ورود (2) الأمر عقيب الحظر ، بل عقيب توهمه ، قرينة (3) غالبية على عدم كونه للوجوب ، فلا يحمل عليه إلاّ بدليل أو قرينة معارضة قويّة ، ويكون مفاده حينئذ رفع الحظر السابق ، وفرضه كالعدم ، ولازم ذلك غالبا رجوع الحكم الأول ، فيجب إن كان قبل واجبا ، كقوله تعالى : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (4) ويجوز إن كان جائزا مثل : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (5) ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ ) (6).
وبهذا يظهر لك ما في القول المشهور من المسامحة ، وهو كونه للإباحة وتستغني به عن التفصيل الّذي اختاره في الفصول ، وهو أنّ حكم الشيء قبل الحظر إن كان وجوبا أو ندبا كان الأمر الوارد بعده ظاهرا فيه ، فيدل على عود الحكم السابق ، وإن كان غيره كان ظاهرا في الإباحة ، فكلام المشهور صحيح فيما إذا كان الحكم السابق الإباحة ، ولكنه ليس لكون الأمر للإباحة ، ولا يصحّ في غيره ، وما ذكرناه جامع لكلا شقّي التفصيل.
ولا يخفى أنّ هذا لا يختص بالأمر ، بل يشاركه فيه النهي الوارد بعد الأمر ،
--------------------
(1) أي المنع : ( مجد الدين )
(2) مبتدأ ( مجد الدين )
(3) خبر ( مجد الدين )
(4) التوبة : 5.
(5) المائدة : 2.
(6) البقرة : 222.
وقاية الاذهان
_ 188 _
فإنه لا يدلّ غالبا إلاّ على رفع الأمر السابق ، كما لو أمر الطبيب بملازمة شرب الدواء كلّ يوم ، ثم قال بعد مدة : لا تشربه ، فإنه لا يدلّ على أزيد من عدم لزوم شربه ، فتأمّل جيّدا.
الإجزاء
اختلفوا في أنّ إتيان المأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا ؟.
وليعلم أوّلا أنّ الأمر قد لا يلاحظ فيه إلاّ ذات المكلّف ، مع قطع النّظر عن العناوين الطارئة عليه من اضطرار ،
أو خوف ، أو جهل ، ونحو ذلك ، وقد يلاحظ بعضها معها.
وعلى الثاني إمّا أن يكون معه حكم آخر في غير مرتبته أم لا ، والأول يسمّى بالواقعي الأوّلي ، والثاني بالحكم الظاهري ، والثالث بالواقعيّ الثانوي ، سمّي واقعيا ، لعدم وجود حكم آخر معه ، وثانويّا لأجل تقييد موضوعه ببعض الأحوال الطارئة المتأخرة عن ملاحظة المكلّف بنفسه.
وبهذا يظهر الوجه في تسمية الأول بالواقعي الأولي ، والثاني بالظاهري.
ثم إنّ إجزاء كل أمر عن نفسه إذا أتي به على وجهه أي مستجمعا لجميع الشرائط والأجزاء المأخوذة في
موضوعه ينبغي أن يعدّ من البديهيّات ، ضرورة حصول متعلّقة ، فطلبه مع ذلك طلب الحاصل ، ولا يشك في امتناعه العاقل ، ولو فرض صدور الأمر ثانيا ، يعني ما امر به أوّلا ، فما هو إلاّ أمر آخر بفرد آخر من تلك الطبيعة ، وكلّ منهما إذا أتي به على وجهه سقط التعبّد به ، وليس كلامنا في إمكان الأمر بفردين أو أكثر من طبيعة واحدة.
ومن ذلك يظهر للمتأمّل أنّ القول بأن الأمر للتكرار لا ينافي القول بالإجزاء.
وما نقل عن القاضي عبد الجبار من أنه لا يمتنع عنده أن يأمر الحكيم ،
--------------------
(1) الشيخ هادي الطهراني أعلى الله تعالى مقامه ( مجد الدين )
وقاية الاذهان
_ 189 _
ويقول : إذا فعلته أثبت عليه وأدّيت الواجب ، ويلزم القضاء مع ذلك (1) ، فكأنه كلام في غير مسألتنا هذه ، ولا
يهمّنا تحقيق كلامه ، وعلى فرض إنكاره الإجزاء فليس أوّل عالم أنكر واضحا.
وكذلك لا ينافي الإجزاء ما سيأتي من إمكان تبديل الفرد الممتثل به ، وعدم سقوط الأوامر التعبديّة بالإتيان بها
إلاّ مع قصد القربة بناء على عدم كونها شطرا للمأمور به ، ولا شرطا فيه لأن القائل بعدم حصول الغرض بدونه يقول بعود الأمر ثانيا لا سقوط الأمر الأول ، كما سيأتي تحقيقه.
وما ذكرناه لا يختص ببعض الأقسام المتقدمة ، بل يعمّ جميعها ، فمن كان فرضه الصلاة مع التيمم أو مع الطهارة المستصحبة إذا أتى بهما على وجههما فلا شك أنه لا يجب أن يأتي بهما ثانيا ، مع عدم تغيّر عنوان الحكم ، أعني ما دام غير متمكن من الماء ، أو شاكّا في بقاء الطهارة ، وإنما الكلام في كفاية كل من القسمين الأخيرين عن الأمر الواقعي بعد ارتفاع العنوان الّذي تقيّدا به ، كارتفاع الاضطرار فيما إذا أتى بالحكم الواقعي الثانوي ، أو ارتفاع الشك فيما لو أتى بموجب الحكم الظاهري ، فهاهنا مقامان :
الأول في إجزاء الحكم الواقعي الثانوي.
والثاني في كفاية الأمر الظاهري.
ولك التكلم في مقام ثالث : وهو كفاية الإتيان بالواقعي الأوّلي عن كل من الأخيرين ، إذ الحكم تختلف في
مواردها ظهورا وخفاء ، بل إثباتا ونفيا.
وفي مقام رابع : وهو كفاية ما أتى به بمقتضى بعض الأصول العقلية عن الأحكام الواقعية.
وبالجملة فحاصل الكلام في المقام الأول يقع أولا في الأقسام المتصورة ،
--------------------
(1) المستصفى من علم الأصول 1 : 393 ، والإحكام في أصول الأحكام 1 : 395 ـ 396.
وقاية الاذهان
_ 190 _
وثانيا في حكم كل صورة صورة منها ، وثالثا فيما يستفاد من الأدلة ، ورابعا في بيان الأصل الجاري في المقام.
فنقول : أما الأول ، فقد يكون المكلّف به عند الخوف ، أو الاضطرار ، ونحوهما من العناوين الطارئة مشتملا على عين تلك المصلحة التي في الواجبات الأولية وبمقدارها كالصلاة مع الطهارة الترابية ، لو فرض أنّ مصلحة الصلاة معها مصلحة الصلاة مع الطهارة المائيّة ذاتا ومقدارا.
ولا فرق بين هذا القسم وبين تنويع الموضوع ، كالمسافر والحاضر ، إلاّ أنّ الملحوظ فيه عدم القدرة وشبهه ، بخلاف المسافر والحاضر مثلا.
وقد يكون مشتملا على مصلحة ملزمة ، لكنها من غير نوع تلك المصلحة الموجودة في الفعل الاختياري ، لكنها مثلها في كونها متعلقة بغرض الآمر في تلك الحالة.
وقد يكون مشتملا على مرتبة نازلة من المصلحة القائمة بالفعل الاختياري ، وهذا أيضا على قسمين ، لأن المقدار الفائت يمكن أن يكون بمرتبة يلزم تداركها مع إمكان التدارك ، وقد لا يكون بتلك المرتبة.
