طيلة حياتهم وتشتد عليهم الاَزمة والمحنة من جانب المخالفين ، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألداء ، وكان الموَمنون بهم في قلّة ، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل ، والبأساء والضراء ، مظنّة لاَن يتخيّل كل من وقف عليها من نبي وغيره ، انّ ما وعدوا به وعد غير صادق ، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه ، للموَمنين ، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول : ( فَنُجِّىَ مَن نَشاءُ ولا يُردُّ بأسُنا عنِ القومِ المُجْرمين )، (1) ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) ، (2) فالمراد من الرسول هو غير النبي الاَكرم من الرسل السابقين ، فعندما كانت البأساء والضراء تحدق بالموَمنين ونفس الرسول ، وكانت المحن تزلزل الموَمنين حتى أنّـها كانت تحبس الاَنفاس ، فعند ذلك كانت تكاد تلك الاَنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجر في شكل ضراعة إلى الله ، فيقول الرسول والذين آمنوا معه ( متى نصر الله ) ؟ فإنّ كلمة ( متى نصر الله )مقرونة بالضراعة والالتماس ، تقع مظنة تصور استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم ، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم .
  وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة .
  هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية، ولعلّ القارىَ يجد تفسيراً أوقع في النفس مما ذكرناه .

--------------------
(1) يوسف: 110 .
(2) البقرة: 214 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 77 _

الآية الثانية
  ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )، (1) ( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظّالِمينَ لَفي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) ، (2) ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَيُوَْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ )، (3) وهذه الآية أو الآيات من أوثق الاَدلة في نظر القائل بعدم عصمة الاَنبياء، وقد استغلها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحى النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه .
  وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخل في الوحى النازل عليه فيغيره إلى غير ما نزل به .
  ثم إنّه سبحانه يمحو ما يلقي الشيطان ويصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات، فلو كان هذا مفاد الآية ، فهو دليل على عدم عصمة الاَنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلمين على المصونية في هذا المجال .
  وربما يوَيد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية، وسيوافيك نصه وما فيه من الاِشكال .
  فالاَولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن انّها تهدف إلى غير ما

--------------------
(1) الحج: 52 .
(2) الحج: 53 .
(3) الحج: 54 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 78 _
  فسّره المستدل فنقول : يجب توضيح نقاط في الآيات.
  الاَُولى: ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه: ( إذا تمنّى ) ؟
  الثانية: ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه : ( ألقى الشيطان في أُمنيّته )؟
  الثالثة: ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟ .
  الرابعة: ماذا يريد سبحانه من قوله : ( ثم يحكم الله آياته )وهل المراد منه الآيات القرآنية ؟
  الخامسة: كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها ؟ وكيف يكون سبباً لاِيمان الموَمنين، وإخبات قلوبهم له ؟
  وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الاِبهام الذي نسجته الاَوهام حول الآية ومفادها فنقول :

1 ـ ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟
  أمّا الاَُمنية قال ابن فارس : فهي من المنى، بمعنى تقدير شىء ونفاذ القضاء به ، منه قولهم : مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي:
لا تأمنن وان أمسيــت في حرم * حتى تلاقى ما يمنى لك المانى   والمنا : القدر، وماء الاِنسان: منيّ ، أي يُقدّر منه خلقته ، والمنيّة : الموت، لاَنّها مقدّرة على كل أحد، وتمنّى الاِنسان: أمل يقدّره ، ومنى مكة : قال قوم : سمّي به لما قُدّر أن يُذبح فيه ، من قولك مناه الله (1).

