وعيد بلفظ الأمر * (إن الله مخرج) * أي : مظهر * (ماتحذرون) * إظهاره من نفاقكم .
وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يسير منصرفه من غزوة تبوك وبين يديه أربعة نفر يسيرون ويضحكون ويقولون : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه ، هيهات هيهات ، فأخبره جبرئيل (عليه السلام) بذلك ، فقال (صلى الله عليه وآله) لعمار : إن هؤلاء يستهزئون بي وبالقرآن * (ولئن سألتهم ليقولن) * : * (كنا) * نتحدث بحديث الركب ، فاتبعهم عمار وقال لهم : مم تضحكون ؟ قالوا : كنا نتحدث بحديث الركب ، فقال عمار : صدق الله ورسوله احترقتم أحرقكم الله، فأقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعتذرون ، فنزلت الآيات
(1) .
وقيل : نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقال بعضهم لبعض : إن فطن نقول : * (إنما كنا نخوض ونلعب) *
(2) .
* (لا تعتذروا) * لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فإنها لاتنفعكم بعد ظهور أسراركم * (قد كفرتم) * قد أظهرتم كفركم * (بعد) * إظهاركم الإيمان *
(إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ ) * بإحداثهم الإيمان بعد النفاق *
(نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ) * مصرين على النفاق ، أو : إن نعف عن طائفة منكم لم يؤذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يستهزئوا به نعذب طائفة بأنهم كانوا مؤذين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مستهزئين ، وقرئ : ( إن يعف عن طائفة يعذب طائفة ) على البناء للفاعل
(3) وهو الله عزوجل .
*
(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
-------------------
(1) انظر أسباب النزول للواحدي : ص 207 .
(2) رواه العياشي في تفسيره : ج 2 ص 95 ح 84 عن الباقر (عليه السلام) ، وفي البحر المحيط : ج 5 ص 66 عن ابن كيسان وفيه : ( جماعة )بدل ( اثني عشر رجلا ) .
(3) قرأه عاصم الجحدري ، راجع إعراب القرآن للنحاس : ج 2 ص 226 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 78 _
* * (بعضهم من) * جملة * (بعض) * وبعضهم مضاف إلى بعض وهو تكذيب لهم فيما حلفوا : * (إنهم لمنكم) * (1) ، وتحقيق لقوله : * (وماهم منكم) * (2) ، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله : * (يأمرون بالمنكر) * وهو الكفر والمعاصي * (وينهون عن المعروف) * من : الإيمان والطاعات * (ويقبضون أيديهم) * شحا بالخيرات والصدقات والإنفاق في سبيل الله * (نسوا الله) * أغفلوا ذكره * (فنسيهم) * فتركهم عن رحمته وفضله * (إن المنفقين هم الفسقون) * هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير .
* (خلدين فيها) * أي : مقدرا لهم الخلود فيها * (هي حسبهم) * دلالة على عظم عذابها ، وأنه لا شئ أبلغ منه ، نعوذ بالله منها * (ولعنهم الله) * أبعدهم من خيره وأهانهم * (ولهم عذاب مقيم) * سوى الصلي بالنار ، دائم كعذاب النار ، أو : * (عذاب مقيم) * معهم في العاجل لا ينفكون منه ، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق وما يخافونه أبدا من الفضيحة .
ومحل الكاف رفع تقديره : أنتم مثل * (الذين من قبلكم) * ، أو نصب
تقديره :
-------------------
(1 و 2) الآية 56 المتقدمة . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 79 _
فعلتم مثل فعل * (الذين من قبلكم) * وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا ، وقوله : * (كانوا أشد منكم) * تفسير لتشبيههم بهم ، وتمثيل لفعلهم بفعلهم ، والخلاق : النصيب ، وهو ما خلق للإنسان أي : قدر ، كما قيل : له قسم ونصيب ، لانه قسم له ونصب أي : أثبت * (وخضتم) * أي : دخلتم في الباطل واللهو * (كالذي خاضوا) * كالفوج الذي خاضوا ، أو كالخوض الذي خاضوا ، وعن ابن عباس : هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم ، والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه (1) .
* (وأصحب مدين) * قوم شعيب * (والمؤتفكت) * مدائن قوم لوط أهلكها الله بالخسف وقلبها عليهم ، من الإفك وهو القلب والصرف * (فما كان الله ليظلمهم) * فما صح منه أن يظلمهم ، لأنه حكيم لا يجوز أن يفعل القبيح ويعاقب بغير جرم * (ولكن) * ظلموا * (أنفسهم) * بالكفر فاستحقوا العقاب .
* (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) * (بعضهم أولياء
بعض) * في مقابلة قوله : * (بعضهم من بعض) * (2) أي : يلزم
-------------------
(1) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 5 ص 255 .
(2) الآية 67 المتقدمة . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 80 _
كل واحد منهم موالاة بعض ونصرته ، وهم يد واحدة على من سواهم * (سيرحمهم الله) * السين تفيد وجود الرحمة لا محالة وتؤكد الوعد ، ونحوه : * (سيجعل لهم الرحمن ودا) * (1) ، و * (سوف يؤتيهم أجورهم) * (2) ، * (عزيز) * غالب على كل شئ قادر عليه ، فهو يقدر على الثواب والعقاب * (حكيم) * واضع كل شئ موضعه .
* (ومسكن طيبة) * يطيب العيش فيها ، بناها الله من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، و * (عدن) * علم بدليل قوله : * (جنت عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب) * (3) ، ويدل عليه ما رواه أبو الدرداء (4) عن النبي (صلى الله عليه وآله) : ( عدن : دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النبيون والصديقون والشهداء ، يقول الله عزوجل : طوبى لمن دخلك ) (5) ، وقيل : هي مدينة في الجنة (6) ، * (ورضوا ن من الله) * أي : وشئ من رضوان الله * (أكبر) * من ذلك كله ، لأن رضاه سبب كل سعادة وموجب كل فوز ، وبه ينال تعظيمه وكرامته ، والكرامة أكبر أصناف الثواب * (ذلك) * إشارة إلى ما وعد الله أو إلى الرضوان ، أي : * (هو الفوز العظيم) * وحده دون ما يعده الناس فوزا . *
(جهد الكفار) * بالسيف * (والمنفقين) * بالحجة .
الصادق (عليه السلام) : ( جاهد الكفار بالمنافقين ) وقال : ( هل سمعتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قاتل منافقا ؟ إنما كان يتألفهم ) (7) .
-------------------
(1) مريم : 96 .
(2) النساء : 152 .
(3) مريم : 61 .
(4) هو عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي ، وكان آخر أهل داره إسلاما ، شهد احد ، وكان عالم أهل الشام ومقرئ أهل دمشق وقاضيهم ، مات فيها سنة اثنتين وثلاثين ، انظر المعارف لابن قتيبة : ص 268 .
(5) أخرجه الطبري باسناده في تفسيره : ج 6 ص 416 ح 16958 .
(6) قاله الضحاك كما في تفسير الطبري : ج 6 ص 418 ح 16972 .
(7) التبيان : ج 5 ص 260 وج 10 ص 52 وفيه : هي قراءة أهل البيت (عليهم السلام) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 81 _