ولم يكن قيامه بهذا العمل صادراً عنه لجهة إظهار القدرة والسطوة أو للبطر والشهوة ، بل إطاعة لاَمره سبحانه وذكره حتى يقف الموحدون على وظائفهم ، ويستعدوا للكفاح والنضال ما تمكنوا ، ويهيّئوا الاَدوات اللازمة في هذا المجال (1).
وهذا هو الذي تهدف إليه الآيات وينطبق عليها انطباقاً واضحاً، فهلّم معي ندرس المعنى الذي فرض على الآيات، وهي بعيدة عن تحمّله وبريئة منه.
نقد التفسير المفروض على القرآن
إنّ في نفس الآيات قرائن وشواهد تدل على بطلان القصة التي اتخذت تفسيراً للآيات ، وإليك بيانها:
1 ـ انّ الذكر الحكيم يذكر القصة بالثناء على سليمان ويقول: ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدِ إِنَّهُ أوَّابٌ) فاسلوب البلاغة يقتضي أن لا يذكر بعده ما يناقضه ويضادّه ، فأين وصفه بحسن العبودية والرجوع إلى الله في أُمور دينه ودنياه ، من انشغاله بعرض الخيل وغفلته عن الصلاة اامفروضة عليه ؟!
ولو فرضت صحة الواقعة، فلازم البلاغة ذكرها في محل آخر، لا ذكرها بعد المدح والثناء المذكورين في الآية.
2 ـ انّما يصح حمل قوله : ( أحببت حب الخير عن ذكر ربّي ) على ما جاء في القصة إذا تضمن الفعل ( أحببت ) معنى الترجيح والاختيار ، والتقدير أي أحببت حب الخير مقدّماً إيّاه على ذكر ربّي ومختاراً إيّاه عليه ، وهو يحتاج إلى
--------------------
(1) وقد اختار هذا التفسير السيد المرتضى في تنزيه الاَنبياء: 95 ـ 97، والرازي في مفاتيح الغيب: 7|136 ، والمجلسي في البحار: 14|103 ـ 104 من الطبعة الحديثة.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 177 _
الدليل.
3 ـ ولو قلنا بالتضمين ، فيجب أن يقال مكان ( عن ذكر ربّي ) (على ذكر ربي)، أي أحببت حب الخير واخترته على ذكر الله ، كما في قوله سبحانه : ( فَاسْتَحَبُّوا العَمَى على الهُدَى )(1)، وقوله تعالى: ( إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الاِيمان )(2).
4 ـ انّ ضمير الفعل في قوله تعالى : ( توارت ) يرجع إلى الصافنات المذكورة في الآية، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس، وليست مذكورة في الآية، ودلالة لفظ ( بالعشى ) عليها ضعيفة جداً .
5 ـ الضمير في قوله : ( ردّوها ) على المختار ـ يرجع إلى الصافنات، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس، وهي غير مذكورة .
6 ـ انّ الخطاب في قوله : ( ردّوها ) على المختار متوجه إلى روَساء الجنود وهو واقع موقعه ، وعلى التفسير المنقول عن بعضهم (3) يكون متوجهاً إلى الملائكة، وهو لا يناسب ، إلاّ كونه منه سبحانه لعلوّه واستعلائه ، لا من مثل سليمان بالنسبة إليهم.
7 ـ لا شك أنّ للصفوة من عباده سبحانه ولاية تكوينية ومقدرة موهوبة على التصرّف في الكون بإذنه سبحانه ، لغايات مقدّسة لاِثبات نبوّتهم وكونهم مبعوثين من الله سبحانه لهداية عباده ، وتدلّ عليها آيات كثيرة تعرضنا لبعضها في كتابنا مفاهيم القرآن (4) ، ولم يكن المقام هنا مناسباً للتحدّي حتى يتوصل إلى
--------------------
(1) فصلت: 17 .
(2) التوبة: 23 .
(3) نسبه الطبرسي إلى (القيل) كما مرَّ .
(4) لاحظ الجزء الاَول: 444 ـ 446 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 178_
الاِعجاز والتصرّف في الكون بالاَمر برد الشمس، فإنّ الصلاة الفائتة لو كانت مفروضة فجبرانها بقضائها ، ولو كانت مسنونة فلا إشكال في فوتها، فلم يكن هناك لزوم للتصرّف في الكون وأمر ملائكة الله بردّها حتى يأتى بالصلاة المسنونة.
8 ـ لو كان المراد من ( ردّوها ) طلب رد الشمس من ملائكته سبحانه ، فاللازم أن يذكر الغاية من ردّها بأن يقول : حتى أتوضّأ وأُصلي ، وليس لهذا ذكر في الآية، بل المذكور قوله : ( فطفق مسحاً بالسوق والاَعناق )، وهذا يعرب عن أنّ الغاية المترتبة على الرد هي مسح السوق والاَعناق، لا التوضّوَ والصلاة.
9 ـ انّ تفسير المسح بالقطع ، تفسير بلا دليل ، إذ المتبادر من المسح هو إمرار اليد عليها لا قطعها واجتثاثها ، ولو كان هذا هو المراد ممّا ورد في القصة فالاَنسب أن يقول : فطفق ضرباً بالسوق ، لا مسحاً .
