أَلا وَإِنّى زاحِفٌ بِهذِهِ الاَُْسْرَةِ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَخَذْلَةِ النّاصِرِ ) ، ثُمَّ أَوْصَلَ كَلامَهُ ( عليه السلام ) بِأَبْياتِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكِ الْمُرادي :
وَإِنْ نُـغْلَبْ فَـغَيْرُ iiمُغَلِّبينا فَـإِنْ نَـهْزِمْ فَهَزّامُونَ iiقِدْماً مَـنايانا وَدَوْلَـة iiآخَـرينا وَمـا إِنْ طِـبُّنا جُبْنٌ iiوَلكِنْ كَـلاكِـلَهُ أَنـاخَ iiبِـآخِرينا إِذا مَا الْمَوْتُ رَفَّعَ عَنْ أُناسٍ كَـما أَفْنى الْقُرُون iiالاََْوَّلينا فَـأَفْنى ذلِكُمْ سَرَواتِ iiقَوْمي وَلَـوْ بَـقِيَ الْكِرامُ إِذاً iiبَقينا فَـلَوْ خِلْدَ الْمُلُوكُ إِذاً iiخُلِدْنا سَـيَلْقىَ الشّامِتُونَ كَما لَقينا فَـقُلْ لِـلشّامِتينَ بِنا: iiأَفيقُوا |
ثُمَّ قالَ : ( أَيْمُ وَاللهِ لا تَلْبَثُونَ بَعْدَها إِلاّ كَرَيْثِ ما يُرْكَبُ الْفَرَسُ حَتّى يَدُورَ بِكُمْ دَوْرَ الرَّحى وَتَقْلَقَ بِكُمْ قَلَقَ الْمِحْوَرِ ، عَهْدٌ عَهْدَهُ إِلَيَّ أَبي عَنْ جَدّي ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةٌ ، ثُمَّ اقُضوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونَ ، إِنّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتها ، إِنَّ رَبّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ، أَللّهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطَرَ السَّماءِ ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنينَ كَسِنَيْ يُوسُفَ ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلامَ ثَقيفٍ يَسُومُهُمْ كَأْساً مُصْبَرَةً ، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُونا وَخَذَلُونا ، وَأَنْتَ رَبُّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ ) ، ومثلّ هذا الخطاب الثوري صلابة الاِمام ، وقوّة عزيمته ، وشدّة بأسه فقد استهان بأولئك الاَقزام الذين هبّوا إليه يستنجدون به ، ويستغيثون لينقذهم من جور الامويين وظلمهم ، فلما أقبل إليهم انقلبوا عليه رأساً على عقب ، فسلّوا عليه سيوفهم وشهروا عليه رماحهم تقرّباً للطغاة والظالمين لهم ، والمستبدّين بشؤونهم في حين أنّه لم يبدو من أولئك الحكام أية بارقة من العدل فيهم .
العباس بن علي
_ 121 _
كما أعلن الاِمام عن رفضه الكامل لدعوة ابن مرجانة من الاستسلام له ، فقد أراد له الذلّ والهوان ، وهيهات أن يرضخ لذلك وهو سبط الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والممثّل الاَعلى للكرامة الاِنسانية ، فقد صمّم على الحرب بأسرته التي مثّلت البطولات ليحفظ بذلك كرامته ، وكرامة الاَمة .
وقد أخبرهم الاِمام عن مصيرهم بعد قتلهم له أنّهم لا ينعمون بالحياة ، وان الله يسلّط عليهم من يسقيهم كأساً مصبرة ، ويجرعهم الغصص وينزل بهم العذاب الاَليم ، وقد تحقّق ذلك فلم يمض قليل من الوقت بعد اقترافهم لقتل الاِمام حتى ثار عليهم البطل العظيم ، والثائر المجاهد ، ناصر الاِسلام الزعيم الكبير المختار بن يوسف الثقفي فقد ملاَ قلوبهم رعباً وفزعاً ، ونكّل بهم تنكيلاً فظيعاً ، وأخذت شرطته تلاحقهم في كل مكان فمن ظفرت به قتلته أشرّ قتلة ، ولم يفلت منهم إلاّ القليل ، وقد وجم جيش ابن سعد بعد هذا الخطاب التأريخي الخالد ، وودّ الكثيرون منهم أن تسيخ بهم الاَرض .
استجابة الحرّ :
واستيقظ ضمير الحرّ ، وثابت نفسه إلى الحقّ بعدما سمع خطاب الاِمام ، وجعل يتأمّل ، ويفكّر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته فهل يلتحق بالحسين ، ويحفظ بذلك آخرته ، وينقذ نفسه من عذاب الله وسخطه ، أو أنّه يبقى على منصبه كقائد فرقة في الجيش الاَموي ، وينعم بصلات ابن مرجانة ، واختار الحرّ نداء ضميره الحيّ ، وتغلّب على هواه ، فصمم على الالتحاق بالاِمام الحسين ( عليه السلام ) وقبل أن يتوجّه إليه أسرع نحو ابن سعد القائد العام للقوات المسلّحة فقال له : ( أمقاتل هذا الرجل ، . . ) .
العباس بن علي
_ 122 _
ولم يلتفت ابن سعد إلى انقلاب الحرّ فقد أسرع قائلاً بلا تردّد : ( أي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الاَيدي . . ) ، لقد أعلن ذلك أمام قادة الفرق ليظهر إخلاصه لأبن مرجانة ، فقال له الحرّ : ( أفمالكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضا . . ) ، واندفع ابن سعد قائلاً :
( لو كان الاَمر لي لفعلت ، ولكن أميرك أبى ذلك . . ) ، ولما أيقن الحرّ أن القوم مصمّمون على حرب الاِمام عزم على الالتحاق بمعسكر الاِمام ، وقد سرت الرعدة بأوصاله ، فأنكر عليه ذلك زميله المهاجر ابن أوس فقال له : ( والله إن أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن ، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، . . ) ، وأعرب له الحرّ عمّا صمّم عليه قائلاً :
( إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، ولا اختار على الجنّة شيئاً ولو قطعت وأحرقت . . ) ،
وألوى بعنان فرسه نحو الاِمام (1) وكان مطرقاً برأسه إلى الاَرض حياءً وندماً على ما صدر منه تجاه الاِمام ، ولما دنا منه رفع صوته ودموعه تتبلور على خدّيه قائلاً : ( اللهمّ إليك أُنيب ، فقد أرعبت قلوب أوليائك ، وأولاد نبيّك ، يا أبا عبد الله إنّي تائب فهل لي من توبة . . ) ، ونزل عن فرسه ، وأقبل يتضرّع ويتوسّل إلى الاِمام ليمنحه التوبة قائلاً :
---------------------------
(1) تأريخ الطبري 6 : 244 .
