تعريف الفقر وتحديد الفقراء
  والفقر الذي ورد في قوله تعالى بخصوص انكاح الايامى : (إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (1) ، حدد عن طريق الشارع بحالة الفرد الذي لا يملك مؤونة سنته اللائقة بحاله أو لعياله ، بمعنى ان المؤونة السنوية هي الفصل في كشف حالة الفرد فيما يتعلق بالغنى أو الفقر .
  فالفقير من لا يملك مؤونة سنة ، والغني هو الذي تتحقق له مؤونة سنوية لائقة بوضعه الاجتماعي .
  وقيل : ( ان الاولى ايكال معرفة النفقة المستثناة أو المؤونة الى العرف ) (2) ، وبذلك فان كل فرد في المجتمع الاسلامي مضمون على الصعيد التطبيقي من الناحية المعيشية لمدة سنة كاملة ، فاذا دخلت السنة الجديدة وليس لديه وعائلته ما يكفيهم ـ عندئذٍ ـ يحق له أخذ ما يكفيه مع من يعيلهم من الموارد المالية الشرعية لسنة اخرى ، وهكذا الى ان يتبدل وضعه الاقتصادي فيصبح غنياً .
  وهذا الضمان المالي يشبع حاجات الطبقة الفقيرة ثم يرفعها الى مستوى عامة الناس وهي الطبقة المتوسطة في النظام الاجتماعي الاسلامي، وبطبيعة الحال ، فان النظرية الاجتماعية الاسلامية لا تلوم الفقراء على فقرهم ولا تلزمهم مسؤولية تحميل الآخرين كاهل الانفاق ، بل ان
--------------------
(1) النور : 32.
(2) جواهر الكلام ج 16 ص 59.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 27 _

  الاسلام ينظر ضمن منهجه الاجتماعي الشامل الى الفقراء نظرة ملئها الترحم وروح المساواة ، ويؤكد ان للفقراء حقاً ثابتاً في اموال الاغنياء ، كما ورد عن الامام الصادق (ع) : ( ان الله تبارك وتعالى شرك بين الفقراء والاغنياء في الاموال ، فليس لهم ان يصرفوا الى غير شركائهم ) (1) .
  بمعنى ان الله سبحانه قد جعل للفقراء حقاً في اموال الاغنياء كحق غرماء الميت المتعلق بتركته ، فان امتنع الغني عن اداء ذلك الحق ، كان للحاكم الشرعي أو لعدول المسلمين من باب الحسبة استيفاء ذلك الحق ، كان للحاكم الشرعي أو لعدول المسلمين من باب الحسبة استيفاء ذلك الحق قهراً .
  وليست الضربية الواجبة من زكاة وخمس وكفارات وزكاة فطر وهديٍ ... هو كل ما يقدمه الاسلام للفقراء ، بل ان الانفاق المستحب وصدقة السر تسد جزءاً كبيراً من حاجاتهم ايضاً ، الى حد الكفاية والغنى.
  وبالاجمال ، فان الاسلام عالج مشكلة الفقر بالخطوات التالية :
  اولاً : أمر بفرض ضريبة ثابتة على اموال الاغنياء : ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (2) ، ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ) (3) ، ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (4).
  ثانياً : اعطى الفقراء حد كفايتهم من الناحية المعيشية مما وفر لهم فرصاً حقيقية لإلحاقهم بالطبقة المتوسطة :
--------------------
(1) الوسائل ج 4 ص 148.
(2) الذاريات 16 و19.
(3) التوبة : 103.
(4) البلد : 11 ـ 16.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 28 _
( وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ ) (1) ، ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) (2) ، ولا يتحقق الاطعام الا بتحقق الاشباع والاكتفاء.
  ثالثاً : حث على الانفاق المندوب ، وشجع على السخاء والكرم في العطاء ، وخاطبهم بانكم : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) (3) ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ) (4) ، ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (5).
  رابعاً : أمر بتحريك المال الصامت لتنشيط الطاقات والإبداعات المختلفة في النظام الاجتماعي ، وهدد بمعاقبة اولئك الذين يخالفون هذا النظام المالي الدقيق : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (6).
--------------------
(1) البقرة : 271.
(2) الحج : 28.
(3) آل عمران : 92.
(4) البقرة : 267.
(5) البقرة : 177.
(6) التوبة : 34.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 29_
  فلا ريب اذن ان يثق الاسلام ثقة مطلقة بنظامه الاجتماعي الذي يعالج فيه الفقر معالجة حقيقية ، كما يشير الى ذلك قول الامام الصادق ( عليه السلام ) : ( لو ان الناس أدوا زكاة اموالهم مابقي مسلم فقيراً محتاجاً ) (1) .
  ولاشك ان الفرد الجائع يمثل ادانة حقيقية للنظام الاجتماعي الذي يعيش فيه ، خصوصاً اذا كان ذلك النظام يساهم في تجويعه وحرمانه من أبسط مقومات الحياة .
