مـؤمنـــة

  التربية الروحية في فكر امير المؤمنين
  بسم الله الرحمن الرحيم
  قال الله تعالى : " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا " (1).
  مقدمة في بيان علم الأخلاق : لو طالعنا اللغة نجد مفردتين إحداهما الخَلْقُ ( بفتح الخاء ) وهي متعلقة بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر والثانية ( الخُلُق بضمها ) ـ الذي هو محل كلامنا ـ وهو متعلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة ، والخلاق ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخُلقُه .
  وأما علم الأخلاق فهو الفن الباحث عن الملكات الإنسانية المتعلقة بقواه النباتية والحيوانية والإنسانية ، وتمييز الفضائل منها من الرذائل ليستكمل الإنسان بالتحلّي والاتصاف بها سعادته العلمية فيصدر عنه من الأفعال ما يجلب الحمد العام والثناء الجميل من المجتمع الإنساني .
  والإنسان أي إنسان يفطر على قوىً ثلاثة وهي القوى التي تبعث النفس نحو العمل وهي ، الشهوية ، والغضبية ، والنطقية الفكرية فأما الشهوية فهي التي تبعث الإنسان نحو استجلاب المنفعة بالأكل والشرب والنكاح واللبس ونحوها ، وأما الغضبية فهي التي تبعث نحو دفع الضرر والدفاع عن النفس عند مواجهة الخطر بكل أنواعه ، وأما النطقية الفكرية فهي التي تؤلف القضايا والقياسات وتنتهي إلى التصورات والتصديقات التي تنتهي بالتالي إلى الحكم في ما يواجهه الإنسان في عالم حضوره وذهنه .
  فذات الإنسان إذا مركبة من قوىً ثلاثة تسير كلها بنظم خاص ولو اختل هذا النظم بإفراط أو تفريط ، زيادة أو نقيصة خرج المركب عن حده وبطلت الغاية في أصل التركيب ، والغاية هي سعادة الإنسان المندرجة تحت كماله .
  والتقوى هي السلّم التي يقي هذه القوى من الخروج عن حد الاعتدال ولذا نجد الإمام أمير المؤمنين (ع) يجعلها محوراً في كثير من كلماته وعظاته التي وجدت في نهج البلاغة .
  فقال سلام الله عليه ) في بعض كلماته " اعلموا عباد الله أن التقوى دار حصن عزيز والفجور دار حصن ذليل ، لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه ، إلا بالتقوى تقطع قمّة الخطايا ، وباليقين تدرك الغاية القصوى .
  ولكن في البدء لا بد من التعرّف جيداً على حقيقة التقوى كي يتسنى لنا أن تستلهمها أكثر من دروس سيد المتقين (ع) ولابد أن نعرف كيف نربّي نفوسنا عليها كي ترتقي من خسة الحيوانية إلى شرف الإنسانية .
  قال الله تعالى : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ )(2) الذين نعتوا بالتقوى ، والتقوى من الوقاية وهي لغة حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره يقال وقيت الشيء أقيه وقايةً ووقاءً ، والتقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف ، ثم يسمى الخوف تارةً تقوى ، والتقوى حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه ، والمقتضى بمقتضاه وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤلم وذلك بترك المحظور ، ويتمّ ذلك بترك بعض المباحات لما روي " الحلال بيّن والحرام بيّن ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه "
  إذن التقوى بعرف أهل الشرع هو حفظ النفس التي جعلها الله تعالى أمانة عند الإنسان وعدم إلقائها في التهلكة اثر التبعية الشيطانية التي تصبح عند النفس على أثر تغلّب الهوى على القوى .
  والتقوى هي الثمرة المطلوبة ترتباً على العبادات والفرائض ، لذا يقول عز من قائل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(3) وكذلك قوله تعالى ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ )(4) إلى غير ذلك من الآيات .

  التربية الروحية وعلاقة التقوى بذلك .
  التربية :
  هي إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام وهكذا النفس ، يربّيها الإنسان حالاً فحالاً في التقوى الديني حتى تصل إلى الكمال الذي ينبغي لها فيصبح زكياً لقوله تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا )(5) فنفوسنا إذا تحتاج إلى تربية والتربية هي تهذيب النفس شيئاً فشيئاً ومن هذا يتضح لنا أمور .
  1 ـ أن نفوسنا تحتاج إلى تربية .
  2 ـ التربية هي إنشاء الشيء حالاً فحالاً فلا يمكن تحميل النفوس أكثر مما تتحمل ، ولذا قال تعالى( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا )(6) .
  3 ـ لكل نفس قابلية على التعلّم والتربّي وكل أحد منا مفطور على ذلك .
  4 ـ لا نقتصر ونكتفي بقلة أعمالنا لأننا في دورة تربويّة تحتاج إلى معرفة أكثر يوماً فيوم وهذه الدروس جميعاً نستلهمها من مدرسة سيد الأوصياء (ع) حينما نتعرّف على بعض خطبه المتعلقة بالتربية الروحية .

