقدهنّ فلا يكون من مسألة الباب.
نعم لو استند التحريم إلى العقد فقيل : يحرم عقد كذا وكذا ، كان من مسألة الباب ، لكن دلالته على الفساد حينئذ غير واضحة.
وتوجّه النزاع المعروف إليه غير ظاهر ) (4).
وبيان مراده ـ على وجه أرجو أن يكون فيه رضا لهذا الفاضل وسائر أهل الفضل ـ أنّ النهي الّذي وقع الخلاف في دلالته على الفساد هو الّذي يتعلّق بعنوان عبادة أو معاملة مثلا من غير تصريح بالفساد ، نحو : لا تتزوّج أمة على حرّة أو بنت أخ أو أخت على عمّة وخالة ، فالخلاف في أنّ النهي عن الشيء هل يستلزم عقلا أو وضعا أو عرفا الفساد أم لا ؟ يخرج منه التصريح بالفساد قطعا.
--------------------
(1) النساء : 23.
(2) مطارح الأنظار : 164.
(3) النساء : 23.
(4) الفصول الغرويّة : 140.
وقاية الاذهان
_ 397 _
ثم إنّ التصريح بالفساد قد يكون بلفظه نحو : نكاح الشغار باطل ، وقد يكون بما هو أبلغ وأفصح ، أعني بنفي الآثار كقولك : من صلّى بلا طهور أو على غير قبلة فليعد صلاته.
وصاحب الفصول وإن ذكر التخصيص بصيغة النهي في أول كلامه ، فعاق ذلك هذا الفاضل عن التأمل في حقيقة مرامه ، لكن أوضحه بقوله : ( نعم لو استند التحريم إلى العقد فقيل : يحرم عقد كذا كان من مسألة الباب ) (1).
فهل مع هذا التصريح يبقى موقع لتوهّم الخصوصيّة في صيغة لا تفعل ؟ أوليس ذلك مبيّنا لإجمال قوله : وفيما يجري مجراها (2) ؟ وأنّ مراده عدم دخول الآية الشريفة وما جرى مجراها في مسائل الباب ، لأنه من التصريح بالفساد بلسان نفي الآثار.
فإن كانت المؤاخذة على كلّي الحكم ، ودعوى أنّ مع التصريح بالفساد يجري فيه النزاع فهذا توهّم يجلّ عنه هذا المحقق الفاضل ومن هو دونه.
وإن كانت على كون الآية منها ومنع كونها من باب التصريح بالفساد ، فالحكم فيه ما ذكره المحقّقون في باب المجمل والمبيّن من أنّ تعلّق التحريم بالأعيان يراد منه نفي الأثر المقصود منه كالأكل في المأكول ، والشرب في المشروب ، فنحو : يحرم الأرنب والخمر ، صريح في حرمة أكل ذاك وشرب هذه.
وكذلك تحريم الأمّهات وسائر من تضمّنته الآية ، المراد منها حرمة الاستمتاع والنكاح قطعا ، وهو ـ كما قال ـ تصريح بالفساد بالتصريح بنفي الآثار.
نعم ، نحو : يحرم عقد كذا ، داخل في النزاع من هذه الجهة ، لأنّ متعلّقة
الفعل لا العين ، فيأتي فيه القول بأنّ حرمة العقد هل يستلزم فساده أم لا ؟
ولكن تردّد صاحب الفصول في شمول النزاع من جهة أخرى ، وهي عدم إحرازه الشرط الّذي ذكره بعد سطر ، وهو تعلّقه بها لنفسها ، وهذا واضح.
ومن عادة هذا المحقّق المقرّر ، أنه متى سنح له اعتراض على الفصول ، فإن وجد له صورة خلاّبة (1) جلاه للنظّار في أزهى بيان وأطوله ، وإن لم يجد له تلك الصورة ترك البيان ، وادّعى على المخاطب خبرته بالضعف ، وجعل ذلك الادّعاء عذرا لعدم البيان والتطويل ، وعلى هذه الوتيرة جرى ، فقال : ( وأنت خبير بضعفه ، فلا حاجة إلى تطويل الكلام فيه ) (2).
آخر مبحث النواهي ، ويليه إن قدّر الله مبحث المنطوق والمفهوم ، والحمد لله وعلى نبيّه الكريم وآله الكرام أفضل الصلاة والتسليم.
يقول المصنّف كان الله له : يعلم القرّاء الكرام وقاهم الله صروف الأيام أنّ كثيرا من المصنفين في فنون العلوم يصدّرون كتبهم بشكوى الزمان ، ويلمحون إلى كساد صنعتهم ، وعدم نفاق سلعتهم ، وعمدة غرضهم الاعتذار عن خطأ يقع منهم فيها أو تقصير.
وإذا كان ممّا يقال به العثار ، فأنا وحرمة العلم ورفيع مقام أهله أولى من أكثرهم بهذا الاعتذار ، ولكني ـ والحمد لله على كلّ حال ـ لا أجد طريقا إلى التفصيل ، ولا يطفي أوار (3) غيظي الإجمال ، ورأيت أن أسلك جادّة ما سلكها أحد فيما أعلم ، فأختم كتابي بتاريخ زمان التصنيف وبمكانه ، ثم أعرفك بمن لا تجهله ، ثم أدعك وما تعلم.
