وعلى أيّ حال فقد قضى سليل هاشم ليله حزيناً قلقاً مضطرباً ، وقد خلص في معظم الليل إلى العبادة ما بين الصلاة وقراءة القرآن ، فقد أيقن أن تلك الليلة هي آخر آيّام حياته ، وقد خفق في بعض الليل فرأى عمّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في منامه فأخبره بسرعة اللحاق به ، فعند ذلك أيقن بدنوّ الاَجل المحتوم منه ، الاِفشاء بمسلم : ولمّا انبثق نور الصبح بادر بلال إلى قصر الاِمارة ليخبر السلطة بمكان مسلم عنده ، وكان الخبيث بحالة من الدهشة تلفت النظر ، فقصد عبدالرحمن بن محمد بن الاَشعث وهو من الاَسرة الانتهازية الخبيثة التي طلقت الشرف والمعروف ثلاثاً ، فأسره بالاَمر ، فأمره بالسكوت لئلا يسمعه غيره فيخبر ابن زياد فينال منه الجائزة ، وأسرع عبدالرحمن إلى أبيه محمد فأخبره بالاَمر الخطير ، وبدت سحنات الفرح والسرور على وجهه ، وفطن ابن مرجانة إلى أن هناك أمراً عظيماً يخصّ السلطة فبادر قائلاً : ( ما قال لك: عبد الرحمن ؟ . . ) ، فقال وقد ملاَ الفرح اهابه : ( أصلح الله الاَمير البشارة العظمى . . . ) ، ( ما ذاك ؟ مثلك من بشّر بخير . . . ) ، ( إن إبني هذا يخبرني أن مسلماً في دار طوعة . . . ) ، وطار ابن زياد من الفرح والسرور فقد تمّت بوارق آماله وأحلامه ، فقد ظفر بسليل هاشم ليقدّمه قرباناً لاَمويته اللصيقة ، وأخذ يمني ابن الاَشعث بالمال والجاه المزيّف ، قائلاً له : ( قم فأتني به ، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الاَوفى . . . ) ، وسأل لعاب ابن الاَشعث فاندفع وراء أطماعه الدنيئة لاِلقاء القبض على مسلم .
الهجوم على مسلم :
وندب ابن مرجانة لحرب مسلم ، محمد بن الاَشعث ، وعمرو بن حريث المخزومي وضمّ إليهما ثلثمائة رجل من فرسان الكوفة ، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة التي لا عهد لها بالشرف والمروءة إلى حرب مسلم الذي أراد أن يحررهم من الذلّ والعبودية ، وينقذهم من ظلم الاَمويين وجورهم .
العباس بن علي
_ 82 _
ولما قربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم أنها قد أتت لحربه ، فسارع إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، وصبّ عليه درعه ، وتقلّد سيفه ، والتفت إلى السيّدة الكريمة طوعة فشكرها على حسن ضيافتها ، وأخبرها أنه انّما أُوتي إليه من قبل ابنها الباغي اللئيم ، وأقتحم الجيش الدار على مسلم فشدّ عليهم كالليث يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين من بين يديه يطاردهم الرعب والخوف ، وبعد فترة عادوا إليه فحمل عليهم ، وأخرجهم من الدار ، وأنطلق نحوهم فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه ، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ ، فقد قتل منهم ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ واحداً وأربعين ، عدا الجرحى ، وكان من قوته النادرة ، وعظيم بأسه أن يأخذ الرجل منهم بيده ، ويرمي به فوق البيت كأنّه حجر ، ومن المؤكّد أنّه ليس في تأريخ الاِنسانية مثل هذه البطولة ، ولا مثل هذه القوة ، وليس ذلك غريباً عليه ، فعمّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أشجع الناس ، وأقواهم بأساً وأشدّهم عزيمة ، وجعل أنذال أهل الكوفة يرمون مسلماً بالحجارة وقذائف النار من فوق سطوح بيوتهم ، ومما لا ريب فيه أن الحرب لو كانت في البيداء لاَتى عليهم مسلم ، ولكنها كانت في الاَزقة والشوارع ، ومع ذلك فقد فشلت جيوش أنذال أهل الكوفة ، وعجزت عن مقاومة البطل العظيم ، فقد أشاع فيه القتل والدمار ، وأسرع ابن الاَشعث بالطلب إلى سيّده ابن مرجانة ليمدّه بالخيل والرجال ، لاَنّه لا يقوى على مقاومة هذا البطل العظيم ، وبهر الطاغية ، وأخذ يندد بقيادة ابن الاَشعث قائلاً : ( سبحان الله ! ! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة . . . ) ، وثقل على ابن الاَشعث هذا التقريع ، فراح يشيد ببطولات ابن عقيل قائلاً : ( أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة وانّما بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الاَنام ) ، وأمدّه ابن زياد بقوة مكثفة من الجيش ، فجعل بطل الاِسلام وفخر عدنان يقاتلهم أشدّ القتال وأعنفه وهو يرتجز :
العباس بن علي
_ 83 _
وإن رأيت الموت شيئاً نكرا أقـسمت لا أقـتل إلاّ iiحرّا ردّ شـعاع الشمس iiفاستقرا أو يـخلط البارد سخناً iiمرّا أخـاف أن أكذب أو iiأغرا كـلّ امرىَ يوماً يلاقي شرّاً |
أما أنت يا بن عقيل فكنت سيّد الاَباة والاَحرار فقد رفعت لواء العزّة والكرامة ، ورفعت شعار الحرية ، وأما خصومك فهم العبيد الذي رضوا بالذلّ والهوان ، وخضعوا للعبودية والذل ، لقد أردت أن تحررهم ، وتعيد لهم الحياة الحرّة الكريمة ، فأبوا ذلك ، وعدوا عليك يقاتلونك ، وقد فقدوا بذلك إنسانيتهم ، ومقومات حياتهم ، ولمّا سمع ابن الاَشعث رجز مسلم الذي أقسم فيه على أن يموت ميتة الاَحرار والاَشراف انبرى إليه ليخدعه قائلاً : ( إنّك لا تكذب ، ولا تخدع ، إن القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ، ولا ضاريّك . . ) .
