تأليف
باقر شريف القرشي


وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ

الإهـداء
  إلى . . . الفاتح العظيم الذي احتلّ قلوب الناس وعواطفهم ، إلى . . . أنشودة الاَحرار في كل زمان ومكان ، إلى . . . أبيّ الضيم ، وسيّد الشهداء الاِِمام الحسين (عليه السلام) ، أرفع ـ بتواضع ـ هـذه الدراسة عن حياة أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) الذي جسّد في سلوكه مع أخيه الحسين حقيق الاَخوة الصادقة ، ففداه بنفسه ، ووقاه بمهجته ، راجياً التفضّل عليَّ بالقبول .

العباس بن علي _ 2 _

بين يديك يا قمر بني هاشم وفخر عدنان
   أنت ـ يا قدوة الثوار والاَحرار ـ قد تألقت في سماء هذا الشرف ، رمزاً للبطولات ، وعنواناً للتضحية والفداء ، فقد رأيت الحكم الاَموي السحيق يسوس المجتمع نحو الدمار الشامل ، يسحق الكرامات ، ويقضي على الحريات ، ويمتصّ الاَقوات ويقود المجتمع إلى حياة بائسة لا ظلّ فيها للعدل الاجتماعي والعدل السياسي ، فرفعت راية التحرير مع أخيك أبي الاَحرار وسيّد الشهداء ( عليه السلام ) الذي جسّد آمال الشعوب وطموحاتها ، وسعى لتحرير إرادتها ، وإعادة كرامتها ، لقد وقفت مع أخيك في خندق واحد فرفعتما كلمة الله الهادفة إلى كرامة الاِنسان ، وبناء حياة آمنة مستقرّة لا ظلّ فيها للظلم والطغيان .
  أمّا أنت ـ يا أبا الفضل ـ فكنت هبة من الله لهذه الاَمّة ، فقد فتحت لها آفاقاً مشرقة من الحرية والكرامة ، وعلّمتها أنّ التضحية يجب أن تكون خالصة لله ، وبعيدة كلّ البعد عن الرغبات والعواطف وسائر الميول التي مآلها إلى التراب ، وبهذه الروح الاِسلامية الاَصيلة كانت تضحيتك ـ يا أبا الفضل ـ فقد اتّسمت بالدفاع عن الحق ، والذبّ عن القيم والمبادئ ـ وهذا هو السرّ في خلود تضحيتك ، وتفاعلها مع عواطف الناس على امتداد التاريخ .
  أمّا أنت ـ يا قمر بني هاشم ـ فقد أقمت صروح الحق في دنيا العرب والاِسلام وشيّدت للمسلمين مجداً شامخاً بنصرتك لاَخيك سيّد الشهداء ، الذي نافح من أجل أن تسود العدالة الاجتماعية في الاَرض وتوزع خيرات الله على المضطهدين والمحرومين ، وتحمّلت معه أعباء هذه الرسالة ، وبهذا كنت مع أخيك ، وسائر الشهداء الممجدين من أهل البيت وأنصارهم الطلائع المقدّسة لشهداء الحق في جميع أنحاء الاَرض .

العباس بن علي _ 3 _

تقديم
  وبرز أبو الفضل العباس (عليه السلام) على مسرح التاريخ الاِسلامي كأعظم قائد فذّ لم تعرف له الاِنسانية نظيراً في بطولاته النادرة بل ولا في سائر مُثله الاَخرى التي استوعبت ـ بفخر ـ جميع لغات الاَرض ، لقد أبدى أبو الفضل يوم الطف من الصمود الهائل ، والارادة الصلبة ما يفوق الوصف ، فكان برباطة جأشه ، وقوّة عزيمته جيشاً لا يقهر فقد أرعب عسكر ابن زياد ، وهزمهم نفسيّاً ، كما هزمهم في ميادين الحرب ، ان بطولات أبي الفضل كانت ولا تزال حديث الناس في مختلف العصور ، فلم يشاهدوا رجلاً واحداً مثقلاً بالهموم والنكبات يحمل على جيش مكثّف مدعّم بجميع آلات الحرب قد ضمّ عشرات الآلاف من المشاة وغيرهم فيلحق بهم أفدح الخسائر من معداتهم وجنودهم ، ويقول المؤرخون عن بسالته ـ يوم الطف ـ إنه كلما حمل على كتيبة تفرّ منهزمة من بين يديه يسحق بعضها بعضاً قد خيّم عليها الموت ، واستولى عليها الفزع والذعر قد خلعت منها الاَفئدة والقلوب ، ولم تغن عنها كثرتها شيئاً ، انّ شجاعة أبي الفضل وسائر مواهبه ومزاياه مما تدعو إلى الاعتزاز والفخر ليس له وللمسلمين فحسب ، وإنما لكل إنسان يدين لإنسانيته ، ويخضع لقيمها الكريمة .
  وبالاِضافة إلى ما يتمتّع به أبو الفضل العباس (عليه السلام) من البطولات الرائعة فانّه كان مثالاً للصفات الشريفة ، والنزعات العظيمة ، فقد تجسّدت فيه الشهامة والنبل والوفاء والمواساة ، فقد واسى أخاه أبا الاَحرار الاِمام الحسين (عليه السلام) في أيام محنته الكبرى ، ففداه بنفسه ووقاه بمهجته ، ومن المقطوع به أن تلك المواساة لا يقدر عليها إلاّ من امتحن الله قلبه للاِيمان ، وزاده هدى .

