* (في ما ههنآ) * أي : في الذي استقر في هذا المكان من النعيم .
  ثم فسر ذلك بقوله : * (في جنت وعيون) * والمعنى : * (أتتركون) * فيما أنتم فيه من نعيم الدنيا لا تزالون عنه .
  وخص ( النخل ) بأفرادها من جملة الجنات لفضله ، أو : لأنه أراد بالجنات غير النخل من الشجر ثم عطفها عليها ، والطلع : الكفرى (1) لأنه يطلع من النخل، والهضيم : اللطيف الضامر من قولهم : كشح هضيم ، وفي طلع إناث النخل لطف ليس ذلك في طلع فحالها ، وقيل : الهضيم : اللين النضيج (2) .
  وقرئ : ( فرهين ) (3) و * (فرهين) * ، والفاره : الكيس الحاذق ، أي : حاذقين بنحتها ، والفره : الأشر البطر .
  أي : * (أطيعون‍) * ـ ي فيما آمركم به .
  * (ولا تطيعوا) * رؤساءكم المفسدين ، ولا تمتثلوا (4) أو امرهم .
  والمسحر الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله ، أي : سحرت مرة بعد أخرى فصرت لا تدري ما تقول ، وقيل : معناه : أنت من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب مثلنا ، فلم صرت أولى بالنبوة منا ؟ ! (5) .
   والشرب : النصيب من الماء إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ، ولهم * (شرب يوم) * لا تشرب فيه الماء ، وإنما عظم اليوم لحلول العذاب العظيم فيه .
  * (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

-------------------
(1) قال ابن الأثير : كفرى بالضم وتشديد الراء وفتح الفاء وضمها مقصور : هو وعاء الطلع وقشره الأعلى ، وكذلك كافوره ، وقيل : هو الطلع حين ينشق (النهاية : مادة كفر) .
(2) قاله ابن عباس وعكرمة ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 182 .
(3) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، راجع التبيان : ج 8 ص 48 .
(4) في نسخة : ( تقبلوا ) .
(5) قاله ابن عباس ، راجع التبيان : ج 8 ص 48 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 687 _
  * أي : أتأتون من بين أولاد آدم ذكرانهم كأن الإناث قد أعوزتكم ؟ والمراد ب‍ * (ـ العلمين) * الناس ، أو : أتأتون أنتم من بين ما عداكم من العالمين الذكران ؟ بمعنى : أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة .
  والمراد بالعالمين : كل ما ينكح من الحيوان .
  في * (من أزواجكم) * تبيين لما خلق * (عادون) * معتدون في الظلم ، متجاوزون فيه الحد .
  * (لئن لم تنته) * عن نهينا ، ولم تمتنع عن تقبيح أفعالنا * (لتكونن) * من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا ، وطردناه من بلدنا .
  * (من القالين) * أبلغ من أن يقول : * (إني لعملكم) * قال ، كما يقول : فلان من العلماء ، أي : معدود في جملتهم معروف بالعلم فيهم ، ويجوز أن يكون المراد : إني من الكاملين في قلاكم ، والقلى : البغض الشديد ، كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد مما يعلمون من عقوبة عملهم .
  * (إلا عجوزا في الغبرين) * أي : مقدرا غبورها في العذاب والهلاك ، قيل : إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة (1) .
  قال قتادة :

-------------------
(1) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 8 ص 55 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 688 _
  أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم (1) ، وعن ابن زيد : لم يرض بالائتفاك (2) حتى أتبعه مطرا من حجارة (3) ، والتقدير : * (فسآء مطر المنذرين) * مطرهم فحذف ، ولم يرد بالمنذرين قوما بأعيانهم إنما هو للجنس .
  * (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) * قرئ : * (أصحب ليكة) * بالهمزة وبتخفيفه وبالجر على الإضافة ، وقرئ بالفتح (4) على أن ( أيكة ) إسم بلد ، وروي : أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف ، وكان شجرهم الدوم (5) .
  ولم يقل : أخوهم شعيب كما في المواضع

-------------------
(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 331 .
(2) في نسخة ( بالانقلاب ) ، قال الجوهري : ائتفكت البلدة بأهلها أي : انقلبت ، والمؤتفكات : المدن التي قلبها الله تعالى على قوم لوط (عليه السلام) ، راجع الصحاح : مادة ( أفك ) .
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 331 .
(4) قرأه الحرميان وابن عامر ، راجع التبيان : ج 8 ص 57 .
(5) رواه القرطبي في تفسيره : ج 13 ص 135 عن قتادة . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 689 _
  المتقدمة ، لأن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة ، وفي الحديث : ( أن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة ) (1) .
  بخسه حقه بمعنى : نقصه أياه * (ولا تبخسوا) * أي : لا تنقصوا الناس حقوقهم ، وهو عام في أن لا يهضم حق لأحد ، ولا يغصب ملك ولا يتصرف فيه إلا بإذن مالكه ، وعثا في الأرض يعثو ، وعثا يعثي ، وعاث يعيث بمعنى ، وذلك نحو : قطع الطريق وإهلاك الزرع .
  * (والجبلة) * الخليقة ، أي : ذوي الجبلة ، وهو كقولك : والخلق الأولين .
  * (وما أنت إلا بشر مثلنا) * دخلت الواو هنا لمعنى ، وهو أنهم قصدوا أن البشرية والتسحير كليهما مناف للرسالة عندهم * (إن) * المخففة من الثقيلة ، وهي ولامها تفرقتا على فعل ( الظن ) وثاني مفعوليه ، لأنهما في الأصل يتفرقان على المبتدأ والخبر ، فلما كان باب ( كان ) وباب ( ظننت ) من جنس باب المبتدأ والخبر ، قالوا أيضا في البابين : إن كان زيد لقائما * (وإن نظنك لمن الكذبين) * .
  وقرئ : * (كسفا) * بسكون السين (2) وفتحها ، وكلاهما جمع كسفة ، أي : إن كنت صادقا فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء .
  * (قال ربى أعلم بما تعملون) * أي : بأعمالكم وبما تستوجبون عليها من العقاب ، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل ، وإن أراد عقابا آخر فعل ، فأخذهم الله بمثل ما اقترحوه من عذاب * (الظلة) * ، يروى : أنه حبس عنهم الريح سبعا ، وسلط عليهم الومد (3) فأخذ بأنفاسهم ، فخرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا

-------------------
(1) رواه الرازي في تفسيره : ج 24 ص 163 .
(2) وهي قراءة الجمهور إلا حفصافانه قرأبفتح السين ، راجع التذكرة في القراءات : ج 2 ص 581 .
(3) الومد : شدة حر الليل ، (الصحاح : مادة ومد) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 690 _
  ونسيما ، فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا (1) .
  * (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) * * (وإنه) * الضمير للقرآن ، والمراد بالتنزيل : المنزل .
  وقرئ : * (نزل به الروح الأمين) * ، و ( نزل به الروح ) (2) ، والباء في كلتا القراءتين للتعدية ، أي : جعل الله الروح الأمين نازلا به .
  * (على قلبك) * أي : حفظك وفهمك إياه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى ، كقوله : * (سنقرئك فلا تنسى) * (3) .
  * (بلسان) * الباء يتعلق ب‍ * (المنذرين) * أي : لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة : هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين ، أو يتعلق ب‍ * (ـ نزل) *

-------------------
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور : ج 6 ص 320 عن ابن عباس .
(2) قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 473 .
(3) الأعلى : 6 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 691 _
  فيكون المعنى : نزله باللسان العربي لتنذر به ، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي وقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه ؟ فيتعذر الإنذار .
  وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك لأنك تفهمه وتفهمه قومك ، ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك ، فكنت تسمع أجراس حروف ولا تفهم معانيها ولا تعيها .
  * (وإنه) * يعني القرآن * (لفي زبر الأولين) * يعني : ذكره مثبت في سائر الكتب السماوية على وجه البشارة به وبمحمد (صلى الله عليه وآله) ، وقيل : إن معانيه من الدعاء إلى التوحيد وغيره فيها (1) .
  وقرئ : * (أولم يكن) * بالتذكير و * (آية) * بالنصب على أنها خبره و * (أن يعلمه) * هو الإسم ، وقرئ : ( تكن ) بالتأنيث و ( آية ) بالرفع (2) على أن في ( تكن ) ضمير القصة و ( آية ) خبر المبتدأ الذي هو * (أن يعلمه) * ، والجملة خبر ( كان ) ، والمعنى : ألم يكن علم علماء بني إسرائيل بمجيئه دلالة لهم على صحة نبوته ، وهم عبد الله بن سلام وغيره ، كما قال سبحانه : * (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) * (3) .
  والأعجم الذي لا يفصح ، يقال : في لسانه عجمة واستعجام .
  * (كذلك سلكنه) * أي : كما أنزلنا القرآن عربيا مبينا أدخلناه وأوقعناه * (في قلوب) * الكافرين بأن قرأه رسولنا عليهم .
  ثم أسند ترك الإيمان إليهم بقوله : * (لا يؤمنون به) * ولا يزالون على التكذيب والجحود به حتى يعاينوا الوعيد ويروا العذاب ، فيلحق بهم * (بغتة) * أي : مفاجأة * (وهم لا يشعرون) * بمجيئه .
  * (أفبعذابنا يستعجلون) * تبكيت لهم وتوبيخ .

-------------------
(1) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 335 .
(2) وهي قراءة ابن عامر ، راجع التبيان : ج 8 ص 61 .
(3) القصص : 53 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 692 _
  ثم قال : هب أن الأمر كما يظنون من التمتيع والتعمير ، فإذا أتاهم العذاب ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب عيشهم ؟ * (لها منذرون) * أي : رسل ينذرونهم .
  * (ذكرى) * منصوبة بمعنى ( تذكرة ) ، إما لأن ( أنذر ) و ( ذكر ) متقاربان ، فكأنه قال : مذكرون تذكرة ، وإما لأنها حال من الضمير في * (منذرون) * أي : ينذرونهم ذوي تذكرة ، وإما لأنها مفعول له بمعنى : أنهم ينذرونهم لأجل التذكرة .
  ويجوز أن يكون * (ذكرى) * متعلقة ب‍ * (أهلكنا) * مفعولا له ، والمعنى : وما أهلكنا من أهل قرية ظالمة إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم * (وما كنا ظالمين) * فنهلك قوما غير ظالمين .
  كانوا يقولون : إنما يتنزل على محمد (صلى الله عليه وآله) من جنس ما ينزل به الشياطين على الكهنة ، فكذبهم الله بأن ذلك مما لا يتسهل للشياطين ولا يقدرون عليه ، لأنهم مرجومون بالشهب * (معزولون) * عن استماع كلام أهل السماء .
  * (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 693 _
  * علم عز اسمه أن ذلك لا يكون ، لكنه أراد أن يحرك منه لازدياد الإخلاص والتقوى ، وهي (1) لطف للمكلفين كما قال : * (ولو تقول علينا بعض الأقاويل) * (2) .
  * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * أمر صلوات الله وسلامه عليه بإنذار الأقرب فالأقرب من قومه ، وأن يقدم إنذارهم على إنذار غيرهم .
  وروي : أنه جمع بني عبد المطلب ، وهم يومئذ أربعون رجلا ، الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس (3) على رجل شاة وقعب من لبن ، فأكلوا وشربوا حتى صدروا ، ثم أنذرهم فقال : ( يا بني عبد المطلب ، إني أنا النذير إليكم من الله عزوجل ، فأسلموا وأطيعوني تهتدوا ) ، ثم قال : ( من يؤاخيني ويؤازرني فيكون وليي ووصيي بعدي ، وخليفتي في أهل بيتي ) ؟ فسكت القوم ، وأعادها ثلاثا ، كل ذلك يسكت القوم ويقول علي (عليه السلام) : أنا ، وقال في المرة الثالثة : أنت ، فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أمر عليك (4) .
  و ( خفض الجناح ) مثل في التواضع ولين الجانب .
  * (فإن عصوك) * فتبرأ منهم ومن أعمالهم .
  * (وتوكل على) * الله يكفك شر من يعصيك ، وفوض أمرك إلى من يقدر على نفعك وضرك ، وقرئ ( فتوكل ) بالفاء (5) ويكون عطفا على : * (فقل) * أو * (فلا تدع) * .
  * (الذي يربك) * ويطلع عليك * (حين تقوم) * للتهجد ، والمراد ب‍ * (ـ السجدين) * المصلون ، وتقلبه فيهم : تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم ، وقيل : معناه : وتقلبك في أصلاب الموحدين حتى