--------------------
(1) المقاييس: 5|276.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 79_
  وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والاَنبياء من طريق الكتاب العزيز ، ولا يشك من سبر الذكر الحكيم انّه لم يكن للرسل والاَنبياء ، أُمنية سوى نشر الهداية الاِلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة ، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامى ، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً ، وكانوا يخططون لهذا الاَمر ، ويفكّرون في الخطة بعد الخطة، ويمهدون له قدر مستطاعهم ، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها :
  يقول سبحانه في حق النبي الاَكرم: ( وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُوَْمِنينَ )، (1) ويقول أيضاً: ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ )، (2) ويقول أيضاً: ( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْمِنْ ناصِرينَ ) ، (3) ويقول سبحانه : ( إِنَّكَ لاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) . (4)
  ويقول سبحانه : ( فَذَكّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكّر* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بُمُصَيْطِرٍ )، (5) هذا كلّه في حق النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته : ( وَإِنّى كُلَّما

--------------------
(1) يوسف: 103 .
(2) فاطر: 8 .
(3) النحل: 37 .
(4) القصص: 56 .
(5) الغاشية: 21 ـ 22 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 80 _
  دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْإِسْراراً )، (1) ويقول سبحانه بعد عدة من الآيات: ( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْني وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَساراً* وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً* وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظّالِمينَ إِلاّ ضَلالاً )، (2) فهذه الآيات ونظائرها تنبىَ بوضوح عن أنّ أُمنية الاَنبياء الوحيدة في حياتهم وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله ، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن ، وان منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع ، فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.
  إلى هنا تبيّن الجواب عن السوَال الاَوّل، وهلم معي الآن لنقف على جواب السوَال الثاني ، أعنى:

2 ـ ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل ؟
  وهذا السوَال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف، وبالاِجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح فنقول : إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين :
  1 ـ أن يوسوس في قلوب الاَنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة ، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم ، وانّ هذه الاَُمّة أُمّة غير قابلة للهداية ، فتظهر

--------------------
(1) نوح: 7 ـ 9 .
(2) نوح: 21 ـ 24 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 81 _
  بسبب ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم .
  ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الاَنبياء بنص القرآن الكريم، لاَنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الاَنبياء وضمائرهم ، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والاِرشاد ، والقرآن الكريم ينفى تسلل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الاَنبياء ومن دونهم ، ويقول سبحانه : ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) ، (1) ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان: ( فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَّنَهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ، (2) وليس إيجاد الوهن في عزائم الاَنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفي بنص الآيات.
  2 ـ أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الاَنبياء : والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخططاتهم عقيمة غير مفيدة .
  وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحض أقوام الاَنبياء :على المخالفة ويعدهم بالاَماني ، حتى يخالفوهم.
  قال سبحانه : ( يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيطانُ إلاّ غُرُوراً ) (3).

--------------------
(1) الحجر: 42 ، الاِسراء: 65 .
(2) ص: 82 ـ 83 .
(3) النساء: 120 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 82 _
  وقال سبحانه : ( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِىَ الاََمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلومُوني وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) ، (1) وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الاَنبياء والرسل ، وكانوا يخدعونهم بالعدة والاَماني، وعند ذلك يتضح مفاد الآية، قال سبحانه : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنى ( أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط، وهيّأ لذلك المقدمات ) ألقى الشيطان في أُمني ّته ) ( بحض الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الاَنبياء حتى تصبح المقدمات عقيمة غير منتجة ).

3 ـ ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟
  إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه : ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان )وما معنى هذا النسخ ؟ .
  والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر ، والعون والاِنجاح ، قال سبحانه: ( إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا ) (2) وقال سبحانه : ( كَتَبَ اللهُ لاََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِىّ عَزِيزٌ ) (3) وقال سبحانه: ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) (4).

--------------------
(1) إبراهيم: 22 .
(2) غافر: 51 .
(3) المجادلة: 21 .
(4) الاَنبياء: 18 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 83 _
  وقال سبحانه: ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ) ، (1) وقال في حق النبي الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ( هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ، (2) وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاََرْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصّالِحُونَ ) ، (3) إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكى عن انتصار الحق الممثل في الرسالات الاِلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه .

4 ـ ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟
  إذا تبين معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان، يتبين المراد من قوله سبحانه: ( ثم يحكم الله آياته ).
  فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه .
  وإن شئت قلت : إذا نسخ ما يلقيه الشيطان، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً، وسعادة الناس ثانياً .
  ومن أسخف القول: إنّ المراد من الآيات، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الاَكرم، وذلك لاَنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الاَكرم، بل الرسل والاَنبياء على وجه الاِطلاق، أضف إليه انّه ليس كل نبي ذا كتاب وآيات ،

--------------------
(1) الصافات: 171 ـ 173 .
(2) التوبة: 33 .
(3) الاَنبياء: 105 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 84 _
  فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله ؟
  ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة .
  والحاصل : انّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للاَوّل ، والاندحار والهزيمة للثاني فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه ، بإرادة الله سبحانه ، فتخلفها البرامج الحيوية الاِلهية وآياته الناصعة ، فيصبح الحق قائماً وثابتاً ، والباطل داثراً وزاهقاً ، قال سبحانه : ( وَقُلْ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) (1).

5 ـ ما هي النتيجة من هذا الصراع ؟
  قد عرفت أنّ الآية تعلل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث:
  1 ـ الذين في قلوبهم مرض.
  2 ـ ذات القلوب القاسية.
  3 ـ الذين أوتوا العلم.
  إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الاِخلاص والاِيمان.
  فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الاِلهية، والقلوب القاسية التي أسّرتها الشهوات، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا، تتسابق إلى دعوة الشيطان

--------------------
(1) الاِسراء: 81.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 85_
  وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة ، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها .
  وأمّا النفوس الموَمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصمودا .
  وهذه النتيجة حاكمة في عامة اختبارات الله سبحانه لعباده ، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لاَجل العلم بواقع النفوس ومكامنها ، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ )(1)، وانّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب ، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.
  وفي ذلك يقول الاِمام أمير الموَمنين على ( عليه السلام ) في معنى الاختبار بالاَموال والاَولاد الوارد في قوله: ( وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَولادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (2): (ليتبيّن الساخط لرزقه ، والراضي بقسمه ، وان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الاَفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب) ، (3) وقد وقفت بعد ما حررت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي ـ قدس الله سره ـ وهو قريب مما ذكرناه : قال : المراد من الاَُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر ، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي ويشهد به سوق الآيات ، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما ، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى ، وتأييد شريعة الحق ، ونحو ذلك ، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في

--------------------
(1) الملك: 14 .
(2) الاَنفال: 28 .
(3) نهج البلاغة: قسم الحكم الرقم : 93 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 86 _
  هذا المتمنّى الصالح ما يشوشه ، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض ، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى ، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم ، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم ، وأحكام الشريعة بعده ، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق، ثم يحكم الله آياته ويوَيد حججه بإرسال الرسل، أو تسديد جامعة الدين القيم ، (1) وما ذكره ـ قدّس الله سرّه ـ كلام لا غبار عليه ، وقد شيدنا أساسه فيما سبق .
  إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسك به بعض القساوسة الطاعنين في الاِسلام، ومن حذا حذوهم من البسطاء .

التفسير الباطل للآية
  ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الاِسلام والتنقيص من شأن القرآن، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا : بأنّ المراد من الآية هو انّ ( ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه تدخل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها" واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي، ومحمد بن قيس قالا : جلس رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى* ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ) (2) فقرأها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى إذا بلغ : ( أفَرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزّى * ومَناةَ الثالِثَةَ الا َُخْرى )(3) ألقى عليه الشيطان

--------------------
(1) الهدى إلى دين المصطفى: 1|134 .
(2) النجم: 1 ـ 2 .
(3) النجم: 19 ـ 20 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 87 _
  كلمتين : (تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) فتكلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها ، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، فرضوا بما تكلم به وقالوا قد عرفنا: إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك ، قالا : فلمّا أمسى أتاه جبرائيل (عليه السلام) فعرض عليه السورة، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه ، قال ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه: ( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ) إلى قوله:
  ( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) (1) فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه: ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ واللهُ عَليِمٌ حَكِيمٌ ) قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة انّ أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان ، (2) ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الاِشكالات التي تسقطه عن صحة الاستناد إليه .
  أمّا أوّلاً: فلأنّه مبني على أنّ قوله (تمنّى) بمعنى تلا ، وانّ لفظة (أُمنيته) بمعنى تلاوته ، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث ولو صح فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه .

--------------------
(1) الاِسراء: 73 ، 75 .
(2) تفسير الطبري: 17|131 ، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 88 _
  نعم استدل بعضهم بقول حسان على ذاك الاستعمال:

تمنى  كتاب الله أوّل iiليلة      وآخره لاقى حمام المقادر

  وقول الآخر:
تـمنى كـتاب الله آخر iiليلة      تمنّي داود الزبور على رسل

  وهذان البيتان لو صح اسنادهما إلى عربي صميم كحسان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذة .
  أضف إلى ذلك انّ البيت غير موجود في ديوان حسان ، وانّما نقله عنه المفسرون في تفاسيرهم ، وقد نقله أبو حيان في تفسيره ( ج 6 ص 382 ) واستشهد به صاحب المقاييس ( ج 5 ص 277 ).
  ولو صح الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الاَوّل دون الاَُمنية لعدم ورودها فيه .
  وثانياً : أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين ومن هو دونهم إلاّ إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصة.
  أضف إلى ذلك ، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس، فلاحظ ، (1) وثالثاً: أنّ القصة تكذّب نفسها ، لاَنّها تتضمن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات، استرسل في تلاوة بقية السورة إلى آخرها

--------------------
(1) الهدى إلى دين المصطفى: 1|130 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 89_
  وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه ، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.
  ولكن الآيات التي وقعت بعدهما ، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه: ( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى* إِنْ هِىَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباوَُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (1)إلى آخر الآيات.
  وعندئذ يطرح هذا السوَال، وهو انّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم : الوليد بن المغيرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذا الثناء القصير، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندد بآلهتهم بشدة وعنف ، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الاِلوهية إلاّ الاسم والعنوان؟!
  أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاً لها ، وقد قيل: لا ذاكرة لكذوب.
  ورابعاً : أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيه الاَكرم بقوله: ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى ) (2) وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيه في أوّل السورة بهذا الوصف، ثم يبدر من نبيه ما ينافي هذا التوصيف أشد المنافاة وفي وسعه سبحانه صون نبيه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير ؟!
  وخامساً: أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات ، تكذبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الاَكرم في مقام تلقّى الوحى والتحفظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه: ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) . (3)

--------------------
(1) النجم: 22 ـ 23 .
(2) النجم: 3 ـ 4 .
(3) الجن: 27 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 90 _
  وقوله تعالى: ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الاََقاوِيلِ* لاََخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) ، (1) وسادساً : أنّ علماء الاِسلام، وأهل العلم والدراية من المسلمين قد واجهوا هذه الحكاية بالرد، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها ، (2) وقال النسفي: إنّ القول بها غير مرضىّ ، وقال الخازن في تفسيره : إنّ العلماء وهّنوا أصل القصة ولم يروها أحد من أهل الصحة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح ، أو سليم متصل ، وإنّما رواها المفسرون والموَرخون المولعون بكل غريب ، الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم ، والذي يدل على ضعف هذه القصة اضطراب رواتها ، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها ، (3) هذه هي أهم الاِشكالات التي ترد على القصة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا (فروغ أبديت) (4) ولا نطيل المقام بذكرها.

--------------------
(1) الحاقة: 44 ـ 46.
(2) تنزيه الاَنبياء: 109.
(3) الهدى إلى دين المصطفى: 1|130.
(4) كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الاَكرم من ولادته إلى وفاته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد طبع في جزءين.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 91 _
الطائفة الثانية ما يمس عصمة عدة خاصة من الاَنبياء
  فهذه الطائفة عبارة عن الآيات التي تمس بظاهرها عصمة بعض الاَنبياء بصورة جزئية وها نحن نذكرها واحدة بعد أُخرى.
  1 ـ عصمة آدم (عليه السلام) والشجرة المنهي عنها وجعل الشريك لله وقد طرحنا في هذه الطائفة أبرز الآيات التي وقعت ذريعة بأيدي المخطّئة في مجال نفى العصمة عن عدة معينة من الاَنبياء، وراعينا الترتيب التاريخى لهم ، فنقدم البحث عن عصمة آدم ( عليه السلام ) على البحث عن عصمة نوح (عليه السلام ) وهكذا .
  إنّ حديث الشجرة المنهي عنها هو أقوى ما تمسّك به المخالفون للعصمة المجوّزون صدور المعصية من الرسل والاَنبياء، ويعدّ ذلك في منطقهم (كبيت القصيد) في ذلك المجال، ولاَجل ذلك ينبغى التوسّع في البحث واستقصاء ما يمكن أن يقع ذريعة في يد المخالف فنقول :