العباس بن علي _ 4 _

  ومثَّل أبو الفضل العباس (عليه السلام) في سلوكه مع أخيه الاِمام الحسين (عليه السلام) حقيقة الاَخوّة الاِسلامية الصادقة ، وأبرز جميع قيمها ومثلها ، فلم يبق لون من ألوان الاَدب ، والبرّ والاِحسان إلاّ قدّمه له ، وكان من أروع ما قام به في ميادين المواساة له ، انه حينما استولى على الماء يوم الطفّ تناول منه غرفة ليشرب ، وكان قلبه الزاكي كصالية الغضا من شدّة الظمأ ، فتذكّر في تلك اللحظات الرهيبة عطش أخيه الاِمام الحسين وعطش الصبية من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فدفعه شرف النفس ، وسموّ الذات إلى رمي الماء من يده ، ومواساتهم في هذه المحنة الحازبة ، تصفّحوا في تاريخ الاَمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الاَخوّة الصادقة ؟ ! ! انظروا في سجلاّت نبلاء الدنيا فهل ترون مثل هذا النبل ، ومثل هذا الاِيثار ؟ ! الله أكبر أي رحمة مثل هذه الرحمة ، وأيّة مودّة مثل هذه المودّة !! إن الاِنسانية بجميع قيمها ومثلها لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام أبي الفضل على ما أبداه من عظيم النبل لاَخيه الاِمام الحسين أبي الاَحرار وسيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، والشيء الذي يدعو إلى الاعتزاز بتضحية أبي الفضل ونصرته لاَخيه الاِمام الحسين ، أنّها لم تكن بدافع الاَخوة والرحم الماسة وغير ذلك من الاعتبارت السائدة بين الناس ، وانّما كانت بدافع الاِيمان الخالص لله ، ذلك الاِيمان الذي تفاعل مع عواطف أبي الفضل ، وصار عنصراً من عناصره ، ومقوّماً من مقوّماته ، وقد أدلى بذلك في رجزه حينما قطعت يمينه التي كانت تفيض برّاً وعطاءً للناس ، قائلاً :
إنّي أحامي أبداً عن ديني      والله  إن قـطعتم iiيميني

العباس بن علي _ 5 _

وعن إمام صادق اليقين
  ان الرجز في تلك العصور كان يمثّل الاَهداف والمبادئ والقيم التي من أجلها يقاتل الشخص ، ويستشهد في سبيلها ، ورجز سيّدنا العباس ( عليه السلام ) صريح واضح في أنّه انّما يقاتل دفاعاً عن الدين ، ودفاعاً عن المبادئ الاِسلامية الاَصيلة التي تعرضت إلى الخطر أيام الحكم الاَموي الاَسود ، كما أنّه انّما يقاتل دفاعاً عن إمام المسلمين سبط رسول الله وريحانته الاِمام الحسين المدافع الاَوّل عن كرامة الاِسلام ، فهذه هي العوامل التي دفعته إلى التضحية ، وليس هناك أي دافع آخر وهذا هو السرّ في جلال تضحيته ، وخلودها عبر القرون والاَجيال .
  لقد استشهد أبو الفضل العباس من أجل المبادئ العليا التي رفع شعارها أبو الاَحرار أخوه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، والتي كان من أهمّها أن يقيم في هذا الشرق حكم القرآن ، وينشر العدل بين الناس ويوزّع عليهم خيرات الاَرض ، فليست هي لقوم دون آخرين .
  لقد استشهد أبو الفضل من أجل أن يعيد للاِنسان المسلم حرّيته وكرامته ، وينشر بين الناس رحمة الاِسلام ، ونعمته الكبرى الهادفة لاستئصال الظلم والجور ، وبناء مجتمع لا ظلّ فيه لأي لون من ألوان الفزع ، والخوف ، لقد حمل أبو الفضل مشعل الحرية والكرامة ، وقاد قوافل الشهداء إلى ساحات الشرف ، وميادين العزّة ، والنصر للشعوب الاِسلامية التي كانت ترزح تحت وطأة الظلم والجور ، لقد انطلق أبو الفضل إلى ميادين الجهاد من أجل أن ترتفع كلمة الله تعالى عالية في الاَرض ، تلك الكلمة التي هي منهج كامل للحياة الكريمة بين الناس .

