والتذلّل.
ويقول الراغب في المفردات : العبوديّة : التذلّل ، والعبادة أبلغ منها لاَنّها غاية التذلّل.
وفي القاموس المحيط : العبادة : الطاعة.
إلى غير ذلك من التعاريف المتقاربة .
ومن المعلوم انّ هذه تعاريف بالمعنى الاَعم ، إذ ليس مجرّد الخضوع والتذلّل ولا غايتهما حداً للعبادة ، فانّ حبّ العاشق للمعشوق لا يعد عبادة له ، كما انّتقبيل المصحف الكريم ليس عبادة للكتاب ، وأوضح من ذلك انّ سجود الملائكة لآدم ، كقوله سبحانه :
( فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاّإِبْليسَ أَبى ) (1) وسجود النبي يعقوب (عليه السلام) وزوجه وأولاده ليوسف (عليه السلام) ، كما في قوله سبحانه :
( وَرَفَعَ أَبَوْيهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) (2) لم يك عبادة للمسجود له ، أعني آدم أبا البشر ولا النبي يوسف ) ( عليه السلام ) .
وقد بلغ خضوع الصحابة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمكان انّهم كانوا يتبركون بفضل وضوئه وشعر رأسه ، والاِناء الذي يشرب منه الماء ، والمنبر الذي كان يجلس عليه ، ومن الواضح انّ هذا النوع من التبرّك غاية الخضوع منهم للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومع ذلك لم يبلغ حدَّ العبادة ولم يصفهم أحد بأنّهم كانوا
--------------------
(1) الحجر | 30 ـ 31.
(2) يوسف | 100.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
ـ 35 ـ
يألِّهون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويعبدونه كلّذلك يجرّنا إلى أن نقوم بتعريفها حتى يعم جميع المصاديق ويمنع عن دخول غيرها.
والطريق الواضح لحلّ هذه المعضلة هو الوقوف على مقومات العبادة و إمعان النظر في العبادات الصحيحة التي قام بها المسلمون على مرّ العصور ، وفي العبادات والطقوس الباطلة التي كانت تُمارَس من قِبَل الوثنيين في الجاهلية والعصر الحاضر حتى نقف على الخصوصيات المكنونة في عمل الجميع والتي على ضوئها تطلق عليها عبادة ، إذاً فتحليل أعمالهم والوقوف على الميزات الموجودة فيها والخصوصيات الكامنة يوقفنا أوّلاً على حقيقة العبادة ، ويرسم لنا ثانياً تعريفاً جامعاً ومانعاً على نحو يكون مقياساً لتمييز العبادة عن غيرها.
وإليك تحليلها : لا شكّ انّ الجامع بين جميع أقسام العبادات صحيحها وباطلها هو الخضوع للمعبود سواء أكان مستحقاً له كاللّه سبحانه أو غير مستحق له كالاَصنام والاَوثان أو الاَجرام السماوية من النجم والقمر والشمس والاَرواح والمثل النورية المجردة ، فالعبادة في جميع تلك المراحل تتمتع بالخضوع وهو عمل قائم بالجوارح كالرأس واليد وغيرهما ، فالعابد يخضع بجلّ جوارحه أو بشيء منها أمام المعبود وهذا أمر لاسترة فيه.
ولكن هناك خصوصية أُخرى موجودة في الجميع وهو أمر
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
ـ 36 ـ
قائم بالضمير و القلب ولعلّه الاَساس لاِضفاء العبادة على العمل الجارحي ، وهي عبارة عن اعتقاد خاص بالمعبود الذي يكون مبدأً للخضوع الظاهري.
فالواجب علينا بيان تلك الخصوصية الموجودة في جميع الاَقسام وإليك التوضيح : أمّا الموحدون الذين يعبدون اللّه تبارك و تعالى ، فخضوعهم نابع عن اعتقادهم بأنّه خالق للكون والاِنسان ، والمدبر للعالم الذي بيده كلّ شيء في الدنيا والآخرة ، وليس هناك أي خالق ومدبر ومالك لمصالح العباد ومصائرهم في العاجل والآجل سواه.
أمّا العاجل فيعتقدون أنّ الخلق والتدبير والاحياء والاماتة و انزال المطر والخصب و الجدب وكلّما يعدّظاهرة طبيعية من فعله سبحانه لا من فعل غيره الذي لا يملك أي تأثير في مصير الاِنسان.
أمّا الآجل فيعتقدون أنّ الشفاعة ومغفرة الذنوب وغيرهما من الاَُمور الاَُخروية بيده تعالى.
وعلى ضوء ذلك فالعبادة هو الخضوع النابع عن الاعتقاد بخالقيته ومدبريته وكون أزمَّة الاَُمور ومصير الاِنسان في الدنيا والآخرة بيده.
هذا حال الموحدين وأمّا المشركون في عصر الرسالة وقبله وبعده فخضوعهم لمعبوداتهم كان نابعاً عن اعتقاد خاص يضادُّ
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
ـ 37 ـ
ذلك ، فاللازم هو تحصيل ذلك الاعتقاد.
يظهر من بعض الآيات انّ العرب في العصر الجاهلي كانوا موحدين في الخالقية ، قال تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَالسَّماواتِ وَالاََرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ العَلِِيم ) (1) ولكنّهم في الوقت نفسه كانوا مشركين في التدبير الذي نعبِّر عنه بالربوبية ، فكانوا يعتقدون بأرباب ، مكان الرب الواحد ، ولكلّ رب شأن في عالم الكون.
ويدل على ذلك طائفة من الآيات نذكر بعضها :
1 ـ انّ الموحد يرى انّالعزة بيد اللّه سبحانه ومنطقه ، قوله سبحانه : (فلِلّه الْعِزَّةُ جَميعاً ) (2) .
ولكن المشرك في عصر الرسالة كان يرى انّ العزة بيد الاَصنام والاَوثان كما يحكي عن عقيدته قوله سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِنْدُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (3) .
2 ـ انّ الموحد يرى انّ النصر بيد اللّه تبارك و تعالى و يردّد على لسانه ، قوله سبحانه : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاّمِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الحَكيم ) (4) .
ولكن المشرك في عصر الرسالة كان يعتقد بأنّالنصر بيد
--------------------
(1) الزخرف | 9.
(2) فاطر | 10.
(3) مريم | 81.
(4) آل عمران | 126.
بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
ـ 38 ـ