  ولما كان الاسلام مثيل جوهر العدالة الاجتماعية فانه يعتبر من أخطر الانظمة الفكرية العقائدية المضادة للنظام الاجتماعي الرأسمالي الذي يحصر الثروة الاجتماعية بالطبقة العليا ، غير مكترث بحرمان افراد بقية الطبقات من خيرات النظام الاجتماعي.
--------------------
(1) من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 3.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 30 _
على أي اساس يتم التفاضل ؟   ويختلف المجتمع الانساني في نظرته الى الافراد ، وفي التمييز والتفاضل بينهم . وعلى ضوء ذلك الاختلاف ، ينقسم المجتمع البشرى الى قسمين : ففي بعض المجتمعات يتم التمييز في المكافأة على اساس اللون والجنس والمنشأ ، وهذا هو القسم الاول .
  وفي البعض الآخر يتم التمييز في المكافأة والتفاضل على اساس العلم والمهارة والجهد ؛ وهذا هو القسم الثاني .
  وقد حرم الاسلام التفاضل القائم على الاعتبار الاول ، وشجع التمييز القائم على اساس الاعتبار الثاني : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (1) .
  ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان ) (2) ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (3) .
  ومنشأ تحريم التفاضل على اساس لون البشرة كالابيض والاسود ، أو جنس الانسان كالذكر والانثى ، أو منشأ الفرد كالمولود في الريف والمولود في المدينة : ان هذه المقاييس تتنافى مع العدالة الاجتماعية التي أقرها الدين ، بل ان التفاضل الذي امضاه الشرع الحنيف وشجع الافراد على ممارسته هو التفاضل القائم على اساس بذل الجهد وقيمة العمل ، ولما
--------------------
(1) الزمر : 9
(2) النحل : 90.
(3) الحجرات : 13.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 31 _
  كانت قابليات الافراد في التحصيل والفهم والادراك متفاوتة ، كان تمايز الافراد واختلافهم من الناحية العلمية الاكتسابية امراً حتمياً ، وأفضل ما يسلط الضوء الكاشف على الفارق بين الطاقات البشرية وقابلياتها على الانتاج ، قوله تعالى : ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1).
  والخلاصة : ان التفاضل بين الافراد على اساس الجهد وقيمة العمل أصل مشروع وقاعدة عامة لتنمية المواهب والطاقات الخلاقة ، شرط ان لايخرج ذلك عن اطار العدالة الاجتماعية في سد الحاجات الاساسية لكل افراد النظام الاجتماعي.
--------------------
(1) النحل : 76.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 32 _
الضمان والتكافل الاجتماعي في الاسلام
  وواجب الدولة في النظام الاسلامي ضمان معيشة الافراد ، وهي بذلك تتبع أحد هذه الطرق الثلاثة ، اولها : ان توفر لهم اعمالاً يرتزقون بها الى حد الكفاية .
  ثانيها : ان تضمن معيشتهم الاساسية في حالة عدم توفر فرص العمل .
  ثالثها : ان تنشئ لهم هيئات ولجاناً متخصصة لاستحداث مختلف الاعمال في الزراعة والصناعة والاعمال التجارية .
  وكل هذه الطرق الهادفة لضمان معيشة الافراد يمكن ايجادها ضمن حدود الدولة والنظام الاجتماعي ، لأن الأرض ـ بكل خيراتها ـ لا تبخل على الانسان بعمل ، وان العقل البشري ـ بطاقته الجبارة ـ يفتح آفاقاً واسعة لتطويرمصادر الغذاء في البر والبحار والمحيطات والانهار .
  وهذه الخيرات تستطيع اشباع ملايين الافراد ، خصوصاً اذا ما استخدمت وسائل الانتاج الزراعي والحيواني الميكانيكية التي تستطيع مضاعفة الانتاج الغذائي بكلفة أقل ، وكل هذا النشاط والاستثمار يقع تحت عنوان حق الجماعة في التمتع بمصادر الثروة الاجتماعية ، فتضمن الدولة حقوق القاصرين والعاجزين عن العمل ، فضلاً عن حقوق عموم الافراد باستثمار مصادر الثروة الطبيعية بكافة انواعها اشكالها المعروفة .
  فالأرض بخيراتها الهائلة انما خلقت للجميع كما ورد في قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاًً ) (1).
--------------------
(1) البقرة : 29.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 33 _
 وهذا الضمان ينبع من جوهر النظرة القرآنية للانسان ، فالفرد ـ حسب تلك النظرة ـ ليس كياناً مادياً فحسب ، بل هو كيان مادي وروحي كريم ، والجوع يمزق هذا الكيان ويحط من قدره ، وبذلك فلابد من اشباع حاجاته الاساسية في العيش الكريم .
  والى هذا التفضيل اشار الكتاب المجيد بقوله : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (1).
  وليس غريباً ان نلمس بكل صراحة ادانة القرآن الكريم للبخل والبخلاء ، واولئك الذين يكنزون اموالهم ويبعدونها عن التداول الاجتماعي ، لأن البخل يحرم الافراد من التنعم بالثروات الاجتماعية : ( وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ) (2) ، ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) (3) ، ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (4).