10 ـ انّ التفسير المذكور ينتهي إلى كذّاب الاَحبار، وهو كعب الذي لم يزل يدسّ في القصص والاَخبار بنزعاته اليهودية، ومن أراد أن يقف على دوره في الوضع والكذب وغير ذلك في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى أبحاثنا في الملل والنحل.
11 ـ انّ بعض المفسرين قاموا بتفسير قوله : ( فطفق مسحاً بالسوق والاَعناق ) بمسحها بالماء كناية عن الوضوء ، وهو في ضعفه كما ترى ، إذ لو كان المراد ما ذكره ذلك البعض، فلماذا بدل الغسل بالمسح ، والساقين بالسوق والعنق بالاَعناق ، مع أنّه لم يكن لسليمان إلاّ ساقان وعنق واحد ؟
12 ـ إنّ قتل الخيل التي عبّر عنها نفس سليمان ( بالخير ) بحجة أنّ الاشتغال بعرضها صار سبباً لفوت الصلاة أشبه بعمل إنسان لا يملك من العقل شيئاً ، وحاشا سليمان الذي آتاه الله الحكم والعلم وسلّطه على الاَرض من
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 179 _
الاِنس والجن والسماء ، من هذا العمل الذي لا يقترفه السفلة من الناس إلاّ المجانين منهم ، ولا العاديّون من السوقة، فضلاً عن أنبياء الله وأوليائه المنزّهين .
وفي الختام نلفت نظر القارىَ إلى ما ذكره (سيد قطب) في تفسير هذه الآيات في تفسيره قال :
أمّا قصة الخيل: انّ سليمان ( عليه السلام ) استعرض خيلاً له بالعشي ، ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب، فقال : ردّوها علىّ ، فردّوها عليه ، فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربّه.
وفي رواية: روي أنّه جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها ، لاَنّها كانت خيلاً في سبيل الله .
ثم قال : وكلتا الروايتين لا دليل عليها ، ويصعب الجزم بشيء منها ، (1) والعجب من السيد أنّه أعطى الروايتين مكانة واحدة مع أنّ الاَُولى تضاد حكم العقل، وسيرة الاَنبياء والعلماء ، لذلك يسهل الجزم ببطلانها ، وأمّا الثانية فهي تنطبق على ظاهر الآيات كمال الانطباق ، وهو المروي عن حبر الاَُمّة ابن عباس .
وقد نقل الرواية الاَُولى عن أُناس كانوا لا يتحرّزون من الاَخذ عن الاَحبار المستسلمين ، فنقلها الطبري في تفسيره ، عن السدي وقتادة ، حتى أنّ الطبري مع نقله أُولى الروايتين اختار قول ابن عباس واستوجهه ، وقال : إنّ نبي الله لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب سوى أنّه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها (2).
--------------------
(1) في ظلال القرآن الكريم: 23|100.
(2) تفسير الطبري: 3|100.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 180 _
ولا يقصر عنه ما نقله السيوطي في (الدر المنثور) من الاَساطير حول هذه الخيول، فروي عن إبراهيم التميمي أنّه قال : كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة، فعقرها ، وفي الوقت نفسه نقل قول ابن عباس في تفسير المسح: ظل سليمان يمسح أعراف الخيل وعراقيبها ، (1) هذا حال التفسير المفروض على الآية، وهناك مستمسك آخر في مورد سليمان للمخطّئة نأتي به .
الفتنة التي امتحن بها سليمان
قال سبحانه: ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لاَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )(2) .
وتوضيح مفاد الآيات يترتب على البحث عن الاَُمور التالية:
1 ـ ما هي الفتنة التي امتحن بها سليمان ؟
2 ـ ما معنى طلب المغفرة مع التمسّك بحبل العصمة ؟
3 ـ لماذا يطلب لنفسه الملك ؟
4 ـ لماذا يطلب ملكاً لا ينبغي لاَحد من بعده ؟
أمّا السوَال الاَوّل: فليس في الآيات الواردة في المقام ما يكشف عن حقيقتها .
وأمّا الروايات فقد نقل أهل الحديث حول تبيين الفتنة روايات يلوح منها
أنّـها إسرائيليات، بثّها أحبار اليهود بين المسلمين، وقد ابتلي بها المسلمون في كثير من المجالات التفسيرية والتاريخية والعقائدية و ... فالرجاء من الله سبحانه أن يقيض جماعة من المثقفين والمحقّقين ويوفّقهم لتهذيب الكتب الاِسلامية منها وتنقيحها عن مروياتهم .
ولكن من بين هذه الروايات ما يمكن أن يعتمد عليه ، وهو ما قيل : كان لسليمان ولد شاب ذكي كان يحبّه حبّاً شديداً ، فأماته الله على بساطه فجأة بلا مرض ، اختباراً من الله تعالى لسليمان وابتلاء لصبره في إماتة ولده، وألقى جسمه على كرسيه ، (1) ولا شك أنّ الابتلاء بموت الولد الشاب من أعظم الابتلاءات، والصبر في هذا المجال وتفويض الاَمر إلى الله سبحانه آية كمال النفس، فلم يكن الهدف من الابتلاء إلاّ أن يتفتح الكمال المركوز في ذاته ، حتى يخرج من القوّة إلى الفعل، وسنوضح فلسفة الابتلاء عند البحث عن ابتلاء إبراهيم بالكلمات فانتظر.
