أَعمالَهُمْ ) فهوَلاء كفروا وضلّوا وكذّبوا الرسل وقد زيّن الشيطان أعمالهم (فهو وليّهم اليوم) أي الشيطان الذي زين لهم أعمالهم فهو أيضاً يقوم بنفس هذا العمل فالولي واحد وإن كان المتولى عليه مختلفاً ، وبالتالي انّ الشيطان وليهم اليوم في الدنيا يتولونه ويتبعون إغواءه ( ولهم عذاب أليم).
إلى هنا انتهينا من تفسير الآيتين ، فلنذكر المقسم به ، وجواب القسم ، وما هي الصلة بينهما.
المقسم به
المقسم به في الآيتين هو لفظ الجلالة الذي جاء ذكره في القرآن الكريم حوالي 980 مرة.
وقد ذهب غير واحد من أصحاب المعاجم إلى أنّ أصله ، إله ، فحذفت همزته وأدخل عليه الاَلف واللام فخص بالباري تعالى ، قال تعالى :
( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ) (1).
ثمّإنّ (إله) إما من أله يأله فهو الاِله بمعنى المعبود ، أو من أله ـ بالكسر ـ أي تحير ، لتحير العقول في كنهه.
أقول : سيوافيك بأنّالاِله ليس بمعنى المعبود ، وأنّمن فسره به فقد فسره بلازم المعنى ، وعلى فرض ثبوته فلفظ الجلالة علم بالغلبة وليس فيه إشارة إلى هذه المعاني من العبادة والتحيّر ، وقد كان مستعملاً دائراً على الاَلسن قبل نزول القرآن تعرفه العرب في العصر الجاهلي ، يقول سبحانه :
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
--------------------
(1) مريم : 65.
الأقسام في القرآن
ـ 33 ـ
لَيَقُولُنَّ اللّه ) (1) .
فقد أشار بلفظ الجلالة إلى خالق السماوات والاَرض دون تبادر مفهوم العبادة أو التحير منه.
وممّا يدل على كونه علماً انّه يوصف بالاَسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الاَسماء من دون عكس ، فيقال اللّه الرحمن الرحيم ، أو يقال علم اللّه ورزق اللّه ، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها ، ولا يوَخذ منه ما يوصف به شيء منها ، وهذا يدل على أنّه علم وليس بوصف ، فيكون اسماً للذات الواجبة الوجود المستجمعة لجميع صفات الكمال ، ولهذا اللفظ في جميع الاَلسنة معادل كلفظة (خدا) في لغة الفرس و (حراً) في لغة الافرنج و (تاري) في لغة الترك (2).
جواب القسم
أمّا جواب القسم في الآية الاَُولى ، فهو عبارة عن قوله : ( لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .
كما أنّجوابه في الآية الثانية ، هو قوله : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ) .
فقد أقسم سبحانه في هاتين الآيتين بلفظ الجلالة لغاية التأكيد على أمرين :
أ : انّهم مسوَولون يوم القيامة عن افترائهم الكذب.
ب : انّه سبحانه لم يترك الخلق سدى بل أرسل إليهم رسلاً ، لكن الشيطان حال بينهم و بين أُممهم ، وتشهد على ذلك سيرة عاد و ثمود بل اليهود والنصارى والمجوس.
--------------------
(1) الزخرف : 87.
(2) انظر الميزان : 1|18.
الأقسام في القرآن
ـ 34 ـ
ما هي الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ؟
هذا هو المهم في أقسام القرآن ، وقد أُهمل في كثير من التفاسير ، ويمكن أن يقال : أمّا الآية الاَُولى ، فالقسم بلفظ الجلالة لاَجل أنّ المشركين كانوا يجعلون للّه نصيباً مما زرعوا من الحرث والاَنعام ، وكانوا يقولون : هذا للّه ، فناسب أن يقسم به لاَجل أنّه افتراء عظيم.
وأمّا الآية الثانية ، فلاَنّه جاء في ذيل جواب القسم ولاية الشيطان ، كما قال : (فهو وليّهم اليوم) وبما انّ الولاية للّه سبحانه كما قال تعالى : ( هنالِكَ الولايةُ للّهِ الحق ) (1) يس ناسب الحلف باللّه الذي هو الوليّ دونَ الشيطان ، كما عليه المشركون.
--------------------
(1) الكهف : 44.
الأقسام في القرآن
ـ 35 ـ
الفصل الثاني : القسم بالربِّ
أقسم سبحانه بلفظ (رب) بصور مختلفة :
تارة حلف به بلفظ (فلا وربك)
وأُخرى حلف به مقروناً بلفظ (لا ) وقال : (فلا أُقسم).
وثالثة حلف به بلفظ (فوربّك).
ورابعة بلفظ (بلى و ربّـي).
وخامسة بلفظ (اي وربي).
وسادسة بلفظ (فورب ّالسماء والاَرض).