هذا ، ولازم الأول الإجزاء ، لمساواته مع الفعل الاختياري في المصلحة كيفا وكمّا ، وحصول تمام الغرض منه
، بل لازمه جواز تحصيل الاضطرار اختيارا إلاّ أن يفرض تقييد المصلحة بالاضطرار الّذي لا يرجع إلى القصد.
ولازم الثاني عدم الإجزاء لأن الفعل الاضطراري وإن كان كالاختياري في الاشتمال على المصلحة الملزمة ، لكنها مغايرة معها ، فلا يجزي دركها عن تلك ، إلاّ أن يفرض بينهما التمانع ، أعني عدم قابلية من أدرك المصلحة الاضطرارية لدرك الاختيارية.
ولازم القسم الأول من الثالث عدم الإجزاء إن كان يمكن التدارك ، واستحباب التدارك في القسم الثاني منه والإجزاء مع عدم إمكان التدارك.
وقاية الاذهان
_ 191 _
ثم إن التدارك قد يكون بإتيان ما وجب على المختار لدى التمكن منه ، وقد يكون بفعل آخر يجبر به تلك النقيصة
، وقد يحصل بهما معا ، ولازمه التخيير بينهما.
ثم إنّ التدارك قد يختص بالوقت ، فلا يمكن في خارجه ، وقد يمكن فيهما معا ، ولازم الأول لزوم الإعادة فقط ، ولازم الثاني لزوم الإعادة والقضاء معا ، بل ومن الممكن ـ وإن كان بعيدا ـ إمكان التدارك في خارج الوقت فقط ، فيجب القضاء دون الإعادة.
وما يقال : من أنّ ما لا يجب إعادته لا يجب قضاؤه بالأولى ، فالأولوية على إطلاقها ممنوعة.
ولو شك في أصل الحكم بحسب الأدلة ، فالمرجع أصالة البراءة مطلقا ، كما قيل.
ويمكن التفصيل بين الموارد ، والقول بجريان قاعدة الاشتغال في بعضها ، كما لو مضى من الوقت مقدار الفعل الاختياري فلم يفعل ، وطرأ عليه العذر بعد ذلك ، فيقال : بأن التكليف بالفعل التام الوافي بتمام الغرض قد لزم المكلّف ، ولا يعلم بقيام غيره مقامه في جميع مراتب الغرض ، فيحكم بالاشتغال إلى أن تثبت البدليّة التامة.
ويمكن الجواب عنه بأن الّذي علم وجوبه أولا ليس خصوص الفعل التام ، بل الفعل الواحد المردّد كمّا وكيفا بين ما يؤتى في الحالتين ، نظير القصر والإتمام ، فبدخول وقت الظهرين مثلا يلزم صلاتان كيفيّتهما التمام إن بقي حاضرا ، والقصر إن سافر في أثنائه وصلاّهما في السفر بناء على أنّ الاعتبار بوقت الأداء لا الوجوب ، لا أنه يجب التمام أوّلا ثم ينسخ ذلك بوجوب القصر.
ويناسب هذا ، حكم بعض (1) أساتيذنا بأنّ من كان حاضرا في بعض
--------------------
(1) هو السيد الأستاذ السيد محمد كاظم اليزدي (ره) ( منه ).
وقاية الاذهان
_ 192 _
الوقت ، ومسافرا في بعض وفاته الفرض يتخيّر في القضاء بين التمام والقصر ، لأنّ الواجب صلاة واحدة في
مجموع الوقت ، تختلف كيفيتها بحسب حالي السفر والحضر ، فمتى فاتت صدق الفوت في جميع الوقت ، وآخر الوقت محقّق للفوت ، لا أنه يختص به الفوت ، وبيانه مفصّلا موكول إلى محلّه (1).
وهذا البيان إن تمّ فجريانه مشكل في بعض الصور المتقدمة ، كالصورة الثانية ، أعني ما كانت المصلحة في الفعل الثانوي من غير نوع الواقعيّ الأوّلي ، فتأمل جيّدا.
هذا ، وأما الحكم بحسب الأدلة فهو يختلف باختلاف الموارد وضوحا وخفاء بل وجودا وعدما ، والظاهر منها الإجزاء في الصلاة مع التيمم ، وفي حال التقية.
وكفاية مثل صلاة المضطجع والغريق عن صلاة المختار لا يخلو عن خفاء ، بل منع ، فإطلاق الإجزاء كما عن الشيخ الأعظم طاب ثراه لا يخلو عن إشكال.
وأما جواز البدار مع رجاء زوال العذر ، فهو يتبع العذر المأخوذ في موضوع الحكم ، فإن كان هو العذر المستوعب لتمام الوقت فلازمه عدم الإجزاء لو ارتفع العذر في الأثناء ، وإلاّ فالإجزاء.
نعم لا مانع من القول بصحة العمل في أوّل الوقت ـ على الأوّل ـ لو انكشف استيعاب العذر ، لو لا احتمال لزوم الجزم بالأمر ونحوه مما تبيّن ضعفه في محلّه.
قلت : وبهذا يذلّ لك الصعب من هذه المسألة ، ويتضح لك الطريق إلى اختصار القول فيها ، بأن نقول : إنّ إجزاء هذه الأحكام عن الواقعيّات الأوّلية تابع لما يستفاد من الأدلّة من أمر العذر الّذي أخذه الشارع في موضوعاتها ، فإن
--------------------
(1) العروة الوثقى ، صلاة القضاء مسألة 13.
وقاية الاذهان
_ 193 _
علم منها أنه العذر وقت العمل فلا شك في الإجزاء ، لأن المفروض أنها بدل عن تلك الأحكام ، ولا معنى للجمع بين البدل والمبدل منه ، ولا معنى لكفاية العذر حال العمل إلاّ تمامية في البدلية وقيامه مقامه ، بل يستكشف من نفس جعلها كونها شاملة لجميع مراتب مصلحة المبدل منه أو نقصانها لكن لا بمرتبة يؤبه بها ، ويلزم تداركها ، وإن علم منها أنها العذر المستوعب فلا حكم حتّى يبحث عن أجزائه ، وعلى فرض عدم استفادة أحد الأمرين من الأدلّة ، وانتهاء النّوبة إلى الأصل العملي ، فلا شكّ أنّ الأصل عدم تلك الأحكام ، فلا بدّ من إحراز تلك الأوامر أوّلا ، ثمّ البحث عن إجزائها.
ومن هذا ، يظهر لك الحال في إجزائها عن القضاء ، بل قد يقال بأنّ الأمر فيه أوضح ، لأنّ ما لا يجب إعادته لا يجب قضاؤه بطريق أولى ، ولكن ليس الأمر بهذه المرتبة من الوضوح لأنّ القضاء ليس بالأمر الأوّل ، بل هو أمر آخر ، موضوعه فوت ما أمر به بأمر آخر ، ولا شكّ في صدقه في هذا المقام ، ضرورة عدم وصول المكلّف إلى مصلحة الأمر الاختياري ، ولا يتوقّف صدق الفوت على وجود الأمر ، بل يكفي فيه كون المكلّف
في معرض دركها ، وكونه قادرا بعد ذلك على تداركها.
ويشهد بذلك عدّهم الجنون والنّوم والإغماء ونحوها من أسباب القضاء ، بل يصدق ولو مع عدم قابليّة الإنسان للامتثال حال الأمر ، فلهذا وجب قضاء الصّوم على الحائض ، فمتى شك في الإجزاء فمقتضى أدلّة القضاء وجوبه.
فالجواب عنه ، أوّلا بأنّ من المحتمل اشتمال المأتي به على تمام مصلحة الواقعي الأوّلي كما مرّ في عداد الأقسام المتصوّرة ، ومعه لا يعلم بفوت شيء أصلا.
وثانيا بأنه لا عموم لدليل القضاء ، إذ الموجود في كتب الرّوايات ليس ما هو المشهور على الألسن من قولهم : اقض ما فات كما فات. بل الموجود فيها
قوله : ( ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك ) (1) ومن المعلوم عدم صدقه في المقام لا سيّما بعد ملاحظة
وروده في مقام بيان الكيفية فقط.
