ومع ذلك فهو لا يهمل المعاني حينما يؤكد على الألفاظ بل يريد دلالتها متوازنة متسقة فيقول : « ومع هذا فلا تظن أني أردت إهمال جانب المعاني بحيث يؤتى باللفظ الموصوف بصفات الحسن والملاحة ، كان كصورة حسنة بديعة في حسنها إلا أن صاحبها بليد أحمق ، والمراد أن تكون هذه الألفاظ المشار إليها حسماً لمعنى شريف » (1) .
   ويؤكد ابن الأثير على المعنى الدلالي بمنظور يقابل المنظور السابق فيقول عند حديثه عن الإيجاز : « والنظر فيه إنما هو إلى المعاني لا إلى الألفاظ ، بحيث تعرى عن أوصافها الحسنة ، بل أعني أن مدار النظر في هذا النوع ، إنما يختص بالمعاني فربّ لفظ قليل يدل على معنى كثير ورب لفظ كثير يدل على معنى قليل » (2) .
   والدقيق المضني عند ابن الأثير أن يعقد المقالة الأولى من كتابه « المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر » للصناعة اللفظية فيبحثها من جميع وجوهها : الشكلية والسمعية والبيانية ويقسم كل ذلك بدقة وشمولية واستيعاب إلى قسمين : القسم الأول في اللفظة المفردة والقسم الثاني في الألفاظ المركبة ويستغرق ذلك أكثر من مئتي صحيفة » (3) .
   وفي جميع هذه البحوث الطائلة نجده يبحث تفصيلات واسعة المداليل ، ولكنه لا ينسى نظريته في دلالة الألفاظ أو المعنى الدلالي عند التراكيب يقول : « واعلم أن تفاوت التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها لأن التركيب أعسر وأشق ألا ترى ألفاظ القرآن الكريم ـ من حيث انفرادها ـ يفوق جميع كلامهم ، ويعلو عليه ، وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب » (4) .

--------------------
(1) ابن الأثير ، المثل السائر : 1 / 123 .
(2) المصدر نفسه : 2 / 265 .
(3) المصدر نفسه : 1 / 210 ـ 416 .
(4) المصدر نفسه : 1 / 213 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 27 ـ
   ولا يكتفي ابن الأثير بهذا العرض دون التنظير الدلالي ويختار لذلك قوله تعالى : ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * ) (1) .
   ويعقب بقوله : « إنك لم تجد ما وجدته لهذه الألفاظ من المزية الظاهرة لا لأمر يرجع إلى تركيبها ، وإنه لم يعرض لها هذا الحسن إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية ، والثالثة بالرابعة وكذلك إلى آخرها » (2) .
   ويتعرض لدلالة اللفظ الواحد في تركيبين مختلفين ، فتجد اللفظ مستكرهاً في تركيب ، وهو نفسه مستحسناً في تركيب آخر ويضرب لذلك مثالاً فيقول : « وسأضرب لك مثالاً يشهد بصحة ما ذكرته ، وهو أنه قد جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن ، وبيت من الشعر ، فجاءت جزلة متينة في القرآن ، وفي الشعر ركيكة ضعيفة ، فأثّر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين ، أما الآية فهي قوله تعالى : ( فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ . . . ) (3) .
   وأما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي (4) :

تلذ له المروءة وهي تؤذي      ومـن يعشق يلذ له الغرام
   وهذا البيت من أبيات المعاني الشريفة إلا أن لفظة : « تؤذي » قد جاءت فيه وفي الآية من القرآن فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها ، وحسن موقعها في تركيب الآية » (5) .

--------------------
(1) سورة هود : 44 .
(2) ابن الأثير ، المثل السائر : 1 / 214 .
(3) سورة الأحزاب : 53 .
(4) المتنبي ، ديوان المتنبي : 4 / 75 .
(5) ابن الأثير ، المثل السائر : 1 / 214 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 28 ـ
   والذي يؤخذ على ابن الأثير في هذا المقام وغيره من مواطن إفاضاته البلاغية والنقدية والدلالية هو نسبته جميع المفاهيم وإن سبق إليها من هو قبله وادعاؤه التنبيه عليها وإن نبه غيره ، ولا يعلل منه هذا إلا بعدم قراءة جهود السابقين ، وهو بعيد على شخصيته العلمية المتمرسة ، وأما ببخس الناس أشياءهم ، وهذا ما لا يحمد عليه عالم جليل مثله ، وإل فقد رأيت قبل وريقات أن عبد القاهر قد خطط بل وجدد لما أبداه هنا ابن الأثير .

9 ـ وهذا حازم القرطاجني ( ت : 684 هـ ) بكثرة إضاءته وتنويره في منهاج البلغاء ، نجده يؤكد الحقائق الدلالية السابقة لعصره ، وعنده أنها من المسلمات حتى أنه ليقارن بين دلالة المعاني والألفاظ ويعبر عنهما بصورة ذهنية ، وهو إنما يحقق في ذلك من أجل أن يتفرغ لإتمام اللفظ بالمعنى وإتمام المعنى باللفظ ، في تصور جملي متتابع ، فيقول : « إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان . فكل شيء له وجود خارج الذهن وأنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه ، فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك ، أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة في أفهام السامعين وأذهانهم » (1) ، فهو يرى تشخيص اللفظ للصورة الذهنية عند إدراكها بما يحقق الدلالة المركزية التي يتعارف عليها الاجتماع اللغوي ، أو العرف التبادري العام بما يسمى الآن الدلالة الاجتماعية ، اللغوية ، المركزية ، وهي تسميات لمسمى واحد .