-------------------
(1) في نسخة ( فيه ) .
(2) الحاقة : 44 .
(3) العس : القدح العظيم ، والرفد أكبر منه ، وجمعه : عساس ، (الصحاح : مادة عس) .
(4) رواه الطبري في تفسيره : ج 9 ص 483 عن ابن عباس .
(5) قرأه نافع وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 473 . *

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 694_
  أخرجك نبيا (1) ، وهو المروي عن أئمة الهدى (عليهم السلام) (2) .
  ثم ذكر سبحانه من * (تنزل) * عليه الشياطين * (كل أفاك أثيم) * هم الكهنة : كشق وسطيح ، والمتنبئة : كمسيلمة الكذاب وطليحة .
  * (يلقون السمع) * هم الشياطين كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يستمعون إلى الملا الأعلى ، فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب ، ثم * (يلقون) * ما يسمعونه أي : يوحون به إليهم .
  وقوله : * (وإنه لتنزيل رب العلمين) * * (وما تنزلت به الشيطين) * * (هل أنبئكم على من تنزل الشيطين) * (3) أخوان ، فرق سبحانه بينهن بآيات ليست في معناهن لتطرئة ذكر ما فيهن كرة بعد كرة ، فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزل فيه من المعاني التي اشتدت كراهة الله لخلافها .
  * (والشعراء) * مبتدأ و * (يتبعهم الغاوون) * خبره ، أي : لا يتبعهم على كذبهم وباطلهم وفضول قولهم ، وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض ومدح من لا يستحق المدح ، ولا يستحسن ذلك منهم إلا الغاوون السفهاء (4) ، وقيل : الغاوون : الراوون (5) ، وقيل : الشياطين (6) ، وقيل : هم شعراء المشركين : عبد الله بن الزبعرى ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وأبو غرة ، وأمية بن أبي الصلت وغيرهم ، قالوا : نحن نقول مثل ما قال محمد (صلى الله عليه وآله) وكانوا يهجونه ، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم (7) .

-------------------
(1) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 315 .
(2) تفسير القمي علي بن ابراهيم : ج 2 ص 125 وفيه : ( النبيين ) بدل ( الموحدين ) .
(3) الآيات حسب الترتيب : 192 ، 210 ، 221 .
(4) في نسخة : ( والسفهاء ) .
(5) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 315 .
(6) قاله مجاهد وقتادة ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 189 .
(7) قاله ابن عباس كما في تفسير الآلوسي : ج 19 ص 146 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 695 _
  وقوله : * (في كل واد يهيمون) * مثل لذهابهم في كل شعب من القول ، وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ومجاوزة حد القصد فيه ، وقذف التقي وبهت البرئ .
   * (إلا الذين ءامنوا) * استثنى الشعراء المؤمنين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن ، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر ، وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والحكمة والموعظة والآداب الحسنة ومدح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصلحاء المؤمنين ، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار والرد على من هجا المسلمين ، وهم : عبد الله بن رواحة ، والكعبان ـ كعب بن مالك وكعب بن زهير ـ وحسان بن ثابت .
  قال (عليه السلام) لكعب بن مالك : ( اهجهم ، فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل ) (1) .
  وقال لحسان : ( قل وروح القدس معك ) (2) .
   * (وسيعلم الذين ظلموا) * وعيد بليغ وتهديد شديد * (أي منقلب ينقلبون) * أي منصرف ينصرفون ، أي : سيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانقلاب وهو النجاة .
  وقرأ الصادق (عليه السلام) : ( وسيعلم الذين ظلموا آل محمد (صلى الله عليه وآله) حقهم ) (3) ويشبه أن تكون قراءة على سبيل التأويل .

-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 345 .
(2) رواه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 404 عن البراء .
(3) تفسير القمي علي بن ابراهيم : ج 2 ص 125 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 697_
سورة النمل مكية (1)
  أربع وتسعون آية بصري ، ثلاث كوفي ، عد البصري * (من قوارير) * آية (2) .
  وفي حديث أبي : ( من قرأ طس سليمان ، كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بسليمان وكذب به ، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ، ويخرج من قبره وهو ينادي : لا إله إلا الله ) (3) .
بسم الله الرحمن الرحيم

  * (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ * وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ * إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 8 ص 73 : مكية بلا خلاف ، وهي خمس وتسعون آية حجازي ، وأربع وتسعون آية بصري وشامي ، وثلاث وتسعون آية في عدد الكوفيين ، وفي الكشاف : ج 3 ص 346 : مكية ، وهي ثلاث وتسعون آية ، وقيل : أربع وتسعون ، نزلت بعد الشعراء. وفي تفسير الآلوسي : ج 19 ص 154 ما لفظه : وتسمى أيضا كما في الدر المنثور : سورة سليمان ، وهي مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير ، وذهب بعضهم إلى مدنية في بعض آياتها ، وعدد آياتها خمس وتسعون آية حجازي وأربع بصري وشامي وثلاث كوفي ، وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد : أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص .
(2) في نسخة زيادة : ( على سبيل التأويل ) .
(3) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 390 مرسلا . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _698_
  * (تلك) * مبتدأ و * (ءايت القرءان) * خبره و * (هدى) * خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أو نصب على الحال ، أي : هادية ومبشرة .
  * (وهم بالآخرة هم يوقنون) * أي : هؤلاء هم الموقنون بالآخرة ، ومعناه : وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .
  * (زينا لهم أعملهم) * أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته ، وقد أسند ذلك إلى الشيطان في قوله : * (وزين لهم الشيطن أعملهم) * (1) ، وبين الإسنادين فرق ، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة ، وإسناده إلى الله عز اسمه استعارة أو مجاز حكمي ، فالاستعارة هي أنه لما متعهم بطول العمر والتوسعة في الرزق فجعلوا إنعامه بذلك ذريعة إلى اتباع شهواتهم وإيثارهم الترفه ونفارهم عن لوازم التكليف ، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم ، وإلى هذا أشارت الملائكة في قولهم :