  ان من حق المخلوق على الخالق اشباعه وكسوته ، وأي نقض لهذا القانون الكوني انما هو نقض لصميم مفهوم العبودية بين المربوب والرب ، فالجائع لا يستطيع عبادة الله ، ولايقدر على تحمل التكاليف الشرعية ؛ فكيف يأمره الخالق ـ اذن ـ بالعبادة ، ولا يضمن له العيش الكريم ؟ ولاشك
--------------------
(1) الاسراء : 70.
(2) الهمزة : 1 ـ 4.
(3) الماعون : 1 ـ 3.
(4) آل عمران : 180.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 34 _
  ان المولى عز وجل خلق للافراد مصادر غذائهم وكسوتهم ، ولكن سوء التوزيع الذي يقوم به الانسان هو الذي يحرم البعض من حقوقهم ويتخم البعض الآخر ، وهذا يفسر ـ الى حد ما ـ تأكيد الاسلام المستمر على الانفاق الواجب والمستحب على الفقراء والمساكين ، خصوصاً في موارد الانفاق التي ذكرناها سابقاً ، كالصدقات الواجبة ، والكفارات ، والاضحية ، والانفال.
  ولا تتوقف النظرية الاسلامية بمساعدة الفقراء عند الضمان الاجتماعي فحسب ، بل تتعدى في نظرتها الشمولية الى التكافل العام بين جميع افراد المجتمع الانساني ، الذي ينبغي ان يقوم على مبدأين هما :
   الاول: مبدأ كفالة الافراد بعضهم البعض كفاية ، وهذا المبدأ لايمكن تجزئته أو فصله عن بقية أحكام الاسلام التي تفرض على المكلفين ضرائب وغرامات مالية أو عينية يرد أغلبها الى الفقراء ، صوصاً القاصرين والعاجزين.
  الثاني : مبدأ الاخوة الذي يعتبره الاسلام حجر الاساس في بناء العلاقات الاجتماعية النظيفة ، وقد اشارت الاحكام الشرعية الاسلامية في أكثر من موضع الى ضرورة التحسس لآلام الآخرين وأهمية مشاركة الافراد شعورهم الانساني من افراح واتراح ، فالمصائب الجماعية أخف ثقلاً على كاهل الفرد من تلك التي ينوء بحملها الانسان منفرداً دون صديق أو حميم .
  ولذلك كان مفهوم الاخوة في الاسلام ، وما يترتب عليه من آثار اقتصادية في توزيع الثروة ، من أكثر وسائل التكافل الاجتماعي تأثيراً وأمضاها فعالية في تضييق الفوارق الطبقية بين الافراد .

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 35_
  ولئن كان ( المذهب لفردي ) الذي تدعي النظرية الرأسمالية تفوقه على بقية المذاهب الاجتماعية ، قد نجح في دفع الافراد نحو العمل والابداع (1) ، الا ان التأثيرات الاجتماعية السلبية التي اوقعها ذلك المذهب بالمجتمع الرأسمالي ، تجعله من أكثر المذاهب الاجتماعية فشلاً في تحقيق سعادة الانسان وطموحه في تحقيق مجتمع سعيد متكاتف يقوم على اساس المساواة والعدالة الانسانية.
--------------------
(1) ( مي برودبك ) ، ( المذهب الفردي الطريقي : تعريف واختزال ) ، مقالة فلسفية في مجلة ( فلسفة العلم ) الامريكية ، عدد 25 ، رقم 1 ، 1958 م ، ص 1 ـ 22.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 36 _
نقد فكرة ( العدالة الاجتماعية ) في النظريات الغربية
   وتتنافس على الساحة الفكرية الاجتماعية في اوربا وامريكا ، اربع مدارس نظرية في تفسير معنى العدالة الاجتماعية ؛ وهي المدرسة التوفيقية ، والمدرسة الماركسية ، والمدرسة التلفيقية ، ومدرسة ( ماكس وبر ) .
  فالمدرسة التوفيقية بروادها الثلاثة ( اميلي ديركهايم ) ، و( هربرت سپنسر ) ، و( تاركوت بارسنس ) تؤمن بكل قوة بأن انعدام العدالة الاجتماعية الناتج من فوراق اجور العمل والمكافآت الاجتماعية يساعد بشكل حتمي على ثبات واستقرار النظام الاجتماعي (1) ؛ لأن ارتباط الدور الاجتماعي الذي يقوم به الفرد بالمكافأة المالية التي يستحقها هو الذي يحرك الطاقات الابداعية في النظام الاجتماعي ، وقد فندنا آراء هذه المدرسة عندما درسنا موضوع الاجر والمكافأة في بداية هذا الفصل.
  ولكن المدرسة الماركسية اصرت على ان انعدام العدالة الاجتماعية ماهو الا نتيجة حتمية للصراع الطبقي الدائر على الساحة الاقتصادية (2) .
  فتراكم الثروة عند افراد الطبقة الرأسمالية هو الذي ساهم في تصميم شكل القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يسيطر بها هؤلاء على مصير لطبقات الاجتماعية الاخرى .