وعلى أية حال فالمقسم به هو الرب ، وإليك الآيات :
1 ـ ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُوَْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً ) (1).
2 ـ ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب إِنّا لَقادِرُونَ * عَلى أَن ْنُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحنُ بِمَسْبُوقينَ ) (2).
3 ـ ( فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطين ) (3) .
--------------------
(1) النساء : 65.
(2) المعارج : 40 ـ 41.
(3) مريم : 68.
الأقسام في القرآن
ـ 36 ـ
4 ـ
( فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * عَمّا كانُوا يَعْمَلُون ) (1) .
5 ـ
( وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَربّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِم الْغَيب ) (2) .
6 ـ
( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْلَنْ يُبْعَثُوا قُلْبلى وَربّي لَتُبعثُنّ ثُمَّ لَتُنَبَّوَنَّ بما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير ) (3) .
7 ـ
( وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبّي انّهُ لحقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزين ) (4).
8 ـ
( فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالاََرْضِ إنّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنّكُمْتَنْطِقُون ) (5).
تفسير الآيات
تشير الآية الاَُولى إلى مقام من مقامات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فانّله ـ حسب ما دلّعليه الكتاب و السنة في إدارة رحى المجتمع ـ مقامات ثلاثة :
أ : السياسية وتدبير الاَُمور : يقول سبحانه :
( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الاََرْضِ أَقامُوا الصَّلاة وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللّهِ عاقِبَةُ الاَُمور ) (6) .
ويقول في حقّ النبي خاصة :
( النَّبِيُّ أَولَى بِالْمُوَْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (7) وليس الاَولى بالموَمنين من أنفسهم فضلاً عن أموالهم غير السائس الحاكم العام.
--------------------
(1) الحجر : 92 ـ 93.
(2) سبأ : 3.
(3) التغابن : 7.
(4) يونس : 53.
(5) الذاريات : 23.
(6) الحج : 41.
(7) الاَحزاب : 6.
الأقسام في القرآن
ـ 37 ـ
ب : القضاء وفضُّ الخصومات : يقول سبحانه في حقّداود : ( يا داوُدُ إِنّا جَعلْناكَ خَلِيفَةً فِي الاََرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ إِنّ الّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ بِما نَسُوا يَومَ الْحِساب ) (1) وفي حقّالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ ) (2).
ج : الاِفتاء وبيان الاَحكام : يقول سبحانه : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة ) (3)
وقد كان الرسول ـ بنص هذه الآيات ـ جامعاً لهذه المقامات الثلاثة فكان سائساً وحاكماً ، وقاضياً وفاضّاً للخصومات ، ومفتياً ومبيّناً للاَحكام.
ومن الواضح بمكان أنّ فضّ الخصومات لا يتحقق إلاّ بقضاء قاض مطاع رأيه ونافذ فصله ، وقد كان بعض المنتمين إلى الاِسلام لم يعيروا أهمية لقضائه ، فنزلت الآية تأمر أوّلاً بإطاعته وانّ كلّرسول واجب الطاعة ، يقول سبحانه : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاع بِإِذْنِ اللّه ) (4).
ثمّ تشير الآية التالية إلى أنّ الاِيمان لا يكتمل إلاّ بالانصياع والتسليم القلبي لما يقضي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فمن شهد الشهادتين وأذعن بهما ، ومع ذلك يجد في نفسه حرجاً في قضاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره فليس بموَمن ، يقول سبحانه : ( فَلا وَرَبّكَ لا يُوَْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً ) (5) .
فالآية تدل على أنّ الاِيمان لا يكتمل بنفس الاِذعان واليقين بالتوحيد والرسالة مالم ينضم إليه
--------------------
(1) ص : 26.
(2) المائدة : 42.
(3) النساء : 176.
(4) النساء : 64.
(5) النساء : 65.
الأقسام في القرآن
ـ 38 ـ
التسليم القلبي ، ولذلك ترى أنّأمير الموَمنين علياً (عليه السلام) يصف الاِسلام بالنحو التالي ، ويقول : ( لاَنسبنّ الاِسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الاِسلام هو التسليم ) (1) ) .
وتشير الآية الثانية إلى أنّه سبحانه قادر على أن يهلك المشركين ويأتي بقوم آخرين (خيراً منهم) ، من دون أن يكون مغلوباً ، قال : ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب إِنّا لَقادِرُونَ * عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحنُ بِمَسْبُوقينَ ) .
فجواب القسم قوله ( إِنّا لَقادِرُون ) وقوله ( وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقين ) عطف على جواب القسم ، والمراد بالسبق الغلبة ، أي وما نحن بمغلوبين ويمكن أن يكون السبق بمعناه والمراد : وما نحن بمسبوقين بفوت عقابنا إياهم فإنّهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا.
