انما يكون بالقلب .
  ويمكن ان يجاب عنه : بأن اقبال الجوارح عبارة عن النظر الى موضع السجود ، الى آخر ما هو المشهور ، وعدم الالتفات يميناً وشمالاً ، وعدم العبث ، الى غير ذلك ، كما سبق اليه الايماء ، فتأمل .
  * (والذين هم لفروجهم حافظون * الا على ازواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ) [ الآيات : 5 ـ 7 ]
  ظاهر الآيات الشريفة انحصار سبب الاباحة في الزوجية وملك اليمين على سبيل الانفصال الحقيقي ، بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فتحليل الامة بلفظ الاباحة والتحليل محتاج الى الدليل .
  فان كان هو النص عن الائمة ـ عليهم السلام ـ فهم لا ينصون على خلاف الكتاب ، كيف ؟ وهم صرحوا بأن : اذا جاءكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فاقبلوه ، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط (1) .
  فأخبار تحليل الامة : فاما متروك الظاهر ، كما هو مذهب السيد في الانتصار ، حيث قال في مقام دفع تشنيع العامة عن الخاصة : معنى قوله ( يجوز للرجل ان يبيح مملوكته لغير ) انه يعقد عليها عقد النكاح الذي فيه معنى الاباحة ، ولا يقتضي ذلك ان النكاح ينعقد بلفظ الاباحة (2) .
  وكونه مبنياً على اصله من عدم العمل بالاخبار الاحاد اشبه .

--------------------
(1) اصول الكافي : 1 / 69 .
(2) الانتصار : 118 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 177_

  او متروك العمل ، ولذا ذهب كثير من اصحابنا المتقدمين الى عدم استباحه بلفظ الاباحة والتحليل ، وهو المشهور بين الجمهور ، والاحتياط يقتضيه ، وان كان الاقوى انها يستباح بذلك .
  أما أولاً ، فلأصالة الاباحة ، والآية تدفعها .
  وأما ثانياً ، فلشمول الآية لها ، فان الملك يشمل العين والمنفعة ؛ اذ مقتضاه اباحة التصرف على سائر الوجوه ، وهو مشترك بين العين والمنفعة ، وملك المنفعة اعم من ان يكون تابعاً لملك الاصل او منفرداً ، والتحليل تمليك منفعة .
  ويؤيده ( او ما ملكت ) اذ لو اريد العين لقيل ( أو من ملكت ) وبذلك يظهر عدم المخالفة بين الخبر والكتاب .
  وأما ثالثاً ، فلان الامة بحكم اصل الكفر محل لقبول تملك كل مسلم ، فاذا ملكها مالك منع غيره من الانتفاع بها ، فاذا اباح وطأها زال المانع ، فبقيت على حكم الاصل .
  وانما لم يجز تحليلها بلفظ الهبة والاجارة ونحوهما ؛ لان الاباحة والحرمة ليس مدارهما على مجرد العقل ، ولا على معنى يدرك في ذات المباح يقتضي اباحته ، وفي المحرم يقتضي حرمته ، بل هما تعبد محض متلقى من الشارع والشارع انما حللها بلفظ التحليل ، لا بالهبة والاجارة ونحوهما .
  ثم لا يذهب عليك ان الآية تدل على ان المتمتع بها زوجة ، والا لكانت محرمة ، لعدم دخولها في ملك اليمين .
  وبالجملة انهم لما حكموا باباحة المتعة وتحليل الامة وجب دخولهما في المنفصلة ، والا لكانا باطلين ، فالمتعة داخلة في الازواج .
  قال في الكشاف : فان قلت : هل فيه دليل على تحريم المتعة ؟ قلت : لا ؛ لان المنكوحة نكاح المتعة من جملة الازواج اذا صح النكاح (1) .

--------------------
(1) الكشاف : 3 / 26 ـ 27 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _178 _

  وأما التحليل ، فقال بعضهم : انه داخل في الازواج ، وجعله كالعقد المنقطع ، فيفتقر الى مهر وتقدير مدة ، والاصل خلافه ، بل هو داخل في ملك اليمين ، فلا صداق فيه ولا اجل .
  وجعله بعضهم قسماً آخر بنفسه ، وخص الآية بغيره . قال : فانه غير عزيز ، على ما اشتهر انه ما من عام الا وقد خص حتى هذا .
  وهو بعيد ؛ لان انواع النكاح على ما ورد في رواية حسن بن زيد عن الصادق ـ عليه السلام ـ منحصرة على ثلاثة اوجه : نكاح بميراث ، ونكاح بلا ميراث ، ونكاح بملك يمين (1) .
  وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وآله : ايها الناس احل لكم الفروج على ثلاثة معان : فرج موروث وهو البتات ، وفرج غير موروث وهو المتعة ، وملك ايمانكم (2) .
  وقد سبق ان المتعة داخلة في الازواج ، فلا بد ان يكون التحليل : اما داخلاً فيها ، او في ملك الايمان ، فلا يكون قسماً آخر ، والا لكان باطلا .
  والاخبار الصحيحة المستفيضة الصريحة في جوازه تنافيه ، ولذلك سلم الاصحاب الحصر في الآية ، وادخلوا التحليل في احدهما ، والاخبار الواردة فيه ـ وهي العمدة ـ اكثر من ان تحصى ، بل نقلوا الاجماع قبل ظهور المخالف وبعده على جوازه .
  ولكنه ليس لنا حجة على خصومنا ، فانهم لا يقبلون اجماعنا ولا اخبارنا وبالعكس ، وانما الحجة عليهم ما سبق من اصالة الاباحة ، وشمول الآية ، وكون الامة في الاصل محلاً لقبول تملك كل مسلم .
  وبذلك يندفع تشنيعهم علينا في تلك المسألة .

