* (فلا تظلم نفس شيا) * لا ينقص من إحسان محسن ، ولا يزاد في إساءة مسئ * (وإن كان) * الظلامة * (مثقال حبة من خردل أتينا بها) * أحضرناها للمجازاة ، ويجوز أن يؤنث ضمير ( المثقال ) لإضافته إلى ( الحبة ) ، كما يقال : ذهبت بعض أصابعه ، وقرأ الصادق (عليه السلام) وابن عباس ومجاهد : ( آتينا بها ) بالمد (1) ، وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى : المجازاة والمكافاة ، لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء .
  و * (الفرقان) * : التوراة ، و * (ضياء) * أي : وآتيناهما به ضياء * (وذكرا للمتقين) * والمعنى : أنه في نفسه ضياء وذكرى ، أو يريد : أتيناهما بما فيه من الشرائع ضياء وذكرى ، وقيل : * (الفرقان) * فلق البحر (2) ، وقيل : المخرج من الشبهات (3) .
  ومحل * (الذين) * جر على الوصف ، أو نصب على المدح ، أو رفع عليه .
  * (وهذا) * القرآن * (ذكر مبارك) * وبركته : خيره ومنافعه ، ودوام ذلك إلى يوم القيامة .
  * (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)

-------------------
=
اقارع عوف لا احاول غيرها * وجوه قرود تبتغي من تجادع انظر خزانة الأدب للبغدادي : ج 2 ص 453 وفيها : ( توهمت ) بدل ( توسمت) .
(1) انظر شواذ القرآن لابن خالويه : ص 94 ، وتفسير البحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 316 .
(2) قاله الضحاك ، راجع الكشاف : ج 3 ص 121 .
(3) وهو قول محمد بن كعب ، راجع البحر المحيط لابن حيان : ج 6 ص 317 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)_ 527 _

   * الرشد : الاهتداء لوجوه الصلاح ، ومعنى إضافته إليه : أنه رشد مثله ، وأنه رشد له شأن ، وقيل : هو الحجج الموصلة إلى التوحيد (1) ، وقيل : النبوة (2) * (من قبل) * أي : من قبل موسى وهارون * (وكنا به) * أي : بصفاته الرضية وأسراره * (علمين) * حتى أهلناه لخلتنا .
   * (إذ) * يتعلق ب‍ * (ءاتينآ) * أو ب‍ * (رشده) * ، وقوله : * (ما هذه التماثيل) * تصغير لشأن آلهتهم ، وتحقير لها ، ولم ينو للعاكفين مفعولا وأجراه مجرى ما لا يتعدى ، أي : فاعلون للعكوف لها ، ولو قصد التعدية لقال : * (عكفون) * عليها .
  وروي عن الأصبغ بن نباتة أنه قال : إن أمير المؤمنين (عليه السلام) مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : * (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عكفون) * ؟ لقد عصيتم الله ورسوله (3) .
  اعترفوا بتقليد الآباء حين لم يجدوا حجة في عبادتها ، وكفي أهل التقليد عارا وسبة أن عابدي الأوثان منهم .
  * (أنتم) * من التوكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به ، لأن العطف على ضمير ( هو ) في حكم بعض الفعل لا يجوز ، أي : أنتم ومن قلدتموهم قد انخرطتم في سلك ضلال ظاهر غير خاف .
  * (قالوا) * له : هذا الذي * (جئتنا) * به أجد هو وحق * (أم) * هزل ولعب ؟ إذ تعجبوا من تضليله إياهم ، واستبعدوا أن يكونوا على ضلال .

-------------------
(1) وهو قول الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 255 .
(2) قاله ابن عيسى ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 450 .
(3) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الملاهي : ص 89 ، والبيهقي في شعب الإيمان : ج 5 ص 241 ح 6518 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 528 _
  والضمير في * (فطرهن) * ل‍ * (السموات والارض) * أو ل‍ * (التماثيل) * .
  و * (تالله)* التاء فيها بدل من الواو المبدلة من الباء ، وفي التاء زيادة معنى وهو التعجب ، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده ، وتأنيه لصعوبته ، وتعذره على يده (1) في زمن النمرود مع فرط عتوه واستكباره ، وعن قتادة : قال ذلك سرا من قومه (2) .
  وروي (3) : أنهم خرجوا في يوم عيد لهم ، فجعل إبراهيم أصنامهم جذاذا أي : قطعا ، من الجذ وهو القطع ، كسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم الكبير علق الفأس في عنقه ، وقرئ : ( جذاذا ) (4) جمع جذيذ ، وإنما استبقى الكبير ، لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا * (إليه) * لما كانوا يسمعون من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم ، فأراد أن يبكتهم بقوله : * (بل فعله كبيرهم هذا فسلوهم) * (5) وعن الكلبي : * (إليه) * أي : إلى* (كبيرهم) * كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات (6) ، فيقولون له : ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحا والفأس على عاتقك ؟ فتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ، وأنهم في عبادته على غاية الجهل * (إنه لمن الظلمين) * أي : من فعل هذا الكسر والحطم إنه لشديد الظلم ، لجرأته على آلهتنا * (إبراهيم) * خبر مبتدأ محذوف ، أو منادى ، والأوجه أن يكون فاعل ( يقال ) ، لأن المراد الاسم لا المسمى .