--------------------
(1) حازم القرطاجني ، منهاج البلغاء : 18 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 29 ـ
10 ـ ونجد السيوطي ( ت : 911 هـ ) وهو كثير النقل عمن سبقه ، وكتاباته لا تعبر عن جهده الشخصي في الاستنتاج بل قد تعبر عن جهده الشخصي في الاختيار ، وله في هذا الاختيار مذاهب ومذاهب ، قد ينسب بعضها إلى أهلها وقد يحشر بعضها في جملة آرائه ، وقد ينقلها نقلاً حرفياً ، ولكنك تظنها له ، وهو في هذا المجال كذلك ، نجده يتنقل هنا وهناك لاستقراء المناسبة القائمة بين اللفظ ومدلوله ، في مجالات شتى فيقول : « نقل أهل اصول الفقه عن عباد بن سليمان الصيمري من المعتزلة أنه ذهب إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع أن يضع وإلا لكان تخصيص الاسم المعين ترجيحاً من غير مرجح » (1) .
   وهذا رأي جملة من الأصوليين ، ولما كان ما يعنيه هو رأي اللغويين فإنه يدع الأصوليين إليهم ، فيبين وجهة نظرهم في هذه الحالة ومن ثم يعقد مقارنة بين الرأيين لاستجلاء الفروق بين الأمرين : « وأما أهل اللغة والعربية فقد كانوا يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني ، ولكن الفرق بين مذهبهم ومذهب عباد ، أن عباداً يراها ذاتية موجبة بخلافهم » (2) .
   وهو ينقل عمن يرى « أنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها ، ويربط بين دلالة الصوت والمعنى ، فسئل ما مسمى ( أدغاغ ) وهو بالفارسية الحجر ، فقال : أجد فيه يبساً شديداً أو أراه الحجر » (3) ، وقد يكون النقل لهذا التنظير مبالغاً فيه ، ولكن المهم في الموضوع أدراك المناسبة على المستوى النظري ، وأنها مفهومة ومفروغ عن إثباتها حتى أصبحت من الهضم لديهم أن يتلمسوا ذلك في لغات أخرى . . . وما أثبتناه هنا عن السيوطي مستخرج من صحيفة واحدة فما ظنك باستقراء آرائه .

--------------------
(1) السيوطي ، المزهر في اللغة : 47 .
(2) المصدر نفسه : 47 .
(3) المصدر نفسه : 47 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 30 ـ
   ومن الطريف أن ينتصر جاسبرسن ( 1860-1943م ) إلى آراء العلماء العرب القدامى في كشف الصلة بين الألفاظ ودلالتها واستنباط المناسبة بينهما إلا أنه حذر من المغالاة والاطراد في هذا الرأي إلا أنه يؤكد على جانب مهم من آرائهم فيما يتعلق بمصادر الأصوات فقد تسمى حركات الإنسان بما ينبعث عنها من أصوات ، فيطلق صوت الشيء على الشيء نفسه (1) .
   ولما كان القرآن الكريم يمثل الذروة البيانية في الموروث البلاغي عند العرب ، يبتعد عن النمط الجاهلي في ألفاظه ويستقل استقلالاً تاماً في مداليله فلا أثر فيه لبيئة أو إقليمية أو زمنية ، فهو المحور الرئيس لدى البحث الدلالي باعتباره نصاً عربياً ذا طابع إعجازي وكتاباً إلاهياً ذا منطق عربي ، فقد توافرت فيه الدلائل والأمارات والبينات لتجلية هذا البحث والتنظير له تطبيقاً في لمح أبعاد الدلالة الفنية .
   وليس في هذا التنظير إحصاء أو استقصاء ، فلذلك عمل مستقل به قيد البحث بعنوان : « دلالة الألفاظ في القرآن الكريم » ولكنه هنا على سبيل الأنموذج المتأصل لمبحث الدلالة ، كمقدمة للمبحث الأم ، وهو جزء ضئيل مما أفاده علماؤنا العرب ، فلا تطلبن مني التفصيل في موضوع مقتضب أو الأطناب في بحث موجز ، جاء هذا التنظير كشفاً لنظرية البحث الدلالي لا غير ، تدور حول محوره ، وتتفيّأ ظلاله ، وليست استقطاباً لما أورده القرآن العظيم في هذا المجال فهو متطاول ينهض بموضوع ضخم وحده .

--------------------
(1) إبراهيم أنيس ، دلالة الألفاظ : 68 وما بعدها .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 31 ـ

   وفي ضوء ما تقدم من كشف وممارسة ، فقد لمسنا في مجموعة التركيبة اللفظية للقرآن الكريم لغة اجتماعية ذات طابع دلالي خاص ، تستمد نشاطها البنائي من بنيات بلاغية متجانسة حتى عادت لغة مسيطرة في عمقها الدلالي لدى عامة الناس في الفهم الأولي ، وعند خاصة العلماء في المعاني الثانوية ، وتوافر حضورها في الذهن العربي المجرد حضوراً تكاملياً ، بعيداً عن الإبهام ، والغموض والمعميات ولا مجال للألغاز في تصرفاتها ولا أرضية للمخلّفات الجاهلية في ثروتها ، تبتعد عن الوحشي الغريب ، وتقترب من السهل الممتنع ذلك من خلال التعامل اللغوي الموجه للفرد والأمة مما فرز حالة حضارية متميزة تعنى بالجهد الفني تلبية للحاجة الإنسانية الضرورية في التقاء الفكر بالواقع واللغة بالعاطفة والشكل بالمحتوى دون تعقيد ثقافي يجر إلى تكوينات متنافرة .
   وعلى الرغم من توقف جملة من علمائنا الأوائل عن الخوض في حديث المداليل في القرآن الكريم ، فإن القرآن يبقى ذا دلالة أصلية ، وما معاملتهم له إلا دليل تورع وتحرج عن الفتوى بغير مراد الدلالة حتى وإن أدركوها إجمالاً .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 32 ـ
   كان الأصمعي ـ وهو إمام أهل اللغة ـ لا يفسر شيئاً من غريب القرآن وحكي عنه أنه سئل عن قوله سبحانه : ( قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا . . . ) (1) فسكت و قال : هذا في القرآن ثم ذكر قولاً لبعض العرب في جاريةٍ لقوم أرادوا بيعها : أتبعونها ، وهي لكم شغاف ولم يزد على ذلك ، أو نحو من هذا الكلام » (2) .
   ولو تجاوزنا حدود العلماء والنقاد العرب ، إلى القادة والسلف الصالح لوجدنا الأمر متميزاً في احترام النص القرآني ، ومحاطاً بهالة متألقة من التقديس ، فلقد قال الإمام علي عليه السلام مجاهراً : « وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه وبيت لا تهدم أركانه ، وعز لا تهزم أعوانه » (3) .
   وهو تعبير حي عن حماية القرآن وصيانته ، وتبيان لحجج القرآن ودلالته ، وقد كان عمر بن الخطاب ـ وهو من الفصاحة في ذروة السنام والغارب ـ يقرأ قوله عزّ وجلّ : ( وفاكهةً وأبّا * ) (4) فلا يعرفه فيراجع نفسه ويقول : ما الأب ؟ ثم يقول : إن هذا تكلف منك يا ابن الخطاب » (5) .
   وكان ابن عباس رحمه الله وهو ترجمان القرآن و وارث علمه يقول : لا أعرف حناناً ولا غسلين ولا الرقيم (6) ، ولا يعني التحرج في كشف الدلالة القرأنية عدم وضوح الرؤية ، أو انعدام المراد بل على العكس أحياناً ، فقد أجمع النقاد على سلامة النظم القرآني ، وتواضعوا على إعجازه ، بل اعتبروا استعمال القرآن لأفصح الألفاظ بأحسن المواقع متضمنة أسلم المعاني وأعلى الوجوه دلالة ، من مخائل الإعجاز القرآن ، حتى أوضح الخطابي ( ت : 388 هـ ) هذا العلم بقوله : « واعلم أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف متضمناً أصح المعاني » (7).