--------------------
(1) الخصال : 119 ، التهذيب : 7 / 241 ح 2 .
(2) تهذيب الاحكام : 7 / 241 ح 3 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 179_

  بل نقول : لما ثبت بالعقل والنقل عصمة ائمتنا وطهارتهم وشرف اصولهم وعدالتهم ، وان النبي قرنهم بالكتاب العزيز الذي يجب اتباعه ، وهذا يدل على علمهم .
  ثبت ان قولهم حجة وجب قبوله واتباعه ، قبل او لم يقبل ، فان عدم قبول قول من قوله حجة لا ينفي حجيته ، والا لزم ان تكون اخبار الانبياء واقوالهم حجة على من لم يقبلها ، واللازم باطل بالاتفاق .
  فاذن لا شناعة على من قبل قول من وجب قبوله ، وان انكر غيره تبعاً للآخرين ، وهذا بعينه حال السابقين علينا من المؤمنين والكافرين .
  هذا وفي رواية جميل عن فضيل ، قال قلت لابي عبد الله ـ عليه السلام : جعلت فداك ان بعض اصحابنا روى عنك انك قلت اذا احل الرجل لاخيه المؤمن جاريته ، فهي له حلال .
  فقال : نعم يا فضيل .
  قلت له : فما تقول في رجل عنده جارية نفيسة وهي بكراً احل لاخ له ما دون الفرج أله ان يقتضيها ؟
  قال : لا ليس له الا ما احل له منها ، ولو احل له منها قبلة لم يحل له ما سوى ذلك .
  قلت : أرأيت ان هو احل له ما دون الفرج فغلبته الشهوة فاقتضها ؟
  قال : لا ينبغي له ذلك .
  قلت : فان فعل ذلك ايكون زانياً ؟
  قال : لا ، ولكن خائناً ويغرم لصاحبها عشر قيمتها (1) .
  والظاهر ان تحليل القبلة يستلزم تحليل المس ، فالمراد انه لم يحل له ما سوى ذلك من الاقتضاض والوطىء والخدمة وغيرها ؛ لان الضابط في تحليل الامة

--------------------
(1) تهذيب الاحكام : 7 / 244 ح 16 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _180 _

  الاقتصار على ما تناوله اللفظ فما دونه .
  فان قلت : ان الزنا عبارة عن وطىء المرأة قبلاً أو دبراً بغير عقد ولا ملك ولا شبهة ، بل عمداً عالماً بالتحريم ، وها هنا كذلك ، فينبغي ان يكون زانياً لا خائناً فقط .
  قلت : انه لم يحل له ما دون الفرد الا وقد علم انه ينجر الى ذلك ، فكأنه أحل له ذلك ضمناً ، ولكنه لما لم يصرح به وقد تصرف في ملكه بما لا اذن له فيه صريحاً كان خائناً ، فتأمل فيه .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _181 _

( سورة النور )
  * (وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها )... [ الآية : 31 ]
  روى الكليني في الكافي باسناده عن زرارة عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ في قوله تعالى ( الا ما ظهر منها ) قال : الزينة الظاهر الكحل والخاتم (1) .
  وعن ابي بصير عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : سألته عن قول الله تعالى ( ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها ) قال : الخاتم والمسكة وهي القلب (2) .
  وفي جوامع الجامع : فالظاهرة لا تجب سترها ، وهي الثياب الى قوله وعنهم ـ عليه السلام : الكفان والاصابع (3) .
  وفي مجمع البيان : وفي تفسير علي بن ابراهيم الكفان والاصابع (4).
  وفي تفسير علي بن ابراهيم : وفي رواية ابي الجارود عن ابي جعفر ـ عليه السلام ـ في قوله ( ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها ) فهي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكف والسوار .
  والزينة ثلاث : زينة للناس ، وزينة للمحرم ، وزينة للزوج ، فأما زينة الناس ،

--------------------
(1) فروع الكافي : 5 / 521 ح 3 .
(2) فروع الكافي : 5 / 521 ح 4 .
(3) جوامع الجامع : 314 ـ 315 ، الطبعة الحجرية .
(4) مجمع البيان : 4 / 138 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 182_

