الآية الاَُولى ( وكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمواتِ وَالا ََرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِين * فَلَمّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِني رَبّي لا ََكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْركُونَ )(1)
قالت المخطّئة: إنّ قوله : (هذا ربي ) في المواضع الثلاثة ظاهر في أنّه (عليه السلام ) كان يعتقد في وقت من الاَوقات بربوبية هذه الاَجرام السماوية، وهذا ممّا لا يجوز على الاَنبياء عند العدلية، وإن زعمت العدلية أنّه (عليه السلام ) تكلّم بها ظاهراً غير معتقد باطناً، فهذا أيضاً غير جائز على الاَنبياء، لاَنّه يقول شيئاً غير معتقد به ، وهو أمر قبيح سواء سمّي بالكذب أم لا .
والجواب : انّ الاستدلال ضعيف ، لاَنّ الحال لا تخلو من إحدى صورتين:
الاَُولى: انّ إبراهيم كان في مقام التحرّي والتعرّف على الربّ المدبّر للعالم ، ولم يكن آنذاك واقفاً على الحقيقة، لاَنّه ـ كما قيـل ـ كان صبياً لم يبلغ الحلم، وصار بصدد التحقيق والتحري ، فعندئذ طرح عدّة احتمالات واحداً بعد واحد ، ثم شرع في إبطال كل واحد منها ، إلى أن وصل إلى الرب الواقعى والمدبّر الحقيقي.
وهذا نظير ما يفعله الباحثون عن أسباب الظواهر وعللها ، فتراهم يطرحون على طاولة التحقيق سلسلة من الفرضيات والاحتمالات ، ثم يعمدون إلى التحقيق عن حال كل واحد منها إلى أن يصلوا إلى العلة الواقعية، وعلى هذا
--------------------
(1) الاَنعام: 75 ـ 78.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 127 _
يكون معنى قوله : ( هذا ربي )مجرّد فرض لا إذعان قطعي ، وليس مثُل هذا غيرَ لائق بشأن الاَنبياء .
وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى ـ جواباً عن السوَال ـ : إنّه لم يقل ذلك مخبراً ، وانّما قال فارضاً ومقدّراً على سبيل الفكر والتأمّل .
ألا ترى أنّه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظراً في شىء وممتثلاً بين كونه على إحدى صفتيه أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يوَدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد ، ولا يكون بذلك مخبراً عن الحقيقة، ولهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الاَجسام وقدمها أنْ يفرض كونها قديمة ليتبين ما يوَدي إليه ذلك الفرض من الفساد، (1) وقد روي هذا المعنى عن الاِمام الصادق ( عليه السلام ) حيث سئل عن قول إبراهيم: ( هذا ربّي ) أأشرك في قوله : ( هذا ربّي ) ؟ فقال ( عليه السلام ): ( لا ، بل من قال هذا ، اليوم فهو مشرك ، ولم يكن من إبراهيم شرك ، وانّما كان في طلب ربّه وهو من غيره شرك ) ، (2)
وفي رواية أُخرى عن أحدهما ( الباقر والصادق ( عليهما السلام ): (انّما كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً ، وانّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته) (3).
غير أنّ هذا الفرض ربّما لا يكون مرضياً عند بعض العدلية، لاَنّ الاَنبياء منذ أن فطموا من الرضاع إلى أن ادرجوا في أكفانهم، كانوا عارفين بتوحيده سبحانه ذاتاً وفعلاً ، خالقاً وربّاً ، ولو كان هناك إراءة من الله لخليله كما في قوله : ( وكذلك نرى إبراهيم )كانت لزيادة المعرفة وليكون من الموقنين.
--------------------
(1) تنزيه الاَنبياء: 22 .
(2 و 3) نور الثقلين: 1|610 ـ 611، الحديث 149 و 150 و 151 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 128_
الثانية: انّه كان معترفاً بربوبيته نافياً ربوبية غيره، ولكنّه حيث كان بصدد هداية قومه وفكّهم من عبادة الاَجرام، جاراهم في منطقهم لكى لا يصدم مشاعرهم ويثير عنادهم ولجاجهم ، فتدرج في إبطال ربوبية معبوداتهم الواحد تلو الآخر، بما يطرأ عليها من الا َُفول والغيبة والتحوّل والحركة مما لا يليق بالربّ المدبّر، ومثل هذا جائز للمعلم الذي يريد هداية جماعة معاندة في عقيدتهم ، منحرفة عن جادة الصواب، وهذه إحدى طرق الهداية والتربية ، فأين التكلّم بكلمة الشرك عن جد ؟!
وإلى ذلك الجواب أشار السيد المرتضى في كلامه بأنّ إبراهيم ( عليه السلام ) لم يقل ما تضمّنته الآيات على طريق الشك ، ولا في زمان مهلة النظر والفكر، بل كان في تلك الحال موقناً عالماً بأنّ ربَّه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شيء من الكواكب، وانّما قال ذلك على أحد وجهين:
الاَوّل: انّه ربّي عندكم ، وعلى مذاهبكم ، كما يقول أحدنا على سبيل الاِنكار للمشتبه هذا ربّه جسم يتحرك ويسكن.
الثاني: انّه قال ذلك مستفهماً وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنها ، (1) والوجه الاَوّل من الشقين في هذا الجواب هو الواضح.
كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُون * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَوَلاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيئَاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ )(1)
فزعمت المخطّئة أنّ قوله (بل فعله كبيرهم )كذب لا شك فيه ، لاَنّه هو الذي كسر الاَصنام وجعلها جذاذاً إلاّ كبيرها ، فكيف نسب التكسير إلى كبيرها ؟
ولا يخفى أنّ الشبهة واهية جداً ، مثل الشبهة السابقة ، لاَنّ الكذب في الكلام إنّما يتحقق إذا لم يكن هناك قرينة على أنّه لم يرد ما ذكره ، بالاِرادة الجدية، وانّما ذكره لغاية أُخرى ، ومع تلك القرينة لا يُعد الكلام كذباً ، والقرينة في الكلام أمران:
الاَوّل: قوله ( عليه السلام ) عند مغادرة قومه البلد ومخاطبتهم بقوله : ( وتَاللّهِ لاََكيدنَّ أصنامَكُمْ بَعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدْبِرين )(2) ، ولا يصح حمل ذلك على أنّه قاله في قلبه وفكرته ، لا بصورة المشافهة والمصارحة، وذلك لاَنّ إبراهيم كان مشهوراً بعدائه وكرهه للاَصنام ، حتى أنّهم بعد ما رجعوا إلى بلدهم ووجدوا الاَصنام جذاذاً ، أساءوا الظن به، واتهموه بالعدوان على أصنامهم وتخريبها و ( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبراهِيمُ )(3)
الثاني: انّ من المسلّم بين إبراهيم وعبدة الاَصنام أنّ آلهتهم صغيرها
وكبيرها لا تقدر على الحركة والفعل ، فمع تلك القرينة والتسليم الواضح بينه وبينهم ، بل وبين جميع العقلاء ، إذا أجاب إبراهيم بهذا الكلام يعلم منه أنّه لم يتكلم به لغاية الجد، بل لغاية أُخرى حتى ينتبه القوم إلى خطئهم في العقيدة.
ويزيد توضيحاً ما ورد في القصص: إنّ إبراهيم بعد أنْ حطّم الاَصنام الصغيرة جعل الفأس على عنق كبيرها ، حتى تكون نسبة التحطيم إلى الكبير مقرونة بالقرينة وهي : أنّ آلة الجرم تشهد على كون الكبير هو المجرم دون إبراهيم ، ومن المعلوم أنّ هذا العمل والشهادة المزعومة، أشبه شيء في مقام العمل باستهزائه بالقوم وسخريته مما يعتقدون.
فعلى تلك القرائن قد تكلّم إبراهيم بهذه الكلمة لا عن غاية الجد، بل لغاية أُخرى كما يبيّنها القرآن، فإذا انتفى الجد بشهادة القرائن القاطعة ينتفي الكذب.
وأمّا الغاية من هذا الكلام فهو أنّه طرح كلامه بصورة الجد وإن لم يكن عن جد حقيقي ، وطلب منهم أن يسألوا الاَصنام بأنفسهم ، وأنّه مَن فعل هذا بهم؟ لغاية أخذ الاعتراف منهم بما أقرّوا به في الآية ، أعنى قولهم : ( لقد علمت ما هوَلاء ينطقون )حتى يتسنّى للخليل (عليه السلام ) كبتهم وتوبيخهم ـ بأنّه إذا كان هوَلاء على ما يصفون ـ بقوله (عليه السلام ) : ( أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم * أُف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون )(1) وفي موضع آخر يقول : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )(2) فتبين من ذلك أنّ قوله : ( بل فعله كبيرهم ) لم يكن كلاماً عن جد وجزم وعزم حتى
--------------------
(1) الاَنبياء: 66 ـ 67 .
(2) الصافات: 95 ـ 96 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 131_
يوصف بالكذب ، بل كان كلاماً أُلقي على صورة الجد ليكون ذريعة لاِبطال عبادتهم وشركهم ، وكانت القرائن تشهد على أنّه ليس كلاماً جديّاً ولو كان هذاالكلام صادراً من عاقل غير النبي ( عليه السلام ) لاَجزنا لاَنفسنا أن نقول : إنّ الغاية، الاستهزاء والتهكّم بعبدة الاَصنام والاَوثان حتى يتنبهوا بذلك الوجه إلى بطلان عقيدتهم.
ولما كان هذا النمط من الحوار والاحتجاج الذي سلكه إبراهيم في غاية القوّة والمتانة ، لم يجد القوم جواباً له إلاّ الحكم عليه بالتعذيب والاِحراق شأن كل مجادل ومعاند إذا أفحم، كما يقول سبحانه: ( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيم * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاََسْفَلِينَ )(1)، وفي آية أُخرى: ( قَالُوا حَرّقُوهُ وَ انصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ )(2) هذا هو الحق الصراح لمن طالع القصة في القرآن الكريم، ومن أمعن النظر فيها يجد أنّ الجواب هو ما ذكرنا.
جواب آخر عن السوَال
وربّما يجاب بأنّه لم يكذب وانّما نسب الفعل إلى كبيرهم مشروطاً لا منجزاً ، وانّما يلزم الكذب لو نسبه على وجه التنجيز حيث قال : ( بل فعله كبيرهم هذا فاسئَلوهم إن كانوا ينطقون ) فكأنّه قال : فعل كبيرهم هذا العمل إن كانت الاَصنام المكسورة ناطقة ، وبما أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه ، وكان الشرط ـ أعني نطقها ـ منتفياً كان المشروط ـ أي كون الكبير قائماً بهذا الفعل ـ منتفياً أيضاً.