العباس بن علي _ 6 _

  وفجّر الاِمام أبو الاَحرار ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب وجعلها عبرة لأولي الاَلباب ، فدكّ بها حصون الظلم ، وقلاع الجور ، ولم يفجّر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ثورته الرائدة العملاقة أشراً ولا بطراً ، ولا ظالماً ، ولا مفسداً ـ حسب ما يقول ـ وإنّما أراد تغيير الواقع المرير الذي تعيشه الاَمة من جرّاء الحكم الاَموي المنحرف عن جميع الأعراف والقوانين ، ذلك النظام الذي أحال حياة الناس إلى جحيم لا يطاق ، فقد عجّت البلاد الاِسلامية بجميع صنوف الجور والاِرهاب ، وكان من أعظمها محنة وأشدّها بلاءً البلاد الخاضعة لحكم زياد بن أبيه ، والي معاوية على العراق ، وأخيه اللاشرعي ، الذي أجّج نار الفتنة ، وحكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، فأخذ البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر ، وقتل على الظنّة والتهمة ، كما أعلن ذلك ، وطبّقه بالفعل على الحياة العامة بين الناس .
  وأن سبط الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأمل الاِسلام ، والمسؤول الاَوّل عن رعاية المسلمين ، وصيانة حياتهم والواقع الاجتماعي الذي تعيشه الاَمة ، والذي ينذر بخطر عظيم على حياتها العقائدية ، والفكرية والاجتماعية ، فقد تحكّم في مصيرها جبابرة الاَمويين ، وطغاة الرأسمالية القرشية ، التي حملت معول الهدم على جميع ما أسّسه الاِسلام من مجد أصيل وخلق رفيع للاَمة ، بالاِضافة إلى أنّها أخذت تستنزف الموارد الاقتصادية في العالم الاِسلامي ، وتنفقها على شهواتها ، ورغباتها الخاصة ، فهبّ أبو الاَحرار لاِنقاذ المسلمين ، وإعادة الحياة الكريمة لهم ، فما أعظم عائدته على الاِسلام ، وما أكثر ألطافه وأياديه على المسلمين ، ان ملحمة كربلاء من أهم الاَحداث العالمية ، بل ومن أهمّ ما حققته البشرية من إنجازات رائعة في ميادين الكفاح المسلّح ضدّ الظلم والطغيان ، فقد غيّرت مجرى تاريخ الشعوب الاِسلامية ، وفتحت لها آفاقاً مشرقة للتمرّد على الظلم والطغيان .

العباس بن علي _ 7 _

  لقد ألهبت هذه الملحمة الخالدة عواطف الاَحرار ، ودفعتهم إلى النضال المسلّح في سبيل تحرير المجتمع من نير العبودية والذلّ ، وإنقاذه من الحكم اللاشرعي ، لقد انتصر سيّد الشهداء في ثورته الخالدة ، وانتصرت أهدافه ومبادئه العظيمة ، وظلّ مثلاً خالداً للكفاح المقدّس يطارد الظالمين والطغاة في كل عصر وزمان ، ويمدّ الثوّار بروح التضحية والفداء ، ان من الانتصارات الرائعة التي حقّقها أبي الضيم في ثورته أنه جرّد الحكم الاَموي من الشرعية ، وأنّه لا يمثّل الاِسلام ، ولا المسلمين بأي حال من الاَحوال ، وإنّما هو حكم ديكتاتوري قائم على النطع والسيف لا على رضى الاَمة واختيارها ، لقد وضع أبو الاَحرار العبوات الناسفة في أروقة الحكم الاَموي ففجّرتها ، ونسفت معالم زهوهم وفجورهم وطغيانهم ، وظلّوا مثلاً أسوداً لكل حكم منحرف عن سنن الحق والعدل ، لقد أيقظت ثورة أبي الاَحرار الشعوب الاِسلامية من تخديرها وسباتها ، فانطلقت كالمارد الجبّار في ثورات متلاحقة ، وهي ترفع شعار التحرير ، وشعار الاستقلال ، وشعار الكرامة من أجل التخلّص من ذلك الحكم الاَسود ، لقد قامت الشعوب الاِسلامية في ثورات متلاحقة كانت امتداداً لثورة الحسين ( عليه السلام ) ، حتى أطاحت بالحكم الاَموي ، وأزالته من دنيا الوجود ، ومن الجدير بالذكر أن كارثة كربلاء ، وما لحق بالاِمام الحسين ( عليه السلام ) من التنكيل ، والاعتداء الصارخ ، لم يأتِ ذلك عفواً ، وإنّما كان من النتائج المباشرة للانحرافات ، والسلوك في المنعطفات السياسية من جانب الحكام والمسؤولين الذين كانوا ينظرون إلى السلطة بأنّها مغنم ، ووسيلة للظفر بالثراء العريض ، ولم يعوا أن الاِسلام اعتبر السلطة أداة لخدمة المجتمع ، وتطوير حياته الفكرية والاقتصادية ، سوانّها مسؤولة أمام الله عن اقتصاد الاَمة فيجب عليها الاحتياط فيه كأشدّ ما يكون الاحتياط فليس لرئيس الدولة ، ولا لغيره من أجهزة الحكم أن يصطفوا لأنفسهم وذويهم أي شيء من أموال الدولة .