  فقد ذكرناها ، وأما زينة المحرم ، فوضع القلادة فما فوقها ، والدملج وما دونه ، والخلخال وما اسفل منه ، وأما زينة الزوج ، فالجسد كله (1) .
  ويؤيد ذلك ما في الفقيه عن حفص بن البختري عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : لا ينبغي للمرأة ان تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية ، فانهن يصفن ذلك لازواجهن (2) .
  فاذا لم يجز الانكشاف بين ايديهن للعلة المذكورة ، فعدم جوازه بين ايدي الاجانب من الرجال اولى ، ولاشتراك العلة وهي تهييج الميل وتحريك الشهوة وثوران الفتنة .
  وقال البيضاوي في تفسيره : ( وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ) فلا ينظرن الى ما لا يحل لهن النظر اليه من الرجال ( ويحفظن فروجهن ) بالتستر او التحفظ عن الزنا ، وتقديم الغض لان النظر يريد الزنا ( ولا يبدين زينتهن ) كالحلي والثياب والاصباغ ، فضلا عن مواضعها لمن لا يحل ان تبدي له ( الا ما ظهر منها ) عند مزاولة الاشياء ، كالثياب والخاتم ، فان في سترها حرجاً .
  وقيل : المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف ، او ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية ، والمستثنى هو الوجه والكفان ، لانها ليست بعورة ، والاظهر ان هذا في الصلاة لا في النظر ، فان كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج ، والمحرم النظر الى شيء منها الا لضرورة ، كالمعالجة وتحمل الشهادة (3) انتهى كلامه .
  وهو حق كله لا شبة فيه ولا مرية تعتريه الا قوله ( وتحمل الشهادة ) اذ لا ضرورة فيه الى النظر ، كما بين في محله .
  وأما ما ذكره في الكشاف في تفسير هذه الآية بقوله : الزينة ما تزينت به

--------------------
(1) تفسير القمي : 2 / 101 .
(2) من لا يحضره الفقيه : 3 / 561 .
(3) انوار التنزيل للبيضاوي : 2 / 138 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _183 _

  المرأة من حلي او كحل او خضاب ، فما كان ظاهرا منها ، كالخاتم والفتخة وهي الحلقة من فضة لا فص لها ، والكحل والخضاب ، فلا بأس بابدائه للاجانب .
  ثم قال : ان المراد من الزينة مواقعها ، والصحيح ان العضو كله لا المقدار الذي تلابسه الزينة منه ، كما فسرت مواقع الزينة الخفية (1) ، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة ، الوجه موقع الكحل في عينيه ، والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيه ، والغمرة في خديه ، والكف والقدم موقعا الخاتم والفتخة ، والخضاب بالحناء .
  وانما تسومح في هذه المواضع ؛ لان سترها فيه حرج ؛ لان المرأة لا تجد بداً في مزاولة الاشياء بيديها ، ومن الحاجة الى كشف وجهها ، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر الى المشي في الطرقات ، وظهور قدميها وخصوصا الفقيرات منهن ، وهذا معنى قوله ( الا ما ظهر منها ) يعني الا ما جرت العادة على ظهوره ، والاصل فيه الظهور (2) .
  ففي اكثره بعد منع ، اذ لا ضرورة داعية الى كشف وجهها في الشهادة والنكاح ، لان المدار بالعلم ، وهو قد يحصل بدون ذلك ، نعم ما ذكره صحيح على مذهبهم .
  وايضا لا شبهة بعد كون الوجه موقع الكحل ، والوسمة كونها في شاربيها .
  مع انا نقول : في حالة الضرورة والحاجة يجوز ابداء الزينة الباطنة ، فضلا عن الزينة الظاهرة ، كالعلاج للطبيب والمحاكمة وغير ذلك ، فان الضرورات تبيح

--------------------
(1) المراد بالزينة الخفية السواد للزند ، والخلخال للساق ، والدملج للعضد ، والقلادة للعنق ، والوشاح للرأس ، والقرط للأذن ، ومذهب صاحب الكشاف ان المراد بمواقعها جميع العضو ، لا خصوص المقدار الذي يلامسه الزينة منه ، ويحتمل اختصاص محلها فقط ، فلا يتعدى الى غيرها ، خصوصاً المواضع الخفية في اكثر الحالات والقريبة من العورة ، فتأمل ( منه ) .
(2) تفسير الكشاف : 3 / 61 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 184_

  المحذورات ، وانما كلامنا في حالة الاختيار دون الاضطرار .
  وايضا ان نظر الى العادة والظاهر ، خصوصا الفقيرات ، فالعادة ظهور الرقبة ، بل الصدر والعضدين والساقين وغير ذلك ، فكلامه كما ترى في اكثر هذه المواضع خارج عن محل النزاع ، فتأمل .
  وبالجملة يظهر منه ان الاجنبية ، وان كانت شابة جميلة عيناه صبيحة الوجه ، يسوغ لها ان تكتحل في عينيها ، وتتوسم في حاجبيها وشاربيها ، كما هو عادة نساء العرب ، وتغتمر في خديها ووجنتيها ، وتتخضب في يديها ورجليها ، وتتختم في اصبيعها ، وتتفتح بفتحة لابسة الثياب الفاخرة .
  ثم تبرز مع هذه الهيئآت والحالات المشوقة والمعشقة للاجانب ، كاشفة الوجه واليدين ، بارزة الثياب والرجلين ، كأنها تساق من بيت الى بيت بعلها ليبني عليها .
  ان هذا لشيء عجيب ، وصدور مثله عن مثله أمر غريب ، فان العقل السليم يأباه ، والطبع المسقيم لا يرضاه ، فأين غيرة الله ؟ مع كونه اغير من رسوله ، ومن غيرته حرم المحرمات ، كما ورد في الخبر (1) .
  مع ان صاحب الكشاف قد ذكر في تفسير كريمة ( وقل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ) (2) ان الاجنبية ينظر الى وجهها وكفيها وقدميها في احدى الروايتين (3) .
  وهو كما ترى ينادي بأعلى صوته ان في طريقهم ايضا رواية تدل على عدم جواز النظر الى وجهها ، الا ان الجواز فيما بينهم اكثر واشهر ، وميلهم اليه اشد

