وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة وما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس ، أو واستعينوا على البلايا بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة ، وقيل : الصبر : الصوم (1) ، ومنه قيل لشهر رمضان : شهر الصبر (2) ، * (وإنها) * الضمير للصلاة أو للاستعانة * (لكبيرة) * أي : شاقة ثقيلة * (إلا على الخشعين) * لأنهم الذين يتوقعون ما ادخر للصابرين على مشاقها فتهون عليهم ، والخشوع : التطأمن والإخبات والخضوع واللين والانقياد * (الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم) * أي : يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده ، وفي مصحف عبد الله (3) ( يعلمون ) (4) ، ولذلك فسر * (يظنون) * ب ( يتيقنون ) ، وكان النبي (عليه السلام) يقول : ( يا بلال روحنا ) (5) ، وقال (عليه السلام) : ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) (6) .
-------------------
(1) قاله مجاهد كما حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 1 ص 68 .
(2) انظر تفسير الماوردي : ج 1 ص 115 ، وتفسير البغوي : ج 1 ص 68 ، والكشاف للزمخشري : ج 1 ص 134 .
(3) هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي ، أبو عبد الرحمن ، من أكابر
الصحابة وهو من أهل مكة ، ومن المقربين من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ومن
السابقين الى الاسلام ، وأول من جهر بقراءة القرآن الكريم بمكة ، وكان خادم رسول الله
الأمين ، يدخل عليه كل وقت ، وكان له مصحف يعرف باسمه ، ويقال : إنه نظر إليه عمر يوما وقال : وعاء ملئ علما ، ولي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بيت مال الكوفة ، ثم قدم المدينة في خلافة عثمان ، فتوفي فيها عن نحو ستين عاما ، وكان قصيرا جدا ، يكاد الجلوس يوارونه ، وكان يحب الإكثار من التطيب ، فإذا خرج من بيته عرف جيران الطريق أنه مر ، من طيب رائحته ، (الإصابة : ت 4955 ، وغاية النهاية : ج 1 ص 458 ، والبدء والتاريخ : ج 5 ص 97 ، وصفة الصفوة : ج 1 ص 154 ، وحلية الأولياء : ج 1 ص 124) .
(4) حكاه عنه الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 134 .
(5) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 134 مرفوعا .
(6) فتح الباري لابن حجر : ج 11 ص 345 ، المعجم الصغير للطبراني : ج 1 ص 262 ، مسند أبي حنيفة : ص 54 ، جامع مسانيد الامام أبي حنيفة : ج 1 ص 406 ، البداية والنهاية لابن كثير : ج 6 ص 30 ، تفسير القرطبي : ج 10 ص 167 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول) _ 102 _
* ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) * * (وأنى فضلتكم) * في موضع نصب عطف على * (نعمتي) * أي : اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم * (على العلمين) * على الجم الغفير من الناس ، كقوله : * (بركنا فيها للعلمين) * (1) ، يقال : رأيت عالما من الناس يراد به الكثرة ، أو تفضيلي إياكم في أشياء مخصوصة كإنزال المن والسلوى ، والآيات الكثيرة كفلق البحر وتغريق فرعون ، وكثرة الرسل فيكم (2) * (واتقوا يوما) * يريد يوم القيامة * (لا تجزى) * أي : لا تقضي * (نفس عن نفس شيا) * حقا وجب عليها لله أو لغيره ، كقوله : * (لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً ) * (3) وهذه الجملة منصوبة الموضع صفة ل * (يوما) * والعائد منها إلى الموصوف محذوف تقديره : لا تجزي فيه ، حذف الجار ثم حذف الضمير ، ومعنى التنكير أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس منها شيئا من الأشياء * (ولا يقبل منها شفعة) * هذا مختص باليهود ، فإنهم (4) قالوا : ( آباؤنا يشفعون لنا )فأويسوا ، لأن الأمة مجتمعة على أن لنبينا صلوات الله عليه وآله شفاعة مقبولة وإن اختلفوا في كيفيتها ، وإجماعها حجة * (ولا يؤخذ منها عدل) * أي : فدية ، لأنها معادلة للمفدي * (ولا هم ينصرون) * يعني : مادلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة ،والتذكير بمعنى العباد والأناسي كما قالوا : ثلاثة أنفس .
سورة البقرة / 49 و 50 * (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)
-------------------
(1) الأنبياء : 71 .
(2) في نسخة : منكم .
(3) لقمان : 33 .
(4) في بعض النسخ : لأنهم . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 103 _
*(49) أصل * (ءال) * أهل ، ولذلك صغر بأهيل ، فأبدلت هاؤه ألفا ، وخص استعماله بأولي الخطر والشأن كالملوك وأشباههم (1) ، و * (فرعون) * علم لمن ملك العمالقة ، مثل قيصر لملك الروم ، وكسرى لملك الفرس * (يسومونكم) * من سامه خسفا إذا أولاه ظلما ، وأصله من سام السلعة إذا طلبها ، كأنه بمعنى يبغونكم * (سوء العذاب) * ويريدونكم عليه ، و " السوء " مصدر السيئ ، وسوء الفعل قبحه ، و * (يذبحون) * بيان ل * (يسومونكم) * ، ولذلك ترك العاطف ، وإنما فعلوا بهم ذلك لأن الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يكون على يده هلاكه كما أنذر نمرود ، فلم يغن عنهما تحفظهما وكان ما شاء الله أن يكون ، والبلاء : المحنة إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون ، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء .
* (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ) * (50) * (فرقنا بكم البحر) * فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم ، يقال : فرق بين الشيئين وفرق -
بالتشديد - بين الأشياء ، والمعنى في * (بكم) * أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند
سلوكهم ، فكأنما فرق بهم ، ويجوز أن يراد بسببكم وبسبب إنجائكم ، ويجوز أن يكون في موضع الحال بمعنى : فرقناه متلبسا بكم .