نعم يصدق الفوت على الزيادة المترتبة على الفعل الاختياري ، ولا دلالة في الرواية على وجوب تدارك كل فائتة ، والمقدار المذكور ليس من الفرائض ، هكذا نقل عن الشيخ الأعظم طاب ثراه.
أقول : ولو فرضت صحّة الرواية المشهورة ، فالحال فيها كالحال في الرواية المأثورة ، إذ لا شك في أنّ المراد من الموصول فيها الفرض لا سيّما بقرينة لفظ القضاء ، لأنّ الظاهر منه العمل ، ومن سمج التعبير ـ فيما أرى ـ قول القائل : اقض المصلحة ، بل يقال : تدارك المصلحة ، ونحو ذلك ، فلو سلّم صدق لفظ الفوت عليها ـ كما ذكره ـ فلفظ القضاء لا يشملها ، وهي أيضا في مقام بيان الكيفية أيضا ، وهذا قرينة أخرى على أنّ المراد من الموصول خصوص الفعل.
وفذلكة المقام أنّ أدلة القضاء موضوعها فوت الفعل خاصة ، ولا فوت مع الإتيان بالبدل ، ولا شك في أنّ الأحكام الاضطرارية جعلت بدلا عن الأحكام الأوّلية ، لاشتمالها على مصلحة المبدل منها ولو على مرتبة ضعيفة ، ولا يحتمل أن يكون فقد الماء ـ مثلا ـ سببا لوجوب مستقل غير مرتبط بالتكليف الأوّلي كسببيّة كسوف الشمس لصلاة الآيات مثلا ، فتكون نسبة الصلاة مع التيمم إلى الصلاة مع الوضوء كنسبة صلاة الآيات إليها ، فبدليّة هذه الأحكام عن تلك ينبغي أن تعدّ من الواضحات التي يستدلّ بها لا عليها.
وبهذا يظهر المسامحة في عدّ الصورة الثانية المتقدمة في عداد الأقسام المتصورة للأحكام الاضطرارية ، فإنها ليس منها حقيقة ، وإذا ثبت كونها بدلا منها ، فلا معنى للبدليّة إلاّ قيامها مقام تلك ، وكون إتيانها إتيان تلك ، فمن أتى بالظهر
--------------------
(1) عوالي اللئالي 2 : 54 ـ 143.
وقاية الاذهان
_ 195 _
مع التيمم مثلا ، فقد أتى بالظهر حقيقة ، ولم يفته أصلا ، حتى تشمله أدلّة القضاء كما يظهر ذلك بالتأمّل في سائر الموارد.
وأما إجزاء الأحكام الظاهرية عن الواقعية فحاصل القول فيها : أنه لو قلنا باشتمال متعلّقاتها على المصالح ، بمعنى أنّ الفعل بعنوان كونه مؤدّى للأمارة ومتعلّقا للطريق ، له مصلحة غير مصلحة الواقع ، فحالها حال الواقعيّات الاضطرارية من غير فرق أصلا إلاّ في إجزاء الأصل في بعض الصور ، ولا يخفى ذلك على من تأمّل فيما قدّمناه ، فلا حاجة إلى التكرار.
وإن قلنا بأنها طرق جعلت لرفع تحيّر المكلّف ، ولا مصلحة في متعلّقاتها ، بل المصلحة في جعلها من حفظ الواقعيّات وغيره ، فلازم ذلك عدم الإجزاء لعدم حصول الغرض الموجب للتكليف بالواقع.
غاية الأمر كونها أعذارا عن الواقع المتخلّف عنه ، وحدّه ما دام كونه مشكوكا ، فإذا ارتفع الشك ارتفع العذر لوجوب امتثال الأمر المعلوم ، وحرمة مخالفته.
ولا فرق فيما ذكرناه بين ما لم يأت بشيء أصلا ، كما لو قامت الأمارة أو اقتضى الأصل عدم وجوب شيء ثم انكشف خلافه ، وبين ما إذا أتى بعمل على طبق أحدهما ثم انكشف نقصانه أو مخالفته للواقع ، كما لو بنى على عدم وجوب السورة فصلّى بدونها ، ثم ظهر وجوبها ، أو صلّى الجمعة فظهر أنّ الواجب هو الظهر كما هو ظاهر.
ومنهم (1) من جعل عنوان المسألة : ما لا يتمّ الواجب إلاّ به (2) ، ولعلّه نظر إلى أنّ لفظ المقدّمة ظاهر في العلّة وأجزائها ، والبحث في أعمّ منها ومن غيرها ممّا لا يتم إلاّ به كرفع الضد الشاغل لحيّز مّا لتحلّ محلّه الضدّ الآخر ، فإنّ رفعه ليس من أجزاء العلّة ، وفيه كلام (3) يأتي في مسألة الضدّ إن شاء الله.
والمشهور لدى المتأخرين : إنّ البحث هنا في إيجاب الملازمة العقلية بين إيجاب الشيء وبين إيجاب مقدّماته ، وعدمه ، فعلى هذا ينبغي ذكر هذا البحث في عداد مباحث المبادئ الأحكامية عند تقسيم الحكم إلى الخمسة المعروفة ، وإلى الوضعي والتكليفي كما صنعه جماعة أوّلا ، ففي الأحكام العقليّة لأنّ ثبوت الملازمة بينهما حكم عقلي صرف كما صنعه آخرون.
ويمكن أن يكون الكلام في ثبوت الدلالة اللفظية للهيئة على وجوب المقدّمة وعدمه ، فيدّعي القائل بالوجوب دلالة اللفظ عليه كما ادّعى غيره دلالته على الفور والتكرار ، فالبحث إذن يناسب مباحث الألفاظ.
ويمكن أن يكون الكلام فيهما معا ، إذ لا ملازمة بين المقامين ولا غناء لأحدهما عن الآخر ، فيمكن القول بثبوت الملازمة العقليّة ، وعدم الدلالة اللفظية ، وبالعكس كما في الفور والتكرار على القول بهما ، أو بثبوتهما معا ونفيهما كذلك.
--------------------
(1) كصاحب المعالم طاب ثراه ( مجد الدين ).
(2) معالم الدين : 60.
(3) لعلّ وجه الكلام أنّ رفع الضد الشاغل للحيّز من أجزاء العلّة التامة ، لأن شغل الحيّز مانع عن حلول الضد الآخر ، ولا ريب أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة التامة ، كما لا يخفى على المحصّل الأديب أن يلاحظ مسألة الضدّ بالدقّة إن شاء الله تعالى ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 197 _
وحيث إنّ الرابع كان مختار صاحب المعالم استدل على نفي الدلالة اللفظية بانتفاء الدلالات الثلاث ، وعلى نفي الملازمة العقلية بعدم المانع العقلي من تصريح الآمر بذي المقدمة بعدم وجوب المقدّمة (1) ، فمختاره ـ كما نبّه عليه ـ الجدّ ـ العلاّمة في الهداية ـ ملفّق من أمرين هما : نفي الدلالة والملازمة ، فاستدلّ على كلّ منهما بدليل ، ولهذا اعترض على الفاضل المحشّي في جعله كلاّ من الوجهين دليلا مستقلا (2).
هذا ، وقال الشيخ الأستاذ ـ طاب ثراه ـ في الكفاية ، ما نصه : ( والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه ، لا لفظية كما يظهر من مباحث المعالم ، حيث استدلّ على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث ، مضافا إلى أنه ذكره في مباحث الألفاظ ، ضرورة أنه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ثبوتا محلّ الإشكال ، فلا مجال لتحرير النزاع في الإثبات ، والدلالة عليها بإحدى الدلالات الثلاث كما لا يخفى ) (3) انتهى.