والتعبير بالمشارق والمغارب لاَجل أنّ للشمس في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقاً ومغرباً لا تعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة ، كما أنّه من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم ومغاربها.
ومن عجيب الاَمر أنّ في الآية على قصرها وجوهاً من الالتفات.
ففي قوله : ( فلا أُقْسِم ) التفات من التكلم مع الغير الوارد في قوله : ( إِنّا خَلَقْناكُمْ ) إلى التكلم وحده ، والوجه فيه تأكيد القسم باسناده إلى اللّه نفسه.
وفي قوله : ( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب ) التفات من التكلم وحده إلى الغيبة ، و الوجه فيه الاِشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلاً بعد جيل ، وهي ربوبيته للمشارق و المغارب ، فانّ الشروق بعد الشروق ، والغروب بعد الغروب ، يلازم مرور الزمان الذي له مدخلية تامّة في تكوّن الاِنسان
--------------------
(1) نهج البلاغة : قسم الحكم ، الحكمة 125.
الأقسام في القرآن
ـ 39 ـ
جيلاً بعد جيل وسائر الحوادث العرضية المقارنة له.
وفي قوله : ( إِنّا لَقادِرُون ) التفات (1) من الغيبة إلى التكلم مع الغير ، والوجه فيه الاِشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة ، وفي ذكر ربوبيته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة ، وهو أنّ الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها لا يعجزه شيء من الحوادث التي هي أفعاله ، عن شيء منها ، ولا يمنعه شيء من خلقه من أن يبدله بخير منه ، وإلاّ شاركه المانع في أمر التدبير ، واللّه سبحانه لا شريك له في أمر التدبير (2).
وأمّا الآية الثالثة : فلما ذكر سبحانه الوعد والوعيد والبعث والنشور أردفه بقول منكر البعث ورد عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان ، وقال : ( أوَ لا يَذْكُرُ الاِِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) (3) والمراد أو لا يذكر أنّ النشأة الاَُولى دليل على إمكان النشأة الثانية ، ثمّ أكده بقوله : (فوربك) يا محمد ( لنحشرنّهم والشياطين ) أي لنجمعنهم ولنبعثنهم من قبورهم مقرنين بأوليائهم من الشياطين.
وأمّا الآية الرابعة : فسياق الآية يندد بالمقتسمين ، ويقول : ( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمين ) (4) ثمّ يصفهم بقوله : ( الّذِينَ جَعَلُوا الْقُرآنَ عِضِين ) (5) والعضين
--------------------
(1) الالتفات في علم البيان عبارة عن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطابإلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم كما في قوله سبحانه : ( مالِكِ يَوم الدِّين * إِيّاكَ نَعْبُد ) وقوله سبحانه : ( حَتّى إِذا كُنْتُمْ في الفلك و جرين بهم ) وقوله سبحانه : ( وَاللّهُ الذي أَرسل الرياح فتثير سَحاباً فَسُقْناهُ ) ففي الآية الاَُولى عدول من الغيبة إلى الخطاب ، وفي الثانية من الخطاب إلى الغيبة ، وفي الثالثة من الغيبة إلى التكلم.
(2) الميزان : 20|22.
(3) مريم : 67.
(4) الحجر : 91.
(5) الحجر : 90.
الأقسام في القرآن
ـ 40 ـ
جمع عضّة والتعضية التفريق ، فهم الذين جزّأوا القرآن أجزاء فقالوا تارة : سحر ، وأُخرى : أساطير الاَوّلين ، وثالثة : مفترى ، وبذلك صدّوا الناس عن الدخول في دين اللّه ، وعلى ذلك يكون المراد من المقتسمين هم كفار قريش.
ويحتمل أن يكون المراد هم اليهود والنصارى الذين فرّقوا القرآن أجزاء وأبعاضاً ، وقالوا : نوَمن ببعض ونكفر ببعض.
وعلى أيّة حال الذين كانوا بصدد إطفاء نور القرآن بتبعيضه أبعاض ليصدوا عن سبيل اللّه فهوَلاء هم المقصودون ، ثمّ حلف سبحانه وقال : ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * عَمّا كانُوا يَعْمَلُون ) من تبعيض القرآن و صد الناس عن الاِيمان به.
وأمّا الآية الخامسة : فتذكر إنكار المشركين لاِتيان الساعة ويوم القيامة ، وهم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه سبحانه وعلمه بكلّ شيء.
وقد كان سبب إنكارهم هو زعمهم أنّ الاِنسان يبلى جسده بعد الموت وتختلط أجزاوَه بأجزاء أبدان أُخرى على نحو لا تتميز ، فكيف يمكن إعادته ؟ فأجاب سبحانه في الآية مشيراً إلى علمه الواسع ، ويقول : ( وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا الساعَةُ قُلْ بَلى وَرَبّي لتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الغَيْبِ لا يَعزبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ وَلا فِي الاََرْضِ ولا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ في كِتابٍ مُبين ) (1).