فلم يحفل مسلم بأكاذيب ابن الاَشعث ، وراح يقاتلهم أعنف القتال وأشدّه ، ففرّوا منهزمين من بين يديه ، وهو يحصد رؤوسهم ، وجعلوا يرمونه بالحجارة ، فأنكر عليهم مسلم ذلك وصاح بهم : ( ويلكم ما لكم ترمونني بالحجارة ، كما تُرمى الكفار ، وأنا من أهل بيت الاَبرار ، ويلكم أما ترعون حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وذريته . .) ، إنّ هؤلاء الاَجلاف قد فقدوا جميع القيم والاَعراف ، فلم يرعوا أيّة حرمة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي حرّرهم من حياة التيه في الصحراء وأقام لهم حضارة لم تعهدها الاَمم والشعوب ، فكان جزاؤه منهم أن عدوا على أبنائه وذريته فأوسعوهم قتلاً وتنكيلاً ، وعلى أي حال فان جيوش ابن زياد لم تستطع مقاومة البطل العظيم وبان عليهم الانكسار ، وضاق بابن الاَشعث أمره ، فدنا من مسلم ورفع عقيرته قائلاً : ( يا بن عقيل لا تقتل نفسك ، أنت آمن ، ودمك في عنقي . . ) ، ولم يعن مسلم بأمان ابن الاَشعث لعلمه أنّه من أسرة خبيثة لا تعرف أي معنى من معاني النبل والوفاء ، فردّ عليه قائلاً : ( يا بن الاَشعث لا أعطي بيدي أبداً ، وأنا أقدر على القتال ، والله لا كان ذلك أبداً . . ) .
العباس بن علي
_ 84 _
وحمل عليه مسلم ففرّ الجبان منهزماً يلهث كالكلب ، وأخذ العطش القاسي من مسلم مأخذاً عظيماً ، فجعل يقول : ( اللهمّ إن العطش قد بلغ منّي . . ) ، وتكاثرت الجنود على مسلم ، وقد استولى عليهم الرعب والخوف ، وصاح بهم ابن الاَشعث : ( إن هذا هو العار والفشل ان تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع ، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة . . . ) ، فحمل الاَوغاد اللئام على مسلم ، وجعلوا يطعنونه برماحهم ، ويضربونه بسيوفهم ، وقد ضربه الوغد بكير بن حمران الاَحمري ضربة منكرة على شفته العليا ، وأسرع السيف إلى السفلى ، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الاَرض .
أسره :
وأعيى مسلماً نزيف الدم ، وقد أثخن بالجراح ، فانهارت قواه ، ولم يتمكّن على المقاومة ، فوقع أسيراً بأيدي أُولئك الاَقزام ، وتسابقوا إلى ابن مرجانة يحملون له البشرى بأسرهم للقائد العظيم الذي جاء ليقيم في بلادهم حكم القرآن ، ويحررهم من جور الاَمويين وظلمهم ، وطار ابن مرجانة فرحاً ، فقد ظفر بخصمه ، وتمّ له القضاء على الثورة وحمل مسلم أسيراً إلى عبد الاَمويين وعميلهم ، وقد ازدحمت الجماهير التي بايعته ، وأعطته العهود والمواثيق في الوفاء ببيعته إلاّ أنهم خانوا بذلك ، وراحوا يقاتلونه ، وانتهى بمسلم إلى قصر الامارة ، وقد أخذ العطش منه مأخذاً عظيماً فرأى جرّة فيها ماء بارد ، فالتفت إلى من حوله فقال لهم : ( اسقوني من هذا الماء . . ) ، فأنبرى له اللئيم الدنس عميل الاَمويين مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له : ( أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم . . ) .
