بعد عهد الوحي إليه إلى عهدك * (قرونا) * كثيرة * (فتطاول) * على آخرهم ، وهو القرن الذي أنت فيهم * (العمر) * أي : أمد انقطاع الوحي واندرست العلوم فأرسلناك وأوحينا إليك قصص الأنبياء وقصة موسى * (وما كنت ثاويا) * أي : مقيما * (في أهل مدين) * وهم شعيب والمؤمنون به * (تتلوا عليهم ءايتنا) * تعلما منهم ، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه * (ولكنا) * أرسلناك وعلمناكها وأخبرناك بها ، * (إذ نادينا) * موسى ، يريد ليلة المناجاة * (ولكن) * علمناك * (رحمة) * ، * (لتنذر قوما) * هم العرب * (ما أتهم من نذير) * في زمان الفترة بينك وبين عيسى ، وهو خمسمائة وخمسون سنة ، ونحوه : * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) *
(1).
* (لولآ) * الأولى امتناعية وجوابها محذوف ، والثانية تحضيضية ، وإحدى الفاءين للعطف ، والأخرى جواب * (لولا) * لكونها في حكم الأمر من حيث أن الأمر يبعث على الفعل ، والباعث والمحرض من باب واحد ، والمعنى : لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بكفرهم : هلا * (أرسلت إلينا رسولا) * يحتجون علينا بذلك لما أرسلنا إليهم ، يريد : أن إرسال الرسول إنما هو لإلزام الحجة إياهم ، و * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *
(2) * (أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) *
(3) * (لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءايتك من قبل أن نذل ونخزى) *
(4).
ولما كانت أكثر الأعمال بالأيدي اتسع فيه حتى عبر عن كل عمل بتقديم الأيدي ، وإن كان من أعمال القلوب * (فلما جاءهم الحق) * وهو الرسول المصدق بالمعجزات *
(قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى) * من فلق البحر وقلب العصا حية ، أو : الكتاب المنزل جملة
-------------------
(1) يس : 6.
(2) النساء : 165.
(3) المائدة : 19.
(4) طه : 134. (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 746 _
واحدة ، إلى غير ذلك من اقتراحاتهم المبينة على التعنت والعناد * (أولم يكفروا) * يعني : أبناء جنسهم ومن مذهبهم وعنادهم ، وهم الكفار في زمن موسى * (بمآ أوتى موسى) * قالوا في موسى وهارون ( ساحران تظاهرا ) أي : تعاونا ، وقرئ : * (سحران) * (1) أي : ذوا سحر ، جعلوهما سحرين مبالغة في ؤصفهما بالسحر ، أو أرادوا : نوعان من السحر و * (إنا بكل) * واحد منهما * (كافرون) * و * (من قبل) * متعلق ب * (أولم يكفروا) * ، وإن تعلق ب * (أوتى) * انقلب المعنى إلى : أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبالقرآن فقد كفروا بموسى والتوراة ، فقالوا في موسى ومحمد : ساحران * (تظهرا) * ، أو : في الكتابين * (سحران) * وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد (صلى الله عليه وآله) ، فأخبروهم أن نعته وصفته في كتابهم ، فقالوا : ذلك * (هو أهدى) * مما أنزل على موسى ومما أنزل علي.
أي : * (فإن لم يستجيبوا) * دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم قد ألزموا ، ولم يبق لهم حجة إلا اتباع الهوى ، ثم قال : * (ومن أضل ممن) * لا يتبع في دينه إلا * (هواه بغير هدى من الله ، إن الله لا يهدي) * أي : لا يلطف بالقوم الثابتين على الظلم ، وقوله : * (بغير هدى) * في موضع الحال ، أي : مخذولا.
* (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)
-------------------
(1) الظاهر أن المصنف يعتمد على قراءة فتح السين وألف بعدها هنا تبعا للزمخشري في
الكشاف. (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 747 _
* (أمن جعل) * وما بعده بدل من * (أمن خلق) * وحكمها حكمه * (قرارا) * سواها للاستقرار عليها * (حاجزا) * أي : برزخا.