-------------------
(1) العنكبوت : 38 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 699 _
  * (ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر) * (1) .
  وأما المجاز الحكمي : هو أن إمهاله الشيطان بتخليته حتى زين لهم أعمالهم القبيحة ، وخلقه فيهم شهوة القبيح الداعية لهم إليها ، وحرمانه إياهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم ، كالأسباب للتزيين ، فلذلك أضاف التزيين إلى ذاته .
  والعمه : التحير والتردد .
  و * (سوء العذاب) * هو القتل والأسر يوم بدر ، و * (الأخسرون) * أشد الناس خسرانا لأنهم يخسرون الثواب الدائم ويحصلون في العقاب الدائم .
  * (تلقى القرءان) * أي : تؤتاه وتلقنه من عند أي * (حكيم) * وأي * (عليم) * ، وهذا معنى مجيئهما نكرتين .
  وهذه الآية تمهيد لما يريد أن يقصه بعدها من الأقاصيص ، لما فيها من لطائف حكمته ودقائق علمه .
  * (إذ) * منصوب بمضمر وهو ( اذكر ) ، كأنه قال على أثر ذلك : خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى ويجوز أن ينتصب ب‍ * (عليم) * .
  لم يكن مع موسى غير امرأته وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل ، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله : * (امكثوا) * و * (ءاتيكم) * ، * (إني ءانست نارا) * أي : أبصرتها ، والشهاب : الشعلة ، والقبس : النار المقبوسة ، وأضاف ( الشهاب ) إلى ( القبس ) (2) لأنه يكون قبسا وغير قبس ، وقرئ : * (بشهاب) * منونا ، فيكون * (قبس) * بدلا أو صفة لما فيه من معنى القبس ، وقال : * (ساتيكم) * فجاء بسين التسويف عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ وجاء بلفظه ، أو لأنه بنى الأمر على أنه : إن لم يظفر بأحد الأمرين لم يعدم الآخر : إما هداية الطريق وإما اقتباس النار ، لأنه كان قد ضل عن الطريق ، وأراد بالخبر : معرفة حال الطريق * (لعلكم تصطلون) * تستدفئون بها ، وما أدراه حين قال ذلك أنه يظفر على النار بعز الدنيا وعز الآخرة .

-------------------
(1) الفرقان : 18 .
(2) الظاهر من عبارته أنه قدس سره اعتمدعلى قراءة الإضافة هنا دون التنوين تبعا للزمخشري . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 700 _
  * (أن بورك) * مفسرة ، لأن النداء فيه معنى القول ، أي : قيل له : * (بورك من في النار ومن حولها) * والمعنى : بورك من في مكان النار ومن حول مكانها ، ومكانها البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة ، ويدل عليه قراءة أبي : ( تباركت الأرض ومن حولها ) (1) .
  والذي بوركت له البقعة وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر ديني فيها ، وهو تكليم الله جل جلاله موسى (عليه السلام) واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه ، وقيل : المراد بمن بورك : موسى والملائكة (2) ، والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض وذلك الوادي وحواليها من أرض الشام ، كما وسم سبحانه أرض الشام بالبركات في قوله : * (ونجينه ولوطا إلى الارض التي بركنا فيها للعلمين) * (3) .
   والفائدة في ابتداء الخطاب من الله تعالى بذلك أنه بشارة من فيها للعلمين) * .
  والفائدة في ابتداء الخطاب من الله تعالى بذلك أنه بشارة من الله تعالى لموسى (عليه السلام) بأنه قد قضي أمر عظيم ينتشر (4) منه في أرض الشام كلها البركات والخيرات * (وسبحن الله رب العلمين) * إعلام بأن ذلك الأمر من جلائل الأمور ، وأن مكونه رب العالمين .
  * (إنه) * الضمير للشأن * (أنا الله) * مبتدأ وخبر ، و * (العزيز الحكيم) * صفتان له ، أي : أنا القوي القادر الذي لا يمتنع عليه شئ ، المحكم لتدابيره .
  * (وألق عصاك) * عطف على * (بورك) * وكلاهما تفسير ل‍ * (نودي) * ، والمعنى : قيل له : بورك من في النار ، وقيل له : ألق عصاك ، بدلالة قوله : * (وأن ألق عصاك) * في سورة القصص (5) على تكرير حرف التفسير * (ولم يعقب) * أي : لم يرجع ، يقال : عقب المقاتل : إذا كر بعد الفرار ، قال :

-------------------
(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 349 .
(2) قاله السدي ، راجع تفسير القرطبي : ج 13 ص 158 .
(3) الأنبياء : 71 .
(4) في نسخة : ( ينشر ) .
(5) الآية : 31 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 701 _
  فماعقبوا إذ قيل هل من معقب * ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا (1) وإنما خاف لظنه أن ذلك لأمر أريد به ، ويدل عليه قوله : * (إني لا يخاف لدي المرسلون) * .
  * (إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)* (إلا) * بمعنى ( لكن )، لأنه لما أطلق نفي الخوف عن الرسل كان ذلك مظنة لطروء الشبهة ، فاستدرك ذلك ب‍ ( لكن ) ، والمعنى : لكن * (من ظلم) * من غير المرسلين * (ثم بدل) * توبة وندما على ما فعله من السوء ، وعزما على أن لا يعود فيما بعد * (فإني غفور رحيم) * لظلمه .
  * (في تسع ءايت) * كلام مستأنف ، وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف ، والمعنى : واذهب في تسع آيات إلى فرعون ، ونحوه : فقلت إلى الطعام فقال منهم * فريق : نحسد الإنس الطعاما (2) ويجوز أن يكون المعنى : * (ؤألق عصاك ... وأدخل يدك) * في جملة ( تسع آيات ) وعدادهن .