العباس بن علي
_ 123 _
( جعلني الله فداك يا بن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان ، ووالله الذي لا آله إلاّ هو ، ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ، فقلت في نفسي : لا أُبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم ، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلون منك ما ركبتها منك ، وانّي قد جئتك تائباً مما كان منّي إلى ربّي ، مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى لي توبة ، . . ) ، واستبشر به الاِمام ، ومنحه الرضا والعفو ، وقال له : ( نعم يتوب الله عليك ويغفر . . ) (1) .
وملاَ الفرح قلب الحرّ حينما فاز برضاء ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واستأذنه أن ينصح أهل الكوفة لعلّ بعضهم أن يرجع إلى الحقّ ، ويتوب إلى الرشاد ، فأذن له الاِمام في ذلك ، فأنبرى الحرّ إليهم رافعاً صوته : ( يا أهل الكوفة لاَمكم الهبل (2) والعبر (3) أدعوتموه حتى إذا أتاكم اسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه ، وأحطتم به ، ومنعتموه من التوجه إلى بلاد الله العريضة ، حتى يأمن .
---------------------------
(1) الكامل 2 : 288 .
(2) الهبل : الثكل .
(3) العبر : البكاء وجريان الدمع .
العباس بن علي
_ 124 _
ويأمن أهل بيته ، فأصبح كالاَسير ، لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع عنها ضرّاً ، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ، ويتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هو وأهله قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ذريّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا ، وتفزعوا عمّا أنتم عليه . . . )
(1) .
وودّ الكثير منهم أن تسيخ بهم الاَرض ، فهم على يقين بضلالة حربهم إلاّ أنّهم استجابوا لرغباتهم النفسية في حبّ البقاء ، وتوقح بعضهم فرموا الحرّ بالنبل وكان ذلك ما يملكونه من حجّة في الميدان .
الحرب
وأرتبك ابن سعد حينما علم أن الحرّ قد التحق بمعسكر الاِمام ، وهو من كبار قادة الفرق في جيشه ، وخاف أن يلحتق غيره بالاِمام ، فزحف الباغي الاَثيم نحو معسكر الاِمام ، وأخذ سهماً كأنّه كان نابتاً في قلبه ، فأطلقه صوب الاِمام ، وهو يصيح : ( اشهدوا لي عند الاَمير أنّي أوّل من رمى الحسين . . ) ، واتخذ بذلك وسيلة لفتح باب الحرب ، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة انه أول من رمى ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليكون أميره على ثقة من إخلاصه ، ووفائه للاَمويين ، وأن ينفي عنه كل شبهة من أنّه غير جادّ في حربه للحسين ، وتتابعت السهام كأنّها المطر على أصحاب الاِمام ، فلم يبق أحد منهم إلاّ أصابه سهم منها ، والتفت الاِمام إلى أصحابه ، فأذن لهم في الحرب قائلاً : ( قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم . . ) .
---------------------------
(1) الكامل 3 : 229 .
العباس بن علي
_ 125 _
وتقدّمت طلائع الشرف والمجد من اصحاب الاِمام إلى ساحة الحرب لتحامي عن دين الله ، وتذبّ عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهم على يقين لا يخامرهم أدنى شكّ أنّهم على الحق ، وأن الجيش الاَموي على ضلال ، قد سخط الله عليه وأحلّ به نقمته .
لقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً ، وأربعون راجلاً من أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) مع عشرات الآلاف من الجيش الاَموي ، وكانت تلك القلّة المؤمنة كفوءاً لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد والسلاح ، فقد أبدت تلك القلّة من صنوف البسالة والشجاعة ما يبهر العقول ويحير الاَلباب .
الحملة الاُولى :
وشنّت قوّات ابن سعد هجوماً عاماً واسع النطاق على أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) وخاضوا معهم معركة ضارية ، وقد اشترك فيها المعسكر الاَموي بكامل قطعاته ، وقد انبرى إليهم أصحاب الامام بعزم وإخلاص لم يشهد له نظير في جميع الحروب التي جرت في الاَرض ، فقد كانوا يخترقون جيش ابن سعد بقلوب أقوى من الصخر ، وقد انزلوا بهم خسائر فادحة في الاَرواح والمعدّات .
وقد استشهد نصف أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) في هذه الحملة (1) .
المبارزة بين المعسكرين :
ولما سقطت الصفوة الطاهرة من أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) صرعى على أرض الشهادة والكرامة ، هبّ من بقي منهم إلى المبارزة ، وقد ذعر المعسكر بأسره من بطولاتهم النادرة ، فكانوا يستقبلون الموت بسرور بالغ ، وقد ضجّ الجيش من الخسائر الفادحة التي مُني بها ، وقد بادر عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من الاَعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد فهتف في الجيش ينهاهم عن المبارزة قائلاً :
---------------------------
(1) حياة الاِمام الحسين 3: 203 .
العباس بن علي
_ 126 _
( يا حمقى أتدرون من تقاتلون ، تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر وقوماً مستميتين ، فلا يبرز لهم منكم أحد إلاّ قتلوه ، والله لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم . . ) (1) .