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 92 _
  إنّ حديث الشجرة ورد على وجه التفصيل في سور ثلاث ، نذكر منها ما يتعلّق بمورد البحث قال سبحانه : ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الْشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الاََرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاعٌ إِلَى حِين * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (1)
  ويقول سبحانه: ( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِىَ لَهُمَا مَا وُرِىَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِما وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هِذِهِ الشَّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْـنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحينَ * فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُما رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مُبينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبََعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الاَرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (2)
  فأنت ترى أنّه سبحانه يتوسّع في بيان القصة في هذه السورة ، بينما هو يختصر في بيانها في السورة السابقة، ووجه ذلك أنّ سورة الاَعراف مكيّة وسورة البقرة مدنية ، ولما توسّع في البيان في السورة المتقدّمة أوجز في السورة اللاحقة ولم يفصّل .

--------------------
(1) البقرة: 35 ـ 37 .
(2) الاَعراف: 19 ـ 24 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 93 _
  ويقـول سبحانـه: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأنَّكَ لا تَظْمَوَا فِيَها ولا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (1)
  هذه السور الثلاث قد احتوت على مهمات هذه القصة، فينبغي علينا توضيح ما ورد فيها من الجمل والكلمات التي تعتبر مثاراً للتساوَلات الآتية:

التساوَلات حول الآيات
  إنّ التساوَلات المطروحة حول الآيات عبارة عن:
  1 ـ ما هي نوعية النهى في قوله تعالى : ( لا تقربا )؟
  2 ـ ما هو المراد من وسوسة الشيطان لآدم وزوجته ؟   3 ـ ماذا يراد من قوله : ( فأزلّهما الشيطان )؟
  4 ـ ماذا يراد من قوله : ( فعصى آدم ربه فغوى )وهل العصيان والغواية يلازمان المعصية المصطلحة ؟
  5 ـ ما معنى اعتراف آدم بظلمه لنفسه في قوله : ( ربنا ظلمنا أنفسنا )؟

--------------------
(1) طه: 115 ـ 123.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 94 _
  6 ـ ماذا يراد من قوله سبحانه : ( فتلّقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) فهل التوبة دليل العصيان ؟
  7 ـ ما معنى قوله : ( وإن لم تغفر لنا وترحمنا )؟
  فلنبدأ بالاِجابة على هذه الاَسئلة واحداً بعد واحد ، وعند ختام البحث يقف القارىَ على أنّ آدم أبا البشر كان نزيهاً عما أُلصق به من المخالفة للتكليف الاِلهي الاِلزامي المولوي الموجب للعقوبة .

1 ـ ما هي نوعية النهى في قوله تعالى : ( لا تقربا )
  إنّ النهي ينقسم إلى قسمين: مولوي وإرشادي ، والفرق بين القسمين بعد اشتراكهما غالباً في أنّ كلاً منهما صادر عن آمر عال إلى من هو دونه ، هو أنّه الآمر قد ينطلق في أمره ونهيه من موقع المولوية والسلطة ، متخذاً لنفسه موقف الآمر ، الواجبة إطاعته، فيأمر بما يجب أن يطاع ، كما أنّه ينهى عمّـا يجب أن يُجتنب ، فعند ذلك يترتب الثواب على الطاعة ، والعقاب على المخالفة، وهذا هو شأن أكثر الاَوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنّة .
  وقد ينطلق في ذلك من موقع النصح والاِرشاد، والعظة والهداية، من دون أن يتخذ لنفسه موقف الآمر، الواجبة طاعته ، بل يتخذ لنفسه موقف الناصح المشفق، القاصد لاِسعاد المخاطب وإنجائه من الشقاء، وعند ذلك يترك انتخاب أحد الجانبين للمخاطب ذاكراً له ما يترتب على نفس العمل من آثار خاصّة من دون أن تترتب على ذات المخالفة أيّة تبعة .
  وإن شئت قلت : إنَّ نفس العمل والفعل ذو آثار طبيعية ومضاعفات تترتب عليه في كل حين وزمان ، من دون فرق بين فاعل وآخر ، فيذكر المولى العالم

