ج - النموذج الثالث: طلب الحق والشهادة في سبيله كان لا بد من المرور بذكر ابن الزبير لأن ذكر النقائض يعين على كشف الحقائق ، فلم يكن الحسين إمام الحق ، وارث النبي وعلى ، على شاكله هؤلاء ممن يبحثون عن سلطان او جاه وإنما كان هدفه انقاذ الدين وأعلاء كلمة الحق .
لم تكن حقبة إمامه الحسين ، ( عليه السلام ) ، في مكة ، فترة راكدة ، ومن الواضح انها كانت حافلة بالحوارات بين وجوه الأمة الذين جمعهم موسم الحج ومحاولة اللحاق بأبي عبد اللّه الحسين ( عليه السلام ) ، وثنيه عن مسيرة المزمع الى العراق وان تناقضت الدوافع .
ومن ناحية اخرى مثل خروج الحسين ( عليه السلام ) الى مكة وآباءه البيعة بارقة امل لمن يرغبون في التخلص من بني امية والسير خلف راية اهل البيت ( عليهم السلام ) ، فأجتمعوا في الكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فذكروا هلاك معاوية فحمدوا اللّه وأثنوا عليه ، وقال سليمان بن صرد : ان معاوية قد هلك وان حسيناً لم يبايع يزيد وقد خرج الى مكة وأنتم شيعته وشيعة ابيه ، فإن كنتم تعلمون انكم ناصروه ومجاهدو عدوه ونقتل انفسنا دونه فأكتبوا اليه وأعلموه ، وان خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل فسأل نفسه ، قالوا : لا بل نقاتل عدوه ونقتل انفسنا دونه ، قال : فأكتبوا اليه .
5 - اكتمال عناصر التحرك :
كتب اهل الكوفة الى الحسين ( عليه السلام ) يقولون : ليس علينا إمام ، فأقبل لعل اللّه ان يجمعنا بك على الحق ، وتوالت الكتب تحمل التوقيعات تدعوه الى المجيء لاستلام البيعة وقيادة الامة في حركتها في مواجهة طواغيت بني امية ، وهكذا اكتملت العناصر الاساسية للحركة الحسينية ، وهي :
على خطى الحسين عليه السلام
_ 56 _
أ - وجود قياده شرعية تمثل التصور الحقيقي للأسلام ، وهي قيادي ابي عبد اللّه الحسين .
ب - وجود الظروف الداعية الى حمل لواء التغيير ، وتتمثل في تمادي الفساد الأموي ورغبته في مصادرة ارادة الأمة مرة واحدة والى الأبد في شكل مبايعة يزيد (القرود) .
ج - وجود ارادة جماهيرية تطلب التغيير وتستحث الإمام الحسين للمبادرة الى قيادة الحركة وكان موقع هذه الارادة في الكوفة ، تمثلت في رسائل البيعة القادمة من اهلها .
وهكذا لم يكن بوسع ابي عبد اللّه الحسين ان يقف من هذه الأمور كلها موقف المتفرج الهارب بنفسه من ساحه الوغى او (الفار بدينه ) الى ساحات الاعتزال والانعزال ، وهي جميعها اشكال مختلفه من الهروب والتهرب من تحمل المسؤولية ، وهو مسلك فضلا عن ضررة البليغ على الواقع الراهن في تلك اللحظة يعطي المبرر لكل من تعرض لهذه الظروف او ما شابهها ان يهرب بنفسه وينجو بشحمه ولحمه حتى يستوفي الاجل المحتوم ، ويبقى في وجدان الأمة رمزاً من رموز الكهنوت الهارب من مواجهة الشيطان في ارض الواقع واللائذ بالنصوص والتبريرات .
كان بوسع الحسين ، ( عليه السلام ) ، ان يفعل مثلما فعل ابن عمر فيبايع بيعة المضطر ليزيد ، ونضيف الى لائحة الروايات التبريرية التي رواها الرجل على لسانه او على لسان النبي الاكرم عدة نصوص أخرى ربما كانت تحتل مكانا ابرز من نصوص ابن عمرو كان البخاري ومسلم سيحتفلان بها، فها هو ابن الرسول وعلي وفاطمة يوجب السمع والطاعة ليزيد القرود ويدعو الى توحيد الجماعة صفا واحدا خلف حفيد آكله الاكباد وحفيد ابي سفيان عدو اللّه ورسوله حتى آخر نفس ، ولو كان فعل هذا وحاشاه لاستشهد به الآفاقون والمنافقون والمخادعون في كل موقف يرون فيه ضرورة اسناد حزب الشيطان ومنعه من الانهيار ، ولما قال احد : ثار الحسين رافضا الظلم واستشهد في سبيل اللّه ، ولماتت هذه الامة الى نهاية الدهر .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 57_
6 - الهجرة الثانية : من مكة الى الكوفة :
جاءت الرسل الى ابي عبد اللّه تدعوه الى المجيء ، وأجاب الإمام بأرسال مسلم بن عقيل بن ابي طالب ، وكان من امره ( رضوان اللّه عليه ) ما كان ، حيث استشهد حميداً سعيداً وأرسل الإمام الرسل الى اهل البصرة والكوفة يدعوهم الى الاجتماع معه والى تأييده ، ثم خرج ( عليه السلام ) من مكة بأتجاه العراق ، وحاولت السلطة الأموية الغاصبة منعه وإبقاءه في مكة ، فأمتنع الحسين وصحبه ومضي على وجهه ونادوه يا حسين الا تتقي اللّه ؟ تخرج من الجماعة وتفرق بين هذه الامة ؟ ، فتلا ( عليه السلام ) قوله تعالى : ( وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) .
ثم خطب خطبة بليغه تبين انه ، ( عليه السلام ) ، كان متيقناً من قدره ، راغباً فيه وهو الشهادة فقال : ( الحمد للّه وما شاء اللّه ، ولا قوة الا باللّه ، وصلى اللّه على رسوله ، فخط الموت على ولد آدم فخط القلادة على جيد الفتاة ، وما اولهني الى اسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف ، وخير لى مصرع انا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملان مني اكراشاً جوفاً وأجربه سغباً ، لا محيص عن يوم خط بالقلم ، رضي اللّه رضانا اهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا اجر الصابرين ، لن تشد عن رسول اللّه لحمته وهي مجموعه له في حظيرة القدس تقر بهم عينه وينجز لهم وعده ، ومن كان باذلاًَ فينا مهجته وموطناً على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا فأننى راحل مصبحاً ان شاء اللّه تعالى ) .
جاء الناصحون ، من كل اتجاه ، يقدمون للإمام ما يرون انه الرويه الصائبة ، منهم من ينصح له بعدم الخروج ، ومنهم من ينصحه بالامتناع بالحرم المكي ، مثل محمد بن الحنفية ، فأجابه الحسين ( عليه السلام ) : ( يا أخي ، اخشى ان يقاتلني اجناد بني امية في حرم مكة ، فأكون كالذي يستباح حرمة في حرم اللّه ، فقال محمد : يا أخي فسر الى اليمن او الى بعض النواحي فانك امنع الناس ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : يا أخي لو كنت في حجر هامة من هوام الارض لاستخرجوني منه حتى يقتلوني ، ثم قال له : يا أخي سأنظر في ما قلت ، فلما كان وقت السحر عزم الحسين على الرحيل الى العراق ، فجاءه اخوة محمد وأخذ بزمام ناقته التى هو راكبها وقال : يا أخي الم تعدني النظر في ما اشرت به عليك ؟ .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 58_
قال : بلى ، قال : فما حداك على الخروج عاجلا ؟ ، فقال (عليه السلام ) : يا أخي ان جدي رسول اللّه أتاني بعدما فارقتك وانا نائم فضمني الى صدره وقبل ما بين عيني وقال لي : يا حسين يا قرة عيني ، اخرج الى العراق ، فإن اللّه قد شاء ان يراك قتيلاً مخضباً بدمائك .
فبكي محمد بن الحنفية بكاء شديداً ، وقال له : يا اخي ، اذا كان الحال كذا فما معنى حملك هؤلاء النسوان ، وانت ماض الى القتل ، فقال (عليه السلام ) : يا أخي قد قال جدي ايضاً : ان اللّه قد شاء ان يرى نسوتك سبايا مهتكات يسقن في اسر الذل ، وهن ايضاً لا يفارقنني ما دمت حياً ، فلما اصر محمد على المنع والأنصراف عن الخروج قال الإمام ( عليه السلام ) :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى اذا ما نوى حقا وجاهد مسلماً وواسي الرجال الصالحين بنفسه وفارق مذموماً وخالف مجرماً ويروي :
وآسنى الرجال الصالحين بنفسه وفارق خوفاً ان يعيش ويرغما ويروي :
فإن مت لم اندم وان عشت لم الم كفى بك موتاً ان تذل وترغما فإن عشت لم اذمم وان مت لم الم كفى بك ذلاً ان تعيش وتندما ثم تلا ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ) .
لقد كان الحسين ، ( عليه السلام ) ، طالب حق وشهادة لا طالب امارة كما عنون ابن كثير في تاريخه قائلاً : ( خروج الحسين طالباً للامارة ) ، والحق اعلى واجل من الامرة وان كل ما رويناه يخبرنا ان خروج الحسين لم يكن متوقفا على اراده الجماهير ومطالبتها له ، بل كان ناشئا عن الأمر الآلهي ، انه الأمر نفسه الذي بعث بمقتضاه رسول اللّه للناس بشيراً ونذيراً ، وبعهد من رسول اللّه كانت الوصية والإمامة في آل بيت النبوة ، وبعهد من اللّه ورسوله الى ائمة آل البيت سواء الذين تحركوا ام من لم يتحرك ، كانت حركاتهم وسكناتهم ، كان الحق غايتهم وكانت بلورته وتحديد معالمه هى مهمتهم سلام اللّه عليهم ولذا كانت الأمة يومها والى يومنا هذا في حاجة الى تلك الحركة الحسينية ليهلك من هلك عن بينه ويحيا من حيا بقي عن بينه ، ولم يكن الحسين ( عليه السلام ) بحاجة الى حركه الأمة بل كانت الأمة هي المحتاجة ، ولذا حمل الحسين ( الأمة ) النساء والاطفال حتى تكون الجريمة الأموية كاملة وحتى يحمل الراضون الوزر الكامل من يومها الى يومنا هذا ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 59_
وهكذا استكملت الحركة الحسينية معالمها وبنو أمية يحاولون الحيلولة بين الحسين (عليه السلام ) وبين اختياره لموقع المواجهة ، فلما احس والى مكه ان الحسين قد خرج بعث اليه كتابا بالامان حمله عبد اللّه بن جعفر ويحيى بن سعيد يمنيه بالامان والصله والبر وحسن الجوار ويعيذه من الشقاق والخلاف والهلاك ، فرد ( عليه السلام ) بقوله : (اما بعد ، فإنه لم يشاقق اللّه ورسوله من دعا الى اللّه ( عز وجل ) وعمل صالحاً وقال : أنني من المسلمين وقد دعوتني الى الامان والبر والصلة فخير الامان امان اللّه ، ولن يؤمن اللّه ، من لم يخف من الدنيا ، فنسأل اللّه مخافته في الدنيا توجب لنا امانة يوم القيامة ، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبرى فجزيت خيرا في الدنيا والآخرة والسلام ) .
عن اي امان يتحدث هؤلاء المخادعون المنافقون ، الم يبعث يزيد القرود بالأمس الى واليه على المدينة يخير الحسين بين البيعه والقتل ، حتى اضطر ( عليه السلام ) الى الخروج ليلا وهو يقرأ ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ) ، فأي امان هذا ؟ اهو تأجيل لتنفيذ القرار حتى تأتي الفرصة المناسبة وتتم العملية بهدوء وسلامة ؟ اغتيالاً او سماً ، كما اخبر به اخاه محمداً بن الحنفية : ( اخشى ان يقاتلني اجناد بني امية في حرم مكة ، فأكون كالذي يستباح دمه في حرم اللّه ، يا اخي لو كنت في حجر هامة من هوام الارض لاستخرجوني منه حتى يقتلوني ) .
