على قرني الثور ، وهو على الثرى ، ولا يعلم ما تحته الا الله تعالى (1).
  * (وان تجهر بالقول فانه يعلم السر واخفى) [ الآية : 7 ]
  اي : وان تجهر بذكر الله ودعائه ، فاعلم انه غني عن جهرك ، فانه يعلم السر واخفى . والسر ما لا يرفع به صوته ، واخفى ما يحدث به نفسه ولا يلفظ به .
  وقيل : السر ما حدث به غيره خافضا به صوته ، واخفى ما خطر بباله ، او كلم به نفسه .
  وقيل : السر ما تفكرت فيه ، واخفى ما لم يخطر ببالك وعلم الله ان نفسك تحدث به بعد زمان .
  * (فاخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى )[ الآية : 12 ]
  روى الصدوق عليه الرحمة في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده عن سعد بن عبد الله القمي انه سأل القائم ـ عليه السلام ـ عن مسائل ، من جملتها انه قال قلت : فأخبرني يا بن رسول الله عن أمر الله تبارك وتعالى لنبيه موسى ـ عليه السلام ـ ( فاخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى ) فان فقهاء الفريقين يزعمون انها كانت من اهاب الميتة .
  فقال ـ عليه السلام : من قال ذلك فقد افترى على موسى ـ عليه السلام ـ واستجهله في نبوته ، لان الامر فيها ما خلا من خطيئتين : اما ان تكون صلاة موسى ـ عليه السلام ـ فيها جائزة او غير جائزة .
  فان كانت صلاته جائزة ، جاز له لبسهما في تلك البقعة ، اذ لم تكن مقدسة

--------------------
(1) راجع نور الثقلين : 3 / 368 ـ 372 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 151_

  مطهرة بأقدس (1) واطهر من الصلاة ، وان كانت صلاته غير جائزة فيهما ، فقد اوجب على موسى ـ عليه السلام ـ انه لم يعرف الحلال من الحرام ، وما علم ما تجوز فيه الصلاة وما لم تجز ، وهذا كفر (2) .
  أقول : لا يخفى ما في هاتين الملازمتين من النظر ، لان جواز الصلاة فيهما لا نسلم انه يستلزم جواز لبسهما في تلك البقعة المقدسة لمكان الاحترام .
  الا يرى انه يجوز لنا ان نصلي في نعالنا هذه ، ولا ندخل بها المشاهد المقدسة المطهرة ، بل نخلعها لنباشر تلك البقاع المتبركة بأقدامنا تبركاً واحتراماً .
  ولذلك قيل : انه ـ عليه السلام ـ امر بخلع نعليه ، لان الحفوة تواضع وادب ، ولذلك طاف السلف حافين .
  وعلى تقدير تسليم الاستلزام ، فليس كلما يجوز ، يفعل لمكان الاحترام قيل : انه امر بخلع نعليه ، فان بساط الحق لا يوطأ بنعلين .
  مع ان عدم جوازها فيهما لا يستلزم عدم جواز لبسهما مطلقا ، اذ ليس كلما لا تجوز الصلاة فيه لا يجوز لبسه ، لجواز لبسه في غيرها ، وفي غير تلك البقعة المباركة ، ولذا امر ـ عليه السلام ـ بخلعهما فيها احتراماً .
  فظهر انه لا يلزم من عدم جوازها فيهما عدم معرفته ـ عليه السلام ـ الحلال من الحرام ، فالملازمة ممنوعة ، والسند ما مر .
  وبالجملة فللخصم وهو عامة العامة ـ فان ذلك كان مذهبا لهم ـ ان يختار هذا الشق الثاني ويمنع الملازمة ، ويقول : انه ـ عليه السلام ـ كان عارف الحلال من الحرام ، وعالما بأنه لا تجوز الصلاة فيهما ، وكان يخلعهما في حالها ، الا انه كان يلبسهما في غيرها .
  فلما وصل الى تلك الوادي وكانت مقدسة امر بخلعهما ليباشر الوادي

--------------------
(1) في المصدر : وان كانت مقدسة مطهرة ، فليست بأقدس الخ .
(2) كمال الدين : 460 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 152_

  بقدميه تبركاً واحتراماً ، والصلاة في اهاب الميتة بعد دبغه وان جازت على مذهب الخصم ، الا ان المانع لا مذهب له .
  نعم لا تجوز الصلاة بل الانتفاع مطلقاً باهابها ، وان دبغ على مذهبه ـ عليه السلام ـ ومذهب شيعته ، وهذا كلام آخر لا يكون حجة عليهم ، وهو ـ عليه السلام ـ في صدد الاحتجاج عليهم ، فتأمل .
  ثم قال القمي : قلت فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيهما ، قال : ان موسى ـ عليه السلام ـ ناجى ربه بالواد المقدس ، فقال : يا رب اني قد اخلصت لك المحبة مني ، وغسلت قلبي عمن سواك ، وكان شديد المحبة لاهله ، فقال الله تبارك وتعالى : ( اخلع نعليك ) أي : انزع حب اهلك من قلبك ان كانت محبتك لي خالصة ، وقلبك من الميل الى من سواي مغسولاً (1) انتهى .
  وبين شدة محبته لاهله واخلاصها لله وغسله قلبه عما سواه منافرة ، والتعبير عن نزع حب الاهل بخلع النعلين بصيغة التثنية بعيد .
  وفي معاني الاخبار : اخلع نعليك اي ارفع خوفيك ، يعني خوفه من ضياع اهله ، وقد خلفها تمخض ، وخوفه من فرعون ، ثم قال : وروي ان نعليه كانتا من جلد حمار ميت (2) .
  وقيل : ( فاخلع نعليك ) اي : فرغ قلبك عن ذكر الدارين .
  وقيل : معناه فرغ قلبك من الاهل والمال .
  وفي الفقيه سئل الصادق ـ عليه السلام ـ عن قول الله عز وجل لموسى ( فاخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى ) قال : كانتا من جلد حمار ميت (3) .