وقد عرفت أنّ الدلالة اللفظية لا تتوقف على الملازمة العقلية ، فلا موقع هنا للفظي الثبوت والإثبات.
وأما مؤاخذته بذكره في مباحث الألفاظ ، فعلى فرض كون النزاع في الملازمة العقلية فقط ، فإنه يكفي في ارتباط البحث بها كون الوجوب مدلولا للأمر كما نبّه عليه العلاّمة ـ الجدّ ـ في الهداية (4) ، وكون الدالّ على الوجوب غالبا هو اللفظ ، وقد ذكروا في مباحث الألفاظ ما هو مثله أو أبعد منه عنها كجواز اجتماع الأمر والنهي ، وهذا المعترض قد تبعهم في ذلك.
ولصاحب المعالم أن يذكّره بالمثل السائر ( تشاركني في الفعل ، وتفردني بالتعجّب ).
هذا ، وحيث إنّ البحث في الدلالة اللفظية ضعيف للغاية ، فلا ينبغي أن يكون محطّا لأفكار أهل العلم إلاّ على وجه تعرفه إن شاء الله تعالى ، نبني الكلام على النمط الأول ، ونقول : تخصيص العنوان بالواجب لأنه أهمّ قسمي طلب الفعل ، لا لاختصاص البحث به ، ضرورة أنّ الملازمة إن ثبتت تكون بين مطلق الطلب ومقدّماته ، وذلك ظاهر ، بل نقول : تثبت بين النهي عن الشيء وبين النهي عن مقدماته فتكون مقدمة الحرام محرّمة ، ولكنها تخالف مقدمة الواجب في أمر ، وهو أنّ الواجب يجب جميع مقدّماته من المعدّة والمقتضية والشرط وغيرها ، فتكون هناك عدّة واجبات بعدد المقدّمات ، أو وجوب واحد تنحلّ إليها ، كما يمرّ عليك تفصيله إن شاء الله ، بخلاف طلب الترك ، فإنه لا يجب بها إلاّ ترك إحدى المقدّمات لا بعينها.
والسرّ فيه إنّ الفعل في طرف الوجود يحتاج إلى جميع المقدمات ، إذ لا يوجد إلاّ بوجودها أجمع ، بخلافه في طلب الترك فانه يتحقّق بترك أحدها ، ولا يحتاج إلى ترك جميعها.
فاستبان من ذلك أنّ حرمة مقدّمات الترك للواجب ، وإن شئت قلت : لفعل الحرام ، حرمة تخييرية ، وللمكلّف أن يترك ما شاء من مقدّماتها ، بخلاف الواجب ، وأنه إن لم تبق إلاّ مقدّمة واحدة مقدورة إمّا لوجود جميعها أو خروج باقيها عن حيّز القدرة ، حرمت تلك عينا ، كما هو الشأن في كل واجب تخييري لم تبق من أفرادها المقدورة غير واحد.
وبهذا يظهر الوجه فيما حكم به سيّد (1) مشايخنا ـ أحسن الله في الجنان
--------------------
(1) السيد حسن الشيرازي تلميذ شيخنا الأنصاري طاب ثراهما ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 199 _
قراه وسقى بصيّب الغفران ثراه ـ من بطلان الوضوء وإن لم يكن المصبّ منحصرا في المغصوب إذا كان
الوضوء علة للتصرف فيه ، وذلك لأنه إذا فرض أنّ صبّ الماء يترتب عليه التصرف في المحل المغصوب قطعا بحيث لا يقدر بعد الصبّ على إيجاد المانع ، فحرمة الغصب تقضي بحرمة الصبّ عينا لانحصار المقدمة المقدورة فيه ، فلا يرد عليه ما قد توهم من أنّ الصبّ ليس بعلّة تامة للحرام حتى تحرم ، بل هو إحدى المقدّمات.
هذا ، وبما عرّفناك من حرمة مقدّمات الحرام تخييرا ، يظهر لك عدم مزاحمة تلك الحرمة للوجوب العيني في بعضها إذا اقتضاه دليل من خارج ، بل تقصر تلك الحرمة على غيرها من المقدّمات بحكم العقل ، لإمكان الجمع بين الأمرين ، فلا يرفع اليد عن أحد الفرضين ولو كان أحدهما أهمّ من الآخر ، لأن تقديم الأهم على المهم إنما يكون في صورة التزاحم المفقود في المقام.
نعم لو انحصرت المقدمة المقدورة لترك الواجب وقع التزاحم حينئذ ، ووجب بحكم العقل تقديم الأهمّ كما ستطلع عليه في مسألة الضدّ إن شاء الله.
ولو كان الواجب أيضا تخييريّا كمقدّمات الحرام ، فهل يمكن اجتماعهما ولو قلنا بعدم إمكان اجتماعهما في غير
المقام ، أم لا ؟
قد يقال بالثاني ، كما هو مقتضى جليل (1) النّظر ، لأنّ قضية كون الشيء من أطراف الوجوب أن يكون تركه مع ترك سائر الأطراف مبغوضا ، وقضية كونه طرفا للحرام أن يكون تركه مع ترك بقية الأطراف محبوبا ، فيلزم اجتماع الضدّين.
ولكن دقيق النّظر لا يحكم بذلك إذا فعله على تقدير قصد ترك غيره من بعض الأفراد ، إذ لا مانع منه أصلا ، ولا قبح فيه عقلا ، إلاّ مع قصد التوصّل به
--------------------
(1) أي بادئ النّظر ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 200 _
إلى الحرام ، هكذا نسب (1) إلى السيد الأستاذ طاب ثراه.
والمقام فيما أراه غير محرّر بعد ، وفي مسألة جواز الاجتماع ما يتّضح به الحال إن شاء الله.
هذا وقد جرت العادة بتصدير هذا البحث بذكر ما لكلّ من المقدمة والواجب من الأقسام مقدّمة وقد اشتملت هذه المقدمة على مسائل هي أهمّ وأنفس من نفس مسألة المقدّمة فلنقتف آثارهم ، ونقول :
وقد قسّموها إلى أقسام كثيرة :
منها : تقسيمها إلى داخليّة وخارجيّة.
فالداخلية هي أجزاء الماهيّة المركّبة ، فإنها ممّا يتوقف عليها الكلّ ، ضرورة احتياج الكلّ إلى الأجزاء ،
والخارجية ما عداها ممّا يتوقف وجودها عليها.
أما الداخلية ، فمختصر الكلام فيها أنه قد يقال بأنها واجبات غيرية ، منحلّة من الوجوب النفسيّ المتعلّق بالكلّ.
وهذا فاسد جدّاً إذ الوجوب النفسيّ ليس مركّبا حتى ينحلّ إليها ، بل هو أمر بسيط متعلّق بالمركّب تعلّقه بالبسيط ،
وإنما التركيب في متعلّقة لا في نفسه.
وأيضا لو سلّمنا التركيب فيه فلا يعقل انحلاله إلى واجبات غيرية لتغاير النفسيّ والغيري بالذات.
وقد ينكر وجوبها أصلا ، وهذا خلاف الوجدان ، إذ البعث إلى الجزء في
--------------------
(1) والناسب الشيخ عبد الكريم اليزدي صاحب المصنف طاب ثراهما ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 201 _
الجملة ممّا لا شك فيه ، ولهذا ادّعي (1) على وجوبها الإجماع حتى من منكري وجوب المقدّمة.
وقد يقال بوجوبها نفسا ، لأنها عين الكلّ وليس ذوها مغايرا للوجود معها ، حتى يترشّح وجوبه عليها.
وقد يقال بهما (2) معا نظرا إلى تغاير الاعتبار ، فباعتبار أنّها عين الكلّ يكون وجوبها نفسيّا ، وباعتبار أنه يحصل منها الكلّ يكون غيريّا.