لقد كان خروج الحسين ( من مكة ) قراراً مدروساً قائماً على معلومات موثوقة ومؤكدة عن النوايا الحقيقية لبني امية ولسوابقهم التى لم تكن قد اضحت يومها تاريخية في قتل خصومهم اغتيالاً بالسم او بغيره ، ولذا كان قرار الخروج (من) مكة (الى) ارض كربلاء لا الى اي مكان آخر ، لا الى اليمن ولا الى اي ارض اخرى ، ثم هو في لقائه مع الفرزدق يؤكد هذا المعنى ، ولا يسعنا الا تصديق ما جاء على لسان الحسين ، فقد التقي الفرزدق الشاعر بقافله الحسين فسلم عليه وقال له :
(بأبي انت وأمي ، يا ابن رسول اللّه ، وما اعجلك عن الحج ؟ ، فقال : لو لم اعجل لأخذت ) ، وهذا كلام واضح لا لبس فيه ولا التواء ، ثم سأله ابو عبد اللّه عن الناس فقال : ( قلوبهم معك وأسيافهم عليك والأمر ينزل من السماء واللّه يفعل ما يشاء ) . فقال ( عليه السلام ) :
(صدقت ، للّه الامر وكل يوم هو في شأن ، فإن نزل القضاء بما نحب ونرضي فنحمد اللّه على نعمائه وهو المستعان على اداء الشكر ، وان حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحق نيته والتقوى سريرته )
.
على خطى الحسين عليه السلام
_ 60_
ويبقى اخذ الحسين لنسائه وبنات النبوة والرسالة موضعاً للاستفهام والتساؤل الناشىء من قله فهمنا وادراكنا لوظيفة اهل البيت وطبيعة مهمتهم في حفظ الرساله الإسلامية ، فها هو التاريخ يحكي لنا بعض نماذج الزهادة لأشخاص خالفوا نهج اهل البيت ( عليهم السلام ) بل وحاربوه ، ويصعب علينا تحقيق كل هذه الروايات اثباتا ً او نفياً ، ولكن التاريخ البشري كله لم يحدثنا عن قائد يحمل امانة الحفاظ على منهج يحمل معه كل هذا الكم من القرابين من اهل بيته الطاهرين ومن فلذات كبده بل وحتى نساءه وحرماته ، التاريخ يحكي لنا آلاف النماذج عن قتلى وشهداء من اجل فكره او مذهب ، لكن لم يحك لنا عن النموذج الحسيني لقافلة تحمل حرمات رسول اللّه وبنات الرساله يودين واجبهن في التضحية والفداء .
بعض الباحثين يرد على انصار نهج آل البيت متسائلاً : بأي ميزة فضل هولاء ؟ ويقول : انهم ليسوا افضل من غيرهم ، ويقتطف عبارات ياخذها بعيداً عن سياقها مثل قوله : ( يا فاطمه بنت محمد اعملي ، لا اغني عنك من اللّه شيئاً ، ويرد انصار اهل البيت بما ورد من آيات وأحاديث ، ولكن في ظني ان اكبر رد على هؤلاء هو موقف آل بيت النبوة في يوم عاشوراء ، حيث ضرب الجميع اروع الامثال على ان فضل آل البيت على من عداهم كان فضل عمل لا شرف بلا عمل ، ليس آل البيت في حاجة الى اكاذيب تعلي شأنهم بأنهم اول من يعمل وأول من يلبي وأول من يستشهد ، واللّه لقد ذهب فضلهم ونورهم بكل من عداهم ، وهكذا فإن مقالة ابي عبد اللّه حاكياً عن رسول اللّه :
(قد قال جدي رسول اللّه ، ان اللّه قد شاء ان يرى نسوتك سبايا مهتكات يسقن في اسر الذل ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 61_
7 - في الطريق الى كربلاء :
ثم تحرك ( عليه السلام ) ، فلقي رجلاً في الرهيمة يدعي ابا هرم فقال له :
( يا ابن النبي ، ما الذي اخرجك من المدينة ؟ ، فقال له الحسين (عليه السلام ) : شتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا مالي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وايم اللّه لتقتلني الفئه الباغية ثم ليلبسنهم اللّه ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً وليسلطن اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا اذل من قوم سباً ، اذ ملكتهم امراه فحكمت في اموالهم ودمائهم ) .
وفي الطريق الى العراق ، جاءه نعى مسلم بن عقيل وهاني بن عروة فنظر الى بني عقيل فقال : ( ما ترون فقد قتل مسلم ؟ ، فقالوا : واللّه ما نرجع حتى نصيب ثارنا او نذوق ما ذاق ، فأقبل عليهم الحسين ( عليه السلام ) فقال : لا خير في العيش بعد هؤلاء ، ثم التقاه الحر بن يزيد الرياحي فخطب فيهم : ايها الناس ، اني لم آتكم حتى اتتني كتبكم وقدمت على رسلكم ان اقدم علينا فليس لنا إمام لعل اللّه ان يجمعنا وأياكم على الهدى والحق ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطونى ما اطمئن اليه من عهودكم ومواثيقكم ، وان لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم الى المكان الذي جئت منه اليكم ، فسكتوا عنه ولم يتكلم احد ) .
ثم خطب خطبة اخرى ، بعد صلاة العصر ، فحمد اللّه واثنى عليه وقال : ( اما بعد ، ايها الناس فانكم ان تتقوا اللّه وتعرفوا الحق لاهله يكن ارضي للّه عنكم ، ونحن اهل بيت محمد اولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن ابيتم الا الكراهة لنا والجهل بحقنا وكان رأيكم الان غير ما اتتني به كتبكم وقدمت على به رسلكم انصرفت عنكم ، فأجابه الحر : أني واللّه ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر ، فقال (عليه السلام) لبعض اصحابه : يا عقبة بن سمعان اخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم الى ، فأخرج خرجين مملوئين صحفا فنشرت بين يديه ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 62_
ثم مضي الحسين ( عليه السلام ) حتى انتهى الى قصر بني مقاتل ، فنزل فإذا هو بفسطاط مضروب فقال : ( لمن هذا ؟ ، فقيل : لعبيد اللّه بن الحر الجعفي ، فدعاه الحسين الى الخروج معه فاستقاله عبيد اللّه فقال له الحسين : فإن لم تكن تنصرنا فاتق اللّه ، لا تكن ممن يقاتلنا فواللّه لا يسمع داعيتنا احد ثم لا ينصرنا الا هلك .
فقال له : اما هذا فلا يكون ابداً ان شاء اللّه ) .
ثم سار ( عليه السلام ) ، فخفق وهو على ظهر فرسه خفقه ثم انتبه وهو يقول : ( انا للّه وانا اليه راجعون والحمد للّه رب العالمين ، ففعل ذلك مرتين او ثلاثاً فأقبل اليه ابنه علي بن الحسين فقال : مم حمدت اللّه واسترجعت ؟ ، قال : يا بني اني خفقت خفقه ، فعن لي فارس على فرس وهو يقول : ( القوم يسيرون والمنايا تسير اليهم ) فعلمت انها انفسنا نعيت الينا ، فقال له : يا ابت لا اراك اللّه سوءاً ، السنا على الحق ؟ ، قال : بلى واللّه الذي مرجع العباد اليه .
فقال : فاننا اذا ما نبالي ان نموت محقين ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) :
جزاك اللّه خير ما جزى ولدا عن والده ) .
تروي لنا كتب التاريخ خطبة اخرى للإمام الحسين ( عليه السلام ) : (ايها الناس ، ان رسول اللّه قال : ( من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم اللّه ، ناكثاً لعهد اللّه مخالفاً لسنة رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، يعمل في عباد اللّه بالاثم والعدوان ، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على اللّه ان يدخله مدخله) الا وأن هولاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستاثروا بالفىء ، وأحلوا حرام اللّه وحرموا حلاله ، وانا احق من غير ، وقد اتتني كتبكم وقدمت على رسلكم ببيعتكم انكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فإنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول اللّه نفسي مع انفسكم واهلي مع اهليكم فلكم في اسوه ، وان لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم من اعناقكم بيعتي فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وأبن عمي مسلم بن عقيل ، والمغرور من اغتر بكم فحظكم اخطاتم ونصيبكم ضيعتم ، ( فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ) ، وسيغني اللّه عنكم ، والسلام ) .
ثم خطب خطبة اخرى فقال : ( انه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وادبر معروفها وأستمرت جدا فلم يبق منها الا صبابة كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، الا ترون ان الحق لا يعمل به وان الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقاً ، فإنى لا أرى الموت الا سعادة ولا الحياه مع الظالمين الا برما ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 63_
8 - محاولات اخفاء الحقيقة ابن كثير يناقض نفسه :
كلمات واضحة يفهمها من يقراها ، تستعصي على التزوير ، لكن يد الغش والخيانة اخفت كل شيء وزورت كل شيء ، ونشأت اجيال واجيال لا تعرف من ذكرى الحسين الا انه ابن بنت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأنه خرج يطلب الملك والأمارة فخذله المسلمون الشيعة ، وقتله بنو أمية وهم اصحاب الدوله الشرعية ، واما الشيعة فهم يضربون انفسهم ويسيلون دماءهم لانهم قتلوه ، قليل اولئك الذين يعرفون الحقيقة بتفصيلاتها حتى ابن كثير يكتب فصلا ، في البداية والنهاية ، بعنوان ( صفة مقتل الحسين بن علي ( رضى اللّه عنه ) مأخوذه من كلام ائمة هذا الشأن لا كما يزعمه اهل التشيع من الكذب الصريح والبهتان ) .
ولا يلام ابن كثير الدمشقي على حب قومه من بني امية ، ولا على سبابه للمسلمين الشيعه واتهامه لهم بالكذب الصريح والبهتان ، ولكن العجب كل العجب انه لم يخالف حرفا واحداً مما رواه ائمة التشيع في كتبهم عن مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، ويكذب عدة روايات وردت في هذا الشان ليست محورية ولا اساسية في القضية وهو يتناقض مع نفسه فيقول : ( ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء فوضعوا احاديث كثيره كذباً وفحشاً من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم . .) .
ثم يقول ناقضاً ما ذهب اليه : ( واما ما روى من الاحاديث والفتن التى اصابت من قتله فأكثرها صحيح ! ! ! فإنه قل من نجا من اولئك الذين قتلوه من آفه او عاهة في الدنيا فلم يخرج منها حتى اصيب بمرض وأكثرهم اصابهم الجنون ) .
ثم يناقض نفسه ، ويتخبط ويواصل الشتم والسب ، ويقول :
( للشيعه والروافض في صفة مصرع الحسين كذب كثير وأخبار باطلة وفي ما ذكرناه كفاية ، وفي بعض ما اوردناه نظر ، ولولا ان ابن جرير وغيره من الحفاظ ذكرو ما سقته واكثره من رواية ابي مخنف لوط بن يحيى ، وقد كان مسلماً شيعياً وهو ضعيف الحديث عند الائمة ، ولكنه اخباري حافظ عنده من هذه الاشياء ما ليس عند غيره ، ثم يقول : (وقد اسرف الرافضة في دولة بني بويه فكانت الدبادب تضرب بغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء ) الخ .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 64_
( وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من اهل الشام فكانوا يوم عاشوراء يطبخون ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون افخر ثيابهم ، ويتخذون ذلك اليوم عيداً يصنعون فيه انواع الاطعمة ويظهرون فيه السرور والفرح يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم ) .
اذا الشيخ ابن كثير يقر ويعترف ان اجهزه الدعاية الأموية قلبت الحقائق وحولت يوم الكارثه الى يوم عيد وسرور ، وهو الذي ما زال متداولا الى يومنا هذا ، ويمضى الرجل يكشف على استحياء دخيله نفسه فيقول : ( وقد تاول عليه من قتله انه جاء ليفرق كلمه المسلمين بعد اجتماعها وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه فقد ورد في صحيح مسلم الحديث بالزجر عن ذلك والتحذير منه والتوعد عليه ) .