--------------------
(1) في الكافي عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : ان الله تبارك وتعالى غيور يحب كل غيور ، ولغيرته حرم الفواحش ظاهرها وباطنها ( منه ) .
(2) النور : 30 .
(3) الكشاف : 3 / 60 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 185_

  وأظهر ، كما يظهر بالتتبع .
  وقال شيخنا المقداد في كنزالعرفان : وانما قدم غض الطرف على حفظ الفرج ، لكونه مقدما عليه وداعيا الى الجماع ، وأما ابداء الزينة ، فقيل : المراد مواقعها على حذف المضاف لا نفس الزينة ، لان ذلك يحل النظر اليه ، كالحلي والثياب والاصباغ .
  وقيل : المراد نفسها ، وانما حرم النظر اليها اذ لو ابيح لكان وسيلة الى النظر الى مواضعها ، وأما ما ظهر منها ، فليس بمحرم للزوم الحرج المنفي في الدين .
  ثم قال وقيل : المراد بالظاهرة الثياب فقط ، وهو الاصح عندي ، لاطباق الفقهاء على ان بدن المرأة كله عورة ، الا على الزوج والمحارم ، فعلى هذا المراد بالباطنة الخلخال والسوار والقرط وجميع ما هو مباشر للبدن ، ويستلزم نظره نظر البدن .
  وأما باقي الاقوال في ذلك ، فهي انه الوجه والكفان والكحل والخضاب والخاتم ، وانما سومح فيها للحاجة الى كشفها ، فضعيفة لا تحقق لها ، فانه ان حصل ضرورة لزم حرج ، فذلك هو المبيح لا الآية ، والا فلا وجه لذلك (1) انتهى كلامه زيد اكرامه .
  والأصح عندي ايضا ما هو الأصح عنده وعند القاضي البيضاوي وقد عرفته .
  * (ليجزيهم الله احسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ) [ الآية : 38 ]

--------------------
(1) كنز العرفان : 2 / 222 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 186_

  قوله تعالى ( بغير حساب ) اي : بغير طلب وكسب ، او بغير ان يعرف سبيل رزقه ، ويجعله منسوبا في عداد وجه معايشه ، او بغير تقتير وتقدير ، او بما لا يأتي عليه الحساب ، فيوسع في الدنيا على من توجب الحكمة التوسعة عليه : اما استدراجا ، او ابتلاءً .
  أو المراد انه يعطي ولا يحاسب عليه ، وذلك اما لاختلاف استعداد الاشخاص ، او العلم بأنه اصلح بحاله واوفق بمآله ، كما يشير اليه : وان من عبادي من لا يصلحه الا الغنى ، ولو افقرته لافسده .
  ثم الارزاق نوعان : ظاهرة للابدان كالاقوات ، وباطنة للقلوب كالمعارف والعلوم ، والرزق بالكسر اسم للمرزوق .
  وفي الصحاح : انه ما ينتفع به (1) .

--------------------
(1) صحاح اللغة : 4 / 1481 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 187_

( سورة الشعراء )
  * (واجعل لي لسان صدق في الاخرين ). [ الآية : 84 ]
  قال في مجمع البيان : اي ثناء حسنا في آخر الامم ، وذكراً جميلاً وقبولاً عاماً في الذين يأتون بعدي الى يوم القيامة ، والعرب تضع اللسان موضع القول على الاستعارة ؛ لان القول يكون بها ، ويقولون : جاءني لساني فلان ، اي : مدحه وذمه ، قال

انـي  أتـتني لساناً لا أسر iiبها      من علو لا عجب منها ولا سخر
  وقيل : ان معناه واجعل لي ولد صدق في آخر الامم يدعو الى الله ويقوم بالحق ، وهو محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ (1) انتهى .
  والمراد بالصدق في مقام استعمال الآية الشريفة في الادعية مطلق الجودة والحسن ، لا الصدق في الحديث ، وان كان أصله ذلك ؛ لان الصدق في الحديث مستحسن جيد عندهم ، حتى صاروا يستعملونه في مطلق الجودة ، فيقال : رجل صدق ، وقدم صدق ، ومقعد صدق ، ومعنى كل ذلك جيد مستحسن .
  وقال الرضي : والاضافة في نحو رجل صدق للملابسة ، وهم كثيراً ما يضيفون الموصوف الى مصدر الصفة ، نحو خير السوء ، اي : الخير السيء .

