بدل الجنابة ، فما هو جوابه عن هذا فهو جوابنا عن ذاك .
وحله : كما سبق ان الامتثال لا يتوقف على الايمان ولا يمنعه الكفر ، والا يلزم منه الدور فيما اذا كان المأمور به هو الايمان ، وانما هو موقوف على قدرة المكلف وتمكنه وفهمه التكليف .
ولا شك ان الكافر حالة كفره متمكن من الامتثال بهذا المعنى ؛ اذ هو قادر عليه ، فيصح منه كف النفس عن الدخول ، فيكون ممتثلاً وعاملاً بمقتضى النهي وعدمه ، فيكون عاصياً وتاركاً لمقتضاه .
نعم لا يترتب عليه اثر الصحة بمجرد موافقة الامر ، بل لا بد وان يكون مسبوقا بالايمان ، وهو امر آخر لا ينفعه رحمه الله .
نعم يرد على البيضاوي ان الآية ليست دليلاً على كونهم مخاطبين بالفروع ، بل غاية الامر استفادته منها ، كما اومأ اليه الفاضل الاردبيلي ، وذلك لانهم انما يطلقون الدليل على ما هو نص او ظاهر ، لا على ما هو متساوي الاحتمالين ، او خلاف الظاهر .
ولعله اراد بالدليل هنا غير ما يفهم من هذا اللفظ بحسب العرف ، بل ما يندرج فيه الاحتمال ، وان لم يكن معروفا فيهم ؛ لانه يبعد عن مثله الغفلة عن عدم كونها دليلا عليه بالمعنى المتعارف .
كيف لا ؟ وهو قد رأى ان صاحب الكشاف نقل عن عطا انه قال : نهى المشركين ان يقربوه راجع الى نهي المسلمين عن تمكينهم منه ، واقتصر عليه ولم يذكر احتمالا اخر كما اومأ اليه الاردبيلي بقوله : بل قيل : هو المراد من النهي .
ثم الظاهر ان صاحب الكشاف انما اقتصر على مجرد نقل قول عطا ، ولم يحتمل في الآية ما احتمله البيضاوي وغيره ، لانه حنفي الفروع ، وابو حنيفة زعم ان الكفار غير مكلفين بالفروع كما سبق في اول المسألة ، وقد نقله عنه ايضا شيخنا الشهيد الثاني رحمه الله في شرحه على اللمعة .
وأما البيضاوي ، فلما كان شافعي الفروع ، والشافعي يقول بكونهم مكلفين
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 119_
بها ، كما هو مذهب الاكثر ، حمل الآية ردا على الكشاف ، وزعماً منه انه الظاهر منها ، حتى انه جعلها دليلاً عليه .
والظاهر ان ذلك انما صدر منه لحرصه على المذهب وتعصبه على تصحيحه كما هو دأبهم ، وقد قيل : ان حبك الشيء يعمي ويصم .
وبالجملة هما على طرفي الافراط والتفريط ، وأما الفاضل الاردبيلي رحمه الله ، فلما امعن النظر في الآية ورأى انها تحتملهما معاً ، لانتفاء منع الجمع ، حملها عليه رداً عليهما ، وهو الحق ، كذلك يفعل الرجل البصير .
اقول : وفي دلالة الآية الشريفة على نجاستهم العينية مناقشتان :
الاولى : انها تتوقف على اثبات ان لفظ ( النجس ) حقيقة شرعية في المعنى المعهود بين الفقهاء ، او ساعد على ذلك عرف يعلم وجوده في زمن الخطاب ، وكلاهما في حيز المنع .
والثانية : ان النجس مصدر ، فلا يصح وصف الجثة به الا مع تقدير كلمة ( ذو ) ولا دلالة معه ، لجواز ان يكون الوجه في نسبتهم الى النجس عدم انفكاكهم من النجاسات العرضية ، لانهم لا يتطهرون ولا يغسلون ، والمدعى نجاسة ذواتهم .
والجواب : ان المصادر يصح الوصف بها اذا كثرت معانيها في الذات ، كما يقال : زيد عدل ، فالوصف بالمصدر صحيح .
لكن منهم من قدر كلمة ( ذو ) وجعل الوصف بها مضافة الى المصدر .