-------------------
(1) لم نعثر على قائله ، وفيه يصف قوما بالجبن ، إذ لم يقدموا مرة على العدو ، ولم يلبوا مناديا مستغيثا فيدفعوا عنه ، ذكره الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 351 .
(2) البيت منسوب لسعير بن الحارث الضبي ، وقيل : لتأبط شرا ، وقيل : شمر الغساني ، و قيل : للفرزدق يصف نفسه بالجرأة واقتحام المخاوف ضمن قصيدة أنشأها ، انظر الكشاف : ج 3 ص 351 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 702 _
  المبصرة : الواضحة البينة ، جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمليها لأنهم ملابسوها ، وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها ، أو : جعلت كأنها تبصر فتهتدي (1) ، لأن الأعمى لا يهتدي فضلا عن أن يهدي غيره ، ومنه قولهم : عوراء لأنها تغوي .
  وقرأ علي بن الحسين (عليهما السلام) وقتادة ( مبصرة ) (2) وهي نحو : مجنبة ومنجلة أي : مكانا يكثر فيه التبصرة (3) .
  الواو في * (واستيقنتها) * واو الحال ، و ( قد ) مضمرة ، والعلو : الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى ، كقوله : * (وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) * (4) والمعنى : جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم ، والاستيقان أبلغ من الإيقان .
  * (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) * أي : * (علما) * جليلا (5) سنيا أو كثيرا من العلم ، أي : آتيناهما علما فعملا به

-------------------
(1) في نسخة : ( فتهدي ) .
(2) حكاه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 352 .
(3) في نسخة : ( التبصر ) .
(4) المؤمنون : 46 و 47 .
(5) في نسخة : ( جليا ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 703 _
  وعلماه * (وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) * وفي هذا دلالة على شرف العلم وفضله وتقدم أهله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من الأمم .
  * (وورث سليمان داوود) * فيه دلالة على أن الأنبياء يورثون كتوريث غيرهم ، لأن إطلاق اللفظ يقتضي ذلك * (وقال يأيها الناس علمنا) * فيه تشهير لنعمة الله واعتراف بها ، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجز الذي هو علم * (منطق الطير) * وغير ذلك مما أوتيه من جلائل الأمور ، والمنطق : كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف ، والذي علم سليمان من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه ، كما يحكى أنه مر على بلبل في شجرة فقال : إنه يقول : أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء (1) * (وأوتينا من كل شئ) * يريد كثرة ما أوتيه * (إن هذا لهو الفضل المبين) * وعن الصادق (عليه السلام) : يعني الملك والنبوة (2) .
  سخر الله له الريح والجن والإنس والطير ، فكان إذا خرج إلى مجلسه عكف عليه الطير ، وقام الجن والإنس حتى يجلس على سريره ، وكان لا يسمع بملك في ناحية من الأرض إلا أذله وأدخله في الإسلام .
  ويروى أنه خرج من بيت المقدس مع ستمائة ألف كرسي عن يمينه ويساره ، وأمر الطير فأظلتهم ، وأمر الريح فحملتهم حتى وردت بهم المدائن ، ثم رجع فبات في اصطخر ، فقال بعضهم لبعض : هل رأيتم قط ملكا أعظم من هذا أو سمعتم ؟ قالوا : لا ، فنادى ملك من السماء : لثواب تسبيحة واحدة في الله أعظم مما رأيتم ! * (فهم يوزعون) * أي : يحبس أولهم على آخرهم بأن توقف هواديهم حتى يلحقهم تواليهم ، فيكونوا مجتمعين

-------------------
(1) حكاه فرقد السنجي ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 409 .
(2) حكاه عنه (عليه السلام) الآلوسي في تفسيره : ج 19 ص 171 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 704 _
  لا يتخلف منهم أحد ، وذلك للكثرة العظيمة .
  فسار سليمان بجنوده * (حتى إذا أتوا على واد النمل) * وهو واد بالطائف أو بالشام كثير النمل ، وإنما عدي * (أتوا) * ب‍ * (على) * لأن إتيانهم كان من فوق ، أو هو من قولهم : أتى على الشئ : إذا أنفذه وبلغ آخره ، كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف عليهم الحطم .
  ويمكن أن يكون جنود سليمان كانوا ركبانا ومشاة في ذلك الوقت ولم تحملهم الريح ، أو كانت القصة قبل أن سخر الله الريح له .
  ولما كان صوت النمل مفهوما لسليمان عبر عنه بالقول ، ولما جعلت النملة قائلة والنمل مقولا لهم كما في ( أولي العقول ) أجرى خطابهم ، و * (لا يحطمنكم) * جواب الأمر أو نهي بدل من الأمر ، لأن ( ادخلوا في مساكنكم ) في معنى : لا تكونوا حيث أنتم ، والمراد : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ ، ونحوه : عجبت من نفسي ومن إشفاقها .
  * (فتبسم ضاحكا من قولها) * أي : أخذ في الضحك ، يعني : أنه قد تجاوز التبسم إلى الضحك ، وكذلك ضحك الأنبياء ، وإنما ضحك لإعجابه بما دل من قولها على ظهور شفقة جنوده وشهرة حالهم في التقوى حيث قالت : * (وهم لا يشعرون) * ، أو لسروره بما آتاه الله من إدراكه بسمعه ما همس به أصغر خلق الله وإحاطته بمعناه ، ولذلك قال : * (رب أوزعني) * أي : اجعلني أزع شكر نعمتك عندي ، وأرتبطه لا ينفلت (1) عني ، حتى لا أزال شاكرا لك وذاكرا إنعامك * (على وعلى والدي) * بأن أكرمته بالنبوة وغيرها ، وعلى والدتي بأن زوجتها نبيك ، جعل النعمة عليهما نعمة عليه يلزمه شكرها * (وأن أعمل صلحا ترضه) * استوقفه سبحانه لزيادة العمل الصالح في المستقبل * (في عبادك الصلحين) * إبراهيم

-------------------
(1) في نسخة : ( ينقلب ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _705_
  وإسماعيل وإسحاق ومن بعدهم من النبيين ، أي : أدخلني في جملتهم .
  * (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)* (أم) * منقطعة ، نظر سليمان (عليه السلام) إلى مكان الهدهد فلم يره ، فقال : * (مالى) * لا أراه ؟ على معنى : أنه لا يراه وهو حاضر ، لساتر أو غيره ، ثم ظهر له أنه غائب ، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : هو غائب ، كأنه يسأل عن صحة ما ظهر له من غيبته ، فهو نحو قولهم : إنها الإبل أم شاء .
  ويروى أن أبا حنيفة سأل أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) : كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير ؟ فقال : لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم الدهن في القارورة ، فضحك أبو حنيفة وقال : كيف لا يرى الفخ في التراب ويرى الماء في بطن الأرض ؟ ! قال : يا نعمان ، أو ما علمت أنه إذا نزل القدر غشي البصر (1) .
  * (لأعذبنه) * بنتف ريشه وتشميسه ، وقيل : بالتفريق بينه وبين إلفه (2) ، وقرئ :