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 95_
  بعواقب الاَعمال وآثار الاَفعال ، بما يترتب على ذات العمل من سعادة وشقاء، فيجعل المخاطب في موقف العالم بآثار الشيء ويترك اختيار أحد الطرفين إليه، حتى يكون هو المختار في العمل، فإن اتبع نصحه وإرشاده فقد نجا عما يترتب على العمل من الهلاك والخسران ، وإن خالفه تصيبه المضاعفات التي تكمن في ذات العمل.

ولتوضيح ذلك نأتي بمثال
  إنّ الطبيب إذا وصف دواء لمريض وأمره بتناول ذلك الدواء والاجتناب عن أُمور أُخرى ، فلو قام المريض بالطاعة والامتثال ، تترتب عليه الصحة والعافية ، وإن خالف أمر الطبيب لم يترتب على تلك المخالفة سوى المضاعفات المترتبة على نفس العمل، وذلك لاَنّ الطبيب لم يكتب له تلك الوصفة إلاّ بما أنّه طبيب ناصح ومعالج مشفق .
  ومثل ذلك ما إذا قال سبحانه : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول )بعدما أمر الناس بواجبات ونهى عن أُمور ، فلو خالف المكلّف وترك الواجب كالصلاة والصوم وارتكب المنهيات كالكذب والغيبة ، فقد خالف عندئذ أمرين:
  1 ـ الاَمر بالصلاةوالصوم .
  2 ـ الاَمر بإطاعة الله ورسوله .
  فلا يترتب على تينك المخالفتين سوى عقاب واحد لا عقابان، وذلك لاَنّ الاَمر الثاني لم يكن أمراً مولوياً ، بل كان أمراً إرشادياً لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على مخالفة الاَمر الاَوّل، وذلك لاَنّ المفروض أنّ الآمر لم يتخذ لنفسه عند الاَمر بإطاعة الله ورسوله ، موقف الآمر الواجب الطاعة ، بل أمر بلباس النصح والاِرشاد .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 96 _
  إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ مخالفة النهي عن الشجرة إنّما تعدّ معصية بالمعنى المصطلح إذا كان النهي مولوياً صادراً عنه سبحانه على وجه المولوية ، لا أمراً إرشادياً وارداً بصورة النصح، والقرائن الموجودة في الآيات تشهد بأنّه إرشادي ، لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على ذات العمل من الآثار الوضعية والطبيعية ، لا مولوي حتى يترتب عليه وراء تلك الآثار ، عقاب المخالفة وموَاخذة التمرّد، وإليك هذه القرائن:
  1 ـ لو كان النهي عن الشجرة نهياً مولوياً يجب أن يرتفع أثره بعد التوبة والاِنابة ، مع أنّا نرى أنّ الاَثر المترتب على المخالفة بيى على حاله رغم توبة آدم وإنابته إلى الله سبحانه ، وهذا دليل على أنّ الخروج عن الجنّة والتعرّض للشقاء والتعب ، كان أثراً طبيعياً لنفس العمل، وكان النهي لغاية صيانة آدم (عليه السلام ) عن هذه الآثار والعواقب ، كما إذا نهى الطبيبُ المصابَ بمرض السكر عن تناول المواد السكرية.
  2 ـ انّ الآيات الواردة في سورة (طه) تكشف النقاب عن نوعية هذا النهى، وتصرح بأنّ النهي كان نهياً إرشادياً لصيانة آدم (عليه السلام ) عمّـا يترتب عليه من الآثار المكروهة والعواقب غير المحمودة، قال سبحانه : ( فَقُلْنَا يا آدمُ إنَّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى* إنّ لَكَ ألاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لا تَظْمَوَا فِيهَا ولاَ تَضْحَى ) (1) فإنّ قوله سبحانه: ( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى ) صريح في أنّ أثر امتثال النهى هو البقاء في الجنّة ، ونيل السعادة التي تتمثل في قوله : ( إنّ لَكَ ألاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَوَا فِيهَا