وهذا الجواب لا ينطبق على ظاهر الآية، لاَنّها تشتمل على فعلين:
أحدهما قريب من الشرط، والآخر بعيد عنه ، ومقتضى القاعدة رجوع
الشرط إلى القريب من الفعلين لا إلى البعيد، والرجوع إلى كلا الفعلين خلاف الظاهر أيضاً، وإليك توضيحه:
1 ـ بل فعله كبيرهم : الفعل البعيد من الشرط.
2 ـ فاسألوهم : الفعل القريب من الشرط.
3 ـ ان كانوا ينطقون : هذا هو الشرط.
فرجوعه إلى الاَوّل وحده، أو كليهما ، خلاف الظاهر، والمتعين رجوعه إلى الثاني، فصار الحكم بأنّه فعله كبيرهم منجزاً لا مشروطاً.
الآية الثالثة
استدلت المخطّئة لعصمة إبراهيم بالآية الثالثة، أعني قوله سبحانه: ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لاِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيم * إِذْ قَالَ لأِبيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أئِفكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُريدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبّ العَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إنّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوا عَنْهُ مُدْبِرينَ * فَرَاغَ إلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ )(1)
فاستدلوا بقوله: ( إنّي سقيم )قائلين بأنّه لم يكن سقيماً، وانّما ذكر ذلك عذراً لترك مصاحبتهم في الخروج عن البلد.
أضف إلى ذلك انّ قوله: ( فنظر نظرة في النجوم ) يشبه ما يفعله المنجمون حيث يستكشفون من الاَوضاع الفلكية، الاَحداث الاَرضية.
والجواب: انّ الاِشكال مبني على أنّه ( عليه السلام ) قال: (إنّي سقيم )ولم يكن سقيماً ، ولم يدل على ذلك دليل إذ من الممكن أنّه كان سقيماً في ذلك الوقت،
--------------------
(1) الصافات: 83 ـ 91.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 133 _
وأمّا قوله : ( فنظر نظرة في النجوم )، فمن المحتمل جداً أنّه نظر إلى السماء متفكراً حتى يلاحظ حاله وانّه هل يقدر على المغادرة معهم أم لا ، والعرب تقول لمن تفكر : ( نظر في النجوم) بمعنى أنّه نظر إلى السماء متفكراً في جواب سوَال القوم، كما يفعل أحدنا عندما يريد أن يفكر في شىء .
ويوَيد ذلك أنّه (عليه السلام ) قاله عندما دعاه قومه إلى الخروج معهم لعيد لهم، فعند ذلك نظر إلى النجوم وأخبرهم بأنّه سقيم ، ومن المعلوم أنّ الخروج إلى خارج البلد لاَجل التنزّه لم يكن في الليل بل كان في الضحى، فلو كانت الدعوة عند مطلع الشمس وأوّل الضحى لم يكن النظر إلى النجوم بمعنى ملاحظة الاَوضاع الفلكية، إذ كانت النجوم عندئذ غاربة، فلم يكن الهدف من هذه النظرة إلاّ التفكر والتأمل .
نعم لو كانت الدعوة في الليل لاَجل الخروج في النهار كان النظر إلى النجوم مظنة لما قيل ، ولكنه غير ثابت .
نعم هناك معنى آخر لقوله : (فنظر نظرة في النجوم )، وهو أنّه (عليه السلام ) كان به حمّى ذات نوبة تعتريه في أوقات خاصة متعينة بطلوع كوكب أو غروبه، فلأجل ذلك نظر في النجوم، ووقف على أنّها قريبة الموعد، والعرب تسمّى المشارفة على الشيء باسم الداخل فيه ، ولهذا يقولون لمن أضعفه المرض، وخيف عليه الموت (هو ميت) وقال تعالى لنبيّه : ( إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيّتُونَ )(1)
وأمّا استعمال كلمة (في) مكان (إلى) في قوله : ( في النجوم )، فلأجل أنّ الحروف يقوم بعضها مقام بعض، قال الله تعالى : ( ولاَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل
--------------------
(1) الزمر: 30 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 134_
النَّخْل )(1) وإنّما أراد على جذوعها ، وقال الشاعر:
وافتحي الباب وانظري في النجومكم علينا من قطع ليل بهيم
جواب آخر عن الشبهة
وربّما يجاب عن الاِشكال: انّه من قبيل المعاريض في الكلام، والمعاريض: عبارة عن أن يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده ، فلعلّه نظر في النجوم نظر الموحّد في صنعه تعالى ، الذي يستدل به على خالقه وصفاته ، ولكن القوم حسبوا أنّه ينظر إليها نظر المنجّم فيها ليستدل بها على الحوادث، فقال : (إنّي سقيم ) ، (2) ولا يخفى أنّ الجواب مبني على أنّه لم يكن سقيماً آنذاك، وهو بعد غير ثابت ، على أنّ المعاريض غير جائزة على الاَنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم .
وبذلك يعلم قيمة ما أخرجه أصحاب الصحاح والسنن من طرق كثيرة عن أبي هريرة: انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم)قال: لم يكذب إبراهيم ( عليه السلام ) غير ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله : قوله : ( إنّى سقيم )وقوله: ( بل فعله كبيرهم هذا )وقوله في سارة : ( هي أُختى ) ، (3) وقد عرفت أنّ إبراهيم لم يكذب في الاَُوليين، وأمّا الثالثة فهي مروية في التوراة المحرّفة، فهل يمكن بعد هذا ، الاعتماد على الرواية ؟!
والعجب أنّ ابن كثير صار بصدد تصحيح الرواية، وقال : ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله ، حاشا وكلاّ، وانّما أُطلق الكذب على هذا
--------------------
(1) طه: 71 .