--------------------
(1) ( دبليو بكلي ) ، ( انعدام العدالة الاجتماعية والنظرية التوفيقية في التفاضل الاجتماعي ) ، مقالة علمية في ( المجلة النقدية الامريكية لعلم الاجتماع ) ، عدد 23 ، 1958 م . ص 369 ـ 375.
(2) ( كارل ماركس ) ، المخطوطات الاقتصادية والسياسية لعام 1844 م ، نيويورك : الناشرون الدوليون ، 1964 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 37 _
  الا ان الفشل الذي منيت به الفكرة الماركسية في الاجابة على الاسئلة المطروحة أفقدها الكثير من الانصار ، فقد عجزت النظرية عن التنبؤ بظهور طبقة وسطى في المجتمع الرأسمالي ، وان افراد هذه الطبقة لا يعملون بالضرورة ضمن توجه الطبقة الرأسمالية وخدمة مصالحها .
  أساتذة الجامعات ، والعاملون في الحقول الطبية من بحوث وتطبيب وتمريض أو العاملون في خدمات النقل يعملون اما على اساس الدخل الشخصي أو على اساس كونهم موظفين لشركات كبيرة مملوكة من قبل افراد عديدين عن طريق الاسهم والسندات .
  وحتى ان ملكية وسائل الانتاج التي تتحدث عنها النظرية المراكسية فانها وان كانت موجودة في عالم اليوم ، الا ان العديد من هذه المؤسسات الصناعية الكبيرة تقع تحت ملكية الألوف من اصحاب الأسهم والسندات وتدار من قبل موظفين يتقاضون اجوراً معينة على جهدهم وعملهم ؛ وفي نهاية المطاف توزع أرباح هذه المؤسسات على الأسهم ومالكيها بالتساوي ، فتراكم الثروة في هذه المؤسسات اذن يختلف اليوم عما كان عليه الوضع الاقتصادي في القرن التاسع عشر.
  والمدرسة التلفيقية التي حاولت الجمع بين حسنات المدرستين التوفيقية والماركسية لم تتوفق في طرح منهج مقنع جديد لمشكلة انعدام العدالة وسوء توزيع الثروة الاجتماعية (1) .
  فقد آمنت هذه المدرسة بفكرة المدرسة التوفيقية القائلة بأن حاجات المجتمع الاساسية من الخبرات لابد ان تشغل بالادوار التي يتطلبها ذك المجتمع .
--------------------
(1) ( جيرهارد لينسكي ) ، السلطة والامتيازات : نظرية في انعدام العدالة الاجتماعية ، نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1966 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 38 _
  وبسبب ملء تلك الحاجات الاجتماعية بالادوار المختلفة ، فقد اختلفت قيمة المكافآت الاجتماعية للعمال والخبراء ، وآمنت في نفس الوقت بفكرة المدرسة الماركسية الزاعمة بحتمية الصراح الاجتماعي للمحافظة على ديناميكية المجتمع الانساني باعتبار ان توفر الخيرات بشكل يفيض عن حاجة المجتمع سيؤدي حتماً الى التنافس والصراع الاجتماعي .
  ولكن هذه المدرسة وقعت في خطأ فادح ، وهو ان زيادة الثروة في المجتمع ، لا تكون بالضرورة عاملاً من عوامل نشر الاجتماعية حرمان الاجتماعي ، فزيادة الثروة وحسن وعدالة توزيعها تؤدي الى رخاء اجتماعي يساهم في رفع الحيف عن المظلومين والمحرومين ، لأن العدالة الاجتماعية ترتبط في الاصل بنظام يساهم في توزيع عادل للثروة ، ولا يرتبط بالزيادة المالية نفسها.
  ولم يمنع اعجاب الطبقة العاملة والمثقفة الاوروبية في القرن التاسع عشر بأفكار ( كارل ماركس ) ، من تكثيف الجهود العلمية لمناقشتها ونقدها ، والتشكيك بسلامة أسسها الفكرية ، وكان من رواد هؤلاء الذين انتقدوا نظرية ( كارل ماركس ) في تحليل العلاقات الاجتماعية على ضوء الصراع الطبقي : العالم الاجتماعي الالماني ( ماكس وبر ) ـ، حيث قدم خلال نقده لافكار ( كارل ماركس ) نظرية جديدة مناقضة تماماً للنظرية الماركسية ، وتتلخص نظرية ( ماركس وبر ) بالقول بأن فكرة نشوء الطبقات الاجتماعية لا تحصل نتيجة الصراع الطبقي ، بل تحصل نتيجة تداخل عوامل ثلاثة ، وهي :
  الاول : العامل الاقتصادي ، والثاني : العامل السياسي ، والثالث :العامل الاجتماعي .

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 39 _
  أو بمعنى آخر : الثروة ، والقوة ، والمنزلة الاجتماعية (1) .
  فاذا أردنا معرفة الطبقة الاجتماعية لمعلم المدرسة مثلاً ، فما علينا الا ان نحسب ثروته المالية ، ونلاحظ قوته السياسية ، ونلمس منزلته الاجتماعية ، ثم نحكم من خلال هذه العوامل الثلاثة على موقعه في الطبقات الاجتماعية .