وحكت هذه الكلمات ما اتصف به السادة أصحاب الاِمام الحسين من الصفات البارزة فهم فرسان أهل المصر ، وذلك بما يملكونه من الشجاعة ، وقوة الاِرادة وانّهم أهل البصائر فلم يندفعوا إلى نصرة الاِمام ( عليه السلام ) إلاّ على بصيرة من أمرهم ، وليسوا كخصومهم الذين تردّوا في الغواية ، وماجوا في الباطل والضلال ، كما انّهم قوم مستميتون ولا أمل لهم في الحياة ، لقد توفرت في أصحاب الاِمام جميع النزعات الخيّرة ، والصفات الكريمة من الاِيمان والوعي والشجاعة وشرف النفس ، ويقول المؤرخّون : ان ابن سعد استصوب رأي ابن الحجاج فأوعز إلى قوّاته بترك المبارزة معهم (2) وشنّ عمرو بن الحجاج هجوماً عاماً على من تبقّى من أصحاب الاِمام ، والتحموا معهم التحاماً رهيباً ، واشتدّ القتال كأشدّ ما يكون القتال عنفا (3) وقد استنجد عروة بن قيس بابن سعد ليمدّه بالرماة والرجال قائلاً : ( ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدّة اليسيرة ، ابعث إليهم الرجال والرماة ) .
وطلب ابن سعد من المنافق شبث بن ربعي القيام بنجدته فأبى ، وقال : ( سبحان الله شيخ مضر ، وأهل المصر عامة ، تبعثه في الرماة لم تجد لهذا غيري ! !. ) .
---------------------------
(1 و 2) أنساب الاَشراف 3 : 192 .
(3) حياة الاِمام الحسين 3 : 211 .
العباس بن علي
_ 127 _
ولما سمع ذلك ابن سعد منه دعى الحصين بن نمير فبعث معه المجفَّفة وخمسمائة من الرماة ، فسددوا لاَصحاب الحسين ( عليه السلام ) السهام فأصابوا خيولهم فعقروها ، فصاروا كأنّهم رجالة ، ولم تزدهم هذه الخسارة إلاّ استبسالاً في القتال ، واستهانة بالموت ، فثبتوا كالجبال الشامخات ، ولم يتراجعوا خطوة واحدة ، وقد قاتل معهم الحرّ بن يزيد الرياحي راجلاً ، واستمرّ القتال كأعنف وأشدّ ما يكون ضراوة ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه أشدّ قتال حدث في التأريخ ، وقد استمرّ حتى انتصف النهار (1) .
أداء فريضة الصلاة :
وانتصف النهار وحان ميقات صلاة الظهر فوقف المؤمن المجاهد أبو ثمامة الصائدي فجعل يقلب وجهه في السماء كأنّه ينتظر أعزّ شيء عنده وهي أداء صلاة الظهر ، فلما رأى الشمس قد زالت التفت إلى الاِمام قائلاً : ( نفسي لنفسك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، والله لا تقتل حتى أقتل دونك ، واحبّ أن ألقى ربّي ، وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها . . ) .
لقد كان الموت منه كقاب قوسين أو أدنى ، وهو لم يغفل عن ذكر ربّه ، ولا عن أداء فرائضه ، وجميع أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) كانوا على هذا السمت إيماناً بالله ، وإخلاصاً في أداء فرائضه ، ورفع الاِمام رأسه فجعل يتأمّل في الوقت فراى أن قد حلّ وقت أداء الفريضة فقال له :
---------------------------
(1) تأريخ ابن الاَثير 3: 291.
العباس بن علي
_ 128 _
( ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها . . )
وأمر الاِمام ( عليه السلام ) أصحابه أن يطلبوا من معسكر ابن زياد أن يكفّوا عنهم القتال ليصلّوا لربّهم ، فسألوهم ذلك فانبرى الرجس الخبيث الحصين ابن نمير قائلاً : ( أنها لا تقبل ) فقال لهُ حبيب بن مظاهر بسخرية : ( زعمت أن لا تقبل الصلاة من آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتقبل منك يا حمار !! ) ، وحمل عليه الحصين فسارع إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فثبت به الفرس فسقط عنها ، وبادر إليه أصحابه فاستنقذوه (1) ، واستجاب أعداء الله ـ مكيدة ـ لطلب الاِمام فسمحوا له أن يؤدّي فريضة الصلاة ، وانبرى الاِمام للصلاة ، وتقدّم أمامه سعيد بن عبد الله الحنفي يقيه بنفسه السهام والرماح واغتنم أعداء الله انشغال الاِمام وأصحابه بالصلاة فراحوا يرشقونهم بسهامهم وكان سعيد الحنفي يبادر نحو السهام فيتقيها بصدره ونحره ، ووقف ثابتاً كالجبل لم تزحزحه السهام ، ولا الرماح والحجارة التي اتخدته هدفاً لها ولم يكن يفرغ الاِمام من صلاته حتى أثخن سعيد بالجراح فهوى إلى الاَرض يتخبّط بدمه وهو يقول : ( اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود ، وأبلغ نبيّك منّي السلام ، وابلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت بذلك ثوابك ونصرة ذريّة نبيّك . . ) والتفت إلى الاِمام قائلاً له بصدق وإخلاص : ( أوفيت يا بن رسول الله ؟ . ) .
---------------------------
(1) تأريخ ابن الاَثير 3 : 291 .
العباس بن علي
_ 129 _
فأجابه الاِمام شاكراً له : ( نعم أنت أمامي في الجنّة . . ) ، وملئت نفسه فرحاً حينما سمع قول الاِمام ، ثم فاضت نفسه العظيمة إلى بارئها فقد أصيب بثلاثة عشر سهماً عدا الضرب والطعن (1) وكان هذا منتهى ما وصل إليه الوفاء ، والاِيمان ، والولاء للحقّ .
مصرع بقيّة الاَنصار :
وتسابقت البقيّة الباقية من أصحاب الاِمام من شيوخ وشباب ، وأطفال إلى ساحات المعركة ، وقد أبلوا بلاءً حسناً يقصر عنه كل وصف واطراء ، وقد جاهدوا جهاداً لم يعرف التأريخ له نظيراً في جميع عمليات الحروب التي جرت في الاَرض ، فقد قابلوا على قلّة عددهم الجيوش المكثفة ، وانزلوا بها أفدح الخسائر ، ولم تضعف لاَي رجل منهم عزيمة ، ولم تلن لهم قناة ، وقد خضبوا جميعاً بالدماء ، وهم يشعرون الغبطة ، ويشعرون بالفخار ، وقد وقف الاِمام العظيم على مصارعهم ، فكان يتأمّل بوجهه الوديع فيهم ، فيراهم مضمخين بدم الشهادة ، فكان يقول : ( قتلة كقتلة النبيّين وآل النبيّين . . ) (2) .
