كوسيلة لتحرير الجنس البشري من العبودية والرق ، ويجعل العبودية المطلقة لله وحده ؟
  وهكذا نلاحظ ضعف مقالة نظرية الصراع في نشوء الدولة الانسانية ، وتفترق النظرية الاسلامية في نشوء الدولة والنظام السياسي ايضاً عن النظرية التوفيقية ونظرية الصراع في فكرة عدالة الدولة ، ففي حين نلاحظ ايمان نظرية الصراع بان الدولة انما انشئت اساساً لحماية الطبقة الرأسمالية الغنية في المجتمع (1) ، وايمان النظرية التوفيقية بأن الدولة ضرورية لحفظ النظام الاجتماعي بغض النظر عن عدالتها او ظلمها (2) ، تنهض النظرية الاسلامية بكل قوة معلنة بوضوح ان عدالة الدولة تعتبر من اهم العناصر الاساسية في حفظ النظام الاجتماعي .
  فلولا عدالة الدولة في توزيع الخيرات ، وحفظ أمن الافراد ، واشباع حقوقهم المشروعة ، لما قام هؤلاء الافراد بدورهم الانساني في التكاتف والتآزر ، والانعتاق من عبودية الانسان لعبودية الخالق عز وجل ، وهذا الفارق على درجة كبيرة من الاهمية ، لان وجود الدولة الظالمة لا يضمن تحقيق العدالة والمساواة لجميع الافراد في النظام الاجتماعي ، واذا غابت العدالة عن الساحة الاجتماعية ، اصبح المجتمع غابة متوحشة يفترص فيها القوي الضعيف وينهب الظالم فيها اموال المظلوم ، وبذلك تضيع الحقوق وتنتهك الحرمات ، واشارة الى
--------------------
(1) ( ماير زالد ) و( جون مكارثي ) ، ديناميكية الحركات الاجتماعية ، كامبردج ، ماساشوستس : اديسون ـ ويسلي ، 1978 م.
(2) ( تالكوت بارسنس ) ، النظام الاجتماعي ، جيلنكو ، الينوي : المطبعة الحرة ، 1951م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 226 _

  ذلك رفع الاسلام اروع شعاراته الاجتماعية الخالدة ، الا وهو تحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع الافراد دون النظر الى طبقة الفرد ، او منشأه ، او لونه كما اشار الى ذلك قوله تعالى : ( يا أيها الناس ، انا خلقناكم من ذكر وانثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، ان اكرمكم عند الله اتقاكم ) (1).
  وهذا النظرة العادلة تجاه الافراد ، تجعل الحكومة الاسلامية متميزة عن الحكومات الرأسمالية ، فالاسلام يرفض الحكومة التسلطية ، وهي التي ترفض المعارضة العامة لسلطاتها جملة وتفصيلاً ، ومثالها حكومة الديكتاتور فرانكو في اسبانيا الرأسمالية ، ويرفض الحكومة الاستبدادية ، وهي التي تحكم الافراد بالحديد والنار ، لتغيير نظرة الافراد تجاه المجتمع والحياة ، ومثالها حكومة ادولف هتلر في المانيا الرأسمالية .
  ويرفض الحكومة الديمقراطية القائمة نظرياً على اساس ان السلطة ملك للافراد جميعا ، وعملياً على تحكم الطبقة الرأسمالية الغنية بالنظام الاجتماعي ؛ ومثالها النظام الامريكي القائم اليوم ، واذا كانت الديمقراطية التمثيلية فكرة رائعة ، كما يصورها دعاة الرأسمالية الحديثة ، فلماذا لم يمنح النظام السياسي الديمقراطي الامريكي في القرن التاسع عشر الميلادي الزنوج والنساء والهنود الحمر حق الانتخاب ؟ بمعنى اخر ، اذا كانت الديمقراطية التمثيلية قضية حقيقية ، بحيث تمثل آراء جميع الافراد ، فلماذا لا يحق للزنوج والنساء والهنود الحمر ، طرح آرائهم عبر انتخاب ممثليهم (2) ؟ هنا يصمت دعاة النظام الرأسمالي عن
--------------------
(1) الحجرات : 13.
(2) ( هربرت هيمن ) ، المشاركة الاجتماعية السياسية : دراسة في نفسية الشخصية السياسية ، نيويورك : المطبعة الحرة ، 1969 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 227 _
  الاجابة عن هذا السؤال معترفين بتناقض فكرتهم السياسية المبنية على تحقيق مصالح الطبقة الرأسمالية العليا فحسب ، دون النظر الى مصالح الطبقات الاجتماعية المحرومة.
  اما النظام الاسلامي ، فهو يضمن على المستوى الشرعي تحقيق المساواة التامة ، ليس في توزيع الحقوق والخيرات فحسب ، بل في التوكيل السياسي ايضاً ، فلا يعتبر منشأ الفرد او لون بشرته او جنسه عاملاً في توزيع الحقوق والواجبات ، كما ذكرنا ذلك سابقاً.
  ومشاركة الامة الاسلامية في مقدرات النظام السياسي يساهم في توزيع القوة السياسية وانتشارها ، ففي الانظمة الرأسمالية بانواعها الثلاثة الاستبدادية والتسلطية والديمقراطية تتركز القوة السياسية ضمن الطبقة الرأسمالية الحاكمة لاجيال عديدة (1) .
  اما في النظام الاسلامي ، فان الامة من خلال التوكيل والاختصاص ، وريادة المساجد ، وحضور صلاة الجمعة ، والعمل العبادي الجماعي تشارك في تنشيط العمل السياسي ، وهي تلاحظ من خلال عينها الفاحصة عدم تركز القوة السياسية ضمن طبقة معينة ، حتى ان المدار في ولاية الفقية في زمن الغيبة العلم ، وهو أمر يمكن الحصول عليه نظرياً من قبل اي فرد يبذل جهداً مضنياً لتحقيق ذلك الهدف ، اما في النظام الرأسمالي فان الفرد لا يصل الى الكونغرس الا ان يكون غنياً ، ولا يصبح عالماً متميزاً الا ان يدخل جامعات الطبقة العليا التي لا يدخلها الا
--------------------
(1) ( دين جاروز ) ، المشاركة الاجتماعية في السياسة ، نيويورك : بريكر ، 1974 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 228_
  الاغنياء (1) ، وبذلك تضمن الطبقة الحاكمة سيطرتها على النواحي السياسية للدولة ، اما في الاسلام ، فان لكل فرد فرصة متساوية تماماً للدخول في العمل السياسي والاجتماعي دون الاهتمام بالناحية المالية او الطبقية.
--------------------
(1) ( الن ستانلي رنشون ) ، المشاركة الاجتماعية السياسية : النظرية والتطبيق ، نيويورك : المطبعة الحرة ، 1977 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 229 _
فلسفة ( الدولة ) في النظريات الغربية ونقدها
  ان اول من ناقش فكرة دور الدولة في حفظ ورعاية مصالح الطبقة الغنية في المجتمع من انتفاضة الفقراء هو المفكر الفرنسي ( جان ـ جاك روسو ) في القرن الثامن عشر الميلادي (1) ، فاعلن ان نشوء الدولة هو الذي عكر صفو النظام الاجتماعي ، وحطم العدالة الاجتماعية ، ذلك انها انشئت لحماية الاغنياء من غضب الفقراء فحسب ، فالانسان يولد حراً ، ولكنه يكبل من قبل الدولة بالقيود ، فهذا الجهاز السياسي ـ اذن ـ لا يفرض العدالة بين افراد الطبقات ، وانما يحمي مصالح الطبقة القوية فقط.
  وبعد قرن من الزمان ، جاء ( كارل ماركس ) بنظريته عن نشوء الدولة ، وبالخصوص في كتابه ( البيان الشيوعي ) المطبوع سنة 1848 م (2) ، والذي زعم فيه بأن جميع المجتمعات الانسانية ـ ما عدا البدائية منها ـ مقسمة من الناحية الطبقية الى طبقتين : الطبقة المسيطرة ، والطبقة المسيطر عليها ، فالطبقة المسيطرة تستخدم كل المؤسسات الخاصة بالدولة لإحكام سيطرتها وقبضتها على الافراد ، حتى تبقى محتفظة بالمنافع والمغانم التي
--------------------
(1) ( جان ـ جاك روسو ) ، العقد الاجتماعي ، ميدلسكس ، انكلترا : بنكوين ، 1968 م ، الطبعة الاولى عام 1762 م.