العباس بن علي _ 8 _

  وكان على رأس الحكّام المنحرفين ملوك بني أمية الذين اتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً ، وبالاِضافة إلى ما اقترفوه من ظلم الاَمة والاعتداء على كرامتها ، فانّهم عمدوا إلى ظلم العلويين ، والاِجهاز على شيعتهم ، وقد شاهد أبوالفضل ( عليه السلام ) المحن الشاقة والعسيرة التي حلّت بأهل بيته ومحبّيهم ، ومما لا ريب فيه انّها تركت في أعماق نفسه أقسى ألوان المحن ، والآلام .
  أمّا دور سيّدنا العباس ( عليه السلام ) في ملحمة كربلاء فانّه يأتي في الاَهمية بعد أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) صانع هذه الملحمة الخالدة في دنيا الحقّ والعدل ، وقد فاق جميع أصحاب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وأهل بيته المكرمين ، وذلك بما قدّمه من عظيم الخدمات لاَخيه ، بالاِضافة إلى مواقفه البطولية الرائعة ، وصموده الهائل أمام معسكر ابن زياد ، وقد أبدى من البسالة ما يذهل الاَفكار ويحيّر الاَلباب ، وكان يشيع في نفوس أصحاب أخيه وأهل بيته العزم والتصميم على التضحية والجهاد بين يديه ، فقد استهان بالموت وسخر من الحياة ، وقد انطبعت هذه الظاهرة في نفوسهم فاعتنقوا الشهادة ، وانطلقوا إلى ميادين الجهاد ليرفعوا كلمة الله في الاَرض ، وكان العبّاس ( عليه السلام ) أيّام المحنة الكبرى التي حلّت بأخيه ملازماً له لم يفارقه ، وقدّم له جميع ألوان البرّ والاِحسان ، فكان يقيه بنفسه ويفيديه بمهجته ، فهو صاحب لوائه ، ومدير شؤونه ، والمتصدّي لخدماته ، ويقول الرواة : انّه قد استوعب حبّه والاِخلاص له قلب أخيه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) حتى فداه بنفسه ، وكان عليه ضيفاً ، فلم يسمح له بالحرب حتى بعد مقتل أصحابه وأهل بيته ، لاَنّه كان يشعر بالقوة والمنعة ، ما دام حيّاً إلى جانبه ، ولما استشهد العباس شعر الاِمام الحسين بالوحدة والغربة والضياع بعده وفقد كلّ أمل له في الحياة ، وراح يبكي عليه أمرّ البكاء ، ويندبه بذوب روحه ، وسارع إلى ساحة الحرب ليلتقي به في جنان الخلد .

العباس بن علي _ 9 _

  سلام الله عليك يا أبا الفضل ففي حياتك وشهادتك ملتقى أمين لجميع القيم الاِنسانية ، وحسبك أنّك وحدك كنت انموذجاً رائعاً لشهداء الطفّ الذين احتلّوا قمّة الشرف والمجد في دنيا العرب والاِسلام ، كان بودّي قبل حفنة من السنين أن أتشرّف بالبحث عن سيرة أبي الفضل العبّاس ( عليه السلام ) رائد الشرف والكرامة لهذه الاَمّة ، وقد دعاني إلى ذلك ـ بإصرار ـ بعض السادة من فضلاء الحوزة العلمية في النجف الاَشرف ، إلاّ أنّ انشغالي بتأليف موسوعة عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) قد شغلني عن ذلك ، وقد ألمّت كارثة من كوارث الزمن ببعض ولدي فتوسّلت ، وتوسل ضارعاً إلى الله تعالى أن يكشف عنه ما هو فيه ، وينقذه وينجّيه فاستجاب الله دعائي ودعاءه فأنجاه مما هو فيه والحمد لله ، وقد طلب منّي أن أكتب رسالة عن حياة أبي الفضل وسيرته وشهادته ، فاستجبت له ، وجمّدت الموضوع الذي بيدي ، واتجهت صوب أبي الفضل آملاً من الله تعالى أن أُوفَّق إلى إعطاء صورة متميّزة وكاملة عن حياته ، وأن لا أكون قد جافيت الواقع أو ابتعدت عن القصد فيما كتبته عنه انّه تعالى وليّ القصد والتوفيق ، النجف الأشرف باقر شريف القرشي 1412 هـ ـ 1992 م .

ولادته ونشأتهُ
  وقبل أن أتحدّث عن ولادة أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) ونشأته أعرض ـ بإيجاز ـ إلى نسبه الوضّاح ، ذلك النسب الكريم الذي كان له الاَثر التام في بناء شخصيته العظيمة ، وتكوين سلوكه المشرّف القائم على الشرف والفضيلة وفيما يلي ذلك :

العباس بن علي _ 10 _

نسبه الوضّاح
  ليس في دنيا الاَنساب نسبٌ أسمى ، ولا أرفع من نسب أبي الفضل فهو من صميم الاَسرة العلوية ، التي هي من أجلّ وأشرف الاَسر التي عرفتها الاِنسانية في جميع أدوارها ، تلك الاَسرة العريقة في الشرف والمجد ، التي أمدّت العالم العربي والاِسلامي بعناصر الفضيلة ، والتضحية في سبيل الخير ، وما ينفع الناس ، وأضاءت الحياة العامة بروح التقوى ، والاِيمان ، وهذا عرض موجز للاَصول الكريمة التي تفرّع قمر بني هاشم ، وفخر عدنان منها .