وقد يقال بوجوبها غيريّا محضا كسائر المقدّمات ، وهذا مذهب السيد الأستاذ ـ طاب ثراه ـ وبيانه :
انّ الطلب يتعلّق بالوجود الذهني باعتبار حكايته عن الخارج ، فالضرب ـ ( زيد ) ما لم يوجد في الذهن لا يعقل
الأمر به ، ويأتي تفصيل هذا الإجمال في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، فينبغي تسليمه هنا على نحو الأصول الموضوعة حتى ننبّه عليه في محلّه.
وبعده نقول : إنّ الآمر إمّا أن يلاحظ الأجزاء الموجودة في ذهنه ، مستقلّة في أنفسها ، غير مرتبط بعضها ببعض ، كالعام الأفرادي ، وإمّا أن يلاحظها على هيئتها الاجتماعية متصوّرة بصورة وحدتها الكليّة.
فعلى الأول لا بدّ أن ينحلّ الأمر إلى إرادات متعدّدة ، إذ لا يعقل وحدة العرض مع تعدّد المعروض.
وعلى الثاني لا بدّ أن يكون الملحوظ بهذا الاعتبار أمرا واحدا بسيطا ، ولا يعقل أن يشير في هذا اللحاظ إلى أمور متعدّدة ، فالأجزاء في هذا الحال ليست موجودة بوجوداتها الشخصية ، بل موجودة تبعا للكلّ ، مندكّة فيه ، نظير وجود
--------------------
(1) الظاهر أنّ مدّعي الإجماع سلطان العلماء ( مجد الدين ).
(2) أي بالنفسي والغيري معا ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 202 _
المطلق في ذهن من لاحظ المقيّد ، وكوجود المبدأ في ضمن المشتق ، فلا وجود للأجزاء بوجوداتها الشخصيّة حتى يتعلّق الأمر بها ، ولا وجود إلاّ للكلّ ، ولا وجوب للكلّ إلاّ الوجوب النفسيّ ، كما لا وجود للكلّ في القسم الأول.
نعم لا بدّ للآمر من ملاحظة الأجزاء أوّلا بوجوداتها الاستقلالية مقدمة ، وينظر إلى احتياج الكلّ إليها ، ويرى توقف ذلك الواحد البسيط على كل واحد واحد منها.
وهذا مراد الشيخ الأعظم (1) ـ طاب ثراه ـ من أنّ الجزء إذا لوحظ لا بشرط فهو عين الكلّ ، وإذا لوحظ بشرط لا فهو غيره ، ومقدمة لوجوده (2).
والمراد من قوله : لا بشرط. هو وجوده الاندكاكي المتحد مع الكلّ ، ومن قوله : بشرط لا. وجوده الاستقلالي المباين مع الكل الّذي لا يقبل الاتحاد معه ومن أورد (3) على الشيخ بأنّ لازم ذلك وجوب الجزء بوجوبين ، ثم ردّه بعدم جواز اجتماع المثلين بينه وبين مراد الشيخ مراحل كثيرة ، وشوط بعيد.
وحاصل الكلام إنّ الأجزاء ما دامت أجزاء فهي واجبة بالوجوب الغيري كسائر المقدمات الخارجية ، بل هي قسم منها لا قسيم لها ، وفي غير تلك الحال لا وجود لها حتى تتصف بالوجوب أصلا ، وبعبارة أخرى : الكلّية والجزئيّة لحاظان لا يجتمعان ، فلا أجزاء مع الكلّ ، ولا كلّ مع الأجزاء.
وأما المقدّمة الخارجيّة ، فقد قسّموها تارة باعتبار العلّة التامة وأجزائها إلى
--------------------
(1) اعلم أن المراد من الشيخ الأعظم في هذا الكتاب هو الشيخ الجليل والعالم النبيل ، أستاذ المتأخرين وخاتم المجتهدين الشيخ المرتضى بن محمد أمين التستري الدزفولي الأنصاري صاحب كتاب المشتهر بالرسائل عند أهل العراق ، والفرائد عند الأعاجم ، وكتاب المعروف بالمكاسب عند أهل العراق ، والمتاجر عند الأعاجم ، المتوفى في أواخر جمادى الآخرة من سنة 1281 هجرية قمريّة ، وعمره الشريف سبع وستين سنة ( مجد
الدين ).
(2) مطارح الأنظار : 40.
(3) الظاهر أن المورد الشيخ محمد كاظم الخراسانيّ صاحب الكفاية ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 203 _
السبب ، والشرط ، والمقتضي ، والمعدّ ، وأطالوا الكلام في حدّ كلّ منها ، وبيان ما يرد على كل حدّ عكسا
وطردا.
وجميع ذلك غير مهمّ في المقام ، ضرورة أنّ الملازمة العقلية بين الأمر بالشيء وبين الأمر بما لا يتم إلاّ به إن تمّت فإنها تعمّ جميع ما يتوقف عليه ، سمّي شرطا أو سببا ، معدّا أو مقتضيا ، أو لم يسمّ بأحد هذه الأسماء أصلا ، لأنّ حكم العقل لا يقبل التخصيص.
وما نسب إلى السيد (1) ـ قدس سره ـ من التفصيل بين السبب وغيره (2) ، فما هو إلاّ الغفلة الواضحة عن حقيقة مرامه ، كما بيّن ذلك في الكتب المفصّلة ، وسائر التفاصيل المذكورة فهو إمّا مثل ذلك في الغفلة عن مراد القائل به ، أو هو واضح الفساد.
ومنها تقسيمها إلى مقدّمة الوجود ، ومقدّمة الوجوب ، ومقدّمة الصحّة ، ومقدّمة العلم.
ولا شك في دخول الأولى في محلّ النزاع ، وخروج الثانية ، ورجوع الثالثة إلى الأولى ، كما يظهر بأدنى تأمّل.
وأما الأخيرة (3) فلا شك في وجوبها ، ولكن لا الوجوب المقدّمي المتنازع فيه ، بل لقاعدة عقلية أخرى ، وهي
قاعدة أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، فمتى علم الاشتغال بواجب لزم بحكم العقل تحصيل اليقين بامتثاله ، قلنا بوجوب مقدّمة الواجب أم لا.
--------------------
(1) السيد المرتضى أخو السيّد الرضي المتوفى في آخر ربيع الأوّل من سنة ست وثلاثين وأربعمائة الهجريّة ( مجد الدين ).
(2) الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 83.
(3) وذهب في الفصول إلى أن مرجع مقدمة العلم عند التحقيق إلى مقدمة الوجود حيث يتوقف حصول العلم بالواجب عليها فبناء على ما ذكره رحمه الله ترجع مقدمة العلم ومقدّمة الصحة إلى مقدمة الوجود ، ولم يبق فرق بينهما من هذه الجهة ( مجد الدين )
وقاية الاذهان
_ 204 _
وأيضا الكلام في وجوب المقدّمة ـ كما مرّ إجمالا ، وستعرفه تفصيلا ـ ترشح الطلب المولوي من ذي المقدّمة عليها ، فتجب مولويّا ، وتحصيل العلم بالفراغ ليس بواجب شرعي أصلا ، حتى ينازع في ما يجب تبعا له.
ثمّ الّذي يجب بهذه القاعدة هو الإتيان بما يحتمل أن يكون هو الواجب أو جزء منه ، ولا يعقل أن يكون ما يقطع بعدم وجوبه مقدّمة علميّة له ، وهذا ظاهر جدّاً.
ولكن في كثير من المتون الفقهيّة في مسألة الوضوء وغيره : أنه يجب غسل شيء من خارج الحدّ ، أو من الباطن مقدّمة ، فإن أرادوا بها المقدّمة الوجوديّة ، على أنه بعيد من ظاهر العبارة ، بل ببالي تصريح بعضهم بخلافه ، ففيه منع التوقف (1) ، وإنما المسلّم استلزام غسل مقدار الواجب لانغسال ما خرج عن حدّه ، وأين الاستلزام من المقدمة ، واللوازم العادية والعقلية لإتيان الواجب كثيرة ، كما لا يخفى ، ولا يقول أحد بوجوبها.