(2) ( كارل ماركس ) ، كتابات مختارة في علم الاجتماع والفلسفة الاجتماعية ، تحرير : تي ، بي ، بوتمور وماكيميلان روبل ، بلاتيمور ، ميريلاند : بنكوين ، 1964 م ، الطبعة الاولى عام 1848 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 230 _
  تدرها عليها عملية الحكم ، ولذلك فان الدولة بمؤسساتها المختلفة تخدم مصالح الطبقة المتحكمة ، ولا تهتم بحرمان وآلام الطبقة المستضعفة ، فاين عدالة الدولة اذن ، اذا كانت تلك المؤسسة السياسية مجرد ( لجنة تنفيذية لحماية الطبقة الحاكمة ) ؟ واين عدالة الدولة ، اذا كانت مؤسساتها تدافع عن مصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة وتسمح لها بالتمتع بالثروة الفائضة التي انتجها العمال المستضعفون ؟
  ولكن نظرية الصراع الاجتماعي واجهت مجابهة عنيفة ، من قبل النظرية التوفيقية التي قالت بان الدولة ضرورية للاجتماع الانساني ، ووظيفتها خطيرة في حفظ النظام الاجتماعي ، ورعاية مصالح الافراد عن طريق القانون (1) .
  والنظرية الاخيرة قامت على افكار ( توماس هوبس ) من مفكري القرن السابع عشر الميلادي ، الذي آمن بان الافراد يجب ان يقبلوا بالتضحية بحرياتهم مقابل تجنب الفوضى الناتجة عن عدم وجود الدولة (2) .
  وهذا العقد الاجتماعي بين الدولة والفرد هو الذي يحفظ النظام والحضارة في المجتمع الانساني، وتذهب النظرية التوفيقية الى ان المجتمعات الريفية الصغيرة لاتحتاج الى قانون معقد لتنظيم حياتها اليومية ، على عكس المجتمعات الصناعية الكبرى ، التي تتطور فيها الحياة الاجتماعية والاقتصادية بشكل
--------------------
(1) ( تالكوت بارسنس ) ، السياسة والتركيبة الاجتماعية ، نيويورك : المطبعة الحرة ، 1959 م.
(2) ( توماس هوبس ) ، الدولة ، نيويورك : مطبعة الفنون الليبرالية ، 1958 م ، الطبعة الاولى عام 1598 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 231_
  سريع وفعال ، فيحتاج الافراد ـ عندئذٍ ـ الى نظام قانوني يساعدهم على حفظ ممتلكاتهم ورعاية مصالحهم المتشابكة مع مصالح الاخرين ، فتقوم الدولة ـ حينئذٍ ـ بتحمل مسؤولية حفظ النظام عن طريق فرض القانون ، وتطويع الافراد بمختلف اتجاهاتهم وألوانهم لنفوذه وسلطته العليا التي تتجاوز كل السلطات الاخرى.
  وتقوم الدولة أيضا بتوزيع الخيرات الاجتماعية على الافراد في المجتمع ، وامثلتها توزيع الدواء وقت انتشار الاوبئة ، وتوزيع الاسمدة على المزارعين ، واستثمار المعادن وتصنيعها حتى تتم الاستفادة منها ، وعلى ضوء ذلك فان الدولة بتشريعها القوانين المتعلقة بتوزيع خيرات البلاد على الافراد ، ورعاية حقوقهم الشخصية من تعدي الآخرين عليها ، تقوم بحفظ الحقوق الاجتماعية العامة.
  ولكن في معرض نقدنا لنظريتي ( الصراع الاجتماعي ) و( التوفيقية الغربية ) ، لابد لنا ان نقول ان تحليلي ( روسو ) و( ماركس ) لنشوء الدولة الرأسمالية ، مع انه ينصب على الجانب الوظيفي لتلك المؤسسة الاجتماعية ، ويحلل دور الدولة في حماية مصالح الطبقة الحاكمة ، ويفسر تطورها مع نشوء الطبقات الاجتماعية ، الا ان ( ماركس ) يفشل في ادراك حقيقة مهمة وهي ان للدولة وظائف اخرى ليست لها علاقة بصراع الطبقات ، فالدولة على مساوئها الادارية والطبقية تنظم شؤون المواطنين لا في الاشراف على الانتاج فحسب ، بل في الاشراف على استثمار الثروة الاجتماعية ايضا ، فمن الذي يبني الطرقات والجسور والمرافق العامة ؟ ومن الذي يحفظ النظام

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 232 _
  والامن الاجتماعي للناس ؟ ومن الذي يقدم المعونة الغذائية والانسانية والطبية للافراد وقت الكوارث الطبيعية ؟ والجواب على هذه الاسئلة بالتأكيد ، هو الدولة بكل مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والقضائية والعسكرية ، وقد لاحظنا ان حفظ النظام في الانظمة الاشتراكية المندثرة لم يتحقق الا بالقبضة الحديدية للدولة ومؤسساتها المختلفة.
  ولكن فشل نظرية الصراع في تقديم نظرية متكاملة حول الدولة والنظام السياسي يكمن في عدم تمييزها بين ضرورة وجود الدولة وبين عدالتها ، فلا أحد يشك بأهمية وجود الدولة لحفظ النظام ، وتوزيع الثروات ، والتخطيط الاجتماعي والاقتصادي ، ولكن القضية الحاسمة التي يتصارع حولها الفرقاء من شتى العقائد والافكار انما تتمثل بفكرة ( عدالة الدولة ) ، فمن الذي يضمن عدالة توزيع الثروات على الافراد بحسب حاجاتهم ، دون الاكثرات لعقائدهم الدينية وأصولهم العرقية وألوان بشراتهم ؟ ومن ذا الذي يضمن عدالة الدولة في اشتراك جميع الافراد في الحكم والسلطة ؟
  ومن ذا الذي يضمن عدالة الدولة في بناء اقتصادها على اساس التوزيع الجغرافي العادل لا على اساس التوزيع المذهبي او الطائفي الديني ؟ هنا تفشل النظرية التوفيقية في الاجابة على هذه الاسئلة ، وتعجز عن تحليل عدالة الدولة ، ولا ريب ان الدولة الظالمة وتشريعة الغاب على صعيد واحد فيما يتعلق بالحقوق ، حيث تهمل في كليهما حقوق الافراد الاجتماعية المتعلقة بالضمان والرعاية والمساواة ، فما قيمة القانون اذا كان يحمي الظالم دون المظلوم ؟ وما قيمة الخيرات اذا كانت توزع على اساس

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 233 _
  الغصب والظلم ؟ وما قيمة التخطيط اذا كان لا يصب في مصلحة الفرد والجماعة ؟ وما قيمة العلاقات الدولية اذا كانت لا تخدم الفرد في مجتمعه ؟ وهكذا تفشل النظريتان في تقديم تحليل مقبول لنظرية الدولة في نشر النظام والعدالة في ربوع النظام الاجتماعي والمساواة بين جميع الافراد دون استثناء.
  وحتى ان الفكرة الديمقراطية القائمة على قاعدة ان السلطة ملك للافراد جميعاً (1) ، حيث يحق لهم المشاركة في القرار السياسي ، ويثبت لهم الحق في انتخاب المسؤولين ، لا تخلو من نواقص وهفوات ، شأنها في ذلك شأن بقية الافكار الغربية المعاصرة ، فهذا الشكل من الحكم نظري بطبيعته ، لانه يستحيل ان يشارك كل مواطن صالح في كل قرار سياسي تتخذه الدولة ، علماً بان النظام الديمقرطي الامريكي الذي رفع لواء هذه الفكرة كان يحرم الزنوج والنساء ومن لا يمتلك قطعة ارض في القرن التاسع عشر الميلادى من حق الانتخاب (2) .
  ولاشك ان الديمقراطية المعاصرة تعني الديمقراطية التمثيلية ، حيث يقوم الناخبون بانتخاب افراد يمثلونهم في صنع القرار السياسي (3) ، ولكن هذه الفكرة ايضاً تعرضت للكثير من النقد ، وأهم نقد وجه لها هو ان الديمقراطية تصادر حقوق الاقليات ، لان طغيان الاغلبية واستئثارها بقواعد القوة السياسية يضع الاقلية في موضع خاسر ، فالزنوج في الولايات المتحدة ، والهنود في بريطانيا ، والاتراك في المانيا ،
--------------------
(1) ( الكسيس دي توكفيل ) ، الديمقراطية في امريكا ، نيويورك : دبل دي ، 1975 م ، الطبعة الاولى عام 1848 م.