--------------------
(1) خلابة : الخديعة باللسان بالقول اللطيف ، مجمع البحرين 2 : 52 وانظر الصحاح 1 ـ 122 ( خلب ).
(2) مطارح الأنظار : 164.
(3) أوار بالضمّ : حرارة النار والشمس والعطش ، الصحاح 2 : 583 ، القاموس المحيط 1 : 366 ، مجمع البحرين 3 : 211 ( أور ).
وقاية الاذهان
_ 399 _
فأقول : فرغ منه مؤلفه في بلدة أصفهان ، ثالث عشر صفر الخير سنة ألف وثلاثمائة ونيّف وخمسين ، وأنا أبو المجد محمّد الرضا آل العلاّمة الثاني الشيخ محمد تقي صاحب ( هداية المسترشدين ).
باسمه تعالى وبحمده
1 ـ ذكروا لكلّ منهما حدودا لا يخلو جميعها من الخلل ، وقد اعترف به في الفصول ، فقال بعد بسط القول في جملة منها : ( الوجه : أن تجعل الحدود لفظيّة تقريبيّة ) (1) ومثله أو ما يقرب منه مقال غيره.
فإذا اكتفي بهذا ، فلا حدّ أحسن ولا أوضح ولا أخصر من لفظي العنوانين ، وإن شئت قلت : هما محدودان لا يحتاجان إلى حدّ ، أو هما حدّان ومحدودان معا ، لأن الظاهر من المنطوق هو المعنى الّذي يفهم من الألفاظ التي نطق بها المتكلّم ودلّت بأوضاعها عليه ، والمفهوم ـ بقرينة المقابلة ـ هو المعنى الّذي يفهم منها من غير أن يدلّ بأوضاعها عليه.
فقول القائل : إن جاءك زيد فأكرمه ، تدلّ ألفاظه بأوضاعها على وجوب الجزاء عند حصول الشرط ، بخلاف دلالته على عدم الوجوب عند عدمه فإنه معنى يفهم من الألفاظ وتدلّ عليه لكن لا بأوضاعها ، وعليه فكلّ ما دلّ عليه بإحدى الدلالات الثلاث فهو من المنطوق ، وما دلّ عليه بغيرها فهو من المفهوم.
فإذن ، لك أن تقول : المنطوق ما دلّ عليه اللفظ المنطوق به ، والمفهوم ما فهم منه ولم يدلّ عليه اللفظ بنفسه فيشمل قسمي المفهوم : الموافقة والمخالفة ، سواء كان حكما غير مذكور أو حكما لغير مذكور.
ولا يرد عليه أكثر ما أورد على غيره ، فدلالة اللفظ على وجود اللافظ
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 146.
وقاية الاذهان
_ 400 _
خارجة عن الحدّين لعدم كونها لفظيّة.
ولهذا بعينه ليس منهما دلالته على الأمر بالمقدّمة والنهي عن الضدّ ، وتعرف ـ إن تأمّلت ـ عدم ورود سائر ما أوردوه على ما ذكرناه ، وأنه لا حاجة إلى تلك التطويلات المملّة ، ولا إلى الأحجية بإتيان لفظ ( المحلّ ) المخلّ بالمقصود في الحدّ المشهور : ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق ، ولا إلى البحث عن لفظ ( ما ) الواقعة فيه.
وما ذكرناه فرقان بين الداخل والدخيل فيهما ، فقد توسع في المنطوق حتى دخل فيه استفادة أقلّ الحمل من الآيتين (1) الكريمتين.
وأين من المنطوق استفادة حكم من آيتين متفرّقتين غير ناظرة إحداهما إلى الأخرى ؟ وهو حكم لا يهتدي إليه إلاّ الألمعي (2) الفطن بعد ضرب من الاجتهاد.
وكذلك استفادة علّية الوقاع للكفّارة في قوله عليه السلام : ( كفّر ) بعد قول السائل : واقعت أهلي في نهار شهر رمضان (3) ، فإنه ليس ممّا دلّ عليه اللفظ بأحد أقسامه الثلاثة ، بل هو أمر استفيد من الخارج وهو أنه لو لم يكن علّة له لاستبعد اقترانه به ، إلى غير ذلك ممّا يظهر لك خروجه عن حدّ المنطوق بما أوضحناه من أن المناط فيه الدلالة اللفظية : المطابقة والتضمن والالتزام بالمعنى الأخصّ.
وتوسّع في المفهوم حتى عدّ منه التعريض الّذي هو من دواع الاستعمال كالتعجيز والتهكّم ، لا أنه مدلول اللفظ.