ومنهم من جعله وارداً على جهة المبالغة باعتبار تكثير الوصف في الموصوف ، حتى كأنه تجسم منه ، والظاهر كونه ارجح من الاول ، وعليه تعويل المحققين .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 120_
( سورة يونس )
*
( هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون ) [ الآية : 5 ]
الضوء والنور مترادفان لغة ، وقيل : هو اقوى من النور ، فهو فرط الانارة ، وقد يسمى تلك الكيفية ان كانت من ذات الشيء ضوء ، وان كانت مستفادة من غيرها نوراً .
وقال صاحب الكشف : والتحقيق ان الضوء فرع النور ، يطلق على الشعاع المنبسط ، والنور يطلق على ما للشيء في نفسه ، كالنور القائم بنفس الشمس ، ولهذا يقع على الذوات الجوهرية ، بخلاف الضوء .
وقال الراغب : النور الضوء المنتشر الذي يعين على الابصار ، وهو ضربان : دنيوي ، واخروي ، فالدنيوي ضربان : معقول بعين البصيرة ، وهو ما انتشر من الانوار الالهية ، كنور العقل ، ونور القرآن ، ومنه
( قد جاءكم من الله نور ) (1) .
ومحسوس بعين البصر ، وهو ما انتشر من الاجسام النيرة ، كالقمرين والنجوم والنيرات ، ومنه
( هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً ) ومن النور الاخروي قوله تعالى :
( يسعى نورهم بين ايديهم ) (2) انتهى
(3) .
--------------------
(1) المائدة : 15 .
(2) الحديد : 15 .
(3) مفرادات الراغب : 508 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 122_
والمشهور ان ضياء الشمس ذاتي قائم بذاتها ، غير مستفاد من غيرها ، تستفيد منها سائر الكواكب انوارها المزيلة للظلام .
حتى قال صاحب الهياكل : ان رخش ـ وعنى به الشمس ـ قاهر الغسق ، رئيس السماء ، فاعل النهار ، صاحب العجائب ، عظيم الهيئة ، الذي يعطي جميع الاجرام ضوءها .
والمعروف من الاخبار ان ضوءها مستفاد من نور العرش .
ففي كتاب التوحيد عن ابي ذر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بعد كلام : فيأتيها جبرئيل بحلة ضوء من نور العرش ، على مقادير ساعات النهار في طوله او قصره ، او ما بين ذلك ، فتلبس تلك الحلة ، كما يلبس احدكم ثيابه
(1) .
ومخالفته لقواعد الفلاسفة لا يضر ، لما زيفناها في بعض رسائلنا ، وهم في حقيقتها مختلفون :
فقال بعضهم : هي فلك اجوف مملو ناراً ، له فم يجيش بهذا الوهج والشعاع .
وقال آخرون : هي سحابة .
وقال آخرون : هو جسم زجاجي يقبل نارية في العالم ويرسل عليها شعاعها .
وقال آخرون : هو صفو لطيف ينعقد من ماء البحر .
وقال آخرون : هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار .
وقال آخرون : هو جوهر خامس سوى الجواهر الاربع .
--------------------
(1) التوحيد : 281 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 123_
( سورة هود )
*
(وهو الذي خلق السموات والارض في ستة ايام وكان عرشه على الماء) . [ الآية : 7 ]
في أصول الكافي ، عن محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن داود الرقي ، قال سألت : ابا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن قول الله عز وجل
( وكان عرشه على الماء ).
فقال : ما يقولون ؟
قلت : يقولون ان العرش كان على الماء والرب تعالى فوقه .
فقال : كذبوا ، من زعم هذا فقد صير الله محمولاً ، ووصفه بصفة المخلوق ، فلزمه ان الشيء الذي يحمله اقوى منه .
قلت : بين لي جعلت فداك ؟
فقال : ان الله حمل دينه وعلمه الماء قبل ان تكون ارض او سماء او جن او شمس او قمر ، فلما اراد ان يخلق الخلق نشرهم بين يديه ، فقال لهم : من ربكم ؟
فأول من نطق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأمير المؤمنين والائمة ـ عليهم السلام ـ فقالوا : انت ربنا ، فحملهم العلم والدين ، ثم قال للملائكة : هؤلاء حملة ديني وعلمي وامنائي في خلقي وهم المسؤولون الحديث
(1) .