--------------------
(1) كمال الدين : 460 .
(2) علل الشرائع : 66 . روي في كتاب علل الشرائع هذين الحديثين اعني كونهما من جلد حمار ميت وقوله ( ارفع خوفيك ) مسندين عن الصادق ـ عليه السلام ـ ( منه ) البحار : 13 / 63 .
(3) من لا يحضره الفقيه : 1 / 248 ، برقم : 750 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _153 _

  وكان ذلك مذهباً للعامة ، فتكلم عنه بما يوافقهم للتقية .
  وفي قوله ( غسلت قلبي عمن سواك ) دلالة على انه كان فيه سواه ولكنه غسله عنه .
  وهذا دون ما نقل عن سيدنا أمير المؤمنين سلام الله عليه انه قال في جواب اعرابي سأله بقوله : بم نلت من المنزلة والزلفى ؟ قعدت على باب قلبي ، فلم ادع ان يدخله سوى الله ، صلى الله عليه وعلى من انتسب اليه .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _155 _

( سورة الانبياء )
  * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) [ الآية : 20 ]
  في الاكمال عن الصادق ـ عليه السلام ـ انه سئل عن الملائكة اينامون ؟ فقال : ما من حي الا وهو ينام خلا الله وحده ، والملائكة ينامون ، فقيل : يقول الله عز وجل ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) قال : انفاسهم تسبيح (1) .
  كذا في الصافي في تفسير الآية المذكورة (2) .
  وهو بظاهره يخالف العقل والنقل .
  أما الاول ، فلان جمهور المليين على ان الملك شخص سماوي متكون من جنس العناصر التي منها تكونت السموات العنصرية ، فهو حي ناطق متحرك بالارادة ، مأمور تابع للاوامر الالهية ، والنوم حال يعرض للحيوان عند استرخاء اعصاب الدماغ من رطوبات الابخرة المتصاعدة ، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الاحساس رأساً .
  وعلى هذا فليس للملك نوم ، لانه وان كان كان حياً الا انه ليس بحيوان ، لانتفاء ما هو المأخوذ في تعريفه عنه ، ولعدم الابخرة هناك ، لانها تابعة للغذاء ، وهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، وانما يعيشون بنسيم العرش ، كما في رواية اخرى عن الصادق ـ عليه السلام (3) .
  وهو مع ذلك بعمومه المستفاد من الاستثناء ينافيه ما صرح به الحكماء ،

--------------------
(1) اكمال الدين : 666 ح 8 .
(2) تفسير الصافي : 3/ 334 .
(3) بحار الانوار : 59 / 174 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 156_

  من ان النفس الناطقة لا تنام بتة ، لانها في وقت النوم تترك استعمال الحواس الظاهرة ، وتبقى محصورة ليست بمجردة على حدتها ، فتعلم كل ما في العوالم وكل ظاهر وخفي .
  ولو كانت هذه النفس تنام لما كان الانسان اذا رأى في النوم شيئا يعلم انه في النوم ، بل لا يفرق بينه وبين ما كان في اليقظة ، الى هنا كلام افينقورس الحكيم .
  فان قلت : كلامه مبني على تجردها ، ولم يقم دليل عقلي عليه ، فلعل بناء الحديث على انها جسم سماوي روحاني ، كما قال به اكثر النصارى ، وطائفة من المسلمين ، وعلى هذا فلا دليل على امتناع نومها .
  قلت : قوله ( ولو كانت هذه النفس تنام ، لما كان الانسان اذا رأى في المنام شيئا يعلم انه في النوم ، بل لا يفرق بينه وبين ما كان في اليقظة ) دليل واضح عليه .
  فان كل نائم ما دام نائماً مسلوب عنه العلم والادراك : اما لتعطله ، او تعطل الآلة ، فنومها مع علمها اذا رأت في النوم شيئا بأنها في النوم ، لا يجتمعان ضرورة ، مادياً كان النائم ام مجرداً .
  وليس كلامنا هنا في تجردها ، بل في عدم نومها ، وهو يثبت بهذا الدليل ، وكيف يصح القول بأن ما خلا الله كائناً ما كان ينام ، مع قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ المجمع على روايته عن العامة والخاصة : عيني تنام وقلبي لا ينام .
  فان كان المراد به النفس الناطقة المجردة ، كما هو احد اطلاقيه ، فهو يؤيد قول الحكماء : ان هذه النفس لا تنام .
  وان كان المراد به ما هو المفهوم من ظاهر هذا اللفظ في عرف العام ، فهو ما خلا الله جل وعز ، وقد اثبت له عدم النوم .
  واعلم ان اطلاق القلب على العقل شايع لغة وعرفاً ، وبذلك فسر في قوله