وإن أرادوا بها المقدّمة العلمية ، ففيه ما عرفت من عدم معقولية ذلك ، فلو قيل لمن لا يعرف زيدا : أكرم زيدا. فالعلم بإكرامه يحصل بإكرام من يحتمل أن يكون زيدا ، ولا يعقل أن يكون إكرام من يعلم أنه عمرو ـ مثلا ـ مقدّمة للعلم بإكرام زيد ، وما الأجزاء القريبة من حدّ الوجه ـ مثلا ـ إذا علم خروجها إلاّ كالنحر والصدر وغيرهما من الأجزاء البعيدة عنه.
وهذا ظاهر جدّاً وإن لم أعثر على من تنبّه له ، فضلا عمّن نبّه عليه ، وقد ذكرت ذلك في شرح كتاب نجاة العباد (2) ، فلا مناص في تصحيح ما قالوه ، إلاّ
--------------------
(1) لأنه يشترط في المقدّمة الوجوديّة توقف الواجب عليها فهنا إنّا نمنع توقف الواجب على ما نعلم خروجه ، وهذا ظاهر جدّاً ، فمن قال بأنّ المراد بالتوقف التردد بمعنى إنّا لا نتردّد فيه فقد أخطأ ( مجد الدين ).
(2) المسمّى بـ ( كبوات الجياد في شرح نجاة العباد ) وهذا الكتاب أحسن من أن يوصف ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 205 _
أن يقال : إنّ المراد بالخارج ما يحتمل الخروج ، لكنه ـ كما ترى ـ بعيد عن ظاهر العبارة بأقصى مراتبه ، والله العالم.
وهو ينقسم إلى أقسام كثيرة ، باعتبارات مختلفة ، منها : تقسيمه إلى مطلق ومشروط (1) ، والأول كما في الفصول إلى منجّز ومعلّق (2).
أما المطلق فقد يقال في تعريفه : بأنه ما لا يتوقف وجوبه على شيء بعد الشرائط العامة (3) لجميع التكاليف.
وقد يقال : ما لا يتوقف (4) وجوبه على شيء أصلا حتى الشرائط العامة ، كما في تقريرات الشيخ الأعظم (5) ، ولازمه أن لا يوجد له مصداق أبدا كما تنبّه له ، والتزم على بعده به.
وقد يقال : بأنه ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده ، وعلى هذا
--------------------
(1) اعلم أن في المطلق والمشروط اصطلاحات ، منها : أن المطلق ما لا يتوقف بعد حصول شرائط التكليف على شيء كالمعرفة والمشروط بخلافه كالحج ، أقول : فعلى هذا الاصطلاح لم يكن المطلق مطلقا حقيقيا بل اصطلاحيّا لكونه مشروطا بهذه الأربعة إلاّ أن الاصطلاح قد جرى بتسميته مطلقا.
فان قلت : يمكن أن تكون الشرائط شرائط المكلف لا التكليف ، فيكون المطلق مطلقا حقيقيا.
قلت : بلى ، لكن حينئذ خرج المشروط عن كونه مشروطا ، وإمكان اتخاذ شرائطه شرائط المكلف لا التكليف كالحج المشروط بالاستطاعة ، فانه يمكن فيه اتخاذ الاستطاعة شرط المكلف فيكون الحج واجبا مطلقا ، انتهى ، نقلا من كتابنا مسائل العلوم ( مجد الدين ).
(2) الفصول الغروية : 79.
(3) العلم والعقل والقدرة والبلوغ ( مجد الدين ).
(4) تعريف الواجب المطلق بهذا المعنى مما يفضي إلى العجب من الفاضل المقرر ، وكيف يمكن تصوير الواجب المطلق بهذا المعنى فضلا عن وقوعه ، والعقل يحكم بعدم جواز الطلب الإلزاميّ مثلا من غير القادر ، أو غير العاقل ، أو غير العالم ، أو الصبي ؟! منشؤ الاشتباه ما ذكرناه في الحاشية ، فراجع ( مجد الدين ).
(5) مطارح الأنظار : 44.
وقاية الاذهان
_ 206 _
يختص المشروط بما كان الشرط من مقدّمات الوجود ، فقول القائل : توضأ إذا وجد الماء ، يكون مشروطا على جميع التعاريف ، وقوله : إذا دخل الأمير البلد فصلّ ركعتين ، خارجا عن حدّ المشروط على الأخير دون الأوّلين.
والأولى أن يلاحظ الإطلاق والاشتراط بالنسبة إلى كل ما يمكن توقفه عليه ، سواء كان من مقدّمات وجوده أم
لا.
فإن كان موقوفا عليه ، سمّي مشروطا من هذه الحيثية ، وإلاّ سمّي مطلقا كذلك ، فيكون الحال فيه كالحال في
المطلق والمقيد ، فكما يقال : عتق الرقبة مطلق بالنسبة إلى الذكورة والأنوثة ، ومقيّد من حيث الإيمان ، فكذلك في الواجب ، فيقال : وجوب الحج مطلق من حيث قطع المسافة ، مشروط بالاستطاعة.
وفي الفصول ما لفظه : ( وقد يطلق الواجب المطلق ويراد به ما لا يتوقف تعلّقه بالمكلّف على حصول أمر غير
حاصل ، سواء توقف على غير ما مرّ وحصل كما في الحج بعد الاستطاعة أو لم يتوقف كما مرّ ، وهو بهذا المعنى محلّ النزاع في المبحث الآتي (1) ، ويقابله المشروط وهو ما يتوقف تعلّقه بالمكلّف على حصول أمر غير حاصل ، والنسبة بين كلّ من المطلقين ومشروطه تباين ، وبين كل منهما وكل من الآخرين عموم من وجه ) (2) انتهى ، ثم ذكر في الحاشية بيان النسبة وأمثلتها (3).
وهذا كما تراه كلام جيّد ، وتنبّه حسن ، إذ دخول البحث في وجوب المقدمة الوجودية للواجب بعد حصول شرط
وجوبه ممّا لا نزاع في دخوله في محل النزاع (4) ، ولم يفرّق أحد من القائلين بوجوب المقدّمة بين مقدمات الواجب
--------------------
(1) مبحث مقدمة الواجب ( مجد الدين ).
(2) الفصول الغرويّة : 79.
(3) في حاشية الفصول الغروية : 79.
(4) بل هو محل النزاع حقيقة ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 207 _
المطلق ، وبين الواجب المشروط الّذي حصل شرطه ، ولهذا قال : ( وبهذا المعنى محل النزاع في المبحث
الآتي ).
ولكن مقرّر (1) درس الشيخ الأعظم جرى على عادته في كلمات هذا الرّجل العظيم ، من عدم التأمل في فهم
مرامه ، حتى يجد بابا إلى انتقاد (2) كلامه ، فظنّ به ظنّا يبعد عن علوّ مقامه ، ولم يكتف بذلك حتى وقع له ما أرجو أن يكون عن خطأ ، لا عن تعمّد ، وهو تحريف كلامه بقوله : ( وعرّفه بعض الأجلّة ) (3) إلى آخره ، مع أنه رحمه الله لم يجعله تعريفا ، بل عرّف كلاّ من المطلق والمشروط بالتعريف الأول ، ثم قال : ( وقد يطلق ) (4) إلى آخره ، وأين الإطلاق من التعريف ، وهل هذا من المقرّر إلاّ أوضح تحريف ؟
ثم إنّ هذا الإطلاق شائع حتى بين أصاغر الطلبة ، وقد صار قولهم : المشروط مطلق عند حصول شرطه كالمثل السائر بين أهل العلم ، وهذا المقدار كاف فيما أهمنا أمره من تعريف الواجبين المطلق والمشروط.