--------------------
(1) سورة يوسف : 30 .
(2) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : 34 .
(3) ظ : ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة : 8 / 273 .
(4) سورة عبس : 31 .
(5) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : 36 .
(6) المصدر نفسه : 36 .
(7) المصدر نفسه : 27 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 33 ـ
   وقد اعتبر الخطابي نفسه اختيار اللفظ المناسب للموقع المناسب عمود البلاغة القرآنية فقال : الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه : أما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام ، وأما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة وذلك أن في الكلام ألفاظاً متقاربة في المعاني ، يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب كالعلم والمعرفة ، والحمد والشكر ، وبلى ونعم ، وذلك وذاك ، ومن وعن ، ونحوهما من الأسماء والأفعال والحروف والصفات مما سنذكر تفصيله فيما بعد ، والأمر فيها وفي ترتيبها عند علماء أهل اللغة بخلاف ذلك ، لأن كل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها ، وإن كانا قد يشركان في بعضهما » (1) .

   واستناداً إلى هذا المفهوم الدقيق في المتميز بين دلالة لفظ ولفظ ، وفروق قول عن قول ، فإننا نشير هنا على سبيل الأنموذج التمييز في القرآن إلى ثلاث خصائص مهمة في الدلالة تتجلى في ثلاث ظواهر بيّنة :

الظاهرة الأولى :
   إن اختيار القرآن للألفاظ في دلالتها إنما جاء متناسقاً مع مقتضيات الحال وطبيعة المناسبة وقد يكون ذلك التناسق صادراً لجهات متعددة تؤخذ بعين الاعتبار لدى تجديد القرآن لمراد الاستعمال في الحالات الوصفية والتشبيهية والتمثيلية والتقديرية مما نستطيع التنظير له بما يلي :
أ ـ ما أراد به القرآن صيغة معينة لحالة معينة تستوعب غيرها ولا يستوعبها غيرها ، فإنه يعمد إلى اختيار اللفظ الدقيق لهذه الغاية فيتبناه دون سواه من الألفاظ المقاربة أو الموافقة أو الدارجة كما في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * ) (2) .

--------------------
(1) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : 29 .
(2) سورة النور : 39 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 34 ـ
   وقد يسد غيرها في معنى دلالي متميز ، فالله تعالى أراد الظمآن بكل ما تحمله الكلمة في تضاعيفها الأولية والثانوية من دلالات خاصة بها فلا تسد مسدها ـ مثلاً ـ كلمة الرائي ، لأنّ الرائي قد يرى السراب من بعيد وهو ليس بحاجة إليه ، فلا يتكلف إلا الخداع البصري أما الظمآن فإنه يكد ويكدح ويناضل من أجل الوصول إلى الماء حتى إذا وصل إليه وإذا بما حسبه ماءً قد وجده سراباً ، فكانت الحسرة أعظم والحاجة أشد ولم يبرد غليلاً ، ولم يدرك أملاً ، قال أبو هلال العسكري ( ت : 395 تقريباً ) : « فلو قال يحسبه الرائي ماءً لم يقع قوله ( الظمآن ) لأن الظمآن أشد فاقة إليه وأعظم حرصاً عليه (1) .

ب ـ وما أراد به القرآن الاتساع المترامي ، فإنه يختار له الألفاظ الدالة على هذا الاتساع بكل شمولية واستيعاب فحينما نتدارس بإجلال قوله تعالى : ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * ) (2) .
   فسنجد عمومية الألفاظ وشموليتها مما يتناسب مع عمومية المعاني وتطاولها ، ويتواكب مع استقرار كل الجزئيات وعدم تناهيها ، وذلك من أعاجيب القرآن وطرائفه ، وهذه الألفاظ في هذه الآية هي : دابة ، الأرض ، الله ، رزقها ، مستقرها ، مستودعها ، كل ، كتاب ، هذه الألفاظ في تراصفها وتقاطرها تفيد عموماً لا خصوص معه وتتجه نحو الإطلاق فلا تقييد ، كما سنرى في هذا العرض : الدابة تستوعب مجموعة عامة مركبة من خلق الله مما دبّ وهب ودرج من الانس والجن والطير والأنعام والوحوش والهوام وكائنات لا نعرفها ، ومخلوقات لا نتصورها ، أرأيت عمومية وشمولية كهذا في دلالة لفظ واحد عليه مع عدم إمكان حصر ملايين النسمات في ضوئه .

--------------------
(1) العسكري ، كتاب الصناعتين : 246 .
(2) سورة هود : 6 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 35 ـ
   والأرض هذه الكرة الفسيحة بجبالها ووهادها ومفاوزها وأشجارها وأنهارها وآبارها ، داخلها وخارجها ، ظاهرها وباطنها كلها عوالم مترامية الأطراف واسمها الأرض ، هذا اللفظ البسيط الساذج المتداول ، ولكنها بقاع العالم وأصقاع الدنيا ومحيطات الكون ، ولفظ الجلالة في إشارته لذاته القدسية التي لا تحد بزمان ولا مكان ، ولا تنظر بأين أو كم أو كيف ، ولا تمثل بجسم أو كائن أو تشخيص يتناهى لله كل متناه ، ولا يدركه نظر أو بعد ولا يسمو إليه فكر أو عقل ، دال على ذاته بذاته ، ومتعالٍ عن سائر مخلوقاته .
   والرزق بمختلف اصنافه ، وعلى كثرة سبله وطرقه عام لا خاص ، ومطلق لا مقيد في الملبوس والمأكول والمشروب والمدّخر والمقتنى ، بل في الأولاد إن كانت من الرزق ، والصحة أعظم هبة ومنحة يهبها الله تعالى لعباده فهي من الرزق الحسن العظيم ولا نريد تحديد اللفظ وتصنيفه ، أو توسيعه وتحميله ما لا يتسع إليه ، ولكن جميع هذا الرزق على فضفاضيته في حرز متكامل ، ونظام دقيق يشمل هذه الكائنات المتعددة بحسب احتياجاتها المتكاثرة ، وشؤونها المتنوعة غير المحصورة إلى كل هذه الخلائق يصل هذا الرزق وهو مكفول لكل نسمة حسب حاجتها على ما توجبه الحكمة العليا وتقتضيه مصلحة العباد في تفاوت أو تقدير ، وسعة إملاء من أجل تنظيم مسيرة العالم في استدرار المعايش وتحقيق معنى الاستخلاف على الأرض .
   والمستقر بالنسبة لهذا الكائنات قد يراد به موضع القرار أو حيث تأوي إليه من الأرض أو مايستقر عليه عملها واللفظ عام ولا مانع من إرادة هذه المعاني كافة ، بل ومفاهيمها عامة ، والمستودع بالنسبة للكائنات ذاتها ، قد يراد به الموضع الذي أودعها الله فيه وهو أصلاب الآباء وأرحام الأمهات أو هو مستودعها الأخير حين تموت ، فتموت لتبعث أو ما يؤول أليه مصيرها نتيجة عملها ، واللفظ عام ، ولا مانع من استيعابه هذه المعاني (1) .