وروي : أن بني إسرائيل قالوا لموسى : أين أصحابنا لا نراهم ؟ فقال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم ، قالوا : لا نرضى حتى نراهم ، فقال : اللهم أعني على أخلاقهم السيئة ، فأوحى الله إليه : أن قل بعصاك هكذا ، فصارت فيها كواء فتراءوا
-------------------
(1) راجع تفصيله في الفريد في إعراب القرآن للهمداني : ج 1 ص 288 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 104 _
وسمع بعضهم كلام بعض (1) * (وأنتم تنظرون) * إلى ذلك وتشاهدونهم لا تشكون فيه .
* (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) * (51) أي : وعدنا موسى أن ننزل عليه التوراة ، وضربنا له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة ، وقيل : أربعين ليلة ، لأن الشهور عددها بالليالي (2) ، ومن قرأ * (وا عدنا) * فلأن الله تعالى وعده الوحي ، ووعد هو المجئ للميقات إلى الطور * (ثم اتخذتم العجل من بعده) *
أي : من بعد مضيه إلى الطور * (وأنتم ظلمون) * باتخاذكم العجل إلها . *
( ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) * (53) سورة البقرة / 54 * (من بعد ذا لك) * أي : من بعد ارتكابكم الأمر العظيم * (لعلكم تشكرون) * النعمة في العفو عنكم * (و) * اذكروا * (إذ) * أعطينا * (موسى الكتب والفرقان) * أي : الجامع بين كونه كتابا منزلا وفرقانا فارقا بين الحق والباطل يعني التوراة ، كقولك : رأيت الغيث والليث ، أي : الرجل الجامع بين الجود والجرأة ، ونحوه قوله : * (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً ) * (3) أي : الكتاب
الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرا ، ويجوز أن يريد ب * (الكتب) * : التوراة * (و)
* ب * (الفرقان) * : البرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من
-------------------
(1) رواه الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 139 ، وابن الأثير في الكامل : ج 1 ص 187 .
(2) وهو قول الأخفش ، ونسبه الطبري الى بعض نحويي البصرة ، راجع معاني القرآن : ج 1 ص
264 ، وتفسير الطبري : ج 1 ص 319 .
(3) الأنبياء : 48 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 105 _
الآيات ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام ، أو انفراق البحر ، أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه ، كقوله : * (يوم الفرقان) * (1) يريد يوم بدر .
* (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) * (54) * (و) * اذكروا * (إذ قال موسى) * لعبدة العجل من قومه بعد رجوعه إليهم : * (يقوم إنكم) * أضررتم * (أنفسكم باتخاذكم العجل) * معبودا ، والبارئ : الذي برأ (2) الخلق بريئا من التفاوت ومتميزا بعضهم من بعض بالصور والأشكال المختلفة * (فتوبوا إلى) * خالقكم ومنشئكم * (فاقتلوا أنفسكم) * أي : ليقتل بعضكم بعضا ، أمر من لم يعبد العجل أن يقتل من عبده .
روي : أن الرجل كان يبصر ولده وقريبه فلم يمكنهم إمضاء أمر الله سبحانه ، فأرسل الله عليهم ضبابة (3) لا يتراءون تحتها ، وأمروا أن يحتبوا (4) بأفنية بيوتهم ، وأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم فقتلوهم إلى المساء حتى دعا موسى وهارون ، وقالا : يا رب هلكت بنو إسرائيل ، البقية البقية ، فكشفت الضبابة ونزلت التوبة ، فسقطت الشفار من أيديهم وكانت القتلى سبعين ألفا (5) .
* (ذا لكم) * إشارة إلى التوبة مع القتل * (خير لكم عند بارئكم) * من إيثار الحياة *
-------------------
(1) الأنفال : 41 .
(2) في نسخة : خلق .
(3) الضبابة : السحابة ، الغيمة ، (لسان العرب : مادة ضبب) .
(4) احتبى بالثوب : اشتمل أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها ، (القاموس المحيط:
مادة حبا) .
(5) رواها عن ابن عباس الماوردي في تفسيره : ج 1 ص 122 ـ 123 ، وعن أبي صالح السمرقندي في تفسيره : ج 1 ص 120 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 106_
الفانية ، وكرر ذكر بارئكم تعظيما لما أتوا به مع كونه خالقا لهم * (فتاب عليكم) * تقديره : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم * (إنه هو التواب الرحيم) * القابل للتوبة عن عباده ، الرحيم بهم .
* (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ) * (55) قيل : إن القائلين هذا القول هم السبعون الذين صعقوا
(1) ، أي : لن نصدقك في قولك * (حتى نرى الله) * عيانا ، وهي مصدر من قولك : جهر بالقراءة ، كأن الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية والذي يرى بالقلب مخافت بها ، انتصابها
على المصدر ، لأنها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء (2) بفعل الجلوس ، أو على الحال بمعنى ذوي جهرة ، و * (الصعقة) * نار وقعت من السماء فأحرقتهم ، وقيل : صيحة جاءت من السماء (3) ، والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه فخروا صعقين ميتين . *
الاية(ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) * (56) ثم أحييناكم * (من بعد موتكم) * لاستكمال آجالكم * (لعلكم تشكرون) * نعمة الله بعدما كفرتموها إذ رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة ، أو لعلكم تشكرون نعمة البعث بعد الموت .
سورة البقرة / 57 و 58 * الاية(وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
-------------------
(1) قاله الماوردي في تفسيره : ج 1 ص 123 ، والبغوي أيضا في تفسيره : ج 1 ص 74 .
(2) القرفصاء : أن يجلس الرجل على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه يضعهما على
ساقيه كما يحتبي بالثوب ، (الصحاح : مادة حبا) .