(2) ( سيمورمارتن لبست ) ، الرجل السياسي ، نيويورك : دبل دي ، 1959 م.
(3) ( موريس دوفركر ) ، الاحزاب السياسية ، نيويورك : وايلي ، 1954 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 234_
  والعرب في فرنسا تهدر حقوقهم الشرعية والقانونية بسبب تحكم الاكثرية الاوروبية البيضاء بالقوة السياسية.
  ومع ان بريطانيا ، تعتبر نفسها مهد الديمقراطية السياسية الحديثة ومنشأ النظام الرأسمالي ، الا ان نظامها الطبقي يناقض معتقدات النظرية السياسية الزاعم بان الديمقراطية الملكية ارقى واكمل الانظمة السياسية (1) .
  فكيف تتحكم الطبقة الارستقراطية الثرية بمقاليد الامور السياسية لقرون ، مع ان الديمقراطية تستدعي اشتراك جميع الطبقات الاجتماعية في الحكم ؟ وكيف يحق للعائلة الحاكمة تملك اموال تتجاوز قيمتها ملكية اي عائلة بريطانية ، مع ان الديمقراطية الرأسمالية تستدعي مشاركة الجميع في جني الخيرات التي تدرها العملية الانتاجية ؟
  ونستنتج اخيراً من عرض هذه النظريات والآراء ونقدها ، ضعف النظريات الاجتماعية التي صممها المفكرون من شتى المشارب الفكرية ، ونلاحظ ـ بكل قوة ـ كمال النظرية السياسية القرآنية التي تعكس جوهر العدالة الاجتماعية ، وتعطي الحكم والسلطة معنىً اخلاقياً واطاراً تعبدياً يتمثل بمفهوم الاستخلاف في الارض الذي يعتبر من انصع صور التكليف الشرعي للافراد.
--------------------
(1) ( جيرهارد لنسكي ) ، السلطة والامتيازات : نظرية في انعدام العدالة الاجتماعية ، نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1966 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 235_
الفصل السابع

النظام القضائي في النظرية القرآنية

  اهمية القضاء في النظرية القرآنية * خصائص النظام القضائي في الاسلام * نقد النظام القضائي الغربي *

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 236 _
اهمية القضاء في النظرية القرآنية
  تنبثق اهمية القضاء في النظام الاجتماعي من النظر لحقيقتين في غاية الاهمية ، وهما : اولا : الاشراف على سلوك الافراد لمنع اي تعارض محتمل بين حق الفرد الشخصي وحقوق الاخرين ، عن طريق بسل السلوك المنحرف عن السلوك المتفق عليه اجتماعياً ودينياً .
  ثانياً : انزال عقوبة المقاطعة الاجتماعية ، او القصاص ، او النفي بحق المنحرفين ، وهذان العاملان يحددان دور القضاء في المجتمع الانساني ، فالقضاء بمعاقبته للمنحرف عن الخط الاجتماعي العام يدعم ـ بالدرجة الاولى ـ المصلحة الاجتماعية العليا ، و ـ بالدرجة الثانية ـ مصلحة الافراد باعتباراتهم الشخصية.
  ولاريب ان اهم ما يميز النظام القضائي الاسلامي عن مثيله في الانظمة الاجتماعية الاخرى ، هو انشاؤه وتصميمه من قبل الخالق عز وجل لتحقيق العدالة الجنائية والحقوقية بين الافراد ، كما جاء في قوله تعالى : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) (1) ، ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ) (2) ، ويتمثل ذلك بتقديم منصة القضاء للعارف باحكام الله ، المجتهد العادل الامين الثقة الذي يستطيع استرجاع الحق المغصوب من
--------------------
(1) النساء : 59.
(2) النساء : 58.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 237 _
  الظالم ، او انزال القصاص العادل بالجاني ، او اجبار المعتدي على تعويض الضحية مالياً ، وفي كل ذلك يكون الجهاز القضائي ميزاناً للحق ، ووسيلة رادعة وفعالة لحفظ النظام الاجتماعي ، فالقضاء لا يحل التنازع الشخصي بين المتخاصمين فحسب ، بل يؤثر في قراراته على النظام التجاري والاقتصادي والسياسي للدولة ، وعلى الحياة العائلية ، وعلى نقل الملكية ، والارث ، وتحصيل العلوم ، وعلى كل انواع العلاقات التي تعارف الاجتماع الانساني على الاقرار بها.
  واذا كانت النظرية الرأسمالية الغربية ، لا تزال الى حد اليوم ، منقسمة على ذاتها في تشخيص من الذي يحدد الانحراف والمنحرفين (1) ، حيث يذهب الجناح اليساري الى القول بان الطبقة الرأسمالية الغنية هي التي وضعت القوانين الجنائية لحماية مصالحها ضد الفقراء ، ويذهب الجناح اليميني الى القول بان الارتكاز العقلائي في النظام الاجتماعي هو الذي وضع القوانين لحماية المصلحة الاجتماعية العليا .
  في جو هذا الاضطراب الفكري الرأسمالي يقف الاسلام ونظامه القضائي شامخاً في تحديد الانحراف وتعريف المنحرف على اصول وقواعد شرعية ثابتة ، حيث تصرح القواعد الدينية بان الخالق سبحانه وتعالى هو الذي يحدد الانحراف ، وهو الذي يعاقب عليه ، وهو الذي يضع لكل واقعة حكماً يؤخذ من خلاله حق المظلوم ، ذلك انه ارسل الرسل والانبياء ( عليهم السلام ) لهداية الناس الى تعيين ميزان القضاء العادل ، كما يقول
--------------------
(1) ( والترميرفي ) و( هيرمان بريشت ) ، المحاكم ، القضاة ، والسياسة : مقدمة في الاجراءات القضائية ، نيويورك : راندوم هاوس ، 1986 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 238-_
  تعالى في كتابه المجيد : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (1) .
  فالقضاء الاسلامي لا يضمن حقوق الافراد الشخصية فحسب ، بل يربط الجهاز القضائي بما فيه من قضاة ، وشهود ، ودعاوى ومن يرتبط بها ، بالله سبحانه وتعالى ، لانه هو مصدر كل الاحكام الشرعية التي يتعامل بها القاضي مع المدعي والمدعى عليه والشهود ، فاصبح القضاء الاسلامي وسيلة من وسائل التعبد لله عز وجل ، وليس وسيلة من وسائل الاثراء وجمع المال والسيطرة السياسية كما هو المعمول به في النظام الرأسمالي.
  واذا كان من مهمة القضاء وضع الخط الفاصل بين الاعتدال والانحراف ، والتمييز بين السلوك الطبيعي والجنائي ، فان الاسلام باعتباره دين العدالة والمساواة اعتبر القضاء جزءًا من رسالته الكلية التي تمتد مع امتداد تطلعات الانسان ، ونظرته الشمولية حول الكون والحياة ، فلا يحتاج الفرد في النظام الاسلامي الى خبراء يصممون له قوانين قضائية ، لتجعله اشد تماسكاً مع بقية الافراد في النظام الاجتماعي ، فإن ذلك قد ترك للرسالة الاسلامية بأبعادها المختلفة لتعمل عملها بتغيير نفسية الفرد ، وتشكيله من جديد على اساس حب الخير والتعاون والتآزر مع النظام الاجتماعي ، بمعنى ان الجريمة اذا وقعت في المجتمع الاسلامي ، فانها لا تعتبر عاملاً من عوامل تماسك المجتمع ، بل لابد من استئصالها بانزال اقصى العقوبات التي شرعها الخالق عز وجل ، وهي عقوبات القصاص والحد والدية ونحوها ، وهذا
--------------------
(1) الحديد : 25.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 239_
  الرأي معاكس تماماً لرأي النظرية الرأسمالية ، التي ترى على ضوء افكار ( اميلي ديركهايم ) ، بأن الجريمة ضرورية لتماسك المجتمعات الانسانية ، لانها تعرف حدود السلوك المقبول (1) .