--------------------
(1) ظ : في كلمتي : مستقر ومستودع ، الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 144 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 36 ـ
   وكل لفظ يدل على العموم بل هو من أدوات العموم ليتساوى المعنى العام مع اللفظ العام ، والكاتب جامع مانع في إحصائية استقصائية لأعمال الخلائق وتصريف شؤونها ، وهو اللوح المحفوظ الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، إن آية واحدة من كتاب الله ترتفع بنا إلى المستوى الدلالي المتطور في جملة ألفاظها ، فكيف بسورة منه يا ترى وأين موقعنا من آياته وسوره كافة .

حـ ـ وما أراد به الإيحاء الخاص الكامن وراء دلالة اللفظ فإنه يختار بذاته لتلك الدلالة بذلك الإيحاء ولو دققت النظر في استعمال لفظ « زرتم » في سورة التكاثر ( حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * ) (1) لتبين لنا أن القرآن لم يستعمل الزيارة إلا في هذه الأية وإنه استعمل مادتها في آيات أخر ، وهذا الاستعمال يوحي بدلالة حسبة قد لا ينبئ عنها ظاهر اللفظ ، ومركزي المعنى بقدر ما يصوره إيحائي التعبير الدقيق ، ويبدو أن أعرابياً مرهف الحس قد التفت إلى هذا الملحظ الشاخص فقال حينما سمع الآية على فطرته الصحراوية ، وبوحي من بداوته الصافية قال : « بعث القوم للقيامة ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم » (2) ، لقد وضع هذا الإعرابي يده على حسّ بلاغي عميق ، أدرك فلسفة تخير هذا اللفظ دون سواه ، بعيداً عن الفهم التقليدي والوعي القاصر في ترددات الناس بصورة الزيارة وكيفيتها ومؤداها لأنه في استعمال الزيارة عدة احتمالات فقد يأتي بمعنى الموت وقد يعبر عن الموت بالزيارة ، وقد يراد غير هذا وذاك ، في إيحاء باهر جديد يضع القرآن له أصلاً مبتكراً في عالمي النقد الأدبي والبيان العربي .

--------------------
(1) سورة التكاثر : 2 .
(2) أبو حيان ، البحر المحيط : 8 / 507 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 37 ـ
   تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن في هذا المقام : « وفي التعبير عن الموت بالزيارة ملحظ بياني بالغ القوة فاستعمال الزيارة بهذا المعنى صريح الإيحاء بأن الإقامة في القبر ليست إقامة دائمة ، وإنما نحن فيها زائرون ، وسوف تنتهي الزيارة حتماً إلى بعث وحساب وجزاء ، وهذا الإيحاء ينفرد به لفظ « زرتم » دون غيره ، فلا يمكن أن يؤديه لفظ آخر كأن قال : « قبرتم أو سكنتم المقابر ، أو انتهيتم إليها ، أو أقمتم بها ألى غير ذلك من ألفاظ تشترك كلها في الدلالة على ضجعة القبر ، ولكن يعوزها سر التعبير الدال على أنها زيارة ، أي إقامة موقتة ، يعقبها بعث ونشور » (1) .

الظاهرة الثانية :
   إن هذا الاختيار للألفاظ ذاتها ، بل الألفاظ منضمة إلى المعاني ، بحيث لا يتحقق المعنى المراد إلا بهذا اللفظ دون سواه ، بغض النظر عن الاعتبارات البديعة الأخرى فلا الألفاظ ذات أولوية على حساب المعاني ولا المعاني ذات أولوية على حساب الألفاظ .
   القرآن الكريم فضلاً عن كونه نصاً إعجازياً لا طاقة لنا على إدراك خصائصه الفنية على الوجه الأكمل ، فإنه نص أدبي باهر تتوافر فيه سمات أرقى نص عربي وصل إلينا دون ريب ، ومن هنا فإننا نختلف مع جملة من العلماء الذين يرون عناية القرآن بالألفاظ ناجمة عن العناية بأصناف البديع ، وفنون المحسنات اللفظية المتوافرة في القرآن ، ومع توافر هذه الفنون في القرآن فإنها غير مقصودة لذاتها ، وإنما جاءت بتناسقها ضرورة بيانية يقتضيها جمال القول ، وهذه الضرورة نفسها لم تكن متكلفة ولا ذات نزعة مفروضة كما هي الحال في الأسجاع المتناثره هنا وهناك في النثر العربي القديم ، فإنها أريدت في النصوص الأدبية هكذا ، سواء أحققت الغرض المعنوي أم لم تحققه إطلاقاً ، لأن المهمة في مثل هذه اللوحات مهمة لفظية فحسب حتى أنها لتثقل النص بمحسنات يزداد معها النص انصرافاً عن الديباجة والذائقة الفنية وتزداد معه النفس تبعاً لهذا الانصراف عزوفاً أو نفوراً .

