3 ـ ( حَتّى إِذاجاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ قالَرَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلّي أَعْمَلُ صالِحاً فيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْم يُبْعَثُون ) (1) .
  إنّ الكافر حينما يواجه الموت يجد مستقبل حياته مظلماً وكأنّه يشاهد العذاب الاَليم بأم عينه بعد موته فيتمنّى الرجوع إلى الحياة الدنيا ، فيجاب بـ (كَلاّ) وما يشاهده ليس إلاّ عذاباً برزخياً لا عذاباً أُخروياً ولذلك يقول سبحانه ( وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوم يُبْعَثُون ) .
  هذه الآيات وغيرها تعرب عن بقاء الحياة بعد الانتقال عن نشأة الدنيا ، وإن أطلق الموت عليه فإنّما هو باعتبار انتهاء أمد حياته الدنيوية و اندثار بدنه وأمّا روحه ونفسه فهي باقية بنحو آخر تتنعم أو تعذَّب.
  الصلة بين الحياتين : الدنيوية والبرزخية ربما يمكن أن يقال : انّ الآيات دلت على كون الشهداء والاَولياء بل الكفار أحياء ، ولكن لا دليل على وجود الصلة بين الحياتين وانّهم يسمعون كلامنا ، وهذا هو الذي نطرحه في المقام ونقول : دلّ الذكر الحكيم على وجود الصلة بين الحياة الدنيوية والبرزخية بمعنى انّ الاَحياء بالحياة البرزخية يسمعون كلامنا

--------------------
(1) المؤَمنون | 99 ـ 100.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 112 _
  ويشاهدون أفعالنا ، وليسوا بمنقطعين تمام الانقطاع عن الحياة الدنيوية وإليك شواهد من الآيات :
  1 ـ قال سبحانه : ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمينَ* فَتَولّى عَنْهُمْ وَقالَيا قَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصحينَ ) (1) .
  نزلت الآيات في قصة النبي صالح حيث دعا قومه إلى عبادة اللّه وترك التعرض لمعجزته (الناقة) وعدم مسِّها بسوء ، ولكنّهم بدل ذلك فقد عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم فعمَّهم العذاب فأصبحوا في دارهم جاثمين ، فعند ذلك عاد النبي صالح يخاطبهم وهم هلكى ، بقوله : ( فَتَولى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحينَ ) .
  وقد صدر الخطاب من النبي صالح (عليه السلام) بعد هلاكهم وموتهم ، بشهادة قوله : ( فتَولّى عَنْهُم ) في صدر الخطاب المصدرة بالفاء المشعرة بصدور الخطاب عقيب هلاك القوم.
  فلو لم تكن هناك صلة بين الحياتين لما خاطبهم النبي صالح بهذا الخطاب.
  2 ـ قال سبحانه : ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ

--------------------
(1) الاَعراف | 78 ـ 79.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 113 _
  جاثِمينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوا فِيها الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرينَ * فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَومٍ كافِرينَ ) (1) .
  وقد وردت هذه الآية في حقّ النبي شعيب (عليه السلام) ودلالة الآية كدلالة سابقتها ، حيث يخاطب شعيبُ قومَه بعد هلاكهم ، فلو كانت الصلة مفقودة ولم يكن الهالكون بسبب الرجفة سامعين لخطاب نبيهم ، فما معنى خطابه لهم ؟
  3 ـ قال سبحانه : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ الِهَةً يُعْبَدُونَ ) (2) .
  ترى انّه سبحانه يأمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسوَال الاَنبياء الذين بعثوا قبله وأمّا مكان السوَال فلعلّه كان في ليلة الاسراء.

السنة الشريفة والصلة بين الحياتين
  ثمة روايات متضافرة بل متواترة تدل على وجود الصلة بين الحياتين ، وجمع هذه الروايات بحاجة إلى تأليف كتاب مفرد.
  ونكتفي هنا بالحديث المتفق عليه بين المسلمين وهو تكليم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أهل القليب.

--------------------
(1) الاَعراف | 91 ـ 93.
(2) الزخرف |45.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 114 _
  لقد انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين وهزيمة المشركين قتل منهم قرابة سبعين من صناديدهم وساداتهم وطرحت جُثث قتلاهم في القليب ، فوقف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخاطبهم واحداً تلو الآخر ، ويقول : يا أهل القليب ، يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، يا أُمية بن خلف ، يا أباجهل ، و هكذا عدَّ من كان منهم بالقليب ، وقال : هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً فانّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً ؟!
  فقال له أصحابه : يا رسول اللّه أتنادي قوماً موتى ؟!
  فقال (عليه السلام) : ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم ، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
  يقول ابن هشام بعد هذا النقل : إنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذَّبتموني وصدَّقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس.
  ثمّ قال : هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّاً ؟! (1) .
  أخرج البخاري : عن نافع انّ ابن عمر أخبره ، قال : اطّلع النبي (عليه السلام) على أهل القليب ، فقال : وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً ؟!
  فقيل له : ندعوا أمواتاً ، فقال : ما أنتم بأسمع منهم ، ولكن لا يجيبون (2) .