-------------------
(1) رواه في مجمع البيان : ج 7 ـ 8 ص 217 عن العياشي .
(2) حكاه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 412 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _706_
  ( ليأتينني ) بنونين أولهما مشددة (1) ، وبنون واحدة مشددة ، والسلطان : الحجة والعذر .
  قرئ * (فمكث) * بفتح الكاف وضمها (2) ، * (غير بعيد) * كقولك : عن قريب ، وصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان وتسخيره له ، وقرئ : * (أحطت) * بإدغام الطاء بالتاء بإطباق (3) وغير إطباق (4) .
  وعن ابن عباس : فأتاه الهدهد بحجة وعذر فقال : اطلعت على ما لم تطلع عليه * (وجئتك) * بخبر صادق لم تعلمه (5) .
  ألهم الله الهدهد فكافحه بهذا الكلام مع ما أوتي من العلوم الكثيرة ، ابتلاء له في علمه وتنبيها له على أن في أدنى خلقه من أحاط (6) * (بما لم تحط به) * ليكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ، وقرئ : * (سبإ) * بالهمزة منونا وغير منون على منع الصرف (7) ، و ( سبا ) بالألف (8) ، ومثله في سورة سبأ : * (لقد كان لسبإ) * (9) ، وهو : سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرفه ، ومن جعله اسما للحي أو الأب الأكبر صرفه ، ثم سميت مدينة مأرب ب‍ ( سبأ ) ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام ، كما سميت معافر ب‍ ( معافر بن أد )، والنبأ : الخبر الذي له شأن .
  * (وجدت امرأة) * وهي بلقيس بنت شراحيل أو شرحيل ، كان أبوها ملك

-------------------
(1) قرأه ابن كثير ، راجع التبيان : ج 8 ص 86 .
(2) قرأ عاصم وروح بفتح الكاف ، وضمها الباقون ، راجع المصدر السابق .
(3 و 4) حكاهما الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 359 .
(5) حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 4 ص 203 .
(6) في نسخة زيادة : ( علما ) .
(7) وبغير التنوين على منع الصرف قرأه ابن كثير وأبو عمرو ، راجع التبيان : ج 8 ص 86 .
(8) وهي قراءة ابن كثير برواية قواص عنه ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 413 .
(9) الآية : 15 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 707_
  أرض اليمن كلها * (وأوتيت من كل شئ) * مما يحتاج إليه الملوك من زينة الدنيا * (ولها عرش عظيم) * سرير أعظم من سريرك ، مقدمه من ذهب مرصع بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر ، ومؤخره من فضة ، وكان عليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق .
  وقال أبو مسلم : أراد بالعرش الملك (1) .
  وقرئ : * (ألا يسجدوا) * بالتشديد على أن المراد : فصدهم الشيطان عن السبيل لأن لا يسجدوا ، فحذف الجار ، وقرئ بالتخفيف وهو ( ألا يا اسجدوا ) (2) : ( ألا ) للتنبيه ، و ( يا ) حرف النداء ، والمنادى محذوف ، كما حذفه من قال : ألا يا اسلمي ... (3) * (الذي يخرج الخب ء) * أي : المخبوء في السماء (4) ، سماه بالمصدر ، وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه عزوجل من غيوبه ، وقرئ : * (الخب ء) * بتخفيف الهمزة بالحذف (5) .
  وقيل : إن الجميع من قوله : * (أحطت) * إلى قوله : * (العظيم) * من كلام الهدهد (6) ، وقيل : * (ألا يسجدوا) * إلى آخره كلام رب العزة ، أمر جميع خلقه بالسجود (7) .
  وفي إحدى القراءتين أمر بالسجود وفي الأخرى ذم لتاركه ، فسجدة التلاوة

-------------------
(1) حكاه عنه الآلوسي في تفسيره : ج 19 ص 190 .
(2) وهي قراءة أبي جعفر والكسائي ورويس ، راجع التذكرة في القراءات : ج 2 ص 585 .
(3) وتمام البيت : ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى * ولا زال منهلا بجرعائك القطر انظر ديوان ذي الرمة : ص 202 .
(4) ليس في نسخة : من السماء .
(5) وهي قراءة ابي وعيسى ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : 110 .
(6) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 362 .
(7) المصدر السابق . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _708_
  مسنونة في كلتيهما ، وإذا خفف فالوقف على * (لا يهتدون) * ومن شدد لم يقف إلا على * (العرش العظيم) * ، وقرئ : * (تخفون) * و * (تعلنون) * بالتاء (1) .
  * (قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) * * (سننظر) * هو من النظر بمعنى الفكر والتأمل ، والمراد : * (أصدقت أم) * كذبت ، إلا أن قوله : * (أم كنت من الكذبين) * أبلغ .
  * (تول عنهم) * تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه يسمع منك * (ماذا يرجعون) * أي : ماذا يردون من الجواب ، ومنه قوله تعالى : * (يرجع بعضهم إلى بعض القول) * (2) قيل : دخل عليها من الكوة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوة (3) .