  التقوى في كلام سيد الأوصياء (ع)
  قال (ع) في إحدى خطبه ( أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاذ زاد مبلغ ومعاذ منجح دعا إليها أسمع داعٍ ووعاها خيرُ واعٍ فأسمع داعيها وفاز واعيها .
  لا يزال سيد الأوصياء (ع) يروي نفوسنا ويزوّدها بزاد التقوى ، ويعدّ لها السلاح الكفء لمجابهة العدو ، ويعطينا رقية العلاج من الوقوع في ذل الاستخفاف الشيطاني وذلك بوصية لنا بالتقوى .
  واعتبر (ع) التقوى هو الزاد الذي نعدّه في الدنيا لسفرنا الأخروي ، والمعاذ والملجأ الذي به تتقوى على مشقة هذا السفر ، لأن هذا الزاد هو الزاد الذي يُوصل القاصد إلى مقصده ، ويبلغ به العاقل غايته ، فكل عاقل أن يأخذ لسفره ما يليق به من طول المسافة ، وبعد الطريق حتى يبلغ مقصده على أحسن ما يرام . والذي له لب لا يأخذ في سفره إلا ما يؤدي به إلى نجاحه لأنه يترك متاعاً يجعله متحيراً وسط الطريق لا يستطيع أن يرجع ولا يستطيع أن يكمل مسيره . إذن لابد أن يكون هذا المتاع متصفاً بصفات :
  1 ـ لابد أن يكون الزاد قابلاً للّجوء إليه وحاوياً على طاقة تؤمّن المسافر في طيلة السفر .
  2 ـ لابد أن يكون الزاد كافياً غير منقطعاً لئلا تبطل الغاية من السفر .
  3 ـ لابد أن يكون مطمئناً من كفاية الزاد ومدى إنجاحه ومتيقناً أنه هو الذي يوصله دون غيره ، فهو كالدابة السليمة الصحيحة التي لا تخن به وسط الطريق فيبقى متحيراً لا يدري أين يؤول به المسير .
  وهذا الزاد الحاوي للصفات هي دعوة دعا إليها الله تعالى الذي هو أسمع السامعين وأجابها ولباها من له لبّ .
  ابرز مصداق لمن دعى بدعوة الحق هو الرسول (ص) ، والواعي الذي وعاها هو الوجود المقدس لأمير المؤمنين سلام الله عليه الذي نزل فيه قوله تعالى( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ )(7) لذلك كان لا يأمر بشيء حتى يكون أول عاملٍ به .
  ( فأسمع داعيها وفاز واعيها ) وفي ذلك يقول تعالى : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(8) فدعوة الحق عامة وشاملة وفي معرض الوصول إلى الناس لذلك يقول (ع) فأسمع واعيها أي لم يبق أحد من المكلفين إلا وقد اسمعه تلك الدعوة ومن كلام الإمام (ع) هذا نعرف أمور :
  1 ـ عالمية هذه الدعوة وعدم اختصاصها بفئة دون أخرى ( رحمة للعالمين ) .
  2 ـ إسماع الناس لهذه الدعوة وكونها في متناول الجميع فلا يبق أحد يقول لم أعلم .
  وذلك لوجود وسائل الإعلام والارتباطات الربانيّة وهم أهل بيت الرحمة ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) (9) .
  3 ـ لابد أن تكون هذه الدعوة دائمية لأن الظلم دائمي .
  ولابد أن تكون طويلة الأمد حتى تستغرق جميع الأرض ومن عليها وفي ذلك يقول تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )(10) وقد نص أرباب التفسير أن مشمول الدعوة وانتشارها بهذا النحو لا يكون إلا عند ظهور المهدي ( عج ) فيملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، فلا يبقى بيت إلا ودخله الإسلام إما بذل ذليل أو بعز عزيز كي تستفيد من القرآن الكريم فائدة دائميّة ، ونعرف أنه معجزة خالدة سوف تبقى إلى قيام يوم الساعة لا أنه مجرد كتاب تأريخي يسرد علينا الأحداث التي حصلت في صدر التشريع .
  4 ـ لابد أن يكون المؤدي لهذه الرسالة والسبب الذي يوصلها للناس كفوءاً حاوياً لجميع الفضائل التي كانت للرسول (ص) وهذه الشخصية تنحصر بالوجود المقدس لسيد الأوصياء (ع) وأولاده المعصومين لما في غيرهم هفوات كثيرة شهد لها العدو والصديق .
  ( ففاز واعيها ) والفوز والفلاح والنجاح لمن لبى هذه الدعوة( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ )(11) ولم يصبه شك أو تعتريه شبهه وبقي متمسكا بها حتى يرحل إلى ربه ، فالمعيار في السماع هو الاستجابة وإلا فما قيمة سامع غير مستجيب ، وليس هو إلا كما يقول الشاعر :
قد اسمعت لو ناديت حياً          ولكن لا حياة لمن iiتنادي
  فكم هم الذين لهم آذان لا يسمعون بها والذين لهم أبصار لا يبصرون بها ، لأن العمى حسب تعبير القرآن الكريم ليس عمى العين فحسب بل تعمى القلوب التي في الصدور . فالفوز إذن لمن سمع واستجاب لذلك يقول تعالى ( فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )(12) ، والفوز والسعادة هذه هي المستقر الأخير لمن خشي الله تعالى في السر والعلانية وخاف الله كأنه يراه وفيه يقول تعالى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(13) وقوله سبحانه ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ )(14) .
  وقوله (ع) فأسمع واعيها يدل على أن الدعوة إلى التقوى مدعومة ومؤيدة بحجة معذّرية على العباد لأن الله تعالى يقول : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ )(15) ولذا جعل الله تعالى الدعوة في معرض الوصول إلى المكلفين فما لم يصل إلى المكلف فهو معذور عن أدائه ولو حجب الله تعالى وصول الأوامر لقبح أن يحاسب المطلق على عدم الأداء ، والقبح لا يصدر من ساحته المقدسة لأنه ظلم وقد كتب على نفسه الرحمة .