قال السيد الداماد : كثيراً ما وقع اسم الماء في التنزيل الكريم وفي
--------------------
(1) اصول الكافي : 1 / 132 ـ 133 ح 7 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_124 _
الاحاديث الشريفة على العلم ، وعلى العقل القدسي الذي هو حامله ، واسم الارض على النفس المجردة التي هي بجوهرها قابلة للعلوم والمعارف .
ومنه قوله عز سلطانه
( وترى الارض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج ) (1) على ما قد قرره غير واحد من ائمة التفسير ، فكذلك قول مولانا ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ في هذا الحديث ، الماء تعبير عن الجوهر العقل الحامل لنور العلم من الانوار العقلية القدسية
(2) .
وتعقبه بعض
(3) من تأخر عنه ، بأن هذه التأويلات في الاخبار جرأة على من صدرت منه ، والاولى تسليمها ورد علمها اليهم .
ويحتمل ان يكون المراد بحمل دينه وعلمه على الماء انه تعالى جعله مادة قابلة لان يخلق منه الانبياء والاوصياء ، الذين هم قابلون وحاملون لعلمه ودينه .
او ان علمه لما كان قبل خلق الاشياء غير متعلق بشيء من الموجودات العينية ، بل كان عالما بها وهي معدومة ، فلما اوجد الماء الذي هو مادة سائر الموجودات ، كان متعلقا لعلمه به وبما يوجد منه ، فلعل هذا الكلام اشارة اليه ، مع انه لا يمتنع ان يكون الله افاض على الماء روحا واعطاه علما
(4) .
أقول : كل من قال بوجود العقل المجرد ذاتا وفعلا ، قال بقدمه المستلزم لقدم العالم ، والقائل بالقديم سوى الله وان كان اماميا ، كافر باجماع المسلمين .
كما صرح به آية الله العلامة في جواب من سأله عمن يعتقد التوحيد والعدل والنبوة والامامة ، ولكنه يقول بقدم العالم ، ما يكون حكمه في الدنيا والاخرة ؟
--------------------
(1) الحج : 5 .
(2) التعليقة على اصول الكافي : 319 ـ 320 المطبوع بتحقيقنا .
(3) المراد به صاحب بحار الانوار قدس سره ( منه ) .
(4) مرآة العقول : 2 / 81 ـ 82 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_125_
متى اعتقد القدم فهو كافر بلا خلاف ، فان الفارق بين المسلم والكافر ذلك ، وحكمه في الاخرة حكم باقي الكفار بالاجماع
(1) .
وبمثله قال المعقب قدس سره في الفرائد الطريفة في شرح الصحيفة
(2) ، وصرح فيه بأن حدوث العالم من ضروريات الدين .
فقوله هنا بكون هذا التأويل جرأة لا كفراً : اما مراعا منه للسيد ، ولا موضع لها ، اذ الحق أحق ان يتبع . او غفلة منه عما يلزمه .
وهذا من السيد مع قوله بالحدوث الدهري والزمان التقديري واصراره عليهغريب .
واغرب منه قوله بوقوع اسم الماء في القرآن والحديث على العقل المجرد القائم بذاته كثيرا .
ولو كان الامر على ما زعمه ، لكان القول بالقديم بالزمان ، مما لا مدفع له ، فكيف صار كفراً عندهم ؟
وعلى تقدير وقوع اسم الارض في الآية على النفس المجردة والماء على العلم ، لا يلزم منه وقوعه على ذلك العقل القديم ، كيف ؟ وهم ينكرونه ويكفرون القائل به .
مع ان في التفاسير المشهورة المتداولة ، كتفسير الزمخشري والبيضاوي ومجمع البيان وما شاكلها ، ليس منه عين ولا اثر . والعجب ممن يدعي كثرة وقوع شيء لم يقع قط .
وبالجملة وقوع اسم الارض على النفس المجردة والماء على العلم في الآية ، لو سلم له ذلك ، مع انه تفسير بالرأي الممنوع ، لا يستلزم وقوع اسم الماء على العقل المجرد ذاتاً وفعلاً في القرآن والحديث .
--------------------
(1) اجوبة المسائل المهنائية : 88 ـ 89 .
(2) الفرائد الطريفة : 109 المطبوع بتحقيقنا .