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _157 _

  تعالى : ( ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ) (1) .
  ومن قال : قلب واع يتفكر في الحقائق ، اراد به ما قلناه ؛ لان التفكر من صفات العقل دون العضو المخصوص المتشكل بشكل مخصوص صنوبري ؛ لان ذلك موجود في الصبيان والمجانين مع عدم تحقق التذكر لهم .
  وبالجملة يظهر من هذا الحديث المتفق عليه ان قلبه ـ صلى الله عليه وآله ـ وهو غير الله لا ينام ، ولا شك ان قلبه حي يصح ان ينام ولا ينام ، والا فلا وجه لسلبه عنه واختصاصه به .
  اللهم الا ان يقال : المراد ان قلبي لا ينام في الاكثر ، وفيه بعد .
  وأما الثاني ، فلما مر ، ولما قال سيدنا أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في خلقة الملائكة : وملائكة خلقتهم واسكنتهم سمواتك ، فليس فيهم فترة ، ولا عندهم غفلة ، ولا فيهم معصية ، هم اعلم خلقك بك ، واخوف خلقك لك ، واقرب خلقك منك .
  واعلمهم بطاعتك ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الابدان ، لم يسكنوا الاصلاب ، ولم تضمهم الارحام ، ولم تخلقهم من ماء مهين .
  انشأتهم انشاءً ، فأسكنتهم سمواتك ، واكرمتهم بجوارك ، واتمنتهم على وحيك ، وجنبتهم الافات ، ووقيتهم البليات ، وطهرتهم من الذنوب ، ولولا قوتك لم يقووا ، ولولا تثبيتك لم يثبتوا ، ولولا رحمتك لم يطيقوا ، ولولا انت لم يكونوا .
  أما أنهم على مكانتهم منك ، وطاعتهم اياك ، ومنزلتهم عندك ، وقلة غفلتهم عن امرك ، لو عاينوا ما خفي عنهم منك ، لا أحتقروا اعمالهم ، ولا زرؤا على انفسهم ، ولعلموا انهم لم يعبدوك حق عبادتك ، سبحانك خالقاً ومعبوداً ، ما احسن بلاؤك عند خلقك (2) .

--------------------
(1) ق : 37 .
(2) بحار الانوار : 59 / 175 ـ 176 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 158_

  ويمكن ان يكون للملائكة نحو اخر من النوم غير نوم العيون ، ولذلك اضافه اليها لتفيد التخصيص .
  فيمكن ان يغلب نومهم على سائر حواسهم ، ولا يغلب على عيونهم ، كما انه كان في نبينا ـ صلى الله عليه وآله ـ يغلب على عينه ولا يغلب على قلبه .
  او يكون المراد بالنوم الغفلة من باب ذكر السبب وارادة المسبب ، يعني : انهم احياناً يغفلون عن اوامر الله ، كما يشير اليه قوله ـ عليه السلام ـ ( وقلة غفلتهم عن امرك ).
  فيكون المراد ان غيره سبحانه يكون له نوع غفلة ، بخلافه فانه لا غفلة له اصلاً ، لا جزئية ولا كلية تمنعه عن حسن قيامه بتدبير الخلق وحفظه ، كما اشار اليه بقوله ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) (1) فيكون عدم النوم والغفلة من خواصه سبحانه ، وعليه فما من حي الا وهو ينام خلا الله وحده .
  وهذا التوجيه وان كان بعيداً عن لفظ الحديث ، الا ان التوفيق بين الاخبار مهما امكن خير من طرح بعضها رأساً ، والعلم عند الله وعند اهله .
  * (وذا النون اذ ذهب مغاضباً فظن ان لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ان لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ) [ الايتان : 87 ـ 88 ]
  في كتاب التوحيد باسناده المتصل الى ابن عباس عن النبي ـ صلى الله

--------------------
(1) البقرة : 255 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 159_

  عليه وآله ـ انه قال : ما من الكلام كلمة احب الى الله عز وجل من قول لا اله الا الله ، وما من عبد يقول لا اله الا الله يمد بها صوته ، فيفرغ الا تناثر ذنوبه تحت قدميه ، كما يتناثر ورق الشجر تحتها (1) .
  أقول : وانما صارت هذه الكلمة احب الكلمات الى الله عز وجل ، لانها اعلى كلمة واشرف لفظة نطق بها في التوحيد ، دالة على وجوده تعالى مفهوماً ، وعلى وحدته منطوقاً ، وعلى استجماعه جميع صفات الكمال ، وتنزهه عن جميع النقائض .
  وليس في الاذكار ما يدل على ذلك دونها ؛ لانها : اما تمجيد ، او تنزيه ، بخلاف هذه الكلمة فانها جامعة بينهما ، منطبقة على جميع مراتب التوحيد ، توحيد الذات والصفات والافعال .
  او يقال : لما كان الشريك وهو من يمنع صاحبه ان يتصرف فيما اشتركا فيه على ما يريد ، وهذا ينافي السلطنة والملك ابغض الاشياء اليه تعالى ، ولذا لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
  كان احب الاشياء اليه نقيضه ، وهو التوحيد المدلول عليه بـ ( لا اله الا الله ) فكانت احب الكلمات اليه تعالى .
  وبما قررناه ظهر وجه ما في خبر آخر نبوي : ما قلت ولا قال القائلون قبلي مثل لا اله الا الله (2) .
  وفي آخر عنه ـ صلى الله عليه وآله : قال الله جل جلاله لموسى : يا موسى لو ان السموات وعامريهن والارضين السبع في كفة ، ولا اله الا الله في كفة ، مالت بهن لا اله الا الله (3) .