-------------------
(1) ليس في نسخة : ( على يده ) .
(2) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 247 .
(3) رواه السدي على ما حكاه الطبري في تفسيره : ج 9 ص 38 .
(4) قرأه الكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 544 .
(5) الآية : 63 .
(6) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 123 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 529 _
  * (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ) * أي : فجيئوا * (به على أعين الناس) * أي : معاينا مشاهدا بمرأى من الناس ومنظر ، فهو في موضع الحال * (لعلهم يشهدون) * عليه بما فعله ، أو يحضرون عقوبتنا له .
  * (فعله كبيرهم هذا) * من معاريض الكلام ، ولم يكن قصدا من إبراهيم (عليه السلام) إلى أن ينسب الفعل إلى الصنم ، وإنما قصد تقريره (عليه السلام) لنفسه على هذا الأسلوب تبكيتا لهم ، كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رائق وأنت مشهور بحسن الخط : أنت كتبت هذا ؟ وصاحبك أمي لا يحسن الكتابة ، فقلت له : بل كتبت أنت ، وقصدك بهذا الجواب تقرير الكتاب لك مع الاستهزاء به ، لا نفيه عنك وإثباته لصاحبك الامي ، وقيل : إن تقديره : * (بل فعله كبيرهم ... إن كانوا ينطقون) * فآسألوهم ، فعلق الكلام بشرط لا يوجد (1) ، وقيل إن التقدير : * (بل فعله) * من فعله ويوقف عليه ، ويبتدأ فيقرأ * (كبيرهم هذا فسلوهم إن كانوا ينطقون) * (2) .

-------------------
(1) قاله القتيبي ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 249 .
(2) وهو قول الكسائي ، راجع تفسير القرطبي : ج 11 ص 300 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _530_
  * (ف‍) * لما ألقمهم الحجر * (رجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظلمون) * على الحقيقة لا من ظلمتموه حين قلتم : * (من فعل هذا بالهتنآ إنه لمن الظلمين) *.
  ونكست الشئ : قلبته فجعلت أسفله أعلاه ، وانتكس : انقلب ، والمعنى : انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم وصاروا مجادلين عنه حين نفوا عنها القدرة على النطق ، أو يريد : قلبوا على * (رؤوسهم) * لفرط إطراقهم ، خجلا مما بهتهم به إبراهيم ، فما أجابوا جوابا إلا ما هو حجة عليهم .
  * (أف) * صوت يعلم به أن صاحبه متضجر ، تأفف بهم : إذا ضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتهم (1) بعد وضوح الحق وانقطاع العذر ، واللام لبيان المتأفف به ، أي : * (لكم) * ولآلهتكم هذا التأفف .
  ولما غلبوا أزمعوا على إهلاكه وتحريقه ، فجمعوا الحطب حتى إن الرجل ليمرض فيوصي بماله يشترى به حطب لإبراهيم ! ثم أشعلوا نارا عظيما كادت الطير تحترق في الجو من وهجها ، ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموا به فيها ، وذكر أن جبرائيل (عليه السلام) قال له حين رمي به : هل لك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا ، قال : فاسأل ربك ، قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي (2) .
  وعن الصادق (عليه السلام) : أنه قال : يا الله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، فحسرت النار عنه ، وإنه لمختبئ ومعه جبرائيل (عليه السلام) وهما يتحدثان في روضة خضراء (3) .
  * (كونى بردا وسلما) * يعني : ذات برد وسلام ، فبولغ في ذلك ، كأن ذاتها برد

-------------------
(1) في نسخة : ( عبادتها ) .
(2) ذكره ابي بن كعب ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 250 .
(3) الكافي : ج 8 ص 369 ح 559 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 531_
  وسلام ، والمراد : ابردي فيسلم منك إبراهيم (عليه السلام) ، وابردي بردا غير ضار ، وعن ابن عباس : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها (1) ، نزع الله عن النار طبعها من الحر والإحراق وأبقاها على الإنارة والإشراق كما كانت ، والتحقيق : أن النار من جهة مطاوعتها فعل الله تعالى وإرادته كانت كمأمور أمر بشئ فامتثله ، وأرادوا أن يكيدوه فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين .
  * (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ * وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ) * أي : نجينا إبراهيم ولوطا ـ وهو ابن أخيه ـ من نمرود وكيده من كوثى (2) * (إلى الارض التي بركنا فيها) * وهي الشام ، وبركاتها الواصلة إلى العالمين : إن أكثر الأنبياء بعثوا فيها فانتشرت في العالمين شرائعهم ، وقيل : إنها بلاد خصب يكثر أشجارها وثمارها ويطيب العيش فيها (3) ، روي : أنه نزل بفلسطين ، ولوط بالمؤتفكة ، وبينهما مسيرة يوم وليلة (4) .
  والنافلة : ولد الولد ، قيل : إنه سأل الولد فأعطي * (إسحق و) * أعطي * (يعقوب