--------------------
(1) السيرة النبوية : 1|649 ، السيرة الحلبية :2|179 و 180.
(2) صحيح البخاري : 9|98 ، باب ما جاء في عذاب القبر من كتاب الجنائز.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 115 _
  وأخيراً نقول : إنّجميع المسلمين ـ على الرغم من الخلافات المذهبية بينهم في فروع الدين ـ يسلمون على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الصلاة عند ختامها ويقولون : ( السّلام عليك أَيُّها النَّبيّ ورَحمة اللّه وبركاته ) .
  وقد أفتى الاِمام الشافعي وآخرون بوجوب هذا السلام بعد التشهد ، وأفتى الآخرون باستحبابه ، لكن الجميع متفقون على أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علمهم السلام وانّ سنة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثابتة في حياته وبعد وفاته (1) .
  فلو انقطعت صلتنا بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بوفاته ، فما معنى مخاطبته والسلام عليه يومياً ؟!

سوَال و جواب
  لو كانت الصلة بيننا وبين من فارقوا الحياة موجودة فما معنى قوله سبحانه : ( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوتى )(2) وقوله سبحانه : ( وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُور ) (3) .
  والجواب : بملاحظة الآيات السابقة هو انّ المراد من الاِسماع ، الاِسماع المفيد ، ومن المعلوم انّسماع الموتى أو من في

--------------------
(1) تذكرة الفقهاء :3|333 ، المسألة 294 ، الخلاف : 1|47.
(2) الروم | 52.
(3) فاطر | 22.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 116 _
  القبور لا يجدي نفعاً بعدما ماتوا كافرين ، وإلاّ فهذا هو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، يقول : ( الميت يسمع قرع النعال ) في حديث أخرجه البخاري عن أنس بن مالك عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه حتى أنّه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيُقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيقول : أشهد انّه عبد اللّه ورسوله إلى آخر ما نقل (1) .
  وقد مرّ انّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يزور القبور ، و يخرج آخر الليل إلى البقيع ، فيقول : السّلام عليكم دار قوم موَمنين وأتاكم ما توعدون ، غداً مأجلون وانّا إن شاء اللّه بكم لاحقون ، اللّهمّ اغفر لاَهل بقيع الغرقد (2) .
  اتّفق المسلمون على تعذيب الميت في القبر ، أخرج البخاري عن ابنة خالد بن سعيد بن العاص انّها سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يتعوذ من عذاب القبر ، وأخرج عن أبي هريرة كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يدعو : اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر و من عذاب النار (3) .
  كلّ ذلك يدل على أنّ المراد من نفي الاسماع هو الاسماع المفيد .
  تحقيقاً لقوله سبحانه : ( حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ قالَ رَبِّ ارجِعُونِ * لَعَلّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ

--------------------
(1) البخاري : الصحيح : 2|90 ، باب الميت يسمع خفق النعال.
(2) صحيح مسلم :3|63 ، باب ما يقال عند دخول القبور من كتاب الجنائز.
(3) البخاري : الصحيح : 2|99 ، باب التعوذ من عذاب القبر من كتاب الصلاة.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 117 _
  وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَومِ يُبْعَثُون ) (1) حيث إنّ الآية صريحة في ردّ دعوة الكفّار حيث طلبوا من اللّه سبحانه أن ُيُرجعهم إلى الدنيا حتى يعملوا صالحاً ، فيأتيهم النداء ( بكلا ) فيكون تمنيهم بلا جدوى ولا فائدة كما انّ سماع الموتى كذلك ، لا انّهم لا يسمعون أبداً ، إذ هو مخالف لما مرّ من صريح الآيات والروايات.
  هـ ـ طلب الشفاعة اتّفقت الاَُمّة الاِسلامية على انّ الشفاعة أصل من أُصول الاِسلام نطق به الكتاب والسنّة النبوية ، وأحاديث العترة الطاهرة ، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين وإن اختلفوا في بعض خصوصياتها.
  وأجمع العلماء على أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحد الشفعاء يوم القيامة ، إلاّ أنّ الكلام في المقام في طلب الشفاعة من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهل يجوز أن نقول : يا رسول اللّه اشفع لنا عند اللّه ، كما يجوز أن نقول : اللّهمّ شفّع نبيّنا محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فينا يوم القيامة ، أو لا يجوز ؟ تظهر حقيقة الحال من خلال الوجوه التالية :
  الوجه الاَوّل : انّ حقيقة الشفاعة ليست إلاّ دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو الولي (عليه السلام) في حقّ المذنب وإذا كانت هذه حقيقتَها فلا مانع من طلبها من الصالحين ، لاَنّ غاية هذا