--------------------
(1) التوحيد : 21 ـ 22 .
(2) التوحيد : 18 ح 1 .
(3) التوحيد : 30 ح 34 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 160_

  وفي آخر عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ ايضا : الايمان بضع وسبعون شعبة ، افضلها قول لا اله الا الله (1) .
  وفي آخر علوي : ما من عبد يقول لا اله الا الله الا صعدت تخرق كل سقف ، لا تمر بشيء من سيئآته الا طلستها ، حتى تنتهي الى مثلها من الحسنات فتقف (2) .
  وفي آخر باقري : ما من شيء اعظم ثواباً من شهادة ان لا اله الا الله (3) .
  وفي آخر صادقي : قول لا اله الا الله ثمن الجنة ، (4) ونظائرها في الاخبار كثيرة .
  وبالجملة احسن افراد الذكر قول لا اله الا الله ، لانها رأسها ، فينبغي الاكثار من قولها . وقد وردت في فضلها وشرفها واسرارها وخواصها من طريق الخاصة والعامة ما لا يكاد يحصى .
  ولذا اختاره اهل السلوك لتربية السالكين ، وتهذيب المريدين ، وقد جمعت بين نفي الوهية ما سوى الله واثبات الوهيته ، وهي متعلقة بالجنان واللسان .
  ومتفاوتة فيه ، فمنها : ما يكون باللسان وحده من غير حضور القلب ، وهي اضعف المراتب ، ومنها : ما يكون به مع استقرار واستيلاء بحيث يغفل عما عدا المذكور ، وهي المرتبة العليا والدرجة القصوى ، واليه الاشارة بقوله تعالى ( ولذكر الله اكبر ) (5) .
  ثم لا يذهب عليك ان قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( يمد بها صوته ) يدل

--------------------
(1) كنز العمال : 1 / 35 ح 52 .
(2) التوحيد : 21 ح 12 .
(3) التوحيد : 19 ح 3 .
(4) التوحيد : 21 ح 13 .
(5) العنكبوت : 45 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 161_

  على صحة مذهب من قال بأن تطويل المدة في لا اله الا الله مندوب اليه مستحسن .
  لان المكلف في زمان التمديد يستحضر في ذهنه جميع ما سوى الله من الاضداد والانداد وينفيها ، ثم يعقب ذلك بقوله ( الا الله ) فيكون ذلك اقرب الى الكمال والاخلاص .
  ومن الناس من يقول بأولوية ترك التمديد ، مستدلا بأنه ربما مات في زمان التلفظ بـ ( لا ) قبل الانتقال الى( الا ) .
  اقول : وهذا القول مع كونه مخالفا لقواعد التجويد ، ومناقضا لصريح الرواية ، مدفوعة بأن من مات في زمن التلفظ بـ ( لا ) قبل الوصول الى ( الا ) لا شك انه مات مؤمناً ، لانه عقد بهذه الكلمة قلبه ، ثم اراد ان يخبر بما في ضميره ليكون ذلك دليلاً عليه ، فلم يجد مهلة ، فلم يلزم منه كفره ، وخاصة اذا كان المتلفظ بها مؤمناً .
  وانما يلزم كفره او عدم انتقاله منه الى الايمان ان لو وجد من الفرصة ما امكنه ان يقول ( الا الله ) ثم لم يقل ومات .
  وأما ما فصله الفخر الرازي ، واستحسنه الصدر الشيرازي ، واثنى عليه في رسالته المعمولة لتفسير آية الكرسي ، من ان المتلفظ بهذه الكلمة ان كان يتلفظ بها لينتقل من الكفر الى الايمان ، فترك التمديد اولى ، حتى يحصل الانتقال من الكفر الى الايمان بأسرع الوجوه .
  وان كان مؤمناً وانما يذكرها للتجويد ، فالتمديد اولى ، لتحصل في زمانه سورة الاضداد في الخاطر وينفيها ، ثم يعقبها بقوله ( الا الله ) فيكون الاقرار بالالهية اصفى واكمل .
  فهو مع كونه غير دافع لما سبق من اولوية ترك التمديد ، فما ذكره من

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _162 _

  أولويته معارض به ، وانما يدفعه ما ذكرنا مخالف لمذهبه ، فان الانتقال من الكفر الى الايمان على مذهبه قد حصل بمجرد التصديق القلبي ، كما هو مذهب الاشاعرة وهو منهم ( وانما جعل اللسان على الجنان دليلاً ) .
  فهو على مذهبه كاشف عن ايمانه السابق على زمن التلفظ بهذه الكلمة لا مصحح له ومتمم .
  نعم ما ذكره يصح على مذهب من قال : ان التصديق وحده ليس بايمان ، بل الايمان هو التصديق بالقلب مع الاقرار بالشهادتين ، كما هو المنقول عن ابي حنيفة ، واليه مال صاحب التجريد .
  وبالجملة فالتمديد بها مطلقاً ، كما هو ظاهر الرواية ، حيث رتب تناثر الذنوب على قول لا اله الا الله لا مطلقا بل مقيدا بمد الصوت بها ، ليشعر بعليته للحكم ، مستحسن اليه مندوب .
  بل الظاهر عندي ان الغرض من التمديد مجرد اللفظ وتحسينه على ما تقتضيه القوانين التجويدية ، لا الاستحضار المذكور .
  فان المتلفظ بالكلمة ان كان عالما بوضع الفاظها ، يستحضر الاضداد وينفيها ، ويثبت الاله الحق بمجرد الالتفات الى معانيها ، مد صوته في ( لا ) ام لا .
  وان لم يكن عالماً ، او كان ولم يكن ملتفتا ، فلم يتسير له الاستحضار ، مد ام لم يمد ، فان المدة لا توجب الاستحضار ، كما لا يخفى علي ذوي الابصار .
  واعلم ان ترتب الثواب على قول ( لا اله الا الله ) مشروط بشروط لا يتحقق بدونها ، منها : ان يكون قلبه مواطئا للسانه ، كما ورد في خبر آخر نبوي : ان لا اله الا الله كلمة عظيمة كريمة على الله عز وجل من قالها مخلصاً استوجب الجنة ، ومن قالها كاذباً عصمت ماله ودمه ، وكان مصيره الى النار (1) .