والعجب أن سيد قطب قد اعتمد في تفسير الفتنة على رواية يبدو أنّها من الاِسرائيليات التي أخذها أبو هريرة عن كعب الاَحبار، قال : ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسير (الجسد الذي أُلقى على كرسى سليمان) سوى حديث صحيح ، في ذاته ، ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة ، وهذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً ، ونصه : (قال سليمان : لاَطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل ) إن شاء الله (، فطاف سليمان عليهن ، فلم تحمل إلاّ امرأة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده : لو قال إن شاء
--------------------
(1) تنزيه الاَنبياء: 99 الطبعة القديمة.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 182 _
الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون) .
ثم قال السيد: وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق ، ولكن هذا مجرد احتمال ، (1) نحن لا نعلّق على هذا الحديث شيئاً وإنّما نترك القضاء فيه إلى القارىَ لكي يقضي فيه ، وكفى في ضعفه أنّه من مرويات أبى هريرة ، وقد وصفها سيد قطب بأنّها مجرّد احتمال كما عرفت.
وبذلك يعلم الجواب عن السوَال الثاني، فالظاهر أنّه كان له ( عليه السلام ) فيه رجاء أو أُمنية ، فأماته وألقاه على كرسيه ، حتى يوقفه على أنّ حق العبودية تفويض الاَمر إلى الله والتسليم إليه ، ولعل هذا المقدار من الرجاء وعقد الاَُمنية على الولد يعد نحو انقطاع من الله إلى الولد.
وهو وإن لم يكن معصية ولكن الاَليق بحال الاَولياء غيره ، ولاَجل ذلك لما استشعر بوظيفته التي يوجبها مقامه ، أناب إلى الله ورجع إليه وطلب المغفرة كما يقول سبحانه : ( ثم أناب * قال رب اغفر لي ).
وقد تكرر منّا أنّ طلب المغفرة ليس دليلاً على العصيان وصدور الذنب، بل كل فعل أو ترك صدر من الرجال العارفين بحقيقة الربوبية وعمق العبودية ، وكان الاَولى والاَليق خلافه ، استوجب طلب الغفران، وإن لم يكن معصية وخلافاً في منطق الشرع ، ولاَجل ذلك انّ أولياء الله لم يزالوا مستغفرين كل يوم وليلة لسعة استشعارهم بعظمة الوظيفة في مقابل عظمة الخالق.
وأمّا السوَال الثالث: أعني طلب الملك من الله سبحانه ، فلم يكن الملك
--------------------
(1) في ظلال القرآن الكريم: 23|99.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 183 _
مقصوداً لذاته ، لاَنّ مثل هذا الملك لا ينفك عن الظلم والتعدّي وهضم الحقوق إلى غير ذلك مما أُشير إليه في قوله تعالى : ( إنَّ المُلُوكَ إذا دَخَلُوا قَريةً أفْسَدُوها وجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِها أذِلَّةً وكَذَلِكَ يَفْعَلُون )(1) وفي قوله عز اسمه: ( أمّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدْتُ أنْ أعِيبَها وكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينةٍ غَصْباً ) ، (2) هكذا كانت طبيعة الملوكية في الاَعصار الغابرة والحاضرة، فهي مع الاستبداد والاستعباد وغصب الاَموال وقتل النفوس المحترمة متلازمة، كما هو واضح لمن لاحظ تاريخ السلاطين في الاَدوار الماضية والحاضرة.
وإنّمـا طلب سليمان ما وراء ذلك ، فقد طلب من الله سبحانه الملك الذي يقوده إنسان أُوتي العلم والحكم وتشرّف بالنبوة والوحي ، ومن هذا حاله ، لا يكون الملك مطلوباً له بالذات ، وانّما يكون في طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل والخدمة للخلق .
ولاَجل أنّ المتبادر من الملك ـ في أذهان العامة ـ هو السلطة الجائرة نجد الذكر الحكيم عندما يصف الله بـ ( الملك ) يتابعه بـ ( القدوس ) مشيراً إلى أنّ ملكه وسلطته تفارق سائر السلطان ، فهو في عين كونه ملكاً للعالم ، قدوس منزّه من كل عيب وشين ، ومن كل تعدّ وظلم ، فهو : ( المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُوَْمِنُ المُهَيْمِن )(3)
نقل أهل السير أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يقول : (لست بملك) مع أنّه كان حاكماً
إلهياً ، ورئيس دولة إسلامية أسّسها منذ بدء وروده المدينة ، ومراده هو إبعاد نفسه عمّـا يتبادر إلى أذهان العامّة من سماع ذلك اللفظ ، وأنّه ليس من أُولئك الزمرة ، بل حاكم إلهي يسعى لصالح الاَُمّة حسب القوانين الاِلهية.
وبالجملة : فرق بين السلطة التي تستخدمها الغرائز المادية، والسلطة التي تراقبها النبوّة ، ويكبح جماحها الخوف من الله ، والعشق لرضوانه ، والذي طلبه سليمان في الآية إنّما هو الثاني ، وهو عمل إلهى وخدمة للدين وعمل مقرّب ، دون الاَوّل.