  ولكن ( ماكس وبر ) وقع في خطأ واضح وهو ان هذه العوامل الثلاثة متشابكة في الطبقة العليا في المجتمع ، ومستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض في الطبقتين الوسطى والفقيرة .
  فعالم الدين الورع مثلاً غني في النفس ( المنزلة الاجتماعية ) ، فقير في المال ( العامل الاقتصادي ) ، حكيم في القيادة ( العامل السياسي ) ، فأين تقع مرتبته في الطبقات الاجتماعية ؛ الطبقة العليا ، ام الوسطى ، أم الفقيرة ؟ ثم الا يمتلك افراد الطبقة الرأسمالية الثروة والقوة السياسية والمنزلة الاجتماعية بينما يمتلك الفقير احياناً المنزلة الاجتماعية ولكنه لا يمتلك الثروة ؟ فأين موقعه في هذه النظرية ؟ هذه الاسئلة لا تجيب عليها نظرية ( ماكس وبر ) لانها تنظر لطبقات النظام الاجتماعي من منظار الطبقة العليا فقط .
  و( ماكس وبر ) لم يعط تحليلاً صحيحاً أو علاجاً نافعاً لمشكلة انعدام العدالة الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي ، ولو كان صادقاً في تحليله لنظر الى جوهر المشكلة الاجتماعية وهي مشكلة توزيع الثروات بين الافراد ، وما يصاحب ذلك التوزيع غير العادل من تراكمٍ للثروة وتركيزٍ للقوة السياسية والاقتصادية في طرف معين ، وما يتبعه من تحكم وسيطرة تؤدي الى انعدام العدالة بين الافراد في النظام الاجتماعي.
  وبعد ان اثبتنا فشل هذه النظريات في معالجة انعدام العدالة الاجتماعية نرجع الى النظرية القرآنية في تثبيت صرح العدالة الاجتماعية في المجتمع الاسلامي ، فقد تعامل القرآن الكريم مع قضية توزيع الثروة الاجتماعية على عدة محاور :
--------------------
(1) ( ماكس وبر ) ، الاقتصاد والمجتمع ، نيويورك : بدمنستر ، 1968 م ، الطبعة الاولى عام 1922 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 40 _
  الاول : المحور التعبدي ، حيث يتضح من دراسة الاحكام الشرعية الخاصة بالزكاة المالية وزكاة الفطر والخمس والانفال والاضاحي والكفارات والصدقات المستحبة ، ان الانفاق يعتبر من صميم الاعمال التعبدية التي يجازى على تأديتها المكلف أو يعاقب على مخالفته لها : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (1) ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ) (2).
  الثاني : العامل الاخلاقي ، الذي يعتبر المال مجرد وسيلة من وسائل نفع النظام الاجتماعي واشباع حاجات الافراد الاساسية ، فيوصي ـ مثلاً ـ برد المال المأخوذ حرامأً الى صاحبه ، أو صرفه على الفقراء اذا عجز عن معرفة مالكه ، ويوصي أيضاً بمساعدة الافراد الذين ركبتهم الديون ، بستديدها من بيت المال ، ونحو ذلك ، فيقول عز وجل : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (3).
--------------------
(1) البقرة : 261.
(2) البقرة : 254.
(3) التوبة : 60.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 41 _
  الثالث : عامل الاعتدال في حجم الضريبة المفروضة على اموال الاغنياء ، والتأكيد على كون الضريبة تخص الفائص من الارباح السنوية ، حيث تستثنى المؤونة ومصاريف العمل من النسبة المئوية لأموال الاغنياء .
  وفي الوقت ذاته يوصي الاسلام بالاعتدال في صرف الزكاة بالنسبة للفقراء ، فلايحق للفقير تبذير المال الذي يستلمه من الحقوق الشرعية ، بل لا يحق للافراد اطلاقاً الاسراف والتبذير : (السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) (1).
  الرابع : ان كمية المال الوارد عن طريق الحقوق الشرعية ، تعتبر في الواقع كمية هائلة ، وتشديد الاسلام على صرف هذه الكمية الضخمة من المال على الفقراء والمساكين بالخصوص لإشباع حاجاتهم الاساسية في المأكل والملبس والمسكن ، يضعه على صدر الانظمة الاجتماعية التي تنجح في معالجة مشكلة الفقر معالجة حقيقية .
  وهذا الدور الاسلامي في معالجة المشكلة الاجتماعية مستندٌ على فهم حقيقة الانسان الداخلية في العطاء وحقيقة التكليف الشرعي للافراد في التعاون والتضامن الاجتماعي.