(3) نسب هذا القول الطبري في تفسيره : ج 1 ص 329 الى الربيع . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 107 _
طيبت ما رزقنكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * (57) وجعلنا * (الغمام) * يظلكم ، وكان ذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس ، وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه * (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) * كان ينزل عليهم الترنجبين مثل الثلج ، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه * (كلوا من طيبت ما رزقنكم) * على إرادة القول * (وما ظلمونا) * يعني : فظلموا بأن كفروا هذه النعمة وما ظلمونا ، فاختصر لدلالة وما ظلمونا عليه .
* (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) * (58) * (القرية) * بيت المقدس ، وقيل : أريحا من قرى الشام (1) ، أمروا بدخولها بعد التيه ، و * (الباب) * باب القرية ، وقيل : هو باب القبة التي كانوا يصلون إليها (2) ، وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى ، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله وتواضعا ، وقيل : السجود أن ينحنوا داخلين ليكون دخولهم بخشوع (3) ، وقيل : طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوها
(4) * (وقولوا حطة) * هي فعلة من الحط كالجلسة والركبة ، وهي خبر مبتدأ محذوف ، أي : مسألتنا حطة ، والأصل النصب بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، فرفع ليعطي معنى الثبات ، كقوله : * (فصبر جميل) * (5) .
-------------------
(1) قاله ابن زيد ، راجع تفسير الماوردي : ج 1 ص 125 .
(2) قاله عكرمة عن ابن عباس كما في تفسير ابن كثير : ج 1 ص 94 .
(3) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 9 ، وعنه الطبري في تفسيره : ج 1 ص 339 ـ 340 .
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور : ج 1 ص 173 باسناده عن مجاهد وعكرمة .
(5) يوسف : 18 و 83 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 108 _
وروي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال : ( نحن باب حطتكم ) (1) . * (وسنزيد المحسنين) * أي : ومن كان محسنا منكم كانت تلك الكلمة سببا في زيادة ثوابه ، ومن كان مسيئا يغفر له ويصفح عن ذنوبه .
* (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) * (59) أي : فخالف الذين عصوا ووضعوا مكان *
(حطة) * ، * (قولا غير الذى قيل لهم) * أي : ليس معناه معنى ما أمروا به ، ولم يمتثلوا أمر الله، وقيل : إنهم قالوا مكان ( حطة ) : ( حنطة ) (2) ، وقيل : قالوا : حطا سمقاثا (3) ، أي : حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم (4) ، وفي تكرير * (الذين ظلموا) * زيادة في تقبيح أمرهم ، وإيذان بأن إنزال العذاب عليهم لظلمهم ، و ( الرجز ) العذاب ، وروي : أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا من كبرائهم (5) .
* (وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) * (60) سورة البقرة /
61 عطشوا في التيه فاستسقى موسى لهم ودعا لهم بالسقيا * (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) *
واللام إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم ، فقد روي : أنه حجر حمله
-------------------
(1) العياشي : ج 1 ص 45 ح 47 ، وعنه البحار : ج 7 ص 46 .
(2) قاله عكرمة عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، راجع تفسير الطبري : ج 1 ص 343 ـ 345 .
(3) في نسخة : سمقاتا .
(4) قاله ابن عباس وابن مسعود ، راجع تفسير ابن عباس : ص 9 ، وتفسير الطبري : ج 1 ص 344 ح 1030 .
(5) حكاها الشيخ في التبيان : ج 1 ص 268 عن ابن زيد . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 109 _
معه من الطور ، وكان حجرا مربعا له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي هي له (1) ، وإما للجنس ، أي : اضرب الشئ الذي يقال له : الحجر ، فقد روي عن الحسن : أنه لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه ، قال : وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة (2) ، * (فانفجرت) * أي : ضرب فانفجرت * (منه اثنتا عشرة عينا) * لكل سبط عين * (قد علم كل أناس) * يريد كل سبط * (مشربهم) * عينهم التي يشربون منها * (كلوا) * على إرادة القول * (واشربوا من رزق الله) * مما رزقكم الله من الطعام والشراب وهو المن والسلوى وماء العيون ، وقيل : الماء ينبت منه الزروع والثمار فهو رزق يؤكل منه ويشرب (3) ، * (ولاتعثوا) * العثي : أشد الفساد ، أي : لا تتمادوا في الفساد * (مفسدين) * أي : في حال فسادكم .
* (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) * (61) * (وإذ قلتم) * نسب
قول أسلافهم إليهم * (يموسى لن نصبر على طعام وا حد) * أرادوا بالواحد مالا يختلف
ولا يتبدل ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة
-------------------
(1) حكاه البغوي في تفسيره : ج 1 ص 77 عن ابن عباس وعطاء .
(2) ذكره عنه الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 144 .
(3) حكاه في الكشاف : ج 1 ص 144 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 110 _
يداوم عليها كل يوم لا يبدلها جاز أن يقال : لا يأكل فلان إلاطعاما واحدا ، ويراد بالوحدة : نفي التبدل والاختلاف * (فادع لنا) * أي : لأجلنا * (ربك يخرج لنا) * أي :يظهر لنا ويوجد لنا * (مما تنبت الارض من بقلها) * البقل : ما أنبتته الأرض من
الخضر ، والفوم : الحنطة ، ومنه فوموا لنا أي : اختبزوا ، وقيل : هو الثوم (1) .
قيل : إنهم كانوا قوما فلاحة فنزعوا إلى أصلهم ، ولم يريدوا إلا ما ألفوه وضروا به (2) من الأشياء المتفاوتة ، كالبقول والحبوب ونحو ذلك (3) .