--------------------
(1) الموَمنون | 99 ـ 100.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 118 _
  الطلب هو طلب الدعاء ، فلو قال القائل : ( يا وجيهاً عند اللّه اشفع لنا عند اللّه ) يكون معناه ادع لنا عند ربّك فهل يرتاب في جواز ذلك مسلم ؟
  والدليل على أنّ الشفاعة هو طلب الدعاء ، ما أخرجه مسلم ، عن عبد اللّهبن عباس ، انّه قال : سمعت رسول اللّه يقول : ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون باللّه شيئاً إلاّ شفّعهم اللّه فيه (1) .
  قُبل شفاعتهم فيه وليست شفاعتهم إلاّ دعاوَهم له بالغفران.
  وعلى هذا فلا وجه لمنع الاستشفاع بالصالحين إذا كان مآله إلى طلب الدعاء.
  الوجه الثاني : انّ سيرة المسلمين تكشف عن جواز طلب الشفاعة في عصر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعده.
  أخرج الترمذي في سننه عن أنس قال : سألت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يشفع لي يوم القيامة ، فقال : أنا فاعل ، قال : قلت يا رسول اللّه فأين أطلبك؟ فقال : اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط (2) .
  نقل ابن هشام في سيرته : انّه لما توفّي رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كشف أبو بكر عن وجهه و قبله ، وقال : بأبي أنت و أُمّي أما الموتة التي كتب اللّه عليك فقد ذقتها ، ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبداً (3) .

--------------------
(1) صحيح مسلم :3|53 ، باب من صلّى عليه أربعون شفعوا فيه من كتاب الجنائز.
(2) سنن الترمذي :4|621 ، كتاب صفة القيامة.
(3) السيرة النبوية : 2|656 ، ط عام 1375 هـ و هو يدل على وجود الصلة بين الاحياء والاَموات وقد جئنا به لتلك الغاية.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 119 _
  وقال الرضي في نهج البلاغة : لما فرغ أمير الموَمنين (عليه السلام) من تغسيل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال كلاماً و في آخره : بأبي أنت و أُمّي طبت حياً وطبت ميتاً أذكرنا عند ربّك (1) .
  انّ كلام الاِمام يدلّ على عدم الفرق في طلب الشفاعة من الشفيع في حين حياته وبعد وفاته ، وقد كان الصحابة يطلبون الدعاء من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد وفاته.
  وتصور انّ طلب الشفاعة من الشفيع الواقعي شرك تصور خاطىَ ، فانّ المراد من الشرك في المقام هو الشرك في العبادة ، وقد علمت انّمقومه هو الاعتقاد بأُلوهية المدعوّ أو ربوبيته أو كون مصير العبد بيده ، وليس في المقام من ذلك شيء.
  إنّ طالب الشفاعة من الشفعاء الصالحين ـ الذين أذن اللّه لهم بالشفاعة ـ إنّما يعتبرهم عباداً للّه مقربين لديه ، وجهاء فيطلب منهم الدعاء ، وليس طلب الدعاء من الميت عبادة له ، وإلاّلزم كون طلبه من الحي عبادة لوحدة واقعية العمل.
  وقياس طلب الشفاعة من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بطلب الوثنيين الشفاعةَ من الاَصنام قياس مع الفارق ، لاَنّ المشركين كانوا على اعتقاد بأُلوهية معبوداتهم وربوبيتها ، و أين هذا من طلب الموحد الذي لا يراه إلهاً ولا ربّاً ولامن بيده مصير حياته ؟! وإنّما تعتبر الاَعمال بالنيات لا بالصور والظواهر.

--------------------
(1) نهج البلاغة : رقم الخطبة 23 .