  وهذه الفكرة الرأسمالية الغربية يرفضها الاسلام رفضاً قاطعاً ، لأن هذه الرسالة السماوية حددت ابعاد السلوك المقبول اجتماعياً عبر النصوص الشرعية المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، دون ضرورة الرجوع الى تشجيع الجريمة في النظام الاجتماعي ، فاذا كانت عقوبة جناية القتل واضحة للافراد وهي القصاص في حكم الله ، فكيف يكون وقوع هذه الجناية سبباً لتماسك النظام الاجتماعي ؟ الا تكفي جدية النظام الاجتماعي في انزال العقوبة بالمهالفين نظريا ، سببا في الردع والتماسك الاجتماعي ؟ واذا كانت ابعاد السلوك المقبول معرفة في الرسالة التي يؤمن بها افراد النظام الاجتماعي ، فكيف يكون ارتكاب الجريمة تعريفاً لحدود السلوك المقبول ؟ اليس هذا دليلاً على ضعف النظام الاجتماعي الذي لايتماسك افراده الا بمشاهدة الجريمة والتماس العقوبة التي تلحقها ؟
  ومع ان الرسالة السماوية العظيمة ، قد حددت وعرفت السلوك المقبول شرعياً ، وعلى اساسه وضعت مباني الثواب والعقاب ، الا انها مع ذلك ، صممت نظاماً قضائياً فريداً لم تشهد له البشرية مثيلاً في تاريخها الطويل ؛ فوضعت شروطاً للقاضي ، والمدعي ، والمدعى عليه ، والشهود ، اوجبت ، وأكدت وجوبها مراراً على اجتهاد وعدالة القاضي ، لان المظلوم
--------------------
(1) ( اميلي ديركهايم ) ، الاشكال البدائية للحياة الدينية : دراسة في علم الاجتماعي الديني ، نيويورك المطبعة الحرة ، 1947 م ن الطبعة الاولى عام 1912 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 240 _
  يرى فيه صوت الحق ونور العدالة الالهية ، واوجبت في المدعي العقل والبلوغ والرشد والاصالة والجزم ، وفي المدعى عليه البلوغ والتعيين ، وفي المدعى به المعلومية والشرعية ، ووضعت اصولاً للاثبات كالاقرار ، والكتابة ، والقرائن الشرعية والموضوعية ، والشهادة ، والبينة ، واليمين ، واليد ، والعلم والاستفاضة .
  واوجبت في الشهادة الوضوح والمطابقة ، والعلم ، وعدم النفي ، واوجبت في الشاهد العقل ، والبلوغ ، والاسلام ، والعدالة ، والضبط ، وشجعت على الصلح بين المتخاصمين اذا كان لا يحل حراماً ولايحرم حلالاً ، ونظاماً كهذا لابد له من تحقيق العدالة القضائية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية بصورتها الشمولية الواسعة ، ولاشك ان الاسلام سعى بكل جد لتحقيق تلك العدالة الاجتماعية ، منذ ان ارعبت كلماته الصاعقة بطون مكة ونظامها الجاهلي الظالم.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 241_
خصائص النظام القضائي في الاسلام
  ومن اهم خصائص النظام القضائي في الاسلام ، ان القضاء وظيفة شرعية الزامية يجب على القاضي القيام بها ، كبقية الوظائف الشرعية الاخرى ، بمعنى ان مهمة القضاء مهمة كفائية اذا قام بها البعض سقطت عن الكل ، وان تقاعس الجميع اثموا جميعاً ، والاصل في القضاء هو احقاق الحق ، تعويضاً كان او ردعاً ، وقد اجمع فقهاء الامامية علىان لله في كل واقعة حكماً ثابتاً ، لقوله ( عليه السلام ) : ( ما من شيء الا وفيه كتاب وسنة ) ، و( ان الله تعالى انزل في القرآن تبيان كل شيء ، حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج اليه العباد ، فلا يستطيع عبد ان يقول : لو كان هذا انزل في القرآن ).
  وفي اللغة معنى القضاء هو الحكم ، ومنه قوله تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) (1) ، وفي الاصطلاح هو ولاية الحكم شرعاً لمن له الفتوى (2) ، والاصل فيه كتاب الله ، وبالخصوص قوله تعالى : ( يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) (3) ، وفي السنة انه (صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث علياً ( عليه السلام ) قاضياً ال
ى --------------------
(1) الاسراء : 23.
(2) التنقيع الرائع للسيوري الحلي ج 4 ص 230.
(3) ص : 26.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 242 _
  اليمن (1) ، وبعث علي ( عليه السلام ) عبدالله بن العباس قاضياً الى البصرة (2)، ومن اجل عرض اهم خصائص النظام القضائي الاسلامي لابد لنا من ترتيب النقاط التالية :
  اولاً : يشترط الاسلام في القاضي شرطي العدالة والاجتهاد ، اضافة الى شروط اخرى مثل العقل والبلوغ والاسلام والذكورية والضبط ، ولكن اهمية الشرطين الاولين تضع الاسلام على قمة الانظمة القضائية في التاريخ الانساني ، فالعدالة تعني ائتمان الفرد على تطبيق جزئيات الشريعة ، باقامة علاقة حقيقية وثيقة بينه وبين الله عز وجل ، وبينه وبين بقية افراد النظام الاجتماعي .
 وقيل ان معنى العدالة مقابل لمعنى الطاغوت في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ) (3) .
  اما الاجتهاد ، فيعني القدرة على استنباط الاحكام الشرعية من مصادرها المقررة وتطبيقها على مواردها الخاصة ، وقد اكد عليه القرآن الكريم بقوله : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (4) ، وبهذين الشرطين ، يستطيع القاضي القضاء بين الناس بالحق على الصعيد الظاهري ، لان الواقع لا يحرزه الا الله سبحانه وتعالى ، ولان الوصول الى الحق المطلق مستحيل على الانسان ، الا
--------------------
(1) المبسوط للشيخ الطوسي ج 8 ص 82.
(2) المبسوط ج 8 ص 85.
(3) النساء : 60.
(4) التوبة : 122.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 243 _
  لفرد متصل بالمطلق ، ولكن الشريعة اجازت لمجتهدين استخدام الادلة الظنية الموصلة للحق ، وعليه فان المجتهد ، هو اكثر الافراد حظاً في اصابة الواقع واقامة العدل ، ولذلك أسند له دور القضاء.
  ثانياً : ان حكم المجتهد في النظرية الاسلامية لا يغير الحكم الواقعي ، فلو ظهر لمجتهد آخر خطأ المجتهد الاول بطريق القطع واليقين ، جاز له نقضه ، لان المدار في الاجتهاد الدليل القاطع كالآية القرآنية الصريحة ، والاجماع المحصل ، والحديث المتواتر ، والمعيار لنقض الحكم هو العلم اليقيني بمخالفته للواقع ، بمعنى ان الحكم ينفذ ظاهراً لا باطناً ، والاصل في ذلك ، ان كل القضاة المجتهدين يعتمدون على الادلة الظنية الموصلة للحق اولاً ، والاجتهاد الذي يحتمل فيه الخطأ والصواب ثانياً ، فلا يستطيع احدهم نقض حكم الآخر ، الا اذا ظهر لقاضٍ ثانٍ خطأ حكم القاضي الاول بطريق القطع واليقين ، وعليه ، فان الاستئناف هنا ، استثنائي ومحدود جداً ، وليس الاصل في كل الاحكام الجنائية والحقوقية.
  اما في النظام القضائي الغربي ، فان الاستئناف حق دستوري وليس قضية ثانوية (1) ، بل ان اول ما يلمح به محامي الدفاع امام هيئة المحلفين ، حق المتهم في محاكمة استئنافية اذا لم تحرز عدالة المحاكمة الاولى ، ولكن اذا كانت هيئة المحلفين في المحاكمة الاولى بعيدة عن روح العدالة في حكمها على المتهم ، فمن الذي يضمن عدالة محاكم الاستئناف بهيئة محلفين جديدة او بقضاة آخرين يمتلكون نفس مواهب نظائرهم في المحاكم الدنيا ؟
--------------------
(1) ( بنجامين كاردزو ) ، طبيعة العملية القضائية ، نيويورك مطبعة جامعة ييل ، 1921 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 244 _
  والاختلاف هنا بين النظامين ، هو ان النظام القضائي الاسلامي يؤمن بأن الحكم على المتهم يجب ان يستند الى العلم بالاصول والقواعد الشرعية في المرافعات ، اي ابتناء الحكم القضائي على اساس القطع واليقين او الدليل الظني الموصل للحق ، اما الاستئناف في النظام القضائي الغربي ، فهو محاولة لمعالجة الخطأ الذي حصل في ابناء الحكم القضائي المستند على ادلة باطلة من الاساس.