سورة البقرة / 62 ـ 64 * (قال أتستبدلون الذى هو أدنى) * أي : هو أقرب منزلة وأدون مقدارا ، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار ، فيقال : هو أدنى (4) المحل وقريب المنزلة ، كما يعبر بالبعد عن عكس ذلك ، فيقال : بعيد المحل وبعيد الهمة ، يريدون الرفعة والعلو * (اهبطوا مصرا) * أي : انحدروا إليه من التيه ، ويمكن أن يريد الاسم العلم ، وصرفه مع اجتماع السببين : العلم والتأنيث لسكون وسطه ، وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد * (وضربت عليهم الذلة) * أي : جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم ، فهم فيها كما أن من ضربت عليه القبة يكون فيها ، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب ، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه ، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة : إما على الحقيقة ، وإما لتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية * (وبآءو بغضب من الله) * أي : صاروا أحقاء بغضبه من قولهم : باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به لمساواته له * (ذا لك) * إشارة إلى ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة
-------------------
(1) نسبه الشيخ في تبيانه : ج 1 ص 275 ، والماوردي في تفسيره : ج 1 ص 129 الى الربيع
بن أنس والكسائي .
(2) ضروا به : تعودوه ، (الصحاح : مادة ضرا) .
(3) قاله الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 145 وقال : ويدل عليه قراءة ابن مسعود : ( وثومها
) .
(4) في بعض النسخ : داني . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 111 _
وكونهم أهل غضبه * (بأنهم كانوا يكفرون) * أي : بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء قتلوا زكريا ويحيى وشعيا وغيرهم * (بغير الحق) * معناه : أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا * (ذا لك) * تكرار للإشارة * (بما عصوا) * بسبب معصيتهم واعتدائهم حدود الله في كل شئ .
* (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) * (62) * (إن الذين ءامنوا) * بألسنتهم وهم المنافقون * (والذين هادوا) * تهودوا ، يقال : هاد وتهود إذا دخل في اليهودية ، وهو هائد والجمع هود * (والنصرى) * جمع نصران ، يقال : رجل نصران ، وامرأة نصرانة ، والنصراني الياء فيه للمبالغة كالتي في أحمري ، لأنهم نصروا المسيح * (والصبين) * من صبأ إذا خرج من الدين ، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية ، وعبدوا الملائكة أو (1) النجوم * (من ءامن) * من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا * (وعمل صلحا فلهم أجرهم) * الذي يستوجبونه بإيمانهم وأعمالهم ، ومحل * (من ءامن) * رفع بالابتداء ، وخبره : * (فلهم أجرهم) * ، لتضمن * (من) * معنى الشرط ، والجملة خبر * (إن) * ، أو نصب بدل من اسم * (إن) * والمعطوف عليه ، وخبر * (إن) * : * (فلهم أجرهم) * .
* (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) * (64)
-------------------
(1) في نسخة : و . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 112 _
* (و) * اذكروا * (إذ أخذنا ميثقكم) * بالعمل على ما في التوراة * (ورفعنا فوقكم الطور) * حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق ، وذلك أن موسى (عليه السلام) جاءهم بالألواح ، فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة فأبوا قبولها ، فأمر جبرئيل فقلع الطور من أصله ورفعه فوقهم ، وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلا ألقي عليكم ، حتى قبلوا وسجدوا لله تعالى ملاحظين إلى الجبل ، فمن ثم يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم * (خذوا) * على إرادة القول ، أي : قلنا : * (خذوا مآ ءاتينكم) * من الكتاب * (بقوة) * أي : بجد ويقين وعزيمة * (واذكروا ما فيه) * وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه * (لعلكم تتقون) * رجاء منكم أن تكونوا متقين * (ثم توليتم) * ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به * (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) * وتوفيقه للتوبة * (لكنتم من الخسرين) * لخسرتم .
* (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) * (66) سورة البقرة / 67 و 68 * (السبت) *
مصدر سبتت (1) اليهود إذا عظمت يوم السبت ، المعنى : * (ولقد) * عرفتم * (الذين اعتدوا منكم) * أي : جاوزوا ماحد لهم في السبت من تعظيمه واشتغلوا بالصيد ، وذلك أن الله ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا ظهر يوم السبت ، فإذا مضى تفرقت ، فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول ، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد ، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ، * (فقلنا لهم كونوا قردة خسين) * أي : كونوا جامعين بين القردية
-------------------
(1) في نسخة : سبت . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 113 _
والخسوء * (فجعلنها) * يعني : المسخة * (نكلا) * عبرة تنكل من اعتبرها ، أي : تمنعه * (لما بين يديها) * لما قبلها * (وما خلفها) * وما بعدها من الأمم والقرون ، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها ، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين ، أو أريد بما بين يديها ما بحضرتها من الأمم * (وموعظة للمتقين) * الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم ، أو لكل متق .
* (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) * (68) كان في بني إسرائيل شيخ موسر قتله قرابة له ليرثوه ، فطرحوه على طريق سبط من أسباط بني إسرائيل ، ثم جاءوا يطلبون بدمه ، فأمرهم الله أن يذبحوا * (بقرة) * ويضربوه ببعضها ليحيى فيخبرهم بقاتله * (قالوا أتتخذنا هزوا) * أتجعلنا أهل هزؤ أو مهزوءا بنا أو الهزؤ نفسه * (قال أعوذ بالله أن أكون من الجهلين) * أي : من المستهزئين ، ليدل على أن الاستهزاء لا يصدر إلا عن الجاهل ، وقرئ : ( هزؤا ) (1) و : ( هزءا ) (2) مثل كفؤا وكفؤا ، وبالضمتين والواو فيهما * (قالوا ادع لنا ربك) * أي : سل لنا ربك ، وكذا هو في قراءة عبد الله (3) * (ماهى) * سؤال عن
حالها
-------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي وشعبة ، راجع السبعة في
القراءات لابن مجاهد : ص 157 ، والتبيان : ج 1 ص 293 ، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 1 ص 247 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 250 .