فقوله : ( لا تَأْتِينَا السّاعَة ) حكاية لقول المشركين.
وقوله : ( قل بلى وربّي ) أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجيبهم بأنّ إتيان الساعة أمر قطعي.
--------------------
(1) سبأ : 3.
الأقسام في القرآن
ـ 41 ـ
وأمّا ما تشكّكون به من اختلاط أجزاء الاَموات بعضها ببعض فهو أمر سهل أمام سعة علمه سبحانه بالغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الاَرض ، فهو يعلم بذرات بدن كلّإنسان ويميّزه عن غيره ، ومع علمه سبحانه فالاَجزاء ثابتة في كتاب مبين لا تتغير ولا تتبدل.
وأمّا الآية السادسة : يقول سبحانه : ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبّي لَتُبعَثُنّ ثُمْ لتُنَبَّوَُنّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير ) (1).
تشير الآية إلى إنكار الوثنيين الذين كانوا ينكرون البعث ، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاِجابة على إنكارهم بإثبات ما نفوه من الكلام مقروناً بأصناف التأكيد بالقسم واللام والنون وقال : ( وَرَبّي لَتُبعَثُنّ ثُمْ لتُنَبَّوَُنّّ ) .
وأشار في ذيل الآية إلى أنّ البعث أمر يسير عليه تعالى ، وانّما طرحوه من شبهات حول البعث فهي ـ في الواقع ـ شبهات لا تصمد أمام قدرة اللّه وعلمه الواسع.
وأمّا الآية السابعة : أعني قوله سبحانه : ( وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبّي إنّهُ لحقّ وما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين ) (2).
سياق الآية يوحي إلى أنّالمشركين كانوا يستخبرون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن نزول العذاب أو وقوع البعث ، فأمره سبحانه بأن يجيب موَكداً ، فقال : ( قُلْ إي وَرَبّي إنّهُ لحقّ ) وقد أكد الكلام بالقسم والجملة الاسمية ، و (انّ) المشبهة و (اللام ) ثم أشار إلى أنّ الكافرين لا يعجزونه سبحانه عمّا أراد ، وقال : ( وَما أَنْتُمْ بِمُعجِزين ) ، وفي سورة المعارج قال مكانه : ( وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقين ) .
--------------------
(1) التغابن : 7.
(2) يونس : 53.
الأقسام في القرآن
ـ 42 ـ
وأمّا الآية الثامنة : ( فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالاََرْضِ انّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنّكُمْ تَنْطِقُون ) (1).
فالضمير في قوله : (إنّه) يعود إلى الرزق والوعد الواردين في الآية المتقدّمة ، قال سبحانه : ( وَفِي السَّماءِ رِزْقكُمْ وَما تُوعَدُون ) والمراد من الوعد هو الجنة.
ثمّأشار ( انّه لحق ّمثل ما أنّكم تنطِقُون ) وكما أنّ العلم بهذا الاَمر ـ أي النطق ـ أمر ملموس لا شبهة فيه ، فهكذا الرزق والوعد من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.
حكى الزمخشري عن الاَصمعي قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له ، فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل عليّفتلوت (والذاريات) فلمّا بلغت قوله : ( وَفِي السَّماءِ رزْقكُمْ ) قال : (حسبك) ، فقام إلى ناقته ، فنحرها ووزّعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولّى ، فلما حججت مع الرشيد ، طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفتّ فإذا أنا بالاَعرابي قد نحل واصفرّفسلّم عليَّ و استقرأ السورة ، فلمّـا بلغت الآية ، صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقّاً ، ثمّ قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت : ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) فصاح ، وقال : يا سبحان اللّه من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجوَه إلى اليمين ، قالها ثلاثاً ، وخرجت معها نفسه (2).
إلى هنا تمّ تفسير الآيات التي أقسم فيها سبحانه بربوبيّته ، وإليك الكلام في المقسم به ، والمقسم عليه.
--------------------
(1) الذاريات : 23.
(2) الكشاف : 3|169.
الأقسام في القرآن
ـ 43 ـ
المقسم به
إنّ المقسم به في هذه الآيات الثمان هو الرب ، والربّ أصله من ربب ، يقول صاحب القاموس : ربّ كلّشيء مالكه ومستحقه وصاحبه ، يقال : ربّالاَمر أصلحه.
يقول ابن فارس : الرب ، المالك ، الخالق ، الصاحب ، و الرب المصلح للشيء ، يقال : ربّ فلان ضيعته ، إذا قام على إصلاحها.
والربّ المصلح للشيء ، واللّه جلّثناوَه ، الرب لاَنّه مصلح أحوال خلقه ، والراب الذي يقوم على أمر الربيب.