ولاَجل أن لا تذهب أذهان الصحابة إلى المعنى المتبادر من لفظ (الملك) قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتوضيح ما طلب سليمان لنفسه من الله سبحانه وقال : (أرأيتم ما أُعطي سليمان بن داود من ملكه ؟ فإنّ ذلك لم يزده إلاّ تخشعاً ، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعاً لربّه) ، (1) وقد أوضحنا حقيقة السلطة الاِسلامية التي دعا إلى استقرارها الكتاب والسنّة ، وملامحها وأهدافها ، فلاحظ (2)
ومن هنا يعلم جواب السوَال الرابع: وأنّه لماذا قال : ( لا ينبغي لاَحد من بعدي ) ؟ فإنّه لم يقل ذلك ضناً وبخلاً على الغير، وإنّما قال ذلك ، لاَنّه طلب الملك الذي لا يصلح في منطق العقل والشرع أن يمارسه غيره ، أو من هو نظيره في العلم والاِيمان ، وذلك لاَنّه سبحانه يبيّـن ملامح هذا الحكم في آيات أُخر ويقول : ( فَسَخّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْري بأمرِهِ رُخَاءً حَيثُ أصابَ * والشياطِينَ كُلَّ بَنّاءٍ وَغوّاصٍ * وآخَرِينَ مُقرَّنِينَ فِي الاَصفادِ * هَذَا عَطاوَنا فَامْنُن أَوْ أَمْسِكَ
--------------------
(1) روح البيان: 8|39 .
(2) لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة: الفصل الاَوّل: 11 ـ 72 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 185 _
بِغَيْـرِ حِسَابٍ * وإنَّ لَهُ عِندَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ )(1) فالآيات بحكم (الفاء) في قوله ( فسخّرنا له ) تدل على أنّه لم يطلب مطلق الحكم، وهو السلطة التي يصح أن يمارسها المتعارف من الناس خصوصاً إذا كانوا من الصلحاء، وانّما طلب من القدرة ما يصل بها إلى تسخير الريح والجن والشياطين ، ومثل هذه القدرة لا تصح في منطق العقل أن تقع في متناول المتعارف من الناس، لاَنّ وجود تلك السلطة في متناول غير المعصوم يوَدي إلى الطغيان وهدم الحدود وادّعاء الربوبية ، إلى غير ذلك من عظيم الفساد ، وإنّما تكون مقرونة بالصلاح والفلاح إذا مارسها نبي عارف بعظمة المسوَولية أمام الله أوّلاً، وأمام العقل والوجدان ثانياً ، وأمام الخلق ثالثاً .
ولاَجل ذلك يقول : ( لا ينبغي لاَحد من بعدي ) ويريد منه الاِنسان المتعارف غير المتمسّك بحبل العصمة ، وغير المتحلّـي بالنبوة ، فإنّ هذا الملك ـ لما عرفت ـ لا ينبغي لاَحد ، وإنّما ينبغي لسليمان ومن يكون بمنزلته من الصيانة والعصمة .
وإلى ما ذكرنا يشير المرتضى ويقول : إنّما التمس أن يكون ملكه آية لنبوته ، ليتبين بها عن غيره ممّن ليس بنبي وقوله : ( لا ينبغي لاَحد من بعدي ) أراد به لا ينبغي لاَحد غيري ممّن أنا مبعوث إليه ، ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين (2) .
8 ـ عصمة أيوب (عليه السلام) ومسّ الشيطان له بعذاب
قد وصف سبحانه نبيه العظيم (أيوب) بأوصاف كبار وقال: ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ )(1)، ومع ذلك كلّه فقد استدلت المخطّئة على عدم عصمته بظواهر بعض الآيات، وهي لا تدل على ما يرتوَون وإليك تلكم الآيات:
قال سبحانه: ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنىَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدَنَا وَذِكْرى لِلعَابِدِين )(2)
وقال سبحانه: ( وَ اذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضِ بِرِجلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكرى لاَُولى الاَلبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَا ضْرِب بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْنَاه صَابِراً نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ) ، (3) استدلت المخطّئة على تجويز صدور الذنب من الاَنبياء بما ورد في هذه
--------------------
(1) ص: 44.
(2) الاَنبياء:83 ـ 84.
(3) ص: 41 ـ 44.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 187 _
الآيات ممّا يوهم ذلك ، أعني قوله :
1 ـ ( مسّني الشيطان ).
2 ـ ( بنصب وعذاب ).
وقد ظنوا أنّ مسّ الشيطان يستلزم صدور الذنب منه ، غافلين عن أنّ هذه الجملة عبارة أُخرى عمّـا ورد في سورة الاَنبياء بقوله : ( مسّنى الضر ).
كما ظنوا أنّ العذاب عبارة عن العقوبة الاِلهية غافلين عن أنّ العذاب عبارة عن كل ما شق على الاِنسان ، وهو المراد من التعب، والنصب ، والوجع ، والاَلم.
وبالجملة : لا دلالة للآية على صدور الذنب أبداً، إنّما الكلام في بيان ما هي علّة ابتلاء أيوب بهذا الوجع والاَلم ؟ يتضح هذا باستعراض الآيات وتفسير مفرداتها فنقول:
قال الراغب: (الضر): سوء الحال ، إمّا في نفسه لقلة العلم والفضل والعفة ، وإمّا في بدنه لعدم جارحة ونقص ، وإمّا في حالة ظاهرة من قلة مال وجاه ، وقوله : (فكشفنا ما به من ضر) محتمل لثلاثتها .