--------------------
(1) الآيتان : ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) [ الأحقاف : 15 ] ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) [ البقرة : 233 ] حيث إنه يستفاد منهما كون أقل الحمل ستة أشهر مع أنه غير مقصود في الآيتين لأن المقصود في الآية الأولى بيان تعب الأم في الحمل والفصال ، وفي الآية الثانية بيان أكثر مدّة الفصال.
(2) الألمعي : الذكي المتوقد ، القاموس المحيط 3 : 82 ، الصحاح 3 : 1281 ، مجمع البحرين 4 : 388 ( لمع ).
(3) الحديث مروي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام.
راجع الكافي 4 : 102 ـ 2 ، الفقيه 2 : 72 ـ 309 ، التهذيب 4 : 206 ـ 595 ، الاستبصار 2 : 81 ـ 245.
وقاية الاذهان
_ 401 _
وعدّ منه ترك البيان في موضعه كجواز الجمع بين فاطميّتين ، ومفهوم الجمع ، كما يفهم الندب أو الكراهة عند تعارض الأدلّة ، إلى أشياء من هذا النمط ولا قلامة ظفر ، إذ المناط في المفهوم أن يدلّ اللفظ على قضيّة أخرى يوافقها في الإيجاب والسلب كما في مفهوم الموافقة ، أو يخالفها فيهما كما في المخالفة (1) ، لا كلّ ما علم منه ولو بألف عناية خارجيّة ، فجواز الجمع بينهما إن استفيد فهو مستفاد من ترك الإتيان باللفظ لا من اللفظ ، وفهم الندب أو الكراهة استفادة من دليلين متعارضين ، لا أنه مدلول لأحد اللفظين.
ولك أن تجعل ذلك من باب الاصطلاح الّذي لا مشاحّة فيه ، إذن يسع الخرق ولا يقف على حدّ.
2 ـ لا فرق في المنطوق بين الحقيقة والمجاز ضرورة إيجاد المعنى في مثل قولك : إذا مدحك شاعر فصله ، وقولك : إذا مدحك فاقطع لسانه ، أو احذر الأسد ، مريدا تارة معناه الحقيقي ، وتارة معناه المجازي من غير فرق بين أن تكون القرينة توقّف صدق الكلام وصحّته عليه ، وبين أن تكون شهادة حال ، أو ضميمة مقال ، فتكون الدلالة في الأوّل اقتضائيّة وفي غيره إيمائية كما في الفصول (2) ، ولا بين أن تكون القرينة لفظيّة أو عقليّة ، فيندرج الأوّل في المنطوق الصريح ، والثاني في غيره كما عن القوانين (3).
وهذا واضح إذا عرفت حقيقة المجاز ، راجع ما كتبناه في مسألتي الوضع والاستعمال ليظهر لك جليّة الحال ، وأنه لا فرق بينهما في مقام الإرادة الاستعماليّة ، ولا محلّ لما فصّلاه.
3 ـ المفهوم من صفات الدلالة أو المدلول ؟
--------------------
(1) أي مفهوم المخالفة.
(2) الفصول الغرويّة : 147.
(3) قوانين الأصول 1 : 168.
وقاية الاذهان
_ 402 _
قالوا : إنّ المفهوم من صفات الدلالة أو المدلول ، لا من صفات نفس القضيّة إلاّ أن يتّصف بها بهذا الاعتبار بنحو من التسامح.
وقال صاحبنا طاب ثراه (1) : ( إن النزاع في المفاهيم راجع إلى الصغرى ، وأن القضيّة الكذائيّة هل لها مفهوم أم لا ) (2).
أقول : المراد من المفهوم ما يقابل المنطوق ، فكما أنّ المنطوق هو القضيّة التي نطق بها ، فالمفهوم ـ بحكم المقابلة ـ هي القضيّة التي لم ينطق بها ، فإذا كان المنطوق وجوب إكرام ( زيد ) على تقدير المجيء فالمفهوم عدم وجوبه على تقدير عدمه.
وإنما الخلاف في حجّيته وعدمها ، وأنه هل يدلّ عليه اللفظ دلالة معتبرة أم لا ؟ ولهذا ترى الغالب في تعبيراتهم أنّ مفهوم اللقب أو العدد حجة أم لا ، أو هما ضعيفان ، وإن كانوا قد يقولون : إن اللقب لا مفهوم له ، تسامحا ، فليتأمّل في مرادهم من أنه من صفات الدلالة أو المدلول ، وفي معنى قوله طاب ثراه : ( إن النزاع صغروي ) وكيف الجمع بين قوله هذا ، وقوله قبله : ( إن المفهوم هو القضيّة غير المذكورة ) (3).
قسّم الأول إلى صريح وغير صريح ، والأخير إلى أقسام لا تجدها إلاّ صرف الاصطلاح.
والثاني إلى مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة ، وهي دلالة الاقتضاء ، ودلالة
--------------------
(1) حيث إنّ المؤلّف رحمه الله قد كتب بحث المفاهيم بعد وفاة الشيخ الحائري رحمه الله لذا نراه يعبّر عنه بعبارة ( طاب ثراه ).
(2) درر الفوائد 1 : 159.
(3) درر الفوائد 1 : 159.