--------------------
(1) طه : 117 ـ 119 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 97 _
  ولاَ تَضْحَى ) وانّ أثر المخالفة هو الخروج من الجنّة والتعرض للشقاء الذي يتمثل في الحياة التي فيها الجوع والعرى ، والظمأ وحرّ الشمس، كل ذلك يدلّ على أنّه سبحانه لم يتخذ لدى النهي موقف الناهي ، الواجبة طاعته ، بل كان ينهى بصورة الاِرشاد والنصح والهداية ، وانّه لو خالفه لترتب عليه الشقاء في الحياة والتعب فيها .
  3 ـ انّه سبحانه ـ بعد ما أكل آدم وزوجته من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة ـ ناداهما: ( أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مُبِينٌ ) (1) فإنّ هذا اللسان ، لسان الناصح المشفق الذي أرشد مخاطبه لمصالحه ومفاسده في الحياة ، ولكنه خالفه ولم يسمع قوله ، فعندئذ يعود ويخاطبه بقوله : ألم أقل لك ... ألم أنهك عن هذا الاَمر ؟
  4 ـ انّه سبحانه يبيّـن أنّ وسوسة الشيطان لهما لم يكن إلاّ لاِبداء ما وُرى عنهما من سوءاتهما حيث يقول : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِىَ لَهُمَا مَا وُرِىَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِمَا ) (2)
  وهذا يكشف عن أنّ ما يترتب على الوسوسة ومخالفة آدم (عليه السلام ) بعدها لم يكن إلاّ إبداء ما وُرى عنهما من السوأة ، الذي هو أثر طبيعي للعمل من دون أن يكون له أثر آخر من ابتعاده عن لطفه سبحانه ، وحرمانه عن قربه ، الذي هو أثر المخالفة للخطابات المولوية.
  5 ـ انّه سبحانه يحكي أنّ وسوسة الشيطان لهما كانت بصورة النصح

--------------------
(1) الاَعراف: 22 .
(2) الاَعراف: 20 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 98 _
  والاِرشاد حيث قال : ( وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) ، (1)وهذا يكشف عن أنّ خطابه سبحانه إليهما كان بصورة النصح أيضاً، وهذا واضح لمن له أدنى إلمام بأساليب الكلام.
  فهذه القرائن وغيرها الموجودة في الآيات الواردة حول قصة آدم ( عليه السلام ) تدل بوضوح على أنّ النهي في هذا المقام كان نهياً إرشادياً لا مولوياً ، وكان الهدف تبقية آدم (عليه السلام ) بعيداً عن عوامل الشقاء والتعب ، ولكنّه لم يسمع قول ناصحه فعرّض نفسه للشقاء ، وصار مستحقاً لاَن يخاطب بقوله سبحانه: ( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعضٍ عدُوّ وَلَكُمْ فِي الاََرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاعٌ إِلَى حِين ) (2) وقوله سبحانه: ( قال اهْبِطَا مِنْهَا جَميعَاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ ) (3) أضف إلى ذلك أنّ الظرف الذي تلقّى فيه آدم هذا النهي، (النهي عن الاَكل من الشجرة) لم يكن ظرف تكليف حتى تعد مخالفته عصياناً لمقتضاه ، فإنّ ظرف التكليف هو المحيط الذي هبط إليه مع زوجته بعد رفض النصح، أمّا ذلك المحيط فكان معداً لتبصير الاِنسان بأعدائه وأصدقائه ، ودورة تعليمية لمشاهدة نتائج الطاعة وآثار المخالفة، أىّ ما يترتب على قبول قوله سبحانه من السعادة، وما يترتب على قبول قول إبليس من الشقاء، وفي مثل ذلك المحيط لا يعد النهي ولا الاَمر تكليفاً ، بل يُعد وسيلة للتبصير وتحصيل الاستعداد لتحمّل التكاليف في المستقبل، وكانت تلك الدورة من الحياة دورة إعدادية لاَبى البشر وأُمّهم ، حتى يلمس الحقائق لمس اليد.