الأب :
  أمّا الأب الكريم لسيّدنا العباس ( عليه السلام ) فهو الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وباب مدينة علمه ، وختنهُ على حبيبته ، وهو أول من آمن بالله ، وصدّق رسوله وكان منه بمنزلة هارون من موسى ، وهو بطل الاِسلام ، والمنافح الاَول عن كلمة التوحيد ، وقد قاتل الاَقربين والاَبعدين من أجل نشر رسالة الاِسلام وإشاعة أهدافه العظيمة بين الناس ، وقد تمثلت بهذا الاِمام العظيم جميع فضائل الدنيا ، فلا يدانيه أحد في فضله وعلمه ، وهو ـ بإجماع المسلمين ـ أثرى شخصية علمية في مواهبه وعبقرياته بعد الرسول محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو غنّي عن البيان والتعريف ، فقد استوعبت فضائله ومناقبه جميع لغات الاَرض . . . ويكفي العباس شرفاً وفخراً أنّه فرع من دوحة الاِمامة ، وأخ لسبطي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

العباس بن علي _ 11 _

الاُم :
  أمّا الاَم الجليلة المكرّمة لاَبي الفضل العباس ( عليه السلام ) فهي السيدة الزكية فاطمة بنت حزام بن خالد . . ، وأبوها حزام من أعمدة الشرف في العرب ، ومن الشخصيات النابهة في السخاء والشجاعة وقرى الاَضياف ، وأما أسرتها فهي من أجلّ الاَسر العربية ، وقد عُرفت بالنجدة والشهامة ، وقد أشتهر جماعة بالنبل والبسالة منهم :

1 ـ عامر بن الطفيل :
  وهو أخو عمرة الجدة الاولى لاَمّ البنين ، وكان من ألمع فرسان العرب في شدّة بأسه ، وقد ذاع اسمه في الاَوساط العربية وغيرها ، وبلغ من عظيم شهرته ان قيصر إذا قدم عليه وافد من العرب فان كان بينه وبين عامر نسب عظم عنده ، وبجّله وأكرمه ، وإلاّ أعرض عنه .

2 ـ عامر بن مالك :
  وهو الجدّ الثاني للسيّدة أمّ البنين ، وكان من فرسان العرب وشجعانهم ولُقّب بملاعب الاَسنّة لشجاعته الفائقة ، وفيه يقول الشاعر :
يلاعب أطراف الاَسنة عامر      فراح  له حظّ الكتائب iiأجمع
  وبالاِضافة إلى شجاعته فقد كان من أُباة الضيم ، وحفظة الذمار ومراعاة العهد ، ونقل المؤرّخون عنه بوادر كثيرة تدلّل على ذلك .

العباس بن علي _ 12 _

3 ـ الطفيل :
  وهو والد عمرة الجدّة الاَولى لاَمّ البنين كان من أشهر شجعان العرب ، وله أشقّاء من خيرة فرسان العرب ، منهم ربيعة ، وعبيدة ، ومعاوية ، ويقال لاَمّهم ( أمّ البنين ) وقد وفدوا على النعمان بن المنذر فرأوا عنده الربيع بن زياد العبسي ، وكان عدوّاً وخصماً لهم ، فاندفع لبيد وقد تميّز من الغيظ فخاطب النعمان :
نـحن بـنو أمّ الـبنين iiالاَربعة
يا واهب الخير الجزيل من سعة
الـمطعمون  الـجفنة المدعدعة
عناصره النفسيّة
  كان سيّدنا العباس ( عليه السلام ) دنيا من الفضائل والمآثر ، فما من صفة كريمة أو نزعة رفيعة إلاّ وهي من عناصره وذاتياته ، وحسبه فخراً أنّه نجل الاِمام أمير المؤمنين الذي حوى جميع فضائل الدنيا ، وقد ورث أبو الفضل فضائل أبيه وخصائصه ، حتى صار عند المسلمين رمزاً لكل فضيلة ، وعنواناً لجميع القيم الرفيعة ، ونلمح ـ بإيجاز ـ لبعض صفاته .