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 120 _
6 ـ انتفاع الموتى بأعمال الاَحياء
  ينتفع الاِنسان بالاِيمان إذا انضمّ إليه العمل الصالح ولا ينفع إيمان تجرد عن العمل ، ولاَجل ذلك قرن اللّه سبحانه العمل الصالح إلى جانب الاِيمان في أكثر الآيات ، وقال : ( إِلاّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات ) (1) .
  فالاعتماد على الاِيمان مجرداً عن العمل فعل الحَمْقى.
  وهذا هو الاِمام أمير الموَمنين علي (عليه السلام) يوَكد في خطبته على العمل ، إذ يقول : ( فَاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل ) (2) .
  ويقول في خطبة أُخرى : ( ألا وإنّ اليوم المضمار وغداً السباق و السَّبقَة الجنةُ والغايةُ النارُ ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته ، ألا عامل لنفسه قبل يوم بوَسه ) (3) .

انتفاع الاِنسان بعمله وعمل غيره
  كما أنّ الاِنسان ينتفع بعمل نفسه كصلاته و صومه كذلك ينتفع بعمل غيره إذا كان له دور فيه كما إذاخلَّف أعمالاً خيرية يستفيد منه الناس كصدقة جارية أجراها أو إذا ترك علماً ينتفع به أو

--------------------
(1) العصر | 3.
(2) نهج البلاغة : الخطبة 42.
(3) نهج البلاغة : الخطبة 27.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 121 _
  ربّى ولداً صالحاً يدعو له ، فهو ينتفع بصدقاته وعلومه ودعاء ولده.
  ونظيره الجسر الذي بناه ، والنهر الذي أجراه ، والمدرسة التي شيّدها ، والطريق الذي عبّده ، فقد ينتفع به لاَنّها أعمال قام بها بنفسه باقية بعد موته.
  أخرج مسلم في صحيحه انّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال : ( إذا مات الاِنسان انقطع عنه عمله إلاّمن ثلاثة : إلاّ من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) (1) .
  وأخرج مسلم ، عن جرير بن عبد اللّه ، قال : قال رسول اللّه : من سنَّ في الاِسلام سنّة حسنةفعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أُجورهم شيء ، ومن سنَّ في الاِسلام سنّة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء (2) .
  ففي هذا المورد ينتفع الميت بعد موته بعمل الغير لقيامه في ترغيب ذلك الغير وتشويقه إلى فعله ، فانّ من سنّ سنة حسنة كأنّه يدعو الغير بعمله هذا إلى الاقتداء به.
  إنّما الكلام فيما إذا لم يكن للميت نصيب في العمل ، فهل يصل ثواب عمل الغير إليه إذا أهدى صاحب العمل ثوابه إليه ؟

--------------------
(1) صحيح مسلم : 5|73 ، باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت من كتاب الهبات.
(2) صحيح مسلم : 8|61 ، باب ( من سنّ سنة حسنة أو سيئة ) من كتاب العلم.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 122 _
  فالظاهر من الكتاب والسنّة انّه سبحانه بعميم فضله وواسع جوده يوصل ثواب عمل الغير إلى الميت فيما إذا قام الغير بعمل صالح نيابة عنه وبعث ثوابه إليه ، ويدل عليه لفيف من الآيات والروايات.
  1 ـ استغفار الملائكة للموَمنين قال تعالى : ( الَّذينَ يَحْمِلُونَ الْعَرشَ وَمَنْحَولَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُوَْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذينَ آمَنُوا رَبّنا وَسِعتَ كُلّشَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحيم ) (1) .
  وقال تعالى : ( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الاََرْضِ أَلا إِنّ اللّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيم ) (2) .
  2 ـ دعاء الموَمنين للسابقين إلى الاِيمان ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَلاِِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالاِِيمان وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَوَُوفٌ رَحيمٌ ) (3) .
  فلو لم يكن لاستغفار الملائكة ودعاء الموَمنين للتابعين سبيل

--------------------
(1) الموَمن | 7.
(2) الشورى | 5.
(3) الحشر | 10.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 123 _
  اللّه مفيداً ، فما معنى نقله سبحانه عنهم كما عرفت.
  وأمّا الروايات فحدّث عنها ولا حرج.
  1 ـ أخرج مسلم ، عن عائشة انّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه (1) .
  2 ـ وأخرج أيضاً عن ابن عباس ، قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : يا رسول اللّه انّ أُمّي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضي عنها ، قال : نعم ، فدين اللّه أحقّ أن يقضى (2) .
  3 ـ روى سعد بن عبادة ، انّه قال لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّ أُمّي ماتت و عليها نذر أفيجزي عنها أن أعتق عنها ، قال : اعتق عن أُمّك (3) .
  4 ـ روى أبو هريرة ، انّرجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّ أبي مات وترك مالاً ولم يوص ، فهل يكفر عنه ان أتصدق عنه ؟ قال : نعم (4) .
  5 ـ روى سعد بن عبادة ، انّه قال : يا رسول اللّه ، إنّ أُمّ سعد ماتت ، فأي الصّدقة أفضل ؟ قال : الماء .
  قال : فحفر بئراً ، وقال : هذه لاَُمّ سعد (5) .