--------------------
(1) التوحيد : 23 ح 18 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _163 _

  فمن آمن بالله واليوم الاخر وبما جاء به الرسل ، ثم قال : لا اله الا الله ، ترتب عليه ثوابه . فالمطلق مقيد ، او العام مخصص .
  وهذا مما انعقد عليه اجماع الامة ، ودل عليه الكتاب والسنة ، قال الله تعالى ( ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً ) (1) .
  وفي صحيح البخاري : عن وهب بن منبه قيل له : اليس لا اله الا الله مفتاح الجنة ، قال : بلى ولكن ليس مفتاح الا وله اسنان ، فان جئت بمفتاح له اسنان فتح لك والا لم يفتح .
  ومنها : الولاية لاهل الولاية ، كما يدل عليه قول الرضا ـ عليه السلام ـ بعد ان روى عن جده عن جبرئيل عن الله جل جلاله : لا اله الا الله حصني ، فمن دخل حصني امن من عذابي ، بشروطها وانا من شروطها (2) .
  وقال ابو سعيد الخدري : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ذات يوم جالسا وعنده نفر من اصحابه فيهم علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ اذ قال : من قال لا اله الا الله دخل الجنة ، فقال رجلان من اصحابه : فنحن نقول لا اله الا الله ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : انما تقبل شهادة ان لا اله الا الله من هذا وشيعته الذين اخذ ربنا ميثاقهم (3) .
  وفي الكافي عن ابان بن تغلب عن الصادق ـ عليه السلام ـ قال : يا أبان اذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث من شهد ان لا اله الا الله وجبت له الجنة .
  قال قلت : انه يأتيني من كل صنف من الاصناف ، أفأروي لهم هذا الحديث ؟

--------------------
(1) الاسراء : 19 .
(2) التوحيد : 25 ح 23 .
(3) بحار الانوار : 93 / 202 ح 40 ، عن ثواب الاعمال .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _164 _

  قال : نعم يا أبان ، انه اذا كان يوم القيامة وجمع الله الاولين والاخرين فيسلب لا اله الا الله منهم الا من كان على هذا الامر (1) .
  ومنها ومن نظائرها يظهر ان من لم يكن موالياً لصاحب الولاية جعلت له الفداء ومن بعده من الائمة سلام الله عليهم ، تسلب منه ثمرة لا اله الا الله ، ويكون توحيده وتهليله في الدنيا مجرد تحريك لسان لا ينتفع به في الاخرة .
  فلا اشكال ولا منافاة بين الاخبار المطلقة الدالة على ان من قال لا اله الا الله فله الجنة ، او دخل الجنة . والدالة على عدم دخول مخالفينا الجنة ، وان بذلوا جهدهم وبالغوا في العبادات بين الركن والمقام ، حتى صاروا كالشن البالي ، فانهم ليسوا من اهل التوحيد المنتفعين بتوحيدهم في الاخرة ، لما فاتهم من الولاية ، الشديدة الحاجة اليها في تحقق الايمان ، الموجب لدخول الجنة ، فالمطلق بهذا الوجه ايضا مقيد .
  ومنها : ان يكون الموحد تاركا للدنيا وزاهدا عنها ، فعن حذيفة عن النبي عليه وعلى آله السلام قال : لا يزال لا اله الا الله ترد غضب الرب جل جلاله عن العباد ما كانوا لا يبالون ما انتقص من دنياهم اذا سلم دينهم ، فاذا كانوا لا يبالون ما انتقص من دينهم اذا سلم دنياهم ثم قالوها ردت عليهم ، وقيل : كذبتم ولستم بها صادقين (2) .
  وهذا بعينه حال ابناء دهرنا هذا ، نعوذ بالله منهم اجمعين .
  ومنها : الموافاة على التوحيد ، كما تدل عليه رواية ابي ذر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله : ما من عبد قال لا اله الا الله ، ثم مات على ذلك الا دخل الجنة (3) .

--------------------
(1) أصول الكافي : 2 / 520 ـ 521 .
(2) بحار الانوار : 93 / 197 ح 23 ، عن ثواب الاعمال .
(3) كنز العمال : 1 / 46 ح 120 وص : 57 ح 183 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _165 _

  وبالجملة المراد بالموحد الذي لا يعذب بالنار اذا كان محسناً ، بأن يكون توحيده يحجزه عما حرم الله ، وهو علامة اخلاصه ، او يدخل الجنة ولو بعد تعذيب برزخي اذا كان مسيئاً ، هو من كان موالياً ثم مات على ذلك ، والا فتسلب عنه فوائد لا اله الا الله .
  فالاخبار المطلقة الواردة في هذا الباب ، كقوله ـ صلى الله عليه وآله : من مات ولم يشرك بالله شيئا احسن او اساء دخل الجنة ، (1) وقول الصادق ـ عليه السلام : ان الله حرم اجساد الموحدين على النار ، (2) وما شاكل ذلك مقيدة بما ذكرنا ، فلا اشكال ولا تدافع .
  ثم لما كان مبدأ الكمالات وجوب الوجود ، كما ان منشأ النقائص امكان الوجود ، فالمعبود بالحق هو الذي ثبت له وجوب الوجود وانتفى عنه الامكان .
  فمعنى ( لا اله الا انت ) لا واجب الوجود الا انت ، فحينئذ يصح تقدير الممكن والموجود في خبر ( لا ) النافية للجنس .
  اما الاول ، فلان مفهومه ان الله يمكن ان يكون واجب الوجود ، فحينئذ يندفع فساده المشهور ، وهو ان اللازم امكان وجوده تعالى لا ثبوت وجوده ، فلا يتم التوحيد ، بأن ما يمكن ان يكون واجب الوجود ، فهو واجب الوجود ، والا يكون : اما ممتنع الوجود او ممكنه ، وعلى التقديرين لا يكون واجب الوجود ، والا لزم الانقلاب .
  وأما الثاني ، فلان فساده وهو ان اللازم نفي وجود الشريك لا نفي امكانه ، مندفع بأن نفي وجوب الوجود عما سواه يستلزم نفي امكان وجوب الوجود ايضا ، والا لثبت له نقيضه ، وهو امكان وجوب الوجود ، فيثبت له وجوب الوجود كما سبق ، هذا خلف .