  ثالثاً : اقرار المتهم في الجناية ـ حسب النظرية الاسلامية ـ حجة مقتصرة بالمقر وحده ، فلا ينفذ بغير احد غير المقر ، ولكن اقرار الجاني لا يخفف من العقوبة الثابتة بحقه ، لان تخفيف العقوبة هو سلب حق من حقوق الضحية ، ولا يقبل الانكار بعد الاقرار الا في حالة الجناية الموجبة للرجم ، حيث يسقط الحد ، و( الاصل في شرعية الاقرار بعد الاجماع من المسلمين او الضرورة ، السنة المقطوع بها ) (1) ، لقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( اقرار العقلاء على انفسهم جائز [ اي نافذ ] ) (2) ، وهو لاشك مصداق للنص الحكيم : ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا ) (3).
  رابعاً : بعد ثبوت الجناية ، ينفذ حكم الله ـ حسب النظرية الاسلامية ـ مباشرة ودون تأخير ، ولا تؤمن الشريعة الاسلامية بفكرة ( تعليق الحكم ) او مجرد ( عقوبة الاشراف على سلوك الجاني لاحقاً ) ، لان في ذلك تضييعاً
--------------------
(1) الجواهر ج 35 ص 3.
(2) الوسائل ج 16 ص 133.
(3) آل عمران : 81.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 245 _
  لحق المجني عليه ايضاً ، وتشجيعاً للأفراد على السلوك الجنائي، اما المدرسة القضائية الغربية ، فهي تمارس اسلوب تعليق العقوبة الصادرة بحق الجاني (1) .
  حيث يقوم الحاكم بارجاء تنفيذ العقوبة التي استحقها الجاني لارتكابه الجناية ، واطلاق سراحه ، ومراقبته لفترة محددة ، فاذا كان سلوكه الاجتماعي متناسباً مع الاعراف المقبولة ، أسقطت العقوبة عنه ، ولاشك ان تعليق العقوبة ـ التي هي نتيجة من نتائج ما يسمى بـ ( المساومة على الاقرار بالذنب ) التي يعقدها محامي الدفاع مع الجاني وبالاتفاق مع النائب العام ـ تعتبر من اخطر مشاكل النظام القضائي الغربي لانها تهدر حقوق الضحية بشكل سافر.
  خامساً : ان تحمل الشهادة واداءها واجب كفائي في الاسلام ، وشروطها : الوضوح ، والمطابقة ، والعلم ، ولابد من الشاهد : البلوغ والعقل والعدالة والضبط ... ولابد ان تكون الشهادة مرآة علم الشاهد بالمشهود به ، بمعنى انها يجب ان تكون نتيجة علم يقيني حصل للشاهد ؛ لأن الاصل فيها المشاهدة ، وهي العلم بالمشهود ، ولذلك كانت العدالة ـ وهي الائتمان على تطبيق احكام الشريعة ـ شرطاً اساسياً من شروط الشاهد ، فان تيقن القاضي بعدالة الشاهد أخذ بشهادته دون تزكية ، وان جهلها بحث عنها . وان تبين فسق الشاهد ، سقطت شهادته ، والاصل في تشريعها ، قوله تعالى : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ) (2) ،
--------------------
(1) ( ريتشارد بوسنر ) ، المحاكم الفدرالية ، بوستن : مطبعة جامعة هارفارد ، 1985 م.
(2) الطلاق : 2.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 246 _
  ( وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء ) (1) ، وفي رواية انه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما سئل عن الشهادة ؟ قال : ( هل ترى الشمس ؟ قال : نعم . فقال : على مثلها فاشهد أو دع ) (2).
  واتفق الفقهاء على ان تحمل الشهادة واداءها واجب كفائي ، بمعنى انه اذا قام به البعض سقط عن الكل ، وان امتنعوا جميعاً اثموا ، وتحمل الشهادة يعني دعوة فرد لآخر بالشهادة له ، ولاشك ان تلبية الدعوة واجبة شرعاً ، فلا يجوز للشاهد الرفض من غير عذر شرعي ، للنص القرآني الكريم : ( وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ) (3) .
  وقوله ( عليه السلام ) : ( اذا دعاك الرجل لتشهد له على دين أو حق لم ينبغ لك ان تتقاعس عنه ) (4) ، واداء الشهادة يعني تأديتها امام القاضي ، وهو واجب ايضاً ، لقوله تعالى : ( وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (5) ، ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ) (6) ، وللمروي عن الامام العسكري ( عليه السلام ) : ( من كان في عنقه شهادة فلا يأب اذا دعي لاقامتها ، وليقمها ، ولينصح فيها ، ولا تأخذه فيها لومة لائم ، وليأمر بالمعروف ، ولينه عن المنكر ) (7) ، بمعنى ان الفرد اذا حدثت له حادثة ،
--------------------
(1) البقرة : 282.
(2) علل الشرائع ص 338.
(3) البقرة : 282.
(4) التهذيب ج 6 ص 276.
(5) البقرة : 283.
(6) البقرة : 140.
(7) تفسير الامام العسكري ص 303.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 247 _
  وكان هناك من شهدها كان على الشاهد شرعاً تلبية دعوة المجني عليه ، والذهاب الى المحكمة أو دار القضاء لتأدية الشهادة ، حتى لو تحمل النصب والمشقة في ذلك.
  سادساً : تثبت الجرائم الخلقية بشهادة اربعة شهود ، لنص القرآن الكريم : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة ) (1) ، ( ... لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ) (2) .
  ولا تنحصر الشهادة بالرجال ، بل ورد في الرواية عن الامام الصادق ( عليه السلام ) انه : ( يجوز في الرجم شهادة ثلاثة رجال وامرأتين ) (3) .
  وفي الجلد فتثبت باربعة رجال ، او ثلاثة وامرأتين ، او رجلين واربع نسوة (4) ، وفي اللواط والسحق تثبت باربعة رجال فقط ، ولا تقبل شهادة النساء.
  اما في حقوق الافراد غير المالية فثبت بشهادة رجلين ، وفي حقوقهم المالية كالديون ، والرهن ، والوصايا بالمال ، وعقود المعاوضات بشهادة رجلين ، او رجل وامرأتين ، او رجل ويمين (5) ، بينما تفتقد النظرية الغربية الى هذا التفصيل ، حيث يبتنى الحكم القضائي على عدد غير محدود من الشهود (6).
  سابعاً : ينبغي ـ حسب النظرية الاسلامية ـ ان تكون تزكية وتجريح
--------------------
(1) النور : 4.
(2) النور : 13.
(3) التهذيب ج 6 ص 264.
(4) الكافي ج 7 ص 39.
(5) من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 33.
(6) ( ماكلين فليمنك ) ، ثمن العدالة الواقعية التامة ، نيويورك : الكتب الاساسية ، 1974 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 248 _
  الشهود من قبل المدعي والمدعى عليه سراً ، حيث لا يجوز التشهير بمساوئ الناس او اضهار عوراتهم في الاسلام ، كما ورد في قوله تعالى : ( لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ) (1) ، ( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2) .
  وكان رسول الله (ص) قد واجه ( ماعز ) باخلاقية عظيمة عند اعتراف الاخير بالزنا : ( لعلك قبلتها ، لعلك لمستها ) (3) ، وهو ( تعريض بايثار الاستتار ) (4) ، بينما لا تعير النظرية القضائية الغربية اهتماماً للتزكية ولا للتجريح السري (5).
  ثامناً : شدد الاسلام على تحريم شهادة الزور ، كما ورد في قوله تعالى في التعرض لصفة المؤمنين : ( وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) (6) ، لان من نتائجها اضطراب واضح للعدالة الاجتماعية وزعزعة لعدالة النظام القضائي ، وحرم على القاضي الاخذ بتلك الشهادة ، اذا تيقن انها كانت زوراً ، واذا ثبت الزور في الشهادة انتقض الحكم ـ قبل التنفيذ او بعده ـ لان الحكم سيكون مبتنياً على الباطل ، بل ان شاهد الزور يكون مسؤولاً عن ضمان ما اتلف في شهادته، تاسعاً : اليمين الشرعية على المنكر وسيلة مهمة من وسائل القضاء في
--------------------
(1) النساء : 148.
(2) الحجرات : 11.
(3) نيل الاوطار ج 7 ص 104.
(4) شرائع الاسلام ج 4 ص 77.
(5) ( ابراهام بلوبرغ ) ، العدالة الجنائية : القضايا والسخرية ، نيويورك : فيوبوينت ، 1979 م.