العباس بن علي _ 13 _

1 ـ الشجاعة :
  أمّا الشجاعة فهي من أسمى صفات الرجولة لاَنها تنمّ عن قوة الشخصية وصلابتها ، وتماسكها أمام الاَحداث ، وقد ورث أبو الفضل هذه الصفة الكريمة من أبيه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي هو أشجع إنسان في دنيا الوجود ، كما ورث هذه الصفة من أخواله الذين تميّزوا بهذه الظاهرة ، وعرفوا بها من بين سائر الاَحياء العربية .
  لقد كان أبو الفضل دنيا في البطولات ، فلم يخالج قلبه خوف ولارعب في الحروب التي خاضها مع أبيه كما يقول بعض المؤرخين ، وقد أبدى من الشجاعة يوم الطف ما صار مضرب المثل على امتداد التأريخ ، فقد كان ذلك اليوم من أعظم الملاحم التي جرت في الاِسلام ، وقد برز فيه أبوالفضل أمام تلك القوى التي ملاَت البيداء فجبَّنَ الشجعان وأرعب قلوب عامة الجيش ، فزلزلت الاَرض تحت أقدامهم وخيّم عليهم الموت ، وراحوا يمنّونه بإعطاء القيادة العامة إن تخلّى عن مساندة أخيه ، فهزأ منهم العبّاس ، وزاده ذلك تصلّباً في الدفاع عن عقيدته ومبادئه ، ان شجاعة أبي الفضل ( عليه السلام ) ، وما أبداه من البسالة يوم الطفّ لم تكن من أجل مغنم مادي من هذه الحياة ، وانّما كانت دفاعاً عن أقدس المبادئ الماثلة في نهضة أخيه سيّد الشهداء المدافع الاَوّل عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، مع الشعراء : وبهر شعراء الاِسلام بشجاعة أبي الفضل ، وقوّة بأسه وما ألحقه بالجيش الاَموي من الهزيمة الساحقة ، وفيما يلي بعض الشعراء الذين هاموا بشخصيته .

العباس بن علي _ 14 _

أ ـ السيّد جعفر الحلّي :
  ووصف الشاعر العلوي السيّد جعفر الحلّي في رائعته ما مُني به الجيش الاَموي من الرعب والفزع من أبي الفضل ( عليه السلام ) يقول :
مـن بـاسل هـو في الوقائع iiمعلم      وقـع الـعذاب عـلى جيوش iiأميّة
غـيـران يـعجم لـفظه iiويـدمدم      مــا  راعـهم إلاّ تـقحم ضـيغم
والـعبّاس فـيهم ضـاحك iiيـتبسّم      عـبست  وجوه القوم خوف iiالموت
الاَوسـاط  يحصد للرؤوس iiويحطم      قلب اليمين على الشمال وغاص في
إلاّ  وفــرّ ورأســه iiالـمـتقدّم      مـا  كـرّ ذو بـأس لـه iiمـتقدماً
سـيـان أشـقر لـونها iiوالاَدهـم      صـبغ  الـخيول برمحه حتى iiغدا
إلاّ وحــلّ بـها الـبلاء iiالـمبرم      مـا شـدّ غـضباناً عـلى iiملمومه
فـكـأنّما هــو بـالـتقدم يـسلم      ولـه  إلـى الاقـدام نزعة iiهارب
فـيها أنـوف بـني الضلالة iiترغم      بـطل  تـورث مـن أبيه iiشجاعة
  أرأيتم هذا الوصف الرائع لبسالة أبي الفضل وقوة بأسه وشجاعته النادرة .

العباس بن علي _ 15 _

  أرأيتم كيف وصف الحلّي ما حلّ بالجيش الاَموي من الجبن الشامل ، والهزيمة الساحقة حينما برز إليهم قمر بني هاشم وبطل الاِسلام فأنزل بهم العذاب الاَليم ، وترك صفوفهم تموج من الخوف والرعب ، وكان العباس متبسّماً مثلوج الفؤاد مما ينزل بهم من الخسائر الفادحة ، فقد ملاَ ساحات المعركة بجثث قتلاهم ، وصبغ خيولهم بدمائهم ، وفيما أحسب أنّه لم توصف البسالة والشجاعة بمثل هذا الوصف الرائع الدقيق ، والذي لا مبالغة فيه حسبما تحدّث الرواة عمّا أنزله العباس ( عليه السلام ) بأهل الكوفة من الخسائر الجسيمة .
  ويستمرّ السيد الحلّي في وصف شجاعة أبي الفضل فيقول :
جـبلاً أشـمّ يـخف فيه مطهم      بـطل إذا ركـب المطهم iiخلْته
في غير صاعقة السماء لا أقسم      قـسماً بصارمه الصقيل iiوانني
والله يـقضي مـا يشاء iiويحكم      لولا  القضا لمحا الوجود iiبسيفه
  لقد كان سيف أبي الفضل صاعقة مدمّرة قد حلّت بأهل الكوفة ، ولولا قضاء الله لاَتى العبّاس على الجيش ، ومحاهم من ساحة الوجود .

ب ـ الاِمام كاشف الغطاء :
  وبهر الاِمام محمد الحسين كاشف الغطاء رحمه الله بشجاعة أبي الفضل لقد عبست وجوه الجيش الاَموي رعباً وخوفاً من أبي الفضل الذي حصد رؤوس أبطالهم ، وحطّم معنوياتهم ، وأذاقهم وابلاً من العذاب الاَليم .