--------------------
(1) مجمع البيان : 4 / 194 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _189 _

( سورة القصص )
  * (ولا تدع مع الله الهاً آخر لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون ) [ الآية : 88 ]
  قال الطبرسي : رحمه الله : المعنى كل شيء فان بائد الا ذاته ، وهذا كما يقال : هذا وجه الرأي ووجه الطريق .
  ثم قال : وفي هذا دلالة على ان الاجسام تفنى ثم تعاد ، على ما قاله الشيوخ في الفناء والاعادة ، وعن ابن عباس : اي كل شيء هالك الا ما اريد به وجهه ، فانه يبقى ثوابه (1) .
  وقيل : ان المعنى كل شيء هالك ، وانما وجوده وبقاؤه وكماله بالجهة المنسوبة اليه سبحانه ، فانه علة لوجود كل شيء وبقائه وكماله ، ومع قطع النظر عن هذه الجهة ، فهي فانية باطلة هالكة .
  وقيل : ان المعنى كل شيء هالك ، اي : باطل ، الا دينه الذي يتوجه به اليه سبحانه ، وكل ما امر به من طاعته ، وقد وردت اخبار كثيرة على هذا الوجه .
  وقيل : ان المراد بالوجه الانبياء والاوصياء ـ عليهم السلام ـ لان الوجه ما يواجه به عباده ويخاطبهم بهم ـ عليهم السلام ـ واذا اراد العباد التوجه اليه تعالى يتوجهون اليهم ، وبه ايضا وردت اخبار كثيرة .
  وقيل : ان الضمير راجع الى الشيء ، اي : كل شيء بجميع جهاته باطل وفان ، الا وجهه الذي به يتوجه الى ربه ، وهو روحه وعقله ومحل معرفة الله منه التي

--------------------
(1) مجمع البيان : 4 / 269 ـ 270 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 190_

  تبقى بعد فناء جسمه وشخصه ، وهو ايضا مروي عنهم ـ عليهم السلام ـ (1) .
  وقال البيضاوي : ( كل شيء هالك الا وجهه ) الا ذاته ، فان ما عداه ممكن هالك في حد ذاته معدوم .
  وحاصله آيل الى ان المراد بهلاك كل شيء ، انه هالك في حد ذاته ، لضعف الوجود الامكاني ، فالتحقق بالهالك المعدوم ، كما تدل عليه صيغة الفاعل ، فانها ليست بمعنى الاستقبال على معنى انه سيهلك ، بل هو على حقيقته من معنى الحال ، فان سلسلة الممكنات لضعف وجوداتها الغيرية هالكة في حدود ذواتها ازلاً وابداً .
  وقد اشار اليه بهمنيار في التحصيل وغيره ، حيث قال : كل ممكن بالقياس الى ذاته باطل ، وبه تعالى حق ، كما يرشد اليه قوله تعالى ( كل شيء هالك الا وجهه ) .
  فهو آناً فآناً يحتاج الى ان يقول له الفاعل الحق : كن ، ويفيض عليه الوجود ، بحيث لو امسك عنه هذا القول والافاضة طرفة عين ، لعاد الى البطلان الذاتي والزوال الاصلي ، كما ان ضوء الشمس لو زال عن سطح المستضيء لعاد الى ظلمته الاصلية ، فله الحمد انه مالك هو باق وغيره هالك .
  وفي كتاب التوحيد : عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ في ( كل شيء هالك الا وجهه ) قال : من اتى الله بما امر به من طاعة محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ والائمة من بعده ، فهو الوجه الذي لا يهلك ، ثم قرأ ( من يطع الرسول فقد اطاع الله ) (2) .
  وفيه : عنه ـ عليه السلام ـ انه سئل عن الآية ، قال : كل شيء هالك الا من

--------------------
(1) هذه الوجوه كلها ذكرها العلامة المجلسي في مرآة العقول : 2 / 112 .
(2) التوحيد : 149 ح 3 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 191_

  اخذ طريق الحق (1) .
  وفي المحاسن مثله ، الا ان في آخره : من اخذ الطريق الذي انتم عليه (2) .
  وفي الكافي عن الحارث بن المغيرة النصري ، قال : سئل ابو عبد الله ـ عليه السلام ـ عن قوله ( كل شيء هالك الا وجهه ) فقال : ما يقولون فيه ؟ قلت : يقولون يهلك كل شيء الا وجه الله ، فقال : سبحانه الله لقد قالوا قولاً عظيما ، انما عنى بذلك وجه الله الذي يؤتى منه (3) .
  قيل : لما كان مرادهم فناء كل شيء غير ذاته ، فاستعظمه وانكره ـ عليه السلام ـ اذ من المخلوقات ما لا يفنى ، وهو بعيد (4) .
  لان الظاهر من الآية على ما فسره الامام ـ عليه السلام ـ ان اهل كل مذهب من المذاهب الباطلة هالك الا اهل مذهب الحق ، وهم الذين توجهوا الى الله بارشاد الانبياء والاوصياء ـ عليهم السلام ـ فانهم وجه الله الذي من توجه اليه توجه الى الله ، وصار من اهل النجاة .
  فالمراد بالهلاك ما يقابل النجاة ، كما يقال : فرقة ناجية ، وفرقة هالكة ، لا ما يقابل الحياة وهو الموت ، وعلى هذا فلا دلالة في الآية على بقاء شيء ولا على فنائه .
  وأما وصفه ـ عليه السلام ـ قولهم بالعظم ، فالظاهر انه لا ثباتهم له سبحانه وجهاً كوجوه البشر ، ومن قال ذلك فقد كفر ، والله تعالى اعلم وابصر .