--------------------
(1) بنت الشاطئ التفسير البياني للقرآن : 1 / 206 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 38 ـ
   أما بالنسبة للقرآن العظيم فإن هذه الظاهرة مدفوعة أصلاً إذا ليس في القرآن مهمة لفظية على وجه ، ومهمة معنوية على وجه آخر بل هما مقترنان معاً في أداء المراد من كلامه تعالى دون النظر إلى جزء على حساب جزء غيره ، فالتصور فيه دفعي جملي مرة واحدة دون تردد أو إمهال ، وحسبك ما تشاهده في جميع أصناف المحسنات البديعية الواردة في القرآن ، وفي طليعتها السجع وانتظام الفواصل وتوافقها دليلاً على صحة هذا الرأي ، وطبيعي أن نهاية الفقرات والسجع في النثر العربي ، تقابله الفواصل في القرآن الكريم وهي تسمية اختيارها جهابذة الفن ، وعلماء الصناعة تكريماً للقرآن عن مقايسته بسواه .
   إذن هذه الفواصل على تقاطرها وتواردها في النصوص القرآنية وقد يرتفع بعضها إلى سور متكاملة لا سيّما القصار كالإخلاص ، والقدر ، والناس ، والجحد ، والعصر ، والكوثر . . . الخ .
   وهناك سور متوسطة الطول والقصر وقد تناوبها السجع من أولها إلى آخرها كما هي الحال ـ على سبيل الأنموذج في سورة الأعلى .
  إن هذه السورة ولنتبرك بذكرها كاملةً :
بسم الله الرحمن الرحيم
( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى * سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى * ) » .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 39 ـ
   مما وقف عنده العرب موقف المتحير المتعجب بوقت واحد فهي على وتيرة واحدة في فاصلة متساوية تختتم بالألف ، ومن أولها إلى نهايتها ، ولو شئت أن تغير أية كلمة من هذه الفواصل ، وتضع ما يلائمها بدلها في سبيل تغيير صيغة الفاصلة لما استطعت أن تحقق الدلالة اللفظية التي حققها القرآن الكريم ، وما يقال في جميع السور والآيات الأخرى ، وبالنسبة للصنوف البديعة كافة .
   وهنا ـ ونحن في هذا السياق ـ أود أن أشير إلى صيغة تنسجم مع هذا العرف الذي نتحدث عنه بإيجاز ، هذه الصّيغة هي كلمة » المقابر « في قوله تعالى : ( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * ) (1) ( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ) (2) ، فإذا جاز له الانتقال بها جاز له الانتقال فيما قبلها مباشرة كما هو ظاهر ، بل إن هذا اللفظ « المقابر » يفرض نفسه فرضاً قاطعاً ، وذلك أن هذا الأنسان المتناسي الطاغي المتكاثر بأمواله ولذاته ، وشهواته ، ومدخراته ، ونسائه ، وأولاده ، ودوره ، وقصوره وخدمه وحشمه ، وإداراته وشؤونه ، وهذا كله تكاثر قد يصحبه التفاخر ، والتنابز ، والتنافر ، إن هذا مما يناسبه « المقابر » وهي جمع مقبرة ، والمقبرة الواحدة لا سيّما المترامية الأطراف مرعبة هائلة ، فإذا ضممنا مقبرة أخرى ومقبرة مثلها ازددنا إيحاشاً ورعباً وفزعاً ، فإذا أصبحت مقابر عديدة ، تضاعف الرعب والرهب ، إذن هذا التكاثر الشهواني في كل شيء ، يناسبه ويوافقه الجمع المليوني للقبور ، لتصبح مقابر لا قبوراً ولو قيل في غير القرآن بمساواة القبور للمقابر في الدلالة لما سد هذا الشاغر الدلالي شيء آخر من الألفاظ .
   وتعقب الدكتورة بنت الشاطئ على هذا الإدراك فتقول : « وقد تجد الصيغة البلاغية في استعمال المقابر هنا مجرد ملائمة صوتية للتكاثر ، وقد يحس أهل هذه الصنعة ونحن معهم فيها ، نسق الأيقاع ، وانسجام النغم لكن أهذا كل ما في استعمال للفظ « المقابر » في آية التكاثر ؟ .

--------------------
(1) سورة التكاثر : 1 ـ 2 .
(2) سورة التكاثر : 3 ـ 4 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 40 ـ
   الذي أراه أن وراء هذا الملحظ البلاغي اللفظي ملحظاً بيانياً يتصل بالمعنى : فالمقابر جمع مقبرة ، وهي مجتمع القبور . . . واستعمالها هنا ملائم معنوياً لهذا التكاثر ، دال على مصير ما يتكالب عليه المتكاثرون من متاع دنيوي فإن . . .هناك حيث مجتمع القبور ومحتشد الرمم ومساكن الموتى على اختلاف أعمارهم ، وطبقاتهم ، ودرجاتهم ، وأزمنتهم ، وهذه الدلالة من السعة والعموم والشمول لا يمكن أن يقوم لفظ « القبور » بما هي جمع لقبر ، فبقدر ما بين قبر ومقبرة من تفاوت يتجلى إيثار البيان القرآني « المقابر » على « القبور » حين يتحدث عن غاية ما يتكاثر به المتكاثرون ، وحين بلغت إلى مصيره هذه الحشود من ناس يلهيهم تكاثرهم عن الاعتبار بتلكم المقابر التي هي مجتمع الموتى ومساكن الراحلين الفانين » (1) .
   هذا العرض يكشف أن دلالة اللفظ لا تتحكم بها الفاصلة كما تحكمت بها المعاني الإضافية ، واقتضاها البعد البياني في استيعاب المراد من وجوهه المختلفة ، وجوانبه كافة ، وذلك من دلائل إعجاز القرآن ، في جمعه بين الصيغة الجمالية للشكل ، والدلالة الإيحائية في المعنى .

الظاهرة الثالثة :
   إن اختيار هذه الألفاظ إنما اتّجه بالخطاب إلى سكان الأرض الذين يهمهم أمرها ليتعرفوا على ما فيها عقلياً ، ويتطلعوا إلى كشف أسرارها علمياً ، بحسب الذائقة الفطرية الخالصة التي تبدو بأدنى تأمل وتلبث وترصد ، وهنا نضع أيدينا على جملة من التعابير القرآنية بألفاظ لها دلالتها الهامشية إن لم نقل المركزية في كثير من الأبعاد النقدية والبلاغية زائداً العلمية : أ ـ ففي قوله تعالى : ( أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا . . . ) (2) .

--------------------
(1) بنت الشاطئ ، التفسير البياني : 1 / 207 وما بعدها .
(2) سورة الأنبياء : 44 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 41 ـ
   يتجلى موقع « أطراف » « ننقصها » في التعبير . . . فالأطراف توحي بنظرة شمولية لشكل الأرض ، و « ننقصها » توحي بفكرة آلية عن طبيعة انتقاص الأطراف وهاتان حقيقتان علميتان بنظرية دحو القطبين وحركتهما يوضحهما قوله تعالى : ( لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * ) (1) .

ب ـ وفي قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * ) (2) .
   « ففي هذه الصورة الأخاذة يتجلى سطح الصحراء العربية المنبسطة ، والخداع الوهمي للسراب ، فنحن هنا أمام عناصر مجاز عربي النوع ، فأرض الصحراء وسماؤها قد طبعا عليه انعكاسهما . . . حين نستخدم خداع السراب المغم ، لنؤكد بما تلقيه من خلال تبدد الوهم الهائل ، لدى إنسان مخدوع ، ينكشف في نهاية حياته غضب الله الشديد في موضوع السراب الكاذب . . . سراب الحياة » (3) ، فلفظ « سراب » استقطب مركزياً دلالته من خلال البيئة العربية المشاهدة المحسوسة ، وكما يتلاشى هذا السراب فجأة ، وينطفي تلألؤه بغتة ، فكذلك ما أمله هؤلاء الكافرون بأعمالهم الخادعة ، متماثلة معه في خداع البصر وانطماس الأثر ، فلو عطفنا دلالة « الظمآن » الإيحائية ، لوجدنا الظمآن في تطلبه للماء ، ووصوله إلى السراب يقضي حسرة أشد ، وفاقة أعظم ، وحاجة متواصلة ، ولكنه يصطدم بالحقيقة الكبرى وهي الله تعالى ، فيوفّيه حسابه ، دون معادلات معروفة ، فلا المراد حقق ، ولا الحياة استبقى ولا الثواب استقصى ، وإنما هي حسرات في حسرات .