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الاَعلى ، وقد حازوا الفخر الذي لا فخر مثله ، فقد سجلوا شرفاً لهذه الاَمة لا يساويه شرف ، وأعطوا للاِنسانية أفضل ما قُدّم لها من عطاء على امتداد التأريخ .
---------------------------
(1) مقتل الحسين للمقرم : 297 .
(2) حياة الاِمام الحسين 3 : 239 .
العباس بن علي
_ 130 _
مصارع آل النبيّ
وبعدما سقطت الصفوة الطيّبة من أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) صرعى وهي معطرة بدم الشهادة والكرامة ، هبّت أبناء الاَسرة النبوية كالاَسود الضارية للدفاع عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والذبّ عن عقائل النبوة ومخدّرات الرسالة ، وأول من تقدّم إلى البراز منهم شبيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خلقاً وخُلقاً عليّ الاَكبر ( عليه السلام ) فقد آثر الموت وسخر من الحياة في سبيل كرامته ، ولا يخضع لحكم الدعيّ ابن الدعيّ ، ولما رآه الاِمام أخذ يطيل النظر إليه ، وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات ، وأشرف على الاحتضار ، فرفع شيبته الكريمة نحو السماء وراح يقول بحرارة وألم ممض : ( اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خلقاً وخُلُقاً ومنطقاً ، وكنّا اذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه . . . اللهمّ امنعهم بركات الاَرض وفرقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبداً ، فانّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدّوا علينا يقاتلوننا . . . ) ، لقد تجسّدت صفات الرسول الاَعظم النفسية والخلقية بحفيده عليّ الاَكبر ( عليه السلام ) ، وأعِظم بهذه الثروة التي ملكها سليل هاشم وفخر عدنان ، وقد تقطع قلب الاِمام ( عليه السلام ) على ولده ، فصاح بابن سعد : ( مالك قطع الله رحمك ، ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم تلا قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
(1) .
---------------------------
(1) سورة آل عمران : 33 .
العباس بن علي
_ 131 _
وشيّع الاِمام ( عليه السلام ) فلذة كبده وهو غارق بالاَسى والحسرات وخلفه عقائل النبوة ، وقد علا منهنّ الصراخ والعويل على شبيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي ستتناهب شلوه السيوف والرماح وبرز الفتى مزهواً إلى حومة الحرب ، لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يحمل هيبة جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وشجاعة جدّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبأس حمزة عمّ أبيه ، واباء الحسين ، وتوسّط حراب الاَعداء ، وهو يرتجز بفخر وعزّة قائلاً :
نحن وربّ البيت أولى بالنبيّ أنا عليّ بن الحسين بن iiعلي |
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي
(1) أجل ـ يا بن الحسين ـ فخر هذه الاَمة ، ورائد نهضتها وكرامتها ، أنت وأبوك أحقّ بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأولى بمركزه ومقامه من هؤلاء الاَدعياء الذين حوّلوا حياة المسلمين إلى جحيم لا يطاق ، وأعلن عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) في رجزه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانّه يؤثر الموت على الذلّ والخنوع للدعي ابن الدعيّ ، وقد ورث هذه الظاهرة من أبيه سيّد الاَباة في الاَرض ، والتحم فخر هاشم مع أعداء الله ، وقد ملاَ قلوبهم رعباً وفزعاً ، وقد أبدى من الشجاعة والبسالة ما يقصر عنه الوصف ، ويقول المؤرّخون :
---------------------------
(1) تأريخ ابن الاَثير 3: 293 .
العباس بن علي
_ 132 _
انّه ذكرهم ببطولات جدّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي هو أشجع إنسان خلقه الله ، فقد قتل فيما يقول المؤرّخون مائة وعشرين فارساً
(1) سوى المجروحين ، وألحّ عليه العطش ، واُضر به الظمأ فقفل راجعاً إلى أبيه يطلب منه جرعة من الماء ، ويودعه الوداع الاَخير واستقبله أبوه بأسى ، فبادر عليّ قائلاً : ( يا أبة العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل الى شربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الاَعداء ، . . ) ، والتاع الاِمام كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة ، فقال له بصوت خافت ، وعيناه تفيضان دموعاً : ( واغوثاه ، ما أسرع الملتقى بجدّك ، فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً . . ) ، وأخذ لسانه فمصّه ليريه ظمأه فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه
(2) ، لقد كان هذا المنظر الرهيب من أقسى ما فجع به ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لقد رأى فلذة كبده وهو في ريعان الشباب وغضارة العمر كالبدر في بهائه قد استوعبت الجراحات جسمه الشريف ، وقد اشرف على الموت من شدّة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ، يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق :
يشكو لخير أب ظماه وما iiاشتكى ظمأ الحشا الا الى الظامي الصدي كُـلِّ حـشاشته كـصالية iiالغضا ولـسـانه ظـمأ كـشقّة مـبرد فـانصاع يـؤثره عـليه iiبـريقه لـو كـان ثـمة ريـقة لم يجمد |
---------------------------
(1 و 2) مقتل الخوارزمي 2 : 30 .
