أصابع أيديهم من شدة الغيظ والضجر لما جاءت به الرسل ، كقوله : * (عضوا عليكم الانامل من الغيظ) *
(1) ، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم ومانطقت به من قولهم : * (إنا كفرنا بمآ أرسلتم به) * أي : هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق ، أو وضعوا أيديهم على أفواههم يقولون للأنبياء : اسكتوا ، وقيل : ألايدي جمع يد وهي : النعمة ، بمعنى الأيادي ، أي : ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم والشرائع التي أوحيت إليهم في أفواههم ، لأنهم إذا لم يقبلوها فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل
(2) * (شك ... مريب) * موقع في الريبة ، أو ذي ريبة .
* (أفي الله شك) * دخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشك لافي الشك * (يدعوكم ليغفر لكم) * أي : لأجل المغفرة ، كما تقول : دعوته ليأكل معي ، أو يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم * (ويؤخركم إلى أجل مسمى) * أي : إلى وقت بين مقداره وسماه يبلغكموه : إن آمنتم وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت * (إن أنتم) * أي : ما أنتم * (إلا بشر مثلنا) * لافضل لكم علينا ، فلم خصصتم بالنبوة ؟ * (بسلطن مبين) * بحجة واضحة ، أرادوا بذلك ما اقترحوه من الآيات تعنتا
(3) وعنادا .
*
(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ))
-------------------
(1) آل عمران : 119 .
(2) قاله مجاهد وقتادة ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 125 .
(3) في نسخة : بغيا . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 277 _
* * (إن نحن إلا بشر مثلكم) * تسليم لقولهم ، يعنون : أنهم مثلهم في البشرية وحدها * (ولكن الله يمن على من يشآء من عباده) * بالنبوة ، ولايخصهم بتلك الكرامة إلا لخصائص فيهم ليست في أبناء جنسهم * (وما) * صح * (لنآ أن نأتيكم) * بالآية التي اقترحتموها * (إلا) * بمشيئة * (الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل وقصدوا بذلك أنفسهم ، أي : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاداتكم وعنادكم ، وأي عذر * (لنآ) * في * (ألا نتوكل على الله وقد) * فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا إلى السبيل الذي يجب عليه سلوكه في الدين .
*
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ * مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) * أي : * (لنخرجنكم من) * بلادنا ، إلا أن ترجعوا إلى أدياننا ومذاهبنا * (لنهلكن الظلمين) * حكاية تقتضي إضمار القول أو أجري الإيحاء مجرى القول ، والمراد ب ( الارض ) : أرض الظالمين وديارهم .
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 278 _
وفي الحديث : ( من آذي جاره ورثه الله داره ) (1) .
* (ذلك) * إشارة إلى ما قضى الله به من الهلاك للظالمين (2) وإسكان المؤمنين ديارهم ، أي : ذلك الأمر حق * (لمن خاف
مقامي) * أي : موقفي وهو موقف الحساب ، لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده ، أو على
إقحام المقام .
* (واستفتحوا) * واستنصروا الله على أعدائهم ، أو استحكموا الله
وسألوه القضاء بينهم ، من الفتاحة وهي الحكومة ، ومنه : * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * (3) ، وهو عطف على * (أوحى إليهم) * ، * (وخاب كل جبار عنيد) * معناه : فنصروا وظفروا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم .
* (من ورائه) * من بين يدي هذا الجبار نار * (جهنم) * يلقى فيها ما يلقى * (ويسقى من ماء صديد) * هو عطف بيان، كأنه قال : ويسقى من ماء ، فأبهمه إبهاما ثم بينه بقوله : * (صديد) * وهو ما يسيل من جلود أهل النار من الدم والقيح . * (يتجرعه) * يتكلف جرعه * (ولا يكاد يسيغه) * دخل ( كاد ) للمبالغة ، أي : ولا يقارب أن يسيغه فكيف يكون الإساغة ، كقوله : * (لم يكد يربها) * (4) أي : لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها * (ويأتيه الموت من كل مكان) * كأن أسباب الموت قد أحاطت به من كل الجهات * (وما هو بميت) * فيستريح * (ومن ورائه عذاب غليظ) * أي : ومن بين يديه عذاب أشد مما قبله وأغلظ .