--------------------
(1) التوحيد : 30 ح 32 .
(2) التوحيد : 20 ح 7 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _166 _

  وأما ما قيل من عدم الحاجة الى الخبر وان ( الا الله ) مبتدأ وخبره ( لا اله ) اذ كان اصل الله اله ، فلما اريد الحصر زيد لا والا ، ومعناه الله معبود بالحق لا غيره .
  ففيه انه مع كونه مخالفا لما عليه النحاة من وجوب تقدير الخبر ، يرد عليه ان الاعتراض باق على حاله ، اذ لا معنى لرفع ذات الاله ، بل لا بد من نفي وجوده او امكانه .
  ومنهم من قال : ان هذه الكلمة نقلت شرعا الى نفي الامكان والوجود عن اله سوى الله ، مع الدلالة على وجوده تعالى ، وان لم يدل عليه لغة .
  وفيه ان هذه الكلمة مشهورة بكلمة التوحيد ، فمن قالها فهو موحد ، وان لم يعلم او يثبت عنده الحقائق الشرعية ، وكذا تقدير مستحق للعبادة لا يدل على نفي التعدد مطلقا ، بل على نفي المستحق فقط .
  والصوفية لما رأوا دلالتها مفهوما على وجود غيره تعالى وراموا التفصي عنه اولوها بحمل كلمة ( الا ) على معنى الغير ، وجعلوها بدلاً عن محل اله المنفي ، فصار المعنى : انتفى غيره تعالى مطلقا لا في صفة الالوهية .
  وهذا هو التوحيد العامي الذي هو نفي الشرك الاعظم الجلي ، المثبت بالدليل المعقول والمنقول ، قالوا : والمناقشة بأنه لا يلزم من انتفاء غيره ثبوته ، مندفعة ؛ اذ لا شك في وجود موجود ما .
  وما ذهب اليه السوفسطائية ، من انه لا موجود في الحقيقة ، بل هو خيال ووهم . فهو خيال موهوم ، وامر بطلانه معلوم .
  وأنت وكل من له ادنى بصيرة اذا صرف بصيرته نحو هذا الكلام يعرف ان الغرض منه نفي الوهية ما سوى الله واثبات الوهيته ، لا نفي ما سواه بالكلية واثبات وجوده فقط .
  وهل يليق بالحكيم العليم ان يقول في كتابه العزيز الى رسوله الكريم

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _167 _

   ( فاعلم انه لا اله الا الله ) (1) ويريد به وحدته في الوجود ؟ ! وهو يفيد وحدته في الالوهية .
  وهم بمثل هذا التأويل المستكره يضلون ويضلون ، فطوبى للذين هم كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله : يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين (2) .
  وعلى تأويلهم هذا ، فمعنى كون هذه الكلمة توحيد انها تفيد ان الوجود واحد ، ويلزم منه ان يكون الاله واحداً ، فتكون دلالتها على وحدة الوجود مطابقة ، وعلى وحدة الاله التزاماً .
  وهذا كما ترى صرف للكلام عن وجهه ، بل ابطال له بالكلية ، وانما صرفوه الى ذلك ، وهم يعلمون قطعاً انه ليس المراد به ذلك ، لتغرير الناس في دعوتهم الى مذاهبهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة ، فنزلوا القرآن على طبق رأيهم ومذهبهم ، وفسروه بأهوائهم واشتهائهم ، على علم منهم قطعاً انه غير مراد به ، فذرهم وما يشتهون .
  ومنهم من رام ان يصرف عنه ، ويذب ما يرد عليه ، وهو يقول بالوحدة ، فقال : اعلم ان الذكر القلبي من اعظم علامات المحبة ، لان من احب احداً ذكره دائماً أو غالباً .
  وان اصل الذكر عند الطاعة والمعصية سبب لفعل الطاعة وترك المعصية ، وهما سببان لزيادة الذكر ورسوخه ، وهكذا يتبادلان الى ان يستولي المذكور ، وهو الله سبحانه على القلب ويتجلى فيه .
  فالذاكر حينئذ يحبه حباً شديداً ، ويغفل عن جميع ما سواه حتى نفسه ، اذ الحب المفرط يمنع عن مشاهدة غير المحبوب .