العباس بن علي
_ 85 _
ودلّت هذه البادرة وغيرها مما صدر من هؤلاء الممسوخين على تجرّدهم من جميع القيم الاِنسانية ، ومن المؤكّد أن هذا هو السمت البارز من أخلاق السفلة الساقطين من قتلة الاَنبياء والمصلحين ، وبهر مسلم من هذا الانسان الممسوخ فقال له : ( من أنت ، . . ) ، فأجابه الباهلي بأنّه من خدّام السلطة وأذنابها قائلاً : ( أنا من عرف الحق ، إذ تركته ، ونصح الاَمة والامام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته أنا مسلم بن عمرو الباهلي . . ) ، أيّ حقّ عرفه هذا الجلف الجافي ، وهو والاَكثرية الساحقة من المجتمع الذي عاش فيه ، قد غرقوا في الباطل والمنكر . . . ان غاية ما يفخر به الوغد تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو أقذر مخلوق عرفه التأريخ البشري ، وردّ عليه مسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً : ( لأمك الثكل ، ما أجفاك وأفظّك ، وأقسى قلبك ، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جنهّم منّي . . ) ، وكان عمارة بن عقبة حاضراً فاستحيا من جفوة الباهلي ولؤمه فدعا بماء بارد فصبّه في قدح ، وناوله إلى مسلم ، وكلما أراد أن يشرب امتلاَ القدح دماً وفعل ذلك ثلاثاً ، فقال : لو كان لي الرزق المقسوم لشربته ، مع ابن مرجانة : وادخل قمر عدنان على ابن مرجانة ، فسلّم على الحاضرين ، ولم يسلّم عليه ، فأنكر عليه بعض صعاليك الكوفة قائلاً : ( هل تسلّم على الاَمير ؟ . .) ، فصاح به البطل العظيم محتقراً له ولاَميره قائلاً : ( اسكت لا أمّ لك ، والله ليس لي بأمير فأسلّم عليه . . ) وتميّز الطاغية غيظاً فراح يقول : ( لا عليك سلّمت أم لم تسلّم فانّك مقتول . . ) ، إنّ بضاعة هذا الطاغية هي القتل والدمار ، وهي محالاً تخيف الاَحرار أمثال مسلم ممن صنعوا تأريخ هذه الاَمة ، وأقاموا كيانها الحضاري والفكري وجرت بين مسلم ، وبين ابن مرجانة كثير من المحاورات أثبت فيها مسلم صلابته وقوّة عزيمته ، وعدم انهياره أمام الطاغية ، وأثبت بشجاعته أنّه من أفذاذ التأريخ إلى الرفيق الاَعلى :
العباس بن علي
_ 86 _
والتفت العتُلّ الزنيم ابن مرجانة إلى بكير بن حمران الذي ضربه مسلم فقال له : خذ مسلماً ، واصعد به إلى أعلى القصر ، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك ، واستقبل مسلم الموت بثغر باسم ، فقد بقي رابط الجأش ، قويّ العزيمة ، مطمئنّ النفس ، فصعد به إلى أعلى القصر ، وهو يسبّح الله ، ويقدّسه ، ويدعو على السفكة المجرمين وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائين فضرب عنقه ، ورمى بجسده ورأسه إلى الاَرض ، وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي استشهد دفاعاً عن حقوق المظلومين ، والمضطهدين ، ودفاعاً عن كرامة الاِنسان ، وقضاياه المصيرية ، وهو أوّل شهيد من الاَسره النبوية يقتل علناً أمام المسلمين ، ولم يهبوا لاِنقاذه والدفاع عنه .
إعدام هانئ :
وأمر سليل الغدر والخيانة بعد قتل مسلم ، بإعدام الزعيم الكبير ، والعضو البارز في الثورة هانىَ بن عروة ، فأخرج من السجن ، وهو يصيح أمام أسرته التي هي كالحشرات قائلاً : ( وامذحجاه . . ) ، ( واعشيرتاه . . ) ، ولو كان عند أسرته صبابة من الغيرة والحمية لهبّت لاِنقاذ زعيمها العظيم الذي كان لها كالاَب ، والذي قدّم لها جميع الخدمات ، ولكنها كبقيّة قبائل الكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً ، ولا عهد لها بالشرف والكرامة ، وجيء بهانيء إلى ساحة يباع فيها الاَغنام ، فنفّذ الجلاّدون فيه حكم الاِعدام ، فهوى إلى الاَرض يتخبّط بدم الشهادة . . لقد استشهد هانىَ دون مبادئه وعقيدته ، وقد انطوت بشهادته أروع صفحة من صفحات البطولة والجهاد في الاِسلام .