(6) الفرقان : 72.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 249_
  الاسلام ، لقوله ( صلى الله عليه آله وسلم ) : ( البينة على من ادعى ، واليمين على من ادعي عليه ) (1) ، ويشترط فيها صيغة اليمين المقتصرة على اسم الجلالة ، واذن الحاكم ، وموضوع اليمين وهو الحق المحلوف من اجله ، ويشترط في الحالف : العقل ، والبلوغ ، والاختيار ، وحق الاسقاط ، والتبرع ، والاصل ان الحاكم وليٌ عن المنكر ( المدعى عليه ) ، فان امتنع عن اداء الحق ، وهو حلف اليمين او النكول ، قهره عليه الحاكم لصالح المدعي.
  وقد ورد اطلاق معنى الحلف في القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى : ( وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ) (2) ، ( مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (3) ، ولكن السنة الشريفة خصصت معنى اليمين الشرعية في القضاء.
  عاشراً : الكفالة في قوله تعالى : ( فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب ) (4) ، معناه ( ضمها الي واجعلني كافلاً لها والقائم بأمرها ) (5) .
  وعقد الكفالة على الصعيد الشرعي ، هدفه الاستيثاق من حضور المدعى عليه وقت المحاكمة ، حيث يتعهد الكفيل للمكفول له باحضار غريمه ، وهي جائزة الا في الحدود ، وهذا العقد يتحقق بالايجاب من الكفيل ، والقبول من المكفول به ، وان يكون الكفيل قوياً وقادراً على احضار المكفول ، واذا امتنع الكفيل
--------------------
(1) التهذيب ج 6 ص 229.
(2) التوبة : 42.
(3) المجادلة : 14.
(4) ص : 23.
(5) مجمع البحرين للطريحي ص 452.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 250_
  عن احضار المكفول تمرداً ، حبس حتى يأتي بصاحبه ، وان كان الكفيل عاجزاً عن احضار المكفول ، ولكنه كان قادراً على الوفاء بحق المدعى عليه مالياً بعد ثبوته ، يؤمر بذلك.
  اما في النظرية الغربية ، فان الكفالة عبارة عن ضمان مالي يقنع المحكمة الجنائية او الحقوقية بامكانية حضور المتهم وقت المحاكمة (1) ، وانحصار الكفالة بالمال ، يؤدي الى تفضيل الاغنياء على الفقراء ، حيث يطلق سراح المتهمين الاغنياء بكفالة مالية الى حين المحاكمة ، وهي فترة قد تستغرق وقتاً مديداً ، اما المتهم الفقير الذي لا يستطيع تدبير مبلغ كافٍ لدفع الكفالة فانه يمكث في السجن لحين وقت المحاكمة.
  والاختلاف بين النظرتين ، يبين ان المال هو الاصل في الاستيثاق من حضور المدعى عليه في النظرية الغربية ، وان الكفيل ـ كفرد ـ هو الاصل في الاستيثاق من حضور المدعى عليه في النظرية الاسلامية ؛ لان الزام الكفيل باحضار المدعى عليه يضمن العدالة القضائية بين جميع الافراد ؛ لان الفرد ـ بكيانه الاجتماعي وعلاقاته المتشابكة ـ لابد وان يجد الكفيل الذي يكفله لسبب من الاسباب .
  اما اذا كان المال هو المقياس في الكفالة القضائية ، اصبحت العدالة القانونية معلقة في الهواء ومالت كفة المنافع نحو الاثرياء ، وبالتالي ، تصبح الطبقة الرأسمالية هي الطبقة الوحيدة المنتفعة في النظام الاجتماعي.
--------------------
(1) ( ستيورات نكال ) وآخرون ، العلم السياسي للعدالة الجنائية ، كاليفورنيا : جارلس تومس ، 1983 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 251_
  حادي عشر : عقد الصلح ـ وهو عقد شرعي بين المدعي والمدعى عليه ـ يتم عن طريق التراضي بينهما قبل الترافع الى القاضي ، وهذا العقد ـ حسب النظرية الاسلامية ـ مبني على التسامح ، وتنازل المحق عن بعض حقوقه طلباً للاصلاح ، والاصل فيه التراضي وطيب النفس بين الطرفين ، والدليل على شرعية الصلح منبثق من قوله تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) (1) ، ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) ، ( ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ) (3) .
  بل ( تدل النصوص على كونه عقداً مستقلاً بنفسه ، لا يتوقف على سبق خصومة ، مثل البيع وغيره من العقود ) (4) ، لقوله تعالى : ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْر ) (5).
  وليس هناك ما يشير الى اهتمام النظرية القضائية الغربية بعقد الصلح بين الافراد ، الا ما يختص بالتعويضات التي تدفعها شركات التأمين والشركات الصناعية الكبيرة (6).
  ثاني عشر : ان علاج المنحرفين ـ حسب النظرية الاسلامية ـ يجب ان يبدأ قبل وقوع الجناية ، بمعنى ان نشر العدالة الاجتماعية بين جميع الافراد
--------------------
(1) الحجرات : 9.
(2) النساء : 128.
(3) البقرة : 208.
(4) الجواهر ج 26 ص 211.
(5) النساء : 128.
(6) ( لويد واينرب ) ، التنكر للعدالة : الاجراءات الجنائية في الولايات المتحدة ، نيويورك : المطبعة الحرة ، 1979 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 252_
  وتهذيبهم على اساس مفاهيم الدين والاخلاق يمنع وقوع الانحراف ، لان الاصل في وقوع الجنايات هو الحاجة والجهل ، فاذا اشبعت الحاجة الانسانية ، وعلم الانسان احكم الشريعة ، اصبح الفرد عنصراً نظيفاً مساهماً في بناء مجتمعه الآمن الجديد.
  وتهذيبهم على اساس مفاهيم الدين والاخلاق يمنع وقوع الانحراف ، لان الاصل في وقوع الجنايات هو الحاجة والجهل ، فاذا اشبعت الحاجة الانسانية ، وعلم الانسان احكام الشريعة ، اصبح الفرد عنصراً نظيفاً مساهماً في بناء مجتمعه الآمن الجديد.
  اما النظرية القضائية الغربية ، فتعتقد بأن علاج الجاني افضل للنظام الاجتماعي من معاقبته ، لان العلاج اقل كلفة من العقوبة الجسدية (1) ، ولكنها تتناسى بأن العلاج يجب ان يبدأ من النظام الاجتماعي نفسه لا من المنحرف ، نعم ، ان عدالة توزيع الثروات الاجتماعية تساعد على علاج الانحراف ، والمساواة بين الافراد ـ بغض النظر عن جنسهم ولونهم ومنشأهم ـ يساهم في علاج المنحرفين.
  ثالث عشر : وتلعب شخصية الحاكم العلمية دوراً كبيراً في الحكم بين المتخاصمين ، في النظرية الاسلامية ، لان القاضي المجتهد مسلط على الاصول العقلية والشرعية ، وعالم باصول القضاء وموارده ، وباني قضائه على اساس العلم والقرائن الموضوعية ، وان عليه ان يكون شاهداً على الواقعة اولاً ، وعندما تتبين الادلة والشواهد على الجناية ـ عندئذٍ ـ يحكم ، ولعل الآيات القرآنية الشريفة تؤكد ذلك ـ على سبيل الاطلاق ـ كما في قوله تعالى : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) (2) ، ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ
--------------------
(1) ( ابراهام بلوبرغ ) ، العدالة الجنائية : القضايا والسخرية ، نيويورك : فيوبوينت ، 1979 م.
(2) النساء : 59.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 253_
  الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (1)، اما في النظام القضائي الامريكي ، فان الذي يحكم بالبراءة او التجريم هو اعضاء هيئة المحلفين الذين يتم انتخابهم من دفاتر الضريبة ، دون النظر لعلمهم بالقضاء والحكم (2) ، فكيف نتوقع العدالة من هؤلاء ، وهم اجهل الناس بقضايا الحكم والفصل بين المتخاصمين ؟
  رابع عشر : وينظم الاسلام نظام العقوبات على اساس الحقوق ، فيقسمها الى حقوق لله وحقوق للناس ، ويفرع على هذه الحقوق حقوقاً مالية واخرى غير مالية ، ففي حقوق الله ينزل القصاص والتعزير والدية ، ويلزم المخالف بالدفع ، وفي حقوق الناس يلزم المعتدي بالدفع او السجن ، حيث لا يجعل السجن ، العامل الاصيل في العقوبة ، لان الاصل في العقوبة انزال الاذى المماثل بالجاني او دفع التعويض للضحية ، على خلاف القضاء الغربي الذي يقسم العقوبات ضد الجاني الى اربعة اقسام وهي : الغرامة المالية ، وتعليق العقوبة ، واطلاق سراح الجاني مع مراقبته بشروط ، والسجن (3) .