غير أنّه يحتمل أن يكون الضر هنا بمعنى يساوق المرض ، وهو غير المعنى الثاني الذي أشار إليه الراغب ، ولاَجل ذلك يقول العلاّمة الطباطبائي: الضر خصوص ما يمس النفس من الضرر كالمرض والهزال ونحوهما ، وذيل الآيات يوَيد هذا المعنى.
وأمّا (النصب) : فهو التعب، وربّما يفتح كما قال الله سبحانه : ( لا يمسّنا فيها نصب )(1) ، يقال أنصبني كذا أي أتعبني وأزعجني .
--------------------
(1) فاطر : 35 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 188_
وأمّا (الركض): فهو الضرب بالرجل .
هذه هي اللغات الواردة في الآية ، فإذا عرفنا معانيها فلنرجع إلى تفسير الآية ، وستعرف أنّه لا يستشم منها صدور أىّ معصية من النبي أيوب مظهر الصبر والمقاومة .
تفسير قوله : ( مسّني الضر )
أمّا ما ورد في سورة الاَنبياء فلا يدل على أزيد من أنّه مسّه الضر وشملته البلية، فابتهل إليه سبحانه قائلاً : (أنّي مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين )، وعندئذ شملته العناية الاِلهية، فكشف الله عنه ما به من ضر ، ومن المحتمل جداً أنّ المراد هو المرض وشافاه الله من ذلك المرض الذي ابتلي به سنين ، ولم يكتف بذلك بل وآتاه أهله بإحيائهم ، مضافاً إلى مثلهم ، كل ذلك رحمة من عنده ، ولم يكن ذلك العمل إلاّ امتحاناً منه سبحانه لاَيوب وغيره من العابدين، حتى يتذكّروا ويعلموا أنّ الله تعالى يبتلي أولياءه ثم يوَتيهم أجرهم، ولا يضيع أجر المحسنين، وليس الامتحان إلاّ لاَجل تفتّح الكمالات المكنونة في ذات الممتحن، ولا تظهر تلك الكمالات إلاّ إذا وقع الاِنسان في بوتقة الامتحان فتظهر حينئذ بواطنه من الكمالات والمواهب ، وقد أوضحنا ذلك في بعض مسطوراتنا ، يقول أمير الموَمنين ( عليه السلام ) في هذا المجال: (ومعنى ذلك أنّه يختبرهم بالاَموال والاَولاد ليتبيّـن الساخط لرزقه والراضي بقسمه وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الاَفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب) (1)
--------------------
(1) نهج البلاغة : قسم الحكم، الرقم 93 .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 189_
تفسير قوله: ( مسّني الشيطان )
وأمّا الآيات الواردة في سورة (ص) فهي التي وقعت ذريعة لبعض المخطّئة من أنّه سبحانه ابتلى أيوب ببعض الاَمراض المنفّرة مع أنّه ليست في الآية إشارة ولا تلويح إلى ذلك إلاّ في بعض الاَحاديث التي تشبه الاِسرائيليات، قال سبحانه في سورة ص : ( واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب ) وقد عرفت معنى النصب، وأمّا العذاب فلا يتجاوز معناه ما يوَذي الروح من سوء الحال فقوله : ( مسّني الشيطان) عبارة عمّـا ذكره في سورة الاَنبياء بقوله : ( مسّني الضر )، فنسب نزول النصب والعذاب في هذه الآية إلى الشيطان ولكنّه سكت عن فاعله في سورة الاَنبياء ، وعندئذ يجب إمعان إلنظر في معنى هذه الجملة فنقول : إنّه يحتمل أحد معنيين :
1 ـ أن يكون ما مسّه من الضر والمرض مستنداً إلى الشيطان بنحو من السببية والتأثير مكان استناده إلى الاَسباب العادية الطبيعية ، فكما أنّ الاِنسان يصيبه التعب بواسطة العلل المادية ، يصيبه التعب بنحو من مس الشيطان ، كل ذلك بإذن منه سبحانه ، وهذا المعنى هو الذي يستفاد من الروايات ، وهو وإن لم يكن له موَيد في ظاهر الآية غير أنّه ليس من الاَُمور المستحيلة، فإنّه إذا كان للعلل الطبيعية سلطان على الاَنبياء في أمراضهم فلا مانع من أن تكون للشيطان سلطة في خصوص هذا المجال لا في إضلالهم والتصرّف في قلوبهم وعقيدتهم ، كل ذلك بإذن الله سبحانه خصوصاً إذا كان ذلك لاَجل الامتحان.