عفواً ، ايها الشيخ ، يبدو ان ( خطا ) الإمام الحسين ( عليه السلام ) انه ولد واستشهد قبل مجيء ( مسلم ) وكتابه ، فلم يدر بالحديث المزعوم على رسول اللّه ، ولم يعلم ان الامة بعد قرنين ستعرف ( صحيح مسلم ) وتجهل ( صحيح الحسين ) ، عفوا ، ايها الشيخ ، فقد جهلت الأمة ( حديث الثقلين ) : (أني تارك فيكم ما ان تمسكتم به بعدي لن تضلوا ابدا كتاب اللّه وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ) ، وهو حديث رواة ( مسلم ) في صحيحه بعد الحسين بقرنين ، لقد جهلت الأمة هذا الحديث يوم كان عليها ان تذكره ثم روته بعد ذلك ولم تفهمه هذه الأمة التي نسيت وتناست ما صح نصا وما جسده الإمام الحسين ، مارست الدين على الطريقة الأموية ومن حاول المقاومة كان مصيره القتل كما اسلفنا من قبل .
ثم يمضي الشيخ في منطقة ويقول بعدما عدد القتلى ممن عدهم افضل من الحسين وابيه : ( ولم يتخذ احد يوم موتهم ماتما يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين ) ، ثم يناقض نفسه كعادته : ( وأحسن ما يقال ، عند ذكر هذه المصائب وأمثالها ، ما رواة علي بن الحسين ، عن جده رسول اللّه ، ( صلى اللّه عليه وسلم ) انه قال : ما من مسلم يصاب بمصيبه فيتذكرها وان تقادم عهدها فيحدث لها استرجاعا الا اعطاه اللّه من الاجر مثل يوم أصيب فيها ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 65_
اننا نستعرض كلمات ابن كثير لأنها نموذج لحالة التناقض والأرتباك التي وقع فيها الكثيرون ممن اذهلهم الحدث وعجزوا عن متابعتة وقول كلمة الحق فيه ، ومن اولئك الذين ارادوا استتباب الأمر لبني امية وظنوا ان قضية آل البيت قد طويت وانتهت فلما اعلن الحسين ثورته وخط كلمه الحق بدمائه على الارض ، وفي السماء بل وفي الكون كله ، لجأوا مرة اخرى الى الكتمان والتزييف لعل الناس ينسون ، ولكن هيهات هيهات .
هكذا وصل الركب الى محط رحاله الأخير . . الى كربلاء ، حيث اذن اللّه ان يستقر الجسد الطاهر لأبي عبد اللّه الحسين ويبقي شاهداً لكل القيم التى جاء بها محمد بن عبد اللّه وأورثها المصطفين من عباد اللّه من آل محمد إماماً وراء إمام ، ديناً قيما مله ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين ، ويبقى ايضاً هذا الجسد الطاهر شاهداً على الذين ( نقضوا غزلهم من بعد ) قوة امكاثاً وأتبعوا سنن من قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، اراد اللّه ان يستقر الجسد الطاهر لأبي عبد اللّه الحسين ( عليه السلام ) في هذا المكان شاهداً على فضيحة بني امية ومن مهدوا لهم ومن ساروا على دربهم من المزورين ومن الاخسرين اعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ومكروا مكرا ومكر اللّه بهم مكرا وهم لا يشعرون ، هم قد خططوا لقتل ابي عبد اللّه الحسين في صمت كما قتل الحسن سلام اللّه عليه من دون ان يعرف التاريخ قاتله ، وهذا ما اكد عليه ابو عبد اللّه في حواراته المختلفه ، وكان الحسين يعلم ان الاجل لا مفر منه ، ولذا كان يتمثل بأبيات الشاعر :
على خطى الحسين عليه السلام
_ 66_
اذل الحياة وذل الممات وكلا اراه طعاما وبيلا فإن كان لا بد من احداهما فسيرى الى الموت سيراً جميلاً لقد كان خروج الحسين ( عليه السلام ) ، رفضاً للاغتيال خلسه وصمتاً ، وسعياً الى القتل شاهدا شهيدا في واقعة لا بد من تسجيلها في القلوب . . حتى القلوب الميتة تعجز عن مداراتها ، ذلك الأموي البغيض الذي روى كل تفاصيل الواقعة كارها كان شاهدا رغم انفه ، وحاول ان يتنصل وحاول ان يتمسح بتكذيب بعض تفاصيل لن تغير شيئا ، كان الجميع شاهداً على عظمة ابي عبد اللّه الحسين وعلى عظمة اهل البيت سواء المحبون ام الكارهون ، وهكذا تحقق للحسين ( عليه السلام ) ما اراد وخسر بنو اميه ومن مهدوا لهم ومن ساروا على دربهم . . خسروا معركه الشرعية بشكل نهائي ، تلك الغلالة الرقيقة من التمسح بالدين زورا وبهتانا سقطت وتمزقت ، كان معاوية يرفع شعار الثار للخليفه المظلوم وقد موة بذلك على البسطاء ، اما الآن فان النظام الأموي اسفر عن وجهة الكئيب ، وها هو يزيدهم يعريهم وينادي ائمة الكفر من آبائه ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ) ، عتبه بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة الذين ارسلوا الى النار بسيف الإمام علي ( عليه السلام ) ليشهدوا ويقول :
ليت اشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسل وها هي واقعة رواها كل اصحاب التواريخ بلا استثناء حتى ابن كثير الأموي ، لقد علم الحسين ( عليه السلام ) كل البشر درسا في الادراك الواعي للهدف والسعي الى تحقيقه مهما كانت التضحيات ، وهكذا سقطت مرة واحدة والى الابد كل اقنعة الاسلام الكهنوتة ، وتبلور الصراع بين الحق والباطل ليصبح بين الحسين ويزيد ، اما اصحاب انصاف المواقف اشباه الرجال فقد سقطوا وادرك الجميع انهم في صف الإسلام الأموي ، وهكذا يمتد الصراع حتى آخر الزمان ليصبح بين المهدي وارث اهل البيت والسفياني وارث النهج الأموي .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 67_
1 - الموقف الحسيني معيار وقدوة :
في ليلة الشهادة ، وفي يومها ، وأصل الحسين الشرح والبيان ، جمع أصحابه وأهل بيته وخطب فيهم : ( اما بعد ، فإنى لا اعلم اصحاباً أولي ولا خيراً من أصحابي ، ولا اهل بيت ابر ولا اوصل من اهل بيتي ، فجزاكم اللّه عني جميعاً خيرا ، الا وأني اظن يومنا من هؤلاء الاعداء غداً الا وأني قد رأيت لكم فأنطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام ، هذا ليل قد غشيكم فأتخذوه جملاً . . . . ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتي ، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج اللّه ، فإن القوم إنما يطلبوني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري ، فقال له اخوته وابناؤه وبنو أخيه وابناء عبد اللّه بن جعفر : لم نفعل ؟ لنبقى بعدك ! ؟ لا ارانا اللّه ذلك ابدا ، بداهم بهذا القول العباس بن علي ، ثم انهم تكلموا بهذا ونحوه فقال الحسين ( عليه السلام ) : يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا قد اذنت لكم ، قالوا : فما يقول الناس ، يقولون : انا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معه برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ، لا واللّه لا نفعل ، ولكن تفديك انفسنا وأموالنا واهلونا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح اللّه العيش بعدك ) .
وفي رواية ، عن ابي جعفر محمد بن على ( عليه السلام ) انه قال : (ان رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : يا بني انك ستساق الى العراق ، وهي ارض قد التقى بها النبيون وأوصياء الانبياء ، وهي ارض تدعى عموراً ، وانك تستشهد بها ويستشهد معك جماعة من اصحابك لا يجدون الما من الحديد ، وتلاً : ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ، تكون الحرب برداً وسلاما عليك وعليهم فأبشروا ، فواللّه لئن قتلونا فأنا نرد على نبينا ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 68_
فلما اجمع اهل بيته وأصحابه على مواصلة الجهاد والسير الى موضع شهادتهم قال لهم : ( فإن كنتم قد وطنتم انفسكم على ما وطنت نفسي عليه فأعلموا ان اللّه يهب المنازل الشريفة لعباده لصبرهم على احتمال المكاره ، وان اللّه ، وان كان خصني مع من مضي من اهلي الذين انا آخرهم بقاء في الدنيا ، من المكرمات بما سهل معها احتمال الكريهات فإن لكم شطر ذلك من كرامات اللّه ، وأعلموا ان الدنيا حلوها ومرها حلم ، والانتباه في الاخرة ، والفائز من فاز فيها والشقي من يشقى فيها ، او لا احدثكم بأول امرنا وأمركم معاشر اوليائنا والمعتصمين بنا ليسهل عليكم احتمال ما انتم له معرضون ؟ قالوا : بلى يا ابن رسول اللّه ، قال : ان اللّه خلق آدم واستواه وعلمه اسماء كل شيء وعرضهم على الملائكة ، جعل محمداً وعلياً وفاطمه والحسن والحسين اشباحاً خمسه في ظهر آدم ، وكانت أنوارهم تضيء في الآفاق من السموات والحجب والجنان والكرسي والعرش ، فأمر الملائكة بالسجود لآدم تعظيما له لانه قد فضله بإن جعله وعاء لتلك الاشباح التى قد عمت انوارها الآفاق فسجدوا الا ابليس ابي ان يتواضع لجلال عظمته وان يتواضع لانوارنا اهل البيت وقد تواضعت لها الملائكة واستكبر وترفع وكان بابائه ذلك وتكبره من الكافرين ) .
وبات الحسين وأصحابه في تلك الليله ولهم دوي كدوي النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد ، وكان الامام ( عليه السلام ) يتلو قوله تعالى : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) ، وفي ليله الشهادة جلس ابو عبد اللّه الحسين يصلح سيفاً له ، وزينب ( عليه السلام ) جالسه ، فأنشد :
على خطى الحسين عليه السلام
_ 69_
يا دهر اف لك من خليل كم لك بالاشراق والأصيل من صاحب وطالب قتيل والدهر لا يقنع بالبديل وإنما الامر الى الجليل وكل حي سألك السبيل ففهمتها زينب ( عليها السلام ) ، فلم تملك نفسها فوثبت تجر ثوبها وانها لحاسره حتى انتهت اليه فقالت : (واثكلاه ، ليت الموت اعدمني الحياة ، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي واخي الحسن ، يا خليفه الماضين ، فنظر اليها الحسين قائلاً : يا أختي لا يذهبن بحلمك الشيطان ، وترقرقت عيناه بالدموع وقال : لو ترك القطا ليلا لنام ، فقالت: يا ويلتاه ، افتغتصب نفسك اغتصاباً فذلك اقرح لقلبي وأشد على نفسي ، ثم لطمت وجهها وهوت الى جيبها فشقته وخرت مغشيا عليها ، فقام اليها الحسين فصب على وجهها الماء ، وقال لها : يا اختاه اتق اللّه وتعزى بعزاء اللّه وأعلمي ان اهل الارض يموتون واهل السماء لا يبقون وان كل شيء هالك الا وجه اللّه الذي خلق الخلق بقدرته ويبعث الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده ، جدى خير مني وأبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني ، ولكل مسلم برسول اللّه اسوه حسنه ، يا اختي أني اقسمت عليك فأبري قسمي لا تشقي على جيبا ولا تخمشي على وجها ولا تدعي على بالويل والثبور اذا انا هلكت ، ثم جاء بها حتى اجلسها عند على بن الحسين ثم خرج الى اصحابه ) ، ما اروع هذه البلاغات الحسينية التى تلين الحديد ، ولكن القوم قست قلوبهم فهي كالحجارة او اشد قسوة ، ( وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ) ، والله وربما سأل سائل :
لماذا خاطب الحسين القوم ؟ ، هل كانت به رغبة في الرجوع او النجاه فأحتاج ان يقنعهم ليبقوا عليه ؟ ، الاجابة يدركها الذين وعوا دور حمله الرسالات السماوية من الانبياء والائمة عليهم السلام ، فهذا نوح ( عليه السلام ) يقول : (قال رب أني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ، فلم يزدهم دعائي الا فراراًَ ، ثم اني دعوتهم جهاراً ، ثم أني اعلنت لهم واسررت لهم أساراراً نوح ، فها هو نبي اللّه نوح ( عليه السلام ) يلح على قومه داعياً ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ، والقوم لا يزدادون الا عتوا واستكباراً ، وها هو رب العزة القادر على تعجيل عقابهم يمهلهم المره تلو الاخرى عساهم يرجعون ويقبلون اليوم ما رفضوه بالامس ، ولكن هيهات ، يأتى هؤلاء يوم القيامة يقولون : ( قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضا لينال ومنون .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 70_
ثم اننا نرى ان مهمة ابي عبد اللّه الحسين ( عليه السلام ) كانت بالغة الصعوبة ، فقوم نوح لا يدعون الإسلام ، اما اليزيديون فكانوا يدعون الإسلام وما زالوا الى يومنا هذا يدعون انهم وحدهم اصحاب الفهم الصحيح للإسلام ، كيف يتأتى هذا وقد قتلوا ابن بنت نبيهم الذى قال عنه رسول اللّه : ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( حسين مني وأنا من حسين ، احب اللّه من احب حسينا ، حسين سبط من الاسباط ) (رواة الترمذي وقال حديث حسن ) ، وهو الذي قال عنه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( فيما رواة احمد ) : ( نظر النبي اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الى علي والحسن والحسين وفاطمة فقال : انا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم ) ، وفي رواية اخرى لأحمد : ( من احبهما فقد أحبني ومن ابغضهما فقد ابغضني ) .