(2) قرأه حمزة وإسماعيل والمفضل وعبد الوارث ، انظر كتاب السبعة في القراءات لابن
مجاهد : ص 157 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 315 ، والبحر المحيط : ج 1 ص 250 .
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 148 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 114 _
وصفتها ، وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى ، فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن * (قال) * موسى * (إنه) * سبحانه * (يقول إنها بقرة) * لامسنة ولافتية ، فرضت البقرة فروضا أي : أسنت * (عوان بين ذا لك) * أي : نصف وسط بين الصغيرة والكبيرة ، وجاز دخول * (بين) * على * (ذا لك) * ، لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر ، وجاز أن يشار به إلى مؤنثين لأنه في تأويل ما ذكر وما تقدم * (فافعلوا ما تؤمرون) * أي : ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به ، ويجوز أن يكون بمعنى أمركم أي : مأموركم ، تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير .
* (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ) * (71) سورة البقرة / 70 و 71 * (فاقع) * توكيد ل * (صفراء) * (1) ، ولم يقع خبرا عن ( اللون ) ، و * (لونها) * فاعله ، لأن اللون من سبب الصفراء ومتلبس بها ، فلا فرق بين أن يقول : صفراء فاقع لونها وصفراء فاقعة ، وعن وهب : إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها (2) .
والسرور : لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه ، وقولهم : * (ماهى) * مرة ثانية تكرير للسؤال عن حالها وصفتها ليزدادوا بيانا لوصفها .
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال : ( لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ،
-------------------
(1) في نسخة زيادة : كما يقال : أسود هالك .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 148 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 115_
ولكن شددوا فشدد الله عليهم ، والاستقصاء شؤم (1) .
* (إن البقر تشبه علينا) * أي : إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح * (وإنآ إن شآء الله لمهتدون) * إلى البقرة المراد ذبحها ، أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل .
وفي الحديث : ( لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد ) (2) أي : لو لم يقولوا : * (إن شآء الله) * .
* (لاذلول) * لم تذلل للكراب (3) وإثارة الأرض * (ولا) * هي من النواضح ، ف * (تسقى الحرث) * و * (لا) * الأولى للنفي والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى : لا ذلول تثير (4) وتسقي ، على أن الفعلين صفتان ل ( ذلول ) ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية * (مسلمة) * سلمها الله تعالى من العيوب ، أو معفاة من العمل سلمها أهلها منه ، أو مخلصة اللون من سلم له كذا إذا خلص له * (لاشية فيها) * لم يشب صفرتها شئ من الألوان ، فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها ، وهي في الأصل مصدر وشاه وشيا وشية : إذا خلط بلونه لونا آخر ، ومنه ثور موشي القوائم * (قالوا الن جئت بالحق) * أي : بحقيقة وصف البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها * (فذبحوها) * ، وقوله : * (وما كادوا يفعلون) * استبطاء لهم واستثقال لاستقصائهم ، أي : ما كادوا يذبحونها وما كادت تنتهي سؤالاتهم ، وقيل : وما كادوا
-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 151 ، ونحوه السمرقندي في تفسيره : ج 1 ص 128 ـ
129 .
(2) رواه الطبري في تفسيره : ج 1 ص 390 ، وعنه السيوطي في الدر المنثور : ج 1 ص 190 ،
ونحوه السمرقندي في تفسيره : ج 1 ص 129 ، والقرطبي أيضا في تفسيره : ج 1 ص 452 .
(3) الكراب : حرث الأرض للزرع ، (القاموس المحيط : مادة كرب) .
(4) في نسخة زيادة : الأرض. (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 116 _
يذبحونها لغلاء ثمنها (1) ، وقيل : لخوف الفضيحة في ظهور القاتل (2) .
فأما اختلاف العلماء في أن تكليفهم كان واحدا وهو ذبح البقرة المخصوصة باللون والصفات أو كان متغايرا وكلما راجعوا تغيرت مصلحتهم إلى تكليف آخر فمذكور في كتاب مجمع البيان (3) ، فمن أراد ذلك فليقف عليه هناك .
والنسخ قبل الفعل جائز ، وقبل وقت الفعل غير جائز ، لأنه يؤدي إلى البداء .
* (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) * (73) سورة البقرة / 74 خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم * (فاداراتم) * أي : اختلفتم * (فيها) * واختصمتم في أمرها ، لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي : يدفعه ، أو تدافعتم بأن طرح بعضكم قتلها على بعض فدفع المطروح عليه الطارح ، أو دفع بعضكم بعضا عن البراءة واتهمه * (والله مخرج) * أي : مظهر * (ما كنتم تكتمون) * ـ ه من أمر القتل (4) ولا يتركه مكتوما ، وهذه جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه وهما (ادارأتم ) و ( قلنا ) ، والضمير في * (اضربوه) * إما أن يرجع إلى النفس على تأويل الشخص ، أو إلى القتيل لما دل عليه قوله : * (ما كنتم تكتمون) * ، * (ببعضها) * ببعض البقرة ، والتقدير : فضربوه فحيي * (كذا لك يحى الله الموتى) * فحذف لأن ما أبقي يدل على ما ألقي ، روي : أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما ، وقال : قتلني فلان ، فقتل ولم يورث قاتل بعد ذلك (5) * (ويريكم ءايته) * دلائله
-------------------
(1) قائل ذلك ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 11 ، وتفسير الماوردي : ج 1 ص 141 .
(2) نسبه الماوردي في تفسيره : ج 1 ص 142 الى وهب .
(3) في ج 1 ـ 2 ص 136 فراجع .