--------------------
(1) الاَعراف: 21 .
(2) الاَعراف: 24 .
(3) طه: 123 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 99_
  إلى هنا تمت الاِجابة على السوَال الاَوّل، غير أنّ هناك جواباً آخر ذكره أكثر المفسرين، ونحن نأتي به بشكل موجز :

جواب آخر عن الاِشكال
  إنّ أكثر المفسرين من العدلية اختاروا أنّ مخالفة آدم لم تكن إلاّ مخالفة لنهي مولوي غير إلزامي، وهو ما يعبّـر عنه بترك الاَولى وترك الاَفضل، وأمّا إطلاق العصيان وغيره من الكلمات الموهمة في المقام.
  فحاصل كلامهم في ذلك : أنّ الذنب على قسمين : ذنب مطلق ، وهو مخالفة الاِرادة القطعية الاِلزامية للمولى الحكيم من غير فرق بين إنسان وإنسان ، فمن خالفه يكون عاصياً سواء فيه العاكف والباد.
  وذنب نسبي ، وهو ما يعد ذنباً وأمراً غير صحيح بالنسبة إلى شخص دون شخص ، وهو ما يكون العمل بالذات مباحاً وجائزاً غير قبيح في حد نفسه ، غير أنّ العرف والمجتمع يستقبح صدوره من شخص خاص ، ويعده أمراً غير صحيح ، ومثاله ما يلي :
  إنّ المساعدة المالية القليلة ممن يمتلك الآلاف الموَلّفة وإن كانت جائزة، لكنّها تثير اعتراض الناس على فاعلها مع أنّه لم يرتكب عملاً قبيحاً بالذات .
  كما أنّ إقامة الصلاة مع عدم تفرّغ البال مبرئة للذمة ومسقطة للتكليف ، إلاّ أنّه إذا أتى بها النبي بهذه الصورة يُعد أمراً غير لائق بمقامه وغير مترقب منه ، فوزان الاَكل من الشجرة الممنوعة وزان صدور بعض الاَعمال المباحة بالذات من الشخصيات الكبيرة المحترمة.
  ونزيد توضيحاً في ذلك: إذا وقفنا على أنّه سبحانه أعزّ آدم بتعليمه

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 100_
  الاَسماء، وجعله معلماً للملائكة ومسجوداً لهم، وفي هذه الحالة طلب منه أن يترك الاَكل من الشجرة المعينة، كان المترقب من مثله أن يتورّع عن أيّة مخالفة مهما صغرت ، ومهما كان الاَمر والنهي غير إلزاميين، ولاَجل ذلك يعد هذا العمل ـ مع ملاحظة ما حفّه من الشرائط ـ عصياناً محتاجاً إلى التوبة.

جواب ثالث عن الاِشكال
  وهاهنا جواب ثالث : وهو أنّ محور البحث عند المتكلّمين في عصمة الاَنبياء عبارة عن مخالفة الاِنسان المكلّف، للتكليف الاِلهي بعد تشريع الشرائع، وإنزال الكتب، ولو كان هذا هو المعيار لما صدق في قصة آدم، لاَنّ البيئة التي كان أبو البشر يعيش فيها قبل الهبوط، لم تكن دار التشريع والتكليف ، ولم تكن هناك أيّة شريعة، والمخالفة في هذا المحيط لا تعد نقضاً للعصمة ، فلاحظ ، فقد تقدم بعض ذلك الكلام في ذيل الجواب الاَوّل.
  إلى هنا تبيّـن أنّ مخالفة آدم لنهيه سبحانه لا تضاد عصمته، وقد عرفت الاَجوبة الثلاثة، فحان حين البحث عن بعض المفاهيم الواردة في الآيات التي تقدّمت عليك وربّما يُعد بعضها دليلاً على أنّ المخالفة من آدم كانت ذنباً شرعياً ، ولاَجل ذلك يجب علينا توضيح هذه المفاهيم الواردة في القصة.

2 ـ ما معنى وسوسة الشيطان لآدم ؟
  وحقيقة هذا السوَال ترجع إلى أنّ ظاهر الآيات الماضية هو تأثير الشيطان في نفس آدم بالوسوسة قال سبحانه: ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ ) (1)، وقال

--------------------
(1) الاَعراف: 20.