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 4|13 .
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 4|13 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 135 _
تجوزاً ، وانّما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعى دينى كما جاء في الحديث (انّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب) ، (1) ونحن لا نعلّق على الحديث ولا على التوجيه الذي ارتكبه ابن كثير شيئاً وانّما نحيل القضاء فيه إلى وجدان القارىَ الكريم، وكفى في سقم الحديث أنّه من مرويات أبي هريرة ، كما يكفي في كذب الحديث أنّه من الاِسرائيليات التي وردت في التوراة المحرّفة.
والعجب أنّ رواة هذا الحديث يزرون على الشيعة في قولهم بالتقية، بأنّها مستلزمة للكذب مع أنّ التقية من المعاريض التي جوّزها القرآن والسنّة في شرائط خاصة لاَشخاص معينين .
هذه هي الآيات التي استدلت المخطّئة بها على عدم عصمة بطل التوحيد، وقد عرفت مفادها ، وهناك آيات أُخر آيات نزلت في حقه ، ربّما وقعت ذريعة لهوَلاء المخطّئة، وبما أنّها واضحة المضمون لا نرى حاجة إلى البحث عنها، وكفانا في هذا المضمار ما ذكره السيد المرتضى في (تنزيهه) فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليه.
كما أنّهم استدلّوا بآيات نزلت في حق يعقوب ، لتخطئته وبما أنّ الشبهات ضعيفة تركنا البحث عنها وعطفنا عنان القلم إلى بعض ما استدلت به المخطّئة في هذا المضمار في حق صدّيق عصره ونزيه دهره سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام .
--------------------
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 4|13 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 136 _
4 ـ عصمة يوسف (عليه السلام ) وقول الله ( ... وهمّ بها )
يوسف الصدّيق هو الا َُسوة
إنّ فيما ورد في سورة يوسف من الآيات، لاَجلى دليل على أنّه الاِنسان المثالي الذي لا يعدّ له مثال ، كيف ؟ وقد دلّت الآيات على أنّه سبحانه اجتباه من بداية حياته وصباه ، وعلّمه من تأويل الاَحاديث، وأتمّ نعمته عليه ، وقد قام القرآن بسرد قصته وأسماها بأحسن القصص، ففيها براهين واضحة على طهارته ونزاهته وعصمته من الذنوب، وصيانته من المعاصي، وتفانيه في مرضاة الله ، كيف ؟ وقد ابتلاه الله سبحانه بلاءً حسناً ، فوجده صابراً متمالكاً لنفسه عند الشهوات والمحرمات ، وناجياً من الغمرات التي لا ينجو منها إلاّ من عصمه الله سبحانه ، فقد ظهر بهذا البلاء باطنه ، وتجلّت به حقيقته ، وبان أنّه الاِنسان الذي حاق به الخوف من الله سبحانه ، فطفق لا يغفل عنه طرفة عين ولا يبدل رضاه بشيء .
كيف ؟ ومن طالع القصة يقف على أنّ نجاة يوسف من مخالب الشهوة وخدعة امرأة العزيز لم تكن إلاّ أمراً خارقاً للعادة ، ولولا عصمته لما كانت النجاة ممكنة ، بل كانت أمراً أشبه بالروَيا منه باليقظة .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 137 _
وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائي:
فقد كان يوسف رجلاً، ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء، وكان شاباً ، بالغاً أشده، وذاك أوان غليان الشهوة وفوران الشبق، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الاَلباب، والجمال والملاحة يدعوان إلى الهوى ؟ هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان مستغرقاً في النعمة وهنىء العيش، محبوراً بمثوى كريم ، وذلك من أقوى أسباب التهوّس، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال كما هو الحال في حرم الملوك والعظماء ، وكانت لا محالة متزيّنة لما يأخذ بمجامع كل قلب ، وهي عزيزة مصر ـ ومع ذلك ـ عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه، وكانت لها سوابق الاِكرام والاِحسان والاِنعام ليوسف ، وذلك كلّه مما يقطع اللسان ويصمت الاِنسان وقد تعرّضت له ، ودعته إلى نفسها ، والصبر مع التعرّض أصعب، وقد راودته هذه الفتّانة وأتت بما في مقدرتها من الغنج والدلال ، وقد ألّـحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه ، والصبر معه أصعب وأشق ، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها ، وهي رتبة خصّها بها العزيز ، وكان في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائعة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنىء.
وكانا في خلوة ، وقد غلّقت الاَبواب وأرخت الستور، وكان لا يأمن من الشر مع الامتناع، وكان في أمن من ظهور الاَمر وانتهاك الستر ، لاَنّـهـا كانت عزيزة ، بيدها أسباب الستر والتعمية ، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كانت مفتاحاً لعيش هنيء طويل ، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزّة والمال .
فهذه أسباب وأُمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدّته ، أو أقبلت على صخرة صمّـاء لاَذابتها ، ولم يكن هناك ممّا يتوهم مانعاً إلاّ الخوف من ظهور
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 138_
الاَمر، أو مناعة نسب يوسف ، أو قبح الخيانة للعزيز، ولكن الكل غير صالح لمنع يوسف عن ارتكاب العمل.
أمّا الخوف من ظهور الاَمر فقد مرّ أنّه كان في أَمن منه ، ولو كان بدا من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تأوّله تأويلاً كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها ، فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاءً، فلم يوَاخذها بشيء ، وقلبت العقوبة على يوسف حتى سجن .
وأمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّـا هو أعظم من الزنا وأشد اثماً، فانّهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف ، فلم تمنعهم شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله ويلقوه في غيابت الجب، ويبيعوه من السيّارة بيع العبيد، ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي، فبكى حتى ابيضّت عيناه.
وأمّا قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية، والقوانين الاجتماعية إنّما توَثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة وذلك إنّما يتم فيما إذا كان الاِنسان تحت سلطة القوّة المجرية والحكومة العادلة ، وأمّا لو أغفلت القوّة المجرية، أو فسقت فأهملت ، أو خفي الجرم عن نظرها ، أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين.
فلم يكن عند يوسف ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الاَسباب القوية التي كانت لها عليه ، إلاّ أصل التوحيد وهو الاِيمان بالله .
وإن شئت قلت : المحبة الاِلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه ، فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع أصبع (1) .
--------------------
(1) الميزان: 11|137 ـ 139 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 139 _
هذا هو واقع الاَمر غير أنّ بعض المخطّئة لم يرتض ليوسف هذه المكارم والفضائل ، واستدل على عدم عصمته بما ورد في سورة يوسف في حق العزيزة ومن هو في بيتها ، قال سبحانه: ( وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاََبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بِرْهَانَ رَبّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ )(1)
ومحل الاستدلال: قوله ( وهمَّ بها )أي همّ بالمخالطة ، وانّ همّه بها كان كهمّها به ، ولولا أنّ رأي برهان ربّه لفعل ، وقد صانته عن ارتكاب الجريمة ـ بعد الهمّ بها ـ روَية البرهان.
وبعبارة أُخرى: انّ المخطّئة جعلت كلا من المعطوف والمعطوف عليه (ولقد همّت به ـ وهمّ بها ) كلاماً مستقلاً غير مقيّد بشيء، وكأنّه قال :
ولقد همّت به : أي بلا شرط وقيد.
وهمّ بها : أي جزماً وحتماً.
ثم بعد ذلك ـ أي بعد الاِخبار عن تحقّق الهم من الطرفين ـ استدرك بأنّ العزيزة بقيت على همّها وعزمها إلى أن عجزت، وأمّا يوسف فقد انصرف عن الاقتراف لاَجل روَية برهان ربّه ، ولاَجل ذلك قال :
( لولا أن رأي برهان ربّه ) أي ولولا الروَية لاقترف وفعل وارتكب ، لكنّه رأي فلم يقترف ولم يرتكب ، فجواب لولا محذوف وتقديره (لاقترف).
ثم إنّ المخطّئة استعانوا في تفسير الآية بما ذكروه من الاِسرائيليات التي لا
--------------------
(1) يوسف: 23 ـ 24 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 140 _
يصح أن تنقل ، وانّما ننقل خبراً واحداً ليكون القارىَ على اطلاع عليها: قالوا : جلس يوسف منها مجلس الخائن، وأدركه برهان ربّه ونجّاه من الهلكة، ثم إنّهم نسجوا هناك أفكاراً خيالية في تفسير هذا البرهان المرئى ، فقالوا : إنّ طائراً وقع على كتفه ، فقال في أُذنه: لا تفعل ، فإن فعلت سقطت من درجة الاَنبياء، وقيل: إنّه رأي يعقوب عاضاً على إصبعه ، وقال: يا يوسف أما تراني؟ إلى غير ذلك من الاَوهام التي يخجل القلم من نقلها .
غير انّ رفع الستر عن مرمى الآية يتوقف على البحث عن أُمور :
1 ـ ما هو معنى (الهم) في قوله : ( ولقد همّت به وهمّ بها ).
2 ـ ما هو جواب ( لولا أن رأي برهان ربّه ) وهذا هو العمدة في تفسير الآية .
3 ـ ما هو معنى البرهان ؟
4 ـ دلالة الآية على عصمة يوسف ، وإليك تفسيرها واحداً تلو الآخر .
1 ـ ما معنى الهم؟
لقد فسّـره ابن منظور في لسانه بقوله: همّ بالشىء يهم همّاً: نواه وأراده وعزم عليه، قال سبحانه: ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا )(1)
روى أهل السير : أنّ طائفة من المنافقين عزموا على أن يغتالوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في العودة من تبوك ، ولاَجل ذلك وقفوا على طريقه ، فلمّا قربوا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر بتنحيتهم ، وسمّـاهم رجلاً رجلاً (2) .
--------------------
(1) التوبة: 74.
(2) مجمع البيان: 3|51 وغيره.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 141 _
هذا هو معنى الهم ، وتوَيده سائر الآيات الوارد فيها لفظ الهم، ولو استعمل في مورد في خطور الشيء بالبال ، وإن لم يقع العزم عليه ، فهو استعمال نادر لا يحمل عليه صريح الكتاب.
أضف إلى ذلك أنّ الهمين في الموردين بمعنى واحد ، وبما أنّ هم العزيزة كان بنحو العزم والاِرادة، وجب حمل الهم في جانب يوسف عليه أيضاً لا على خطور الشيء بالبال ، لاَنّه تفكيك بين اللفظين من حيث المعنى بلا قرينة ، ولكن تحقّق أحد الهمين دون الآخر، لاَنّ هم يوسف كان مشروطاً بعدم روَية برهان ربّه ، وبما أنّ العدم انقلب إلى الوجود، ورأي البرهان لم يتحقق هذا الهم من الاَساس، كما سيوافيك ، نعم لا ننكر أنّ الهم قد يستعمل بالقرينة في مقابل العزم، قال كعب بن زهير:
فـكم فـهموا مـن سيد iiمتوسع ومن فاعل للخير ان همّ أو عزم
ولكن التقابل بين الهم والعزم أوجب حمل الهم على الخطور بالبال، ولولاه لحمل على نفس العزم .