العباس بن علي
_ 87 _
السحل في الشوارع :
وقام عملاء ابن زياد وعبيدة من الانتهازيين والغوغاء فسحلوا جثّة مسلم وهانىَ في الشوارع والاَزقّة ، وذلك لاِخافة العامة وشيوع الاِرهاب بين الناس ، والاستهانة بشيعة مسلم وأنصاره ، وقد انتهت بذلك الثورة العملاقة التي كانت تهدف إلى إشاعة العدل والاَمن والرخاء بين الناس ، وقد خلد الكوفيون بعد فشل الثورة إلى الذلّ والعبودية وأمعن الطاغية في ظلمهم فأعلن الاَحكام العرفية في بلادهم ، وأخذ يقتل على الظنّة والتهمة ، ويأخذ البريء بالمذنب ، كما فعل أبوه زياد من قبل ، وقد ساقهم كالاَغنام لاَفظع جريمة عرفها التأريخ البشري وهي حربهم لحفيد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) .
إلى أرض الشهادة
وغادر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) مكّة ، ولم يمكث فيها ، فقد علم أن الطاغية يزيد قد دسّ عصابة من الاِرهابيين لاغتياله ، وان كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فخاف أن يراق دمه في البيت الحرام ، وفي الشهر الحرام ، وبالاِضافة إلى ذلك فان سفيره مسلم بن عقيل قد كتب إليه يحثّه على القدوم إلى الكوفة ، وان أهلها يترقّبون قدومه ، ويفدونه بأرواحهم ودمائهم ، ويقدمون له الدعم الكامل لتشكيل حكومة علوية في بلادهم .
وواصل الاِمام سيرته الخالدة ، وقد طافت به هواجس مريرة ، فقد أيقن أنّه سيلاقي مصرعه ، ومصارع أهل بيته على أيدي هؤلاء الذين كاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، وقد تشرّف بمقابلته في الطريق الشاعر الكبير الفرزدق همام بن غالب ، فسلّم عليه وحيّاه ، وقال له :
العباس بن علي
_ 88 _
بأبي أنت وأمّي يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أعجلك عن الحجّ ؟ ) ، فأحاطه الاِمام علماً بما عزمت عليه السلطة من اغتياله قائلاً : ( لو لم أعجل لاَخذت . . ) ، وسارع الاِمام قائلاً :( من أين أقبلت ؟ . . ) ( من الكوفة . . ) ، ( بيّن لي خبر الناس . . ) كشف الفرزدق للاِمام بوعي وصدق الحالة الراهنة في الكوفة ، وانّها لا تبشّر بخير ، ولا تدعو إلى التفاؤل قائلاً : ( على الخبير سقطت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء . . . وربّنا كل يوم هو في شأن . . ) ، واستصوب الاِمام حديث الفرزدق ، وأخبره عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانه ماضٍ قدماً في جهاده ، وذبّه عن حرمة الاِسلام ، فان نال ما يرومه فذاك ، وإلاّ فالشهادة في سبيل الله قائلاً له : ( صدقت لله الاَمر من قبل ، ومن بعد ، يفعل الله ما يشاء ، وكل يوم ربّنا في شأن ، ان نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر وان حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ من كان الحقّ نيّته ، والتقوى سريرته ) وأنشأ الاِمام هذه الاَبيات :
فـدار ثـواب الله أعـلى iiوأنـبل لـئن كـانت الـدنيا تـعدّ نفيسة فقتل امرىء بالسيف في الله أفضل وان كـانت الاَبدان للموت iiأنشئت فقلة سعي المرء في الرزق iiأجمل وان كـانت الاَرزاق شـيئاً iiمقدراً فـما بـال متروك به المرء iiيبخل وان كـانت الاَموال للترك جمعها |
العباس بن علي
_ 89 _
ودلّ هذا الشعر على زهده في الدنيا ، ورغبته الملحّة في لقاء الله تعالى ، وانّه مصمّم كأشدّ ما يكون التصميم على الجهاد ، والشهادة في سبيل الله ، إنّ التقاء الاِمام مع الفرزدق كشف عن خنوع الناس ، وعدم اندفاعهم لنصرة الحق فالفرزدق الذي كان يملك وعياً اجتماعياً ، ووعياً ثقافياً متميزاً رأى ريحانه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو ماضٍ في طريقه إلى الشهادة قد تضافرت قوى الباطل على حربه فلم يندفع إلى نصرته ، والالتحاق بموكبه ، وأختار الحياة على الشهادة ، فاذا كان هذا حال الفرزدق فكيف بغيره من جهّال الناس وسوادهم .