--------------------
(1) سورة يس : 40 .
(2) سورة النور : 39 .
(3) مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 355 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 42 ـ
حـ ـ ولو تتبعنا مآل هؤلاء الكافرين في خيبة أمالهم وخسران أعمالهم ، لو جدنا الصورة المتقابلة مع تلك الصورة بقوله تعالى : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ * ) (1) ، ليتضح في التصوير القرآني عظم الدلالة من خلال هيأتين متقابلتين ونموذجين مختلفين ، فبعد أن أوضحت الصورة الفنية الأولى الشعاع الكاذب في السراب والالتماع الخلب في البيداء ، عقبت ذلك بنقيض الشعاع والالتماع وبعد تصوير الخيبة من الظفر بالسناء ، عقبته بالظلمات المتراكمة بعظها فوق بعض والفوقيات المتراكبة طبقاً عن طبق فهي ظلمات في بحر لا قعر له ، عميق غزير المياه ، تحوطه الأمواج المتدافعة ، والسحب الثقال ، والظلمات المتعاقبة في ثلاثة مظاهر من ظلام الليل ، وظلام الغمام ، وظلام البحر حتى ليخطؤه تمييز يده ، فلا يرى ذلك إلا بعد عسر وحرج ، أو لا يرى ذلك أصلاً ، وأنى له الرؤية ، وقد انغمس في ظلمات الكفر وارتطم بمتاهات الضلال ، فانعدمت الرؤية وانطمست البصيرة ، فهو في شبهات لا نجاة معها ، ومن لم يقدر له الخلاص من الله فلا خلاص له » (2) .
   يقول الأستاذ مالك بن نبي عن هذه الآية : « فهذا المجاز يترجم على عكس سابقه عن صورة لا علاقة لها بالوسط الجغرافي للقرآن ، بل لا علاقة لها بالمستوى العقلي أو المعارف البحرية في العصر الجاهلي وإنما هي في مجموعها منتزعة من بعض البلدان الشمالية التي يلفها الضباب ، ولا يمكن للمرء أن يتصورها إلا في النواحي كثيفة الضباب في الدنيا الجديدة ، فلو افترضنا أن النبي رأى في شبابه منظر البحر فلن يعدو الأمر شواطئ البحر الأحمر أو الأبيض ومع تسليمنا بهذا الفرض فلسنا ندري كيف كان يمكن أن يرى الصورة المظلمة التي صورتها الآية المذكورة ؟ وفي الآية فضلاً عن الوصف الخارجي الذي يعرض المجاز المذكور سطر خاص بل سطران :

--------------------
(1) سورة النور : 40 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 281 ـ 282 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 43 ـ
   أولهما : الإشارة الشفافة ألى تراكب الأمواج ، والثاني : هو الإشارة إلى الظلمات المتكاتفة في أعماق البحار ، وهاتان العبارتان تستلزمان معرفة علمية بالظواهر الخاصة بقاع البحر ، وهي معرفة لم تعرف للبشرية إلا بعد معرفة جغرافية المحيطات ، ودراسة البصريات الطبيعية ، وغني عن البيان أن نقول : إن العصر القرآني كان يجهل كلية تراكب الأمواج ، وظاهرة امتصاص الضوء واختفائه في عمق معين في الماء ، وعلى ذلك فما كان لنا أن ننسب هذا المجاز إلى عبقرية صنعتها الصحراء ولا إلى ذات إنسانية صغتها بيئة قاريّة » (1) .
   هذه الظواهر الثلاث في دلالة الألفاظ ، توصلنا إلى المنهج الدلالي الأم في استكناه أصول الدلالة وهذا المنهج الأصل هو القرآن الكريم بحق ، ومن هذا المنطلق فقد وجدنا الخطابي ( ت : 388هـ ) بالذات عالماً ودلالياً فيما أورده من افتراضات ، وما أثبته من تطبيقات بالنسبة لجملة من ألفاظ القرآن الكريم بتقرير أنها لم تقع ـ ما زعموا توهماً ـ في أحسن وجوه البيان وأفصحها ، لمخالفتها لوضعي الجودة والموقع المناسب عند أصحاب اللغة ، وذلك كدعوى افتراضية ، يتعقبها بالرد والكشف والدفاع .

   والألفاظ هي كما يلي نذكرها ونعقبها في آياتها في موارد اختيارها من قبل الخطابي نفسه ليرد عليها فيما بعد :
1 ـ فأكله ، من قوله تعالى : ( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) يوسف / 17 .
2 ـ كيل ، من قوله تعالى : ( ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) يوسف / 65 .
3 ـ امشوا ، من قوله تعالى : ( وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا ) ، ص / 6 .
4 ـ هلك ، من قوله تعالى : ( هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * ) ، الحاقة / 29 .
5 ـ لحب ، من قوله تعالى : ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * ) ، العاديات / 8 .
6 ـ فاعلون ، من قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * ) ، المؤمنون / 4 .


--------------------
(1) مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 356 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 44 ـ
7 ـ سيجعل ، من قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا * ) مريم / 96 . 8ـ ردف ، من قوله تعالى : ( قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ * ) النمل / 72 .
أ ـ ( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) الحج / 25 .
ب ـ ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ . . . ) الأحقاف / 33 .
   هذه النماذج التي أبانها الخطابي تعقب عادة بالحجج المدعاة أولاً فيوردها ، ولكنه يفندها واحدة كما سنرى (1) ، فقد ذهبوا في فعل السباع خصوصاً إلى الافتراس ، وأما الأكل فهو عام لا يختص به نوع من الحيوان .
   وقالوا ما اليسير والعسير من الكيل والاكتيال وما وجه اختصاصه به ؟ وقد زعموا بأن المشي في هذا ليس بأبلغ الكلام ، ولو قيل بدل ذلك أن امضوا وانطلقوا لما كان أبلغ وأحسن وأدعوا إنما يستعمل لفظ الهلاك ، في الأعيان والأشخاص كقوله : هلك زيد ، فأما الأمور التي هي معان وليست بأعيان ولا أشخاص فلا يكادون يستعملونه فيها . . .
   وأنت لا تسمع فصيحاً يقول : أنا لحب زيد شديد وإنما وجه الكلام وصحته أن يقال : أنا شديد الحب لزيد وللمال ، ولا يقول أحد من الناس فعل زيد الزكاة ، وإنما يقال زكّى الرجل ماله ومن الذي يقول : جعلت لفلان وداً بمعنى أحببته ؟ وإنما يقول : وددته وأحببته .

