7 ـ الرأفة والرحمة :
  وأترعت نفس أبي الفضل بالرأفة والرحمة على المحرومين ، والمضطهدين وقد تجلّت هذه الظاهرة بأروع صورها في كربلاء حينما احتلّت جيوش الاَمويين حوض الفرات لحرمان أهل البيت من الماء حتى يموتوا أو يستسلموا لهم ، ولما رأى العباس ( عليه السلام ) أطفال أخيه ، وسائر الصبية من أبناء اخوته ، وقد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم من شدّة الظمأ ذاب قلبه حناناً وعطفاً عليهم ، فاقتحم الفرات ، وحمل الماء إليهم ، وسقاهم ، وفي اليوم العاشر من المحرّم ، سمع الاَطفال ينادون العطش العطش ، فتفتت كبده رحمة ورأفة عليهم ، فأخذ القربة ، والتحم مع أعداء الله حتى كشفهم عن نهر الفرات ، فغرف منه غرفة ليروي ظمأه فأبت رحمته أن يشرب قبل أخيه وأطفاله ، فرمى الماء من يده ، فتّشوا في تاريخ الاَمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الرأفة والرحمة ، التي تحلَّى بها قمر بني هاشم وفخر عدنان ، هذه بعض عناصر أبي الفضل وصفاته ، وقد ارتقى بها إلى قمّة المجد التي ارتقى إليها أبوه .

مع الأحداث
  ورافق أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) منذ نعومة أظفاره كثيراً من الاَحداث الجسام التي لم تكن ساذجة ، ولا سطحية ، وانّما كانت عميقة كأشدّ ما يكون العمق ، فقد أحدثت اضطراباً شاملاً في الحياة الفكرية والعقائدية بين المسلمين ، كما استهدفت بصورة دقيقة إبعاد أهل البيت ( عليهم السلام ) عن المراكز السياسية في البلاد ، واخضاعهم لرغبات السلطة ، وما تعمله على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي ، من أعمال لا تتفق في كثير من بنودها مع التشريع الاِسلامي ، وقد تجلّى ذلك بوضوح أيّام حكومة عثمان وما سلكته من التصرفات في المجالات الاِداريه ، فقد عمدت إلى منح مناصب الدولة ، وسائر الوظائف العامة إلى بني أميّة وآل معيط ، وحرمان بني هاشم ، ومن يتّصل بهم من أبناء الصحابة من أي منصب من المناصب العامة ، وقد استولى الاَمويون على جميع أجهزة الدولة ، وراحوا يعملون عامدين أو غير عامدين إلى خلق الاَزمات الحادّة بين المسلمين ، ومن المقطوع به أنّه لم تكن لاَكثرهم أيّة نزعة إسلامية ، كما لم تكن لهم أيّة دراية بأحكام القانون الاِسلامي ، وما تتطلّب إليه الشريعة الاِسلامية من إيجاد مجتمع إسلامي متطوّر قائم على المودّة والتعاون وبعيد كلّ البعد عن التأخّر .

العباس بن علي _ 22 _

  لقد أشاعت حكومة عثمان الرأسمالية في البلاد ، فقد منحت الاَمويين وبعض أبناء القرشيين الامتيازات الخاصة ، وفتحت لهم الطريق لكسب الاَموال ، وتكديسها بغير وجه مشروع ، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى خلق اضطراب شامل لا في الحياة الاقتصادية فحسب ، وانّما في جميع مناحي الحياة ، وأشاعت القلق والتذمّر في جميع الاَوساط الاِسلامية ، فأتجهت قطعات من الجيوش المرابطة في العراق ومصر إلى يثرب ، وطالبت عثمان بالاستقامة في سياسته ، وإبعاد الاَمويين عن جهاز الدولة ، كما طالبوه بصورة خاصة بإبعاد مستشاره ووزيره مروان بن الحكم الذي كان يعمل بصورة مكشوفة لتأجيج نار الفتنة في البلاد ، ولم يستجب عثمان لمطالب الثوّار ، ولم يخضع لرأي الناصحين له ، والمشفقين عليه ، وظلّ متمسّكاً بأسرته ، ومحتضناً لبطانته ، تتوافد عليه الاَخبار بانحرافهم عن الطريق القويم ، واقترافهم لما حرّمه الله ، فلم يعن بذلك ، وراح يسدّدهم ويلتمس لهم المعاذير ، ويتّهم الناصحين بالعداء لاَسرته ، وبعدما اختفت جميع الوسائل الهادفة لاستقامة عثمان لم يجد الثوار بُدّاً من قتله ، فقَتل شرّ قتلة ، ويقول المؤرّخون انّه تولّى قتله خيار أبناء الصحابة كمحمد بن أبي بكر ، كما أقرّ قتله كبار الصحابة وعظماؤهم ، وفي طليعتهم الصحابي الجليل صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخليله عمّار بن ياسر ، وانتهت بذلك حكومة عثمان وهي من أهمّ الاَحداث الجسام التي جرت في عصر أبي الفضل ( عليه السلام ) وبمرأى ومسمع منه ، فقد كان في شرخ الشباب وعنفوانه وقد رأى كيف تذرع الانتهازيّون من الاَمويين بمقتل عثمان فطبّلوا له ، ورفعوا قميصه الملطّخ بدمائه فجعلوه شعاراً لتمرّدهم على حكم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذلك الحكم القائم على الحق والعدل ، إنّ أسوأ ماتركت حكومة عثمان أنّها ألقت الفتنة بين المسلمين ، وحصرت الثروة عند الاَمويين وآل أبي معيط ، وعملائهم من القرشيين الحاقدين على العدل الاجتماعي ، وبذلك استطاعوا القيام بعصيان مسلّح ضدّ حكومة الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) ، وعلى أيّ حال فلنترك حديث عثمان ، ونتوجّه إلى ذكر بقيّة الاَحداث التي جرت في عصر أبي الفضل ( عليه السلام ) .