اذا فالموقف الحسيني ميزان ومعيار يميز بين الحق والباطل .
وهذه حقيقة واضحة من خلال النصوص الكثيرة المتواترة في خصائص اهل بيت النبوة او تلك الواردة في حق الحسين ( عليه السلام ) على سبيل الخصوص ، والذي زاد الأمر وضوحاً هو الدليل العملي الذي قدمه الحسين ( عيه السلام ) على صحة ما ورد في فضل اهل البيت ( عليهم السلام ) ، فأين كان الاخرون من هذه الفتن التى هاجمت الأمة المسلمة من كل جانب ؟ ، اين موقف الدفاع العملي عن قيم الاسلام ؟ ، سؤال لا نجد له اجابة الا في تحرك الحسين ( عليه السلام ) ، ذلك التحرك الذي كان مقدمة لكل الحركات الثورية في تاريخ الأمة الاسلامية ، والأمة الآن وهي تعيش لحظات حرجة في تاريخها في حاجة لاستلهام هذه الروح الحسينية والاقتباس من نورها لعلنا نتمكن من اضاءه هذا الظلام الحالك ، اننا في امس الحاجه لاستلهام ذلك النور الحسيني لاضاءة هذه الظلمات وتحديد طريق المسير ، ظلمات فوقها فوق بعض ، ومن لم يجعل اللّه له نوراً فما له من نور .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 71_
2 - نماذج اناس باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم :
وقبل ان نصل الى بلاغات الحسين ، في يوم المقتل ، نستعرض نموذجاً من نماذج ( الأبناء ) الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم ، أنه عمر بن سعد بن ابي وقاص ، فقد كان الرجل يبحث عن دور في خدمة بني أمية ، فأرسله ابن زياد الى بلاد فارس وأعطاه عهداً على الري ، ثم أستدعاه وأمره بالسير الى الحسين ( عليه السلام ) وقال له :
(سر الى الحسين فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت الى عملك .
فقال له عمر بن سعد : ان رأيت ان تعفيني فأفعل ، قال : نعم على ان ترد لنا عهدنا ، فأستمهله ابن سعد حتى ينظر ثم عاد اليه مجيباً ومنفذا امر سيده ابن زياد ) ، ولنا هنا وقفه ، الرجل يريد الأمارة ولا يطيق الصبر عنها ولا مانع لديه من ارتكاب اي جرم ليجلس بضعة ايام على الكرسي ، وبنو أمية ائمة الضلال هم والشيطان سواء ، يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا ، يسوقون الناس من رغباتهم وشهواتهم ومكامن ضعفهم ، فلما سار بجيشه لملاقاه الحسين دعاه الحسين لملاقاته وناجاه طويلاً وقال له الحسين ( عليه السلام ) : ( ويل لك يا ابن سعد ، أتقاتلني وانا ابن من علمت ، ذر القوم ، وكن معي فإنه أقرب الى اللّه تعالى .
فقال ابن سعد : أخاف ان يهدم داري ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : انا ابنيها لك ، فقال : اخاف ان توخذ ضيعتس. فقال ( عليه السلام ) : انا اخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز ، ثم قال : لي عيال وسكت .
فأنصرف عنه الحسين ( عليه السلام ) وهو يقول : مالك ذبحك اللّه على فراشك عاجلاً ولا غفر لك يوم حشرك ، فواللّه أني لأرجو ان لا تأكل من بر العراق الا يسيراً ، فقال ابن سعد : في الشعير كفاية عن البر ) ، أي خزي هذا وأي عار تحس به الارض وهؤلاء الاوغاد يسيرون عليها ، يخرج لقتل ابن بنت رسول اللّه لأنه يخشي على ضيعته ويخشي ان يضيع ماله ، اما عن دينه فلا يسأل ، ثم يزعم بعض الباحثين ان هذا القاتل المأجور من خير القرون ، وهل رضي عنه ابن زياد وسيده يزيد ؟ ، لا واللّه ، لقد احسوا منه شيئا من التردد في الأقدام على قتل الحسين وذهب الوشاة الى سيده ابن زياد فارسل اليه : ( أما بعد ، فأني لم ابعثك الى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنية السلامة والبقاء ، ولا لتقعد له عندي شافعاً ، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فأبعث بهم الى سلماً ، وان ابوا فأزحف اليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فأنهم لذلك مستحقون ، فإن قتل حسين فأوطىء الخيل صدره وظهره فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم وليس دهري في هذا ان يضر بعد الموت شيئاً ، ولكن على قول لو قد قتلته فعلت هذا به ، ان انت رضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع ، وان ابيت فأعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بن ذي جوشن وبين العسكر فانا قد امرناه بأمرنا ، والسلام ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 72_
هذه هي شريعة بني امية وهي شريعة فرعون نفسها وشريعة كل طاغية ، ان ابن زياد ، والى يزيد يحاصر الحسين بن علي ، وأبن بنت رسول اللّه ، ويخيره بين الاستسلام التام والذل الزوام او القتل على هذه الطريقة الهمجية ، ثم يقول بعض المؤرخين ان هؤلاء كانوا يحكمون بالشريعة الاسلامية ، رجل لم يسل سيفا ً ليقتل مسلماً او كافراًُ ، رجل كل ذنبه انه يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر يكون هذا مصيره ، أي خزي وعار تحمله الارض اذا حملت هولاء الأوغاد على ظهرها ، وهذا عمر بن سعد لم يتجاوز ، كما يري بعضهم ، وأن له أجراً واحداً ، لأنه مجتهد في قتله لأبن بنت رسول اللّه ( أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ، الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ) .
هذا هو صنيع بني أمية مع خير هذه الأمة ، اما وأبا ، فكيف صنيعهم مع بقية الأمة ؟ ! ! ، انها سياسة الاستعباد والعبودية التي ورثناها منهم الى يومنا هذا ، لم تكن قضية فردية ولا شخصية كما يحاول انصار الحزب الأموي تسويغ مقتل الحسين ( عليه السلام ) او تسويغ استمرارهم في السلطة بالمعطيات نفسها والاساليب عينها ، يشيرون على خطى آبائهم وأِجدادهم ، مثل : معاوية ، ويزيد ، وزياد ، وأبن زياد ، وعمر بن سعد ، وشمر بن ذي الجوشن .
3 - إمامة الحق في مواجهة إمامة الباطل :
لا بأس ان نرجع قليلاً الى بدايات هذا اليوم ، وأبن زياد يرسل رسالة الى الحر بن يزيد مع يزيد بن زياد الكندى يأمره ( ان يجعجع بالحسين ويقول له : فلا تنزله الا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء) ، فقال له ابو الشعثاء ، وكان من انصار الحسين ( عليه السلام ) : ويلك ماذا جئت فيه ؟ ، قال يزيد : اطعت إمامي ووفيت بيعتي ، فقال له ابو الشعثاء : عصيت ربك وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، كسبت العار والنار ، قال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 73_
انظروا الى ذلك الفهم العظيم لصاحب الحسين ، حقا انها إمامة في مواجهة إمامة الحق في مواجهة إمامة الباطل ، وهذا هو المفهوم الحقيقي للتشيع ، موالاه ائمة الحق ، ومعاداه ائمة الضلال ، اما حزب بني أمية حزب الشيطان ، فجعلوا من السلطة القاهرة إمامة يفرقون بها بين الحق والباطل ، واسبغوا على الطواغيت من صفات ائمة الحق ، واستعانوا بالمتنسكين ادعياء القداسة من وضاع الاحاديث ، وفقهاء السوء ما يمكنهم من التموية على الجمهور ويعينهم على استخدام المصطلح الديني في خدمة دولة الطاغوت ، فإذا احدث هؤلاء من الاحداث ما تعجز اجهزة التسويغ عن القيام بمهمتها نحوه قالوا : ( ان هذا اجتهاد (وللائمة) ان يجتهدوا فإذا اخطأوا فلهم اجر واحد ، وان اصابوا فلهم اجران ) ، وان لم ينجح التسويغ في الاقناع قال فقهاء السوء للناس : ( عليكم ان تصبروا على السلاطين وظلمهم الا ان تروا كفرا بواحاً ) ، وهم لم يصرحوا ابدا بحقيقة هذا الكفر البواح .
ان هؤلاء المتنسكين لم يروا بأساً ، ولا فسقاً ، ولا كفراً بواحا في ان يلي امر الامة فرعون مثل معاوية او يزيد ! ولا يرون واجبا عليهم نصره ابي الاحرار ابي عبد اللّه الحسين ! وهم لم يروا اي كفر ولا معصية للّه في سفك دماء العتره الطاهرة ! هذا اذا عرفنا من هم من هولاء ؟ وما هو منهجهم ؟ وما هي اسماؤهم ؟ لقد رأينا العترة الطاهرة ولم نر غيرها ، رأينا اشباح رجال يرضون بركعات في بيت اللّه الحرام او بعض كلمات يزيلون بها العتب .
فها هو ابن كثير يروي عن ابن عمر ، في البداية والنهايه ، ان رجلاً سأله عن دم البعوض يصيب الثوب فقال : ( ، وقد قتلوا ابن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وسمعت النبي ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) يقول : هما ريحانتاي من الدنيا )
.
على خطى الحسين عليه السلام
_ 74_
4 - اقامه الحجه وبيان الحقيقه :
ثم جاء صباح عاشوراء ، ووقف الحسين ( عليه السلام) يدعو ربه : ( اللهم انت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شده ، وأنت لي في كل امر نزل بي ثقة وعدة ، كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو انزلته بك وشكوته اليك رغبة مني اليك عمن سواك ففرجته وكشفته فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبه ) ، ثم ان الحسين اضرم ناراً وراء البيوت لئلا يأتيه اعداء اللّه من الخلف ، فجاءه شمر بن ذي الجوشن وقال : ( يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة ؟ ، فقال الحسين : من هذا ؟ ، كأنه شمر بن ذي الجوشن ؟ فقالوا : نعم اصلحك اللّه ، هو . . هو ، فقال : يا ابن راعية المعزي انت اولي بها صلياً ، فقال مسلم بن عوسجة : يا ابن رسول اللّه جعلت فداك الا ارمية بسهم ، فإنه قد امكنني وليس يسقط سهم ، فألفاسق من اعظم الجبارين ، فقال له الحسين : لا ترمه فإني اكره ان ابداهم ) .