هذه الكلمات ونظائرها مبثوثة في كتب القواميس واللغة ، وهي ظاهرة في أنّ للرب معاني مختلفة ، حتى أنّالكاتب المودودي تصوّر أنّ لهذه اللفظة خمسة معان ، وذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن ، ولكن الحقّ أنّه ليس لتلك اللفظة إلاّ معنى واحد والجميع مصاديق متعددة لهذا المعنى أو صور مبسطة للمعنى الواحد ، وإليك هذه الموارد والمصاديق :
1 ـ التربية : مثل رب الولد ، رباه.
2 ـ الاِصلاح والرعاية : مثل رب الضيعة.
3 ـ الحكومة والسياسة : مثل فلان قد ربّ قومه ، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.
4 ـ المالك : كما جاء في الخبر ، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرب غنم أم رب إبل.
5 ـ الصاحب : مثل قوله : رب الدار ، أو كما يقول القرآن الكريم : ( فَلْيَعْبُدُوا رَبّهَذا الْبَيْت ) (1).
--------------------
(1) قريش : 3.
الأقسام في القرآن
ـ 44 ـ
لا ريب انّهذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد ، ولكن جميعها ترجع إلى أصل واحد وهو من فوض إليه أمر الشيء المربوب ، فلو قيل لصاحب الدار ومالكها ربّ الدار ، فلاَنّ أمرها مفوض إليه ، ولو أطلق على المصلح و السائس ، فلاَنّ بيد هوَلاء أمر التدبير والاِدارة والتصرف ، فلو قال يوسف في حقّ عزيز مصر : ( إِنَّهُ رَبِّي أَحسَنَ مَثْواي ) (1) ، فلاَجل انّ يوسف نشأ في إحضانه وقام بشوَونه.
ولو وصف القرآن اليهود والنصارى بأنّهم اتخذوا أحبارهم أرباباً ، وقال : ( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (2) ، فلاَجل انّهم تسلّموا زمام سلطة التشريع وتصرّفوا في الاَموال والاَعراض كيفما شاءُوا.
إنّه سبحان وصف نفسه ، بقوله : ( ربُّ السَّماواتِ والاََرْض ) (3) وقال أيضاً : ( رَبّ الشعرى ) (4) كلّ ذلك لانّه تعالى مدبرها ومديرها ومصلح شوَونها والقائم عليها.
وهذا البيان يكشف النقاب عن المعنى الحقيقي للرب ، وهو المعنى الجامع بين هذه الموارد ، أعني : من فوِّض إليه أمر الشيء من حيث الخلق و التدبير والتربية ، وبذلك يعلم ما في كلام ابن فارس من تفسيره بالخالق ، فانّه خلط بين المعنى ولازمه فالخالق ليس من معاني الرب.
نعم خالق كلّ شيء يعدّ مربياً ومدبراً.
وثمة نكتة جديرة بالاهتمام ، وهي : أنّ الوهابيين قسَّموا التوحيد إلى
--------------------
(1) يوسف : 23.
(2) التوبة : 31.
(3) الرعد : 16.
(4) النجم : 49.
الأقسام في القرآن
ـ 45 ـ
التوحيد في الربوبية والتوحيد في الالوهية ، وفسَّروا الاَوّل بالتوحيد في الخالقية ، بمعنى الاعتقاد بأنّ للكون خالقاً واحداً ، و فسروا الثاني بالتوحيد في العبادة ، بمعنى أنّه ليس في الكون إلاّ معبود واحد ، ولكنّهم اخطأوا في كلا الاصطلاحين.
أمّا الاَوّل : فلاَنّ التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية ، فانّ الخالقية شيء والتدبير والاِصلاح شيء آخر ، واللّه سبحانه وإن كان خالقاً ومدبراً لكنّه لا يكون دليلاً على وحدة المفهومين في الخارج.
فالعرب في عصر الجاهلية كانوا موحدين في الخالقية ، وكان منطق الجميع ، ما حكاه سبحانه بقوله : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلقَ السَّماواتِ وَالاََرضَ ليقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ العَلِيم ) (1).
وفي الوقت نفسه لم يكونوا موحدين في الربوبية ، يقول سبحانه : ( وَاتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (2) فكانوا يعتقدون بأنّ العزّة والتدبير من شوَون المدبر ، قال سبحانه : ( واتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُون ) (3).
فكانوا يرون أنّ النصر بيد الاِلهة ، خلافاً للموحد في أمر التدبير ، فهو يرى أنّ العزّة والنصر بيد اللّه سبحانه : قال تعالى : ( فَلِلّهِ العِزَّةُ جَميعاً ) (4) وقال تعالى : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيز الْحَكيم ) (5) إلى غير ذلك من الآيات الحاكية عن توغّلهم في الشرك في أمر التدبير.
--------------------
(1) الزخرف : 9.
(2) مريم : 81.
(3) يس : 74.
(4) فاطر : 10.
(5) آل عمران : 126.