الاضطرار : افتعال من الضرورة ، والمضطر : الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الأيام إلى التضرع إلى الله تعالى ، يقال : إضطره إلى كذا ، والفاعل والمفعول : مضطر * (ويكشف السوء) * أي : الشدة وكل ما يسوء * (ويجعلكم خلفاء الارض) * خلفاء فيها ، تتوارثون التصرف فيها خلفا بعد سلف وقرنا بعد قرن ، أو : أراد بالخلافة الملك والتسلط ، و * (ما) * مزيدة أي : يذكرون تذكيرا قليلا ، والمعنى : نفي التذكر ، وقرئ بالياء مع الإدغام ، وبالتاء مع الإدغام والحذف (1).
* (أمن يهديكم) * بالنجوم في السماء ، وبالعلامات في الأرض إذا جن عليكم الليل وأنتم مسافرون في البحر أو البر ؟ * (أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده) * أقروا بالابتداء والإنشاء فيلزمهم الإقرار بالإعادة بعد الفناء * (من السماء) * بإنزال الأمطار ومن * (الارض) * بالنبات والثمار.
وجاء قوله : * (إلا الله) * على لغة بني تميم في قولهم : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وقول الشاعر : وبلدة ليس لها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس (2) وإنما اختير هذا ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السماوات والأرض ففيهم من يعلم الغيب ، كما كان المعنى في البيت : إن كان اليعافير
أنيسا
-------------------
(1) وبالياء قراءة أبي عمرو وابن عامر برواية هشام وابن ذكوان وروح والحسن والأعمش ،
وبالتاء الباقين ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 484 ، والبحر المحيط
لأبي حيان : ج 7 ص 90.
(2) لجران العود واسمه عامر بن الحارث بن كلفة وقيل : كلدة ، والبيت من قصيدة يذم فيهما امرأتيه ويشكو منهما ، راجع خزانة الأدب للبغدادي : ج 10 ص 15 وما بعده . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 748 _
* (سلم عليكم) * متاركة وتوديع ، وعن الحسن : كلمة حلم من المؤمنين (1) * (لا نبتغى الجهلين) * لا نريد مخالطتهم ، ولا نطلب مجالستهم ومصاحبتهم .
* (لا تهدي من أحببت) * لا تقدر أن تدخل في الإيمان كل من أحببت أن تدخل فيه من قومك وغيرهم * (ولكن الله) * يدخل فيه * (من يشاء) * وهو من علم أن الألطاف تنفع فيه * (وهو أعلم) * بالذين يهتدون باللطف ، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) حريصا على إيمان قومه وإقرارهم بنبوته ، فأخبره سبحانه بأن ذلك ليس في مقدوره ، وقالوا : إن الآية نزلت في أبي طالب (2) ، وقد ورد عن أئمة الهدى (عليهم السلام) : أن أبا طالب مات مسلما ، واجتمعت الإمامية على ذلك ، وأشعاره مشحونة بالإسلام وتصديق النبي (صلى الله عليه وآله) (3).
* (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف) * أي : نستلب * (من أرضنا) * قيل : إن القائل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، قال : إنما نحن أكلة رأس ، أي : قليلون ، ونخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا ، فرد الله عليهم بقوله : * (أولم نمكن لهم حرما ءامنا) * والعرب حوله يتغاورون ، وهم آمنون في حرمهم لا يخافون * (يجبى) * إليهم الثمرات من كل أرض ، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يعرضهم للتخطف ويسلبهم الأمن إذا آمنوا به ووحدوه وصدقوا رسوله ؟ (4).
-------------------
(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 422.
(2) كقول ابن عباس كما رووه عنه ومجاهد والحسن وقتادة ، انظر التبيان : ج 8 ص 164.
(3) نحو قوله :
لـقد أكـرم الله النبي iiمحمدا فأكرم خلق الله في الناس أحمد وشـق لـه مـن إسمه iiليجله فذو العرش محمود وهذا محمد |
وغيرها الكثير ، راجع ديوان أبي طالب ضمن سلسلة ( شعراؤنا ) ط دار الكتاب العربي بيروت.
(4) قاله ابن عباس ، انظر تفسيره : ص 328. (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 749 _