سلام اللّه عليك يا ابا عبد اللّه ، ها انت ، وأنت في قمة المواجهة مع اعداء اللّه من بني امية محافظاً على موقف فقهى ، وأخلاقي ، وعقائدس راسخ .
سلام اللّه عليك يا من انت من نور ابيك وأمك ، ومن نور رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فالإمام على ( عليه السلام) لم يبدأ اعداءه ، اعداء اللّه يوما بقتال لا اصحاب الجمل ، ولا الخوارج ، ولا بني امية يوم صفين ، فالقوم ادعياء اسلام دخلوا هذا الدين من بوابة النبوة ، ولسنا بصدد تكفيرهم ولا استباحه دمائهم ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) ، ( فلا عدوان الا على الظالمين ) .
هذا هو المبدأ الراسخ في العلاقه بين ابناء الأمة المنتمين اليها حتى ولو كان ذلك بمجرد الأسم والادعاء ، وأن فتح باب التكفير وقتل المسلمين ، حتى الادعياء منهم ، فإن ذلك يعني فتح باب فتنة لا يغلق .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 75_
يقول ابن جرير الطبري ، وهو يتحدث عن يوم عاشوراء ، ضمن حديثه عن احداث سنه ( 61 هـ ) ما نصه : ( فلما دنا منه القوم عاد براحلته فركبها ثم نادى بأعلى صوته بصوت عال يسمع جل الناس : ( ايها الناس ، اسمعوا قولى ولا تعجلوني حتى اعظكم بما هو حق لكم على ، وحتى اعتذر اليكم من مقدمي عليكم ، فان قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف كنتم بذلك اسعد ولم يكن لكم على سبيل ، وان لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من انفسكم ( فأءجمعوا امركم وشركاءكم ثم لا يكن ( فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ ) ، ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) ، ( قال فلما سمع اخواته كلامه هذا صحن وبكين وبكى بناته فأرتفعت اصواتهن فأرسل اليهن اخاه العباس بن علي وعلياً ابنه وقال لهما : اسكتاهن فلعمري ليكثرن بكاوهن ( . . . ) فلما سكتن حمد اللّه واثنى عليه وذكر اللّه بما هو اهله وصلى على محمد صلى اللّه عليه وعلى ملائكته وانبيائه فذكر من ذلك ما اللّه اعلم وما لا يحصى ذكره ، ( فقال الراوى ) : فواللّه ما سمعت متكلما قط قبله ولا بعده ابلغ في منطق منه ،. ثم قال : اما بعد فأنسبوني فأنظروا من انا ثم ارجعوا الى انفسكم وعاتبوها فأنظروا هل يحل لكم قتلى وانتهاك حرمتي ؟ الست ابن بنت نبيكم ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) وأبن وصيه ، وأبن عمه ، وأول المؤمنين باللّه والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه ؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم ابي ؟ او ليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمى ؟ اولم يبلغكم قول مستفيض فيكم ان رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) قال لى ولأخي : هذان سيدا شباب اهل الجنه ؟ فإن صدقتموني بما اقول ، وهو الحق ، واللّه ما تعمدت كذباً مذ علمت ان اللّه يمقت عليه اهله ويضر به من اختلقه ، وان كذبتموني فإن فيكم من ان سألتموه عن ذلك اخبركم ، سلوا جابر بن عبد اللّه الانصاري او ابا سعيد الخدري او سهل بن سعد الساعدي او زيد بن ارقم او انس بن مالك يخبروكم انهم سمعوا هذه المقاله من رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) لى ولأخي ، افما هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟ ! فقال له شمر بن ذي الجوشن :
على خطى الحسين عليه السلام
_ 76_
هو يعبد اللّه على حرف ان كان يدري ما تقول ، فقال له حبيب بن مظاهر : واللّه اني لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفا ، وانا اشهد انك صادق ما تدري ما يقول قد طبع اللّه على قلبك ، ثم قال لهم الحسين : فإن كنتم في شك من هذا القول افتشكون اثراً ما اني ابن بنت نبيكم فواللّه ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم ، انا ابن بنت نبيكم خاصة ، اخبروني ، اتطلبوني بقتيل منكم قتلته او مال لكم استهلكته او بقصاص من جراحة ؟ ، قال : فأخذوا لا يكلمونه ، قال: فنادي : يا شبث بن ربعي ويا حجار بن ابجر ويا قيس بن الاشعث ويا يزيد بن الحارث الم تكتبوا الى ان قد اينعت الثمار واخضر الجناب وطمت الجمام وانما تقدم على جند لك مجند فأقبل ، قالوا له :
لم نفعل ، فقال : سبحان اللّه ، بلى واللّه لقد فعلتم ، ثم قال : ايها الناس اذ كرهتموني فدعوني انصرف عنكم الى مأمني من الارض قال : فقال له قيس بن الاشعث : او لا تنزل على حكم بني عمك ، فأنهم لن يروك الا ما تحب ولن يصل اليك منهم مكروه ، فقال له الحسين : انت اخو اخيك اتريد ان يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل ؟ لا واللّه لا اعطيهم بيدي اعطاء الذليل ولا اقر اقرار العبيد ، عباد اللّه اني عذت بربي وربكم ان ترجمون ، اعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يومن بيوم الحساب ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 77_
5 - محاولة استنهاض الأمة :
الحر الرياحي النموذج المسلم المنيب :
كانت هذه بلاغات ابي عبد اللّه الحسين ( عليه السلام ) ، وهي واضحة في اقامة الحجة على هؤلاء الحاضرين ، ومن ثم الى اسماع الأمة الاسلامية الى قيام الساعة ، هذا البلاغ كان لا بد منه ليمحص اللّه الذين آمنوا ويمحق الكافرين ، ولا يقول قائلهم يوم الهول اذ القلوب لدى الحناجر كاظمين : واللّه ما علمنا حقيقة الضحية ولو علمنا ما فعلنا ، او علمنا ولكنا لم نكن نعرف خصائصه ومزاياه لان بني امية موهوا علينا ، ها هي الحقيقة كامله بمنطقها ، ولكم ان تختاروا اما نارا تلظى لا يصلاها الا الاشقى الذي كذب وتولي او نجاه من النار ، وقد اختار الحر الرياحي ، قائد الكتيبة الأولى ، الجنة وأنضم الى الحسين ( عليه السلام ) قائلاً : ( اني واللّه اخير نفسي بين الجنة والنار ، وواللّه لا اختار على الجنه شيئا ولو قطعت وحرقت ، ثم ضرب فرسه فلحق بحسين ( عليه السلام ) فقال له : جعلني اللّه فداك يا ابن رسول اللّه انا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان ، واللّه الذي لا اله الا هو ما ظننت ان القوم يردون عليك ما عرضت عليهم ابدا ولا يبلغون منك هذه المنزلة ، فقلت في نفسي لا ابالي ان اطيع القوم في بعض امرهم ولا يرون اني خرجت من طاعتهم ، وأما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التى يعرضها عليهم ، وواللّه لو ظننت انهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك وأني قد جئتك تائبا مما كان مني الى ربي ومواسيا لك بنفسي حتى اموت بين يديك افترى ذلك لي توبة ؟ ، قال : نعم ، يتوب اللّه عليك ويغفر لك ، ما اسمك ؟ ، قال : انا الحر بن يزيد ، قال : انت الحر كما سمتك امك ، انت الحر ان شاء اللّه في الدنيا والآخرة ) .
ان الحر هو احد النماذج البشرية ، رجل يعيش في وسط الناس ، له بقية ضمير ، لا يرى كل معايب القوم ، يعتقد انه بإمكانه الحفاظ على بعض القيم الصحيحة ، ولكن القوم لا يريدون من يحافظ على المبادىء ، وقد تسابق الاشراف والسادة في مناصرتهم وسنرى بعد ذلك كيف ان ابن سعد رمي الحسين ( عليه السلام ) بأول سهم وقال : ( اشهدوا اني أول من رمي ) ، انه التسابق من اجل الذل .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 78_
ثم تقدم الحر ، رحمة اللّه ، مخاطباً القوم : (لامكم الهبل والعبر ، اذ دعوتموه حتى اذا اتاكم اسلمتموه وزعمتم انكم قاتلوا انفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، امسكتم بنفسه واخذتم بكظمة وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه في بلاد اللّه العريضة حتى يأمن ويامن اهل بيته ، وأصبح في ايديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع ضرا ، وخلاتموه ونساءه وصبيانه وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني وتمرغ خنازير السواد وكلابه وها هم قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمدا في ذريته لا اسقاكم اللّه يوم الظما ان لم تتوبوا وتنزعوا عما انتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه ، فحملت عليه رجاله لهم ترميه بالنبل ) .
ويضيف الطبري قائلا : ( ثم زحف عمر بن سعد نحوهم ثم رمي وقال : اشهدوا اني أول من رمى ) .
وهنا ايضاً لا بد لنا من تعليق ، ها هو الحر ( رضوان اللّه عليه ) يخاطب القوم محاولا ايقاظ الضمائر التى ماتت ويسالهم عن مسوغات ذلك المسلك الغريب لبني أمية في مواجهة الحسين .
حصار لرجل في مكانه الحسين ، ومنزلته لمجرد اتخاذ موقف معارض لبيعه يزيد ، مع ملاحظة ان مسلسل السلوك الاموي كان غير مسبوق في تاريخ العرب والمسلمين ، فلم يكن للإسلام ولا للعرب دولة قبل ظهور الإسلام وحينما جاء محمد بن عبد اللّه عليه وعلى آله افضل الصلاه واتم السلام وبعد ثلاثه وعشرين عاما من المقاومة المشركة بقيادة بني أمية وكهفهم ابي سفيان ، صار للمسلمين دولة عاصمتها المدينة وأحدى ولاياتها دمشق ، ولولا ذلك لما كان لأحد من بني امية ذكر ، وذلك ما قاله الحسين ( عليه السلام ) لمعاوية : ( ولولا الدين الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لكان أفضل شرفك رحله الشتاء والصيف ) ، والعجيب ان بني امية صار لهم نصيب في هذه الدوله التي حاربوها منذ الميلاد ، ثم تدهورت الأمور ليصبحوا حكاماً لدولة لم يوفروا جهدا في حرب مؤسسها رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهذا من اشد العجب ، وصاروا يؤسسون مسلكا وسننا لهم فهم اول من قتل الناس عقابا لهم على ابداء الراى (حجر بن عدي) وأصحابه وهذه سابقة تاريخية لم يعرفها عرب الجاهلية ، وهم اول من طاف برؤوس المعارضين السياسيين في نواحي البلدان (عمرو بن الحمق الخزاعى ) وهذه سابقة تاريخية اخرى .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 79 _
ثم ها هم يعاقبون الحسين ( عليه السلام ) ، سبط النبي ، عقابا مخترعاص يؤسسون به لكل فرعون يأتي من بعدهم ، فهم يحرمونه من شرب الماء ، ثم ها هو ابن زياد يأمر بان تطا الخيل صدر الحسين وظهره ، ثم هم بعد انتهاء الفاجعة يطوفون برؤوس الشهداء من بلد الى بلد ، ويطوفون ببنات رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سبايا ، ولا اعتقد انهم اغلقوا باب الاجتهاد في قمع احرار هذه الأمة فهذا هو الباب الوحيد للأجتهاد الذي ظل مفتوحاً بعدما تم تعليب الدين في قوالب جامدة من صنعهم ومن صنع اشياعهم ، وزادوا الأتون من بعدهم انهم فتحوا ابواب الأستيراد لأساليب القمع ووسائله ولم يكتفوا بالاجتهاد المحلي فسحقا لهؤلاء وهؤلاء .
نعم اذا كان ائمة اهل البيت بحق هم ائمة الهدى فقد كان بنو أمية من دون شك هم ائمة الضلالة وصدق تعالى ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ ) .