(4) في نسخة : القتيل .
(5) رواها الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 153 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 117 _
على أنه قادر على كل شئ * (لعلكم تعقلون) * أي : تعملون (1) على قضية عقولكم في أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء النفوس كلها ، لعدم الاختصاص حتى لا تنكروا البعث .
وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتل (2) مع تقدمه ، لأن الغرض ذكر قصتين كل واحدة منهما تختص بنوع من التقريع ، فلو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة وذهب الغرض في ذلك .
* (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) * (74) * (ثم قست قلوبكم من بعد
ذا لك) * المعنى في * (ثم) * استبعاد القسوة من بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب
ورقتها من إحياء القتيل وغير ذلك من الآيات * (فهى) * في قسوتها مثل الحجارة * (أو
أشد قسوة) * منها ، والمعنى : أن من عرفها شبهها بالحجارة أو قال : هي أقسى من
الحجارة ، أو من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها * (وإن من الحجارة) *
بيان لفضل قسوة قلوبهم على الحجارة ، والتفجر : التفتح بالسعة والكثرة ، والمعنى : أن
من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير * (وإن منها لما يشقق) * أي :
يتشقق ، أدغم التاء في الشين ، أي : ينشق طولا أو عرضا فينبع منه الماء * (وإن منها
لما يهبط) * أي : يتردى من أعلى الجبل ، والخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله، وقلوب
هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل (3) ما أمرت به * (وما الله بغفل عما تعملون) * أيها المكذبون،
-------------------
(1) في نسخة : تعلمون .
(2) في نسخة : القتيل .
(3) في نسخة : تعقل ، وفي اخرى : تقبل . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 118 _
ومن قرأ بالياء (1) فالمراد : عما يعمل هؤلاء أيها المسلمون .
* (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) * (75) الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمين ، أي : * (أفتطمعون أن يؤمنوا) * لأجل دعوتكم فيستجيبوا * (لكم) * كما قال : * (فامن له لوط) * (2)، * (وقد كان فريق منهم) * أي : طائفة من أسلاف اليهود * (يسمعون كلم الله) * في التوراة * (ثم يحرفونه) * كما حرفوا صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآية الرجم * (من بعد
ما عقلوه) * أي : فهموه وضبطوه ولم يبق لهم شبهة في صحته * (وهم يعلمون) * أنهم
كاذبون ، يعني : إن حرف هؤلاء فلهم سابقة في ذلك .
* (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) * (77) سورة البقرة / 78 * (وإذا لقوا الذين ءامنوا) * يعني : اليهود * (قالوا ءامنا) * بأنكم على الحق ، وبأن محمدا (صلى الله عليه وآله) هو النبي المبشر به في التوراة * (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) * أي : صاروا في الموضع الذي ليس فيه غيرهم * (قالوا) * أي: قال بعضهم لبعض * (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) * بما بين لكم في التوراة من صفة محمد (صلى الله عليه وآله) * (ليحاجوكم به عند ربكم) * ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه ، جعلوا محاجتهم به وقولهم : هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله، كما يقال : هو عند الله
-------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن ، راجع كتاب السبعة في القراءات لان مجاهد : ص
160 ، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 1 ص 248 ، وتفسير البغوي : ج 1 ص 87 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 267 .
(2) العنكبوت : 26 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 119 _
هكذا ، أو هو في كتاب الله هكذا بمعنى واحد ، أو يكون المراد ليكون لهم الحجة عليكم عند الله في إيمانهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) إذ كنتم مخبرين بصحة أمره من كتابكم * (أفلا تعقلون) * أن ذلك حجة عليكم * (أولا) * يعلم هؤلاء اليهود * (أن الله يعلم ما يسرون) * من الكفر * (وما يعلنون) * من الإيمان .
* (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) * (78) * (أميون) * لا يحسنون الكتابة فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها * (لا يعلمون الكتب) * أي : التوراة * (إلاأمانى) * إلا ماهم عليه من أمانيهم : أن الله يعفو عنهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وقيل : إلا أكاذيب مختلقة (1) من علمائهم فيقبلونها على التقليد (2) ، كما قال أحدهم : هذا شئ رويته أم تمنيته ، أي : اختلقته ، وقيل : إلا مايقرؤون (3) ، من قول الشاعر : تمنى كتاب الله أول ليله (4) وهذا من الاستثناء المنقطع كقوله : * (مالهم به من علم إلا اتباع الظن) * (5) ، * (وإن هم) * أي : وماهم * (إلا يظنون) * أي : يشكون وهم متمكنون من العلم بالحق .
* (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) * (79) *
-------------------
(1) في بعض النسخ : مختلفة .
(2) نسبه الماوردي في تفسيره : ج 1 ص 150 وابن كثير أيضا في تفسيره : ج 1 ص 111 الى
ابن عباس ومجاهد .
(3) قاله الفراء في معاني القرآن : ج 1 ص 49 ، وأورده في مجمع البيان : ج 1 ـ 2 ص 145
ونسبه الى الكسائي والفراء .
(4) البيت غير منسوب لأحد ، وعجزه : وآخره لاقى حمام المقادر ، انظر العين للفراهيدي : ج 8 ص 390 ، ولسان العرب : مادة ( مني ) ، والكشاف : ج 1 ص 157 .
(5) النساء : 157 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 120_
(فويل للذين يكتبون الكتب) * المحرف * (بأيديهم) * تأكيد ، كما تقول : رآه بعينه وسمعه بأذنه ، والويل : كلمة التحسر والتفجع وهو في الآية العذاب * (ليشتروا به ثمنا قليلا) * أي : ليأخذوا به ما كانوا يأخذونه من عوامهم من الأموال ، وصفه بالقلة لأن متاع الدنيا قليل ، وقوله : * (مما يكسبون) * أي : من الرشى .