-------------------
(1) تفسير ابن عباس : ص 273 .
(2) كوثى : قرية في أرض بابل بسواد العراق ، وبها مشهد ابراهيم الخليل (عليه السلام) وبها مولده ، انظر معجم البلدان للحموي : ج 4 ص 317 ـ 318 .
(3) قاله البغوي في تفسيره : ج 3 ص 251 .
(4) رواه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 252 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _532 _
  نافلة) * أي : زيادة وفضلا من غير سؤال (1) ، أي : * (صلحين) * للنبوة والرسالة .
  * (وجعلنهم أئمة) * يقتدى بهم في دين الله * (يهدون) * إلى طريق الحق والدين القويم * (بأمرنا) * وكل من صلح أن يكون قدوة للخلق ، فالهداية محتومة عليه ، مأمور هو بها من جهة الله تعالى ، وأولها أن يهتدي بنفسه ليعم الانتفاع بهداه ، وتسكن النفوس إلى الاقتداء به .
  و * (لوطا) * منصوب بفعل مضمر * (ءاتينه) * يفسره * (حكما) * أي : حكمة وهو ما يجب فعله ، أو فصلا بين الخصوم ، وقيل : هو النبوة (2) ، و * (القرية) * سدوم .
  * (في رحمتنا) * أي : في أهل رحمتنا ، أو في الجنة .
  * (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) * أي : * (من قبل) * هؤلاء المذكورين * (ونصرنه من القوم) * أي : جعلناه منتصرا منهم ، من : نصرته فانتصر * (الكرب العظيم) * الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه .
  * (و) * اذكر * (داود وسليمن) * ، و * (إذ) * بدل منهما ، والنفش : الانتشار بالليل

-------------------
(1) قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد ، راجع التبيان : ج 7 ص 264 .
(2) قاله مقاتل ، راجع تفسير الرازي : ج 22 ص 192 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 533_
  * (لحكمهم) * جمع الضمير لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما ، والضمير في * (فهمنها) * للحكومة أو للفتوى ، حكم داود (عليه السلام) بالغنم لصاحب الحرث ، فقال سليمان (عليه السلام) وهو ابن إحدى عشرة سنة : غير هذا يا نبي الله، أرفق بالفريقين ، فقال : وما ذاك ؟ قال : يدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بها ، والحرث إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، فقال : القضاء ما قضيت ، وأمضى الحكم بذلك .
  والصحيح : أنهما جميعا حكما بالوحي ، إلا أن حكومة سليمان نسخت حكومة داود ، لأن الأنبياء لا يجوز أن يحكموا بالظن والاجتهاد ، ولهم طريق إلى العلم ، وفي قوله : * (وكلا ءاتينا حكما وعلما) * دلالة على أن كلاهما كان مصيبا .
  * (يسبحن) * حال بمعنى : مسبحات ، ويجوز أن يكون على الاستئناف ، كأن قائلا قال : كيف سخرهن ؟ فقال : يسبحن * (والطير) * : إما معطوف على * (الجبال) * وإما مفعول معه ، وكانت الجبال تجاوبه بالتسبيح ، وكانت الطير تسبح معه بالغداة والعشي * (وكنا فعلين) * أي : قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم ، وقيل : وكنا نفعل مثل ذلك بالأنبياء (1) .
  واللبوس : اللباس ، والمراد هنا الدرع ، وأول من صنع الدرع داود (عليه السلام) ، وإنما كانت صفائح فسردها (2) وحلقها فجمعت الخفة والتحصين ، وقرئ : * (لتحصنكم) * بالنون (3) والتاء والياء (4) ، فالنون لله عزوجل ، والياء لداود أو للبوس ، والتاء

-------------------
(1) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 274 .
(2) يقال : الخرز مسرود ومسرد أي : مثقوبة ، وكذلك الدرع ، وقيل : سردها : نسجها ، وهو تداخل الحلق بعضها في بعض ، (الصحاح : مادة سرد) .
(3) وهي قراءة أبي بكر عن عاصم ورويس وشيبة والمفضل وابن أبي اسحاق ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 544 ، وتفسير القرطبي : ج 11 ص 321 .
(4) وبالياء قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 430 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 534 _
  للصنعة ، والبأس : المراد به الحرب والقتال .
  * (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ * وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنْ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ) * * (الريح) * عطف على * (الجبال) *، كانت الريح مطيعة * (لسليمن) * إذا أراد أن تعصف عصفت ، وإذا أراد أن ترخي رخت ، وذلك قوله : * (رخاء حيث أصاب) * (1) ، وكان هبوبها على حسب ما يريد ، ويحتكم آية إلى آية * (وكنا بكل شئ علمين) * تجري الأشياء على ما يقتضيه علمنا وحكمتنا .
   * (يغوصون له) * في البحار فيستخرجون الجواهر * (ويعملون) * له أعمالا سواء من بناء المدائن والقصور ، واختراع الصنائع العجيبة ، والله جل اسمه يحفظهم من أن يمتنعوا عليه ويزيغوا عن أمره ، أو يكون منهم فساد فيما عملوه .
  ناداه ، ب‍ * (أني مسنى الضر) * والضر بالضم : الضرر في النفس من مرض وهزال ، وبالفتح : الضرر في كل شئ ، ألطف في السؤال حيث ذكر عن نفسه ما يوجب الرحمة ، وذكر ربه بغاية الرحمة وكنى عن المطلوب * (فكشفنا ما به من) * الضر (2) والأمراض ، وكان أيوب كثير الأولاد والأموال ، فابتلاه الله تعالى بذهاب ولده وماله وبالمرض في بدنه ثلاث عشرة سنة أو سبع سنين وسبعة أشهر ، فلما