العباس بن علي _ 16 _

ج ـ الفرطوسي :
  وعرض شاعر أهل البيت ( عليهم السلام ) الشيخ عبد المنعم الفرطوسي نضّر الله مثواه في ملحمته الخالدة إلى شجاعة أبي الفضل وبسالته في ميدان الحرب قال :
عـلم فـي الثبات عند iiاللقاء      عـلم لـلجهاد في كل iiزحف
مـن  عـليّ بـنجدة وإبـاء      قـد  نـما فيه كل بأس iiوعزّ
وهو روع الجنان من كل راء      هو  ثبت الجنان في كل روع
  وأضاف الفرطوسي مصوّراً ما أنزله أبو الفضل من الخسائر الفادحة في جيوش الاَمويين قال :
عـلـماً  فـوق قـلعة iiشـمّاء      فـارتقى صـهوة الجواد iiمطلاً
قـمراً  فـي غـياهب iiالظلماء      وتـجلّى  والـحرب لـيل قثام
أفـرغت  من ضلوعها كالهواء      فـاستطارت مـن الكماة iiقلوب
واسـتطارت  رؤوسهم iiكالهباء      وتهاوت جسومهم وهي صرعى

العباس بن علي _ 17 _

واسـتطارت  رؤوسهم iiكالهباء      وتهاوت جسومهم وهي صرعى
بـالمنايا من اليد البيضاء  (ii1)       وهو يرمي الكتائب السود رجماً
  إن شجاعة أبي الفضل قد أدهشت أفذاذ الشعراء ، وصارت مضرب المثل على امتداد التأريخ ، ومما زاد في أهميتها انّها كانت لنصرة الحق والذبّ عن المثل والمبادئ التي جاء بها الاِسلام ، وانها لم تكن بأي حال من أجل مغنم مادي من مغانم هذه الحياة .

2 ـ الاِيمان بالله :
  أمّا قوّة الاِيمان بالله ، وصلابته فانها من أبرز العناصر في شخصية أبي الفضل ( عليه السلام ) ، ومن أوليات صفاته ، فقد تربّى في حجور الاِيمان ومراكز التقوى ، ومعاهد الطاعة والعبادة لله تعالى ، فقد غذّاه أبوه زعيم الموحّدين ، وسيّد المتّقين بجوهر الاِيمان ، وواقع التوحيد ، لقد غذّاه بالاِيمان الناشىء عن الوعي ، والتدبّر في حقائق الكون ، وأسرار الطبيعة ، ذلك الاِيمان الذي اعلنه الاِمام ( عليه السلام ) بقوله : ( لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً ) وقد تفاعل هذا الاِيمان العميق في أعماق قلب أبي الفضل وفي دخائل ذاته حتى صار من عمالقة المتقين والموحّدين ، وكان من عظيم إيمانه الذي لا يحد أنّه قدم نفسه واخوته وبعض أبنائه قرابين خالصة لوجه الله تعالى .
  لقد جاهد العبّاس ببسالة دفاعاً عن دين الله ، وحماية لمبادىَ الاِسلام التي تعرّضت للخطر الماحق أيّام الحكم الاَموي ، ولم يبغ بذلك إلاّ وجه الله والدار الآخرة .

---------------------------
(1) ملحمة أهل البيت 3 : 329 ـ 330 .

العباس بن علي _ 18 _

3 ـ الاِباء :
  وصفة أخرى من أسمى صفات أبي الفضل ( عليه السلام ) ، وهي الاِباء وعزّة النفس فقد أبي أن يعيش ذليلاً في ظلّ الحكم الاَموي الذي اتخذ مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، فاندفع إلى ساحات الجهاد كما اندفع أخوه أبو الاَحرار الذي رفع شعار العزّة والكرامة ، وأعلن أن الموت تحت ظلال الاَسنّة سعادة ، والحياة مع الظالمين برماً ، لقد مثّل أبو الفضل ( عليه السلام ) يوم الطفّ الاِباء بجميع رحابه ومفاهيمه فقد منّاه الاَمويون بإمارة الجيش ، وإسناد القيادة العامة له أن تخلّى عن أخيه سيّد شباب أهل الجنّة ، فهزأ منهم وجعل إمارة جيشهم تحت حذائه ، واندفع بشوق وإخلاص إلى ميادين الحرب يجندل الاَبطال ويحصد الرؤوس دفاعاً عن حرّيته ودينه وكرامته .