نعم أنكر الزمخشري هذا السلطان قائلاً بأنّه لا يجوز أن يسلّط الله الشيطان على أنبيائه ليقضي من تعذيبهم وأتعابهم وطره ، فلو قدر على ذلك لم
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 190 _
يدع صالحاً إلاّ وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرر في القرآن آنه لا سلطان له إلاّ الوسوسة فحسب ، (1) أقول: إنّما يصح ما ذكره إذا كانت للشيطان مقدرة مطلقة وعامة على كل الصالحين والموَمنين، وعند ذلك لم يدع صالحاً إلاّ وقد نكبه وأهلكه ، وهو غير القول بتسلّطه على مورد خاص ، وهو أيوب بإذن منه سبحانه ، ولا دليل على امتناع القضية الجزئية، كيف ؟ وقد حكى الله سبحانه عن فتى موسى وهو يوشع النبي قوله: ( فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ وما أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ )(2)
2 ـ أن يكون المراد من (مس الشيطان بالنصب والعذاب) هو وسوسة الشيطان إلى الناس عندما اشتد مرض أيوب حيث حثّهم على أن يجتنبوه ويهجروه ، فكان التعيير من الناس والتكلّم منهم لكن بوسوسة من الشيطان، ونفس هذا التعيير كان نصباً وعذاباً على أيوب، فالمراد من النصب والعذاب هو التعيير المستند إلى وسوسة الشيطان، وعلى كل تقدير فلا دلالة لكلمة العذاب بعد كلمة النصب على أنّه كان عقاباً منه سبحانه له ، يقول الاِمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : (إنّ الله ابتلى أيوب بلا ذنب فصبر حتى عُيّـر ، وإنّ الاَنبياء لا يصبرون على التعيير)، (3) وأمّا الاَحاديث الواردة حول قصة أيوب من أنّه أصابه الجذام حتى تساقطت أعضاوَه، فيقول الاِمام الباقر ( عليه السلام ) في حقها : (إنّ أيوب ابتلى من غير ذنب ، وإنّ الاَنبياء لا يذنبون ، لاَنّهم معصومون ، مطهرون ، لا يذنبون ولا يزيغون ،
ولا يرتكبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً).
وقال: (إنّ أيوب مع جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة ، ولا قبحت له صورة ، ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح ، ولا استقذره أحد رآه ، ولا استوحش منه أحد شاهده ، ولا تدوّد شيء من جسده ، وهكذا يصنع الله عزّ وجلّ بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه ، وإنّما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره، لجهلهم بما له عند ربّه تعالى ذكره ، من التأييد والفرج ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : (أعظم الناس بلاءً الاَنبياء ثم الاَمثل فالاَمثل) وإنّما ابتلاه الله عزّ وجلّ بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلاّ يدّعوا له الربوبية، إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه ، ليستدلوا بذلك على أنّ الثواب من الله تعالى ذكره على ضربين : استحقاق واختصاص ، ولئلاّ يحتقروا ضعيفاً لضعفه ، ولا فقيراً لفقره ، وليعلموا أنّه يسقم من يشاء ويشفي من يشاء متى شاء كيف شاء ، بأىّ سبب شاء ، ويجعل ذلك عبرة لمن شاء وشفاء لمن شاء وسعادة لمن شاء ، وهو عزّ وجلّ في جميع ذلك عدل في قضائه ، وحكيم في أفعاله، لا يفعل بعباده إلاّ الاَصلح لهم ، ولا قوة لهم إلاّ به) ، (1) وهذه الرواية ـ الصادرة من بيت الوحي والنبوة ـ تعرب عن عقيدة الاَئمّة في حق الاَنبياء عامة ، وفي حق النبي أيوب خاصة ، وانّ الاَنبياء لا يبتلون بالاَمراض المنفّرة، لاَنّـها لا تجتمع مع هدف البعثة، وأنّ ابتلاء أيوب كان لاَهداف تربوية أُشير إليها في الرواية.
قال السيد المرتضى: أفتصححون ما روي من أنّ الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاوَه ؟
قلنا : أمّا العلل المستقذرة التي تنفّر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام ، فلا يجوز شيء منها على الاَنبياء، لما تقدم ذكره ، (1) وقال العلاّمة المجلسي بعد نقل الخبر المتقدم عن الاِمام الباقر (عليه السلام) : هذا الخبر أوفق بأُصول متكلمي الاِمامية من كونهم منزّهين عمّـا يوجب تنفّر الطباع عنهم ، فتكون الاَخبار الاَُخر محمولة على محامل أُخر ، (2) إلى هنا استطعنا أن نخرج بهذه النتائج في مورد هذه الروايات المرتبطة بقصة أيوب:
1 ـ انّ الاَلفاظ الواردة في الآية من قوله : (مسّنى الشيطان بنصب وعذاب) لا دلالة لها على صدور الذنب.
2 ـ انّ الروايات الواردة في بعض الكتب من إصابته بأمراض منفّرة يخالفها العقل، وتردّها النصوص المروية عن أئمّة أهل البيت :
فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزيدُونَ * فآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ )(1)
5 ـ ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِن رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحينَ )(2)
هذه هي الآيات الواردة حول قصة يونس ، وبالاِحاطة بها يتمكّن المفسّـر من الاِجابة على الاَسئلة المطروحة حولها ، وإن لم تكن لبعضها صلة بالعصمة.
أمّا ما جاء من الروايات حول القصة ، فكلّها روايات آحاد لا يمكن الركون إلى الخصوصيات الواردة فيها ، بل بعض ما فيها لا يناسب ساحة الاِنسان العادي فضلاً عن النبي، ولاَجله تركنا ذكرها .
والذي تضافرت عليه الروايات هو أنّه لمّا دعا قومه إلى الاِسلام ، وعرف منهم الامتناع، دعا عليهم ووقف على استجابة دعائه، فأخبرهم بنزول العذاب ، فلمّـا ظهرت أماراته كان من بينهم عالم أشار إليهم أن افزعوا إلى الله لعلّه يرحمكم ، ويردّ العذاب عنكم ، فقالوا : كيف نصنع ؟ قال : اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة، وفرّقوا بين النساء والاَولاد، وبين الاِبل وأولادها ... ثم ابكوا و ادعوا، فذهبوا وفعلوا ذلك ، وضجّوا وبكوا ، فرحمهم الله ، وصرف عنهم العذاب ، (3) فنقول : توضيح مفاد الآيات يتوقف على البحث عن عدّة أُمور :
--------------------
(1) الصافات: 139 ـ 148 .