العباس بن علي
_ 133 _
وقفل فخر هاشم إلى ساحة الحرب ، قد فتكت الجروح بجسمه الشريف وفتت العطش قلبه ، وهو لم يحفل بما هو فيه من آلام لا تطاق ، وانما استوعبت مشاعره وعواطفه وحدة أبيه يراه وقد أحيط به من كل جانب ومكان ، وجميع قطعات الجيش متعطشة إلى سفك دمه لتتقرب به إلى ابن مرجانة . . . وجعل عليّ بن الحسين يرتجز أمام الأعداء :
الـحرب قد بانت لها iiحقائق وظـهرت من بعدها iiمصادق والله رب الـعرش لا iiنفارق جموعكم أو تغمد البوارق (1) |
لقد تجلت حقائق الحرب ، وبرزت معالمها وأهدافها بين الفريقين ، فالإمام الحسين إنما يناضل من أجل رفع الغبن الاجتماعي ، وضمان حقوق المظلومين والمضطهدين وتوفير الحياة الكريمة لهم ، والجيش الأموي انما يقاتل من أجل استعباد الناس وجعل المجتمع بستاناً للامويين يستغلون جهودهم ، ويرغمونهم على ما يكرهون ، وأعلن علي بن الحسين ـ في رجزه ـ أنه سيبقى يناضل عن الأهداف النبيلة والمبادئ العليا حتى تغمد البوارق ، وجعل نجل الحسين يقاتل أشد القتال وأعنفه حتى قتل تمام المائتين
(2) وقد ضج العسكر من شدة الخسائر الفادحة التي مُني بها ، فقال الرجس الخبيث مرة بن منقذ العبدي عليّ آثام العرب إن لم أثكل أباه
(2) وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله فطعنه بالرمح في ظهره وضربة ضربة غادرة بالسيف على رأسه ، ففلق هامته فاعتنق الفتى فرسه ظنا منه أنه سيرجعه إلى أبيه ليودعه الوداع الأخير إلا أن الفرس حمله إلى معسكر الأعداء ، فأحاطوا به من كل جانب ، فقطعوه بسيوفهم إربا إربا تشفيا منه لما ألحقه بهم من الخسائر الفادحة ، ورفع الفتى صوته :
---------------------------
(1) حياة الامام الحسين 3 : 247 .
(2) مقتل الخوارزمي 2 : 31 .
(3) مقتل المقرم : 316 .
العباس بن علي
_ 134 _
( عليك مني السلام أبا عبد الله ، هذا جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول : ان لك كأسا مذخورة . . . ) ، وحمل الأثير هذه الكلمات إلى ابيه فقطعت قلبه ، ومزقت أحشاءه ففزع إليه وهو خائر القوى مهندّ الركن ، قد أشرف على الموت ، فوضع خدّه على خد ولده ، وهو جثة هامدة ، قد قطعت شلوه السيوف فأخذ يذرف أحرّ الدموع ، وهو يقول بصوت خافت قد حمل شظايا قلبه الممزق : ( قتل الله قوما قتلوك ، يا بني ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول على الدنيا بعدك العفا . . . ) (1) .
وكان العباس ( عليه السلام ) إلى جانب أخيه ، وقد ذاب قلبه وذهبت نفسه حزنا وأسى على ما حل بهم من عظيم الكارثة وأليم المصاب ، لقد قتل ابن أخيه الذي كان ملء فم الدنيا في فضائله ومآثره ، فما أعظم رزيته ، وما أجلّ مصابه ! ! وهرعت الطاهرة حفيدة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زينب ( عليها السلام ) إلى جثمان ابن أخيها فانكبت عليه تضمخه بدموعها ، وهي صارخة معولة تندبه بأشجى ما تكون الندبة قائلة :
---------------------------
(1) نسب قريش : 57 .
العباس بن علي
_ 135 _
( وابن أخاه . . . ) ، ( واثمرة فؤاداه . . ) ، وأثر منظرها الحزين في نفس الإمام ، فجعل يعزيها بمصابها الأليم وهو بحالة المحتضر ، ويردد بأسى : ( على الدنيا بعدك العفا يا ولدي . . . ) ، لك الله يا أبا عبد الله على هذه الكوارث التي تميد بالصبر ، وتهتز من هولها الجبال ، لقد تجرعتها في سبيل هذا الدين الذي عبثت به العصابة المجرمة من الأمويين وعملائهم .
مصارع آل عقيل :
وهبت الفتية الأماجد من آل عقيل إلى الجهاد لتفدي إمام المسلمين وريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي ساخرة من الحياة ومستهينة بالموت وقد نظر الإمام ( عليه السلام ) إلى بسالتهم واندفاعهم بشوق إلى الذب عنه ، فقال : ( اللهم اقتل قاتل آل عقيل ، صبرا آل عقيل ان موعدكم الجنة . . . )
(1) ، وقد ألحقوا بالعدو خسائر فادحة ، فقد قاتلوا كالأسود الضارية وعلوا بإرادتهم ، وعزمهم الجبار على جميع فصائل ذلك الجيش وقد استشهد منهم تسعة من أطائب الشباب ، ومن مفاخر أبناء الأسرة النبوية ، وفيهم يقول الشاعر :
عـين جودي بعبرة iiوعويل واندبي إن ندبت آل الرسول |
---------------------------
(1) حياة الإمام الحسين 3 : 249 .
العباس بن علي
_ 136 _
سـبعة كـلهم لصلب iiعلي قد أصيبوا وتسعة لعقيل (1) |
وقد صعدت أرواحهم الطاهرة إلى الفردوس الأعلى حيث مقر النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
مصارع أبناء الحسن :
وسارعت الفتية من أبناء الامام الزكي أبي محمد ( عليه السلام ) إلى نصرة عمهم والذب عنه ، وقلوبهم تنزف دماً على ما حل به من عظيم الكوارث والخطوب وكان من بينهم القاسم ، وقد وصفه المؤرخون بأنه كالقمر في جمال طلعته وبهائه وقد غذاه عمه بمواهبه ، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتى صار من أمثلة الكمال والآداب .
وكان القاسم وبقية اخوانه يتطلعون إلى محنة عمهم ، ويودون أن يردوا عنه عوادي الأعداء بدمائهم وأرواحهم ، وكان القاسم يقول : ( لا يقتل عمي وأنا حي )
(2) ، وأنبرى القاسم يطلب الإذن من عمه ليجاهد بين يديه ، فاعتنقه الإمام ، وعيناه تفيضان دموعا ، وأبى أن يأذن له إلا أن الفتى ألح عليه ، وأخذ يقبل يديه ورجليه ليسمح له بالجهاد ، فأذن له ، وأنطلق رائد الفتوة الإسلامية إلى ساحة الحرب ، ولم يضف على جسده الشريف لامة حرب ، محتقراً لأولئك الوحوش ، وقد التحم معهم يحصد رؤوسهم ، ويجندل أبطالهم كأن المنايا كانت طوع إرادته ، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله الذي هو أشرف من ذلك الجيش ، وأنف سليل النبوة والإمامة أن تكون إحدى رجليه بلا نعل فوقف يشده متحديا لهم ، وأغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش وهو عمرو بن سعد الأزدي فقال :
---------------------------
(1) المعارف : 204 .