كما ربّما يستعمل في معنى المقاربة فيقولون : همّ بكذا وكذا، أي كاد يفعله ، وعلى كل تقدير فالمعنى اللائح من الهم في الآية هو العزم والاِرادة.
2 ـ ما هو جواب لولا ؟
لا شك أنّ (لولا) في قوله سبحانه: ( لولا أنْ رأي بُرهَانَ رَبّه )ابتدائية، فلا تدخل إلاّ على المبتدأ مثل (لوما) قال ابن مالك.
لولا ولوما يلزمان الابتداء إذ امـتناعاً بوجود iiعقدا
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 142 _
ومما لا شك فيه أنّ (لولا) الابتدائية تحتاج إلى جواب ، ويكون الجواب مذكوراً غالباً مثل قول القائل:
كانوا ثمانين أو زادوا iiثمانية لولا رجاوَك قد قتلت أولادي
وقد تواترت الروايات عن الخليفة عمر بن الخطاب أنّه قال في مواضع خطيرة: ( لولا على لهلك عمر ) .
وربّما يحذف جوابها لدلالة القرينة عليه أو انفهامه من السياق، كقوله سبحانه: ( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ )(1)، أي ولولا فضل الله ورحمته عليكم لهلكتم ، وربّما يحذف الجواب لدلالة الجملة المتقدمة عليه كقوله : (قد كنت هلكت لولا أن تداركتك) ، وقوله: ( وقتلت لولا أنّي قد خلصتك )، والمعنى لولا تداركي لهلكت ، ولولا تخليصي لقُتلت ، ومثل لولا سائر الحروف الشرطية قال الشاعر:
فلا يدعني قومي صريعاً لحرة لئن كنت مقتولاً ويسلم iiعامر
وقال الآخر:
فلا يدعني قومي ليوم iiكريهة لئن لم أعجل طعنة أو أعجل
فحذف جواب الشرط في البيتين لاَجل الجملة المتقدمة.
وبالجملة: لا إشكال في أنّ جواب الحروف الشرطية عامة ، وجواب (لولا) خاصة ، يكون محذوفاً إمّا لفهمه من السياق أو لدلالة كلام متقدم عليه والمقام
--------------------
(1) النور: 10 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 143 _
مـن قبيل الثاني، فقوله سبحانه: ( ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأي برهان ربّه ) يوَوّل إلى جملتين: إحداهما مطلقة ، والا َُخرى مشروطة .
أمّا المطلقة فهي قوله: ( ولقد همّت به )، وهو يدل على تحقّق (الهم) من عزيزة مصر بلا تردد .
أمّا المقيدة فهي قوله : ( وهمّ بها لولا أن رأي برهان ربّه ) وتقديره: (لولا أن رأي برهان ربّه لهمّ بها) فيدل على عدم تحقق الهم منه لما رأي برهان ربّه ، وأمّا الجملة المتقدمة على (لولا) أعني قوله (وهم بها )فلا تدل على تحقق الهم، لاَنّها ليست جملة منفصلة عمّا بعدها ، حتى تدل على تحقق الهمّ، وانّما هي قائمة مكان الجواب، فتكون مشروطة ومعلّقة مثله ، وسيوافيك تفصيله عن قريب.
3 ـ ما هو البرهان ؟
البرهان هو الحجة ويراد به السبب المفيد لليقين، قال سبحانه: ( فَذَانِكَ بُرْهَانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلائِه )(1)، وقال تعالى: ( يَا أَيُّها النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ)(2) وقال سبحانه: ( أَ إِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )(3)هو الحجة اليقينية التي تجلى الحق ولا تدع ريباً لمرتاب، وعلى ذلك فيجب أن يعلم ما هذا البرهان الذي رآه يوسف ( عليه السلام )؟
والذي يمكن أن يكون مصداق البرهان في المقام هو العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يجر النفس الاِنسانية إلى طاعة لا تميل معها إلى معصية ،
وانقياد لا تصاحبه مخالفة ، وقد أوضحنا عند البحث عن العصمة انّ إحدى أُسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم وعواقب المخالفة علماً لا يغلب ، وانكشافاً لا يقهر ، وهذا العلم الذي كان يصاحب يوسف هو الذي صدّه عمّـا اقترحت عليه امرأة العزيز.
ويمكن أن يكون المراد منه سائر الاَُمور التي تفيض العصمة على العباد التي أوضحنا حالها (1).
4 ـ دلالة الآية على عصمة يوسف (عليه السلام )
إنّ الآية على رغم ما ذهبت إليه المخطّئة تدل على عصمة يوسف (عليه السلام )قبل أن تدلّ على خلافها .
توضيحه : انّه سبحانه بيّـن همّ العزيزة على وجه الاِطلاق وقال: ( وهمّت به )، وبيّـن همّ يوسف بنحو الاشتراط وقال: ( وهمَّ بها لولا أن رأي برهان ربّه ) ، فالقضية الشرطية لا تدل على وقوع الطرفين خصوصاً مع كلمة ( لولا ) الدالة على عدم وقوعهما .
فإن قلت : إنّ كلاًّ من الهمين مطلق حتى الهم الوارد في حق يوسف وانّما يلزم التعليق لو قلنا بجواز تقدم جواب لولا الامتناعية عليها وهو غير جائز بالاتفاق وعليه فيكون قوله : ( وهمّ بها )مطلقاً إذ ليس جواباً لكلمة (لولا ).