--------------------
(1) الاسراء : 26 ـ 27.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 42 _
الاسباب الداعية لاستمرار الظلم الاجتماعي
 واذا كانت اكثرية افراد المجتمع مظلومة اجتماعياً ومحرومة من حقوقها الاساسية ، فلماذا لا تطيح هذه الكثرة بالطبقة المتحكمة القليلة العدد ؟ ولماذا يستمر الظلم الاجتماعي لأجيال عديدة وحقب زمنية طويلة دون ان يتزعزع النظام الاجتماعي الظالم ؟ لاشك ان الجواب على هذا السؤال يتطلب ملاحظة عاملين مهمين يتمسك بهما النظام السياسي الحاكم ، الاول : السيطرة على منابع القوة لحفظ النظام ، والثاني : ايجاد نظام فكري عقائدي يبرر للغالبية العظمى من افراد المجتمع أحقية هذا النظام في البقاء.
  أ ـ السيطرة على منابع القوة الاجتماعية :
  لاشك ان القاعدة الاقتصادية لجماعة ما تلعب دوراً مهماً في التركيبة الاجتماعية والثقافية للمجتمع ككل ، بمعنى ان الجامعة التي لها قوة اقتصادية عظيمة ، تستطيع ان تترجم هذه القوة الاقتصادية الى قوة سياسية ، وتتمكن من خلالها السيطرة على المؤسسات الاجتماعية الاساسية ، كمؤسسات الحكومة ، والقضاء ، والتعليم ، والطب ، ونحوها ، وقد اشار القرآن الكريم بشكل اجمالي الى اهمية المال في القوة الاجتماعية كما جاء على لسان موسى ( عليه السلام ) :

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 43 _
  ( إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (1) ، وفي موضع آخر : ( وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) (2) ، ( كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًاً) (3) ، و( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) (4) .
  والمال في النظام السياسي الظالم ، هو المحرك الاساس لكل المؤسسات الاجتماعية ؛ فالقانون في ذلك المجتمع يدافع عن الثري ولا يحمي الفقير ، والمؤسسات المتلبسة بالدين في المجتمعات الرأسمالية تدعم النظام الاجتماعي الظالم ولا تنادي بالاطاحة به ، وحتى المؤسسات التعلمية تمجد حسنات النظام السياسي ولا تنتقد أخطاءه وسلبياته .
  وبالتالي فان الطبقة الغنية الحاكمة تصبح هي الوطن والعرض والدين ؛ ومن يهاجمها فانما يهاجم كل المقدسات التي يؤمن بها الافراد في الطبقات الاجتماعية ، وشخص كهذا ـ بعرفها ـ خارج عن الاجماع العام الذي أقره العرف الاجتماعي وأمضاه القانون.
  ب ـ النظام الفكري لطبقة الاقوياء :
  ولاشك ان النظام الفكري والثقافي لأي مجتمع هو النظام الفكري الذي تتبناه الطبقة الحاكمة ، فطبقة العمال الحاكمة في المجتمع الشيوعي المندثر ـ مثلاً ـ تفرض ـ بكل قوة ـ الفكر الذي تتبناه وتؤمن به .
--------------------
(1) يونس : 88.
(2) الاسراء : 6.
(3) التوبة : 69.
(4) القصص : 76.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 44 _
  وعندها ، يصبح الفكر الشيوعي هو الفكر المسيطر على الساحة الفكرية في المجتمع ، والفكر الذي تؤمن به النظرية الرأسمالية يسيطر على كل توجهات المجتمع الرأسمالي .
  وهكذا ترى ان الافكار تابعة للحكام ، كما ان الاحكام تابعة للاسماء في المصطلح الاصولي .
  ويشير القرآن الكريم الى هذا المفهوم ايضاً عندما يتعرض لممارسات فرعون في اقناع الافراد بأنه هو الاله الذي ينبغي ان يعبد : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) (1) ، ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ) (2) ، فهو المستخف المستهتر بالقيم السماوية : ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (3) ، ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (4) ، وهو الذي يبث الرعب في قلوب الناس : ( عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ) (5) ، وهو الذي يمتلك القوة والارادة الطاغوتية : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ) (6) ، ( قال فرعون آمنتم به قبل ان إذن لكم ) (7) ، وهو الذي يؤمر فيطاع : ( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ) (8) .
--------------------
(1) القصص : 38.
(2) غافر : 36.
(3) الشعراء : 23.
(4) غافر : 29.
(5) يونس : 83.
(6) يونس : 79.
(7) الاعراف : 123.
(8) طه : 60.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 45 _
  ( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ )(1) ، ( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِين )(2) ، وهو الذي طغى واستعلى في الارض : ( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ )(3) ، ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى )(4) ، ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى )(5).
  ولاشك ان احفاد فرعون اليوم يمارسون طرقاً فكرية تؤدي الى نتائج تشابه ما أدت اليه سياسة فرعون ، وهي السيطرة على الحكم والنظام الاجتماعي بالقوة ، وأقرب مثال على ذلك هو سياسة النظام الرأسمالي الغربي ، فان أخطر فكرة يرهبها ذلك النظام هي فكرة ( العدالة الاجتماعية ) ، ولذلك فاننا لا نتحسس لصدى هذه الكلمة في الساحة الاعلامية أو الفكرية أو السياسية الرأسمالية .