فاض النبع الحسيني يعطي آخر ما عنده ، في حياته ، فخطبهم في يوم الفاجعة عدة خطب فقال : ( الحمد للّه الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفاً بأهلها حالا بعد حال فالمغرور من غرته والشقى من فتنته فلا تغرنكم هذه الحياة الدنيا فأنها تقطع رجاء من ركن اليها وتخيب طمع من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على امر قد اسخطتم اللّه فيه عليكم ، فأعرض بوجهة الكريم عنكم وأحل بكم نقمته وجنبكم رحمته ، فنعم الرب ربنا وبئس العبيد انتم ، اقررتم بالطاعه وآمنتم بالرسول محمد ثم انكم زحفتم الى ذريته تريدون قتلها ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر اللّه العظيم ، فتبا لكم وما تريدون ، انا للّه وانا اليه راجعون ، هولاء قوم كفروا بعد ايمانهم فبعدا للقوم الظالمين ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 80 _
كان الحسين ( عليه السلام ) يحاول تحرير هذه العقول من ذل العبودية لغير اللّه ، ولكن هيهات هيهات (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) كان القوم يصرون على التشويش على ابي عبد اللّه الحسين لئلا يتمكن من ابلاغ حجته الى الناس فقال لهم مغضباً : ( ما عليكم ان تنصتوا الى فتسمعوا قولي وإنما ادعوكم الى سبيل الرشاد فمن اطاعني كان من المرشدين ومن عصاني كان من المهلكين ، وكلكم عاص لأمري غير مستمع لقولي قد انخزلت عطياتكم من الحرام وملئت بطونكم من الحرام فطبع اللّه على قلوبكم ، ويلكم الا تنصتون ؟ الا تسمعون ؟ ، فتلاؤم اصحاب عمر بن سعد وقالوا :
انصتوا له ، فسكت الناس فقال ( عليه السلام ) : تبا لكم ايها الجماعة وترحا ، احين استصرختمونا والهين مستنجدين فاصرخانكم مستعدين ، سللتم علينا سيفا في رقابنا وحششتم علينا نار الفتن التي جناها عدونا وعدوكم فأصبحتم البا على اوليائكم ويدا عليهم لأعدائكم بغير عدل افشوه فيكم ولا امل اصبح لكم فيهم الا الحرام من الدنيا انالوكم وخسيس عيش طمعتم من غير حدث كان منا ولا راى تفيل لنا فهلا لكم الويلات ، اذ كرهتمونا تركتمونا فتجهزتموها والسيف لم يشهر والجأش طامن والرأي لم يستصحف ولكن اسرعتم علينا كطيره الدباء وتداعيتم اليها كتداعي الفارش ، فقبحا لكم فانما انتم من طواغيت الأمة وشذاذ الاحزاب ونبذة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ومجرمي الكتاب ومطفئي السنن وقتله اولاد الانبياء ومبيدي عترة الاوصياء وملحقي العار بالنسب ومؤذي المؤمنين وصراخ ائمة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ، وانتم ابن حرب واشياعة تعتمدون وايانا تخذلون ، اجل واللّه الخذل فيكم معروف وتحث عليه عروقكم وتوارثته اصولكم وفروعكم وثبتت عليه قلوبكم وغشيت به صدوركم فكنتم اخبث شيء سنخاً للناصب وأكله للغاصب ، الا لعنه اللّه على الناكثين الذين ينقضون الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلا فأنتم واللّه هم ، الا ان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة ، وهيهات منا اخذ الدنيه ابي اللّه ذلك ورسوله وجدود طابت وحجور طهرت وانوف حمية ونفوس ابيه لا نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ، الا اني قد اعذرت وانذرت الا اني زاحف بهذه الاسرة على قله العدد وخذله الاصحاب ، ثم انشا ( عليه السلام ) يقول :
على خطى الحسين عليه السلام
_ 81_
فإن نهزم فهزامون قدما وان نهزم فغير مهزمينا الا انهم لا يلبثون بعدها الا كريثما يركب الفرس حتى تدور بكم الرحى ، عهد عهده الى ابي عن جدي ، فأجمعوا امركم وشركاءكم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ، اني قد توكلت على اللّه ربي وربكم ، ما من دابه الا وهو آخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم ، اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسني يوسف فانهم غرونا وكذبونا وخذلونا وانت ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير ) .
ثم دعا عمر بن سعد فقال له : ( يا عمر انك تقتلني فتزعم ان يوليك الدعي ابن الدعي بلاد الري وجرجان ، واللّه لا تهنا بذلك ابدا ، عهد معهود ، فأصنع ما انت صانع فأنك لا تفرح بعدي ابدا بدنيا ولا آخره وكأني برأسك على قصبة بالكوفة يتراماة الصبيان ويتخذونه غرضا بينهم ، فغضب ابن سعد ) .
ان هذه الخطبة الاخيرة تصف حال هذه الأمة وصفا بليغا في ماضيها وحاضرها ، انه وصف الخبير ، فقد امتلأت البطون من الحرام وهي سياسة مبرمجة لكل الفراعنة تتمثل في اذلال الرعية وكسر ارادتهم من خلال اتاحة الفرصة لهم كي ينالوا من الحرام فيصبح الكل في الذنب سواء ، لا يستطيع امثال هؤلاء ان يرفعوا رؤوسهم في وجة شياطينهم ، ثم هم يتمادون في عدوانهم على من جاء يخلصهم من الظلم والجور ، ولا امل لهؤلاء الاتباع الا البقاء على قيد الحياة ، فلا يلحقهم الطواغيت بالاخرة التى منها يفرون ، ثم عدد ( عليه السلام ) آثام بني امية وجرائمهم في حق الإسلام ولكن هيهات هيهات ان يفيق الضالون من غفوتهم ، فبعدا للقوم الظالمين .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 82_
ثم ها هو ينبه ابن سعد الى مصيره الأسود الذي ينتظره جزاءا وفاقا على دوره الانتهازي القذر هو وكل من على شاكلته من رؤساء العبيد ، وهو دور موجود في كل النظم الطاغوتية التى تستخدم هؤلاء الازلام في قتل الاحرار ، وأخماد انفاسهم ، ثم تفشل في حمايتهم وتتركهم لمصيرهم المحتوم ، او تضحي بهم لأخماد غضب الجماهير اذا التهب الغضب وتحملهم المسؤوليه ، فهم قد قتلوا وسفكوا الدماء من دون رضا الطاغوت الاكبر ، وهؤلاء فقط هم الذين سمعوه يصدر هذه الأوامر الاجرامية التى تصدر بصورة شفهية دائماً ولم تكن يوما ما مكتوبة ، وهو ضرب من البلاهة والخداع فسلسلة الاجرام مثل سلسلة الحق متواصلة دائماً ويصعب ان يفعل هؤلاء الطواغيت الصغار شيئا لا يريده الكبار ، وقد اخبره ابو عبد اللّه ( عليه السلام ) بمصيره الأسود وقال له انه لا ينال شيئًا مما وعد به من ملك الرس وبلاد جرجان .
هكذا مضي يوم العاشر من محرم عام 61 للهجرة ، وقد استشهد الإمام الحسين بن على ( عليه السلام ) سبط رسول اللّه ، وهو ينشد :
فإن نغلب فغلابون قدما وان نغلب فغير مغلبينا اذا ما الموت ترفع عن اناس فلا كله اناخ باخرينا فلو خلد الملوك اذا خلدنا ولو بقي الكلام اذا بقينا فقل للشامتين بنا افيقوا سيلقي الشامتون كما لقينا .
6 - الحلقة الجوهرية في مسلسل الصراع بين الحق والباطل :
استشهد الحسين ومعه اكثر من سبعين من اهل بيته وصحبه الأبرار الأطهار على نحو ما هو مذكور في كتب التاريخ ، وهو ما لا مجال لذكره في هذا المؤلف ، وما كان غرضنا هنا ان نشرح تفاصيل مسير الحسين من المدينة المنورة الى مثواه الطاهر بكربلاء وإنما كان هدفنا ان نشرح مسلسل الصراع بين الحق والباطل على قيادة هذه الأمة المنكوبة ، وكيف كان استشهاد الإمام الحسين على هذا النحو الفاجع حلقة جوهرية في هذا المسلسل ، كانت له مقدماته المبكرة منذ بعثه المصطفى الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإسلام من اسلم من الناس صدقاً أو نفاقاً ، وكيف تفاعلت بعض النفوس البشرية مع الدين الجديد ، اما مقاومة واضحة وفجة منذ البداية وهو امر ثبت عدم جدواه بالنسبه لهم فجاء فتح مكه ليقضي على هذا النوع من المقاومة وليغير اعداء الإسلام اسلوبهم الى الالتفاف والنفاق والتدرج وصولاً الى تحقيق الهدف المطلوب ، مسلمون يحملون شكل الإسلام لا مضامينه الحقيقية وما عرضناه نماذج منه فيما سبق ، وقد نجحت عملية الالتفاف الى حد ان ورثه الكتاب من آل محمد انتقلوا من موقع التوجيه والريادة الى موقع المقاومة التي تحاول استعادة مواقعها المفقودة .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 83_
كان الإمام على ( عليه السلام ) في موقع المقاومة لهذا التيار الذي استشري كالسرطان في جسد الأمة على الرغم من وصوله الى سدة الخلافة ، ولكنها كانت حقبة قصيره كالحلم ، وتناوشته انياب الافاعي من كل اتجاه حتى استشهد سلام اللّه عليه ، وقبل الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، اضطر الإمام الحسن السبط ( عليه السلام ) الى اختيار موقع المعارضة السلمية ، ثم انتقل الحسين الشهيد الى موقع المقاومة النشطه كما شرحنا لأنها لم تكن حربا بالمعنى المفهوم .
7 - معاني خروج حرائر آل البيت ( عليهم السلام ) :
بقي ان نسجل ما كشفته الاحداث عن معاني خروج حرائر اهل البيت ( عليهم السلام ) مع الحسين بالإضافة الى ما سبق ذكره من معان ، لقد قتل الحسين ( عليه السلام) ولم يشهد احد من المؤمنين هذه الجريمة الا حرائر اهل بيت النبوة ، من ينعاك اذا يا ابا عبد اللّه الا بنات على وفاطمة ؟ ، ها هي زينب ( عليها السلام ) حتى تمر بالحسين ( عليه السلام ) صريعا فتبكيه ، وتقول : (يا محمداه يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء هذا الحسين بالعرا مرمل بالدما مقطع الاعضا ، يا محمداه وبناتك سبايا وذريتك مقتله تسفي عليها الصبا ، فأبكت واللّه كل عدو وصديق ) .
ثم ها هي اسيرة في مجلس ابن زياد ، فيسأل : ( من هذه الجالسة ؟ ، فلم تكلمه ، فقال ذلك ثلاثاً كل ذلك لا تكلمه ، فقال بعض امائها : هذه زينب ابنة فاطمة ، فقال لها عبيد اللّه : الحمد للّه الذي فضحكم وقتلكم واكذب احدوثتكم ، فقالت : الحمد للّه الذي اكرمنا بمحمد ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) وطهرنا تطهيراً لا كما تقول انت ، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، قال : كيف رأيت صنع اللّه باهل بيتك ؟ ، قالت : كتب عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتحاجون اليه وتخاصمون عنده ، قال : فغضب ابن زياد وأستشاط ، قال له عمر بن حريث : أصلح اللّه الأمير إنما هي إمرأة ، وهل تواخذ المرأة بشيء من منطقها ( . . . . ) فقال لها ابن زياد : قد اشفى اللّه نفسي من طاغيتك والعصاة والمردة من اهل بيتك ، فبكت ثم قالت : لعمري لقد قتلت كهلي وأبرت اهلي وقطعت فرعي واجتثثت اصلي فإن يشفك هذا فقد اشتفيت ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 84 _
لقد كان الإمام السجاد ( علي بن الحسين ) ( عليه السلام ) في هذه اللحظات مريضاً ، وما كان يقدر على الرد والكلام ، ولو كان يقدر على الكلام وجاوبهم لقتلوه ، ولكان بذلك انقطع خط الإمامة وكان لا بد من جواب حاضر يخرس السنه الكذابين الضالين المضلين ، وهذا الدور كان دور عقيله اهل البيت ( عليهم السلام ) زينب بنت علي ، فها هي تدافع عن الإمام زين العابدين حينما هم هؤلاء الفجرة بقتله والاجهاز عليه .