-------------------
(1) ص : 36 .
(2) في نسخة : ( الأوجاع ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 535_
  كشف الله ضره أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم * (رحمة) * منا ، أي : لرحمتنا العابدين وذكرنا إياهم بالإحسان لا ننساهم ، أو : * (رحمة) * منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة .
  * (وذا الكفل) * قيل : هو إلياس (1) ، وقيل : هو اليسع (2) ، وقيل : إنه نبي كان بعد سليمان ، يقضي بين الناس كقضاء داود (عليه السلام) ، ولم يغضب قط إلا لله عزوجل (3) .
  * (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ * وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) * (النون) * الحوت ، وصاحبه يونس بن متى ، برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم ، فراغمهم فظن أن ذلك سائغ حيث لم يفعله إلا غضبا لله وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله ، وقد كان الأولى به أن يصابر وينتظر الإذن من الله جل اسمه في مهاجرتهم فابتلي ببطن الحوت ، ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها .
   وسأل معاوية ابن عباس كيف يظن نبي الله (عليه السلام) أن لا يقدر عليه ؟ فقال : هو من القدر لا من القدرة ، يعني : أن لن نضيق عليه كما في قوله : * (ومن قدر عليه

-------------------
(1) قاله ابن عباس على ما حكاه عنه في السراج المنير : ج 2 ص 525 .
(2) حكاه الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 464 .
(3) وهو ما روي عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) ، رواه الراوندي في قصصه : ص 213 ح 277 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 536 _
  رزقه) * (1) .
  وقيل : إنه استفهام تقديره : أفظن أن لن نقدر عليه ؟ فحذف الهمزة (2) ، وقيل : معناه : فظن أن لم تعمل فيه قدرتنا (3) * (في الظلمت) * أي : في الظلمة الشديدة في البحر في بطن الحوت ، أي : بأنه * (لا إله إلا أنت) * ، أو هو بمعنى : * (إنى كنت من الظلمين) * أي : من الذين يقع منهم الظلم .
  وقرئ : * (ننجي) * و ( ننجي ) (4) و ( نجي ) بنون واحدة وبتشديد الجيم والنون لا تدغم في الجيم (5) ، وربما أخفيت فحذفت في الكتابة وهي في اللفظ ثابتة ، فظن الراوي ذلك إدغاما .
  سأل الله تعالى زكريا أن يرزقه وارثا ، ولا يدعه * (فردا) * بلا ولد ، ثم رد الأمر إلى الله واستسلم فقال : * (وأنت خير الوا رثين) * يعني : إن لم ترزقني ولدا يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث .
  * (وأصلحنا له زوجه) * أي : وجعلناها صالحة لأن تلد بعد أن كانت عاقرا .
  وقيل : معناه : جعلناها حسنة الخلق وكانت سيئة الخلق (6) .
  وقيل : رددنا عليها شبابها (7) * (إنهم) * الضمير للأنبياء المذكورين ، أي : استحقوا الإجابة منا لمسارعتهم * (في الخيرا ت) * ومبادرتهم إلى الطاعات * (رغبا ورهبا) * أي : راغبين وراهبين كقوله تعالى : * (يحذر الاخرة ويرجوا رحمة ربه) * (8)

-------------------
(1) الطلاق : 7 .
(2) قاله سليمان بن المعتمر ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 466 .
(3) وهو قول الفراء ، راجع معاني القرآن للفراء : ج 2 ص 209 .
(4) قرأه عاصم الجحدري وحده ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 95 .
(5) وهي قراءة ابن عامر وأبي بكر ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 545 .
(6) قاله ابن عباس وعطاء ومحمد بن كعب وعون بن عبد الله وابن كامل ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 468 ، وتفسير القرطبي : ج 11 ص 336 .
(7) قاله سعيد بن جبير وقتادة ، راجع تفسير الآلوسي : ج 17 ص 87 .
(8) الزمر : 9 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 537_
  * (خشعين) * أي : ذللا لأمر الله، وقيل : متواضعين لأمر الله تعالى (1) ، وعن مجاهد : الخشوع : الخوف الدائم في القلب (2) .
  * (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ * إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ * وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ * حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) * * (أحصنت فرجها) * إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا ، كقولها : * (ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا) * (3) ، * (فنفخنا فيها من روحنا) * أي : فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا وهو جبرائيل (عليه السلام) ، لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها ، وإن جعلت نفخ الروح بمعنى الإحياء كما في قوله : * (ونفخت فيه من روحي) * (4) أي : أحييته ، فالمعنى : فنفخنا الروح في عيسى (عليه السلام) فيها أي : أحييناه في جوفها ، كما يقول الزامر : نفخت في بيت فلان ، أي : نفخت في المزمار في بيته * (وجعلنها وابنها ءاية للعلمين) * لم يقل : آيتين ، لأن حالهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل .
  والمراد بالأمة : ملة الإسلام ، يعني : أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن

-------------------
(1) قاله ابن عباس ومجاهد ، راجع تفسير ابن عباس : ص 275 ، وتفسير ابن كثير : ج 3 ص 188 .
(2) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 267 .
(3) مريم : 20 .
(4) الحجر : 29 ، ص : 72 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _538_
  تكونوا عليها لا تنحرفون عنها ، يشار إليها ملة * (وا حدة) * غير مختلفة * (وأنا) * إلهكم إله واحد * (فاعبدون‍) * ـ ي .
   الأصل : وتقطعتم ، إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات ، كأنه يقبح عندهم فعلهم ويقول لهم : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى ؟ والمعنى : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتقسم الجماعة الشئ فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب ، تمثيلا لاختلافهم فيه ، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى يتبرأ بعضهم من بعض ، ثم أوعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون فيجازيهم بما عملوا .
  الكفران : مثل في حرمان الثواب ، كما أن الشكر مثل في الإثابة إذا قيل لله : شكور ، أي : لا يكفر سعيه * (وإنا له كتبون) * أي : نحن كاتبون ذلك السعي ، ثبته في صحيفة عمله .
  * (وحرا م) * مستعار للممتنع وجوده ، كما في قوله تعالى : * (إن الله حرمهما على الكفرين) * (1) أي : منعهما منهم ، وأبى أن يكونا لهم ، وقرئ : ( وحرم ) (2) ومعناه : ممتنع من * (قرية) * قدرنا إهلاكها وغير متصور رجوعهم من الكفر إلى الإسلام ، و ( لا ) مزيدة ، وقال الزجاج : تقديره : حرام على قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون (3) .
  وعلى هذا فيكون * (حرام) * خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون التقدير : وحرام عليها ذلك المذكور في الآية المتقدمة من السعي المشكور غير المكفور ، لأنهم لا يرجعون عن الكفر .

-------------------
(1) الاعراف : 50 .
(2) قرأه حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر والمفضل ويحيى ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 431 .
(3) معاني القرآن واعرابه : ج 3 ص 405 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 539 _
  وتعلقت * (حتى) * ب‍ * (حرا م) * وهي غاية له ، لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى يوم القيامة ، و * (حتى) * هذه هي التي يحكى بعدها الكلام ، والجملة الشرطية هنا هي الكلام المحكي بعد * (حتى) * أعني : * (إذا) * وما في حيزها ، أي : فتح سد * (يأجوج ومأجوج) * فحذف المضاف ، وقرئ : ( فتحت ) بالتشديد (1) ، والحدب : النشر من الأرض، والنسلان العسلان : الإسراع .
  و ( إذا ) هي ظرف المفاجأة وتسد في الجزاء مسد الفاء ، فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ، ولو قيل : إذا هي شاخصة أو : فهي شاخصة لجاز ، وهي ضمير مبهم يفسره الإبصار ، و * (يويلنا) * تعلق بمحذوف ، والتقدير : يقولون : * (يويلنا) * وهو في موضع الحال من * (الذين كفروا) * .
  * (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ) * * (حصب جهنم) * وقودها وحطبها * (وما تعبدون من دون الله) * يحتمل الأوثان والشياطين ، لأنهم بطاعتهم لهم في حكم عبدتهم ، والفائدة في مقارنتهم بآلهتهم : أنهم قدروا أنهم يشفعون لهم عند الله تعالى ، فإذا صادفوا الأمر على

-------------------
(1) وهي قراءة ابن عامر ويعقوب ، راجع والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 398 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _540 _
  عكس ما قدروه لم يكن شئ أبغض إليهم منهم .
  * (الحسنى) * الخصلة المفضلة في الحسن ، وهي : السعادة أو البشارة بالثواب أو التوفيق للطاعات .
  والحسيس : الصوت الذي يحس ، والشهوة : طلب النفس اللذة يقال : اشتهى شهوة .
  وقرئ : ( لا يحزنهم ) (1) ، و * (الفزع الاكبر) * : النفخة الأخيرة ، كقوله : * (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الارض) * (2) وعن الحسن : حين يؤمر بهم إلى النار (3) ، وعن الضحاك : حين يطبق على النار (4) ، وقيل : حين يذبح الموت على صورة كبش أملح وينادي : يا أهل الجنة خلود لا موت ، ويا أهل النار خلود لا موت (5) ، * وتتلقيهم الملئكة) * أي : تستقبلهم على أبواب الجنة بالتهنئة ، يقولون : * (هذا) * وقت ثوابكم * (الذي) * وعدكم ربكم قد حل .
  و * (يوم نطوى) * منصوب ب‍ * (لا يحزنهم) * أو ب‍ * (تتلقبهم) * ، وقرئ : ( يوم تطوى السماء ) على البناء للمفعول (6) ، و * (السجل) * الصحيفة ، أي : كما يطوى الطومار (7) للكتابة ، أي : ليكتب فيه ، أو : لما يكتب فيه ، لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ، ثم يوقع على المكتوب ، وقرئ : * (للكتب) * (8) والمراد بذلك المكتوبات أي : لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة ، قيل : السجل : ملك يطوي كتب بني آدم