--------------------
(1) الخطابي ، بيان إعجاز القرأن : 38 وما بعدها .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 45 ـ
   وفي ردف إنما هو يردفه من غير إدغام اللام ، والباء لا موضع لها في الحاد أو بظلم ، ولو قيل : قادر على أن يحيي الموتى كان كلاماً صحيحاً لا يشكل معناه ولا يشتبه (1) ، وقد حررت للخطابي مقارنة سليمة في الإجابة عن هذه الافتراضات رداً ومناقشة وبيان حال ، وسأحاول أن ألخصها بشكل لا تفقد فيه جوهرها ، وأوردها بصورة تحكي عن هدف صاحبها ولعل في ذكرها تخليداً لذكراه ، ولكن فيها أيضاً وأولاً ، بياناً لطاقات بيانية مهمة واستعمالات بلاغية رائدة ، انفرد بها القرآن دون سائر النصوص الإلهية والبشرية ، مما يجعل الخطابي ـ رحمه الله ـ من أوائل أولئك الأفذاذ الذين يسروا الطريق أمام فهم القرآن بلاغياً ونقدياً على الوجه التالي :
1 ـ فأما قوله تعالى : ( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) يوسف / 17 ، فإن الافتراس معناه في فعل السبع القتل فحسب ، واصل الفرس دق العنق ، والقوم إنما أدعوا على الذئب أنه أكله أكلاً ، وأتى على جميع أجزائه وأعضائه فلم يترك مفصلاً ولا عظماً ، وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم بأثر باق منه يشهد بصحة ما ذكروه ، فادعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة ، والفرس لا يعطي تمام هذا المعنى ، فلم يصلح على هذا أن يعبر عنه إلا بالأكل على أن لفظ الأكل شائع الاستعمال في الذئب وغيره من السباع ، وحكى ابن السكيت في ألفاظ العرب قولهم : أكل الذئب الشاة فما ترك منها تامورا .
2 ـ وأما قوله تعالى : ( وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) يوسف / 65 .
   فإن معنى الكيل المقرون بذكر البعير والمكيل ، والمصادر توضع موضع الأسماء كقولهم : هذا درهم ضرب الأمير ، هذا ثوب نسيج اليمن ، أي مضروب الأمير ، ونسيج اليمن والمعنى في الأية : أنا نزداد من الميرة المكيلة إذا صحبنا أخونا حمل بعير ، فإنه كان لكل رأس منهم حمل واحد لا يزيد على ذلك لعزة الطعام ، فكان ذلك في السنين السبع المقحطة ، وكانوا لا يجدون الطعام إلا عنده ولا يشير لهم صراحة إلا من قبله ، فقيل على هذا المعنى ( ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) يوسف / 65 .

--------------------
(1) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : 38 ، وما بعدها بتصرف واختصار .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 46 ـ
   أي متيسر لنا إذا تسببنا إلى ذلك باستصحاب أخينا ، واليسير شائع الاستعمال فيما يسهل من الأمور كالعسير مما يتعذر منها ولذلك قيل : يسر الرجل ، وقد قيل : إن معنى الكيل هنا السعر ، أخبرني أبو عمرو عن ابن العباس قال : الكيل بمعنى السعر ، فكيف الكيل عندكم ؟ بمعنى كيف السعر ؟

3 ـ وأما قوله سبحانه : ( أنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ) ص / 6 .
   وقول من زعم أنه لو قيل بدله : امضوا وانطلقوا كان أبلغ فليس الأمر على ما زعمه ، بل امشوا في هذا المحل أولى وأشبه بالمعنى وذلك لأنه إنما قصد به الاستمرار على العادة الجارية ولزوم السجية المعهودة في غير انزعاج منهم ، ولا انتقال عن الأمر الأول ، وذلك أشبه بالثبات والصبر المأمور به في قوله : ( وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ) ص / 6 .
   والمعنى كأنهم قالوا : ( امشوا على هينتكم وإلى مهوى أموركم ، ولا تعرجوا على قوله ولا تبالوا به . . . وقيل بل المشي ها هنا معناه التوفر في العدد والاجتماع للنصرة دون المشي الذي هو نقل الأقدام .

4 ـ وأما قوله سبحانه : ( هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * ) الحاقة / 29 ، وزعمهم أن الهلاك لا يستعمل إلا في تلف الأعيان فإنهم ما زادوا أن عابوا أفصح الكلام وأبلغه ، وقد تكون الاستعارة في بعض المواضع أبلغ من الحقيقة كقوله عزّ وجلّ : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ) يس / 37 .
   والسلخ ها هنا مستعار هو ابلغ منه لو قال نخرج منه النهار وإن كان هو الحقيقة ، وكذلك قوله : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) الحجر / 94 ، وهو أبلغ قوله فأعمل بما تؤمر وإن كان هو الحقيقة ، والصدع مستعار ، وكذلك قوله : ( هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * ) الحاقة / 29 ، وذلك أن الذهاب قد يكون على مراصده العودة ، وليس مع الهلاك بقيا ولا رجعى ، وقد قيل إن معنى السلطان ها هنا الحجة والبرهان .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 47 ـ
5 ـ وأما قوله سبحانه : ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * ) العاديات / 8 ، وأن الشديد معناه ها هنا البخيل ، واللام في قوله ( لحب الخير ) بمعنى لأجل حب الخير وهو المال لبخيل .

6 ـ وأما قوله عزّ و جلّ : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * ) المؤمنون / 4 ، وقولهم إن المستعمل في الزكاة المعروف من الألفاظ ، كالأداء ، والإيتاء ، والإعطاء . . . فالجواب إن هذه العبارات لا تستوي في مراد هذه الآية ، وإنما تفيد حصول الاسم فقط ، ولا تزيد على أكثر من الأخبار على أدائها فحسب ، ومعنى الكلام ومراده المبالغة في أدائها والمواظبة عليه حتى يكون ذلك صفة لازمة لهم فيصير في أداء الزكاة فعلاً لهم مضافاً إليهم يعرفون به ، فهم له فاعلون ، وهذا المعنى لا يستفاد على الكمال إلا بهذه العبارة ، فهي إذن أولى العبارات وأبلغها في هذا المعنى .