يروى الطبري ، عن الروان ان احدهم قال : ( اني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي بن الحسين فقال له : ما اسمك ؟ .
قال : علي بن الحسين ، قال: اولم يقتل اللّه علي بن الحسين ؟ .
فسكت ، فقال له ابن زياد : مالك لا تتكلم ؟ قال : كان لي اخ يقال له ايضاً على فقتله الناس ، قال : ان اللّه قتله ، فسكت على فقال له مالك : لا تتكلم ؟ ، قال اللّه تعالى : ( يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ، ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ) ، قال : واللّه انت واللّه منهم ( . . . . . . ) فقال : اقتله ، فقال علي بن الحسين : من توكل بهؤلاء النسوة ؟ وتعلقت به زينب عمته فقالت : يا ابن زياد حسبك منا اما رويت من دمائنا ؟ وهل ابقيت منا احدا ؟ قال : فأعتنقته ، فقالت: اسألك باللّه ان كنت مؤمنا ان قتلته لما قتلتني معه ، فنظر اليها ساعة ثم نظر الى القوم فقال : عجبا للرحم ، واللّه اني لاظنها ودت لو انني قتلته اني قتلتها معه ، دعوا الغلام ) .
ها هو الدعي ابن الدعي يكذب على اللّه ويقول ان ( اللّه قتل علي بن الحسين ) ، اذا بنو امية ينفذون امر اللّه واللّه يريد استئصال آل بيت محمد ( كبرت كلمه تخرج من افواههم ان يقولون الا كذباً ) ، ثم يتمادي في كفره وطغيانه فيأمر بقتل زين العابدين ( عليه السلام ) لأنه منهم ، اي من اهل البيت عالم بفقههم ورؤيتهم ، وناطق بالحق ، فمن قتل هم الناس ومن اجرم هم الناس وهم الذين يستحقون العقاب ، وها هى عقيله آل البيت تفدي الإمام السجاد بنفسها فيخجل هذا الفرعون من نفسه ، فيأمر بالكف عن زين العابدين .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 85 _
وفي الكوفة ايضا برز دور حرائر آل البيت ، فها هي ام كلثوم بنت امير المؤمنين الإمام علي ( عليه السلام ) تخاطب المتخاذلين عن نصرة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وقد رأت دموع التماسيح في اعينهم ، فأومات الى الناس ان اسكتوا ، فلما سكنت الانفاس وهدات الاجراس قالت بعد حمد اللّه والصلاه على رسوله : ( اما بعد يا اهل الكوفه ، ويا اهل الختل والغدر والخذل والمكر ، الا فلا رقات العبرة ولا هدات الزفرة ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا تتخذون ايمانكم دخلا بينكم ، هل فيكم الا الصلف والعجب والشنف والكذب وملق الاماء وغمر الاعداء كمرعي على دمنه او كفضه على ملحودة ، الا بئس ما قدمت لكم انفسكم ان سخط اللّه عليكم وفي العذاب انتم خالدون .
اتبكون اخي ؟ ، اجل واللّه ، فأبكوا كثيرا وأضحكوا قليلاً فقد بليتم بعارها ومنيتم بشنارها ولن ترخصوها ابدا وأني ترخصون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب اهل الجنة وملاذ حربكم ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم ومفزع نازلتكم والمرجع اليه عند مقالتكم ومنار حجتكم ، الا ساء ما قدمتم لأنفسكم وساء ما تزرون ليوم بعثكم فتعسا تعسا ونكسا نكسا ، لقد خاب السعى وتبت الأيدي وخسرت الصفقة وبوتم بغضب من اللّه وضربت عليكم الذلة والمسكنة ، اتدرون ويلكم اي كبد لمحمد فريتم وأي عهد نكثتم وأي حرمة له انتهكتم وأي دم له سفكتم ، لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا ، لقد جئتم ، جئتم بها شوهاء خرقاء كطلاع الارض وملء السماء ، افعجبتم ان قطرت السماء دما ولعذاب الاخره اخزى وانتم لا تنصرون ، فلا يستخفنكم المهل فإنه عز وجل لا يحفزه البدار ولا يخشى عليه فوت الثار كلا ان ربكم لبالمرصاد ، ثم انشأت تقول :
على خطى الحسين عليه السلام
_ 86 _
ماذا تقولون ، اذ قال النبي لكم :
ماذا صنعتم وأنتم آخر الأمم بأهل بيتي وأولادي وتكرمتى منهم اساري ومنهم ضرجوا بدم ! ؟ ما كان ذاك جزائي اذ نصحت لكم ان تخلفوني بسوء في ذوي رحم ! ؟ اني لأخشي عليكم ان يحل بكم مثل العذاب الذي أودي على ارم ) .
قال الراوي : ( رأيت الناس حياري يبكون وقد ردوا ايديهم في افواههم ، فقال على بن الحسين ( عليه السلام ) : يا عمة اسكتني ، فنحن الباقي من الماضي اعتبار ، وانت بحمد اللّه عالمة غير معلمة ان البكاء والحنين لا يردان من قد اباده الدهر ) .
اما عقيلة اهل البيت زينب ( سلام اللّه عليها ) فقد حملت عبء مواجهة الطاغية يزيد في عقر داره ومن كان يقدر على هذه المواجهة غيرها ؟ ، الم يروي عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انه قال : ( سيد الشهداء حمزة ورجل وقف عند أمام جائر فوعظه ونهاه فقتله ) ، وما كان فضل مؤمن آل فرعون حين جبه الطاغية بكلمات الحق سوى انه كان منهم وواجههم في عقر دارهم ، لم يقتل بين يدي مومن آل فرعون اثنان وسبعون من خيره الرجال ، ولا كان يعيش جزءاً واحدا من الحاله التي عاشتها زينب ولا وجه للمقارنة ، هو كان منهم وهذه لها حسابها في ادخال بعض الأمان عليه ، اما العقيلة فكانت من اعداء القوم الذين لا يردعهم شرف ولا ضمير ، وها هو يزيد القرود يستقبل وفد الرؤوس ، واضعاً رأس الحسين بين يدي متمثلا بقول شاعر المشركين ، بعد معركه احد :
ليت اشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرع من وقع الاسل فأهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا لي هنيا لا تسل حين حكت بفناء بركها واستحر القتل في عبد الأسل قد قتلنا الضعف من اشرافكم وعدلنا ميل بدر فاعتدل انها حمية الجاهلية اصبحت تقود هذه الأمه التعسة التى انخذلت عن قادة الحق واتبعت الباطل ، هذه الأمة التى نسيت قول ربها ( وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ) ، برسالة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجهاده وصبره وأخلاصه للّه ( عز وجل ) ، هذه الرسالة التي ضحى من اجلها علي بن ابي طالب ، ووتر الاقربين والابعدين ، فكان سيفه عاملاً حاسماً في نصره هذا الدين العظيم ، هل نسى المسلمون عليا ؟ ، هل نسوا حمزة سيد الشهداء ؟ ، هل نسوا جعفر الطيار الشهيد العظيم ؟ ، نعم نسوا واسلموا قيادهم لأبن ( آكلة الاكباد ) بغير عدل انشاة فيهم ، ولا قيم فاضلة دافع عنها ، ولا تضحية واحدة في سبيل اللّه ، بل عناد وكفر والحاد حتى جاء الحق وظهر امر اللّه وهم كارهون ، ثم ها هم يستلمون دوله محمد وآل محمد غنيمة باردة ، ولا يكتفون بهذا ، بل كانت نار الحقد والانتقام تغلي في صدورهم طلبا لثار كفارهم يوم بدر الذين قتلوا على يد سادات اهل البيت ( سلام اللّه عليهم ) فوجدوا من يعينهم على اخذ الثار ويقول يزيد :
على خطى الحسين عليه السلام
_ 87 _
(قد قتلنا الضعف من اشرافكم وعدلنا ميل بدر فأعتدل ) فهنيئا لكم بني امية ثاركم من محمد وآل محمد . . وهنيئا لمن آزركم ونصركم . . وهنيئا لمن رضوا بان يكونوا مع الخوالف وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يفقهون . . وهنيئا لمن سكت عن آثام حزب بني أمية من يومها الى يومنا هذا . . كلهم شركاء ، الا لعنه اللّه على الظالمين ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ) ان يوم الفصل ميقاتهم اجمعين ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ) .
ولكن كان لا بد من رد فالمعنى لا يواجهه الا المعنى ، اذا كان الإسلام العظيم قد احرق اللات والعزى ومناه الثالثة الاخرى ، فقد كان ذلك يوم آمن الناس ان لا اله الا اللّه وان محمداً رسول اللّه ، انه المعنى الصحيح يحطم المعنى الزائف ، ثم جاءت مرحله بني اميه الى يومنا هذا حيث توارت هذه الاصنام وتغلفت خلف بعض الشعارات الاسلامية الزائفة ، وكان لا بد من رد ، وها هي عقيلة آل البيت تنبري ، ولا نقول كمؤمن آل فرعون فهي سلام اللّه عليها من آل محمد لا من آل فرعون ، وهي ترد على الظالم المنتصر وامام عينيها اثنان وسبعون راساً ، فأين مؤمن آل فرعون من مؤمن آل محمد ؟ ! .
يقول الرواة : (فلما رأت زينب ذلك فأهوت الى جيبها فشقته ، ثم نادت بصوت حزين تقرع القلوب : يا حسيناه! يا حبيب رسول اللّه ! يا ابن مكة ومني ! يا ابن فاطمة الزهراء سيده النساء ! يا ابن محمد المصطفى ) ، قال الراوي : فأبكت واللّه كل من كان ، ويزيد ساكت ، ثم قامت على قدميها ، وأشرفت على المجلس ، وشرعت في الخطبة ، اظهاراً لكمالات محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، واعلانا بأنا نصبر لرضاء اللّه ، لا لخوف ولا دهشة ، فقامت اليه زينب بنت على وأمها فاطمة بنت رسول اللّه وقالت :
على خطى الحسين عليه السلام
_ 88 _
( الحمد للّه رب العالمين ، والصلاه على جدي سيد المرسلين ، صدق اللّه سبحانه كذلك يقول : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون ) .
اظننت ، يا يزيد ، حين اخذت علينا اقطار الارض ، وضيقت علينا آفاق السماء ، فأصبحنا لك في اسار، نساق اليك سوقاً في قطار ، وأنت علينا ذو اقتدار ان بنا من اللّه هوانا وعليك منه كرامه وامتنانا ، وان ذلك لعظم خطرك وجلالة قدرك ، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك تضرب اصدريك فرحاً وتنفض مذرويك مرحاً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة وألامور لديك متسقة وحين صفاً لك ملكناً ، وخلص لك سلطاننا ، فمهلا مهلا لا تطش جهلا! انسيت قول اللّه ( عز وجل ) : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) .