-------------------
(1) قرأه أبو جعفر وابن محيصن ، راجع تفسير القرطبي : ج 11 ص 346 .
(2) النمل : 87 .
(3) تفسير الحسن البصري : ج 2 ص 137 .
(4) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 270 .
(5) قاله مقاتل وابن شريح ، راجع تفسير السمرقندي : ج 2 ص 380 .
(6) قرأه أبو جعفر المدني وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 95 ، وتفسير القرطبي : ج 11 ص 346 .
(7) الطامور والطومار : الصحيفة ، قيل : هو دخيل ، قال ابن سيده : وأراه عربيا محضا لأن سيبويه قد اعتد به في الأبنية فقال : هو ملحق بفسطاط ، (لسان العرب : مادة طمر) .
(8) الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هي على المفرد دون الجمع . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 541_
  إذا رفعت إليه (1) ، وقيل : هو اسم كاتب للنبي (صلى الله عليه وآله) (2) ، وعلى هذا فالكتاب : اسم للصحيفة المكتوب فيها * (أول خلق) * مفعول ( نعيد ) الذي يفسره * (نعيده) * ، و * (ما) * كافة للكاف ، والمعنى : نعيد أول الخلق كما بدأناه ، تشبيها للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء ، وأول الخلق : إيجاده عن عدم ، أي : فكما أوجدناه أولا عن عدم نعيده ثانيا ، وقوله : * (أول خلق) * كقولك : هو أول رجل جاءني ، تريد : أول الرجال ، ولكنك نكرته ووحدته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا ، فكذلك معنى * (أول خلق) * : أول الخلق ، بمعنى : أول الخلائق ، لأن ( أول الخلق ) مصدر لا يجمع .
  ويجوز فيه وجه آخر : وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره * (نعيده) * و * (ما) * موصولة ، أي : نعيد مثل الذي بدأناه نعيده ، و * (أول خلق) * ظرف ل‍ * (بدأنآ) * أي : أول ما خلق ، أو حال من الهاء المحذوف من الصلة * (وعدا) * مصدر مؤكد ، لأن قوله : * (نعيده) * عدة للإعادة * (إنا كنا فعلين) * أي : قادرين على أن نفعل ذلك .
  قيل : * (الزبور) * اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب ، و * (الذكر) * : أم الكتاب يعني : اللوح (3) ، وقيل : زبور داود (عليه لسلام) ، والذكر : التوراة (4) ، أي : * (يرثها) * المؤمنون ، كقوله : * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) * الآية (5) .
  وعن الباقر (عليه السلام) : ( هم أصحاب المهدي (عليه السلام) في آخر الزمان ) (6) .

-------------------
(1) رواه الرازي في تفسيره : ج 22 ص 228 عن علي (عليه السلام) .
(2) قاله ابن عباس ، راجع التبيان : ج 7 ص 283 .
(3) قاله ابن زيد ، راجع تفسير الطبري : ج 9 ص 97 .
(4) وهو قول الشعبي ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 271 .
(5) الأعراف : 137 .
(6) تفسير القمي : ج 2 ص 77 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 542 _
  وقيل : * (الارض) * هي أرض الجنة (1) .
  * (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنْ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) * * (هذا) * إشارة إلى المذكور في السورة من الأخبار والمواعظ * (لبلغا) * أي : كفاية (2) موصلة إلى البغية .
  كان صلوات الله عليه وآله * (رحمة للعلمين) * كافة ، إذ جاء بما يسعدهم إن اتبعوه ، ومن لم يتبعه فقد أتى من عند نفسه ، وقيل : إن الوجه في كونه * (رحمة) * للكافرين : أن عقابهم أخر بسببه ، وأمنوا به عذاب الاستئصال (3) .
  * (إنما) * لقصر الحكم على شئ ، كما يقال : إنما زيد قائم ، أو : لقصر الشئ على حكم ، كقولك : إنما يقوم زيد ، وقد اجتمع كلاهما في الآية ، لأن * (إنما يوحى إلى) * مع فاعله بمنزلة : إنما يقوم زيد ، و * (أنما إلهكم إله وا حد) * بمنزلة : إنما زيد قائم ، وفائدة اجتماعهما : الدلالة على أن الوحي إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) مقصور على أن الله عز اسمه استأثر بالوحدانية ، وفي قوله : * (فهل أنتم مسلمون) * أن الوحي الوارد على هذه الطريقة موجب أن تخلصوا التوحيد لله ، ويجوز أن يكون * (ما) * موصولة ، فيكون معناه : أن الذي يوحى إلي .

-------------------
(1) قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وابن زيد ، راجع التبيان : ج 7 ص 283 .
(2) في نسخة : كفالة .
(3) قاله ابن عباس ، راجع التبيان : ج 7 ص 285 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 543_
  ومعنى * (ءاذنتكم) * : أعلمتكم ، ولكنه كثر استعماله في معنى الإنذار ، ومنه قول ابن حلزة : آذنتنا ببينها أسماء (1) والمعنى : أني بعد إعراضكم عن قبول توحيد الله تعالى ، وتنزيهه عن الأنداد كرجل بينه وبين أعدائه هدنة ، فنبذ إليهم العهد وآذنهم جميعا بذلك * (على سوآء) * أي : مستوين في الإعلام به لم يطوه عن أحد منهم ، و * (ما توعدون) * من غلبة المسلمين عليكم ، أو : القيامة كائن لا محالة إلا أن الله تعالى لم يطلعني عليه .
  * (إنه) * سبحانه * (يعلم) * السر والعلانية منكم ، وهو مجازيكم على ذلك .
  وما * (أدرى) * لعل تأخير هذا الموعد امتحان * (لكم) * لينظر كيف تعملون ، أي : تمتيع لكم * (إلى حين) * ليكون ذلك حجة عليكم .
  وقرئ : * (قل) * على حكاية قول النبي (صلى الله عليه وآله) (2) و * (رب احكم) * على الاكتفاء بالكسرة ، و ( رب احكم ) على الضم (3) و ( ربي احكم ) على أفعل التفضيل (4) ، أمر (عليه السلام) باستعجال العذاب لقومه فعذبوا ببدر ، ومعنى قوله : * (بالحق) * : لا تحابهم ، وافعل بهم ما يستحقون * (على ما تصفون) * من الحال التي تجري على خلاف ما يظنون ، وقد نصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم ، وخذلهم وخيب ظنونهم .