وصول النبأ بمقتل مسلم :
وسارت قافلة أبي الاَحرار تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى ( زرود ) وإذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة ، فلمّا رأى الامام الحسين ( عليه السلام ) عدل عن الطريق وقد وقف الامام يريد مسألته فلمّا رآه قد مال عنه واصل سيره ، وكان مع الاِمام عبد الله بن سليمان ، والمنذر بن المشمعل الاَسديان فسارعا نحو الرجل حينما عرفا رغبة الاِمام في سؤاله ، فأدركاه ، وسألاه عن خبر الكوفة فقال لهما : إنّه لم يخرج حتى قتل مسلم بن عقيل وهانىَ بن عروة ، ورآهما يجرّان بأرجلهما في الاَسواق ، فودّعاه وأقبلا مسرعين حتى التحقا بالاِمام ، فلما نزل الثعلبية قالا له : ( رحمك الله ان عندنا اخباراً ان شئت حدّثناك به علانية ، وان شئت سرّاً ) ، ونظر الاِمام إلى أصحابه الممجّدين فقال : ( ما دون هؤلاء سرّ ) ، ( أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء أمس ؟ . . ) ( نعم وأردت مسألته . . . ) ، ( والله استبرأنا لك خبره ، وهو أمرؤ منّا ذو رأي ، وصدق ، وعقل ، وانه حدّثنا انّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم ، وهانىَ ورآهما يجرّان في الاَسواق بأرجلهما . . ) .
العباس بن علي
_ 90 _
وتصدّعت قلوب العلويين وشيعتهم من هذا النبأ المفجع ، وانفجروا بالبكاء واللوعة ، حتى ارتجّ الموضع بالبكاء ، وسالت الدموع كالسيل ، وشاركنهم السيّدات من أهل البيت بالبكاء ، وقد استبان لهم غدر أهل الكوفة ونكثهم لبيعة الاِمام ، وانّهم سيلاقون المصير الذي لا قاه مسلم ، والتفت إلى بني عقيل فقال لهم : ( ما ترون فقد قتل مسلم ؟ . . ) ، ووثبت الفتية كالاَسود ، وهي تعلن استهانتها بالموت ، وسخريتها من الحياة ، مصمّمة على المنهج الذي سار عليه مسلم قائلين : ( لا والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم . . ) ، راح أبو الاَحرار يقول بمقالتهم : ( لا خير في العيش بعد هؤلاء . . ) ، وقال متمثلاً :
إذا مـا نـوى حـقاً وجـاهد مسلما سأمضي وما بالموت عار على الفتى كـفى بـك عـاراً أن تذل وترغما فـان مُتّ لم أندم وإن عشت لم iiألم |
لقد مضيت ـ يا أبا الاَحرار ـ قدماً إلى الموت ، بعزم وتصميم ، وأنت مرفوع الرأس ، ناصع الجبين في سبيل كرامتك ، ولم تخضع ، ولم تلن لاَولئك الاَقزام الذين غرقوا في الرذائل والموبقات ، النبأ المفجع بشهادة عبدالله : وسار موكب الاِمام لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى زبالة ، فوافاه النبأ الفظيع بشهادة عبد الله بن يقطر الذي أوفده للقيا مسلم بن عقيل ، فقد ألقت الشرطة القبض عليه ، وبعثته مخفوراً إلى ابن مرجانة ، فلمّا مثل عنده صاح به الخبيث الدنس : ( اصعد المنبر ، والعن الكذّاب ـ يعني الامام الحسين ـ ابن الكذّاب ، حتى أرى رأيي فيك . . ) .
العباس بن علي
_ 91 _
وظنّ ابن مرجانة انّه على غرار شرطته ، ومن سنخ جلاّديه الذين باعوا ضمائرهم عليه ، وما درى أنّه من أفذاذ الاَحرار الذين تربّوا في مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وسجّلوا الفخر والشرف لهذه الاَمة ، وأعتلى البطل العظيم أعواد المنبر ، ورفع صوته صوت الحقّ الهادر قائلاً : ( أيّها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة ، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ . . ) ، واسترسل في خطابه الثوري ، وقد دعا فيه إلى نصرة ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والذبّ عنه ، ومناهضة الحكم الاَموي الذي عمد إلى إذلال الاِنسان المسلم ، وسلب حريته وإرادته ، وانتفخت أوداج ابن مرجانة وورم أنفه ، فأمر بإلقاء هذا العملاق من أعلى القصر ، فأخذته الشرطة ، ورمته من أعلى القصر فتكسّرت عظامه ، وبقي به رمق من الحياة ، فأسرع إليه الخبيث عبد الملك اللخمي فذبحه ليتقرّب إلى سيّده ابن مرجانة ، ولمّا علم أبو الاَحرار بمصرع عبد الله شقّ عليه ذلك ، ويئس من الحياة ، وعلم أنّه يسير نحو الموت ، وأمر بجمع أصحابه ، والذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق ، ليعلمهم بما آل إليه أمره من تخاذل الناس عنه ، وانصرافهم إلى بني أميّة قائلاً : ( أمّا بعد : فقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام . . ) ، وتفرّق ذوو الاَطماع الذين اتبعوه من أجل الغنيمة ، والظفر ببعض مناصب الدولة وخلص إليه الصفوة الكريمة من أصحابه الممجدين الذي اتبعوه على بصيرة من أمرهم وليست عندهم أية أطماع ، لقد صارح الاِمام أصحابه بالواقع في تلك المرحلة الحاسمة ، فأعلمهم أنّه ماضٍ إلى الشهادة لا إلى الملك والسلطان ، وان من يلتحق به سيفوز برضا الله ، ولو كان الامام من عشّاق السلطة لما أدلى بذلك ، وكتم الاَمر لاَنّه في أمسّ الحاجة إلى الناصر والمحامي عنه ، لقد كان الاِمام ( عليه السلام ) ينصح أصحابه وأهل بيته بالتخلي عنه في كل موقف والسبب في ذلك أن يكونوا على بصيرة من أمرهم ، ولا يدّعي أحد منهم أنّه كان على غير علم بالاَمر .