-------------------
(1) الظاهر أن المصنف يعتمد على اقراءة الياء فيهما هنا كما هو واضح .
(2) سبأ : 31 .
(3) قاله ابن زيد ووهب بن منبه ، راجع تفسير الطبري : ج 9 ص 512 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 709 _
  وفي الكلام اختصار كثير ، أي : فمضى الهدهد وألقى إليهم الكتاب ، فلما قرأته بلقيس * (قالت) * لقومها بعد أن جمعتهم : * (يأيها الملؤا) * يعني : الأشراف * (إنى ألقى إلى كتب كريم) * وصفته بالكرم لأنه من عند ملك كريم ، أو كتاب حسن مضمونه وما فيه ، أو مختوم لقوله (عليه السلام) : ( كرم الكتاب ختمه ) (1) ، أو : لأنه صدره ببسم الله الرحمن الرحيم .
  * (إنه من سليمن) * استئناف وتبيين لما ألقي إليها ، كأنه قيل لها : ممن هو ، وما هو ؟ فقالت : إنه من سليمان .
  و ( أن ) في * (ألا تعلوا) * مفسرة ، والمعنى : لا تتكبروا كما يفعل الملوك * (وأتوني) * منقادين مستسلمين ، أو : مؤمنين .
  الفتوى : الجواب في الحادثة ، وأرادت أن يشيروا عليها بما عندهم فيما حدث لها من الرأي والتدبير ، وقصدت بالرجوع إلى استشارتهم استعطافهم ليوافقوها ويقوموا معها * (قاطعة أمرا) * أي : فاصلة ، لا أقطع أمرا إلا بحضوركم .
  * (نحن أولوا قوة) * في الأجساد والآلات والعدد * (وأولوا بأس) * : أي نجدة وبلاء في الحرب * (والامر) * موكول * (إليك) * ونحن مطيعون لك ، فمرينا بأمرك نطع أمرك ونتبع رأيك .
  فمالت إلى الصلح ورأت الابتداء بالأحسن ، وذكرت في الجواب لهم عاقبة الحرب (2) وسوء مغبتها (3) ، و * (إن الملوك إذا دخلوا قرية) * قسرا وعنوة خربوها ، وأذلوا أعزتها ، وقتلوا وأسروا ، ثم قالت : * (وكذلك يفعلون) * أي : وهذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير ، وقيل : هو تصديق من الله سبحانه لقولها (4) .
  ثم ذكرت حديث الهدية ، وما رأت من الرأي في ذلك ، أي : * (مرسلة إليهم) *

-------------------
(1) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء : ج 2 ص 160 .
(2) في نسخة : ( الامور ) .
(3) غب الأمر ومغبته : عاقبته وآخره ، (لسان العرب : مادة غيب) .
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 365 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _710 _
  رسلا * (بهدية) * أمانعه (1) بذلك عن ملكي * (فناظرة) * أي : منتظرة ما يكون منهم (2) حتى أعمل على حسب ذلك .
  وقرئ : * (أتمدونن) * بحذف الياء والاجتزاء بالكسرة ، والهدية اسم ( المهدي ) ، كما أن العطية اسم ( المعطى ) ، فيضاف إلى المهدي والمهدى له ، والمضاف إليه في قوله : * (بهديتكم) * هو المهدى إليه ، والمعنى : أن ما عندي خير مما عندكم ، وذلك أن الله عز اسمه آتاني ما لا مزيد عليه ، فلا يمد مثلي بمال * (بل أنتم) * قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، فلذلك * (تفرحون) * بما تزادون ويهدى إليكم ، لأن ذلك مبلغ همتكم ، وليس حالي كحالكم ، فما أرضى منكم بشئ إلا بالإيمان ، ولما أنكر عليهم إمداده بالمال أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه .
  ويجوز أن تكون الهدية مضافة إلى المهدي ، أي : بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون .
  * (ارجع) * خطاب للرسول * (لا قبل لهم بها) * أي : لا طاقة ، وحقيقته : المقابلة والمقاومة ، والمعنى : لا يقدرون أن يقابلوهم منها من أرضها ومملكتها وهم ذليلون بذهاب ما كانوا فيه من العز والملك * (صغرون) * بوقوعهم في الاستعباد والأسر .
  * (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

-------------------
(1) في نسخة : ( أصانعه ) .
(2) في نسخة : ( منه ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 711 _
  * يروى أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات ، ووكلت به حرسا يحفظونه (1) ، فأراد سليمان أن يريها بعض ما يخصه به الله تعالى من المعجزات الشاهدة لنبوته .
  وعن الباقر (عليه السلام) : ( قال عفريت من عفاريت الجن ) والعفريت : المارد القوي الداهي * (من مقامك) * أي : مجلسك الذي تقضي فيه * (وإنى) * على الإتيان به * (لقوى أمين) * آتي به كما هو لا أبدله .
  و * (الذي عنده علم من الكتب) * وزير سليمان وابن أخته ، وهو آصف بن برخيا ، وكان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وهو قوله : ( يا إلهنا وإله كل شئ ، إلها واحدا لا إله إلا أنت ) ، وقيل هو : ( يا حي يا قيوم ) ، وبالعبرانية : ( آهيا شراهيا ) (2) ، وقيل هو : ( يا ذا الجلال والإكرام ) (3) ، وقيل : الذي عنده علم من الكتاب ملك أيد الله به سليمان (4) ، وقيل : هو جبرئيل والكتاب هو اللوح (5) ، وقيل : من جنس كتب الله

-------------------
(1) رواه الطبري في تفسيره : ج 9 ص 520 عن وهب بن منبه .
(2) قاله الكلبي وعائشة ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 420 .
(3) قاله مجاهد ومقاتل ، راجع تفسير الطبري : ج 9 ص 523 .
(4) وهو قول ابن بحر كما في تفسير الماوردي : ج 4 ص 213 .
(5) قاله ابن عباس والنخعي ، راجع البحر المحيط : ج 6 ص 86 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 712 _
  المنزلة على أنبيائه (1) ، وقيل : هو علم الوحي والشرائع (2) .
  وقوله : * (ءاتيك) * في الموضعين يجوز أن يكون فعلا واسم فاعل ، ( الطرف ) : تحريكك أجفانك إذا نظرت ، فوضع موضع النظر .
  ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قوله : وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا * لقلبك يوما أتعبتك المناظر (3) وصف برد الطرف ، ووصف الطرف بالارتداد ، فعلى هذا يكون معنى قوله : * (قبل أن يرتد إليك طرفك) * إنك ترسل طرفك إلى شئ فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك ، وروي : أن آصف قال لسليمان : مد عينيك حتى تنتهي طرفك ، فمد عينيه فنظر نحو اليمين ، ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله قبل أن يرتد طرفه (4) .
  * (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) * لأنه يرتبط به النعمة ، ويحط به عن نفسه عب ء الواجب، ويستوجب المزيد * (ربى) * غني عن الشكر * (كريم) * بالإنعام على الشاكر والكافر .
  * (نكروا لها عرشها) * إجعلوه متنكرا متغيرا عن شكله ، أراد بذلك اعتبار عقلها * (ننظر أتهتدي) * لمعرفته ، أو للجواب على الصواب إذا سئلت عنه ، أو للدين والإيمان بنبوة سليمان إذا رأت تلك المعجزة .
   * (أهكذا) * أربع كلمات : حرف الاستفهام ، وحرف التنبيه ، وكاف التشبيه ، واسم الإشارة .
  أي : أمثل هذا عرشك ؟ ولم يقل : أهذا عرشك ؟ لئلا يكون تلقينا