  وعقوبة الموت استثنائية وتقع في حالات جنائية خاصة (4) ، والاصل في العقوبة القضائية الغربية انها ليست ثابتة وغير محددة بالشكل الذي لاحظناه في الاسلام ، خامس عشر : ولا ينتقي النظام القضائي الاسلامي الجرائم الصالحة
--------------------
(1) النحل : 43.
(2) ( جون جينثر ) ، هيئة المحلفين في امريكا ، واشنطن : حقائق على الملف ، 1988 م.
(3) ( جارلس سلبرمان ) ، العنف الجنائي والعدالة الجنائية ، نيويورك : راندوم هاوس ، 1978 م.
(4) ( ارنست فان هاك ) و( جون كونراد ) ، عقوبة الموت : مناقشة ، نيويورك : بلينوم ، 1983 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 254_
  للمحاكمة ويهمل الجرائم الاخرى ، بل ان كل قضية جنائية ترفع من قبل المدعي يجب ان يقضى بها ، مالم يعقد الصلح بين المتخاصمين قبل المرافعة ، والمدعي فقط هو الذي اذا سكت سكت عنه ، باصطلاح الفقهاء ، بمعنى ان رفع القضية الجنائية او الحقوقية المتنازع عليها بيد المدعي ، وليس بيد النائب العام ، كما في النظام القضائي الغربي.
  فللنائب العام ـ حسب الفكرة القضائية الغربية ـ صلاحية اختيار وانتقاء الجنايات التي يرى في ملاحقتها مصلحة اجتماعية (1) ، دون ملاحظة الآثار التي اوقعتها الجناية على المجني عليه ، فقد يحول انتقاء النائب العام للجنايات ، الى عدم تعويض الضحية ، او الى افلات الجاني من العقاب ، وهو أمر ترفضه النظرية القضائية القرآنية بكل حزم.
--------------------
(1) ( جوزيف سكوت ) و( ترافيس هيرشي ) قضايا مشيرة للجدل في الجريمة والعدالة ، كاليفورنيا : سيك ، 1988 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 255 _
نقد النظام القضائي الغربي
  ولاريب ان العبارات البراقة التي يصف بها مناصرة والفكرة الرأسمالية ، النظام القضائي الغربي وخصوصاً الامريكي ويوسمونه بالعدالة والنزاهة والقوة في الحكم بين المتخاصمين واحقاق الحق ، ما هي الا عبارات يراد منها ايهام الناس بتكامل ذلك النظام القضائي حقيقة وواقعاً ، وخداعهم بان قضاءً عظيماً ـ كالقضاء الامريكي ـ لابد وان يكون وليد حضارة عظيمة ، كالحضارة الرأسمالية الغربية.
  ولكن نظرة منصفة سريعة تبين لنا ان ذلك النظام القضائي بعيد عن التكامل والعدالة المزعومة ، ولتوضيح القصد من قولنا هذا لابد من تبيين المؤخذات التي نؤاخذها على النظام القضائي الغربي وخصوصاً الامريكي في الموارد الآتية :
  اولاً : يمنح النظام القضائي الغربي النائب العام صلاحية اختيار وانتقاء الجرائم يرى في ملاحقتها مصلحة اجتماعية (1) ، بمعنى ان للنائب العام سلطة اهمال جرائم معينة بحجة ان كشفها للرأي العام ، وملاحقة المجرمين المتورطين في وقائعها ليس من المصلحة الاجتماعية ، وهذا شرخ
--------------------
(1) ( جوزيف سكوت ) و( ترافيس هيرشي ) ، قضايا مشيرة للجدل في الجريمة والعدالة ، كاليفورنيا : سيك ، 1988 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 256 _
  خطير في العدالة القضائية ، فاذا كان ادعاء النظام القضائي بان الانتقاء يرشح الجرائم الخطيرة ويوصلها الى اروقة المحاكم ، فمن الذي يعين ـ ودون مصلحة شخصية ـ حدود الجرائم الخطيرة عن غيرها ؟ واذا كان النظام القضائي لا يستطيع معالجة جميع الجرائم ، فاين العدالة في التمييز بين ضحايا الجرائم الصغيرة وضحايا الجرائم الكبيرة بدعوى ان النائب العام هو اعرف بالمصلحة الاجتماعية من غيره ؟ وهل هناك جرائم صالحة للمحاكمة واخرى غير صالحة ؟ أليس الانحراف اصلاً من الاصول الاجرامية التي تستحق عقوبة رادعة للجاني حتى يعيش المجتمع الانساني في امان وثقة بأن الحق سوف يرد حتماً فيما اذا اغتصب ؟
  ثانياً : ان منصب النائب العام في النظام الرأسمالي ـ الذي يمثل الدولة في الاعتقال ، والاستجواب ، والمحاكمة ، واصدار العقوبة ـ يشغل من قبل فرد يعينه رئيس الجهاز التنفيذي على مستوى المحاكم الفيدرالية ، او يشغل عن طريق الانتخاب من قبل الناخبين على مستوى المحاكم المحلية (1) .
  وليس هناك من سبب يدعو النظام الغربي الى تعيين ضابط من ضباط المحكمة وهو النائب العام على المستوى الفيدرالي ، وانتخابه على المستوى المحلي ، الا تثبيت سلطة الطبقة الرأسمالية الحاكمة ، وذلك بمنح السلطة الفيدرالية قوة قضائية اعظم من قوة السلطة المحلية ؛ والا لو كان المقياس العدالة القضائية فلماذا لا يتم انتخاب النائب العام الفيدرالي ايضاً كما تم انتخاب النائب العام
--------------------
(1) ( جيمس كالفي ) و( سوسان كو لمان ) ، القوانين الامريكية والانظمة التشريعية ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1989 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 257 _
  المحلي ؟ ثالثاً : ويقف محامي الدفاع في القضية الجنائية الخطيرة موقفاً متناقضاً (1) ، ففي حالة تمثيله المتهم في العملية القضائية ، فانه ينظر اولاً الى مساندة النظام القضائي حتى لو اوقعت تلك المساندة ضرراً على موكله .
  واذا كان المتهم جانياً في الواقع فكيف يحق له مساندة ذلك المتهم ، والدفاع عن قضيته ضد المجني عليه ؟ أليس هذا مناقضاً لمفهوم العدالة الجنائية ؟ واذا كان محامي الدفاع يعلم علم اليقين ان الشاهد الواقف الى جانب الجاني يشهد شهادة كاذبة ، فهل يحق لمحامي الدفاع ان يجد في اقناع المحكمة بتصديق تلك الشهادة ؟ بمعنى ان محامي الدفاع لو كان يعلم يقيناً ان موكله ارتكب الجريمة المتهم بها ، ولكن وقائع الحادث والشهود لا تنهض بمرافعة عادلة ، فهل من العدالة ان يقوم محامي الدفاع بالدفاع عن الجاني ، وانقاذ رقبته من سيف العدالة ؟
  رابعاً : اقناع محامي الدفاع للمتهم ، بشتى الوسائل النفسية على الاقرار بالذنب ، وهذه المساومة التي يحاول النائب العام ـ بالتعاون مع محامي الدفاع ـ ايقاع المتهم في شراكها قبل اجراء المحاكمة ، تتناقض مع ابسط مفاهيم العدالة القانونية ، وتعتبر من اكبر المظالم التي تدين النظام القضائي الرأسمالي في الولايات المتحدة (2) ، فيعتبر اقرار المتهم بالذنب ـ حتى لو كان
--------------------
(1) ( جارلس سلبرمان ) ، العنف الجنائي والعدالة الجنائية ، نيويورك : راندوم هاوس ، 1978 م.
(2) ( جوزيف سكوت ) و( ترافيس هيرشي ) ، قضايا مثيرة للجدل في الجريمة والعدالة ، كاليفورنيا : سيك ، 1988 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 258 _
  المتهم بريئاً ـ انتصاراً لمحامي الدفاع في اروقة المحكمة ، بل ان الاقرار بالذنب غالباً ما يصمم وينظم من قبل محامي الدفاع ، بحيث يكون مناسباً لمتطلبات النائب العام ومتناسباً مع المصلحة الاجتماعية ! ولاجل ذلك يستخدم محامي الدفاع شتى الاساليب النفسية لا نتزاع الاقرار بالذنب من المتهم ، مستعملا الاساليب العالطفية السايكولوجية لكسر صمود المتهم ، الى ان يضمن امضاءه على لائحة الاقرار بالذنب عن طريق الايحاء بان العقوبة ستخفف الى ادنى قدر يسمح به القانون .