--------------------
(1) التوحيد : 149 ح 2 .
(2) المحاسن : 199 ح 30 .
(3) اصول الكافي : 1 / 143 ح 1 .
(4) مرآة العقول : 2 / 112 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 193_

( سورة الاحزاب )
  * (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) [ الآية : 33 ]
  قال القاضي البيضاوي في تفسيره : وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما ، لما روي انه خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر اسود فجلس ، فأتت فاطمة فأدخلها فيه ، ثم جاء علي فأدخله فيه ، ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه ، ثم قال : انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً .
  والاحتجاج بذلك على عصمتهم ، وكون اجماعهم حجة ، ضعيف ؛ لان التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها ، والحديث يقتضي انهم اهل البيت لا انه ليس غيرهم (1) .
  أقول : وانت خبير بأن ما ذكره ضيعف ، أما الاول ، فلان القرآن نزل علىاسلوب لغة العرب ، ومن عادتهم انهم يذهبون من خطاب الى خطاب ، ثم يعودون اليه ، فكون ما قبل الآية وما بعدها في ازواج النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لا ينافي كون وسطها فيهم ، اذ الخروج من حكم الى آخر في القرآن كثير جداً .
  فكثير ما تنزل الآية اولها في شيء ، واوسطها في اخر ، وآخرها في آخر ، ولو اريد بالوسط النساء لقيل : عنكن ويطهركن دون عنكم ويطهركم ، فهذا

--------------------
(1) انوار التنزيل : 2 / 272 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _194 _

  قرينة على المراد . والقول بالتغليب سيظهر ضعفه .
  وأما الثاني ، فلما قال ابو سعيد الخدري (1) ، وانس بن مالك (2) ، وواثلة بن الاسقع (3) ، وعائشة (4) ، وأم سلمة (5) ، من ان الآية مختصة برسول الله وعلي وفاطمة والحسنين ـ عليهم السلام .
  وفي تفسير الثعلبي عن أم سلمة ان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان في بيتها ، فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة ، فقال لها : ادعي زوجك وابنيك ، قالت : فجاء علي وحسن وحسين ، فدخلوا فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة ، وهو وهم على منام واحد له على دكان تحته كساء خيبري .
  قالت : وانا في الحجرة اصلي ، فأنزل الله تعالى ( انما يريد الله ) الآية ، فأخذ فضل الكساء فغشاهم به ، ثم اخرج يده فألوى بها الى السماء ، ثم قال : اللهم ان هؤلاء اهل بيتي وحامتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً . فأدخلت رأسي البيت وقلت : وانا معكم يا رسول الله ؟ قال : انك الى خير .
  وباسناده قال مجمع : دخلت امي على عائشة ، فسألتها امي أرأيت خروجك يوم الجمل ؟ قالت : انها كانت قدراً من الله ، فسألتها عن علي ، فقالت : تسأليني عن احب الناس كان الى رسول الله وزوج احب الناس كانت الى رسول الله .
  لقد رأيت علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً قد جمع رسول الله بثوب عليهم ، ثم قال : اللهم ان هؤلاء اهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم

--------------------
(1) جامع البيان : 22 / 6 .
(2) مسند احمد بن حنبل : 3 / 259 .
(3) مستدرك الحاكم : 2 / 416 .
(4) نظم درر السمطين : 133 .
(5) مسند احمد بن حنبل : 6 / 398 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 195_

  تطهيراً ، قالت فقلت : يا رسول الله انا من اهلك ؟ قال : تنحي انك الى خير (1) .
  وروى الترمذي في الجامع عن عمر بن ابي سلمة ربيب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : نزلت ( انما يريد الله ) الآية في بيت ام سلمة ، فدعا النبي فاطمة وحسناً وحسيناً ، فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره ، ثم قال : هؤلاء اهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، قالت ام سلمة : وانا معهم يا رسول الله ؟ قال : انك على مكانك وانت على خير (2) .
  وفي صحيح ابي داود السجستاني وهو كتاب السنن قالت ام سلمة : وانا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله الست من اهل البيت ؟ فقال : انك الى خير انك من ازواج النبي (3) .
  فهذه الاخبار وامثالها الكثيرة الواردة في طريق القاضي تقضي بكونهم المراد بأهل البيت دون غيرهم من ازواج النبي ونسائه المذكورات فيما قبل الآية وما بعدها .
  وبالجملة ما ذكروه واحتملوه من التغليب ، وكون الآية تعليلا لامرهن ونهيهن على الاستئناف ، ومن كون الحكم عاماً وتخصيص الشيعة اهل البيت بهؤلاء والاحتجاج بذلك ، وكون اجماعهم حجة ضعيفا الى غير ذلك ، اجتهاد في مقابل النص الصحيح والبيان الصريح ، فغير مسموع ذلك منهم ، بل هو عين العناد واللداد الموجب للخلود في نار جهنم ، نعوذ بالله تعالى منها .
  نعم لولا ورود تلك الروايات الصحيحات الصريحات من الطرفين في بيانها ، لكان لما ذكروه واحتملوه وجه .