(2) القلم: 48 ـ 50 .
(3) بحار الاَنوار : 14|380 من الطبعة الجديدة رواه جميل بن درّاج الثقة عن الصادق ( عليه السلام) .
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 195 _
(1) لماذا كشف العذاب عن قوم يونس دون غيرهم ؟
صريح قوله سبحانه: ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين )(1).
إنّ أُمّة يونس هي الاَُمّة الوحيدة التي نفعها إيمانها قبل نزول العذاب وكشف عنهم، وذلك لاَنّ (لولا) التحضيضية إذا دخلت على الفعل الماضي تفيد معنى النفي، كما في قولك : هلا قرأت القرآن، وعلى ذلك يكون معنى قوله سبحانه : (فلولا كانت قرية آمنت) انّه لم يكن ذلك أبداً، فاستقام الاستثناء بقوله : ( إلاّ قوم يونس )، والمعنى هلا كانت قرية من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها، لكن لم يكن شيء من ذلك إلاّ قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي.
ولا شك أنّه قد نفع إيمان قوم يونس ولكن لم ينفع إيمان فرعون ، وعندئذ يُطرح هنا السوَال التالي: ما الفرق بين الاِيمانين؟ حيث نفع إيمانهم دون إيمان الثاني وأتباعه ، يقول سبحانه : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنى إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إلاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * ءَآلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )(2)
الجواب: الفرق بين الاِيمانين، أحدث هذا الفرق، حيث كان إيمان قوم يونس إيماناً عن اختيار، ولاَجل ذلك بقوا على إيمانهم بعد رفع العذاب، وكان إيمان فرعون إيماناً اضطرارياً غير ناجم عن ثورة روحية على الكفر والوثنية ، بل كان وليد روَية العذاب وهجوم الاَمواج، لا أقول: إنّ إيمان قوم يونس كان حقيقياً جدياً وإيمان الآخرين كان صورياً غير حقيقي ، بل : الكل كان حقيقياً ، وإنّما الاختلاف في كون أحدهما ناشئاً من اختيار، والآخر ناشئاً من الاضطرار والخوف ، وبعبارة أُخرى: ناشئاً من عامل داخلي وناشئاً من عامل خارجي .
والدليل على ذلك استقرار وثبوت قوم يونس على الاِيمان بعد كشف العذاب عنهم لقوله سبحانه : ( وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلى حِينٍ )، ويقول سبحانه : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ )(1)، والظاهر من الآية أنّ يونس بعدما نجا ممّا ابتلي به ، أرسل إلى نفس قومه ، فاستقبلوه بوجوه مشرقة وتمتعوا في ظل الاِيمان إلى الوقت الموَجل في علم الله .
وأمّا الفراعنة فكانت سيرتهم الاِيمان عند نزول العذاب والرجوع إلى الفساد وإلى ما كانوا عليه من الفساد في مجال العقيدة والعمل ، بعد كشفه، والذكر الحكيم يصرّح بذلك في الآيات التالية: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَ الْجَرَادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفَادِعَ وَ الدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُوَْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ )(2)
--------------------
(1) الصافات: 147 ـ 148.
(2) الاَعراف: 133ـ 135.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 197 _
وثبات قوم يونس على إيمانهم وعدم انحرافهم عنه بعد كشف العذاب، ونكث الفراعنة بعد كشف الرجز عنهم ، خير دليل على أنّ إيمان القوم كان إيماناً اختيارياً ثابتاً ونابعاً عن اليقين ، وإيمان الفراعنة كان اضطرارياً ناشئاً عن الخوف.
والاَوّل من الاِيمانين يخرق حجب الجهل، ويشاهد الاِنسان عبوديته بعين القلب وعظمة الرب ونور الاِيمان، فيصير خاضعاً أمام الله ، يعبده ولا يعبد غيره.
والثاني منهما يدور مدار وجود عامل الاضطرار والاِلجاء ، فيوَمن عند وجوده ويكفر بارتفاعه ، ولا يعد ذلك الاِيمان كمالاً للروح ولا قيمة له في سوق المعارف، قال سبحانه : ( وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الاَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُوَْمِنينَ )(1)
ولا شك أنّه تعلّقت إرادته التشريعية بإيمان الناس كلّهم بشهادة بعث الاَنبياء وإرسال الرسل ، ولكن لم تتعلّق إرادته التكوينية بإيمانهم ، وإلاّ لم تتخلف عن مراده وأصبح الناس كلّهم موَمنين إيماناً لا عن اختيار، ولكن بما أنّه لا قيمة للاِيمان الخارج عن إطار الاختيار والناشىَ عن الاِلجاء والاضطرار ، لم تتعلّق إرادته سبحانه بإيمانهم ، وإليه يشير قوله : ( ولو شاء ربك لآمن من في الاَرض كلهم جميعاً ).