العباس بن علي _ 23 _

حكومة الامام
  والشيء المؤكّد الذي لا خلاف فيه أنّ الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد انتخب انتخاباً شاملاً من جميع قطعات الشعب ، فقد سارعت القوات المسلحة التي أطاحت بحكومته إلى مبايعته كما بايعته الجماهير العامة في مختلف الاَقاليم الاِسلامية سوى الشام ، ونفر قليل في يثرب كان من بينهم سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وبعض الاَمويين الذين أيقنوا أن الاِمام ( عليه السلام ) يبسط العدالة الاجتماعية في الاَرض ، ويحقق المساواة الكاملة بين المسلمين فلا امتياز لاَحد على أحد ، وبذلك تفوت مصالحهم ، فلم يبايعوه ، ولم يقف الاِمام معهم موقفاً معادياً فلم يوعز إلى السلطات القضائية والتنفيذية باتخاذ الاِجراءات الحاسمة ضدّهم ، وذلك عملاً بما منحه الاِسلام من الحريّات العامة لجميع الناس ، سواء كانوا من المؤيّدين للدولة أو من المعارضين لها بشرط أن لا يحدثوا فساداً في الاَرض ، أو يقوموا بعصيان مسلّح ضدّ الدولة فانّها تكون مضطرّة إلى اتخاذ الاجراءات القانونية ضدّهم ، وعلى أيّ حال فقد بويع الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بيعة عامة عن رضى واختيار من جميع أبناء الشعوب الاِسلامية ، وأظهروا في بيعته جميع مباهج الفرح والسرور ، ولم يظفر بمثل هذه البيعة أحد من الخلفاء الذين سبقوه أو تأخّروا عنه ، وفور تقلّد الاِمام ( عليه السلام ) للخلافة تبنى بصورة إيجابية وشاملة العدل الخالص ، والحق المحض ، وتنكّر لكل مصلحة شخصية تعود بالنفع عليه أو على ذويه ، وقدم مصالح الفقراء والمحرومين على جميع المصالح الاَخرى . . . كانت سعادته أن يرى الاَوساط الشعبية تنعم بالخير والسعادة ، ولا مكان للحاجة والاعواز عندها ، ولم يعرف في تاريخ هذا الشرق حاكم مثله في عطفه وحنانه على البؤساء والمحرومين .

العباس بن علي _ 24 _

  ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الحكم عند الاِمام ( عليه السلام ) فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرة ولده أبي الفضل ( عليه السلام ) فانّه يكشف عن روعة التربية الكريمة التي تربّى عليها في عهد أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، والتي تركت في نفسه حبّ التضحية والفداء في سبيل الله ، كما يكشف عن الاَسباب الوثيقة التي دعت القوى الطامعة ، والمنحرفة إلى الوقوف في وجه حكومة الاِمام ( عليه السلام ) ، ومناهضتهم لاَبنائه من بعده ، وفيما يلي ذلك :

منهج حكم الاِمام :
  أمّا منهج الحكم وفلسفته عند الاِمام ( عليه السلام ) فقد كان مشرقاً وحافلاً بمقومات الارتقاء ، والنهوض للشعوب الاِسلامية ، وفيما أعتقد أنّه لم تعرف الاِنسانية في جميع أدوارها نظاماً سياسياً تبنّى العدل الاجتماعي ، والعدل الاقتصادي والسياسي مثل ما تبّناه الاِمام ، وسنّه من المناهج الرائعة في هذه الحقول ونشير إلى بعضها :

1 ـ بسط الحريّات :
  وآمن الاِمام ( عليه السلام ) بضرورة منح الحريّات العامة لجميع أبناء الاَمّة ، وان ذلك من اولوّيات حقوقها ، والدولة مسؤولة عن توفيرها لكل فرد من أبناء الشعب ، وان حرمانهم منها يخلق في نفوسهم العقد النفسية ، ويمنع من التقدّم الفكري ، والتطوّر الاجتماعي في أبنائها ، ويخلد لهم الخنوع والخمول ، ويعود عليهم بالاضرار البالغة ، أمّا مدى هذه الحرية وسعتها فهي :

العباس بن علي _ 25 _

أ ـ الحريّة الدينية :
  يرى الاِمام ( عليه السلام ) أن الناس أحرار فيما يعتقدون ويذهبون من أفكار دينية ، وليس للدولة أن تحول بينهم وبين عقائدهم كما أنّه ليس لها أن تحول بينهم وبين طقوسهم الدينية ، وانهم غير ملزمين بمسايرة المسلمين في الاَحوال الشخصية ، وانّما يتّبعون ما قنن من تشريع عند فقائهم .