العباس بن علي
_ 92 _
الالتقاء بالحرّ :
وسار موكب الاِمام يطوي البيداء حتى انتهى إلى ( شراف ) وفيها عين ماء فأمر الاِمام فتيانه بالاستقاء والاكثار منها ، ففعلوا ذلك ، وسارت القافلة ، فأنبرى بعض أصحاب الاِمام بالتكبير ، فاستغرب الامام منه ، وقال له : ( لمَ كبّرت ؟ . . . ) ( رأيت النخل . . . ) ، وأنكر عليه رجل من أصحاب الاِمام ممن عرف الطريق ، فقال له : ( ليس ها هنا نخل ، ولكنها اسنّة الرماح ، وآذان الخيل ) . . . وتأمّلها الاِمام ، فطفق يقول : وأنا أرى ذلك ـ أي أسنّة الرماح وآذان الخيل ـ وعرف الاِمام أنّها طلائع الجيش الاَموي جاءت لحربه فقال لاَصحابه : ( أما لنا من ملجأ نلجأ إليه ، فنجعله وراء ظهورنا ، ونستقبل القوم من وجه واحد . . ) ، وكان بعض أصحابه عارفاً بسنن الطريق فقال له :
( بلى هذا ذو حُسم
(1) إلى جنبك ، تميل إليه عن يسارك ، فان سبقت إليه فهو كما تريد . . ) ، ومال موكب الاِمام إليه ، فلم يبعد كثيراً حتى أدركه جيش مكثف بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، قد عهد إليه ابن مرجانة أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الاِمام ، وإلقاء القبض عليه ، وكان عدد ذلك الجيش فيما يقول المؤرّخون زهاء ألف فارس ، ووقفوا قبال الاِمام في وقت الظهر ، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة الظمأ ، فرقّ عليهم الاِمام ، فأمر أصحابه أن يسقوهم الماء ، ويرشفوا خيولهم ، وسارع أصحابه فسقوا الجيش المعادي لهم عن آخره ، ثم انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملاَون القصاص والطساس فإذا عبّ الفرس فيها ثلاثاً ، أو أربعاً ، أو خمساً ، عزلت ، وسقى الآخر حتى سقوها عن آخرها .
---------------------------
(1) ذو حسم: ـ بضم الحاء وفتح السين ـ جبل هناك .
العباس بن علي
_ 93 _
لقد تكرّم الاِمام ( عليه السلام ) على أُولئك الوحوش الانذال الذين جاءوا لحربه فأنقذهم من الظمأ القاتل ، ولم تهزّهم هذه الاَريحية وهذا النبل ، فقابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عنه ، وعن أطفاله حتى تفتّت قلوبهم من الظمأ .