* (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) * (80) وقالت اليهود : * (لن تمسنا النار) * أي : لن تصيبنا النار * (إلا أياما معدودة) * أي : قلائل أربعين يوما عدد أيام عبادة العجل ، وعن مجاهد : قالوا : مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما (1) ، * (فلن يخلف الله عهده) * متعلق بمحذوف تقديره : إن اتخذتم عنده عهدا فلن يخلف الله عهده ، و * (أم) * إما أن تكون معادلة لهمزة لاستفهام بمعنى : أي الأمرين كائن على سبيل التقرير ، لأن العلم واقع بكون أحدهما ، وإما أن تكون منقطعة بمعنى : بل أتقولون . * (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) * (82) سورة البقرة / 83 * (بلى) * إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله : * (لن تمسنا النار) * أي : بلى تمسكم النار على سبيل الخلود بدلالة قوله : * (هم فيها خلدون) * ، والسيئة هنا :
-------------------
(1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 1 ص 152 ـ 153 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 121 _
الشرك ، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة (1) وغيرهم (2) وهو الصحيح ، لأن ما عدا الشرك لا يستحق به الخلود في النار عندنا (3) * (وأحطت به خطيته) * أي : أحدقت به من كل جانب كقوله : * (وإن جهنم لمحيطة بالكفرين) * (4) ، أو أهلكته كقوله : * (إلا أن يحاط بكم) * (5) و * (أحيط بثمره) * (6) ، والمراد : سدت عليه طريق النجاة ، وقيل : المراد بذلك
الإصرار على الذنب (7) .
وفي قوله : * (والذين ءامنوا) * الآية وعد لأهل التصديق والطاعة بالثواب (8) الدائم كما أوعد قبله أهل الجحود والإصرار على الكبائر الموبقة
بالعقاب الدائم .
* (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ) * (83) * (لا تعبدون) * إخبار في معنى النهي ، كما يقال : تذهب إلى فلان تقول له كذا وكذا ، يراد به الأمر ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي ، لأنه كأنه قد سورع إلى امتثاله فأخبر عنه ، ويؤيده قراءة عبد الله وأبي : ( لا تعبدوا ) (9) ، ولابد من إرادة
-------------------
(1) هو قتادة بن دعامة بن وائل السروسي البصري التابعي ، ولد أعمى ، سمع أنس بن مالك
وغيره من التابعين ، وروى عنه جماعة من التابعين ، توفي سنة 117 ه ، وقيل : 118 ه وهو ابن ست وخمسين ، وقيل : ابن خمس وخمسين ، (تهذيب الأسماء واللغات : ج 2 ص 157) .
(2) ذكره البغوي في تفسيره : ج 1 ص 89 وزاد : عطاء والضحاك والربيع وأبا العالية .
(3) انظر التفسير المنسوب الى الإمام العسكري (عليه السلام) : ص 304 ـ 305 ح 147 ،
والتبيان : ج 1 ص 325 ، وتفسير الميزان : ج 1 ص 216 .
(4) التوبة : 49 .
(5) يوسف : 66 .
(6) الكهف : 42 .
(7) قاله عكرمة والربيع بن خيثم على ما حكاه عنهما البغوي في تفسيره : ج 1 ص 89 ،
وأورده المصنف في مجمع البيان : ج 1 ص 148 ونسبه الى عكرمة ومقاتل .
(8) في نسخة : بالصواب .
(9) حكاه عنهما الزمخشري في كشافه : ج 1 ص 159 ، وأبو حيان في بحره : ج 1 ص 282 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 122 _
القول ، ويدل عليه قوله : * (وقولوا) * ، وتقدير قوله : * (وبالوالدين إحسانا) * : وتحسنون بالوالدين إحسانا أو أحسنوا ، وقيل : إن قوله : * (لا تعبدون) * جواب القسم ، لأن أخذ الميثاق في معنى القسم ، كأنه قيل : وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون (1) ، وقيل : معناه أن لا تعبدوا فلما حذف ( أن ) رفع (2) ، كقوله : ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى (3) سورة البقرة / 84 و 85 * (وذى القربى) * أي : وبذي القربى أن تصلوا قرابته ، وباليتامى أن تعطفوا عليهم بالشفقة والرأفة ، وبالمساكين أن تؤتوهم حقوقهم * (وقولوا للناس حسنا) * أي : قولا هو حسن في نفسه لإفراط حسنه ، وقرئ : ( حسنا ) (4) و ( حسنى ) (5) على المصدر كبشرى ، وعن الباقر (عليه السلام) : ( قولوا للناس ما تحبون أن يقال
لكم ) (6) * (وأقيموا الصلوة) * أي : أدوها بحدودها وأركانها * (وءاتوا الزكوة) * أعطوها أهلها * (ثم توليتم) * هذا على طريق الالتفات ، أي : توليتم عن الميثاق وتركتموه * (إلا قليلا منكم) * وهم الذين أسلموا منهم * (وأنتم معرضون) * عادتكم الإعراض عن المواثيق .
-------------------
(1) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 1 ص 162 ، والزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 159 .
(2) راجع معاني القرآن وإعرابه للزجاج : ج 1 ص 162 ، والبغوي في تفسيره : ج 1 ص 90 .
(3) البيت لطرفة بن العبد ، وعجزه : وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي ؟ راجع ديوانه : ص
31 ، وخزانة الأدب: ج 1 ص 119 و 463 ، وج 8 ص 507 و 579 .
(4) بفتح الحاء والسين وهي قراءة حمزة والكسائي ويعقوب والمفضل وخلف والأعمش ، راجع
كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 162 ، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 1 ص250 ، والتيسير في القراءات للداني : ص 74 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 316 ، وتفسير البغوي : ج 1 ص 90، والبحر المحيط : ج 1 ص 284 .