  بل يحاول ذلك النظام بكل جهد استبدال كلمتي ( العدالة الاجتماعية ) بـ ( الحلم الامريكي ) ، والحلم الامريكي فكرة مزيفة تحاول الايحاء لأفراد النظام الاجتماعي بأن جمع الثروة الاجتماعية وتراكمها مبني ـ حسب الفكرة الرأسمالية ـ على أساس الجهد والعمل (6) .
  لكنها تتناسى بأن الثروة العينية الموجودة في المجتمع لما كانت محدودة بحدود توفر النقد المتداول ، أصبح تحقيق ( الحلم الامريكي ) اداةً لحرمان بقية الافراد الذين يعيشون على نفس الأرض الاجتماعية ، لأن أية زيادة مالية في دخل طبقة اجتماعية معينة يؤدي الى اختلال اقتصادي واجتماعي ونقيصة في الطبقات الاجتماعية الاخرى.
--------------------
(1) طه : 78.
(2) الشعراء : 53.
(3) يونس : 83.
(4) طه : 43.
(5) طه : 79.
(6) ( كريستوفر جنكز ) وآخرون ، من الذي يسبق ؟ العوامل الحاسمة في النجاح الاقتصادي في امريكا ، نيويورك : الكتب الاساسية ، 1979 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 46 _
  وعلى ضوء ما ذكرناه ، فان الطبقة الرأسمالية الغنية المتحكمة بشؤون النظام الاجتماعي تحاول ادانة الفقراء والمظلومين ووصمهم بالفشل الاقتصادي في جني الاموال ، فتزعم بأن الفقراء والمستضعفين لو كان لهم قدر من الذكاء والمهارة لما استغرقت رحلتهم من صحراء الاحلام الى شاطئ الواقع وقتاً طويلاً .
  وهذا الالصاق الفكري تستخدمه الطبقة الرأسمالية الحاكمة حتى تبقى متمسكة بمواقعها السياسية والاجتماعية القوية ، وهذا الاسقاط النفسي بلوم الفقراء على فقرهم وتشجيعهم على الايمان بالحظ والمصير المكتوب ونحوها يخدم النظام الطبقي الرأسمالي لأنه يحاول تخدير الفقراء الى امد غير محدود ، ولذلك ، فان أية حركة فكرية تحاول ايقاظ الغافلين من غفلتهم ونومهم تواجه بأقسى واعنف الوسائل.
  والاسلام بكل ابعاده العبادية والاجتماعية ، خصوصاً فيما يتعلق بفكرة العدالة الاجتماعية ، يمثل هذه الحركة الموضوعية التي تحاول ايقاظ هؤلاء النائمين من نومهم العميق ، ولذلك فان محاربته تستدعي استخدام اقسى وسائل البطش والتنديد ، على عكس الديانات الاخرى التي تشجعها الانظمة الاجتماعية الظالمة ، كالهندوسية مثلاً التي تؤمن بأن روح الفرد المطيع تحل في اجسام افراد الطبقة العليا في المجتمع ، وروح العاصي لتعاليم الهندوسية تحل في اجسام افراد الطبقة الفقيرة (1) ، لأن الفقر ما هو الا عقابٌ للارواح العاصية ، فلا يستطيع حينئذ ان ينتقل الافراد من الطبقة الفقيرة المحكومة الى الطبقة الثرية الحاكمة.
--------------------
(1) ( لويس رينو ) ، الهندوسية ، نيويورك : برازيلر ، 1962 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 47 _
  والنظام الكنسي النصراني في القرون الوسطى كان عونأً للنظام الاقطاعي السائد في اوروبا .
  فطا لما كان الملك مفوضاً من قبل الله سبحانه وتعالى بالتصرف بأرواح واموال واعراض الناس ، فان الجرائم المنسوبة للطبقة الحاكمة انما هي نتيجة طبيعية للارادة الالهية والعمل الرباني ، وليس للافراد دخل في تغييرها أو ادانتها ! اذن ليس غريباً ان نجد افراداً عاشوا آثار تلك الافكار مثل ( كارل ماركس ) وغيره آمنوا ـ بعد ان رأوا بأم أعينهم فظائع سلوك رجال الكنيسة ـ بأن الدين أفيون الشعوب .
  وليس هناك شك بأنهم كانوا يقصدون النصرانية الكنيسة في ذلك ، لأنهم رأوا آثار احكام بابوية القرون الوسطى الزاعمة بأن النظام الاجتماعي الظالم لا يجوز تغييره أو ادانته عن طريق الثورة والعنف ، لأن ذلك النظام ما هو الا تصميم الهي للبشرية المعذبة ، وحتى ان فكرة الاستعمار الاوربي للمناطق الآمنة في افريقيا وآسيا لنهب ثروات العالم الاسلامي في القرون الاربعة الاخيرة ، صورت من قبل الطبقة الرأسمالية على انها من أنبل قضايا الرجل البيض .
  وكان هدفها بالأصل ـ بزعمهم ـ رفع غائلة البدائية والمرض والفقر عن رجال المجتمعات المتخلفة ، ورفع علم الحضارة والتقدم في ثنايا تلك المجتمعات (1) .