--------------------
(1) صحيح مسلم : 3|155 ـ 156 ، باب قضاء الصيام عن الميت ، وفي هذا الباب روايات تركنا ذكرها للاختصار.
(2) صحيح مسلم :3|155 ـ 156 ، باب قضاء الصيام عن الميت ، وفي هذا الباب روايات تركنا ذكرها للاختصار.
(3) سنن النسائي :6|253 ، باب فضل الصدقة على الميت.
(4) صحيح مسلم :5|73 ، باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت من كتاب الهبات.
(5) سنن أبي داود : 2|130 برقم 1681 ، باب ( في فضل سقي الماء ).

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 124 _
  واللام في قوله : هذه لاَُمّ سعد هي لام الاختصاص ، نظير قوله سبحانه : ( إِنَّما الصَّدقات لِلْفُقَراء ) (1) هي دالة على الجهة التي تصرف فيها الصدقة ، وليست من قبيل اللام الداخلة على لفظ الجلالة في قولنا : نذرت للّه ، فانّ اللام هناك للتقرب وفي المقام لبيان المحل.
  وقد اقتصرنا بالقليل من الكثير فمن أراد الوقوف على مصادر الروايات فليرجع إلى المصدر أدناه (2) .
  وعلى ذلك سارت المذاهب الفقهية الاَربعة حيث يفتون بانتفاع الميت بعمل الحي حتى إذا لم يوص به ولم يكن له في السعي نصيب.
  فهذه الروايات والفتاوى تثبت ضابطة كلية وهي وصول ثواب كلّ عمل قربي إلى الميت إذا أُوتي به نيابة عنه سواء أكان من قبيل الصوم والحج أو غيرهما.
  وعلى هذا يعلم صحّة عمل المسلمين حيث يقومون بأعمال حسنة صالحة ربما أهدوا ثوابها إلى أحبائهم وأعزتهم الموتى وهو أمر يوافق عليه الكتاب والسنة ، فما يقوم به المسلمون لموتاهم من إهداء ثواب الاَعمال الصالحة لهم ، أو ما يفعلونه عند قبور الاَنبياء والاَولياء من إطعام الطعام وتسبيل الماء بنية أن يصل ثوابها إليهم إنّما

--------------------
(1) التوبة | 60.
(2) لاحظ للوقوف على مصادر هذه الروايات : صحيح مسلم :5|73 ـ 78 ، كتاب النذر ، سنن النسائي :6|251 فضل الصدقة على الميت.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 125 _
  يقتدون فيها بسعد بن عبادة الذي سأل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن حكم الصدقة عن أُمّه أينفعها ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : نعم ، فقال فأيّ الصدقة أفضل ؟ قال : الماء فحفر بئراً ، وقال : هذه لاَُمّ سعد.
  فهم في هذا سعديون لا يريدون عبادة الموتى ، بل يريدون إيصال الثواب إليهم كما فعل سعد.

النذر لاَهل القبور
  النذر عبارة عن إلزام الاِنسان نفسه بالقيام بأداء عمل إذا قضيت حاجته كأن يقول : للّه عليَّ أن أختم القرآن إذا نجحت في الامتحان ، هذا هو النذر الشرعي ويعتبر أن يكون النذر للّه سبحانه ولا يجوز لغيره .
  وربما يلتزم في ضمن النذر إهداء ثواب عمله إلى المقربين له كالاَب والاَُمّ أو الاَنبياء والاَولياء ، فيقول : نذرت للّه أن أختم القرآن واهدي ثوابه لفلان.
  واللام الداخلة على لفظ الجلالة غير اللام الداخلة على لفظة ( فلان ) فاللام الاَُولى للغاية أي لغاية التقرب إلى اللّه سبحانه ، واللام الثانية لبيان موضع الانتفاع.
  هذا هو المتعارف بين المسلمين ينذرون عملاً للّه ثمّ يلتزمون بإهداء ثوابه لاَحد أولياء اللّه وعباده الصالحين.
  وربما يختصرون في العبارة ويقولون : هذه ـ الشاة ـ منذورة