--------------------
(1) محمد : 19 .
(2) اختيار معرفة الرجال : 1 / 10 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _168 _

  وهذا المقام يسمى مقام الفناء في الله ، والواصل الى هذا المقام لا يرى في الوجود الا هو ، وهذا معنى وحدة الوجود ، لا بمعنى انه تعالى متحد مع الكل ، لانه محال وزندقة ، بل بمعنى ان الموجود في نظر الفاني هو لا غيره ، لانه تجاوز عن عالم الكثرة ، وجعله وراء ظهره وغفل عنه فافهم انتهى .
  ولنا على ابطال وحدة الوجود رسالة مفردة وجيزة ، نقلنا فيها زبدة اقوالهم وعمدة ما تشبثوا به عليها ، واشرنا فيها الى ما فيه وعليه ، فليطلب من هناك .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 169_

( سورة الحج )
  * (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم ) [ الآية : 19 ]
  قال في نهاية ابن الاثير : فيه ( ان رجلاً أتاه وعليه مقطعات له ) أي : ثياب قصار ، لانها قطعت عن بلوغ التمام .
  وقيل : المقطع من الثياب كلما يفصل ويخاط من قميص وغيره ، وما لا يقطع كالارز والاردية .
  ومن الاول حديث ابن عباس في وقت صلاة الضحى ( اذا تقطعت الظلال ) أي : قصرت ، لانها تكون بكرة ممتدة ، فكلما ارتفعت الشمس قصرت .
  ومن الثاني حديث ابن عباس في صفة نخل الجنة ( منها مقطعاتهم وحللهم ) ولم يكن يصفها بالقصر لانه عيب .
  وقيل : المقطعات لا واحد لها ، فلا يقال للجبة القصيرة مقطعة ، ولا للقميص مقطع ، وانما يقال لجملة الثياب القصار مقطعات واحد ثوب (1) انتهى .
  وانما قصرت ثياب اهل النار وقطعت دون بلوغ التمام ، لتناسب هيئآتهم صورهم في القباحة والشناعة ؛ لان الثياب القصار عن بلوغ التمام عيب تحدث في لابسها قباحة المنظر وكراهة المحضر .
  وظني ان هذا الوجه اعذب مما افاده الشيخ البهائي في الاربعين ، حيث قال :

--------------------
(1) نهاية ابن الاثير : 4 / 81 ـ 82 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 170_

  ولعل السر في ثياب اهل النار مقطعات ، كونها اشد اشتمالاً على البدن ، فالعذاب بها اشد (1) .
  وفي تفسير علي بن ابراهيم في ذيل كريمة ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) في صحيحة ابي بصير عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ حديث يذكر فيه شدة عذاب جهنم ، نعوذ بالله منه : ولو ان سربالاً من سرابيل اهل النار علق بين السماء والارض ، لمات اهل الارض من ريحه ووهجه (2) .
  * (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وان الله سميع بصير ) [ الآية : 61 ]
  ايلاجه تعالى الليل في النهار وبالعكس ، ادخاله احدهما في الاخر : اما بالتعقيب بأن يأتي به بدلاً مكانه وذلك كلي ، او بالزيادة والنقصان وهذا اكثري .
  بيانه : ان كل ما زاد في النهار نقص من الليل وبالعكس ، واطول ما يكون من النهار يوم سابع عشر حزيران عند حلول الشمس آخر الجوزاء ، فيكون النهار حينئذ خمس عشر ساعة والليل تسع ساعات ، وهو اقصر ما يكون من الليل .
  ثم يأخذ في النقصان والليل في الزيادة الى ثامن عشر ايلول عند حلول الشمس آخر السنبلة ، فيستوي الليل والنهار ، ويسمى الاعتدال الخريفي ، فيصير كل منهما اثنتا عشر ساعة .
  ثم ينقص النهار ويزيد الليل الى سابع عشر من كانون الاول عند حلول

--------------------
(1) الاربعون : 58 ح 5 .
(2) تفسير القمي : 2 / 81 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 171_

  الشمس آخر القوس ، فيصير الليل خمس عشر ساعة ، والنهار تسع ساعات ، فتكون الليل في غاية الطول ، والنهار في غاية النقصان .
  ثم يأخذ الليل في النقصان والنهار في الزيادة الى سادس عشر آذار عند حلول الشمس آخر الحوت ، فيستوي الليل والنهار ، ويسمى الاعتدال الربيعي ، ثم يستأنف .
  قال الشيخ البهائي قدس سره في تفسير قوله ـ عليه السلام ـ ( يولج كل واحد منهما في صاحبه ويولج صاحبه فيه ) اي : يدخل كلاً من الليل والنهار في الاخر ، بأن ينقص من احدهما شيئا ويزيده في الاخر ، كنقصان نهار الشتاء وزيادة ليله ، وزيادة نهار الصيف ونقصان ليله .
  فان قلت : هذا المعنى يستفاد من قوله ـ عليه السلام ـ ( يولج كل واحد منهما في صاحبه ، فأي فائدة في قوله ـ عليه السلام ـ ) ويولج صاحبه فيه ( ؟ .
  قلت : مراده ـ عليه السلام ـ التنبيه على أمر مستغرب ، وهو حصول الزيادة والنقصان معاً في كل من الليل والنهار في وقت واحد ، وذلك بحسب اختلاف البقاع ، كالشمالية عن خط الاستواء ، والجنوبية عنه ، سواء كانت مسكونة اولا .
  فان صيف الشمالية شتاء الجنوبية وبالعكس ، فزيادة النهار ونقصانه واقعان في وقت واحد لكن في بقعتين ، وكذلك زيادة الليل ونقصانه .
  ولو لم يصرح ـ عليه السلام ـ بقوله ( ويولج صاحبه فيه ) لم يحصل التنبيه على ذلك ، بل كان الظاهر من كلامه ـ عليه السلام ـ وقوع زيادة النهار في وقت ونقصانه في آخر ، وكذا الليل ، كما هو محسوس معروف للخاص والعام .
  فالواو في قوله ـ عليه السلام ـ ( ويولج صاحبه فيه ) واو الحال باضمار مبتدأ ، كما هو المشهور بين النحاة (1) انتهى .
  أقول : كون الواو للحال مبني على تقدير المبتدأ ، كما في نجوت وارهنهم