(2) هل كان كشف العذاب تكذيباً لاِيعاد يونس ؟
قد وعد سبحانه في كتابه العزيز بأنه يوَيد رسله وينصرهم ولا يكذبهم وهو عز من قائل : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَشْهَادُ )(2)
--------------------
(1) يونس: 99.
(2) غافر: 51.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 198_
فلو أخبر واحد منهم عن وقوع حادثة أو نزول رحمة وعذاب على قوم ، فلابد أن يكون وضع المخبر به في المستقبل على وجه لا يلزم منه تكذيبهم ، وذلك إمّا بوقوع نفس المخبر به كما هو الحال في إخبار صالح لقومه ، حيث تنبّأ وقال: ( تَمتّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثةَ أيّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) ، فلمّـا بلغ الاَجل المحدد ( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَمْ يَغْنَوا فِيهَا ألا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ألا بُعْداً لِثَمُودَ )(1) ، وإمّا بظهور علامات وأمارات دالة على صدق مقال النبي وإخباره، وانّ عدم تحقّقه لاَجل تغيير التقدير بالدعاء والعمل الصالح ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَ الاَرْضِ)، (2) وقال عز من قائل: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(3)
هذه سنة الله سبحانه في إنزال النعمة والنقمة ورفعهما.
وما أخبر به يونس كان من هذا القبيل ، فقد تنبّأ بنزول العذاب ، وشاهد القوم طلائع العذاب وعلائمه (4) فبادروا بالتوبة والاِنابة إلى الله حسب إرشاد عالمهم ، فكشف عنهم العذاب، وليس في هذا تكذيب ليونس ، لو لم يكن فيه تصديق حيث وقفوا على صدق مقالته غير أنّ لله سبحانه سنناً في الحياة ، فأخذ المعتدي باعتدائه سنّة ، والعفو عنه لاِنابته أيضاً سنّة ، ولكل موضع خاص ، وهذا
--------------------
(1) هود: 65 ، 67 ـ 68.
(2) الاَعراف: 96.
(3) الاَنفال: 53.
(4) لاحظ تفسير الطبري: 11|117 ـ 118 ، الدر المنثور: 3|317 ـ 318 ، البحار: 14|396 من الطبعة الحديثة.
عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم
_ 199_
معنى البداء الذي تقول به الاِمامية، الذي لو وقف إخواننا أهل السنّة على حقيقته لاعترفوا به من صميم القلب ، ولكن الدعايات الباطلة حالت بينهم وبين الوقوف على ما تتبناه الاِمامية في هذا المضمار ، وقد أوضحنا حقيقة الحال في رسالة (البداء من الكتاب والسنّة) ، (1) ومن أراد الوقوف على واقع الحال فليرجع إليها.
(3) أسئلة ثلاثة حول عصمته
ألف ـ ما معنى كونه مغاضباً ؟ ومن المغضوب عليه ؟
ب ـ ماذا يراد من قوله : ( فظن أن لن نقدر عليه )؟
ج ـ كيف تجتمع العصمة مع اعترافه بكونه من الظالمين ؟
هذه هي الاَسئلة الحسّاسة في قصة يونس ( عليه السلام )، وقد تمسّك بها المخطّئة، وإليك توضيحها واحداً بعد واحد:
أمّا الاَوّل: فقد زعم المخطّئة أنّ معناه أنّه خرج مغاضباً لربّه من حيث إنّه لم ينزل بقومه العذاب.
ولكنّه تفسير بالرأي ، بل افتراء على الاَنبياء ، وسوء ظن بهم ، ولا يغاضب ربَّه إلاّ من كان معادياً له وجاهلاً بحكمه في أفعاله ، ومثل هذا لا يليق بالموَمن فضلاً عن الاَنبياء.
وإنّما كان غضبه على قومه لمقامهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من توبتهم ، فخرج من بينهم (2).
هكذا فسّـره الاِمام الرضا ( عليه السلام ) عندما سأله المأمون عن مفاد الآية وقال: (ذلك يونس بن متى ذهب مغاضباً لقومه) ، (1) وأمّا الثاني: أعنى: ( فظن أن لن نقدر عليه ) فالفعل ، أعنى: ( نقدر )، من القدر بمعنى الضيق لا من القدرة، قال سبحانه : ( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ)(2)، وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقْدِرُ )(3) ، فمعنى الآية أنّه ظن أن لا يضيق عليه الاَمر لترك الصبر والمصابرة مع قومه ، لا بمعنى أنّه خطر هذا الظن بباله ، بل كان ذهابه وترك قومه يمثل حالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لاَمر الله ، فكانت مفارقته قومه ممثلة لحال من يظن بمولاه ذلك .
وأمّا تفسيره بانّه ظن أنّه سبحانه لا يقدر عليه ، فهو تفسير بما لا تصح نسبته إلى الجهلة من الناس فضلاً عن الاَولياء والاَنبياء.
وبما أنّ مفارقته قومه بلا إذن منه سبحانه ـ كان يمثل حال من يظن أن لا يضيّق مولاه عليه ـ ابتلاه الله بالحوت فالتقمه .
فوقف على أنّه ترك ما هو الاَولى فعلاً ، فندم على عمله ( فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت ).
ونقل الزمخشري في كشّافه : عن ابن عباس أنّه دخل على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلاّ بك ، قال : وما هي يا معاوية ؟ فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبى الله أن لا يقدر عليه ؟