(2) حياة الإمام الحسين 3 : 255 .
العباس بن علي
_ 137 _
والله لأشدن عليه ، فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم ، وقال له : ( سبحان الله !! وما تريد بذلك ، يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم . . . ) ، فلم يعن الخبيث به ، وشد عليه فضربه بالسيف على راسه الشريف فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعا يتخبط بدمه القاني ، ونادى بأعلى صوته : ( يا عماه أدركني . .) ، وكان الموت أهون على الإمام من هذا النداء ، فقد تقطع قلبه وفاضت نفسه أسى وحسرات ، وسارع نحو ابن أخيه فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف ، فاتقاها بساعده فقطعها من المرفق ، وطرحه أرضا ، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلا أن الأثيم هلك تحت حوافر الخيل ، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلا والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح ، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه : ( بعدا لقوم قتلوك ، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك ، ( عز والله ) على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوت ، والله هذا يوم كثر واتره ، وقل ناصره . . . ) (1) ، وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه ، وهو يفحص بيديه ورجليه (2) حتى فاضت نفسه الزكية بين يديه ، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر ، وسائر القتلى الممجدين من أهل بيته ، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدع قلبه ، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرية نبيهم ، قائلا :
---------------------------
(1) البداية والنهاية 8 : 186 .
(2) حياة الامام الحسين 3 : 256 .
العباس بن علي
_ 138 _
( اللهم احصهم عددا ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبدا صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً . . . ) (1) ، وبرز من بعده عون بن عبد الله بن جعفر ، ومحمد بن عبد الله بن جعفر وأمهما العقيلة الطاهرة حفيدة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زينب الكبرى ( عليها السلام ) وقد نالا شرف الشهادة مع حفيد النبي وريحانته ، ولم يبق بعد هؤلاء الصفوة من أهل البيت ( عليهم السلام ) إلا أخوة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وفي طليعتهم أخوه أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) وكان إلى جانب أخيه كقوة ضاربة يحميه من أي اعتداء عليه ، وقد شاركه في جميع آلامه وأحزانه ، على ضفاف العلقمي وذاب قلب أبي الفضل أسىً وحزناً ، وودّ أن المنيّة قد اختطفته ، ولا يشاهد تلك الكوارث والخطوب التي تذهل كل كائن حيّ ، وتميد بالصبر ، ولا يقوى على تحملها أي إنسان إلاّ أولي العزم من أنبياء الله الذين امتحن الله قلوبهم للاِيمان واصطفاهم على عباده ، ومن بين تلك الكوارث المذهلة التي عاناها أبو الفضل ( عليه السلام ) أنّه كان يستقبل في كل لحظة شاباً أو غلاماً لم يراهق الحلم من أهل بيته قد مزّقت أشلاءهم سيوف الاَمويين وحرابهم ، ويسمع صراخ بنات الرسالة ، وعقائل النبوة ، وهنّ يلطمن وجوههن ، ويندبن بأشجى ما تكون الندبة أُولئك البدور الذين تضمخوا بدم الشهادة دفاعاً عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . . . ومن بين المحن الشاقة التي عاناها أبو الفضل ( عليه السلام ) أنّه يرى أخاه ، وشقيق روحه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) قد أحاطت به أوغاد اهل الكوفة لتتقرّب بقتله إلى سليل الاَدعياء ابن مرجانة ، وقد زادته هذه المحن إيماناً وتصميماً على مناجزة أعداء الله ، وبذله حياته فداءً لسبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ونعرض ـ يإيجاز ـ إلى شهادته وما رافق ذلك من أحداث .
---------------------------
(1) مقتل الخوارزمي 2 : 28 .
العباس بن علي
_ 139 _
العباس مع أخوته :
وأنبرى بطل كربلاء إلى أشقّائه بعد شهادة الفتية من أهل البيت ( عليهم السلام ) فقال لهم : ( تقدّموا يا بني أمّي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله ، فانه لا ولد لكم . . . )
(1) ، لقد طلب من اخوانه الممجدين أن يقدموا نفوسهم قرابين لدين الله ، وأن ينصحوا في جهادهم لله ورسوله ، ولم يلحظ في تضحيتهم أي اعتبار آخر من النسب وغيره ، والتفت أبو الفضل إلى أخيه عبد الله فقال له : ( تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً ، واحتسبك . .)
(2) ، واستجابت الفتية إلى نداء الحق فهبّوا للدفاع عن سيّد العترة وإمام الهدى الحسين ( عليه السلام ) ، قول رخيص : ومن أهزل الاَقوال ، وأبعدها عن الحق ما ذكره ابن الاَثير ان العباس ( عليه السلام ) قال لاَخوته : ( تقدّموا حتى أرثكم ، فأنه لا ولد لكم . . )
(3) ، لقد قالوا بذلك ، ليقلّلوا من أهمية هذا العملاق العظيم الذي هو من ذخائر الاِسلام ، ومن مفاخر المسلمين ، وهل من الممكن أن يفكّر فخر هاشم في الناحية المادية في تلك الساعة الرهيبة التي كان الموت المحتم منه كقاب قوسين أو أدنى ، مضافاً إلى الكوارث التي أحاطت به ، فهو يرى أخاه قد أحاطت به جيوش الاَمويين ، وهو يستغيث فلا يغاث ، ويسمع صراخ عقائل النبوة ومخدرات الرسالة ، فقد كان همّه الوحيد الرحيل من الدنيا ، واللحوق بأهل بيته الذين حصدتهم سيوف الاَمويين ، وبالاضافة لهذا كله فان السيدة أم البنين أم السادة الاَماجد كانت حيّة فهي التي تحوز ميراث أبنائها لاَنها من الطبقة الاَولى لو كان لاَبنائها أموال فان أباهم الاِمام أمير المؤمنين قد انتقل من هذه الدنيا ولم يخلف صفراءً ولا بيضاء ، فمن أين جاءت أبناءه الاَموال . . . ومن المحتمل قوياً أن يكون الوارد في كلام سيّدنا أبي الفضل ( عليه السلام ) ( حتّى أثأركم . .) أي أطلب بثاركم فحرّف كلامه .