ب ـ الحريّة السياسية :
  ونعني بها منح الناس الحرية التامة في اعتناق المذاهب السياسية التي تتفق مع رغباتهم وميولهم ، وليس للدولة أن تفرض عليهم رأياً سياسياً مخالفاً لما يذهبون إليه ، كما أنّه ليس لها أن تفرض عليهم الاِقلاع عن آرائهم السياسية الخاصة ، وانّما عليها أن تقيم لهم الاَدلة والحجج الحاسمة على فساد ذلك المذهب ، وعدم صحّته ، فان رجعوا إلى الرشاد فذاك ، وإلاّ فتتركهم وشأنهم ما لم يحدثوا فساداً في الاَرض ، أو يخلّوا بالاَمن العام ، كما اتفق ذلك من الخوارج الذين فقدوا جميع المقوّمات الفكرية ، والركائز العلمية ، وراحوا يتمادون في جهلهم وغيّهم ويعرضون الناس للقتل والاِرهاب ، فاضطرّ الاِمام ( عليه السلام ) إلى مقاومتهم بعد أن أعذر فيهم ، ومن الجدير بالذكر أن مما يتفرّع على الحرية السياسية حريّة النقد لرئيس الدولة وجميع أعضائها ، فالناس أحرار فيما يتولّون ، وينقدون ، وقد كان الخوراج يقطعون على الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطابه ، ويخدشون عواطفه بنقدهم الذي لم يكن واقعياً ، وانّما كان مبنيّاً على الجهل والمغالطة ، فلم يتّخذ الاِمام أي إجراء ضدّهم ، ولم يسقهم إلى المحاكم والقضاء لينالوا جزاءهم ، وبذلك فقد عهد الاِمام إلى نشر الوعي العام ، وبناء الشخصية المزدهرة للاِنسان المسلم .

العباس بن علي _ 26 _

  هذه بعض صور الحرية التي طبّقت أيام حكم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهي تمثّل مدى أصالة منهجه السياسي الذي يساير التطور والابداع .

2 ـ نشر الوعي الديني :
  واهتم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بصورة إيجابية بنشر الوعي الديني ، وإشاعة المثل الاِسلامية بين المسلمين ، باعتبارها الركيزة الاَولى لاِصلاح المجتمع وتهذيبه .
  انّ من أُولى معطيات الوعي الديني اقصاء الجريمة ، ونفي الشذوذ والانحراف عن المجتمع ، وإذا لم يتلوّث بذلك ، فقد بلغ غاية الازدهار والتقدّم ، ومن المقطوع به انّا لم نجد أحداً من خلفاء المسلمين وملوكهم قد عني بالتربية الدينية كما عُني الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقد حفل نهج البلاغة بالكثير من خطبه التي تهزّ أعماق النفوس ، وتدفعها إلى سلوك المناهج الخيّرة ، واعتناق الفضائل ، وابعادها عن اقتراف الجرائم ، وقد أثمرت خطبه في إيجاد طبقة من خيار المسلمين وصلحائهم ، قاوموا الانهيار الاَخلاقي ، وناهضوا التفسخ والتحلل الذي شاع أيام حكم الاَمويين ، وكان من بين هؤلاء رشيد الهجري وميثم التمّار وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وغيرهم من بناة الفكر الاِسلامي .

3 ـ نشر الوعي السياسي :
  أمّا نشر الوعي السياسي في أوساط المجتمع الاِسلامي فهو من أهمّ الاَهداف السياسية التي تبنّاها الاِمام ( عليه السلام ) في أيّام حكومته ، ونعني بالوعي السياسي هو تغدية المجتمع وإفهامه بجميع الطرق والوسائل بالمسؤولية أمام الله تعالى ، على مراقبة الاَوضاع العامة في الدولة وغيرها من سائر الشؤون الاجتماعية للمسلمين حتى لا يقع أيّ تمزّق في صفوفهم ، أو ايّ تأخّر أو ضعف في حياتهم الفردية والاجتماعية ، وقد ألزم الاِسلام بذلك ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( كلّكم راع ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته . . ) ألقى النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المسؤولية على جميع المسلمين في رعاية شؤونهم ، والعمل على حفظ مصالحهم ، ودرأ الفساد عنهم .

العباس بن علي _ 27 _

  ومن بين الاَحاديث المهمّة الداعية إلى مقاومة أئمّة الظلم والجور هذا الحديث النبوي الذي ألقاه أبو الاَحرار على جلاوزة ابن مرجانة وعبيدة قال : ( أيّها الناس : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان ، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله . . (1) .
  وكان هذا الحديث الشريف من المحفّزات لسيّد الشهداء ( عليه السلام ) على إعلان الجهاد المقدّس ضدّ الحكم الاَموي الجائر الذي استحلّ ما حرّم الله ، ونكث عهده ، وخالف سنّة رسوله ، وعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان ، انّ الوعي السياسي الذي أشاعه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بين المسلمين أيّام حكمه قد خلق شعوراً ثورياً ضد الظالمين والمستبدّين ، فقد انبرى المجاهدون الاَبطال ممن غذّاهم الاِمام بهذه الروح إلى مقارعة الطغاة ، وكان على رأسهم أبو الاَحرار سيّد الشهداء واخوه البطل الفذّ أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، والكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت ( عليهم السلام ) وأصحابهم المجاهدين ، فقد هبّوا جميعاً في وجه الطاغية يزيد لتحرير المسلمين من الذلّ والعبوديّة وإعادة الحياة الحرّة الكريمة بين المسلمين . . . . وقد سبق هؤلاء العظماء المصلح الكبير حجر بن عديّ الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ورُشيد الهجري ، وميثم التمّار وغيرهم من أعلام الحرية ودعاة الاِصلاح الاجتماعي ، فقد ثاروا بوجه الطاغية معاوية بن أبي سفيان ممثّل القوى الجاهلية ، ورأس العناصر المعادية للاِسلام ، وعلى أي حال فقد غرس الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) روح الثورة على الظلم والطغيان في نفوس المسلمين ، وأهاب بهم أن لا يقارّوا على كظّة ظالم أو سغب مظلوم .

---------------------------
(1) حياة الامام الحسين 3: 80 .

العباس بن علي _ 28 _

4 ـ إلغاء المحسوبيات :
  وكان مما عني به الاِمام ( عليه السلام ) في أيّام حكومته إلغاء المحسوبيات إلغاءً مطلقاً ، فالقريب والبعيد عنده سواء ، فليس للقريب امتياز خاص ، وانّما شأنه شأن غيره في جميع الحقوق والواجبات كما ساوى بصورة موضوعية بين العرب والموالي مما جعل الموالي يدينون له بالولاء ، ويؤمنون بإمامته ، لقد ألغى الاِمام جميع صنوف المحسوبيات ، وصور العنصريات ، وساوى بين المسلمين على اختلاف قومياتهم مساواة عادلة لم يعهد لها نظير في تاريخ الاَمم والشعوب ، فقد حملت مساواته روح الاِسلام وجوهره وحقيقته النازلة من ربّ العالمين ، فهي التي تجمع ولا تفرّق ولا تجعل في صفوف المسلمين أي ثغرة يسلك فيها أعداء الاِسلام لتشتيت شملهم ، وتصديع وحدتهم .

5 ـ القضاء على الفقر :
  أمّا فلسفة الاِمام ( عليه السلام ) في الحكم فتبتني على محاربة الفقر ولزوم اقصاء شبحه البغيض عن الناس لاَنّه كارثة مدمّرة للمواهب والاَخلاق ، ولا يمكّن الاَمّة أن تحقّق أي هدف من أهدافها الثقافية والصحيّة وهي فقيرة بائسة ، إن الفقير يقف سدّاً حائلاً بين الاَمّة وبين ما تصبو إليه من التطوّر والتقدّم والرخاء بين أبنائها . . . ومن الجدير بالذكر أن من بين المخططات التي تزيل شبح الفقر وتوجب نشر الرخاء بين الناس ، والتي عني بها الاِسلام بصورة موضوعية وهي :

العباس بن علي _ 29 _

أ ـ توفير المسكن .
ب ـ إقامة الضمان الاجتماعي .
ج ـ توفير العمل .
د ـ القضاء على الاستغلال .
هـ ـ سدّ أبواب المرابين .
و ـ القضاء على الاحتكار .
  هذه بعض الوسائل التي عني بها الاِسلام في اقتصاده ، وقد تبنّاها الاِمام في أيّام حكومته ، وقد ناهضتها القوى الرأسمالية القرشية ودفعت بجميع إمكانياتها للاِجهاز على حكم الاِمام ، الذي قضى على مصالحهم الضيّقة ، وبهذا نطوي الحديث عن منهج الاِمام وفلسفته في الحكم .

القوى المعارضة للإمام :
  ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للتعرّف على القوى المعارضة لحكومة الاِمام ، التي لم تكن لها أيّة أهداف نبيلة ، وانّما كانت تبغي الاستيلاء على الحكم للظفر بخيرات البلاد ، والتحكّم في رقاب المسلمين بغير حقّ ، وفيما يلي ذلك .

العباس بن علي _ 30 _

السيّدة عائشة :
  وانطوت نفس السيّدة عائشة ـ مع الاَسف ـ على بغض عارم وكراهية شديدة للاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولعلّ السبب في ذلك ـ فيما نحسب ـ يعود إلى ميل زوجها النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإلى بضعته وحبيبته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ) ، وإلى سبطيه وريحانتيه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ( عليهما السلام ) واشادته دوماً بفضلهم ، وسموّ منزلتهم عند الله ، وفرض مودّتهم على عموم المسلمين ، كما أعلن الذكر الحكيم ذلك ، قال تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) وفي نفس الوقت كانت عائشة تعامل معاملة عادية ، وفي كثير من الاَحيان كان النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يشير إلى أفعالها ، فقد قال ( صلى الله عليه وآله وسلم) لنسائه : أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ، وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من ها هنا يتولّد الشرّ وأشار إلى بيتها ، وغير ذلك مما أثار عواطفها ، وثمّة سبب في كراهية عائشة للاِمام وهو موقفه الصارم الذي وقفه تجاه بيعة أبيها أبي بكر ، ومقاطعته لانتخابه ، وشجبه لبيعته وبعد سقوط حكومة عثمان كانت تروم إرجاع الخلافة إلى قبيلتها تيم لتكون سياسة الدولة بجميع أجهزتها خاضعة لرغباتها وميولها ، وهي على يقين أن الخلافة إذا رجعت للاِمام ( عليه السلام ) فإنّها سوف تعامل كغيرها من أبناء الشعوب الاِسلامية ، ولا تحظى بأيّة ميّزة ، فأن جميع الشؤون السياسية والاقتصادية عند الاِمام ( عليه السلام ) لا بدّ أن تسير على وفق الكتاب والسنّة ، ولا مجال عنده للاَهواء والعواطف ، وكانت عائشة تعرف ذلك جيّداً ، ولذا أعلنت العصيان والتمرّد على حكومته ، وقد انضمّ إليها كل من الزبير وطلحة والامويين وذوي الاطماع والمنحرفين عن الحق من القبائل القرشية الذين ناهضوا الدعوة الاِسلامية من حين بزوغ نورها .

العباس بن علي _ 31 _

  وعلى أيّ حال فقد كانت عائشة من أوثق الاَسباب في الاِطاحة بحكومة عثمان ، وقد أفتت بوجوب قتله ، ولما أيقنت بهلاكه خرجت إلى مكّة ، وهي تتطلع إلى الاَخبار ، فلما وافاها النبأ بقتله أعلنت فرحتها الكبرى ، ولكنها لمّا فوجئت بالبيعة للاِمام ( عليه السلام ) انقلب وضعها رأساً على عقب ، وراحت تقول بحرارة : ( قتل عثمان مظلوماً والله لاَطلبنّ بدمه . . ) ، وأخذت تندب عثمان رياءً لا حقيقة ، وقد رفعت قميصه الملطّخ بدمه ، وجعلته شعاراً لتمرّدها على السلطة الشرعية التي أعلنت حقوق الاِنسان ، وتبنّت مصالح المحرومين والمضطهدين والتي كانت أمتداداً لحكومة الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعقدت عائشة في مكّة الندوات مع أعضاء حزبها البارزين كطلحة والزبير ، وسائر الامويين ، وأخذت تتداول معهم الآراء أي بلد يغزونه ليشكّلوا فيه حكومة لهم ، ويتّخذوا منه قاعدة لانطلاقهم في محاربة الاِمام ، والاِجهاز على حكومته ، وبعد التأمّل والنظر الدقيق في أحوال المناطق الاِسلامية أجمع رأيهم على احتلال البصرة لاَنّ لهم بها شيعة وأنصاراً ، وأعلنوا بعد ذلك العصيان المسلّح ، وزحفوا نحو البصرة ، وقد التحق بهم بهائم البشر ، وحثالات الشعوب من الذين ليس لهم فكر ولا وعي ، وساروا لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى البصرة ، وبعد مقاومة عنيفة بينهم وبين الحكومة المركزية فيها استطاعوا احتلالها ، وألقوا القبض على حاكمها سهل بن حنيف وجيء به مخفوراً إلى عائشة فأمرت بنتف لحيته ، فنتفتها جلاوزتها وعاد ابن حنيف بعد لحيته العريضة شاباً أمرد ، ولما وافت الاَنباء الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بتمرّد عائشة ، واحتلالها لمدينة البصرة ، سارع بجيوشه للقضاء على هذا الجيب المتمرّد ، خوفاً من أن تسري نار الفتنة إلى بقيّة الاَمصار الاِسلامية ، وقد ضمّ جيشه القوى الواعية في الاِسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر ، ومالك الاَشتر ، وحجر بن عدي ، وأبن التيهان وغيرهم ممن ساهموا في بناء الاِسلام ، وإقامة ركائزه في الاَرض .

العباس بن علي _ 32 _

  وسرت جيوش الاِمام حتى انتهت إلى البصرة فوجدوها محتلّة بجنود مكثفة ، وهم يعلنون الطاعة والولاء لاَمّهم عائشة ، فأرسل الاِمام رسله إلى أعضاء القيادة العسكرية في جيش عائشة كطلحة والزبير ، فعرضوا عليهم السلم والدخول في مفاوضات بينهم وبين الامام حقناً لدماء المسلمين ، فأبوا ، وأصرّوا على التمرّد والعصيان مطالبين ـ بوقاحة ـ بدم عثمان ، وهم الذين أطاحوا بحكومته ، وأجهزوا عليه ، ولما نفدت جميع الوسائل التي اتخذها الاِمام ( عليه السلام ) للسلم اضطّر إلى إعلان الحرب عليهم ، وجرت بين الفريقين معركة رهيبة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل ، وأخيراً نصر الله الاِمام على أعدائه ، فقد قُتل طلحة والزبير ، وملئت ساحة المعركة بجثث قتلاهم ، وقذف الله الرعب في قلوب الاَحياء منهم فولّوا منهزمين قابعين بالذلّ والعار ، واستولى جيش الاِمام على عائشة القائدة العامة للمتمرّدين ، وحملت بحفاوة إلى بعض بيوت البصرة ، ولم يتّخذ الاِمام معها الاِجراءات الصارمة ، وعاملها معاملة المحسن الكريم ، وسارع الاِمام فسرّحها تسريحاً جميلاً إلى يثرب ، لتقرّ في بيتها الذي أمرها الله ورسوله أن تسكن فيه ، ولا تتدخّل بمثل هذه الاَمور التي ليست مسؤولة عنها ، وانتهت هذه الفتنة التي أسماها المؤرّخون ( بحرب الجمل ) وقد أشاعت في ربوع المسلمين الثكل والحزن والحداد ، ومزّقت صفوفهم ، وألقتهم في شرّ عظيم . . . ومن المؤكّد أن دوافع هذه الحرب لم تكن سليمة ، ولم تكن حجّة عائشة وحزبها منطقية ، وانّما كانت من أجل المطامع ، والكراهية الشديدة لحكم الاِمام الذي فقدوا في ظلاله جميع الامتيازات الخاصة ، وعاملهم الاِمام كما يعامل سائر المسلمين .

العباس بن علي _ 33 _

  لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) هذه الحرب الدامية ، ووقف على أهدافها الرامية للقضاء على حكم أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، وقد استبان له أحقاد القبائل القرشية له واستبان له أن الدين لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم ، وانّما كانوا يلوكونه بألسنتهم حفظاً لدمائهم ومصالحهم .

