ورووا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قيل له : إن الله تعالى قال : * (واليتمى والمسكين) * فقال : ( أيتامنا ومساكيننا )
(1) .
وقوله : *
(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ ) * تعلق بمحذوف يدل عليه * (واعلموا) * ، والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة * (وما أنزلنا) * معطوف على * (بالله) * أي : إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل *
(عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ) * يعني : يوم بدر
(2) ، و * (الجمعان) * : الفريقان من المسلمين والكافرين ، والمراد : ما أنزل من الآيات والملائكة والفتح يومئذ .
* (إذ) * بدل من * (يوم الفرقان) * ، و ( العدوة ) : شط الوادي ، بالكسر والضم ، و * (الدنيا) * و * (القصوى) * تأنيث الأدنى والأقصى ، والقياس أن تقلب الواو ياء كالعليا إلا أن القصوى جاءت على الأصل شاذا كالقود ، والعدوة الدنيا مما يلي المدينة ، والعدوة القصوى مما يلي مكة * (والركب أسفل منكم) * يعني أبا سفيان والعير * (أسفل) * نصب على الظرف ، معناه : مكانا أسفل من مكانكم يقودون العير بالساحل ، ومحله رفع لأنه خبر المبتدأ .
والفائدة في ذكر هذه المراكز الإخبار عن الحال الدالة على قوة المشركين وضعف المسلمين ، وأن غلبتهم على مثل هذه الحال أمر إلهي لم يتيسر إلا بحوله وقوته ، وذلك أن العدوة القصوى كان فيها الماء ، ولاماء بالعدوة الدنيا وهي خبار
(3) تسوخ فيها الأرجل ، وكانت العير وراء ظهورهم مع كثرة عددهم ، وكانت
-------------------
(1) عوالي اللآلئ لابن جمهور : ج 2 ص 75 ـ 76 ح 201 .
(2) في نسخة زيادة : في يوم الجمعة السابع عشر أو التاسع عشر من شهر رمضان سنة
الثاني من الهجرة ، مروي عن الصادق (عليه السلام) .
(3) الخبار : الأرض الرخوة ، (الصحاح : مادة خبر) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
ـ 27 ـ
الحماية دونها تضاعف حميتهم وتحملهم على أن يبرحوا مواطنهم ويبذلوا نهاية نجدتهم ، وفيه تصوير مادبره عز اسمه من أمر وقعة بدر * (ليقضى الله أمرا كان مفعولا) * من إعزاز دينه وإعلاء كلمته * (ولو تواعدتم) * أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال لخالف بعضكم بعضا ، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد ،
وثبطهم ما في قلوبهم من الرعب ، فلم يتفق لكم من اللقاء ما وفقه الله * (ليقضى) *
متعلق بمحذوف ، أي : ليقضي أمرا كان واجبا أن يفعل دبر ذلك ، وقوله : * (ليهلك) * بدل
منه ، واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، أي : ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة
وقيام حجة عليه ، ويصدر إسلام من أسلم عن يقين وعلم بأنه الدين الحق الذي يجب التمسك
به * (لسميع عليم) * يعلم كيف يدبر أموركم .
*
(إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) * (إذ) * نصب بإضمار ( اذكر ) ، أو هو بدل ثان من * (يوم الفرقان) * ، أو متعلق بقوله : * (لسميع عليم) * أي : يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك * (في منامك) * أي : في رؤياك ، وذلك أن الله سبحانه أراهم إياه في رؤياه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه فكان
(1) تشجيعا لهم عليهم ، وعن الحسن : * (في منامك) * في عينك لأنها مكان النوم
(2) ، والفشل : الجبن ، أي : لجبنتم وهبتم الاقدام ، ولتنازعتم في الرأي وتفرقت كلمتكم فيما تصنعون * (ولكن الله سلم) * أي : أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع
-------------------
(1) في نسخة زيادة : تثبيتا لهم و .
(2) تفسير الحسن البصري : ج 1 ص 403 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
ـ 28 ـ
* (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) * يعلم ماسيكون فيها من الجرأة والجبن .
* (وإذ يريكموهم) * أي : يبصركم إياهم ، و * (قليلا) * نصب على الحال ، وإنما قللهم في أعينهم تصديقا لرؤيا رسول الله.
وعن ابن مسعود : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا (1) .
* (فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ) * حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور ، وإنما قللهم في أعينهم ليجترئوا عليهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعد اللقاء لتفجأهم الكثرة فيهابوا وتفل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم ، وذلك قوله : * (مثليهم رأى العين) * (2) ، ويمكن أن يكونوا قد أبصروا الكثير قليلا بأن ستر الله عنهم بعض أولئك بساتر .