---------------------------
(1) الارشاد : 269 .
(2) مقاتل الطالبيين : 82 .
(3) تأريخ ابن الاَثير 3 : 294 .
العباس بن علي
_ 140 _
مصارع اخوة العبّاس :
واستجاب السادة اخوة العباس إلى نداء أخيهم فهبّوا للجهاد ، ووطّنوا نفوسهم على الموت دفاعاً عن أخيهم ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقد برز عبد الله ابن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والتحم مع جيوش الامويين وهو يرتجز :
من هاشم الخير الكريم المفضل شيخي علي ذو الفخار iiالاَطول عـنه نحامي بالحسام iiالمصقل هـذا حسين بن النبي iiالمرسل يا رب فامنحني ثواب iiالمنزل تـفديه نـفسي مـن أخ مبجّل |
لقد أعرب بهذا الرجز عن اعتزازه وافتخاره بأبيه الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) باب مدينة علم النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصيه ، كما اعتزّ بأخيه سيّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقد أعلن أنّه انّما يدافع عنه لاَنّه ابن النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويلتمس بذلك أن يمنحه الله الدرجات الرفيعة ، ولم يزل الفتى يقاتل أعنف القتال وأشدّه حتى شدّ عليه رجس من أرجاس أهل الكوفة وهو هاني بن ثبيت الحضرمي فقتله
(1) .
---------------------------
(1) حياة الاِمام الحسين 3 : 262 .
العباس بن علي
_ 141 _
وبرز من بعده أخوه جعفر ، وكان له من العمر تسعة عشر سنة فجعل يقاتل قتال الاَبطال فبرز إليه قاتل أخيه فقتله
(1) ، وبرز من بعده أخوه عثمان وهو ابن إحدى وعشرين سنة فرماه خولي بسهم فأضعفه ، وشدّ عليه رجس من بني دارم وأخذ رأسه ليتقرّب به إلى ابن الاَمة الفاجرة عبيدالله بن مرجانة
(2) ، لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الاَعلى ، وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله ، وأشدّ ما تكون إيماناً بعدالة تضحيتهم التي هي من أنبل التضحيات في العالم ، ووقف أبو الفضل على اشقّائه الذين مزّقت أشلاءهم سيوف الاَعداء فجعل يتأمّل في وجوههم المشرقة بنور الاِيمان ، وأخذ يتذكّر وفاءهم ، وسموّ آدابهم ، وأخذ يذرف عليهم أحرّ الدموع ، وتمنّى أن تكون المنيّة قد وافته قبلهم ، واستعدّ بعد ذلك إلى الشهادة ، والفوز برضوان الله .
مصرع أبي الفضل :
ولما رأى أبو الفضل ( عليه السلام ) وحدة أخيه ، وقتل أصحابه ، وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق فلم يسمح له الاِمام ، وقال له بصوت حزين النبرات : ( أنت صاحب لوائي . . ) .
لقد كان الاِمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل فهو كقوة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه ، ويردّ عنه كيد المعتدين ، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً :
---------------------------
(1) الاِرشاد : 269 .
(2) مقاتل الطالبيين : 83 .
العباس بن علي
_ 142 _
( لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، وأريد أن آخذ ثأري منهم . . ) ، لقد ضاق صدره ، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته ، وأبناء عمومته صرعى مجزرين على رمضاء كربلاء فتحرّق شوقاً للاَخذ بثأرهم والالتحاق بهم ، وطلب الاِمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الاَطفال الذين صرعهم العطش فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة فجعل يعظهم ، ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته ، ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد :
( يا بن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد احرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول : ( دعوني أذهب إلى الروم أو الهند ، وأخلّي لكم الحجاز والعراق . . ) ، وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد ، ووجم الكثيرون ، وودّوا أن الاَرض تسيخ بهم ، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً : يا بن أبي تراب ، لو كان وجه الاَرض كلّه ماءً ، وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد . . . لقد بلغت الخسّة ، ولؤم العنصر ، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار . . . وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الاَطفال ، وهم يستغيثون ، وينادون : ( العطش العطش . . ) ،
ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم ، وأشرفوا على الهلاك ، من شدّة العطش ، وفزع أبو الفضل ، وسرى الاَلم العاصف في محيّاه ، واندفع ببسالة لاِغاثتهم ، فركب فرسه ، وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات ، فانهزم الجيش من بين يديه ، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء ، فاحتلّه ، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش ، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه ، إلاّ أنه تذكّر عطش أخيه ، ومن معه من النساء والاَطفال ، فرمى الماء من يده ، وامتنع أن يروي غليله ، وقال :
العباس بن علي
_ 143 _
وبـعده لا كـنت أن iiتكوني يا نفس من بعد الحسين هوني وتـشـربين بـارد iiالـمعين هـذا الـحسين وارد iiالمنون |
تالله ما هذا فعال ديني ان الاِنسانية بكل إجلال واحترام لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والاِسلام وهي تلقي على الاَجيال أروع الدروس عن الكرامة الاِنسانية ، ان هذا الاِيثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيات في خلق سيّدنا أبي الفضل ، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله ، فأي إيثار أنبل أو أصدق من هذا الاِيثار ، . . . واتجه فخر هاشم مزهواً نحو المخيم بعدما ملاَ القربة ، وهي عنده أثمن من حياته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشرية التحاماً رهيباً فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز :
حـتى أواري في المصاليت iiلقى لا أرهـب الموت اذ الموت iiزقا إنـي أنـا الـعباس أغدو iiبالسقا نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا |
ولا أخاف الشرّ يــوم الملتقى لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة ، وانّه لا يخشى الموت ، وانّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحق ، وفداءً لاَخيه سبط النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . . وانه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت .
العباس بن علي
_ 144 _
وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب ، فقد ذكرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ، ومحطّم فلول الشرك ، إلاّ ان وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها ، لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء ، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز :
انّي أحامي أبداً عن iiديني والله ان قـطعتم iiيـميني نجل النبيّ الطاهر الاَمين وعـن إمام صادق اليقين |
ودلل بهذا الرجز على الاَهداف العظيمة ، والمثل الكريمة التي يناضل من أجلها فهو انّما يناضل دفاعاً عن الاِسلام ، ودفاعاً عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل الجنّة ، ولم يبعد العباس قليلاً حتى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها ، وحمل القربة بأسنانه ـ حسبما تقول بعض المصادر ـ وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت ( عليهم السلام ) وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وألم الجراح ، وشدّة العطش ، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الاِنسانية من الشرف والوفاء والرحمة . . . وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فأريق ماؤها ، ووقف البطل حزيناً ، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه ، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته ، وهوى إلى الاَرض ، وهو يؤدّي تحيّته ، ووداعه الاَخير إلى أخيه قائلاً :
العباس بن علي
_ 145 _
( عليك منّي السلام أبا عبد الله . . . ) ، وحمل الاَثير محنته إلى أخيه فمزّقت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل ، وأقتحم جيوش الاَعداء ، فوقف على جثمان أخيه فألقى بنفسه عليه ، وجعل يضمخه بدموع عينيه ، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً : ( الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي ، وشمت بي عدويّ. . .) ، وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه ، وقد انهارت قواه ، وانهدّ ركنه وتبددت جميع آماله ، وودّ أن الموت قد وافاه قبله ، وقد وصف السيّد جعفر الحلّي حالته بقوله :
بـيـن الـخـيام وبـينه مـتقسم فـمشى لـمصرعه الحسين iiوطرفه بــدر بـمنحطم الـوشيج iiمـلثم ألـفـاه مـحجوب الـجمال iiكـأنّه صـبغ الـبسيط كـأنّما هـو عندم فـأكـب مـنحنياً عـليه iiودمـعه لـم يـدمه عـضّ الـسلاح iiفيلثم قـد رام يـلثمه فـلم يـر iiموضعاً صــم الـصخور لـهولها iiتـتألّم نـادى وقـد مـلاَ البوادي iiصيحة تـرضى بـأن أرزى وأنـت iiمنعم أخـي يـهنيك الـنعيم ولـم iiأخل اذ صـرن يـسترحمن من لا يرحم أخـي مـن يـحمي بـنات iiمحمد وتـكف بـاصرتي وظهري يقصم مـا خـلت بعدك أن تشلّ iiسواعدي بـيض الـضبا لك في جبيني iiتلطم لـسـواك يـلطم بـالاَكف iiوهـذه إلاّ كـمـا أدعـوك قـبل وتـنعم ما بين مصرعك الفضيع ومصرعي ولــواك هـذا مـن بـه يـتقدم هـذا حـسامك مـن يذلّ به iiالعدا والـجرح يـسكنه الـذي هـو iiآلم هـونت يا باابن أبي مصارع فتيتي |
العباس بن علي
_ 146 _
وهو وصف دقيق للحالة الراهنة التي حلّت بسيّد الشهداء بعد فقده لاَخيه ووصف شاعر آخر وهو الحاج محمد رضا الاَزري وضع الاِمام ( عليه السلام ) بقوله :
الـيوم بـان عـن اليمين iiحسامها وهـوى عـليه مـا هـنالك قائلاً الـيوم بـان عـن الـهداة iiامامها الـيوم سـار عن الكتائب iiكبشها الـيوم حـلّ عـن البنود iiنظامها الـيوم آل إلـى الـتفرق جـمعنا وتـسهّدت أخـرى فـعز iiمنامها الـيوم نـامت أعـين بك لم iiتنم غـودرت وانـثالت عليك iiلئامها اشقيق روحي هل تراك علمت iiان أو دكـدكت فـوق الربى iiأعلامها قد خلت اطبقت السماء على الثرى بـك لاحـق أمـراً قضى iiعلامها لـكن أهـان الخطب عندي iiانني |
ومهما قال الشعراء والكتّاب فانهم لا يستطيعون أن يصفون ما ألمّ بالاِمام من فادح الحزن ، وعظيم المصاب ، ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخيه وهو لايتمكّن أن ينقل قدميه ، وقد بان عليه الانكسار ، وهو الصبور ، واتجه صوب المخيّم ، وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة قائلة : ( أين عمّي أبو الفضل ، . . ) ، فغرق بالبكاء ، واخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البكاء بشهادته ، وذعرت سكينة ، وعلا صراخها ، ولما سمعت بطلة كربلاء حفيدة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بشهادة أخيها الذي ما ترك لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلاّ قدّمه لها أخذت تعاني آلام الاحتضار ، ووضعت يدها على قلبها المذاب ، وهي تصيح : ( وا أخاه ، واعبّاساه ، وا ضعيتنا بعدك . . . ) ، يالهول الفاجعة ، يالهول الكارثة .
العباس بن علي
_ 147 _
لقد ضجّت البقعة من كثرة الصراخ والبكاء ، وأخذت عقائل النبوة يلطمن الوجوه وقد أيقن بالضياع بعده ، وشاركهنّ الثاكل الحزين أبو الشهداء في محنتهنّ ومصابهنّ ، وقد علا صوته قائلاً : ( واضيعتنا بعدك يا أبا الفضل . . . ) ، لقد شعر أبو عبد الله ( عليه السلام ) بالضيعة والغربة بعد فقده لاَخيه الذي ليس مثله أخ في برّه ووفائه ومواساته ، فكانت فاجعته به من أقسى ما مُني به من المصائب والكوارث ، وداعاً يا قمر بني هاشم ، وداعاً يا فجر كل ليل ، وداعاً يا رمز المواساة والوفاء .
سلام عليك يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تُبعث حيّاً .