7 ـ وأما قوله عزّ وجلّ : ( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) مريم / 96 ، وإنكارهم قول من يقول : جعلت لفلان وداً ، بمعنى وددته فإنهم قد غلطوا في تأويل هذا الكلام ، وذهبوا عن المراد منه ، وإنما المعنى أن الله سيجعل لهم في قلوب المؤمنين ، أي يخلق لهم في صدور المؤمنين ، ويغرس لهم فيها محبة كقوله عزّ وجلّ : ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا . . . ) النحل / 72 ، أي خلق .

8 ـ وأما قوله سبحانه : ( رَدِفَ لَكُم ) النمل / 72 ، فإنهما لغتان فصيحتان : ردفته وردفت له كما نقول نصحته ، ونصحت له .

9 ـ وأما قوله : ( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) الحج / 25 ، ودخول الباء فيه فإن هذا الحرف كثيراً ما يوجد في كلام العرب الأول الذي نزل القرأن به ، وإن كان يعز ووده في كلام المتأخرين ، قال أبو عمرو بن العلاء : اللسان الذي نزل به القرآن ، وتكلمت به العرب على عهد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عربية أخرى عن كلامنا هذا .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 48 ـ
   نقول : قد قيل إن الباء زائدة ، والمعنى : ومن يرد فيه إلحاداً والباء قد تزاد في مواضع من الكلام ، ولا يتغير به المعنى ، وعليه شواهد من كلام العرب (1) .
   لقد كان الخطابي دقيقاً فيما أورده من إفاضات في هذا المجال استند فيها إلى المتبادر في العرف العربي العام واستشهد على صحة ذلك بالموروث الأدبي عند العرب شعراً ومثلاً وكلمة وقولاً مصداقاً على ما يريد ، وقلّب كل لفظ في وجوهه المحتملة فضلاً عن استنارته بآراء علماء العربية وأهل اللغة وأئمة البيان مستوفياً بذلك موقع اللفظ في دلالته على المعنى ، وصحته اختياره في استيفاء المؤشر الدلالي ، مؤكداً على العرف العربي والاستعمال البياني ، والأصالة اللغوية ، في كشف الدلالات التي ينطوي عليها اللفظ المختار في الآيات المشار إليها اللفظ ذاته دون سواه ، ومعللاً بفطرة نافذة دقة التركيب من خلال وضع الألفاظ بإمكانها المحددة لها ، بحيث لو استبدلت بالمرادف أو المساوي لفقدت مميزات لا تتوافر باللفظ البديل ، ولو جرت على سنن ما يفترض المدعون لافتقرت إلى عبارات إضافية من أجل أن يخلص إلى المعنى الذي يريده القرآن في ألفاظه المنتقاة إزاء الدلالات المقصودة بالذات .
   أما أنواع الدلالات وأقسامها في كل من البحث الدلالي والقرآن فهو معلم مستفيض ينهض بعمل فني مستقل يشمل مدارك الدلالات كافة ، وقد أرجأنا الحديث عنها إلى مبحث خاص بإذن الله تعالى .

--------------------
(1) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : 41 ـ 48 .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 49 ـ

   هذا المعجم : فيما يلي أضع بين يدي الباحثين معجماً بأبرز الدلاليين العالميين قد يكون إحصائياً في حدود معينة ، وقد حاولت فيه أن أجمع أكبر عدد ممكن منهم ممن اطلعت على آثارهم في مبحث الدلالة ، أو قرأت عنها ، فكانوا كالأتي :
أ ـ الدلاليين العرب القدامى .
ب ـ الدلاليين العرب المحدثين .
ج ـ الدلاليين الأوروبيين .

   وقد التزمت في سرد أسمائهم الطريقة المعجمية المتبعة (ألف باء ) تسهيلاً لمهمة الباحثين وبغية سرعة الاطلاع عليهم ، وكانت الطريقة الإحصائية تقوم على أسس معينة ، فبالنسبة للدلاليين العرب القدامى ، اذكر الشهرة ، والكنية والاسم ، وتاريخ الوفاة ، وأشير إلى أبرز الآثار العلمية التي انطوى في صفحاتها ذكر الدلالة أو الحديث عنها ، وبالنسبة للدلاليين العرب المحدثين ، فإني إذكر أسماءهم متكاملة مع ألقابهم العلمية ، ومواطن عملهم ، قدر الإمكان ولم ألتزم بذكر جهودهم العلمية لأنها متفرقة بين البحوث والمقالات والكتب ، مما يعني عدم الأحاطة بها متكاملة ، لأنها تشحن المعجم بقوائم طويلة من أسماء الكتب أو البحوث مما لا ضرورة معه وقد أكون مخطئاً في التقدير ، فأسهو عن ذكر من يجب ذكره ، والسهو مغتفر للباحث بالنسبة للدلاليين المحدثين نظراً لتعذر الأحاطة .

تَطوُّرُ البَحْث الدَّلاليِ ـ 50 ـ
   أما الدلاليون الأوروبيون فقد التزمت بذكر الاسم مع تاريخ الولادة والوفاة قدر الإمكان وبيان مكان الولادة أو محل العمل العلمي :


( أ )

ـ الآلوسي ، أبو الفضل ، محمود شكري الآلوسي البغدادي ( ت 1270 هـ ) ، ظ : روح المعاني في تفسر القرآن العظيم والسبع المثاني .
ـ الآمدي ، أبوقاسم ، الحسن بن بشر ( ت : 370 هـ ) ، ظ : الموازنة بين الطائيين .
ـ ابن الأثير ، أبو الفتح ، ضياء الدين ، نصر الله بن محمد ( ت : 637 هـ ) ، ظ : المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر .
ـ الأزهري ، أبو منصور ، محمد بن أحمد ( ت : 370 هـ ) ، ظ : تهذيب اللغة .
ـ ابن أبي الأصبع ، زكي الدين ، عبد العظيم بن عبد الواحد ( ت : 654 هـ ) ، ظ : بديع القرآن + تحرير التحبير .
ـ الأصمعي ، عبد الملك بن قريب ( ت : 216 هـ ) ، ظ : الأضداد .
ـ ابن الأنباري ، محمد بن القاسم بن بشار ( ت : 328 هـ ) ، ظ : إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل .
ـ الأنصاري ، مرتضى بن محمد أمين ( ت : 1281 هـ ) ، ظ : رسائل الشيخ الانصاري .

( ب )

ـ الباقلاني ، أبو بكر ، محمد بن الطيب ( ت : 403 هـ ) ، ظ : إعجاز القرآن .
ـ أبو البقاء ، أيوب بن موسى الحسيني ( ت : 1095 هـ ) ، ظ : الكليات .
ـ البهائي ، محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي : ( ت : 1031 هـ ) ، أسرار البلاغة + المخلاة .