وأما المعلّق وهو ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ، ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور فالمعروف أنّ صاحب الفصول رحمه الله أبو عذرته ، وأصل دوحته (5) ، وليس كذلك بل سبقه إليه أخوه العلاّمة في الهداية حيث قال : ( إذا لم يكن الوقت شرطا في وجوب الفعل ، بل كان شرطا في وجوده ، كما هو الحال في الحج بالنسبة
--------------------
(1) المقرّر هو الشيخ أبو القاسم الكلانتري الطهراني صاحب التقريرات المسمّى بـ ( مطارح الأنظار ) رحمه الله تعالى رحمة واسعة ( مجد الدين ).
(2) الانتقاد والنقض وهو بهذا المعنى مراد في هذا المقام ، فما قيل من أنّ الانتقاد هنا التصحيح غير سديد ( مجد الدين ).
(3) مطارح الأنظار : 43.
(4) الفصول الغروية : 79.
(5) العذرة : البكارة ، والدوحة : الشجرة أي هو أزال بكارته وهو أصل شجرته ، وهما كناية عن الابتكار ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 208 _
إلى وقته ، فلا إشكال ـ إلى أن قال ، بعد ما ذكر أنّ ذلك ليس من باب تقدّم وجوب المقدمة على ذي المقدمة ، ما
لفظه ـ : ومن ذلك أيضا وجوب غسل الجنابة في الليل للصيام الواجب ، إذ الظاهر كون النهار محلا لوقوع الصوم ، لا شرطا في وجوبه ، كما في الصلوات الخمس ، حيث دلّ الدليل على كون الوقت شرطا في صحتها ووجوبها ) (1) إلى آخره.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد يتوقف في إمكان كلّ من المشروط والمعلّق ، وقد يتوقف في إمكان الجمع بينهما ، وتثليث الأقسام بهما.
أما الإشكال في المشروط (2) ، فلأنّ الهيئة موضوعة للطلب الإنشائيّ ، فإذا فرض تأخّر وجود الشرط عن الطلب ، فإمّا أن يقال بحصول الوجوب بإنشاء الأمر ، فيلزم تحقّق المشروط قبل شرطه ، أو بحصوله مع وجود الشرط ، فيلزم منه تفكيك الإيجاب عن الوجوب ، أو إلغاء القضية.
وأيضا معنى الهيئة حرفي ، غير مستقل في النّفس ، لا يمكن ملاحظته إلاّ تبعا للغير ، والإطلاق والتقييد فرع إمكان ملاحظة المفهوم في الذهن.
وأيضا مقتضى كون وضع الحروف عامّا والموضوع له خاصّا أن تكون جزئية ، والجزئي لا يكون قابلا للإطلاق والتقييد.
قلت : أما الجواب عن الأخيرين ، فلا يصعب عليك بعد التذكر لما مرّ في بحث معاني الحروف ، من إمكان تجريد الحرف وملاحظته ثانيا ، على نحو يقبل الإطلاق والتقييد ، وأنّ معاني الحروف كليّات كالأسماء ، فتأمل.
--------------------
(1) هداية المسترشدين : 218.
(2) قوله : ( أما الإشكال في المشروط ) إلى آخره.
أقول : وبعبارة أخرى إذا فرض تأخّر وجود الشرط عن الطلب فإمّا أن يقال بحصول الوجوب بإنشاء الطلب أو لا ، وعلى الثاني فإمّا ان حصل الوجوب قبلا أي قبل إنشاء الطلب ولم تفد القضيّة الوجوب أو لا ، فإن قلنا بحصول الوجوب بإنشائه فيلزم تحقق المشروط قبل شرطه ، وإن قلنا بعدم الإفادة فيلزم إلغاء القضيّة ، وعلى الثالث فيلزم تفكيك الإيجاب عن الوجوب كما لا يخفى ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 209 _
وأما الجواب عن الأول فهو أنّ المعنى المستفاد من الهيئة والمنشأ بها متحقّق فعلا من دون ابتنائه على شيء
ولكن المتوقف تأثيره في المكلّف.
وبيانه : أنّ الآمر قد يلاحظ القيد معدوما ، ويطلبه مع المقيّد ، كما في قوله : صلّ مع الطهارة ، وقد يلاحظ القيد موجودا ، وبعد فرض وجوده ينقدح في نفسه الطلب ، فيطلب مقيّدا مفروضا وجود قيده ، فيكون الطلب متحقّقا بنفس الإنشاء ، ولكن تأثيره في المكلّف بمعنى انبعاثه نحو الفعل ، والتزامه به يتوقف على وجود ذلك القيد المفروض ، لأن الطلب في نفس الآمر تحقّق على فرض وجوده فلا بدّ أن يؤثر فيه بعد وجوده ، ليطابق الخارج ما كان في نفس الآمر ، فكما أنه لو طلب مقيّدا بقيد موجود واقعا ما كان يؤثر على فرض عدمه في الخارج ،
فكذلك لا يؤثر على فرض عدم ما كان في الذهن متعلّقة للطلب ، فتأمل فيه جيّدا ، تجده واضحا.
ولك أن تجيب بهذا الجواب عن الإشكالين السابقين ، وتجعله جوابا عن الإشكالات الثلاثة أجمع ، كما لا يخفى على المتأمل.
ومنه ينفتح الباب إلى الإشكال في الواجب المعلّق ، لأن إرادة الفعل قد تقتضي تحصيل ذلك القيد وإيجاده إذا لم يكن موجودا ، وقد لا تقتضي ذلك ، لكونه مأخوذا على فرض وجوده.
وبعبارة أخرى قد يكون القيد داخلا في حيّز الإرادة ، وقد يكون خارجا ، والأول هو المطلق ، والثاني هو المشروط ، ولا ثالث لهما بحكم العقل ، لكي يثلّث به الأقسام ، ويسمّى المعلّق.
وحيث إنّ الزمان خارج عن القدرة ، والقيود الخارجة عن قدرة المكلف من قبيل الثاني ، لاستحالة التكليف بغير المقدور ، فالأوامر المتعلّقة بقيد الزمان يكون من قبيل المشروط قطعا.
وهذا مراد الشيخ الأعظم فيما ذكره من الاعتراض على الواجب المعلّق ،
--------------------
(1) كفاية الأصول : 64.
(2) أي مارس ( مجد الدين )
(3) هو السيّد محمّد النجف آبادي مدرس الكفاية في أصفهان ، وكنت حاضرا حين مذاكرات المصنف معه في
هذا الباب وأنا في ريعان الشباب ، ونسأل الله تعالى حسن العاقبة والمآب ( مجد الدين )
(4) أي يزيل ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 210 _
وقد خفي ذلك على مقرّر بحثه ، حيث جعل المناقشة لفظية محضة ، فأطال القول في عدم الفرق بحسب الواقع بين قول القائل : افعل كذا في وقت كذا ، وبين قوله : إذا دخل وقت كذا فافعل كذا. وأنت إذا تأمّلت كلامه الطويل المملّ وجدته أجنبيّا عن مراد صاحب الفصول والشيخ معا.
نعم في أواخره بعض الإلمام (1) بما ذكرناه ، وخفي على غير واحد من الأساتيذ أيضا ، فزعموا أنّ الشيخ يجعل الجميع من قبيل المعلّق ، وينكر الواجب المشروط ، وهذا كان معتقد أهل العلم في النجف الأشرف ، حتى قدم عليهم السيد الأستاذ ، فعرّفهم بأن الشيخ الأعظم ينكر الواجب المعلّق ، ويجعل الجميع من قبيل المشروط.
وما أوقعهم في ذلك إلاّ مقرّر الشيخ الأعظم ، حيث أطال وكرّر في هذا البحث حديث عدم قابليّة الهيئة للتقييد ، ولزوم رجوعه إلى المادّة مطلقا ، فتوهّموا منه إنكاره المشروط.