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 126 _
  للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والمراد هو جهة انتفاعه ، والقرآن الكريم مشحون بكلا الاستعمالين .
  قال سبحانه حاكياً عن امرأة عمران : ( رَبِّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْني مُحَرَّرَاً ) (1) فاللام في هذه الآية نظير قولنا : ( صليت للّه ونذرت للّه ).
  وقال سبحانه : ( إِنَّما الصَّدقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكينِ ) (2) واللام للفقراء بمعنى الانتفاع ، نظير قولنا عند الاختصار : هذا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو للاِمام (عليه السلام) وقد مضى انّسعدَ بن عبادة لما حفر بئراً قال : هذه لاَُمّ سعد.
  وبذلك ظهر انّه لا مانع من النذر للاَولياء والصالحين ، على ما عرفت من تفسيره.
  ولاَجل إيضاح الحال نأتي بكلام بعض المفكرين وعلماء الاِسلام.
  يقول الخالدي : إنّ المسألة تدور مدار نيّات الناذرين ، وإنّما الاَعمال بالنيّات فإن كان قصد الناذذر الميت نفسه والتقرّب إليه بذلك لم يجز ، قولاً واحداً ، وإن كان قصده وجه اللّه تعالى وانتفاع الاَحياء ـ بوجه من الوجوه ـ به وثوابه لذلك المنذور له سواء عين وجهاً من

--------------------
(1) آل عمران | 35.
(2) التوبة | 60.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 127 _
  وجوه الانتفاع أو أطلق القول فيه ، وكان هناك ما يطرد الصرف فيه في عرف الناس أو أقرباء الميت ، أو نحو ذلك ـ ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور (1) .
  وقال العزامي في كتاب ( فرقان القرآن ) : ( ... ومن استخبر حال من يفعل ذلك من المسلمين ، وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للاَموات ـ من الاَنبياء والاَولياء ـ إلاّالصدقة عنهم و جعل ثوابها إليهم ، وقد علموا أنّ إجماع أهل السنّة منعقد على أنّ صدقة الاَحياء نافعة للاَموات واصلة إليهم ، والاَحاديث في ذلك صحيحة مشهورة (2) .
  أخرج أبو داود عن ميمونة انّأباها قال لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا رسول اللّه انّي نذرت إن وُلد لي ذكر أن أنحر على رأس "بُوانة" في عقبة من الثنايا ، عدّة من الغنم.
  قال الراوي عنها : لا أعلم إلاّ أنّها قالت : خمسين.
  فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هل من الاَوثان شيء ؟
  قال : لا.
  قال : أوف بما نذرت به للّه (3) .
  تجد ان ّالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوَكِّد السوَال عن

--------------------
(1) صلح الاخوان : للخالدي : 102 وما بعده.
(2) فرقان القرآن : 133.
(3) سنن أبي داود :2|81.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 128 _
  وجود الاَصنام في المكان الذي تذبح فيه الذبائح انّهذا دليل على أنّ النذر الحرام هو النذر للاَصنام حيث جرت عادة أهل الجاهلية على ذلك كما قال تعالى : ( ... وَما ذبح عَلى النُّصُبِ ... ذلِكُمْ فِسْق ) (1) .
  وكلّ من وقف على أحوال الزائرين للعتبات المقدسة ومراقد أولياء اللّه الصالحين يجد انّهم ينذرون للّه تعالى ولرضاه ، ويذبحون الذبائح باسمه عزّ وجلّ بهدف انتفاع صاحب القبر بثوابها وانتفاع الفقراء بلحومها .

--------------------
(1) المائدة | 3.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 129 _
7 ـ التبرك بآثار الاَنبياء والصالحين
  جرت سنة اللّه الحكيمة على إجراء فيضه إلى الناس عن طريق الاَسباب العادية ، كما هو المشاهد لكلّ واحد منّا إلاّ انّه سبحانه ربما يُجري فيضه عن طريق علل غير مألوفة أو خارقة للعادة لغايات مختلفة ، فتارة تكون الغاية هي الاعجاز واثبات النبوة وأُخرى تكون هي اجلال الشخص وتكريمه.
  أمّا الاَول ، فكالمعاجز التي يأتي بها الاَنبياء بإذن اللّه سبحانه في مقام الدعوة والتحدّي ، والقرآن يعجّ بهذا النوع من المعجزات.
  وأمّا الثاني : فنذكر منه نموذجين : قال سبحانه : ( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرَيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِساب ) (1) .
  وقال سبحانه : ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيكِ رُطَباً جَنِيّاً ) (2) .