الأقسام في القرآن
ـ 46 ـ
وأمّا الثاني : فلاَنّ التوحيد في الالوهية غير العبادة ، فهو مبني على أنّ الاِله بمعنى المعبود ، والعبادة من لوازم الاِله.
ولكنّه بعيد عن الصواب ، لاَنّ ما يتبادر من لفظ الجلالة هو المتبادر من لفظ الاِله ، غير أنّ الاَوّل جزئي موضوع لفرد واحد ، والثاني كلي وإن لم يوجد له مصداق آخر.
والذي يدل على أنّ الاِله ليس بمعنى المعبود هو أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الاِله على وجه الكلية والوصفيّة دون العلمية ، فيصحّ وضع أحدهما مكان الآخر ، كما في قوله سبحانه : ( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الاََرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْركُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُون ) (1).
فإنّ وزان هذه الآية وزان ، قوله سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وِفِي الاََرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكيمُ الْعَليم ) (2) .
( ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنَّما اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكونَ لَهُ وَلَد ) (3) .
( هُوَ اللّهُ الَّذِي لاإِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ الْمُوَْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللّهُ الْخالِقُ البارِىَُ الْمُصَوّرُ لَهُ الاََسماءُالْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالاََرضِ وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيم ) (4) .
ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف
--------------------
(1) الاَنعام : 3.
(2) الزخرف : 84.
(3) النساء : 171.
(4) الحشر :23 ـ 24.
الأقسام في القرآن
ـ 47 ـ
الاِله على وجه الكلية ( أي ما معناه أنّه هو الاِله الذي يتصف بكذا وكذا ).
ويقرب من الآية الاَُولى ، قوله سبحانه : ( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الاََسْماءُ الْحُسْنى ) (1) .
فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الاَسماء ، والاَمر بدعوة أيٍّ منها ، ربما يشعر بخلوّه عن معنى العلمية ، وتضمنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ : (الاِله) وغيره ، ومثله قوله سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الْخالِقُ البارِىَُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاََسْماءُ الْحُسْنى ) (2) .
فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلية لا العلمية الجزئية ، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.
المقسم عليه
إنّ المقسم عليه عبارة عن جواب القسم ، وهو في تلك الآيات كالتالي :
أ : الدعوة إلى تحكيم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتسليم أمام قضائه ، ( لا يُوَْمِنُون َحَتّى يُحكّموك ... ) .
ب : التأكيد على قدرته سبحانه على أن يأتي بخير منهم : ( انّا لَقادِرُون عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً ... ) .
ج : التأكيد على حشرهم وحشر الشياطين : ( لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطين ) .
د : التأكيد على أنّهم مسوَولون يوم القيامة عن أعمالهم ( لنسئَلنّهم
--------------------
(1) الاِسراء : 110.
(2) الحشر : 24.
الأقسام في القرآن
ـ 48 ـ
أَجْمَعين ... ) .
هـ : التأكيد على إتيان الساعة : ( لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغَيب ... ) .
و : التأكيد على بعثهم وآبائهم : ( لتبعثن ثمّ لتنبوَنّ ... ) .
ز : التأكيد على وقوع البعث : ( انّه لحقّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزين ... ) .
ح : التأكيد على أنّ أمر الرزق وما توعدون من الجزاء حقّ : ( انّه لحقّمثلَ ما أَنْتُمْ تَنْطِقُون ... ) .
الصلة بين المقسم به والمقسم عليه
الصلة بينهما واضحة ، فانّ المقسم عليه في هذه الآيات ، كان يدور حول أحد أمرين :
أ : الدعوة إلى التحكيم إلى النبي والتسليم أمام قضائه.
ب : كون البعث والحشر والسوَال عن الاَعمال ، أمراً حقّاً.
ومن الواضح أنّ كلا الاَمرين من شوَون الربوبية ، فإنّ الربّ إذا كان سائساً ومدبراً فهو أعلم بصلاح المدبر فيجب أن يكون مسلماً لاَمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ونهيه.
كما أنّحياة المربوب من شوَون الرب دون فرق بين آجله وعاجله ، فناسب الحلف بالرب عند الدعوة إلى الحشر و النشر .
وبعبارة أُخرى : كان المشركون ينكرون التسليم أمام أمره ونهيه ، كما كانوا ينكرون البعث والنشر ، ولما كان الجميع من شوَون الربوبية حلف بالرب تأكيداً لربوبيته.
الأقسام في القرآن
ـ 49 ـ
ثمّإنّ المقسم به فيما مضى من الآيات هو لفظ الجلالة أو لفظ الرب ، المشيرين إلى الواجب الجامع لجميع صفات الكمال والجمال.
وثمة آيات ربما يستظهر منها أنّالمقسم به هو سبحانه تبارك وتعالى لكن بلفظ مبهم كـ (ما) الموصولة ، وقد جاء في آيات أربع :
1 ـ ( وَالسَّماءِ وَما بَناها ) .