امن العدل يا ابن الطلقاء ؟ ! تخديرك حرائرك واماءك ، وسوقك بنات رسول اللّه سبايا ، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدوا بهن الاعداء من بلد الى بلد ، وتستشرفهن المناقل ويتبرزن لأهل المناهل ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والغائب والشهيد ، والشريف والوضيع ، والدني والرفيع ليس معهن من رجالهن ولي ، ولا من حماتهن حمي ، عتوا منك على اللّه وجحوداً لرسول اللّه ، ودفعاً لما جاء به من عند اللّه ، ولا غرو منك ولا عجب من فعلك ، وأني ترتجي مراقبه من لفظ فوه اكباد الشهداء ، ونبت لحمة بدماء السعداء ، ونصب الحرب لسيد الانبياء ، وجمع الاحزاب ، وشهر الحراب ، وهز السيوف في وجة رسول اللّه ( صل الله عليه وآله وسلم ) ، اشد العرب جحوداً ، وأنكرهم له رسولاً ، وأظهرهم له عدوانا ، وأعتاهم على الرب كفراً وطغيانا ، الا انها نتيجة خلال الكفر ، وصب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر ، فلا يستبطىء في بغضنا اهل البيت من كان نظرة الينا شنفا واحنا واضغانا ، يظهر كفره برسول اللّه ، ويفصح ذلك بلسانه ، وهو يقول : فرحاً بقتل ولده وسبي ذريته ، غير متحوب ولا مستعظم يهتف بأشياخه .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 89 _
لأهلوا وأستهلوا فرحاً ولقالوا يا يزيد لا تشل منحنياً على ثناياً ابي عبد اللّه وكان مقبل رسول اللّه ( صل الله عليه وآله وسلم ) ينكتها بمخصرته ، قد التمع السرور بوجهه ، لعمري لقد نكات القرحة واستأصلت الشافه ، بأراقتك دم سيد شباب اهل الجنه ، وأبن يعسوب دين العرب ، وشمس آل عبد المطلب ، وهتفت بأشياخك ، وتقربت بدمه الى الكفره من اسلافك ، ثم صرخت بندائك ، ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك ! ووشيكا تشهدهم ولن يشهدوك ، ولتود يمينك كما زعمت شلت بك عن مرفقها وجذت ، واحببت امك لم تحملك واياك لم تلد ، او حين تصير الى سخط اللّه ومخاصمك رسول اللّه ( صل الله عليه وآله وسلم ) ، اللهم خذ بحقنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلل غضبك على من سفك دماءنا ونفض ذمارنا ، وقتل حماتنا ، وهتك عنا سدولنا .
وفعلت فعلتك التي فعلت ، وما فريت الا جلدك ، وما جزرت الا لحمك ، وسترد على رسول اللّه بما تحملت من دم ذريته ، وأنتهكت من حرمته ، وسفكت من دماء عترته ولحمته ، حيث يجمع به شملهم ، ويلم به شعثهم ، وينتقم من ظالمهم ، ويأخذ لهم بحقهم من اعدائهم ، فلا يستفزنك الفرح بقتلهم ، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم اللّه من فضله ، وحسبك باللّه وليا وحاكماً وبرسول اللّه خصما ، وبجبرائيل ظهيراً .
وسيعلم من بواك ومكنك من رقاب المسلمين ان بئس للظالمين بدلاً ، وأيكم شر مكاناً وأضل سبيلا ، وما استصغاري قدرك ، ولا استعظامي تقريعك توهماً لأنتجاع الخطاب فيك بعد ان تركت عيون المسلمين به عبري ، وصدرهم عند ذكره حرى ، فتلك قلوب قاسية ، ونفوس طاغية وأجسام محشوة بسخط اللّه ولعنه الرسول ، قد عشش فيها الشيطان وفرخ ، ومن هناك مثلك ما درج .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 90 _
فالعجب كل العجب لقتل الاتقياء ، وأسباط الانبياء ، وسليل الأوصياء ، بأيدي الطلقاء الخبيثة ، ونسل العهرة الفجرة ، تنطف اكفهم من دمائنا وتتحلب افواههم من لحومنا ، تلك الجثث الزاكية على الجيوب الضاحية ، تنتابها العواسل ، وتعفرها امهات الفواعل ، فلئن اتخذتنا مغنماً لتجد بنا وشيكا مغرما ، حين لا تجد الا ما قدمت يداك ، وما اللّه بظلام للعبيد .
فألى اللّه المشتكي والمعول ، واليه الملجأ والمؤمل ، ثم كد كيدك ، وأجهد جهدك فواللّه الذي شرفنا بالوحي والكتاب ، والنبوه والانتخاب ، لا تدرك امدنا ، ولا تبلغ غايتنا ، ولا تمحو ذكرنا ، ولا يرحض عنك عارنا ، وهل رأيك الا فند ، وأيامك الا عدد وجمعك الا بدد ، يوم ينادي المنادي الا لعن اللّه الظالم العادي .
والحمد للّه الذي حكم لاوليائه بالسعادة ، وختم لاصفيائه بالشهادة ، ببلوغ الإرادة ، نقلهم الى الرحمة والرافة ، والرضوان والمغفرة ، ولم يشق بهم غيرك ، ولا ابتلى بهم سواك ، ونسأله ان يكمل لهم الاجر ، ويجزل لهم الثواب والذخر ونساله حسن الخلافة ، وجميل الانابة ، انه رحيم ودود ) .
هل سمعتم ( مؤمن آل محمد ) ، زينب ( عليها السلام ) ، تصك مسامع الطغاة بكلمات الحق الواضحة ؟ هل عرفت البشرية احدا مثل آل بيت النبوه في تضحيتهم وشهادتهم وصلابتهم في موقف الحق ، وهل شجاعة الأولين والآخرين في شجاعتهم الا كقطرة في بحر ؟ ثم بعد هذا نرى من يجرو على انكار فضلهم ومحاولة انكار هذا التاريخ ، ويحاول ان يضع هذا الدين العظيم في اطار قوالب موضوعه ومصنوعة ، وها هي المرأة العظيمة تقف موقفا عجز عنه كل رجالات الأمة ، اين كان اشباح الرجال الذين اصموا اسماعنا بقصصهم وخرافاتهم ؟ ، اين كان ذلك الزاهد الناسك العابد الذى يزعمون انه كان يقتفي اثر رسول اللّه في كل كبيرة وصغيرة ؟ ، الم يسمع بشيء من هذا ام ان شعار هؤلاء كان : لا اسمع ، لا ارى ، لا اتكلم ؟ .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 91 _
اين كان هذا الزاهد العظيم الذين اخبروه بضروره بتر ساقه ، وما كانوا في تلك الايام يعرفون التخدير فأختار ان يدخل في الصلاة ليغيب عن الوعي ؟ ، ربما كان لبعض اعداء الدين عذرا في قولهم : ( الدين افيون الشعوب ) بسبب هؤلاء القصاص الذين اصابونا بالصداع من كثرة ما حكوا مثل هذه الاساطير عن تلك العبادة ( التخديرية ) التي تعين اصحابها على نسيان الواقع الفاسد وتعطيهم متعة الغفلة عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كان هذا العابد الزاهد وغيره آمنين وادعين يأكلون ويشربون وليحترق اهل البيت ومن سار على دربهم ، فقد صار الدين ( لعق على السنة الناس يحوطونه ما درت معايشهم فاذا محصوا بالبلاء قل الديانون ) ، وظهر غيرهم يطلبون الدنيا بعمل الآخره ونسي كل هؤلاء ان الدين الحقيقي نص وتطبيق ، قول وعمل ، وإننا لم ولن نجد هذا الا في مدرسة آل بيت النبوه رجالاً ونساءاً ، فاذا استشهد الرجال نطق النساء وكانوا اكثر رجولة وثباتاً من اشباح الرجال ادعياء الزهاده والورع الذين قال عنهم ربنا : ( مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) .
8 - من يقيل عثرة الأمة المنكوبة ؟
وهكذا انقضت هذه الجولة ونال كل طرف ما يستحقه ، نال الحسين وآل بيته الشهاده التي ارادوها واستحقوها ، فيما نال بنو أمية ومن والأهم اللعنة الدائمة ، والخسران المبين .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 92 _
اما هذه الأمة المنكوبة فلا نجد من يصف حالها ومالها الا هذه الرواية التي يذكرها الطبري في ( تاريخ الأمم والملوك ) فيقول ما نصه : ( لما وضع رأس الحسين ( عليه السلام ) بين يدي ابن زياد اخذ ينكت بين ثنيتيه ساعة ، فلما رآه زيد بن ارقم لا ينجم عن نكتة بالقضيب قال له : اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين فوالذي لا اله غيره لقد رأيت شفتي رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) على هاتين الشفتين يقبلهما ، ثم انفضخ الشيخ يبكي ، فقال له ابن زياد : ابكي اللّه عينيك ، فواللّه لولا انك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك ، قال : فنهض فخرج ، فلما خرج سمعت الناس يقولون : واللّه لقد قال زيد بن ارقم قولاً لو سمعه ابن زياد لقتله ، فقلت : ما قال ؟ قالوا : مر بنا وهو يقول : ملك عبد عبداً ، فأتخذهم تلداً ، انتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وامرتم ابن مرجانه ، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذل فبعدا لمن رضي بالذل ) .
اي واللّه ، ايها الشيخ ، انها لشهادة حق ولكن بعد فوات الأوان ، ولكنها تحكي الواقع الذي احتار الناس في تفسيره ، لماذا وكيف صرنا لما نحن عليه الآن عبيد في ديارنا لا نملك من الظالمين دفعاً ولا نفعاً ، هذا يحكي لنا عن الحرية في اوروبا ! وذاك يحكي لنا عن طبيعة هذا الشعب او ذاك الذي يحب العبودية ولم يحاول احد ان يصل الى الحقيقة .
ان ما جرى علينا هو استجابة لدعوة دعاها ابو عبد اللّه على من قتله او رضي بذلك او سمع فلم ينكر ، فها هو ابو عبد اللّه الحسين يدعو عليهم وقد اثخنته الجراح : ( اللهم امسك عنهم قطر السماء ، وأمنعهم بركات الأرض ، اللهم فإن متعتهم الى حين ففرقهم فرقا وأجعلهم طرائق قدداً ولا ترض عنهم الولاة ابدا فأنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 93 _
ثم هو قبل قتله مباشرة : ( سمعته يقول قبل ان يقتل وهو يقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترض العورة ويشد على الخيل وهو يقول : اعلى قتلي تحاثون ؟ ، اما واللّه لا تقتلون بعدي عبدا من عباد اللّه ، اللّه اسخط عليكم لقتله مني وايم اللّه اني لارجو ان يكرمني اللّه بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون ، اما واللّه ان لو قد قتلتموني لقد ألقي اللّه بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضي لكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم ) .
وهكذا ضاعت الفرصة تلو الفرصة من هذه الأمة دون ان تستفيد منها وكان امر اللّه قدراً مقدوراً .
والفرص لا تمنح للأمم مائة مرة ، ولا عشرين مرة ، ولا عشر مرات ، ان الفرص التاريخية لأصلاح الاحوال والسير على نهج مستقيم لا تأتي الا قليلا ، وهكذا ضاعت من هذه الأمة فرصة السير على نهج نبيها ثلاث مرات ، فرصه الإمام علي ، ثم فرصة الإمام الحسن ، ثم كانت فرصة الإمام الحسين هي القاصمة التى ما بعدها قاصمة ، وكان لا بد من انتظار طويل ، وأسدل ستار الليل في سماء هذه الأمه وهو ليل لن يجلوه الا ظهور قائم اهل البيت ( عليه السلام ) ، الإمام الثاني عشر محمد المهدي المنتظر ( عجل اللّه تعالى فرجه الشريف ) .
وهكذا قدر لنا ان ننتظر ذلك الانتظار الطويل وان نعيش ذلك الصراع المرير بين قوى الحق والباطل داخل هذه الأمة ، وأن نرى كل هذه المصاعب والويلات من سفك دماء وطاقات تهدر في صراعات داخلية ورؤوس تطير وسجون تملأ وغزوات خارجية تترية وصليبية وأخيراً صهيونية وقبلها اوروبية وحكومات من كافة الأنواع والأشكال مملوكية وعباسية وأموية وعثمانية ، وهل هناك اسوأ من ان يحكم المماليك العبيد أمة وهم لا يملكون حق التصرف في ذواتهم ، كل هذه الحكومات اكثرت من الظلم ، وقللت من العدل وأدعي الجميع انهم يطبقون الإسلام ، والكل يقتل بالظنة ، والكل يستبيح الخمور ، وانتهاك الاعراض وأخيراً جاءت الينا الحكومات العلمانية والقومية والاشتراكية والملكية والشيوعية ، جربوا فينا كل شيء إلا العدل ، ذلك الممنوع علينا من يوم ان جاء بنو أمية .
وهكذا قدر لنا ان نعيش الصراع والانتظار . .