-------------------
(1 و 2) وهو قول ابن لهيعة ، راجع الكشاف : ج 3 ص 367 و 368 .
(3) البيت لاعرابية ترد خاطبا لها يسألها عن أحوالها ، وقيل : هو لشاعر حماسي ، انظر شرح شواهد الكشاف للافندي : 78 .
(4) رواه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 420 عن ابن عباس . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 713 _
  * (قالت كأنه هو) * ولم تقل هو هو ولا ليس به ، وذلك من رجاحة عقلها ، إذ لم تقطع في موضع الاحتمال * (وأوتينا العلم من قبلها) * قيل : هو من كلام بلقيس (1) أي : وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان من قبل هذه المعجزة ، أو : من قبل هذه الحالة ، وقيل : هو من كلام سليمان وقومه (2) أي : وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة قبل مجيئها ، أو : أوتينا العلم بالله وبقدرته قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام .
  * (وصدها) * عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشوؤها بين الكفار ، وقيل : صدها الله أو سليمان عما * (كانت تعبد) * بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل (3) .
  والصرح : القصر ، والممرد : المملس ، وقيل : الصرح : الموضع البسيط المنكشف من غير سقف (4) ، أمر سليمان الشياطين ببنائه وأجرى تحته الماء ، ثم وضع له فيه سرير فجلس عليه * (فلما رأته) * بلقيس * (حسبته لجة) * وهي معظم الماء * (وكشفت عن ساقيها) * لدخول الماء ، فقال لها سليمان : * (إنه صرح) * مملس * (من قوارير) * وليس بماء * (ظلمت نفسي) * يريد بكفرها فيما تقدم .
  * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)

-------------------
(1) انظر تفسير الرازي : ج 24 ص 200 .
(2) قاله مجاهد والجبائي ، راجع التبيان : ج 8 ص 98 .
(3) قاله النحاس في إعراب القرآن : ج 3 ص 213 .
(4) قاله محمد بن كعب القرظي ، راجع البحر المحيط : ج 7 ص 79 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 714 _
  * (هم فريقان) * مبتدأ وخبر ، و * (إذا) * خبر ثان ، و * (يختصمون) * حال أو صفة ل‍ * (فريقان) * أي : فريق مؤمن وفريق كافر ، يقول كل فريق : الحق معي .
  والسيئة : العقوبة ، والحسنة : التوبة من الشرك ، ومعنى استعجالهم * بالسيئة قبل الحسنة) * أنهم قالوا : إن كان ما أتيتنا به حقا فأتنا بالعذاب ، هلا * (تستغفرون) * الله من الشرك بأن تؤمنوا * (لعلكم ترحمون) * فلا تعذبون في الدنيا .
  * (اطيرنا) * أي : تطيرنا بك ، ومعناه: تشاءمنا بك وبمن على دينك ، وكانوا قد قحطوا * (قال طئركم عند الله) * أي : سببكم الذي يجئ به خيركم وشركم عند الله، وهو قدره وقسمه ، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم .
  ويجوز أن يريد : عملكم مكتوب عند الله فمنه نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وابتلاء ، ومنه قوله : * (طئركم معكم) * (1) * (وكل إنسن ألزمنه طئره في عنقه) * (2) ، * (بل أنتم قوم تفتنون) * تختبرون وتبتلون أو تعذبون .
   * (وكان في المدينة) * التي بها صالح ، وهي الحجر * (تسعة) * أنفس سعوا في عقر الناقة ، وكانوا عتاة قوم صالح ومن أبناء أشرافهم ، أي : شأنهم الإفساد البحت الذي لا يختلط بشئ من الصلاح .
  * (تقاسموا) * يجوز أن يكون أمرا ، ويجوز أن يكون خبرا في محل الحال بإضمار ( قد ) ، أي : قالوا متقاسمين : * (لنبيتنه) * أي : لنقتلن صالحا وأهله ، وقرئ : ( لتبيتنه ) بالتاء وضم التاء الثانية ( ثم لتقولن ) (3) ،

-------------------
(1) يس : 19 .
(2) الإسراء : 13 .
(3) وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف ، راجع التبيان : ج 8 ص 101 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 715 _
  وعلى هذا يكون * (تقاسموا) * أمرا لا غير ، والتقاسم : التحالف ، والبيات : مباغتة العدو ليلا ، وقرئ : ( مهلك ) من الهلاك و ( مهلك ) من الإهلاك (1) .
  * (ومكروا مكرا) * بأن أخفوا تدبيرا للفتك بصالح وأهله * (ومكرنا) * بإهلاكهم من حيث * (لا يشعرون) * شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة .
   ( إنا دمرناهم ) (2) استئناف ، ومن قرأ بالفتح رفعه بدلا من ( العاقبة ) ، أو : على أنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره : هي تدميرهم ، أو نصبه على خبر * (كان) * أي : كان عاقبة مكرهم الدمار ، أو على معنى ( لأنا ) .
  و * (خاوية) * نصب على الحال من معنى الإشارة ، أي : فارغة خالية بظلمهم وكفرهم (3) .
  وعن ابن عباس : أجد في كتاب الله عز اسمه أن الظلم يخرب البيوت ، وتلا هذه الآية (4) .
  * (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنْ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ) * أرسلنا لوطا * (وأنتم تبصرون) * من : بصر القلب ، أي : تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها ، أو : تبصرونها ، لأنهم كانوا يرتكبون ذلك معالنين به ، لا يستتر بعضهم

-------------------
(1) قرأ عاصم برواية أبي بكر ( مهلك ) وفي رواية حفص ( مهلك ) ، والباقون ( مهلك ) ، راجع المصدر السابق .
(2) الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا هي بكسر الألف كما لا يخفي .
(3) في نسخة : ( شركهم ) .
(4) حكاه عنه الآلوسي في تفسيره : ج 19 ص 215 . (*)