2 ـ ( وَالاََرْضِ وما طَحيها ) .
3 ـ ( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها ) (1).
4 ـ ( وما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاَُنثى ) (2).
وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير لفظة (ما) ، فالاَكثرون على أنّها (ما) موصولة كناية عن اللّه سبحانه ، وكأنّه سبحانه يقول : والسماء والذي بناها ، والاَرض والذي طحاها ، ونفس والذي سواها ، والواو للقسم.
وهناك من يذهب إلى أنّها (ما) مصدرية ، وكأنّه يقول : أُقسم بالسماء وبنائها ، والاَرض وطحائها ، والنفس وتسويتها.
ولكن الرأي الاَوّل هو الاَقرب لاَنّ سياق الآية يوَيد ذلك ، لاَنّه سبحانه يقول : ( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (3) فالفاعل هو الضمير المستتر الراجع إلى (ما) الموصولة الواردة في الآيات الثلاث المتقدمة ، والذي يصلح للفاعلية هو الموصول من (ما) لا المصدر ، وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحلف بما ورد في هذه الآيات.
--------------------
(1) الشمس : 5 ـ 7.
(2) الليل : 3.
(3) الشمس : 8.
الأقسام في القرآن
ـ 50 ـ
الفصل الثالث : القسم بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
حلف القرآن الكريم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرَّتين ، فتارة بعمره وحياته ، وأُخرى بوصفه وكونه شاهداً ، ويقع البحث في مقامين :
المقام الاَوّل : الحلف بعمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
حلف سبحانه بحياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة واحدة ، وقال حينما عرض قصة لوط : ( قالَ هوَلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلين * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِين )(1).
تفسير الآيات
أخبر سبحانه في هذه السورة أنّ الملائكة لمّا خرجوا من عند إبراهيم أتوا لوطاً يبشرونه بهلاك قومه ، ولمّا حلّوا ضيوفاً عند لوط فرح الفجّار بورودهم ، فقال لهم لوط مشيراً إلى بناته ( انّ هوَلاء بناتي ) ( فتزوجوهنّ إن كنتم فاعلين وكانت لكم رغبة في التزويج ، ولكن قوم لوط أعرضوا عمّا اقترح عليهم نبيّهم لوط وكانوا مصرّين على الفجور بهم ، غافلين عن أنّ العذاب سيصيبهم واللّه سبحانه يحلف بحياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويقول : ( لعمركَ انَّهُمْ لَفي
--------------------
(1) الحجر : 71 ـ 73.
الأقسام في القرآن
ـ 51 ـ
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون ) فلا يبصرون طريق الرشد (فَأَخذتهُم الصَّيحة) أي الصوت الهائل (مشرقين) أي في حال شروق الشمس.
المقسم به
المقسم به هو عبارة عن العمر ، أعني في قوله : (لعمرك) يقول الراغب : العَمر والعُمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة ، فإذا قيل طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه ، إلى أن قال : والعَمر والعُمر واحد لكن خصَّ القسم بالعَمر دون العُمر ، كقوله سبحانه : ( لَعَمْرُكَ انَّهُمْ لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون ) .
وأما العُمُر فكما في قوله سبحانه : ( فطالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُر ) ، وفي آية أُخرى : ( لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُركَ سِنين ) .
فاللفظان بمعنى واحد لكن يختص القسم بواحد منهما (1) .
المقسم عليه
هو قوله : ( انَّهُمْ لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون ) ، والمراد أقسم بحياتك وبقائك يا محمد ، انّهم لفي سكرتهم وانغمارهم في الفحشاء والمنكر متحيرين لا يبصرون طريق الرشد.
وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه.
قال ابن عباس : ما خلق اللّه عزّوجلّ وماذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمد ، وما سمعت اللّه أقسم بحياة أحد إلاّ بحياته فقال لعمرك (2) .
--------------------
(1) المفردات : 347 ، مادة عمَر.
(2) مجمع البيان : 3|342 .
الأقسام في القرآن
ـ 52 ـ
وجه الصلة أنّه سبحانه بعث الاَنبياء عامة ، والنبي الخاتم خاصة لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة وإيقاظهم من السكرة التي تعمُّ الناس ، وبما أنّ القوم كانوا في سكرتهم يعمهون وفي ضلالتهم مستمرون ، حلف سبحانه تبارك وتعالى بعمر النبي الذي هو مصباح الهداية والدليل إلى الصراط المستقيم.
المقام الثاني : الحلف بوصف النبي وأنّه شاهد حلف القرآن الكريم في سورة البروج بالشاهد والمشهود ، وقال : ( وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُروج * وَالْيَومِ المَوعُودِ * وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصحابُ الاَُخدُود ) (1) .