--------------------
(1) احقاق الحق عنه : 9 / 10 .
(2) صحيح الترمذي : 13 / 200 .
(3) راجع تفصيل الروايات الواردة في ذلك عن طريق العامة الى احقاق الحق : 2 / 501 ـ 562 و 3 / 513 ـ 531 و 9 / 1 ـ 69 و 14 / 40 ـ 105 و 18 / 359 ـ 383 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _196 _

  واذ قد ثبت ان المراد بأهل البيت في الآية هؤلاء المذكورون ثبت ان اجماعهم بل قول كل منهم حجة قاطعة ، لان اذهاب الرجس ووقوع التطهير ملزوم عدم العصيان والمخالفة لاوامر الله ونواهيه ، فوقوع الخطأ منهم مأمون ، فالاقتداء بهم والاخذ بقولهم وفعلهم دون من لم يؤمن وقوعه منه وتطرق الرجس اليه واجب .
  ومن اعجب العجب ان هذا القاضي يقضي على خلاف ما ورد عليه من طرقه ، فيذكر من الاخبار ما يقبل التأويل الى ما يوافق دينه ومذهبه ، ويترك ويتناسى مما هو ناص بالباب .
  ولعل عدوله عن طريق الصواب ، لعدم عثوره على الاخبار الواردة في الباب ، او لغفلته عنها ، او لتغافله ، او لتقيته ، او لعصبيته وعناده ، او لانه اتبع هواه فأضله الله على علم وختم على قلبه .
  حتى انه لم يتأمل فيما رواه ايضا ، فانه ايضا يفيد حصر اهل البيت في آل العباء لمن تأمله ، اذ لو كان احد غيرهم داخلاً في اهل البيت المراد من الآية ، لما كان لإدخالهم بخصوصهم في الكساء ، ثم تلاوة الآية عليهم والسكوت عن غيرهم مدة العمر ، والا لنقل هذا ولتمسكت به السنة ، كما نقل ذاك وتمسكت به الشيعة ، وجه ، ففعله هذا وقوله ذاك برهانان وبيانان لاهل البيت .
  فهو وان كان عاماً مفهوماً ، الا انه خاص بياناً ، وكيف يتصور منه ـ عليه السلام ـ ان يسميهم خاصة بأهل البيت عقيب نزول الآية ، ويسكت عن غيرهم ويهمله ، وهو داخل فيهم في الحكم المذكور في الآية .
  اقول : والطهارة النقاء من الدنس والنجس ، والطاهر النقي .
  وفي اصطلاح ارباب العرفان : الطاهر من عصمه الله عن المخالفات ، وهو ينقسم :
  الى طاهر الظاهر ، وهو من عصمه الله من المعاصي .
  وطاهر الباطن ، وهو من عصمه الله عن الوسواس والهواجس .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _197 _

  وطاهر السر ، وهو من لا يزيغ عن الله طرفة عين .
  وطاهر السر والعلانية ، وهو من قام بتوفيقه حقوق الحق والخلق جميعاً ، لسعته برعاية الجانبين .
  ولا خفاء في المراد به هنا لا يعم جميع هذه الاقسام ، وهذه النعوت لهم ـ عليهم السلام ـ عين الحق ونفس الواقع ، كيف لا وهم مصداق الحقيقي للاية الشريفة .
  قال الطبرسي : استدلت الشيعة باختصاصها بأصحاب الكساء ، بأن قالوا : ( انما ) لاثبات ما يذكر بعده ونفي ما سواه ، فالارادة في الآية : اما ارادة محضة ، او ارادة يتبعها التطهير واذهاب الرجس .
  لا سبيل الى الاول ؛ لانه تعالى قد اراد من كل مكلف هذه الارادة المطلقة ، فلا اختصاص بأهل البيت ولان هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم ، ولا مدح في الارادة المجردة ، فيثبت الثاني ، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيين بالآية من جميع القبائح ، وقد علمنا ان من عدا من ذكرنا من اهل البيت غير مقطوع على عصمته ، فثبت ان الآية مختصة بهم (1) انتهى .
  * (ان الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) [ الآية : 56 ]
  ظاهر كثير من الاخبار ، كقوله ـ صلى الله عليه وآله : ( من ذكرت عنده فنسي الصلاة عليّ خطئ به طريق الجنة ) (2) وجوب الصلاة عليه عند ذكره ،

--------------------
(1) مجمع البيان : 4 / 357 .
(2) كنز العمال : 1 / 491 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 198_

  على الذاكر والمذكور عنده ، لمكان الوعيد الدال عليه .
  وهو مختار الصدوق والمقداد من اصحابنا ، والطحاوي من العامة . وقال الزمخشري : وهو الذي يقتضيه الاحتياط (1) .
  والقول بوجوبها في كل مجلس مرة ، او في مدة العمر مرة ، مما لا مستند له ، فالقول به تحكم . والاحوط وجوبها عند كل ذكر ؛ للاخبار الكثيرة الصريحة بالامر بها كلما ذكر ، والاصل في الامر الوجوب .
  وأما القول بالاستحباب مطلقاً ، كما ذهب اليه جماعة ، مستدلين عليه بالاصل والشهرة ، المستندين الى عدم تعليمه ـ صلى الله عليه وآله ـ للمؤذنين ، وتركهم ذلك مع عدم وقوع نكير عليهم ، كما يفعلونه ، الآن ، ولو كان لنقل .
  ففيه ان عدم التعليم ممنوع ، وكذا عدم النكير كعدم النقل ، لما في الكافي عن الباقر ـ عليه السلام : اذا اذنت فافصح بالالف والهاء ، وصل على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كلما ذكرته ، او ذكره ذاكر في اذان او غيره (2) .
  على ان عدم النقل لا يدل على عدمه ، واصالة البراءة لا يصح التمسك بها ، بعد ورود القرآن والاخبار .
  قيل : والظاهر من بعض الاخبار ، كقول الصادق ـ عليه السلام : ( اذا ذكر النبي فأكثروا الصلاة عليه ) (3) حيث رتب الامر بالصلاة على الذكر بالفاء التعقيبية ، هو ايقاعها على الفور ، فلو اهمل الفور اثم على القول بالوجوب ولم يسقط .
  وفيه ان الفاء التعقيبية هي العاطفة ، وأما الداخلة على جزاء الشرط ، فقد نصوا على عدم افادتها التعقيب . فهذا الحديث لا يدل على وجوب ايقاعها على

--------------------
(1) الكشاف : 3 / 273 .
(2) فروع الكافي : 3 / 303 ح 7 .
(3) اصول الكافي : 2 / 492 ح 6 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 199_

  الفور .
  هذا والظاهر ان الامر بها عام لكل احد وعلى كل حالة ، حتى في الصلاة ، فلو ترك الامتثال واشتغل بالقراءة فيها هل تبطل على تقدير الوجوب ام لا ؟
  فان قلنا ان الامر بالشيء نهي عن ضده الخاص ، والنهي في العبادة يقتضي الفساد بطلت ، وان قلنا بعدمه فلا .
  فلو تكرر الذكر تكراراً كثيراً ، بحيث يخرج بالاشتغال بالصلاة عليه عن كونه مصلياً ، لا يبعد القول بسقوط التكليف بها ؛ لان الفعلين اذا تضيقا وتعذر الجمع بينهما ، علمنا ان احدهما ليس بواجب قطعاً ، ولما كان مشتغلاً بالصلاة ، ووجب اتمامها والاستمرار فيها ، كان ما ينافيه غير مأمور به ، فليتأمل .
  هذا وغاية ما يقتضيه حديث الباقر ـ عليه السلام ـ المتقدم ذكره (1) وجوب الصلاة عليه اذا ذكر باسمه ، لا اذا ذكر بلقبه او بكنيته ؛ لان المذكور في الاذان اصالة هو ذلك .
  فهذا قرينة على ان المراد بذكره الموجب لوجوب الصلاة عليه هو ذكره باسمه ، ولعله لذلك لم يعممه علماؤنا ، بل اقتصر من قال منهم بالوجوب على ذكر اسمه .
  وأما الاستدلال بحديث الاحتياط على التعميم ، فليس هنا موضعه ؛ لانه انما شرع فيما يثبت وجوبه ، كما قالوا في احدى الصلوات المنسية الغير المعينة ، او كان ثبوت الوجوب هو الاصل ، كما في صوم ثلاثين من رمضان اذا غم الهلال ، اذ الاصل بقاء رمضان .
  وأما مالا وجوب فيه ولا اصل ، فلا يجب فيه احتياط ، والصلاة عليه بذكره باللقب والكنية والضمير مما لم يثبت وجوبه ، وليس ثبوته هو الاصل ، بل الاصل عدم الوجوب الى ان يثبت الوجوب ، ولم يثبت بعد ، فالاحتياط هنا لا

--------------------
(1) فروع الكافي : 3 / 303 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 200_

  يصلح دليلاً ، بل هو محتاج الى الدليل .
  على انه ـ صلى الله عليه وآله ـ مذكور في كثير من الادعية المأثورة والاخبار المنقولة عن ذريته المعصومين صلوات الله عليهم اجمعين باسمه وكنيته ولقبه من دون اتباعه بالصلاة عليه ، وبعيد من دأب الرواة ان يرووا اصل الادعية والاخبار ، ويتركوا الصلاة عليه المسموعة من المعصوم الواجبة عليهم عند ذكره .
  وما ذكرناه يعلم في مواضع من الصحيفة السجادية ، منها : قول ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ وهو مذكور قبل الشروع في الادعية في مقام بيان السند : اخبر الله نبيه بما يلقى اهل بيت محمد واهل مودته وشيعتهم منهم ، اي : من بني امية ، الى قوله : ونعمة الله محمد واهل بيته الحديث ، وله نظائر .