خطاب الاِمام في الجيش :
وخطب الاِمام ( عليه السلام ) خطاباً بليغاً في قطعات ذلك الجيش ، فأوضح لهم أنّه لم يأتهم محارباً ، وانّما جاءهم محرراً ومنقذاً لهم من جور الاَمويين وظلمهم ، وقد توافدت عليه وفودهم وكتبهم تحثّه بالقدوم لمصرهم ليقيم دولة القرآن والاِسلام ، وهذه فقرات من خطابه الشريف : ( أيّها الناس ، انّها معذرة إلى الله ( عزّ وجلّ ) ، وإليكم ، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت بها عليَّ رسلكم ان أقدم علينا فانّه ليس لنا إمام ، ولعل الله أن يجمعنا بك على الهدى ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم ، وان كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم . . ) ، وأحجموا عن الجواب لاَن أكثرهم ممن كاتبوه وبايعوه على يد سفيره العظيم مسلم بن عقيل ، وحضر وقت صلاة الظهر فأمر الاِمام مؤذّنه الحجاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم للصلاة ، وبعد فراغه منها التفت الامام إلى الحرّ فقال له : ( أتريد أن تصلّي بأصحابك ؟ . . ) ، ( بلى نصلّي بصلاتك . . ) ، وائتمّ الجيش بريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى اخبيتهم ، ولما حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالامام في الصلاة وبعد الانتهاء منها خطب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) خطاباً رائعاً ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه :
العباس بن علي
_ 94 _
( أيّها الناس : إنّكم إن تتّقوا الله ، وتعرفوا الحق لاَهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الاَمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أنتم كرهتمونا ، وجهلتم حقّنا ، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم . . . ) ،
لقد دعاهم إلى تقوى الله ، ومعرفة أهل الحقّ ، ودعاة العدل فان في ذلك رضاً لله ونجاة لاَنفسهم ، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيت ( عليهم السلام ) روّاد الشرف والفضيلة ، ودعاة العدل الاجتماعي في الاِسلام ، وهم أولى وأحقّ بولاية أمور المسلمين من بني أميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله ، وإذا لم يستجيبوا لذلك ، وتبدّلت نيّاتهم فانّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه ، وأنبرى إليه الحرّ ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الاِمام فقال له : ( ما هذه الكتب التي تذكرها ؟ . . ) ، فأمر الاِمام عقبة بن سمعان بإحضارها فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين يدي الحرّ ، فبهر منها ، وجعل يتأمّل فيها ، وقال للاِمام : ( لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك . . . ) ،
ورام الاِمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه فمنعه الحرّ ، وقال له : ( أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد . . ) ، ولذعت الامام هذه الكلمات القاسية ، فثار في وجه الحرّ ، وصاح به ( الموت أدنى إليك من ذلك . . ) ، وأمر الاِمام أصحابه بالركوب فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجه إلى يثرب فحال الحرّ بينهم وبين ذلك ، فصاح به الحسين : ( ثكلتك أمّك ما تريد منّا ؟ . . ) ، وأطرق الحرّ برأسه إلى الاَرض ، وتأمّل ، ثم رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب : ( ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه . . ) ، وسكن غضب الامام ، وأعاد عليه القول :
العباس بن علي
_ 95 _
( ما تريد منّا . . ؟ ) ( أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد . . ) ، ( والله لا أتبعك . .) ، ( إذن والله لا أدعك . .) ، وكاد الوضع أن ينفجر باندلاع الحرب إلاّ أن الحر ثاب إلى رشده ، فقال للاِمام : ( إنّي لم أُؤمر بقتالك ، وانّما أُمرت أن لا افارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يردّك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد ، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك ) ، وأتفقا على هذا الاَمر فتياسر الاِمام عن طريق العذيب والقادسية ، وأخذت قافلة الاِمام تطوي البيداء ، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الامام عن كثب ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة .
خطاب الإمام :
وانتهى موكب الاِمام إلى ( البيضة ) فألقى الاِمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته ، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات : ( أيّها الناس : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ) . . ( إلاّ أن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ ممن غيّر ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم انّكم لا تسلموني ، ولا تخذلوني ، فان أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم .
العباس بن علي
_ 96 _
وأنا الحسين بن علي ، وأبن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، ولكن فيَّ أسوة ، وإن لم تفعلوا ، ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي ، وابن عمّي مسلم فالمغرور من اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم . . ) ، وأعلن أبو الاَحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على حكومة يزيد ، وانّها لم تكن من أجل المطامع والاَغراض الشخصية الخاصة ، وانّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأيّ حال من الاَحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله ، وينكث عهده ، ويخالف سنّة رسوله ، وإن من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فانّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره ، كما ندّد ( عليه السلام ) بالاَمويين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا حدود الله ، والاِمام ( عليه السلام ) أحقّ وأولى من غيره بتغيير الاَوضاع الراهنة وإعادة الحياة الاِسلامية المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين ، وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم ، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم ، وقد وضع الاِمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف ، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون ، ولما أنهى الاِمام خطابه قام إليه الحرّ فقال له : ( أنّي أذكرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ . . . ) ، وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً : ( أبالموت تخوّفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وما أدري ما أقول لك ، ولكنّي أقول : كما قال أخو الاَوس لأبن عمّه ، وهو يريد نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أين تذهب ، فانّك مقتول ، فقال له :