--------------------
(1) مفتاح الفلاح : 107 ـ 108 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 172_

  مالكاً ، وقمت واصك وجهه .
  وحاصل الجواب : ان معنى الجهة الحالية وان كان مفهوماً من الاولى ، فيكون تأكيداً ، الا انها ذكرت للتنبيه .
  وأنت خبير بأن ايلاج كل واحد منهما في صاحبه يتضمن حصول الزيادة والنقصان معاً في كل واحد منهما بحسب اختلاف البقاع ؛ اذ لا يمكن ايلاج الليل في النهار في بقعة إلا حال إيلاج النهار في الليل في بقعة اخرى وبالعكس ، وزيادة النهار يتضمن نقصانه حال زيادته ، وكذلك الليل في بقعتي الشمالية والجنوبية عن خط الاستواء ، فالتنبيه حاصل بدون ذكرها .
  وانما ذكرت للتصريح بما علم ضمناً ؛ لانه لما كان أمراً مستغرباً لم يكتف في الدلالة عليه بالتضمنية ، بل دل عليه بالدلالتين التضمنية والتصريحية ايماء لطيفاً الى شأن الامر .
  ثم أقول : اختلاف البقاع في العرض الشمالي والجنوبي وانتقال الشمس عن مدار من المدارات اليومية بحركتها الخاصة ، يوجب ان يدخل بعض زمان الليل في زمان النهار وبالعكس في البقاع الشمالية عن خط الاستواء والجنوبية عنه ، في كل يوم بليلته من ايام السنة في جميع الافاق الا في المستقيم والرحوي ، وهذا معنى قوله ( يولج كل واحد منهما في صاحبه ) .
  وكذا اختلاف طول البقاع مع الحركة الاولى ففي حال زيادة زمان النهار ونقصان الليل وبالعكس في البقاع المذكورة بحسب الاختلافات العرضية ، يدخل بعض زمان الليل في النهار وبالعكس في الاماكن الشمالية عن خط الاستواء المختلفة في الطول ، وكذا الجنوبية عنه المختلفة فيه بحسب هذا الاختلاف ، وهذا معنى قوله ( يولج صاحبه فيه ) .
  فالحالية تأسيس ؛ لانها اشارة الى نوع آخر من الزيادة والنقصان ، وعليه يتفرع وجوب صوم احد وثلاثين يوماً في صورة ، وثمانية وعشرين في اخرى ، على المسافر من بلد الى آخر بعيد عنه بعد رؤية الهلال .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 173_

  ويحتمل عكس ذلك ، بأن يكون الاولى اشارة الى ما يكون بالاختلافات العرضية مع الحركة الخاصة الشمسية .
  ويحتمل ان يكون معنى الاولى ادخال كل من الليل والنهار مكان الاخر بدلاً منه في كل البقاع ، فعبر عن احداث النهار مع امتلاء العالم بالليل وبالعكس بالايلاج ، ومعنى الثانية ادخال بعض زمان كل منهما في زمان الاخر في كل يوم بليلته في كل البقاع بحسب اختلافاتها العرضية والطولية في حال الادخال الاول .
  ويحتمل العكس ، وعليه فالحالية تأسيس ، ومعنى الجملتين اكثر مما سبق ، ويتحقق معناهما في كل الافاق حتى في الرحوي في بعض ايامه .
  ثم الحكمة في نقصان كل منهما وزيادة الاخر على التدريج ظاهرة ، اذ لو كان دخول احدهما على الاخر ، وذلك بحركة الشمس بغتة لأضر بالابدان والثمار وغيرهما ، كما ان الخروج من حمام حار الى موضع بارد دفعة يضر البدن ويسقمه .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 175_

( سورة المؤمنون )
  * (قد افلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون ) [ الايتان : 1 ـ 2 ]
  الخشوع في الصلاة خشية القلب ، والزام البصر موضع السجود ، وبالجملة هو حضور القلب وتأثره وخوفه وطمعه .
  ويظهر ذلك بالتوجه التام الى الصلاة ، والى الله تعالى ، بحيث يظهر اثر البكاء في العين ، والاضطراب في القلب ، واستعمال الاعضاء الظاهرة على الوجه المندوب .
  وترك المكروهات ، مثل العبث بثيابه وجسده ، والالتفات يميناً وشمالاً ، بل النظر الى غير المسجد حال القيام ، والتمطي ، والتثأب ، والفرقعة ، وغير ذلك مما بين في الفروع وورد في الاصول .
  في مجمع البيان : عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ انه رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته ، فقال : أما أنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه .
  ثم قال الشيخ : وفي هذا دلالة على ان الخشوع في الصلاة يكون بالقلب والجوارح ، فأما بالقلب ، فهو ان يفرغ قلبه بجمع الهمة لها والاعراض عما سواها ، فلا يكون فيه غير العبادة والمعبود ، وأما بالجوارح ، فهو غض البصر والاقبال عليها ، وترك الالتفات والعبث (1) .
  وأورد عليه : ان اقبال الجوارح الى العبادة ليس له معنى ظاهر ؛ لان الاقبال

--------------------
(1) مجمع البيان : 4 / 99 .