أمّا المشهود فسيوافيك في فصل القسم في سورة القيامة انّ المراد منه يوم القيامة بشهادة ، قوله سبحانه : ( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) (2)
إنّما الكلام في الشاهد ، فالمراد منه هو النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادة أنّه سبحانه وصفه بهذا الوصف ثلاث مرّات ، وقال : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (3) .
( انّاأَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ ) (4) .
( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (5) .
والآيات صريحة في حقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي بعض
--------------------
(1) البروج : 1 ـ 4.
(2) هود : 103.
(3) الاَحزاب : 45.
(4) المزمل : 15.
(5) الفتح : 8.
الأقسام في القرآن
ـ 53 ـ
الآيات عرّفه بأنّه (شهيداً) ، ويقول : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (1).
( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هوَلاء ) (2).
هذه الآيات تعرب عن أنّ المقسم به هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما انّه شاهد على أعمال أُمّته وشهيداً عليها.
سئل الحسن بن علي (عليهما السلام) عن معنى الشاهد والمشهود في قوله سبحانه : ( وشاهدٍ وَمَشْهُود ) ؟ فقال : أمّا الشاهد فمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته يقول : ( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً ) ، وقال تعالى : ( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) (3).
معنى الشهادة وكيفية شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أمّا الشهادة فقد فسرها الراغب وقال : الشهود والشهادة ، الحضور مع المشاهدة امّا بالبصر أو بالبصيرة ، وقد يقال للحضور مفرداً عالم (الغيب والشهادة) وقد نقل القرآن شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قومه يوم القيامة ، فقال : ( يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآنَ مَهْجُوراً ) (4).
هذه حقيقة قرآنية في حقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره ولا
--------------------
(1) البقرة : 143.
(2) النحل : 89.
(3) البحار : 1|13.
(4) الفرقان : 30.
الأقسام في القرآن
ـ 54 ـ
يمكن إنكارها للتصريح بها في غير واحد من الآيات ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هوَُلاءِ شَهيداً ) (1).
وقال تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُوَذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُون ) (2) .
وقال عزّ اسمه : ( وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداء ) (3).
والشهادة فيها مطلقة ، وظاهر الجميع ـ على إطلاقها ـ هو الشهادة على اعمال الاَُمم ، وعلى تبليغ الرسل كما يومىَ إليه ، قوله تعالى : ( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرسَلين ) (4).
وظرف الشهادة وإن كان هو الآخرة لكن الشهداء يتحملوها في الدنيا ، قال سبحانه : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد ) (5).
وعلى ضوء ذلك يثار هذا السوَال في الذهن ، وهو : إنّ الشهادة من الحضور ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهراً مع جميع الاَُمة بل كان بمعزل عنهم إلاّ شيئاً لا يذكر ، فكيف يشهد وهولم يحضر الواقعة أي أفعال أُمّته قاطبة ؟
وهناك إشكال آخر أكثر غموضاً وهو : انّ الشهادة على ظاهر الاَعمال ليست مفيدة يوم القيامة ، بل الشهادة على باطن الاَعمال من كون الصلاة للّه أو للرياء
--------------------
(1) النساء : 41.
(2) النحل : 84.
(3) الزمر : 69.
(4) الاَعراف : 6.
(5) المائدة : 117.
الأقسام في القرآن
ـ 55 ـ
وللسمعة ، وانّ إيمانه هل كان إيماناً نابعاً من صميم ذاته ، أو نفاقاً لاَجل حطام الدنيا ، فهذا النوع من الاَعمال لا يمكن الشهادة عليها حتى بنفس الحضور عند المشهود عليه ؟
وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ لشهداء الاَعمال عامة والنبي الخاتم خاصة قدرة غيبية خارقة يطّلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها وذلك بقدرة من اللّه سبحانه ، وعلى ذلك فهذه الشهادة عبارة عن الاطلاع على أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء ، وانقياد وتمرّد ، وإيمان وكفر ، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد اللّه من كلّ شيء حتى من أعضاء الاِنسان ، وعند ذلك يقوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول : ( يا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآن مَهْجُوراً ) .
فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى فلا ينالها إلاّ الاَمثل فالاَمثل من الاَُمّة ، لا الاَُمة بأسرها ، وعلى ضوء ذلك فيكون المراد من قوله سبحانه : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً ) (1) هم الكاملين من الاَُمّة لا المتوسطين وما دونهم.
وأمّا نسبة الشهادة إلى قاطبة أُمّة النبي ، في قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسطاً ) فليس بشيء بديع ، إذ ربّما يكون الوصف لبعض الاَُمّة وينسب الحكم إلى جميعهم ، كما في قوله سبحانه في حقّ بني إسرائيل : ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) على الرغم من أنّ الملوك فيهم لم يكن يتجاوز عددهم عدد الاَصابع.
وثمة حديث منقول عن الاِمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى : ( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً ) يوَيد هذا
--------------------
(1) البقرة : 143.