إذا مـا نـوى خـيراً وجاهد iiمسلماً سأمضي وما بالموت عار على الفتى وخـالف مـثبوراً وفـارق iiمجرما ووآس الـرجال الـصالحين iiبنفسه كـفى بـك ذلاً أن تـعيش iiوترغما فـان عشت لم أندم وان متّ لم iiأُلم |
العباس بن علي
_ 97 _
ولما سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه ، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لاِنقاذ المسلمين من ويلات الاَمويين وجورهم : رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ : وتابعت قافلة الاِمام سيرها في البيداء ، وهي تارة تتيامن ، وأخرى تتياسر وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة ، والركب يمتنع عليهم ، وبينما هم كذلك ، وإذا براكب يجدّ في سيره ، فلبثوا هنيئة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ ، فسلّم الخبيث على الحرّ ، ولم يسلّم على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها : ( أمّا بعد: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن ، ولا على غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام . . ) ، وأعرض ابن مرجانة عما عهد به إلى الحر من إلقاء القبض على الاِمام ، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة ، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الاَحداث ، وانقلاب الاَوضاع إليه ان وصل الاِمام إلى الكوفة ، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أولى بالوصول إلى أهدافه ، وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الاِمام ، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء ، فأمتنع عليه الحرّ لاَنّ نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه ، وكان يسجّل عليه كل بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة ، وأشار زهير بن القين وهو من أعلام أنصار الاِمام ومن خلّص أصحابه عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ ، فامتنع عليه الاِمام ، وقال ما كنت أبدأهم بقتال ، في كربلاء وكان ركب الاِمام في كربلاء فأصرّ عليه الحرّ أن ينزل فيها ، ولم يجد الاِمام بُدّاً من النزول فالتفت إلى أصحابه قائلاً : ( ما اسم هذا المكان ؟ . . ) ، ( كربلاء . . ) ، وفاضت عيناه بالدموع ، وراح يقول : ( اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء . . ) ، وأيقن الاِمام بنزول الرزء القاصم ، فالتفت إلى أصحابه ينعي إليهم نفسه ونفوسهم قائلاً : ( هذا موضع كرب وبلاء ، ها هنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، وسفك دمائنا . . ) ،
وسارع أبوالفضل العباس مع الفتية من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وسائر الاَصحاب الممجدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي ، ومخدرات النبوة ، وقد خيّم عليهنّ الرعب ، وأيقن بمواجهة الاَحداث الرهيبة على صعيد هذه الاَرض .
العباس بن علي
_ 98 _
ورفع الاِمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من عظيم المحن والخطوب قائلاً : ( اللهمّ . . انّا عترة نبيّك محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أخرجنا ، وطردنا ، وأزعجنا عن حرم جدّنا وتعدّت بنو أميّة علينا ، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا ، وانصرنا على القوم الظالمين . . ) ، وأقبل الاِمام على أهل بيته وأصحابه ، فقال لهم : ( الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قلَّ الديّانون . . ) ، يا لها من كلمات ذهبية حكت واقع الناس واتجاهاتهم في جميع مراحل التأريخ فهم عبيد الدنيا ، وعبيد السلطة ، وأما الدين والمثل العليا فلا ظلّ لها في أعماق نفوسهم ، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين ، ولم يثبت عليه إلاّ من امتحن الله قلبه للاِيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل بيت الحسين وأصحابه ، ثم حمد الامام ( عليه السلام ) الله وأثنى عليه ، والتفت إلى أصحابه قائلاً : ( أمّا بعد : فقد نزل بنا ما قد ترون ، وان الدنيا قد تغيّرت ، وتنكّرت ، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الاِناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل(1) ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برما . . ) (2) .
---------------------------
(1) المرعى الوبيل : هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله وسوء عاقبته .
(2) حياة الاِمام الحسين 3 : 98 .
العباس بن علي
_ 99 _
لقد أعلن أبو الاَحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى ، وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وأرادته الصلبة في مقارعة الباطل ، واقامة الحق الذي آمن به في جميع أدوار حياته . . . وقد وجه إليهم هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم ، ويشاركوه في تحمّل المسؤولية ، وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تأريخ البشرية أروع الاَمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة دولة الاِسلام ، وكان أول من تكلّم منهم زهير بن القين وهو من أفذاذ الاَحرار فقال له :
( سمعنا يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الاِقامة فيها . .) ، ومثلت هذه الكلمات شرف الاِنسان الذي لا يضاهيه شرف ، وقد حكى ما في نفوس أصحابه الاَحرار من الولاء لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والتفاني في سبيله ، وأنبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام وهو برير الذي وهب حياته لله ، فقال له : يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، وتقطع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة . . ) ، ولا يوجد في البشرية مثل هذا الاِيمان الخالص ، لقد أيقن أن نصرته لابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الاَعظم يوم يلقى الله ، وأنبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام ، وهو نافع فأعلن نفس المصير الذي اختاره الاَبطال من أصحابه ، فقال : ( أنت تعلم أن جدّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يقدر أن يشرب الناس محبّته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل ، حتى قبضه الله إليه ، وان أباك عليّاً كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على نصره ، وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده .