التحكيم :
وتوالت المحن والاَزمات على الاِمام يتبع بعضها بعضاً ، وانكشفت خفايا هؤلاء العملاء المتمرّدين ، فقد أصرّوا على انتخاب أبي موسى الاَشعري ليكون ممثلاً عن العراق ، والاَشعري خبيث دنس كان حقوداً على الاِمام ، ومن ألدّ أعدائه وخصومه ، وفي نفس الوقت لم يملك وعياً ولا فهماً للاَحداث ، وكان بليداً ومنافقاً ، واتّخذه المنافقون والمتمردون في جيش الاِمام جسراً فعبروا عليه لنيل مقاصدهم الخبيثة لعزل الاِمام عن الحكم عن الحكم ، وتثبيت معاوية في مركزه ، ولم يستطع الاِمام إيقاف هذا المدّ التآمري في جيشه ، فقد أصبح قادة جيشه يتلقّون الاَوامر والتوجيهات من قبل معاوية ووزيره ابن العاص ، وصار الاِمام بمعزل تام عن الحياة السياسية ، فقد أصبح يأمر جيشه فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب له ، وصارت دفّة الحكم كلّها بيد معاوية ، لقد حكم الاَشعري بعزل الاِمام ، وحكم ابن العاص بإبقاء معاوية ، وبذلك فقد انتهت مهزلة التحكيم إلى عزل الاِمام عن منصب الحكم ، وتقليده لمعاوية وانطوت بذلك أقدس حكومة إسلامية ظهرت في الشرق كان يرجى منها أن تقوم ببسط العدل السياسي والعدل الاجتماعي بين الناس ، فلم تدعها هذه الوحوش الكاسرة من ذئاب الاَمويين ، وسائر القبائل القرشية من تحقيق أهدافها ومثلها العليا .
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) وهو في دور الشباب فصول هذه المأساة الكبرى فكوت قلبه ، وهزّت عواطفه ، فقد جرت لاَهل بيته المصائب ، وأخلدت لهم المحن والخطوب .
العباس بن علي
_ 41 _
ثورة الخوارج :
ومن بين المحن الشاقة التي امتحن بها الاِمام امتحاناً عسيراً هي ثورة الخوارج فقد كان معظمهم من بهائم البشر ، فقد امتطاهم معاوية ، وجعلهم جسراً لنيل أطماعه وأهدافه من حيث لا يشعرون ، فهم الذين أرغموا الاِمام على قبول التحكيم ، وإيقاف عمليات الحرب ، وهم الذين أصرّوا على انتخاب المنافق أبي موسى الاَشعري ، ولما عقد التحكيم ، وأعلن أبو موسى عزل الاِمام عن منصبه ، وأعلن ابن العاص إقامة سيّده معاوية في مركزه أسفوا على ما فرّطوا في أمر المجتمع الاِسلامي واستبانت لهم المكيدة التي دبّرها ابن العاص في رفع المصاحف وعابوا على الاِمام وكفّروه لاستجابته لهم ، وفي الحقيقة هم الذين يتحمّلون جميع المسؤوليات الناجمة عن ذلك ،
ولمّا نزح جيش الاِمام من صفّين إلى الكوفة لم يدخلوا معه إليها وانما انحازوا إلى حروراء فنسبوا إليها ، وكان عددهم فيما يقول المؤرّخون اثني عشر ألفاً ، وأذن مؤذّنهم أن أمير القتال المنافق شبث بن ربعي الذي كان من قادة الجيش الذي حارب ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كما نصبوا إماماً للصلاة عبد الله بن الكواء العسكري ، وجعلوا الاَمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله ( عزّ وجلّ ) ، وجعلوا من أهمّ الاَحكام التي يقاتلون من أجلها الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا شعارهم ( لاحكم إلاّ لله ) ولكنّهم سرعان ما تنكّروا لهذا الشعار فجعلوا الحكم للسيف وذلك بما أراقوه من دماء الاَبرياء ، وما نشروه من الذعر والخوف بين المسلمين .
وبعث الاِمام إليهم بعض رسله يعدلهم عن فكرتهم ، ويرشدهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يجد ذلك معهم شيئاً ، فانطلق ( عليه السلام ) بنفسه إليهم ، ومعه أعلام أصحابه ، فجعل يناظرهم ، ويقيم الاَدلّة الوثيقة على فساد رأيهم ، وضلالة قصدهم ، فاستجاب له قوم ، وأبي قوم آخرون ، وجعل الاَمر يمعن في الفساد بين الاِمام وبينهم ، وأخذوا ينشرون الاِرهاب ، واعمال التخريب ، ويعيثون في الاَرض فساداً ، وقد رحلوا عن الكوفة ، وعسكروا في النهروان ، واجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خباب ابن الاَرت ، وهو من أعلام أصحاب الاِمام فدارت بينه وبينهم أحاديث ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وقتلوا معه السيّدة زوجته ، ولم يقف شرّهم عند هذا الحدّ ، وانّما أخذوا يذيعون الذعر والخوف بين المسلمين .
العباس بن علي
_ 42 _
وبعث الاِمام إليهم بعض رسله يعدلهم عن فكرتهم ، ويرشدهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يجد ذلك معهم شيئاً ، فانطلق (عليه السلام) بنفسه إليهم ، ومعه أعلام أصحابه ، فجعل يناظرهم ، ويقيم الاَدلّة الوثيقة على فساد رأيهم ، وضلالة قصدهم ، فاستجاب له قوم ، وأبي قوم آخرون ، وجعل الاَمر يمعن في الفساد بين الاِمام وبينهم ، وأخذوا ينشرون الاِرهاب ، واعمال التخريب ، ويعيثون في الاَرض فساداً ، وقد رحلوا عن الكوفة ،
وعسكروا في النهروان ، واجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خباب ابن الاَرت ، وهو من أعلام أصحاب الاِمام فدارت بينه وبينهم أحاديث ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وقتلوا معه السيّدة زوجته ، ولم يقف شرّهم عند هذا الحدّ ، وانّما أخذوا يذيعون الذعر والخوف بين المسلمين .
وبعث الاِمام إليهم الحارث بن مرة العبدي ليسألهم عما أحدثوه من الفساد ، فلما انتهى إليهم اجهزوا عليه وقتلوه ، ورأى الاِمام بعد هذا أنّهم يشكّلون خطراً كبيراً على دولته ، وانّهم مصدر فتنة وتخريب بين المسلمين ، وان الواجب يقضي بحربهم فزحف إليهم بجيشه ، ودارت بينه وبينهم معركة رهيبة ، فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم إلاّ تسعة (1) وانتهت بذلك حرب النهروان وقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) هذه الحرب ووقف على دوافعها التي كان منها كراهة هؤلاء القوم لعدل الاِمام ، وتفانيه في إقامة الحقّ بين الناس .
ومن الجدير بالذكر أن أبا الفضل العباس ( عليه السلام ) لم يشترك في حرب النهروان ولا في حرب صفين ، فقد منعه الاِمام كما منع بعض أبنائه ، واعلام أصحابه من الدخول في الحرب ضنّاً بهم على الموت ، ومما يدل على ذلك أن الذين كتبوا عن واقعة صفين والنهروان لم يذكروا أيّ دور لسيّدنا العباس فيهما .
---------------------------
(1) حياة الامام الحسن 1: 358 الطبعة الثالثة .
العباس بن علي
_ 43 _
النتائج الفظيعة :
وأعقبت حرب الجمل ، وحرب صفّين أسوأ الاَحداث وأقساها وأشقّها محنة على الاِمام ( عليه السلام ) ومن بينها :
1 ـ التمرّد الكامل في جيش الاِمام فقد أصبحت جميع قطعاته غير مطيعة لاَوامر الاِمام ، لقد شاعت الهزيمة النفسية في جيش الاِمام ، وفقدت قطعاته الروح المعنوية ، وتخاذلت تخاذلاً مطلقاً أمام الاَحداث التي مُني بها .
2 ـ وعمد معاوية بعد معركة صفين إلى تعزيز جيشه وتماسكه ، وقد بثّ فيه روح العزم والاِخلاص ، وقد وثق بالنصر والفتح والتغلّب على جيش الاِمام .
3 ـ وتعرّضت البلاد الاِسلامية الخاضعة لحكم الاِمام لحملات إرهابية عنيفة كانت تشنّها العصابات المجرمة التي يبعثها معاوية لاِشاعة الخوف والذعر فيها ، وقد تعرّضت المناطق القريبة من عاصمة الاِمام لهجمات الاِرهابيين من كلاب معاوية ، والاِمام لم يتمكّن من حمايتها وحفظ الاَمن والاِستقرار فيها فكان يدعو بحرارة جأشه للذبّ عن حياض الوطن ، وحمايته من الاعتداء فلم يستجب له أحد منهم .
4 ـ واحتلّت جيوش معاوية مصر احتلالاً عسكرياً ، وبذلك خرجت عن حكم الاِمام ، وقد أُصيبت حكومة الاِمام بنكسه كبيرة ، ولم تعد بعد هذه الاَحداث إلاّ شكلاً خاوياً في ميدان الحكم .
مصرع الاِمام :
وبقي الاِمام الممتحن في ارباض الكوفة قد أحاطت به المحن والاَزمات يتبع بعضها بعضاً ، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وشرّه قد استفحل وهو لايتمكّن أن يقوم بأي عمل لتغيير الاَوضاع الاجتماعية المتدهورة المنذرة بأفول دولة الحق ، وإقامة حكومة الظلم والجور .
العباس بن علي
_ 44 _
لقد استوعبت المحن الشاقة التي أحاطت بالاِمام نفسه الشريفة فراح يدعو الله ، ويتوسّل إليه بحرارة أن ينقله إلى جواره ، ويريحه من هذا العالم المليء بالفتن والاَباطيل ، واستجاب الله دعاء الاِمام فقد عقدت عصابة مجرمة من الخوارج مؤتمراً في مكّة ، وأخذوا يذكرون بمزيد من الاَسى والحزن قتلاهم الذين حصدت رؤوسهم سيوف الحق في النهروان ، وعرضوا ما مني به العالم الاِسلامي من الفتن والانشقاق وألقوا تبعة ذلك حسب زعمهم على الاِمام أمير المؤمنين ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، فقرّروا القيام باغتيالهم ، وعيّنوا لذلك وقتاً خاصاً ، وضمن لهم ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم اغتيال الامام أمير المؤمنين ، ومن الجدير بالذكر أن مؤتمرهم كان بمرأى ومسمع من السلطة المحلّية بمكّة ، وأكبر الظنّ أنّها كانت على اتصال معهم وان القوى المنحرفة عن الاِمام قد أمدّت ابن ملجم بالمال ليقوم باغتيال الاِمام ، وعلى أيّ حال فقد قفل ابن ملجم راجعاً إلى الكوفة وهو يحمل شرّ أهل الاَرض ، ويحمل الكوارث المدمّرة للمسلمين ، وفور وصوله إلى الكوفة اتصل بعميل الامويين المنافق الاَشعث بن قيس ، وأخبره بمهمته ، فشجّعه على اقتراف الجريمة ، وأبدى له تقديم جميع ألوان المساعدات لتنفيذها ، وفي ليلة التاسع عشر من رمضان شهر الله المبارك اتّجه زعيم الموحّدين وسيّد المتقين نحو مسجد الكوفة ليؤدّي صلاة الصبح ، فأقبل نحو الله ، فشرع في صلاته ، ولما رفع رأسه من السجود علاه ابن اليهودية بالسيف فشقّ رأسه الشريف الذي كان كنزاً من كنوز العلم والحكمة والاِيمان ، والذي ما فكّر إلاّ بتوزيع خيرات الله على البؤساء والمحرومين ، وإشاعة الحقّ والعدل بين الناس ، ولمّا أحسّ الاِمام بلذع السيف علت على شفتيه ابتسامة الرضا والظفر ، وراح يقول : ( فزت وربّ الكعبة . . ) ، لقد فزت يا إمام المصلحين ، فقد وهبت حياتك لله وجاهدت في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين .
العباس بن علي
_ 45 _
لقد فزت يا إمام المتّقين لاَنّك في طيلة حياتك لم توارب ولم تخادع ولم تداهن ، ومضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بسيّد المرسلين ابن عمّك صلّى الله عليه وعليك ، فكان ذلك حقاً هو الفوز العظيم ،
لقد فزت أيّها الاِمام الحكيم لاَنّك خبرت الدنيا ، وعرفتها دار فناء وزوال فطلّقتها ثلاثاً ، وأعرضت عن زينتها ومباهجها واتجهت صوب الله فعملت كل ما يرضيه ، وما يقربك إليه زلفى ، وحُمل الاِمام إلى منزله ، وقد فاضت عيون الناس بالدموع وتقطّعت النفوس ألماً وحزناً ، وكان الاِمام هادىء النفس قرير العين ، قد تعلّق قلبه بالله ، وهام في مناجاته ، وقد سأله مرافقة الاَنبياء والاَوصياء ، وأخذ يلقي نظراته على أولاده ، وخصّ ولده أبا الفضل بالعطف والحنان ، واستشفّ من وراء الغيب انّه ممن يرفع رايه القرآن ، ويقوم بنصرة أخيه ريحانة رسول الله المنافح الاَول عن رسالة الاِسلام .
وصايا خالدة :
ولما شعر الاِمام العظيم بدنّو أجله المحتوم أخذ يوصي أولاده بمكارم الاَخلاق ومحاسن الاَعمال ، وأمرهم أن يجسّدوا الاِسلام في سلوكهم واتجاهاتهم ، وفيما يلي بعض بنود وصيّته .
أ ـ التحلّي بتقوى الله التي هي الاَساس في بناء الشخصية الاِسلامية على أساس متكامل من الوعي والازدهار .
ب ـ الالتزام بالحق قولاً وعملاً وبه تصان الحقوق وتسود العدالة الاجتماعية بين الناس .
ج ـ مناجزة الظالم والوقوف في وجهه ، ومناصرة المظلوم ومساعدته ، وفي ذلك إقامة للعدل الذي هو من أهمّ الاَهداف الاَصيلة التي ينشدها الاِسلام .
العباس بن علي
_ 46 _
د ـ السعي في إصلاح ذات البين ، وإزالة البغضاء والكراهيّة بين المتخاصمين وهو من أفضل الاَعمال وأهمّها في الاِسلام لاَن فيه إقامة لمجتمع متطوّر قائم على المحبّة والمودّة .
هـ ـ مراعاة الاَيتام ، والقيام بصلتهم ، ورفع الحاجة عنهم ، وهذا من جملة بنود التكافل الاِسلامي الذي هو من أبدع ما شرّعه الاِسلام في نظامه الاقتصادي .
و ـ الاِحسان إلى الجيران ، والاِغداق عليهم بالبرّ والمعروف لاَنّ فيه إشاعة للمحبّة بين المسلمين ، كما أنّه في نفس الوقت من أهمّ الوسائل في تماسك المجتمع الاِسلامي ووحدته .
ز ـ العمل بما في القرآن الكريم من أحكام وسنن وآداب فانّه خير ضمان لصيانة سلوك الاِنسان المسلم ، وتهذيبه ، ورفع مستواه .
ح ـ إقامة الصلاة في أوقاتها وأدائها على أحسن وجه فانّها عمود الدين ومعراج المؤمن ، وهي ترفع الاِنسان إلى مستوى عظيم إذ تشرفه بالاتصال بخالق الكون وواهب الحياة .
ط ـ إحياء المساجد بذكر الله من العبادة والعلم ، وتعتبر المساجد من أهمّ المراكز في إشاعة الآداب والفضائل بين المسلمين .
ي ـ الجهاد في سبيل الله بالاَنفس والاَموال لاِقامة معالم الدين وإحياء السنّة ، وإماتة البدعة .
ك ـ إشاعة المحبّة والمودّة بين المسلمين ، وذلك بالتواصل والتوادد وترك التدابر والتقاطع ، وغير ذلك مما يؤدّي إلى فصم عرى الوحدة بينهم .
ل ـ إقامة الاَمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر لاَنّه مما يؤدّي إلى إقامة مجتمع سليم تسوده العدالة ، أما ترك ذلك فان له من المضاعفات السيّئة التي توجب ارتطام المجتمع بالفتن والبلاء كتولية الفساق والاَشرار لشؤونه ، وعدم استجابة الدعاء من أفراده .
العباس بن علي
_ 47 _
هذه بعض الوصايا الخالدة التي أدلى بها الاِمام العظيم ، وهو على فراش الموت (1) ، إلى جنّة المأوى : وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الاِمام ( عليه السلام ) من جرّاء الضربة الغادرة التي عمّمه فيها ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم ، وأخذ الموت يدنوا إليه سريعاً سريعاً ، وقد استقبل إمام المتّقين الموت بثغر باسم ، ونفس آمنة مطمئنّة متعطّشة إلى لقاء الله راضية بقضائه وقدره ، وكان لا يفترّ لحظة واحدة عن ذكر الله ، وقراءة كتابه ، وقد حفّ به أبناؤه وهم يذرفون أحرّ الدموع قد مزّق المصاب قلوبهم ، وقد استقبل القبلة حامداً لله حتى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن ، وأرواح الاَنبياء والاَوصياء وقد ازدهرت به جنان الخلد ، لقد توفّي عملاق الفكر الاِنساني ، ورائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، لقد عاش هذا الامام العظيم غريباً في مجتمع لم يعرف مكانته ، ولم يعرف قيمه وأهدافه التي كان منها أن ينفي البؤس والشقاء من الاَرض ، وينفي الحاجة والحرمان عن بني الاِنسان ، فيوزع عليهم خيرات الله ، فثارت في وجهه العصابة المجرمة من الرأسمالية القرشية ، وأوغاد الاَمويين الذين اتخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وقد صمد الاِمام في وجوههم ، ولم ينثن عن عزمه الجبّار حتى استشهد مناضلاً عن قيمه وأهدافه .
---------------------------
(1) يلاحظ نهج البلاغة فقد حفل بهذه الوصايا القيّمة .
العباس بن علي
_ 48 _
تجهيزه :
وأنبرى الاِمام الحسن (عليه السلام) ، ومعه السادة الكرام من إخوانه ومن بينهم أبوالفضل العبّاس ( عليه السلام ) إلى تجهيز الجثمان العظيم ، فغسّلوا الجسد الطاهر ، ثم أدرجوه في أكفانه ، وهم يذرفون أحرّ الدموع وبعد ذلك حملوه إلى مقرّه الاَخير ، فدفنوه في مرقده المطّهر في النجف الاَشرف ، وقد أعزّه الله ، ورفع من شأنه فجعله كعبةً للوافدين ، ولم يحظ مرقد من مراقد أولياء الله كما حظي مرقده الشريف فقد أحيط بهالة من التعظيم والتقديس عند كافة المسلمين ، لقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) خلافة أبيه ، وما رافقها من الاَحداث الجسام ، وما قاساه أبوه من المصاعب والمشاكل في سبيل تطبيق العدالة الاجتماعية على واقع الحياة العامة بين المسلمين وقد تنكّرت له وحاربته القوى الباغية على الاِسلام ، والحاقدة على الاِصلاح الاجتماعي ،
لقد وعى العبّاس الاَهداف المشرقة التي كان ينشدها أبوه فآمن بها ، وجاهد في سبيلها ، وقد انطلق مع أخيه سيّد الشهداء إلى ساحات الشرف والجهاد من أجل أن يعيدا للمسلمين سيرة أبيهما الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومنهجه المشرق في عالم السياسة والحكم .
خلافة الاِمام الحسن :
وتسلّم الاِمام الحسن ( عليه السلام ) قيادة الدولة الاسلامية بعد وفاة أبيه ، وكانت الاَوضاع الاجتماعية والسياسية ، كلها في غير صالحه ، فالاَكثرية الساحقة من الرؤساء والقادة العسكريين كانت اتجاهاتهم وميولهم سرّاً وعلانية مع معاوية ، فقد غزاهم بذهبه ، واسترقهم بأمواله ، كما انتشرت بين كتائب جيشه فكرة الخوارج التي كانت سوسة تنخر في معسكره ، وتعلن عدم شرعية خلافته ، وخلافة أبيه من قبل ، ومن ثمّ كان إقبال الجماهير على مبايعته فاتراً جدّاً ، وكذلك لم تندفع القوات المسلّحة بحماس إلى بيعته ، وإنّما كانت مرغمة على ذلك ، الاَمر الذي أوجب تريّب الاِمام الحسن منهم ، ويرى المراقبون للاَوضاع السياسية في جيش الاِمام انّه قد ماج في الفتنة وارتطم في الشقاء ، وان خطره على الاِمام كان أعظم من خطر معاوية وانّه لا يصلح بأي حال من الاَحوال لاَن يخوض الامام به أي ميدان من ميادين الحرب .
العباس بن علي
_ 49 _
وعلى أي حال فان الاِمام قد تسلّم قيادة الدولة ، وقد منيت بالانحلال والضعف ، وشيوع الفتن والاضطراب فيها ، وان من العسير جدّاً السيطرة على الاَوضاع الاجتماعية ، وإخضاع البلاد إلى عسكره ، اللهم إلاّ بسلوك أمرين :
الاَوّل : إشاعة الاَحكام العرفيّة في البلاد ، ومصادرة الحريات العامة ، ونشر الخوف والارهاب ، وأخذ الناس بالظنّة والتهمة ، وهذا ما يسلكه عشّاق الملك والسلطان حينما يمنون بمثل هذه الاَزمات في شِعوبهم ، أمّا أئمّه أهل البيت : فأنهم لا يرون مشروعية هذه السياسة ، وان أدّت إلى الانتصار ، ويرون ضرورة توفير الحياة الحرّة الكريمة للشعب ، واقصاء الوسائل الملتوية عنه .
الثاني : تقديم الطبقة الرأسمالية وذوي النفوذ على فئات الشعب ، ومنحهم الاَموال والامتيازات الخاصة ، والوظائف المهمة ولو فعل ذلك الاِمام الحسن لاستقرّت له الاَمور ، وما مُني جيشه بالتمرّد والانحلال ، إلاّ أنّه ابتعد عن ذلك ابتعاداً مطلقاً لاَنّه لا تبيحه شريعة الله .
لقد كان منهج الاِمام الحسن في سياسته واضحاً لا لبس فيه ولا غموض وهو التمسّك بالحقّ ، وعدم السلوك في المنعطفات ، واجتناب الطرق الملتوية ، وان أدّت إلى الظفر والنصر .
إعلان معاوية للحرب :
وبادر معاوية إلى إعلان الحرب على سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لاَنّه على علم بما مُني به جيش الاِمام من الانحلال والخيانة فأغلب قادة الفرق ، وضبّاط الجيش ، وسائر المراتب قد رشاهم معاوية بذهبه وأمواله ، ومنّاهم بالوظائف العالية ، كما كاتب بعضهم بأن يزوجه بإحدى بناته ، فقد استعمل الرشوة معهم على نطاق واسع ، وقد استجابوا له ، وضمنوا له تسليم الاِمام أسيراً متى شاء وأراد ، أو اغتياله ، وقد حفزته هذه العوامل لاستعجال الحرب وحسم الموقف من صالحه .
العباس بن علي
_ 50 _
وزحف معاوية بجيوشه المتماسكة والمطيعة صوب العراق ، ولما علم الامام الحسن بذلك جمع قوّاته المسلّحة ، وأعلمهم بالاَمر ودعاهم إلى الجهاد وردّ العدوان فوجموا وساد عليهم الذعر والخوف فلم يجبه أحد منهم فقد آثروا العافية ، وسئموا من الحرب ، ولما رأى تخاذلهم الزعيم الكبير عَديّ بن حاتم تميّز غيظاً وغضباً ، واندفع بحماس بالغ نحوهم فجعل يؤنّبهم على هذا التخاذل ، وأعلن استجابته المطلقة لدعوة الاِمام ، ودعم موقفه كلّ من الزعيم الشريف قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن صعصعة التميمي فأخذوا يلومونهم على هذا الموقف الذي ليس فيه شرف ولا إنصاف ، ويبعثونهم إلى ساحات الجهاد ، وخرج الاِمام الحسن ( عليه السلام ) من فوره لمقابلة معاوية ، وسار معه أخلاط من الناس حتى انتهى إلى النخيلة فاستقام فيها حتى التحمت به فصائل من جيشه المتخاذل ، ثم ارتحل حتى إنتهى إلى دير عبد الرحمن فأقام به ثلاثة أيام ، ثم واصل سيره لا يلوي على شيء .
في المدائن :
وانتهى الاِمام ، ومعه بعض الفرق من جيشه إلى المدائن ، فأقام بها ، وقد أحاطت به المصاعب والاَزمات فقد عانى من جيشه الممزّق والخائن ألواناً شاقّة وعسيرة من المحن والمشاكل ، وابتلي بما لم يبتل به أحد من قادة المسلمين وخلفائهم ، وكان من بين ما امتحن به :
العباس بن علي
_ 51 _
1 ـ خيانة القائد العام :
وكان من أقسى ما ابتلي به الاِمام في تلك المرحلة الحسّاسة خيانة ابن عمّه عبيد الله بن العبّاس القائد العام لقوّاته المسلّحة ، فقد أرشاه معاوية بما يقارب المليون درهم ، فولّى الخائن الجبان منهزماً تحت جنح الليل البهيم يصحب معه العار والخزي ، فالتحق بمعسكر معاوية ، ولما علم الجيش بذلك اضطرب اضطراباً هائلاً ، وماج في الفتنة والشقاء ، ودبّت روح الخيانة في جميع قطعات الجيش كما خان جماعة من ذوي الرتب العليا في الجيش فالتحقوا بمعسكر معاوية بعد أن أرشاهم بأمواله .
ان خيانة عبيد الله من أقسى الضربات التي حلّت بجيش الاِمام ، فقد فتحت أبواب الخيانة على مصراعيها لذوي الضمائر القلقة لبيع ضمائرهم على معاوية ، كما أدّت إلى انهيار معنويات جيش الاِمام ، وفي نفس الوقت كانت من أقسى الصدمات التي واجهها الاِمام في تلك الفترة العصيبة فقد ألقت له الاَضواء على نفوس أغلب قادة جيشه ، وانّهم مجموعة من الخونة الذين لا يملكون أي رصيد ديني أو وطني .
2 ـ محاولات لاغتيال الاِمام :
ولم تقتصر محنة الاِمام وبلواه من جيشه إلى هذا الحدّ ، وانّما امتدّت إلى ما هو أعظم من ذلك فقد قام عملاء الامويين وبهائم الخوراج بعدة عمليات لاغتيال الاِمام ، وقد فشلت جميعها وهي :
أ ـ رمي الاِمام بسهم وهو في أثناء الصلاة ، ولم يؤثّر فيه شيئاً .
ب ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة .
ج ـ طعنه في فخذه .
العباس بن علي
_ 52 _
وضاقت الدنيا على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وطافت به المحن والاَزمات وأيقن أنّه لا محالة امّا أن يُغتال ، ويضاع دمه هدراً أو يلقى عليه القبض ويبعث أسيراً إلى معاوية ، وأجال النظر في هذه الاَمور فأفزعته إلى حدّ بعيد .
3 ـ الحكم عليه بالكفر :
وتمادى الخونة والعملاء في جيش الاِمام في الجريمة والشرّ ، فقد قابلوا الاِمام بكلمات كانت أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح ، فقد أقبل عليه الجرّاح بن سنان يشتدّ كأنّه الكلب وهو رافع عقيرته قائلاً : ( لقد أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل . . ) ، ولم ينبر أحد من جيش الاِمام إلى معاقبة هذا الاَثيم ، لقد انحرف هؤلاء الخونة عن الحق ، ومالوا عن الطريق القويم ، فقد حكموا على ابن بنت نبيّهم وابن وصيّه بالكفر والمروق من الدين ، فأي ضلال مثل هذا الضلال ؟ .
4 ـ نهب أمتعة الاِمام :
وعمد أُولئك الاَجلاف إلى نهب أمتعة الاِمام فنزعوا منه بساطاً كان جالساً عليه ، وسلبوا منه رداءه ، ولم تكن هناك أيّة حماية للاِمام من جيشه ، فقد جرت هذه العملية بمرأى ومسمع منهم .
هذه بعض الاَحداث المروعة التي عاناها الاِمام ( عليه السلام ) في المدائن وهي تلزمه بالصلح والتخلّي عن ذلك المجتمع المصاب بأخلاقه وعقيدته .
العباس بن علي
_ 53 _
ضرورة الصلح :
أمّا صلح الاِمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية فقد كان ضرورياً حسب الاَعراف السياسية ، كما كان واجباً شرعياً مسؤول عن تنفيذه أمام الله والاَمة ، فانه لو فتح باب الحرب بجيشه المنهزم نفسياً لتغلب عليه معاوية بأول حملة ، ولما أمكنه أن يحقق أي نصر ، وفي تلك الحالة لا يخلو أمره من إحدى حالتين : إمّا القتل أو الاَسر ، فأن قتل فلا تستفيد منه القضية الاِسلامية لاَنّ معاوية بما يملك من دبلوماسية مبطّنة بالخداع والمكر والنفاق ، سوف يلقي التبعة على الاِمام في قتله ، ويبرّئ نفسه من أيّة مسؤولية ، وأما إذا لم يقتل الامام ، وحمل إلى معاوية أسيراً ، فانه من دون شكّ سوف يعفو عنه ، وبذلك يسجّل له يداً بيضاء على الاَسرة النبوية ، ويمحو عنه وعن أسرته وصمة الطليق التي وصمهم بها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعلي أيّ حال فان الاِمام الحسن ( عليه السلام ) قد اضطّر إلى الصلح وأُرغم عليه ، ولم تكن هناك أيّة مندوحة للعدول عنه ، وقد جرى الصلح حسب شروط ذكرناها بالتفصيل مع تحليلها في كتابنا ( حياة الاِمام الحسن ( عليه السلام ) وممّا لا شكّ فيه حسب المقاييس العلمية والسياسية ان الاِمام أبا محمد قد انتصر في هذا الصلح ، فقد أبرز حقيقة معاوية الجاهلية ، وقد ظهرت خفايا نفسه ، وما يكّنه من حقد وعداء للاِسلام وللمسلمين ، فانه حينما استتبّ له الاَمر عمد بشكل سافر إلى محاربة الاِسلام والانتقام من أعلامه أمثال الصحابي العظيم حجر بن عدي ، وأخلد بجرائمه للمسلمين المصاعب والكوارث ، وألقاهم في شرّ عظيم ، وسوف نتحدّث عن ذلك في البحوث الآتية .
العباس بن علي
_ 54 _
وبعدما انتهى الاِمام أبو محمد من الصلح غادر الكوفة التي غدرت به وبأبيه لتستقبل جور معاوية وظلمه ، وكان معه أهل بيته واخوته ، ومن بينهم أخوه وعضده أبو الفضل العبّاس ، وأخذوا يجدون السير لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى يثرب ، وقد استقبلتهم بحفاوة بالغة البقيّة الباقية من الصحابة وأبنائهم ، واستقرّ الاِمام في يثرب ، وقد التف حوله الفقهاء والعلماء فأخذ يغذّيهم بعلومه ومعارفه ، ويغدق على البؤساء والمحرومين من فيض جوده وكرمه ، وقد استعادت يثرب بوجوده ما فقدته من القيادة الروحية للمسلمين حينما غادرها وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ،
وعلى أيّ حال فقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) ما جرى على أخيه الزكيّ أبي محمد ( عليه السلام ) من المحن الشاقة والعسيرة ، ورأى غدر أهل الكوفة ، وخيانتهم له ، ونكثهم لبيعتهم له ، وقد عرفته هذه الاَوضاع السياسية والاجتماعيه حقيقة المجتمع ، وان الغالبية الساحقة منه ينسابون وراء مصالحهم وليس للقيم الدينية أي أثر في نفوسهم ، وبهذا نطوي الحديث عن بعض الاَحدث المروعة التي شاهدها أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) .
كابوس رهيب
وتسلّم معاوية قيادة الدولة الاِسلامية بعد صلحه مع الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ، وقد تحقّقت آماله الشريرة في القضاء على الدولة العلوية التي هي دولة المحرومين والمضطهدين ، والتي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتجسيداً حيّاً لاَهدافه ومتطلّباته الرامية لرفع مستوى الاِنسان وتطوير حياته ، وقد انهارت هذه القيم حينما سقطت الدولة الاِسلامية صريعة بيده ، فقد تبدّلت المبادئ والقيم والاَخلاق التي ينشدها الاِسلام إلى عكسها ، وخرج العالم الاِسلامي من عالم الدعة والرخاء والاستقرار إلى كابوس مرعب تحفّه المحن والكوارث ، وتخيّم عليه العبودية والذل .
العباس بن علي
_ 55 _
لقد تنكّر معاوية لجميع القيم والاَعراف ، وساس المسلمين سياسة لم يألفوها من قبل ، ويرى المراقبون لسياسته ان انتصاره انّما هو انتصاراً للوثنية بجميع مساوئها يقول السيّد مير علي الهندي : ( ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم الثوليغارشية الوثنية السابقة ، فاحتلّ موقع ديمقراطية الاِسلام ، وانتعشت الوثنية بكل ما يرافقها من خلاعات ، وكأنّها بعثت من جديد ، كما وجدت الرذيلة والتبذل الخلقي لنفسها متّسعاً في كل مكان ارتادته رايات حكّام الاَمويين من قادة جند الشام . . )
(1) .
لقد تعرّض المسلمون في ذلك العهد الاَسود إلى أزمات شاقة وعسيرة وامتحنوا كأشدّ ما يكون الامتحان ، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض ما عانوه من الكوارث .
إبادة القوى الواعية :
وعمد ابن هند إلى إبادة القوى الواعية في الاِسلام ، وتصفيتها جسدياً فقد ساق كوكبة منهم إلى ساحات الاعدام ، وفيما يلي بعضهم :
1 ـ حجر بن عديّ :
حجر بن عدي الكندي علم من أعلام الاِسلام ، وبطل من أبطال الجهاد ومن أبرز طلائع المجد والفخر للاَمّة العربية والاِسلامية ، ومن النماذج المشرقة الذين تخرّجوا من مدرسة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ووعوا قيمه وأهدافه ، وقد وهب هذا العملاق العظيم حياته لله فثار في وجه الاِرهابي المجرم زياد بن أبيه حينما أعلن رسمياً سبّ الاِمام أمير المؤمنين مفجّر الفكر والنور في دنيا الاِسلام ، والمؤسس الثاني في بناء العقيدة الاِسلامية بعد ابن عمّه وسيّده الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
لقد استحلّ الطاغية المجرم زياد دم المجاهد الكبير حجر بن عديّ حينما جابهه بالانكار على سبّه للاِمام ، فألقى عليه القبض ، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من أعلام المجاهدين في الاِسلام إلى أخيه في الجريمة معاوية بن هند ، فصدرت الاَوامر منه بإعدامهم في ( مرج عذراء ) ونفّذ الجلاّدون فيهم حكم الاِعدام فخرّت جثثهم الزواكي على الاَرض وهي معطّرة بدم الشهادة والكرامة ، تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة حرّة كريمة لا سيادة فيها للظالمين والمستبدّين .
---------------------------
(1) روح الاسلام : 296 .
العباس بن علي
_ 56 _
2 ـ عمرو بن الحمق :
ومن شهداء الاِسلام الخالدين عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي الجليل ، كان أثيراً عند النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد دعا له بأن يمتّعه الله بشبابه ، فاستجاب الله دعاءه فقد أخذ عمرو بعنق الثمانين عاماً ولم ترَ في كريمته شعرة بيضاء (1) .
وقد وعى عمرو القيم الاِسلامية وآمن بها إيماناً عميقاً ، وجاهد في سبيلها كأعظم ما يكون الجهاد ، ولما ولي الجلاّد زياد بن أبيه على الكوفة من قبل أخيه اللاشرعي معاوية أوعز إلى مباحثه وجلاوزته بملاحقة عمرو ومطاردته لاَنّه من أعلام شيعة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وفرّ عمرو مع زميله رفاعة بن شداد إلى الموصل ، وقبل أن ينتهيا إليها كمنا في جبل ليستجمّا فيه ، فشعرت بهما الشرطة المقيمة هناك ، فأرتابت منهما ، فألقت القبض على عمرو ، وفرّ صاحبه ، وجاءت الشرطة بعمرو مخفوراً إلى عبد الرحمن الثقفي حاكم الموصل ، فرفع أمره إلى معاوية ، فأمر بطعنه تسع طعنات بمشاقص (2) فبادرت الجلاوزة إلى طعنه ، فمات في الطعنة الاُولى ، واحتزّوا رأسه فأمر أن يطاف به في دمشق وهو أول رأس طيف به في الاِسلام ، ثم أمر به ابن هند أن يحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد ، وكانت في سجنه ، فلم تشعر إلاّ ورأس زوجها في حجرها فذعرت ، وكادت أن تموت ، ثم حملت إلى معاوية ، وجرت بينها وبينه محاورة شديدة دلّت على مسخ معاوية وتجرّده من جميع القيم الاِنسانية ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا ( حياة الاِمام الحسن ( عليه السلام ) .
---------------------------
(1) الاصابة 2: 526 .
(2) المشاقص : جمع مفرده مشقص ، النصل العريفي أو سهم فيه نصل عريض .
العباس بن علي
_ 57 _
3 ـ رشيد الهجري :
رشيد الهجري علم من أعلام الاِسلام ، وقطب من أقطاب الاِيمان وقد أخلص كأشدّ ما يكون الاِخلاص إلى وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد اعتقلته جلاوزة ابن زياد ، وجاءت به مخفوراً إليه ، فلما مثل عنده صاح به الباغي الاَثيم : ( ما قال لك خليلك ـ يعني الامام عليّاً ـ إنّا فاعلون بك ؟ . . ) فأجابه بصدق وإيمان غير حافل به : ( تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني . . ) ، فأراد الخبيث الدنس أن يكذّب الاِمام فقال : ( أمّا والله لاَكذبنّ حديثه خلّوا سبيله . . ) ، فخلّت الجلاوزة سبيله لكنّه لم يلبث إلاّ قليلاً حتى ندم على ذلك فأمر بإحضاره فلمّا مثل عنده صاح به : لا نجد شيئاً أصلح مما قال صاحبك : ( إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه . . ) ، وبادرت الجلاوزة فقطعت يديه ورجليه ، ولم يحفل هذا العملاق العظيم بما كان يعانيه من الآلام ، وراح يذكر مساوىَ بني أميّة وجورهم ويحفز الجماهير على الثورة عليهم ، وأسرعت الجلاوزة إلى زياد فأخبروه بالاَمر فأمرهم بقطع لسانه ، فقطع وتوفي في الحال هذا المجاهد العظيم الذي نافح عن عقيدته وولائه لاَهل البيت حتى النفس الاَخير من حياته .
هؤلاء بعض أعلام الاِسلام الذين صفّاهم ابن هند جسدياً لاَنّهم كانوا ينشرون القيم الاِسلامية ، ويذيعون بين الناس فضائل أهل البيت : الذين هم مصدر الوعي والفكر في الاِسلام .
مناهضة أهل البيت :
ولمّا استتبّ الاَمر إلى معاوية سخر جميع أجهزة دولته ووسائل إعلامه لمناهضة أهل البيت الذين هم وديعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أمّته ، والعصب الحسّاس في هذه الاَمّة ، وقد استخدم هذا الذئب الجاهلي أخطر الوسائل في مناهضتهم ، ومن بين ما قام به :
العباس بن علي
_ 58 _
1 ـ افتعال الاَخبار ضدّهم :
وأقام معاوية شبكة من عملائه لوضع الاَخبار وافتعالها على لسان النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للحطّ من شأن أهل بيته ، والتقليل من أهمّيتهم ، وقد عمد الوضّاعون لافتعال الاَخبار تارة في فضل الصحابة ، لجعلهم قبال العترة الطاهرة ، وقد عدّ الامام الاَعظم محمد الباقر ( عليه السلام ) أكثر من مائة حديث افتعلت لهذا الغرض كما افتعلوا طائفة من الاَخبار في ذمّ أهل البيت ( عليهم السلام ) ، كما وضعوا أحاديث أخرى في مدح الاَمويين ، وخلق الفضائل لهم ، وهم الذين ناجزوا الاِسلام في جميع مراحل تأريخهم ، ولم تقتصر الشبكة التخريبية على ذلك ، وانّما عمدت لافتعال الاَخبار فيما يتعلّق بأحكام الشريعة الاِسلامية ، ومن المؤسف جدّاً انّها دوّنت في الصحاح والسنن ، وجعلت جزءاً من الشريعة الاِسلامية ، ولم يلتفت المؤلّفون إلى وضعها ، وقد تصدّى بعض المحقّقين إلى تأليف بعض الكتب ، ذكروا فيها بعض الاَخبار الموضوعة ، فقد ألّف المحقّق السيوطي كتابه الشهير ( اللئالي المصنوعة في الاَخبار الموضوعة ) ذكر فيه طائفة كبيرة من تلك الموضوعات ، وقد سجّل المحقق الاَميني في ( الغدير ) أرقاماً لبعض الاَخبار الموضوعة بلغت زهاء نصف مليون حديث ، وعلى أي حال فان من أعظم ما مُني به الاِسلام من الكوارث هي الاَخبار الموضوعة التي شوّهت الواقع المشرق للاِسلام ، وألقت المسلمين في شرّ عظيم ، فقد حجبتهم عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) وما أثر عنهم من الاَخبار الصحيحة التي هي من ذخائر الاِسلام .
2 ـ سبّ الاِمام أمير المؤمنين :
وأعلن معاوية رسمياً سبّ الاِمام أمير المؤمنين ، وأوعز إلى ولاته وعمّاله أن يذيعوا ذلك بين المسلمين ، واعتبره عنصراً أساسياً في بناء دولته ، وإقامة حكومته ، وأخذ الاَذناب والعملاء ووعاظ السلاطين يصعّدون سبّ الاِمام وينتقصونه لا في نواديهم الخاصة والعامة فحسب ، وانّما في خطب صلاة الجمعة ، وسائر المناسبات الدينية ، معتقدين أن ذلك مما يوجب القضاء على شخصية الاِمام ، واندثار ذكره ، وقد خابت ظنونهم ، وتبت أيديهم ، فقد عادت اللعنات عليهم وعلى من ولاهم ومكنهم من رقاب المسلمين ، فقد برز الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على مسرح التأريخ البشري كألمع قائد إنساني أسّس معالم العدالة الاجتماعية ، وأقام أركان الحقّ في الاَرض .