--------------------
(1) آل عمران | 37.
(2) مريم | 25.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 130 _
  وما ورد في هذه الآيات من ظهور فيضه سبحانه على خاصة أوليائه إنّما هو من باب الكرامة لا الاِعجاز ، فلم تكن مريم (عليها السلام) مدعية للنبوة حتى تتحدى بهذه الكرامة ، بل كان تفضّلاً من اللّه سبحانه عليها في فترات متلاحقة.
  ويقرب مما ذكرنا قوله سبحانه : ( اذْهَبُوا بِقَمِيصي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبي يَأَتِ بَصيراً ... * فَلَمّا أَنْ جاءَ البَشيرُ أَلْقيهُ عَلى وَجْههِ فَارتَدَّ بَصيراً ) (1) .
  وممّا لا شكّ فيه انّ يوسف لم يكن مدعياً للنبوة أمام إخوته حتى يتحدّى بهذه الكرامة ، وإنّما كان تفضّلاً من اللّه عن هذا الطريق لاِعادة بصر أبيه يعقوب.
  هذه الآيات توقفنا على أنّه سبحانه : يُجري فيضه على عباده عن طريقين فتارة عن طريق الاَسباب العادية ، وأُخرى عن طريق أسباب غير عادية.
  وأمّا تأثير تلكم الاَسباب غير العادية كالاَسباب العادية فكلّها بإذن اللّه سبحانه.
  وعلى ضوء ذلك كان المسلمون يتبرّكون بآثار رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث يتبركون بشعره وبفضل وضوئه وثيابه وآنيته ومسِّ جسده الشريف ، إلى غير ذلك من آثاره الشريفة

--------------------
(1) يوسف | 93 ـ 96.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 131 _
  التي رواها الاَخيار عن الاَخيار.
  فصارالتبرك بها سنة الصحابة واقتدى آثارهم من نهج نهجهم من التابعين والصالحين.
  قال ابن هشام في الفصل الذي عقده لصلح الحديبية : إنّ قريشاً بعثت عروة بن مسعود الثقفي إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فجلس بين يديه وبعد ما وقف على نية الرسول من خروجه إلى مكة رجع إلى قومه وأخبرهم بما دار بينه و بين الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثمّ قال : إنّ محمّداً لا يتوضأ إلاّ وابتدر أصحابه بماء وضوئه ، ولا يسقط من شعره شيء إلاّ أخذوه ، ثمّ قال : يا معشر قريش لقد رأيت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وانّي واللّه ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قوماً لا يسلّمونه لشيء أبداً فَرَوْا رأيكم (1) .
  وقد ألف غير واحد من علماء الاِسلام ما قام به الصحابة من التبرك بآثار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نذكر عناوينها :
  التبرك بتحنيك الاَطفال.
  التبرك بالمسح والمس.
  التبرك بفضل وضوئه وغسله.
  التبرك بسوَر شرابه وطعامه.

--------------------
(1) السيرة النبوية : ابن هشام : 2|314 ، صلح الحديبية.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 132 _
  إنّ تبرك الصحابة لم يقتصر على ذلك بل كانوا يتبركون بماء أدخل فيه يده المباركة ، وبماء من الآنية التي شرب منها ، وبشعره ، وعرقه ، وظفره ، والقدح الذي شرب منه ، وموضع فمه ، ومنبره ، والدنانير التي أعطاها ، وقبره وجرت عادتهم على التبرك به ، ووضع الخد عليه والبكاء عنده.
  وقد ألف المحقّق العلاّمة محمد طاهر بن عبد القادر كتاباً باسم "تبرك الصحابة" ، وهو من علماء مكة المكرمة قال فيه : أجمعت صحابة النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) على التبرك بآثار رسول اللّه والاهتمام في جمعها وهم الهداة المهديون والقدوة الصالحون فيتبركون بشعره وبفضل وضوئه وعرقه وثيابه وآنيته وبمسِّ جسده الشريف ، وبغير ذلك ممّا عرف من آثاره الشريفة التي صحت به الاَخبار عن الاَخيار.
  وقد وقع التبرك ببعض آثاره في عهده وأقرّه ولم ينكر عليه ،فدلَّ ذلك دلالة قاطعة على مشروعيته ، ولو لم يكن مشروعاً لنهى عنه وحذّر منه.
  وكما تدل الاَخبار الصحيحة وإجماع الصحابة على مشروعيته تدل على قوة إيمان المتبركين وشدّة محبتهم وموالاتهم ومتابعتهم للرسول الاَعظم( صلى الله عليه وآله وسلم ) كقول الشاعر :