  واذا كان المتهم جانياً في الواقع ، وكانت الافادات والشهادات تثبت قيامه بارتكاب الجناية ، فما معنى تخفيف عقوبته مقابل اقراره بالذنب ، أليس هذا ظلماً واجحافاً بحق الضحية ؟ واذا كان المتهم بريئاً في واقع الامر ، ولكن الافادات والشهادات لا تثبت براءته ولا تجريمه ، أليس من الظلم اقناعه او اكراهه بالاقرار بالذنب مقابل تخفيف العقوبة الصادرة بحقه ؟ واذا كان المتهم البريء يقبل المساومة على الاقرار بالذنب ـ لانه يخشى صرامة العقوبة الصادرة بحقه فيما اذا جرت المحاكمة ـ أليس هذا شرخاً في عدالة النظام الرأسمالي ؟ واذا كان المفترض في محامي الدفاع نزاهته وتفانية في الدفاع عن موكله ، فكيف يفسر النظام القضائي الرأسمالي لهث ذلك المحامي وراء اقناع موكله بالاقرار بالذنب ـ بريئاً كان او جانياً ـ أليس هذا مناقضاً لادعاءات النظام بأحقية المتهم في التمثيل القانوني العادل ؟ بل ما معنى التمثيل القانوني اذا كان لايصب في مصلحة المتهم البريء ؟ وما معنى التمثيل القانوني اذا كان يصب في مصلحة الجاني ضد المجني عليه ؟

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 259 _
  خامساً : ان النظام القضائي الرأسمالي في الولايات المتحدة لا يطلب من القاضي ان يكون حقوقياً او قانونياً او حتى حاملاً لاية شهادة جامعية (1) ، لان الذي يقوم بتحضير مستلزمات القضية الجنائية هو النائب العام مستعيناً بجهاز الشرطة والاستخبارات ، اما الذي يحكم في القضية الجنائية فهم اعضاء هيئة المحلفين بالاجماع ، وما على الحاكم الا قراءة الحكم الصادر بصورة شفهية ، بمعنى ان الحاكم او القاضي الرأسمالي هو مجرد اداري يشرف على سير المحاكمة الجنائية وصياغة ألفاظ الحكم ، ولا يستطيع بحضور هيئة المحلفين ان ينشئ حكماً ضد المتهم ، بل له ـ فقط ـ تحديد العقوبة او تعليقها .
  والاصل في النظام القضائي الغربي ان المحكمة جهاز اداري يفصل بين الخصومات على اساس النظر الشخصي لأعضاء هيئة المحلفين ، او النظر الشخصي للحاكم (2) دون الاخذ بنظر الاعتبار درجة علمية هؤلاء الافراد بالقضايا القانونية والادارية ، وهذه هفوة خطيرة اخرى في عدالة النظام القضائي الرأسمالي في الولايات المتحدة.
  سادساً : ان الكفالة المالية التي اقرها الدستور الامريكي في التعديل الثامن ، انما جاءت للتأكيد على ضمان اطلاق سراح المتهمين من افراد الطبقة الغنية لحين ورود موعد المحاكمة (3) ، اما افراد الطبقة الفقيرة ، فليس لهم من يكفلهم ، لان اقرانهم وذويهم لا يملكون المال الكافي لدفع الكفالة المالية ،
--------------------
(1) ( ابراهام بلوبرغ ) ، العدالة الجنائية : القضايا والسخرية ، نيويورك : فيوبوينت ، 1979 م.
(2) ( والترميرفي ) و( هيرمان بريشت ) ، المحاكم ، القضاة ، والسياسة : مقدمة في الاجراءات القضائية ، نيويورك : راندوم هاوس ، 1986 م.
(3) ( ماكلين فليمنك ) ، ثمن العدالة الواقعية التامة ، نيويورك : الكتب الاساسية ، 1974 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 260 _
  فيبقى المتهمون في السجون فترة غير قصيرة ، ينقطعون فيها عن الانتاج وإعاشة انفسهم وعوائلهم ، والكفالة المالية اسلوب آخر من اساليب التمييز بين الفقراء والاغنياء ، لان المال هنا يستثمر كخط احمر يفصل بين الحرية والانعتاق ، والعبودية والتقييد ، فالثري يخرج حراً مزاولاً عمله الانتاجي حتى يحين موعد المحاكمة ، والفقير يخسر عمله وحريته حتى يحين وقت المحاكمة ، واذا كان النظام القضائي الرأسمالي يزعم بعدالة نظامه ، فاين هي العدالة بين الافراد في استخدام المال في كفالة المتهمين ؟
  سابعاً : ان اختيار هيئة المحلفين من دفاتر الضريبة ، دون النظر لعلمهم بالقضاء والحكم (1) ، لايزال محل نقد شديد ، فكيف يستطيع اثنا عشر فرداً من عامة الناس الحكم على قضية جنائية تتعلق بالقتل او الغصب او السرقة ؟ بل كيف يجلس هؤلاء عملياً ـ وقد يكون بعضهم لا يعرف القراءة ولا الكتابة ـ مجلس القاضي في الحكم بين المتخاصمين ، ويصدرون قراراتهم بتجريم المتهم او باعلان تبرئته ؟ اما الشروط التي تحدد انتقاء هؤلاء فهي لا تتعدى في الواقع الملكية الخاصة والقدرة العقلية العامة على الفهم الخارجي (2) ، وهل هذه الشروط العامة تنهض الى مقام القضاء الرفيع ؟ بل كيف يطمئن الفرد اذا اتهم وقدم الى المحاكمة بعدالة حكم هيئة المحلفين ، التي يستند عليها القاضي في اصدار العقوبة بحق المتهم ؟ وبالتالي من يضمن
--------------------
(1) ( لويد واينرب ) ، التنكر للعدالة : الاجراءات الجنائية في الولايات المتحدة ، نيويورك : المطبعة الحرة ، 1979 م.
(2) ( جون جينثر ) ، هيئة المحلفين في امريكا ، واشنطن : حقائق على الملف ، 1988 م.

لنظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 261 _
  عدالة النظام القضائي بخصوص معاقبة الجاني وتعويض المجني عليه ؟
  ثامناً : ان نظام العقوبات غير المحددة التي اقترحها اصلاحيو القرن الثامن عشر الميلادي امثال ( اينوخ ويانز ) و( زبلون بروكوي ) وادعوا فيها ان عقوبة السجن ينبغي ان تصمم لمقابلة حاجة الجاني المرضية والنفسية والشخصية (1) ، بعيد كل البعد عن نظام العدالة القضائية ، فكيف يستطيع قضاة النظام الرأسمالي تحقيق العدالة بين فردين ارتكبا نفس الجناية ، ولكن احدهما عوقب بالسجن لمدة سنة واحدة ، والآخر بالسجن لمدة عشر سنوات ؟ ومن الذي يحدد حاجة الجناة الشخصية للعقوبة ؟ ثم الا يعد اعطاء حق القضاء للطب النفساني ظلماً واجحافاً بالجاني والمجني عليه ؟ ثم الا يعد عدم معاقبة الجاني معاقبة صارمة اضعافاً لقوة النظام القضائي وقدرته على مكافحة الاجرام والانحراف ؟ اضف الى ذلك ان هذا النظام الاصلاحي المزعوم يسلب حق العقوبة من النظام القضائي ، ويضعها بيد نظام آخر كالنظام الطبي النفساني ، على افتراض ان علم النفس هو الذي يحدد حاجة الجاني للعقوبة ، وهو اصلاح ينافي ـ بالتأكيد ـ كل معاني العدالة الاجتماعية والقضائية.
  وفي الختام ، فان اهتمامنا بدارسة ونقد الانظمة القضائية والاجتماعية الغربية ونحوها يعطينا فرصة عظيمة لاكتشاف النظرية القرآنية والاهتمام ببلورتها ومعرفة مواطن الكمال في بنائها العلوي ، ولاشك ان النظرية الاجتماعية الاسلامية التي لاحظنا ملامحها في كتاب الله الخالد هي اكمل النظريات الاجتماعية وادقها على وجه الارض.
--------------------
(1) ( بيتر كونراد ) و( جوزيف شنايدر ) ، الانحراف والتطبيب ، سانت لويس : موزبي ، 1980 م.