قلت: إنّ جواب (لولا ) محذوف وتقديره ( لهمّ بها ) وليست الجملة المتقدمة جواباً لها حتى يقال : انّ تقدم الجواب غير جائز بالاتفاق ، ومع ذلك فليست تلك الجملة مطلقة ، بل هي أيضاً مقيدة بما قيد به الجواب، لاَنّه إذا كان
--------------------
(1) راجع ص 21 ـ 25 من هذا الكتاب .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 145 _
الجواب مقيداً فالجملة القائمة مكانه تكون مثله ، وله نظير في الكتاب العزيز مثل قوله : ( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً )(1) والمعنى انّه سبحانه ثبّت نبيه فلم يتحقّق منه الركون ولا الاقتراب منه .
وقال سبحانه : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيءٍ )(2) والمعنى أنّ تفضّله سبحانه على نبيه صار سبباً لعدم هم الطائفة على إضلاله .
والآية مثل الآيتين غير أنّ الجواب فيها محذوف لدلالة الجملة المتقدمة عليه بخلافهما .
وحاصل الكلام: أنّه في مورد الآية ونظائرها يكون الجزاء منتفياً بانتفاء شرطه ، غير انّ هذه الجمل إنّما تستعمل في ما إذا كانت هناك أرضية صالحة لتحقق الجزاء، وإن لم يتحقق لانتفاء الشرط، وفي مورد الآية، أرضية الهم كانت موجودة في جانب يوسف لتجهزه بالقوى الشهوية، وغيرها من قوى النفس الاَمارة، وكانت هذه العوامل مقتضية لحدوث الهم بالفحشاء ، ولكن صارت خائبة غير موَثرة لاَجل روَية برهان ربّه، والشهود اليقيني الذي يمنع النبي عن اقتراف المعصية والهم بها .
وإن شئت قلت : منعته المحبة الاِلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه، فلم تترك لغيرها موضع قدم ، فطرد ما كان يضاد تلك المحبة .
وهذا هو مفاد الآية ولا يشك فيه من لاحظ المقدمات الاَربع التي قدّمناها .
وعلى ذلك فبما انّ (اللام) في قوله : ( ولقد همّت به ) للقسم يكون معنى
قوله : (وهمّ بها ) بحكم عطفه عليه والمعنى: والله لقد همت امرأة العزيز به والله لولا أن رأي يوسف برهان ربّه لهمّ بها ، ولكنّه لاَجل روَية البرهان واعتصامه ، صرف عنه سبحانه السوء والفحشاء ، فإذا به (عليه السلام ) لم يهم بشيء ولم يفعل شيئاً، لاَجل تلك الروَية.
أسئلة وأجوبة
ولاَجل رفع الغطاء عن وجه الحقيقة على الوجه الاَكمل تجب الاِجابة عن عدة من الاَسئلة التي تثار حول الآية، وإليك بيانها وأجوبتها :
السوَال الاَوّل
انّ تفسير الهمّ الوارد في الآية في كلا الجانبين بالعزم على المعصية، تكرار لما جاء في الآية المتقدمة بصورة واضحة وهي قوله : ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الاَبواب وقالت هيت لك) ومع هذا البيان الواضح لا وجه لتكراره ثانياً بقوله : (ولقد همّت به وهمّ بها )خصوصاً في همّها به إذ ورد في الآية المتقدمة بصورة واضحة أعنى قوله: ( هيت لك ).
والجواب : انّ الدافع إلى التكرار ليس هو لاِفادة نفسه مرة ثانية بل الدافع هو بيان كيفية نجاة يوسف من هذه الغائلة، ولاَجل ذلك عاد إلى نفس الموضوع مجدّداً ليذكر مصير القصة ونهايتها، وهذا نظير ما إذا حدّث أحد عن تنازع شخصين وإضرار أحدهما بالآخر واستعداده للدفاع عن نفسه ، فإذا أفاد ذلك ثم أراد أن يشير إلى نتيجة ذلك العراك يعود ثانيةً إلى بيان أصل التنازع حتى يبين مصيره ونهايته والآيتان من هذا القبيل.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 147 _
وبذلك يظهر أنّ ما أفاده صاحب المنار في هذا المقام غير سديد حيث قال: إنّه قد علم من القصة أنّ هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلباً جازماً مصرّة عليه ليس عندها أدنى تردّد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضى له ، فإذاً لا يصح أن يقال : إنّها همّت به مطلقاً إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه ، (1) أقول: قد عرفت دافع التكرار فلا نعيده ، بقي الكلام فيما أفاده في تفسير الهم بأنّه عبارة (عن مقاربة الفعل المتردّد فيه ) ولا يخفى أنّه لا يصح في قوله سبحانه : ( وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ )(2)، أي إخراج الرسول من مكة ، فهم كانوا جازمين بذلك ، وقد تآمروا عليه في ليلة خاصة معروفة في السيرة والتاريخ ، كما لا يصح في قوله سبحانه : ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا )(3) ، حيث حاول المنافقون أن ينفروا بعير النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في العقبة في منصرفه من غزوة تبوك .
السوَال الثاني
إنّ تفسير البرهان بالعصمة لا يتناسب مع سائر استعمالاته في القرآن مثلاً البرهان في قوله سبحانه: ( فَذانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ )(4) عبارة عن معاجز موسى من العصا واليد البيضاء، وعلى ذلك فيجب أن يفسر البرهان بشيء ينطبق على الاِعجاز لا العصمة التي هي من مقولة العلم.