وقد عرفت من البيان السابق عدم توقف تصوّر المشروط على تقييد الهيئة ، وأنّ الواجب المطلق أيضا لا يخلو من شرائط تتوقف المصلحة على وجودها ، وإنما الفرق حصول تلك الشرائط في الواجب المطلق واقعا ، وفي المشروط فرضا ، وأين هذا من تقييد الهيئة؟ فتأمّل جيّدا ، وتمام الكلام في الواجب المعلّق يأتي قريبا إن شاء الله.
قد يطلق التعبدي على الأحكام التي لا يدرك العقل مصلحتها كبعض
--------------------
(1) الإلمام : نوع خفي من الإعلام ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 211 _
أعمال الحج ، ونحوه.
وقد يطلق ويراد به الواجبات التي يعتبر فيها قصد القربة ، والمعنيان متباعدان جدّاً.
فما وقع في تقريرات الشيخ الأعظم ـ طاب ثراه ـ من الخلط بين المعنيين ، ونقله عن بعضهم تعريف التعبدي بالمعنى الأول في مقام تعريفه بالمعنى الثاني ، ثم الاعتراض عليه (1) ، فجميع ذلك ليس في محلّه ، فلاحظ.
وبالجملة فالكلام في التعبدي بالمعنى الثاني ، ومحصّل الكلام فيه : أنّ قصد القربة قد يفسّر بقصد الأمر المتوجه
إليه ، وقد يفسّر بغيره ، وعلى الأول قد يجعل ذلك قيدا للمأمور به ، إمّا شطرا له أو شرطا فيه ، وقد لا يجعل ذلك قيدا له ، بل يجعل قيدا للغرض ، ودخيلا في حصوله.
وأيضا قد يراد من الأمر الّذي يعتبر قصد إطاعته عين الأمر المتوجه إلى نفس تلك العبادة ، فيكون قصد القربة في الصلاة قصد الأمر بالصلاة مثلا ، وقد يجعل قصد أمر آخر.
أما تفسيره بقصد الأمر المتوجه إلى نفس العبادة ، وكونه قيدا لها ، كما نسب إلى ظاهر مشهور المتقدّمين ، فقد ذهب جمهور المحقّقين من المتأخّرين إلى عدم إمكانه عقلا ، وذكروا لذلك وجوها :
الأول : لزوم الدور ، وبيانه : انّ الموضوع مقدم رتبة على الحكم ، لأنه معروض له ، والمعروض مقدّم رتبة على العرض ، فإذا أخذ في الموضوع ما ينشأ من الحكم توقف الموضوع على الأمر ، إذ قصد الأمر يتوقف على الأمر ، ولا يتحقق إلاّ بعده ، فالأمر إذن يتوقف على الموضوع ، لكونه عرضا له ، والموضوع يتوقف على الأمر ، لكونه مقيّدا به ، ولا يتحقق المقيّد إلاّ بتحقّق القيد.
--------------------
(1) مطارح الأنظار : 59.
وقاية الاذهان
_ 212 _
وأجاب عنه السيد الأستاذ ـ طاب ثراه ـ بأنّ توقف الموضوع على الأمر مسلّم لما ذكر.
وأمّا توقف الأمر على الموضوع ، فإن أريد توقفه عليه في الخارج فهو باطل ، ضرورة أنّ الأمر لا يتعلق بالموضوع إلاّ قبل وجوده ، وأما بعده فهو مستحيل لامتناع طلب الحاصل.
وإن أريد توقفه تصوّرا فمسلّم ولكن لا يلزم منه الدور لأنّ قصارى ما فيه توقف الموضوع على الأمر بحسب وجوده الخارجي ، وتوقف الأمر على الوجود الذهني للموضوع ، فلا دور.
أقول : ولي في تقرير هذا الوجه ، وفيما أورد عليه كلام ستعرفه بعد الفراغ عن ذكر الوجوه التي ذكرها للاستحالة.
وقد يورد عليه بأنّ القدرة على الموضوع لا يتحقق إلاّ بعد الأمر ، والأمر لا يتعلق بالشيء إلاّ بعد القدرة عليه ، فيتوقف الأمر على القدرة ، والقدرة على الأمر.
وفيه : إنّ الممتنع تعلّق الأمر بغير المقدور في وقت الامتثال ، وهو غير لازم في المقام ، لتحقق القدرة بنفس الأمر حال الامتثال ، وأما لزوم كونه مقدورا قبل وقت العمل فهو ممنوع.
وقد يقال في وجه الاستحالة : إنّ الأمر بإيجاد الصلاة بداعي الأمر يتوقف على الأمر بذات الصلاة ، والمفروض أنه لا أمر بها إلاّ مقيّدا بكونها بداعي الأمر ، والأمر بالمقيّد ليس أمرا بالمجرّد عنه فإذن لا أمر حتى يقصد.
وفيه : إن الأمر بالمقيّد أمر بالطبيعة حقيقة ، لاتّحادها معه ، والإتيان بها بداعي الأمر لا ينقص عن المطلوب الأصلي أصلا.
وقد يقال وجها للاستحالة : إنه لا معنى للأمر مطلقا حتى التوصّلي منه إلاّ إيجاد الداعي للمكلّف إلى الفعل ، وبعثه ونحوه ، ولو كان قصد الأمر مأخوذا
وقاية الاذهان
_ 213 _
في المأمور به ، لزم أن يكون الأمر محرّكا إلى محرّكيّة نفسه ، وداعيا إلى كونه داعيا ، وهذا الوجه ذكره السيد
ـ طاب ثراه ـ ولم يعترض عليه بشيء ، فكأنّه ارتضاه.
وإني أرى أنّ استحالة أخذ الأمر وكلّ ما ينشأ من قبله ، أو يضاف إليه في موضوع المأمور به ، أوضح من أن يحتاج إلى البرهان ، وكان يغني عن جميع ما ذكر كلمة واحدة صدّر بها الوجه الأوّل ، وهو تأخّر الحكم من الموضوع رتبة ، إذ من الواضح لزوم كون القيد والمقيد في مرتبة واحدة بحيث يتمكن الآمر من النّظر إليهما معا بلحاظ واحد ، وطلب أحدهما مقيّدا بالآخر ، والحكم لتأخّره الرّتبيّ لا يتصوّره الذهن إلاّ بعد تصوّر موضوعه ، ولهذا امتنع تعليق الأمر على كلّ من الإطاعة والعصيان ، وامتنع الحكم بقيد الشك في ذلك الحكم بعينه ، أو بقيد الظنّ به كما يأتي بيانه في الترتّب الّذي هو مذهبه في الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة.
وبالجملة لا بدّ للحكم من موضوع مستقلّ بنفسه متصوّر قبل الحكم ، لكي يعرضه الحكم.
وأمّا صياغة الموضوع من الحكم ، فإن لم يكن دورا اصطلاحيّا فهو ( أخوه غذته أمّه بلبانه ) بل هو أوضح فسادا من الدّور ، ولا يمكن إصلاحه بما ذكره في الجواب عن الدّور ، كما لا يخفى.
وأمّا كون قصد الأمر دخيلا في الغرض لا في المأمور به ، فبيانه أنّ الأمر متوجّه إلى الفعل من غير تقييد بقصد الأمر ، ولكن الغرض لا يحصل إلاّ بإتيان الفعل بداعي الأمر ، والعقل إذا اطّلع على أخصيّة الغرض ، وكون الطّلب أوسع دائرة من المطلوب ، يحكم بلزوم الإتيان بالفعل على نحو يحصل به الغرض ، فإذا أتى به بغير داعي الأمر لم يحصل الغرض ، فلم يسقط الأمر ، لأن الغرض كما صار سببا لحدوث الأمر ، يكون سببا
لبقائه ، كذا قيل.
وفيه : إنّ بقاء الأمر مع الإتيان بالمأمور به مستلزم لعدم إجزاء الأمر