معاوية وبنو أميّة :
  وفي طليعة القوى المعارضة لحكومة الاِمام والمعادية له ، معاوية بن أبي سفيان ، وبنوا أميّة ، فقد نزع الله الاِيمان من قلوبهم ، وأركسهم في الفتنة ركساً ، فكانوا من ألدّ أعداء الاِمام ، كما كانوا من قبل من أعداءً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهم الذين ناهضوا دعوته ، وكفروا برسالته ، وكادوا له في غلس الليل ، وفي وضح النهار ، حتى أعزّه الله وأذلّهم ، ونصره وقهرهم ، وقد دخلوا في الاِسلام مكرهين لا مؤمنين به ، ولولا سماحة خلق النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعظيم رأفته ورحمته لما أبقى لهم ظلاًّ على الاَرض ، إلاّ أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منحهم العفو كما منح غيرهم من أعدائه .
  ولم يكن للاَمويين أي شأن يذكر أيام النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد قبعوا بالذل والهوان ينظر إليهم المسلمون بنظرة العداء والخصوم ، ويذكرون ما قاموا به في محاربة دينهم ، والتنكيل بنبيّهم ، ومن المؤسف انّه لما فجع المسلمون بفقد نبيّهم ( صلى الله عليه وآله وسلم) وآل الاَمر إلى الخلفاء علا نجم الاَمويين ، وذلك لاَسباب سياسية خاصة ، فقد عيّن أبو بكر يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق ، وخرج بنفسه لتوديعه إلى خارج يثرب تعظيماً له ، واشادة بمكانة أسرته ، ولم يفعل مثل ذلك مع بقية عمّاله وولاته كما يقول المؤرّخون ، ولما هلك يزيد أسندت ولاية دمشق إلى أخيه معاوية ، وكان أثيراً عند عمر تتوافد عليه الاَخبار بأنّه يشذّ في سلوكه ، وينحرف في تصرّفاته عن سنن الشرع وأحكام الاِسلام ، فقد أخبروه بأنّه يلبس الحرير والديباج ، ويأكل في أواني الذهب والفضّة ، وكل ذلك محرّم في الاِسلام ، فيقول معتذراً عنه ، ومسدداً له : ذاك كسرى العرب ومتى كان ابن هند الصعلوك النذل كسرى العرب ، !! ولو فرضنا أنّه كان كذلك فهل يباح له في شريعة الله أن يقترف الحرام ، ولا يحاسب عليه ، ان الله تعالى ليست بينه وبين أحد نسب ولا قرابة ، فكل من شذّ عن سنّته ، وخالف أحكامه فانّه يعاقبه على ذلك ، يقول الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم) لو عصيت لهويت ، ويقول الاِمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ان الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً .

العباس بن علي _ 34 _

  وعلى أيّ حال فان عمر قد أغدق بألطافه ونعمه على معاوية وزاد في رقعة سلطانه ، ونفخ فيه روح الطموح ، وقد ظلّ يعمل في ولايته على الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، فكان يقرّب الوجوه والزعماء ، ويغدق عليهم بالهبات والاَموال ، ويشتري الذمم والعواطف ، ويركّز ولاءه في قلوب الغوغاء ، ومهّدت عائشة في ثورتها على حكم الاِمام الطريق لمعاوية لاِعلانه العصيان المسلّح على حكومة الامام التي هي أشرف حكومة ظهرت في الشرق العربي على امتداد التأريخ ، وقد تذرّع بها معاوية الذئب الجاهلي لحرب الاِمام ، واتخذ من دم عثمان وسيلة لاِغراء الغوغاء واتّهم الاِمام بأنّه المسؤول عن المطالبة بدمه ، وفي نفس الوقت أوعز إلى أجهزة الاِعلام أن تندب عثمان ، وتظهر براءته مما اقترفه في تصرّفاته الاقتصادية والسياسية التي تتجافى مع أحكام الاِسلام ، وتسلّح معاوية بكبار الدبلوماسيين ، ومهرة السياسة في العالم العربي أمثال المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، وأمثالهما ممن كانت لهم الدراية الوثيقة في أحوال المجتمع ، فكانوا يضعون له المخططات الرهيبة للتغلّب على الاَحداث .

إعلان الحرب :
  ورفض معاوية رسمياً بيعة الاِمام ، وأعلن عليه الحرب ، وهو يعلم أنّه انّما يحارب أخا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصيّه وباب مدينة علمه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، لقد أعلن عليه الحرب كما أعلن أبوه أبو سفيان الحرب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وتشكّل الجيش الذي زحف به معاوية لمحاربة الاِمام ( عليه السلام ) من العناصر التالية :

العباس بن علي _ 35 _

أ ـ الغوغاء :
  أمّا الغوغاء فهم جهلة الشعوب ، وهم كالاَنعام بل هم أضلّ سبيلاً وتستخدمهم السلطة في كل زمان لنيل أهدافها ، ولتبني عروشها على جماجمهم ، وكانت الاَكثرية الساحقة من جيش معاوية من هؤلاء الغوغاء المغرر بهم الذين لا يميّزون بين الحق والباطل ، والذين تلوّنهم الدعاية كيفما شاءت ، وقد جعلهم معاوية جسراً فعبر عليهم لنيل مقاصده الشريرة .

ب ـ المنافقون :
  أمّا المنافقون فهم الذين أظهروا الاِسلام في ألسنتهم ، وأضمروا الكفر والعداء له في ضمائرهم وقلوبهم ، وكانوا يبغون له الغوائل ، ويكيدون له في وضح النهار ، وفي غلس الليل ، وقد ابتلي بهم الاِسلام كأشدّ ما يكون البلاء وامتحن بهم المسلمون كأشدّ ما يكون الامتحان لاَنّهم مصدر الخطر عليهم وقد ضمّ جيش معاوية رؤوس المنافقين وضروسهم أمثال المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وأمثالهم من الزمرة الباغية الذين وجدوا الفرصة لهم مواتية لضرب الاِسلام وقلع جذوره ، وقد تسلّحوا بمعاوية ابن أبي سفيان العدوّ الاَوّل للاِسلام فناصروه ، وساروا في جيشه لمحاربة أخي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصيه ، والمنافح الاَوّل عن الاِسلام ، انّ جميع من حارب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المنافقين قد انضمّوا إلى معاوية وصاروا من حزبه وأعوانه في محاربة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .

ج ـ النفعيون :
  ونعني بهم الجماعة التي فقدت امتيازاتها ومنافعها للامشروعة في ظلّ حكم الامام رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، وفي طليعة هؤلاء ، العمّال والولاة ، وسائر الموظّفين في حكومة عثمان ، فقد فقدوا منافعهم وخافوا على مصادرة ما عندهم من الاَموال التي اختلسوها من الشعب أيام عثمان ، كما تمّ عزلهم عن مناصبهم فور تقلّد الاِمام للحكم .

العباس بن علي _ 36 _

  هذه بعض العناصر التي تشكّل منها جيش معاوية ، وقد زحف بهم إلى محاربة قائد الاِسلام ، ورائد العدالة الاِنسانية .

احتلال الفرات :
  واتّجهت جيوش معاوية صوب العراق ، فعسكرت في منطقة صفين واختارتها مركزاً للحرب ، وأوعزت القيادة العامة إلى قطعات الجيش باحتلال الفرات ، ووضع المفارز على حوض الفرات لمنع جيش الاِمام من الشرب ليموتوا عطشاً ، وقد اعتبر معاوية ذلك أوّل النصر والفتح ، ونمَّ ذلك عن خبث طبيعته ولؤم عنصره ، فان لكل إنسان بل ولكل حيوان حقاً طبيعياً في الماء عند كافة الاَمم والشعوب ، ولكن معاوية وبني أميّة قد تخلّوا عن جميع الاَعراف ، فاستعملوا منع الماء كسلاح في معاركهم ، فقد منعوا الماء يوم الطفّ عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيته حتى أشرفوا على الموت من شدّة الظمأ .
  ولمّا علم الاِمام ( عليه السلام ) بزحف معاوية لحربه اتّجه بجيوشه نحو صفّين فلمّا انتهوا إليها وجدوا حوض الفرات قد احتلّ من قبل معسكر معاوية ، ومنعوهم من تناول قطرة من الماء ، وألحّ العطش بجيش الاِمام فانبرت إليه قادة جيشه ، وطلبوا منه الاِذن في مقارعة القوم ، فرغب الاِمام قبل أن يبدأهم بالحرب أن يطلبوا منهم السماح في تناول الماء ، إذ ليس لهم من سبيل أن يتخذوه وسيلة لكسب المعركة لاَن الماء مباح لكل إنسان وحيوان عند جميع الشرائع والاَديان ، وعرض عليهم أصحاب الاِمام ذلك إلاّ أنّهم أبوا وأصرّوا على غيّهم وعدوانهم ، فاضطّر الاِمام بعد ذلك إلى أن يسمح لقوّاته المسلّحة بفتح نار الحرب عليهم ، فحملوا عليهم حملة واحدة ، ففرّوا منهزمين شرّ هزيمة ، وتركوا مواقعهم فاحتلتها جيوش الاِمام ، وأصبح نهر الفرات بأيديهم ، انطلق فريق من قادة الجيش نحو الاِمام فطلبوا منه أن يسمح لهم في منع الماء عن أصحاب معاوية كما منعوهم عنه ، فأبى الاِمام أن يقابلهم بالمثل ، فأباح لهم الماء كما هو مباح للجميع في شريعة الله ، ولم يشكر الامويون الاَوغاد هذه اليد البيضاء التي أسداها عليهم الاِمام ، فقد قابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عن أبنائه في كربلاء حتى صرعهم الظمأ ، وأذاب العطش قلوبهم .

العباس بن علي _ 37 _

دعوة الاِمام إلى السلم :
  وكره الاِمام أشدّ الكره الحرب وإراقة الدماء ، فدعا إلى السلم ، والوئام فقد أرسل عدّة وفود إلى ابن هند يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون وأن يجنّبهم من الحرب فأبى ولم يستجب لهذه الدعوة الكريمة ، وأصرّ على الغيّ والعدوان ، وتذرّع كذباً بالمطالبة بدم عثمان الذي ما أراق دمه إلاّ سوء تصرّفاته السياسية والاِدراية .

الحرب :
  ولمّا فشلت جميع الجهود التي بذلها الاِمام من أجل السلم وحقن الدماء اضطّر إلى أن يفتح مع عدّوه باب الحرب ، وقد خاض معه حرباً مدمّرة سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى فضلاً عن المعوقين من كلا الجانبين واستمرّت الحرب أكثر من سنتين كانت تشتدّ حيناً ، وتفتر حيناً آخر ، وفي المرحلة الاَخيرة من الحرب كاد الاِمام أن يكسب المعركة ، وتحسم من صالحه ، فقد بان الانكسار في جيش معاوية ، وتفللت جميع قواعد عسكره ، وعزم معاوية على الهزيمة لولا أن تذكّر قول ابن الاَطنابة :
واقدامي على البطل iiالمشيح      أبت  لي عفتي وحياء iiنفسي
وأخذي الحمد بالثمن iiالربيح      واعطائي على المكروه مالي
مـكانك تحمدي أو تسريحي      وقولي  كلما جشأت وجاشت

العباس بن علي _ 38 _

  فردّه هذا الشعر إلى الصبر والثبات كما كان يتحدّث بذلك أيّام العافية ، وفيما أحسب أن هذا الشعر ليس هوالذي ردّه إلى الثبات وعدم الهزيمة إذ ليست لابن هند أيّة عفّة أو حياء نفس ، ولا غير ذلك مما حوته هذه الاَبيات وانما ردّه إلى الصبر هو ما دبّره من المكيدة والخديعة التي مزّقت الجيش العراقي ، وهو ما سنتحدّث عنه .

الخديعة الكبرى :
  وآن النصر المحتم لجيش الاِمام ، فقد أشرف على الفتح ، ولم يبق إلاّ مقدار حلبة شاة من الوقت حتى يؤسر معاوية أو يقتل كما أعلن ذلك قائد القوّات المسلحة في جيش الاِمام الزعيم مالك الاَشتر ، ومن المؤسف جدّاً أنّه في تلك اللحظات الحاسمة مُني الاِمام بانقلاب عسكري في جيشه ، فقد رفع عسكر معاوية المصاحف على أطراف الرماح ، وهم ينادون بالدعوة إلى تحكيم القرآن ، وإنهاء الحرب حقناً لدماء المسلمين ، واستجابت قطعات من جيش الامام لهذا النداء الذي يحمل التدمير الشامل لحكومة الاِمام وأفول دولة القرآن .
  يا للعجب لقد نادى جيش معاوية بالرجوع إلى تحكيم القرآن ، ومعاوية وأبوه هما في طليعة من حارب القرآن ، أصحيح أنّ ابن هند يؤمن بالقرآن ، ويحرص على دماء المسلمين وهو الذي أراق أنهاراً من دمائهم إرضاءً لجاهليته ، وانتقاماً من الاِسلام ، وكان أول من استجاب لهذا النداء المزيّف العميل الاَموي الاَشعث ابن قيس ، س فقد جاء يشتدّ كالكلب نحو الاِمام ، وقد رفع صوته ليسمَعَهُ الجيش قائلاً : ( ما أرى الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فأن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد . . ) .

العباس بن علي _ 39 _

  وامتنع الاِمام من إجابة هذا العميل المنافق الذي طعن الاِسلام في صميمه ، والتفّ حول الاَشعث جماعة من الخونة فأحاطوا بالاِمام ، وهم ينادون : أجب الاَشعث ، ولم يجد الاِمام بُدّاً من إجابته ، فانطلق الخائن صوب معاوية ، فقال له : ( لآيّ شيء رفعتم هذه المصاحف؟ . . ) فأجابه معاوية مخادعاً : ولنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله ( عزّ وجلّ ) في كتابه تبعثون منكم رجلاً ترضون به ، ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتّبع ما اتفقا عليه . . ) ، ورفع الاَشعث عقيرته قائلاً : ( هذا هو الحقّ . . ) ، وخرج الاَشعث من معاوية ، وهو ينادي بضرورة إيقاف الحرب ، والرجوع إلى كتاب الله العظيم ، ومن المؤكّد أنّ هذه الحركة الانقلابية التي تزعّمها هذا المنافق العميل لم تكن وليدة رفع المصاحف ، وانّما كانت قبل زمن ليس بالقليل ، فقد كانت هناك اتّصالات سريّة بين الاَشعث وبين معاوية ووزيره والفكر المدبّر لخدعه وأباطيله عمرو بن العاص ، ومما يدل على ذلك أنّه لم تكن هناك رقابة ولا مباحث في جيش الامام على من يتّصل بمعسكر معاوية فقد كان الطريق مفتوحاً ، وجرت اتصالات مكثّفة بين معاوية والاَشعث وغيره من قادة الجيش العراقي ، وقدم لهم معاوية الرشوات ، ومنّاهم بالمراتب العالية ، وبالمزيد من الاَموال إن استجابوا لدعوته ، وعلى أيّ حال فقد أُرغم الاِمام على قبول التحكيم ، فقد أحاطت به قطعات من جيشه وقد شهرت عليه السيوف والرماح وهي تنادي : ( لا حكم إلاّ لله ) واتّخذوا هذا النداء شعاراً لتمرّدهم ، ووقوفهم ضدّ الامام ، وسرعان ما أصبحوا حركة ثورية ، ومصدر قلق مثير للفتن والاضطراب .
  وعلى أيّ حال فقد جهد الاِمام بنفسه ورسله على إقناعهم ، وإرجاعهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يتمكّن ، ورأى أنّهم جادّون على مناجزته والاِطاحة بحكومته ، فاستجاب لهم ، وأوعز إلى قائد قوّاته العسكرية الزعيم مالك الاَشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب ، وإيقاف العمليات العسكرية ، وكان قد أشرف على الفتح فلم يبق بينه وبين الاستيلاء على معاوية سوى مقدار حلبة شاة ، ورفض مالك الاستجابة وأصرّ على مزاولة الحرب إلاّ أنّه أخبر بأنّ الاِمام في خطر ، وان المتمرّدين قد أحاطوا به ، فاضطرّ إلى إيقاف الحرب ، وبذلك فقد تمّ ما أراده معاوية من الاِطاحة بحكومة الاِمام ، وكتب له في تلك اللحظات النصر على الاِمام ، وقد انتصرت معه الوثنية القرشية كما يقول بعض الكتّاب والمحدثين .