أمـرّ عـلى الـديار ديار ليلى      أقـبل  ذا الـجدار وذا iiالجدارا
ومـا حـبّ الديار شغفن iiقلبي      ولكن حبّ من سكن الديارا (1)
--------------------
(1) تبرك الصحابة : 50.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 133 _
8 ـ البدعة والاحتفال بميلاد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
  البدعة في اللغة بمعنى الانشاء والابداع ، وأمّا في مصطلح الفقهاء هو إدخال ما ليس من الدين في الدين ، وعدُّ ما ليس من الدين منه ، وقد أطبق المسلمون على تحريمه لاِطباق الاَدلة عليه وإلى المعنى المصطلح يشير صاحب القاموس ، ويقول : البدعة : الحدث في الدين بعد الاِكمال أو ما استحدث في الدين بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الاَهواء.
  فالمعنى الجامع للبدعة هو الافتراء على اللّه ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ونشر الافتراء بعنوان انّه من الدين ، قال سبحانه : ( ءآللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) فالآية تدل على أنّ كلّ ما ينسب إلى اللّه سبحانه بلا إذن منه فهو أمر محرم ، ومن أدخل في الدين ما ليس من الدين أو لا يعلم انّه منه ، فقد افترى على اللّه.
  وقد عُدَّ المفتري على اللّه من أظلم الناس ، قال سبحانه : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ) (2) .
  هذا ، ودلت السنة أيضاً على حرمة البدعة ، قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :

--------------------
(1) يونس | 59.
(2) الاَنعام | 21.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 134 _
  أمّا بعد ، فانّ أصدق الحديث كتاب اللّه ، وأفضل الهدى هدى محمّد ، وشرّ الاَُمور محدثاتها ، وكلّمحدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة في النار.
  وقد أوضحه ابن حجر العسقلاني بقوله : المحدثات جمع محدثة ، والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع ، ويسمى في عرف الشرع بدعة ، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة ، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة (1) .
  والروايات في تحريم البدعة كثيرة اكتفينا بما سبق ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصدر المذكور في الهامش (2) .
  فإذا كانت البدعة هي الافتراء على اللّه ورسوله والتلاعب بدينه ، وادخال ما ليس من الدين ، أو ما لم يُعلم انّه من الدين في الدين ، فعلى الباحث المتضلِّع تمييز ما ليس ببدعة عن البدعة وان اشتركا في إطلاق تسمية ( البدعة ) عليهما ، وإليك أقسامها :
  الاَوّل : أن يقوم به الاِنسان بما انّه من الدين ، وهو إمّا ليس من الدين قطعاً أو يشك انّه من الدين و مع ذلك يدخله فيه وينشره بين الاَُمّة.
  وعلى هذا فلو قام أحد بعمل بديع ليس له مثيل ، ولكن من

--------------------
(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري : 13|253.
(2) جامع الاَُصول لابن الاَثير : 9|566.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك _ 135 _
  دون أن ينسبه إلى الدين فهو ليس ببدعة ، كالصنائع الجديدة ، والاَلعاب الرياضية ، التي ابتدعها الاِنسان لتوفير الراحة لنفسه إلى غير ذلك من الفوائد المترتبة عليها.
  فهذه الصنائع والاَلعاب لم تكن في عصر الرسول ولا الصحابة ولا التابعين ولكن الاِنسان أبدعها وانشأها دون أن يعزوها إلى الدين ، فإذاً لا تكون بدعة.
  نعم مجرد انّها ليست بدعة لا يكون دليلاً على حلّيتها بل يستنبط حكمها من جهة الحلية والحرمة من الكتاب والسنة والاِجماع والعقل.
  فالصنائع والاَلعاب الرياضية من المحدثات ولكنّهما حلالان شرعاً لعدم انطباق عنوان محرم عليهما ، بخلاف بعض المحدثات كاختلاط النساء والرجال في الحفلات ، فهو أمر محدث مُحرّم ، لانطباق عنوان محرم عليه وهو اختلاط الرجال بالنساء السافرات.
  الثاني : ما يبدعه الاِنسان وينشئه وليس له نظير في السابق ، ولكن يأتي به باسم الدين وله أصل كلي في الشريعة وإن لم ترد الخصوصية فيها.
  فهذا ما يسمّى بدعة لغة ولا يكون بدعة شرعاً.
  أمّا كونه بدعة لغة فلكونه أمراً جديداً وإنشاءً حديثاً في الدين ، وامّا انّه ليس ببدعة شرعاً ، لوجود أصل كلّي له فيها مسوغ له ، وإليك الاَمثلة التالية :
  أ ـ انّالدفاع عن بيضة الاِسلام وصيانة حدوده من الاَعداء أصل