-------------------
(1) وعجزه : رب ثاو يمل منه الثواء ، والبيت هو مطلع معلقة الشاعر وهو الحارث بن حلزة من بني يشكر بن بكر بن وائل ، قالها وهو ابن مائة وخمس وثلاثين سنة ، أنظر خزانة الأدب للبغدادي : ج 1 ص 325 ـ 326 ، وج 3 ص 181 ـ 182 .
(2) يستفاد من عبارته أنه يعتمد على القراءة بصيغة الأمر كما هو ظاهر .
(3) قرأه أبو جعفر المدني وابن محيصن وعن ابن كثير رواية ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 95 ـ 96 ، وتفسير القرطبي : ج 11 ص 351 .
(4) وهي قراءة الجحدري والضحاك وطلحة ويعقوب ، راجع المصدرين السابقين . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 545 _
سورة الحج مكية (1)
  وقيل : مدنية غير ست آيات (2) ، وآياتها ثمانية وسبعون آية كوفي ، خمس بصري ، عد الكوفي : * (الحميم) * (3) * (الجلود) * (4) * (وقوم لوط) * (5) .
  وفي حديث أبي : ( من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها ، أو عمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر ) (6) .
  وعن الصادق (عليه السلام) : ( من قرأها في كل ثلاثة أيام لم تخرج سنته حتى يخرج إلى بيت الله الحرام ) (7) .
بسم الله الرحمن الرحيم

   * (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ * وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)

-------------------
(1) كذا في النسخ تبعا لصاحب الكشاف ، لكن المشهور أنها مدنية ، ففي تفسير القمي : ج 2 ص 78 : سورة الحج مدنية وآياتها ثمان وسبعون ، وفي البرهان للبحراني : ج 3 ص 76 : مدنية إلا الآيات 52 و 53 و 54 و 55 فبين مكة والمدينة ، نزلت بعد النور ، وفي التبيان : ج 7 ص 287 : عن قتادة قال : هي مدنية إلا أربع آيات فانها مكية من قوله : * (وما أرسلنا من قبلك من رسول) * الى قوله : * (يوم عقيم) * ، وقال مجاهد وعياش بن أبي ربيعة : هي مدنية كلها .
(2) انظر تفسير البغوي : ج 3 ص 273 .
(3 و 4 و 5) الآية : 19 و 20 و 43 على التوالي .
(6) رواه الزمخشري في كشافه : ج 3 ص 173 مرسلا .
(7) ثواب الأعمال : ص 135 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 546 _
  * الزلزلة والزلزال : شدة التحريك والإزعاج ، وأن يضاعف ذليل الأشياء عن مراكزها ومقارها ، وهي مضافة إلى الفاعل على تقدير : أن الساعة تزلزل الأشياء ، أو : إلى تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به ، كقوله : * (بل مكر اليل والنهار) * (1) ، علل سبحانه وجوب التقوى على الناس بذكر * (الساعة) * ووصفها بأهول صفة ليتصوروها بعقولهم ويتزودوا لها .
  فروي : أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق فقرأهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم ير أكثر باكيا من تلك الليلة ، ولما أصبحوا لم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدرا ، وكانوا بين باك ومفكر (2) .
  * (يوم) * منصوب ب‍ * (تذهل) * والضمير له ( الزلزلة ) ، والذهول : الذهاب عن

-------------------
(1) سبأ : 33 .
(2) رواه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 274 عن عمران بن حصين وأبي سعيد الخدري . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 547_
  الأمر بدهشة ، والمرضعة : هي التي ألقمت ثديها الصبي ، والمرضع ـ بغير هاء ـ التي من شأنها أن ترضع ، والمعنى : أن هول تلك الزلزلة إذا فاجأها وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه ، لما يلحقها من الدهشة * (عما أرضعت) * عن إرضاعها ، أو : عن الذي أرضعته ، وعن الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام ، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام (1) ، وقرئ : ( سكرى ) و ( بسكرى ) (2) فهو نظير عطشى من عطشان ، * (سكرى) * و * (بسكرى) * نحو : ( كسالى ) ، والمعنى : وتراهم سكارى على التشبيه لما هم فيه من شدة الفزع ، وما هم بسكارى من الشراب * (ولكن) * أذهب عقولهم خوف * (عذاب الله) * .
  والمجادل * (في الله بغير علم) * قيل : هو النضر بن الحارث وكان ينكر البعث ويقول : القرآن أساطير الأولين ، والملائكة بنات الله (3) ، وقيل : هي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وفيما لا يجوز من الصفات والأفعال ولا يرجع إلى علم ولا برهان (4) * (ويتبع) * في ذلك * (كل شيطن مريد) * : عات متجرد للفساد ، يغويه عن الهدى ويدعوه إلى الضلال .
  وعلم من حاله أن من جعله وليا له فإن ثمرة ولايته الإضلال عن طريق الجنة والهداية إلى النار .
  وقوله : * (كتب عليه) * تمثيل ، والهاء للشيطان ، أي : كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه ، لظهور ذلك في حاله ، وقرئ : * (أنه) * أي : فأنه بالفتح والكسر (5) ، فأما الفتح فلأن الأول فاعل * (كتب) * والثاني عطف عليه ، والأولى أن يكون الفاء