  وربما اعتقد فقراء المجتمع الرأسمالي في الماضي ان ادعاءات الرجل الاوروبي الابيض فيما يتعلق بفقراء العالم صحيحة ، ولكن تبين لهم فيما بعد ان الذي استعبدهم لقرون طويلة لا يمكن ان يعدل مع افراد آخرين يختلفون عنه في الجنس واللغة والدين.
--------------------
(1) ( جوزيف كونراد ) ، قلب الظلام ، نيويورك : سانت مارتن ، 1989 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 48 _
الفصل الثاني:

الانحراف الاجتماعي ومعالجته على ضوء النظرية القرآنية

  وعليه ، فان النظام الفكري للطبقة الحاكمة هو الذي يبقي الظلم الاجتماعي قائماً ، مع ان الطبقة الحاكمة قليلة العدد والطبقة المحكومة تمثل أغلبية أفراد النظام الاجتماعي ، ويأتي المال الذي يعكس منابع القوة الاجتماعية ليتوج سيطرة نظام الظلم الاجتماعي على كل مقدرات الحياة الانسانية.
  النظرية القرآنية في معالجة الانحراف الاجتماعي * الانحرافات الاجتماعية الرئيسية واساليب معالجتها :
  1 ـ جرائم الاعتداء على النفس البشرية وما دونها .
  2 ـ جرائم ضد الملكية .
  3 ـ الجرائم الخلقية .
  4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي العام * النظريات الاجتماعية الغربية بخصوص الانحراف ونقدها * نظام العقوبات : نقاط مقارنة بين النظرية القرآنية والنظرية الغربية * الاضطراب العقلي * الاسلام والتأثيرات الاجتماعية للانحراف.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 49 _
النظرية القرآنية في معالجة الانحراف الاجتماعي
 ربما يعزى نجاح النظرية القرآنية في تحليلها ومعالجتها لظاهرة الانحرف الاجتماعي الى أربعة اسباب رئيسية ، لم تلتفت اليها النظريات الاجتماعية المعاصرة كنظريات ( الانتقال الانحرافي ) ، و( القهر الاجتماعي ) ، و( الضبط الاجتماعي ) ، و( الالصاق الاجتماعي ) التي سنتناولها بالنقد لا حقاً باذن الله .
  وهذه الاسباب الاربعة هي :
  الاول : العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها الاسلام وحاول تطبيقها على الافراد .
  الثاني : العقوبة الصارمة ضد المنحرفين كالقصاص والدية والتعزير .
  الثالث : المساواة التامة بين جميع الافراد امام القضاء والشريعة في قضايا العقوبة والتأديب والتعويض .
  الرابع : المشاركة الجماعية في دفع ثمن الجريمة والانحراف ، كإلزام عائلة المنحرف دفع دية القتيل عن طريق الخطأ ، ودفع دية القتيل الذي لا يعرف قاتله من بين المال.
  فعلى الصعيد الاول ، نادى الاسلام بالعدالة الاجتماعية واعتبرها الاساس في بناء المجتمع السليم من الانحرافات الشخصية القائمة على الاساس الاقتصادي أو السياسي ، كالغصب والسرقة والاعتداء على حقوق الآخرين .
  وقد فصلنا القول في ذلك في الفصل الثاني من هذه الكتاب، وعلى الصعيد الثاني ، فان ديناً متكاملاً كالاسلام لابد وان يطرح

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 50 _
  للانسانية المعذبة نظاماً يعالج فيه مختلف زوايا الانحراف ، ويحلل من خلاله ـ بكل دقة ـ دوافع الجريمة في المجتمع الانساني ، ويشرع ـ على ضوء ذلك ـ احكاماً صارمة لقلع منشأ الانحراف من جذوره النابتة في عمق النفس البشرية ؛ لأن الخالق عز وجل أدرى بتلك النفس الانسانية التي صممها وأنشأها : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (1) .
  فمن أجل مكافحة الجريمة وتعويض الضحية ، صنف النظام الاسلامي العقوبات الى قسمين ، هما : العقوبات الأدبية والعقوبات المادية ، فالعقوبات الأدبية تشمل جانبين ايضاً ، وهما :
  الاول : الحدود ، وهي العقوبات المقدرة في الكتاب والسنة ؛ بمعنى ان الشارع لم يسمح للقاضي الشرعي التصرف في أمر تقديرها ، كالقصاص في جرائم القتل والقطع والجرح ، كما اشار قوله تعالى الى ذلك : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ) (2) ، وعقوبات الزنا ، واللواط ، والسحاق ، والقيادة ، والقذف ، والسرقة ، والسكر ، والارتداد ، وقطع الطريق .
  والثاني : التعزيرات ، وهي العقوبات التي فوض أمر تقديرها وتحديدها لنظر الحاكم الشرعي ، فيعاقب عليها بما يراه مناسباً ، كعقوبة التزوير والغيبة ونحوها ، والعقوبات المادية : هي الديات ، أو المال الواجب دفعه بسبب الجناية على النفس أو مادونها : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن
--------------------
(1) الشمس : 7 ـ 8.
(2) البقرة : 179.