والجواب: انّ البرهان بمعنى الحجة وهي تنطبق تارة على المعجزة وأُخرى على العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يصون الاِنسان عن اقتراف
المعاصي، وقد سبق منا أنّ العصمة لا تسلب القدرة، فهي حجة للنبي في آجله وعاجله ودليل في حياته إلى سعادته .
السوَال الثالث
إنّ قوله سبحانه : ( كَذلِكَ لِنَصرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشَاءَ ) ظاهر في أنّ ( السوء ) غير ( الفحشاء ) فلو فسر قوله : ( ولقد همّت به وهمّ بها ) بالعزم على المعصية يلزم كونهما بمعنى واحد وهو خلاف الظاهر.
والجواب : انّ المراد من ( السوء ) هو الهم والعزم، والمراد من (الفحشاء) هو نفس العمل، فالله سبحانه صرف ببركة العصمة ـ نفس الهم ونفس الاقترافـ كلا الاَمرين .
قال العلاّمة الطباطبائي: الاَنسب أنّ المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها ، كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهي الزنا، ثم قال : ومن لطيف الاِشارة ما في قوله : ( لِنَصرف عنه السوء والفحشاء ) حيث جعل السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفاً عنهما، لما في الثاني من الدلالة على أنّه كان فيه ما يقتضي اقترافه لهما المحوج إلى صرفه عن ذلك ، وهو ينافي شهادته تعالى بأنّه من عباده المخلصين، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركهم فيه شيء ، ولا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أىّ داع من دون الله سبحانه .
ثم قال : وقوله : ( انّه من عبادنا المخلصين ) في مقام التعليل لقوله : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) ، والمعنى عاملنا يوسف كذلك ، لاَنّه من عبادنا المخلصين، ويظهر من الآية انّ من شأن المخلصين أن يروا برهان
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 149_
ربّهم وإنّ الله سبحانه يصرف كل سوء وفحشاء عنهم فلا يقترفون معصيته ولا يهمون بها بما يريهم الله من برهانه ، وهذه هي العصمة الاِلهية (1).
السوَال الرابع
لو كان المراد من ( برهان ربّه )هو العصمة، فلماذا قال سبحانه: (رأي برهانه ربّه )، فإنّ هذه الكلمة تناسب الاَشياء المحسوسة كالمعاجز والكرامات لا العصمة التي هي علم قاهر لا يغلب ويصون صاحبه عن اقتراف المعاصي.
أقول: إنّ الروَية كما تستعمل في الروَية الحسية والروَية بالاَبار، تستعمل أيضاً في الاِدراك القلبى والروَية بعين الفوَاد قال سبحانه: ( مَا كَذَبَ الْفُوََادُ مَا رَأَى ) (2) شخ ، وقوله سبحانه: ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً )(3) وقوله سبحانه : ( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنْا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرينَ )(4) ، وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح بأنّ الروَية تستعمل في الاِدراك القلبى والاستشعار الباطنى.
وعلى ذلك فيوسف الصديق لمّا وقع مقابل ذلك المشهد المغري، الذي يسلب اللب والعقل عن البشر ، كان المتوقع بحكم كونه بشراً ، الميل إلى المخالطة معها والعزم على الاِتيان بالمعصية ، ولكنّه لما أدرك بالعلم القاطع أثر تلك المعصية صانه ذلك عن أي عزم وهمّ بالمخالطة .
هذا هو المعنى المختار في الآية، وبذلك تظهر نزاهة يوسف عن أي هم
وعزم على المخالطة.
وهناك تفسير آخر للآية يتفق مع المعنى المختار في تنزيه يوسف عن كل ما لا يناسب ساحة النبوة غير أنّه من حيث الانطباق على ظاهر الآية يعد في الدرجة الثانية، وهذا المعنى هو الذي اختاره صاحب (المنار) وطلاه بعض المعاصرين وزوّقه ، وسيوافيك بيان صاحب المنار وما جاء به ذلك المعاصر في البحث التالي:
المعنى الثاني للآية
انّ المراد من الهم في كلا الموردين هو العزم على الضرب والقتل مثل قوله سبحانه: ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا )(1) حيث قصد المشركون اغتيال النبي عند منصرفه من تبوك ، فيكون المعنى أنّ امرأة العزيز همت بضربه وجرحه وبطبيعة الحال لم يكن أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه غير انّه رأي انّ ذلك ربّما ينجر إلى جرح امرأة العزيز ويكون ذلك ذريعة بيدها لاتّـهـام يوسف وبهته ، فقد أدرك هذا المعنى ولم يهم بها وسبقها إلى الباب ليتخلّص منها ، وعلى ذلك فيكون معنى الهم في كلا الموردين هو المضاربة لكنه من جانب العزيزة بدافع ومن جانب يوسف بدافع آخر.
وهذا التوجيه يتناسب مع حالة العاشق الواله عندما يخفق في نيل ما يصبو إليه ويتوق إلى تحصيله ، فإنّه في مثل هذا الموقف تحدث له حالة باطنية تدفعه إلى الانتقام من معشوقه الذي لم يسايره في مطلبه ولم يحقق له غرضه، وقد حدث مثل هذا لامرأة العزيز، فإنّـها عندما أخفقت في نيل ما تريد من يوسف ، دفعها الشعور بالهزيمة والاِخفاق إلى الانتقام من يوسف وهذا هو معنى قوله :