-------------------
(1) تفسير الحسن البصري : ج 2 ص 139 .
(2) وهي قراءة حمزة والكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 549 .
(3) قاله ابن عباس وابن جريح وأبو مالك ، راجع تفسير الطبري : ج 9 ص 109 .
(4) قاله الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 143 .
(5) وبالكسر قرأه النخعي عن أبي عمرو ، والأعمش ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 96 ، وتفسير الآلوسي : ج 17 ص 115 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 548_
  وما بعده في موضع جواب الشرط إن جعلت * (من) * شرطا ، وفي موضع خبر المبتدأ إن جعلت * (من) * بمعنى ( الذي ) لكونه موصلا بالفعل ، والجملة في موضع خبر ( ان ) الأولى.
  وأما الكسر فعلى حكاية المكتوب كما هو ، أي : كأنما كتب عليه هذا الكلام ، كما تقول : كتبت إن الله على كل شئ قدير ، أو : على تقدير ( قيل ) ، أو على : أن كتب فيه معنى القول .
  المعنى : * (إن) * ارتبتم في * (البعث) * فالذي يزيل ريبكم أن تنظروا في مبدأ خلقكم ، والعلقة : القطعة الجامدة من الدم ، والمضغة : اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ ، والمخلقة : المسواة الملساء من العيب والنقص ، يقال : خلق السواك إذا سواه وملسه ، كأنه سبحانه يخلق بعض المضغ كاملا أملس من العيب وبعضها على عكسه ، فيتفاوت لذلك الناس في خلقهم وصورهم وتمامهم ونقصهم * (لنبين لكم) * بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا ، وأن من قدر على خلق البشر * (من تراب) * أولا * (ثم من نطفة) * ثانيا ، وقدر على أن يجعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاما قدر على إعادة ما أبدأه * (ونقر) * أي : ونبقي * (في) * أرحام الأمهات * (ما نشاء) * أن نقره * (إلى أجل مسمى) * وهو وقت الوضع ، وما لم نشأ إقراره أسقطته * (الارحام) * ، ووحد قوله : * (طفلا) * لأن الغرض الدلالة على الجنس ، أو أراد : * (ثم) * نخرج وكل واحد منكم طفلا ، ثم * (لتبلغوا أشدكم) * وهو حال اجتماع العقل وتمام الخلق والقوة والتمييز ، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يأت لها واحد ، كأنها شدة في غير شئ واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع ، و * (أرذل العمر) * : الهرم والخرف حتى يعود كهيئته الأولى وقت الطفولية * (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) * أي : ليصير نساء ، بحيث لو كسب علما في شئ زال عنه من ساعته ولا يستفيد علما ، وينسى ما كان علمه .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _549_
  والهامدة : الميتة اليابسة ، وهذه دلالة أخرى على البعث ، ولكونها معاينة ظاهرة كررها الله في كتابه * (اهتزت وربت) * تحركت بالنبات ، وانتفخت لظهور نمائها * (وأنبتت من كل) * جنس مؤنق حسن الصورة سار للناظر إليه .
  * (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ * وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) * أي : * (ذلك) * الذي ذكرنا من تصريف الخلق وإحياء الأرض وما فيهما (1) من البدائع والحكم حاصل * (ب‍) * سبب * (أن الله هو الحق) * أي : الثابت الموجود ، وأنه قادر على إحياء * (الموتى) * وعلى كل مقدور ، وهو حكيم لا يخلف الميعاد ، وقد وعد البعث فلابد أن يفي بوعده .
   * (بغير علم) * ضروري * (ولا هدى) * أي : استدلال ونظر يهدي إلى المعرفة * (ولا كتب منير) * وهو الوحي .
   * (ثانى عطفه) * أي : متكبرا في نفسه ، فإن ثني العطف عبارة عن الخيلاء والكبر كتصعير الخد * (ليضل عن سبيل الله) * لما كان جداله مؤديا إلى الضلال جعل كأنه الغرض في الضلال .
  * (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ * مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ)

-------------------
(1) في نسخة : فيها . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 550 _
  * (على حرف) * أي : على طرف في الدين ، لا في وسطه وقلبه ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على هيئة وطمأنينة ، كالذي يكون على طرف من العسكر ، فإن أحس بظفر وغنيمة اطمأن وقر ، وإلا انهزم وفر ، وقرئ : ( خاسر الدنيا والآخرة ) (1) وهو منصوب على الحال .
  و * (الضلل البعيد) * مستعارمن ضلال من أبعد في التيه ، فبعدت مسافة ضلاله .
  سفه الله سبحانه هذا الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ولا نفعا ، وهو يعتقد أنه ينتفع به حين يستشفع به ، ثم قال : يقول هذا الكافر يوم القيامة بدعاء وصراخ حين يرى دخوله النار بعبادة الأصنام ، ولا يرى أثر الشفاعة التي أملها منها * (لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير) * ، وكرر ( يدعو ) كأنه قال : يدعو يدعو من دون الله مالا يضره وما لا ينفعه ، ثم قال : لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى ، والمولى : الناصر ، والعشير : الصاحب ، كقوله : * (فبئس القرين) * (2) .
  * (من كان يظن) * من أعادي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحساده أن الله لا ينصره ويطمع

-------------------
(1) قرأه مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم والزهري وابن ابي اسحاق وروي عن يعقوب ، راجع تفسير القرطبي : ج 12 ص 18 ، وتفسير الآلوسي : ج 17 ص 124 .
(2) الزخرف : 38 . (*)