* (مثل الذين كفروا بربهم) * مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه (5) ، والتقدير : فيما نقص عليكم مثل الذين كفروا ، وقوله : * (أعملهم كرماد) * جملة مستأنفة على
-------------------
(1) رواه الزمخشري الكشاف ج 2 ص 545 .
(2) في بعض النسخ : إهلاك الظالمين .
(3) الأعراف : 89 .
(4) النور : 40 .
(5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 547 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 279 _
تقدير جواب سائل يقول : كيف مثلهم ؟ فقيل : أعمالهم كرماد ، أو يكون * (أعملهم) * بدلا من * (مثل الذين كفروا) * والتقدير : مثل أعمال الذين كفروا * (كرماد اشتدت به الريح) * فذرته وسفته * (في يوم عاصف) * جعل العصف لليوم وهو لما فيه ، كما تقول : يوم ماطر ، و * (أعملهم) * هي : المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وإغاثة الملهوفين وإكرام الأضياف وغير ذلك من صنائعهم ، شبهت في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والإيمان به برماد طيرته الريح العاصف * (لا يقدرون) * يوم القيامة منها * (على شئ) * كما لا يقدر من الرماد المطير على شئ لا يرون بشئ منها ثوابا .
* (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) * (بالحق) * بالحكمة والغرض الصحيح ولم يخلقهما عبثا ولا شهوة ، وقرئ : ( خالق السموات والارض ) (1) * (إن يشأ يذهبكم) * أي : يعدمكم * (و) * يخلق مكانكم خلقا آخرين .
* (وما ذلك على الله) * بممتنع متعذر ، بل هو عليه هين يسير ، لأنه قادر
لذاته ، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور .
* (وبرزوا لله) * ويبرزون يوم القيامة لله ، أي : يظهرون من قبورهم ويخرجون منها لحكم الله وحسابه ، و * (الضعفؤا) * : الأتباع والعوام ، والذين * (استكبروا) * : سادتهم وكبراؤهم الذين استتبعوهم واستغووهم وصدوهم عن اتباع الأنبياء
-------------------
(1) قرأه حمزة والكسائي ، راجع التبيان : ج 6 ص 286 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_280 _
واستماع كلامهم ، و ( التبع ) : جمع التابع ، مثل : خادم وخدم وغائب وغيب * (قالوا لو هدبنا الله لهدينكم) * أي : لو هدانا الله إلى طريق الخلاص من العقاب لهديناكم إلى ذلك * (سوآء علينا أجزعنا أم صبرنا) * مستويان علينا الجزع والصبر * (مالنا من محيص) * أي : منجى ومهرب .
* (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ) * يقول * (الشيطن) * وهو إبليس ، يقوم خطيبا في الأشقياء من الجن والإنس إذا * (قضى الامر) * أي : قطع وفرغ من الأمر وهو الحساب : * (إن الله وعدكم وعد الحق) * وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفي لكم بما وعدكم * (ووعدتكم) * خلاف ذلك * (فأخلفتكم) * ولم أوف لكم بما وعدتكم * (وما كان لى عليكم من سلطن) * أي : تسلط وقهر ، فأقسركم على الكفر والمعاصي وأكرهكم عليها * (إلا أن دعوتكم) * إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني ، وليس الدعاء من جنس السلطان ، ولكنه كقولهم : ماتحيتهم إلا الضرب * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * حيث اغتررتم بي وأطعتموني إذ دعوتكم ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم * (مآ أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) * لا ينجي بعضنا بعضا من عذاب الله ولايغيثه ، والإصراخ : الإغاثة ، و ( ما ) في * (بمآ أشركتمون) * مصدرية ، يعني : * (كفرت) * اليوم بإشراككم إياي * (من قبل) * هذا اليوم أي : في الدنيا ، ونحوه :
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 281 _