* (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) * أي : إذا حاربتم جماعة كافرة ، وإنما لم يصفهم لأن المؤمنين لايحاربون إلا الكفار ، واللقاء اسم للقتال غالب * (فاثبتوا) * لقتالهم ولاتفروا * (واذكروا الله كثيرا) * في مواطن القتال ، مستعينين به مستظهرين بذكره * (لعلكم تفلحون) * أي : تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة .
* (ولا تنزعوا) * أي : لا تتنازعوا فيما بينكم فتضعفوا عن قتال عدوكم ، و * (تفشلوا) * منصوب بإضمار ( أن ) ، والريح : الدولة ،
-------------------
(1) حكاه عنه الطبري في تفسيره : ج 6 ص 259 ح 16171 .
(2) آل عمران : 13 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
ـ 29 ـ
شبهت في نفوذ أمرها بالريح وهبوبها ، قالوا : هبت رياح فلان : إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، وقيل : لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله (1) .
وفي الحديث : ( نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ) (2) .
* (كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ) * هم أهل مكة خرجوا ليحموا (3) عيرهم ، فأتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة (4) : أن ارجعوا فقد سلمت عيركم ، فأبى أبو جهل وقال : حتى نقدم بدرا نشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان ، فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس : إطعامهم ، فوافوها فسقوا كأس الحمام (5) مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان .
* (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) * قيل : إن قريشا لما اجتمعت للمسير ذكرت ما بينها وبين كنانة من الحرب فكاد ذلك يثنيهم ، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني (6) وكان من أشرافهم ، ف * (قال لاغالب لكم اليوم ... وإنى) * مجيركم من بني كنانة * (فلما) * رأى الملائكة تنزل * (نكص) * ولما نكص قال له
-------------------
(1) قاله قتادة وابن زيد ، راجع تفسير الطبري : ج 6 ص 261 .
(2) صحيح البخاري : ج 2 ص 41 ، مسند أحمد : ج 1 ص 228 و 324 .
(3) في نسخة : ليجمعوا .
(4) الجحفة : موضع بين مكة والمدينة .
(5) في نسخة : المنايا ، والحمام ـ بالكسر ـ : قدر الموت ، (الصحاح : مادة حمم) .
(6) ويكنى أبا سفيان ، كان في الجاهلية قائفا ، وقد روى البخاري قصته في إدراكه
النبي (صلى الله عليه وآله) لما هاجر الى المدينة واقتفاءه أثره ، ثم دعا النبي (صلى
الله عليه وآله) عليه حتى ساخت رجلا فرسه ، ثم طلبه من النبي (صلى الله عليه وآله)
الخلاص وأن لا يدل عليه ، ففعل (صلى الله عليه وآله) ، وأسلم يوم الفتح ، مات سنة 24
ه في أول خلافة عثمان ، انظر الإصابة في تمييز الصحابة : ج 2 ص 19 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
ـ 30 ـ
الحارث (1) وكانت يده في يده : إلى أين ؟ أتخذلنا في هذه الحال ؟ ف * (قال ... إنى أرى مالا ترون) * ودفع في صدره وانطلق ، وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة ، فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم (2) .
* (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) * * (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ ) * بالمدينة * (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) * والشاكون في الإسلام * (غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ) * يعنون المسلمين ، أي : اغتروا بدينهم وأنهم ينصرون من أجله ، فخرجوا مع قلتهم إلى قتال المشركين مع كثرتهم * (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) * غالب ينصر الضعيف على القوي ، والقليل على الكثير .
* (ولو ترى) * أي : ولو عاينت وشاهدت ، لأن (لو ) يرد المضارع إلى معنى الماضي ، كما أن ( إن ) ترد الماضي إلى معنى الاستقبال ، و * (إذ) * نصب على الظرف ، وقرئ : * (يتوفي) * بالياء والتاء (3) ، و * (يضربون) * حال ، وعن مجاهد : * (أدبرهم) * : أستاههم ولكن الله كريم يكني (4) ، وقيل : يضربون ما أقبل
منه (5) وما أدبر ،
-------------------
(1) في نسخة زيادة : بن هشام .
(2) قاله ابن عباس كما في تفسير ابن كثير : ج 2 ص 303 .
(3) بالتاء قرأه ابن عامر والأعرج ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص
435 ، وإعراب القرآن للنحاس : ج 2 ص 190 .
(4) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 5 ص 137 .
(5) لعل الصحيح المناسب لسياق الكلام : منهم . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
ـ 31 ـ