4 ـ الصبر :
  ومن خصائص أبي الفضل ( عليه السلام ) ومميّزاته الصبر على محن الزمان ، ونوائب الدهر ، فقد ألمّت به يوم الطف من المصائب والمحن التي تذوب من هولها الجبال ، فلم يجزع ، ولم يفه بأيّ كلمة تدلّ على سخطه ، وعدم رضاه بما جرى عليه وعلى أهل بيته ، وانّما سلّم أمره إلى الخالق العظيم ، مقتدياً بأخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) الذي لو وزن صبره بالجبال الرواسي لرجح عليها ، لقد رأى أبو الفضل الكواكب المشرقة ، والممجدين الاَوفياء من أصحابه وهم مجزّرون كالاَضاحي في رمضاء كربلاء تصهرهم الشمس ، وسمع عويل الاَطفال ، وهم ينادون العطش العطش ، وسمع صراخ عقائل الوحي ، وهنّ يندبن قتلاهنّ ، ورأى وحدة أخيه سيّد الشهداء ، وقد أحاط به أنذال أهل الكوفة يبغون قتله تقرّباً لسيّدهم ابن مرجانة ، رأى أبو الفضل كل هذه الشدائد الجسام فلم يجزع وسلّم أمره إلى الله تعالى ، مبتغياً الاَجر من عنده .

العباس بن علي _ 19 _

5 ـ الوفاء :
  ومن خصائص أبي الفضل ( عليه السلام ) الوفاء الذي هو من أنبل الصفات وأميزها ، فقد ضرب الرقم القياسي في هذه الصفة الكريمة وبلغ أسمى حدّ لها ، وكان من سمات وفائه ما يلي :

أ ـ الوفاء لدينه :
  وكان أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) من أوفى الناس لدينه ، ومن أشدّهم دفاعاً عنه ، فحينما تعرّض الاِسلام للخطر الماحق من قبل الطغمة الاَموية الذين تنكّروا كأشدّ ما يكون التنكّر للاِسلام ، وحاربوه في غلس الليل وفي وضح النهار ، فانطلق أبو الفضل إلى ساحات الوغى فجاهد في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين لترتفع كلمة الله عالية في الاَرض ، وقد قطعت يداه ، وهوى إلى الاَرض صريعاً في سبيل مبادئه الدينية .

ب ـ الوفاء لاَمّته :
  رأى سيّدنا العبّاس ( عليه السلام ) الاَمّة الاِسلامية ترزح تحت كابوس مظلم من الذلّ والعبودية قد تحكّمت في مصيرها عصابة مجرمة من الاَمويين فنهبت ثرواتها ، وتلاعبت في مقدراتها ، وكان أحد أعمدتهم السياسية يعلن بلا حياء ولا خجل قائلاً : ( إنما السواد بستان قريش ) فأي استهانة بالاَمة مثل هذه الاستهانة ، ورأى أبو الفضل ( عليه السلام ) أن من الوفاء لاَمّته أن يهبّ لتحريرها وإنقاذها من واقعها المرير ، فانبرى مع أخيه أبي الاَحرار والكوكبة المشرقة من فتيان أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ومعهم الاَحرار الممجدون من أصحابهم ، فرفعوا شعار التحرير ، وأعلنوا الجهاد المقدّس من أجل إنقاذ المسلمين من الذلّ والعبودية ، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة لهم ، حتى استشهدوا من أجل هذا الهدف السامي النبيل ، فأي وفاء للاَمة يضارع مثل هذا الوفاء ؟

العباس بن علي _ 20 _

ج ـ الوفاء لوطنه :
  وغمرت الوطن الاِسلامي محن شاقّة وعسيرة أيام الحكم الاَموي ، فقد استقلاله وكرامته ، وصار بستاناً للاَمويين وسائر القوى الرأسمالية من القرشيين وغيرهم من العملاء ، وقد شاع البؤس والحرمان ، وذلّ فيه المصلحون والاَحرار ، ولم يكن فيه أي ظلّ لحرية الفكر والرأي ، فهبّ العباس تحت قيادة أخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) إلى مقاومة ذلك الحكم الاَسود وتحطيم أروقته وعروشه ، وقد تمّ ذلك بعد حين بفضل تضحياتهم ، فكان حقاً هذا هو الوفاء للوطن الاِسلامي .

د ـ الوفاء لاَخيه :
  ووفى أبو الفضل ما عاهد الله عليه من البيعة لاَخيه ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والمنافح الاَول عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ولم يرَ الناس على امتداد التاريخ وفاءً مثل وفاء أبي الفضل لاَخيه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، ومن المقطوع به أنه ليس في سجلّ الوفاء الانساني أجمل ولا أنظر من ذلك الوفاء الذي أصبح قطباً جاذباً لكل إنسان حرّ شريف .


6 ـ قوّة الإرادة :
  أمّا قوّة الاِرادة فانّها من أميز صفات العظماء الخالدين الذين كُتب لهم النجاح في أعمالهم إذ يستحيل أن يحقق من كان خائر الاِرادة ، وضعيف الهمّة أي هدف اجتماعي ، أو يقوم بأي عمل سياسي .
  لقد كان أبو الفضل ( عليه السلام ) من الطراز الاَول في قوة بأسه ، وصلابة إرادته ، فانظمّ إلى معسكر الحق ، ولم يهن ، ولم ينكل ، وبرز على مسرح التأريخ كأعظم قائد فذّ ، ولو لم يتّصف بهذه الظاهرة لما كتب له الفخر والخلود على امتداد الاَيّام .