(5) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ونافع والحسن وابي وطلحة بن مصرف ، راجع كتاب
السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 162 ، والبحر المحيط : ج 1 ص 285 .
(6) الكافي : ج 2 ص 165 ح 10 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 123 _
* (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ) * (84) * (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم) * أي : لا يفعل ذلك بعضكم ببعض ، جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلا أو دينا ، وقيل : المعنى فيه أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه (1) * (ثم أقررتم) * بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه * (وأنتم تشهدون) * عليها ، وقيل : أنتم تشهدون اليوم يا معاشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق (2) .
* ( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) * (85) * (ثم أنتم هؤلاء) * استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم ، يعني : ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون ، يعني : أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين تنزيلا لتغير الصفة منزلة تغير الذات ، كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به ، وقوله : * (تقتلون) * بيان لقوله : * (ثم أنتم هؤلاء) * ، وقيل : * (هؤلاء) * موصول بمعنى ( الذين ) (3) ، وقرئ :
-------------------
(1) ذكره الرازي في تفسيره : ج 3 ص 171 .
(2) حكاه الزمخشري في تفسيره : ج 1 ص 160 ، والبغوي أيضا في تفسيره : ج 1 ص 90 .
(3) قاله الزمخشري في تفسيره : ج 1 ص 160 ، والرازي أيضا في تفسيره : ج 1 ص 172 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 124 _
(تظهرون) * بحذف التاء (1) و ( تظاهرون ) بإدغامها (2) ، والأصل تتظاهرون ، أي : تتعاونون عليهم * (وإن يأتوكم أسرى) * وقرئ : ( أسرى ) (3) * (تفدوهم) * أي : وأنتم مع قتلكم من تقتلون منهم إذا وجدتموه (4) أسيرا في أيدي غيركم فديتموهم ، وقتلكم وإخراجكم إياهم من ديارهم حرام عليكم كما أن تركهم أسارى في أيدي غيركم حرام عليكم ، فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم ؟ ! وقرئ : * (تفدوهم) * لأن الفعل بين اثنين ، و * (هو) * ضمير الشأن و * (محرم عليكم إخراجهم) * خبره ، ويجوز أن يكون مبهما تفسيره * (إخراجهم) * ، * (أفتؤمنون ببعض الكتب) * أي : بالفداء * (وتكفرون ببعض) * أي : بالقتال والإجلاء ، وذلك أن قريظة كانوا حلفاء الأوس، والنضير كانوا حلفاء الخزرج ، فكان كل فريق منهم يقاتل مع حلفائه ، فإذا غلبوا خربوا ديارهم سورة البقرة / 86 و 87 وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين فدوه .
والخزي : قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير ، وقيل : الجزية (5) * (ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب) * الذي أعده الله لأعدائه ، وقرئ : ( تردون ) (6) و ( يعملون ) بالتاء والياء (7) .
-------------------
(1) قرأه الكوفيون، راجع التذكرة في القراءات السبعة لابن غلبون : ج 2 ص 317 ،
والسبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 163، والبحر المحيط : ج 1 ص 291 .
(2) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر ، راجع التبيان : ج 1 ص 334 ، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 163 ، والبحر المحيط : ج 1 ص 291 .
(3) قرأه حمزة والحسن وابن وثاب وطلحة وابن أبي اسحاق وعيسى والأعمش والنخعي ، انظر
الحجة في علل القراءات السبع لأبي علي الفارسي : ج 2 ص 109 ، والتذكرة في القراءات
لابن غلبون : ج 2 ص 317 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 1 ص 291 .
(4) في نسخة : وجدتموهم .
(5) حكاه الرازي في تفسيره : ج 3 ص 174 عن الحسن .
(6) وهي قراءة عبد الرحمن السلمي كما نسبه إليه ابن خالويه في شواذ القرآن : ص 15 ،
وزاد في البحر المحيط : ج 1 ص 294 : ابن هرمز .
(7) قرأه الحرميان وأبو بكر والمفضل ويعقوب وخلف ، راجع التذكرة في القراءات لابن =
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 125_
* ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) * (86) أي : رضوا ب * (الحيوة الدنيا) * عوضا من نعيم الآخرة * (فلا يخفف عنهم) * عذاب الدنيا بنقصان الجزية وكذلك عذاب الآخرة * (ولا هم ينصرون) * أي : لا ينصرهم أحد بالدفع عنهم .
* ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) * (87) * (الكتب) * التوراة ، آتاه إياها جملة واحدة *
(وقفينا) * أي : أتبعنا ، من القفا ، وقفاه به : أتبعه إياه ، أي : أرسلنا على إثره كثيرا من الرسل ، كقوله : * (ثم أرسلنا رسلنا تترا) * (1) ، و * (عيسى) * بالسريانية : أيشوع ، و * (مريم) * بمعنى الخادم * (البينت) * المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والإخبار بالمغيبات * (وأيدنه بروح القدس) * بالروح المقدسة ، كما يقال : حاتم الجود ، لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، وقيل : بجبرئيل (2) ، وقيل : باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره (3) .
-------------------
= غلبون : ج 2 ص 317، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 1 ص 252 ـ 253 ، والبحر
المحيط : ج 1 ص 294 .
(1) المؤمنون : 44 .
(2) وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والسدي والضحاك ، راجع تفسير ابن عباس :
ص 13 ، وتفسير الحسن البصري : ج 1 ص 107 ، وتفسير الماوردي : ج 1 ص 156 ، والتبيان : ج 1 ص 340 وقال : وهو أقوى الأقوال .
(3) قاله الضحاك عن ابن عباس كما حكاه عنه الشيخ في التبيان : ج 1 ص 340 ، والماوردي
في تفسيره : ج 1 ص 156 . (*)