هل هناك فرق بين المدفن والمولد ، مع انّ الصلاة في كلٍ ، لغاية واحدة وهي التبرّك بالاِنسان المثالي الذي مسّ جسده الطاهر ، ذلك التراب بداية عمره أو نهايته ؟!
وبما انّ الكتاب ـ مضافاً إلى السيرة المستمرة بعد رحيل رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى يومنا هذا ـ دليل قطعي ، يكون محكماً يوَخذ به ، وما دلّ على خلافه ، يكون متشابهاً ، فيرد إلى المحكم ويفسره بفضله.
ربما يتراءى من بعض الروايات عدم جواز اتخاذ قبور الاَنبياء مساجد.
فروي عن رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) انّه قال : قاتل اللّه اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
وفي رواية أُخرى : لعن اللّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
وفي رواية ثالثة : ألا وإنّ من كل قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد
(1) .
ولنا مع هذه الاَحاديث وقفة قصيرة ، وذلك لاَنّ تاريخ اليهود لا يتفق مع مضامين تلك الروايات ، لاَنّ سيرتهم قد قامت على قتل
--------------------
(1) للوقوف على مصادر هذه الاَحاديث راجع صحيح البخاري : 2|111 كتاب الجنائز ، سنن النسائي :2|871 ، كتاب الجنائز ، صحيح مسلم :2|68 ، باب النهي عن بناء المساجد على القبور من كتاب المساجد.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 87 _
الاَنبياء وتشريدهم وإيذائهم إلى غير ذلك من أنواع البلايا التي كانوا يصبّونها على أنبيائهم.
ويكفي في ذلك قوله سبحانه :
( لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَولَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ فَقيرٌ وَنَحْنُ أَغْنياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الاََنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَريق ) (1) .
وقوله سبحانه :
( قُلْ قَدْجاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلي بِالْبَيِّناتِ وَبِالّذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ ) (2) .
وقال سبحانه :
( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الاََنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ... ) (3) .
أفتزعم انّ أُمّة قتلت أنبياءها في مواطن مختلفة تتحول إلى أُمّة تشيد المساجد على قبور أنبيائها تكريماً وتبجيلاً لهم.
وعلى فرض صدور هذا العمل عن بعضهم ، فللحديث محتملات أُخرى غير الصلاة فيها والتبرّك بصاحب القبر وهي :
أ ـ اتخاذ القبور قبلة.
ب ـ السجود على القبور تعظيماً لها بحيث يكون القبر مسجوداً عليه.
--------------------
(1) آل عمران | 181.
(2) آل عمران | 183.
(3) النساء | 155.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 88 _
ج ـ السجود لصاحب القبر بحيث يكون هو المسجود له ، فالقدر المتيقن هو هذه الصور الثلاث لا بناء المسجد على القبور تبرّكاً بها.
والشاهد على ذلك انّ الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) حسب بعض الروايات يصف هوَلاء بكونهم شرار الناس .
أخرج مسلم في كتاب المساجد : انّ أُمّ حبيبة وأُمّ سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال رسول اللّه : ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنّ أُولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بني على قبره مسجداً ، وصوّروا فية تلك الصور ، أُولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة (1) .
إنّ وصفهم بشرار الخلق يميط اللثام عن حقيقة عملهم إذ لا يوصف الاِنسان بالشر المطلق إلاّ إذا كان مشركاً ـ و إن كان في الظاهر من أهل الكتاب ـ قال سبحانه : ( إِنَّ شَرَّ الدّوابّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الّذينَ لا يَعْقِلُون ) (2) .
وقال : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوابّ عِنْدَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُوَْمِنُونَ ) (3) .
وهذا يعرب عن انّ عملهم لم يكن صرفَ بناء المسجد على القبر والصلاة فيه ، أو مجرد إقامة الصلاة عند القبور ، بل كان عملاً مقروناً بالشرك بألوانه وهذا كما في اتخاذ القبر مسجوداً له أو
--------------------
(1) صحيح مسلم :2|66 ، باب النهي عن بناء المساجد على القبور من كتاب المساجد.
(2) الاَنفال | 22.
(3) الاَنفال | 55.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 89 _
مسجوداً عليه أو قبلة يصلى عليه.
قال القرطبي : وروى الاَئمّة عن أبي مرثد الغنوي قال : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : لا تصلّوا إلى القبور ، ولا تجلسوا عليها ( لفظ مسلم ) أي لا تتخذّوها قبلة فتصلّوا عليها أو إليها كما فعل اليهود و النصارى فيوَدي إلى عبادة من فيها (1) .
إنّ الصلاة عند قبر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنّما هو لاَجل التبرّك بمن دفن ، ولا غروَ فيه وقد أمر سبحانه الحجيج باتخاذ مقام إبراهيم مصلى قال سبحانه : ( وَاتَّخِذوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصلّى ) (2) .
إنّ الصلاة عند قبور الاَنبياء كالصلاة عند مقام إبراهيم غير انّ جسد النبي إبراهيم ( عليه السلام ) لامس هذا المكان مرّة أو مرات عديدة ، ولكن مقام الاَنبياء احتضن أجسادهم التي لا تبلى أبداً.
هذا وانّ علماء الاِسلام فسروا الروايات الناهية بمثل ما قلناه.
قال البيضاوي : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الاَنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها ، واتخذوها أوثاناً ، لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك.
فأمّا من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبّرك بالقرب منه لا للتعظيم ولا
--------------------
(1) تفسير القرطبي : 10|38.
(2) البقرة | 125.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 90 _
للتوجه ونحوه ، فلا يدخل في الوعيد المذكور (1) .
وقال السندي شارح سنن النسائي : اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، أي قبلة للصلاة ويصلون إليها ، أو بنوا مساجد يصلون فيها ، ولعلّ وجه الكراهة أنّه قد يفضي إلى عبادة نفس القبر.
إلى أن يقول : يحذر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أُمّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتخاذ تلك القبور مساجد ، إمّا بالسجود إليها تعظيماً لها أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة إليها (2) .
--------------------
(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري : 1|525 ، طبعة دار المعرفة ، وقريب منه ما في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 2|437 ، باب بناء المسجد على القبور.
(2) سنن النسائي : 2|41.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
_ 91 _