  ما هو أثر التقوى في سلوك الفرد
  قوله (ع) عباد الله أن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه وألزمت قلوبهم التقوى هي السلم الذي يصل الإنسان من خلاله إلى مدارج الكمال ويرتقي بها إلى المقامات السامية لذلك يقول الإمام الخميني في بيان التقوى العامة : اعلم أيها العزيز أنه مثلما يكون لهذا الجسد صحة ومرض وعلاج ومعالجاً فإن للنفس الإنسانية أيضا صحة ومرضاً وسقماً وسلامة ، وعلاجاً ومعالجاً .
  إن صحة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق الإنسانية ، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانية ، وان الأمراض النفسية أشد فتكاً بآلاف المرات من الأمراض الجسمية ، وذلك لأن هذه الأمراض إنما تصل إلى غايتها بحلول الموت ، فما أن يحل الموت وتفارق الروح البدن حتى تزول جميع الأمراض الجسمية والاختلالات المادية ، ولا يبقى اثر للآلام أو الأسقام في البدن ، ولكنه إذا كان ذا أمراض روحية وأسقام نفسيّة ، لا سمح الله ، فإنه ما أن تفارق الروح البدن وتتوجه إلى ملكوتها الخاص حتى تطّهر آلامها وإسقامها .

  انتهى كلام الإمام
  فالذنب هو الداء الذي يؤدي إلى موت الروح كما يؤدي المرض إلى موت الجسد ولو كان البدن يرتاح بالموت من الإسقام والآلام فلا ترتاح الروح بعد الموت بل تجد أثره حياً وتجده محضراً أمامها ، وآلام الروح أما أن تكون ملازمة للروح لا تنفك عنها وأما أن تكون قابلة للزوال كما يقول الإمام ( قدس سره ) فكلما ازداد تعلق الروح بالذنب كلما صعب التخلص منها ، والأفضل أن تتخلص الروح منها قبل الوقوع فيها لأن الوقاية خير من العلاج وهذه هي الشفاعة القيادية .
  والكتب التي تقود الإنسان نحو الخير والصلاح وتحذره أن يقع في المهالك وهي التي يقول فيها سيد المتقين ( فإن القرآن لكم شافع مشفّع ) فالأنبياء بمنزلة الأطباء المخلصين الذي ليس لهم همّ الأرفع الضرر عن المريض مع غضّ النظر عن مصالحهم وإيصال الأذى إليهم ، ومع بذل كل ما يملكون من جهد في سبيل تربية الفرد نظريّاً وعمليّاً .
  والتقوى بتعبير سيد الأوصياء حمية الأولياء فحميتهم من الوقوع في المهالك ، والأمراض الروحية تغلب على النفس مع عدم الحمية .
  يقول الإمام الخميني ( قدس سره ) قد يغلب الدواء والطبيعة على المرض في الأمراض الجسمية حتى مع عدم الحمية جزئيا ، وذلك لأن الطبيعة هي نفسها حافظة للصحة دواء لها ولكن الأمر في الأمراض النفسية صعب ، وذلك لأن الطبيعة قد تغلبت على النفس منذ البداية ، فتوجهت هذه نحو الفساد والانتكاس ( إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ )(16) وعليه فإن من يتهاون في الحمية تصرعه الأمراض وتجد مناطق للنفوذ إليه حتى تقضي على صحته قضاءً مبرماً .
  فيتحصّل من كلام سيد الأوصياء عليه السلام ما يلي :
  1 ـ أن النفس محتاجة إلى تغذية كالبدن فلابد أن نبادرها بالغذاء الصالح لقوله (ع) ( نفسك التي بين جنبيك أن لم تشغلها شغلتك ) .
  2 ـ أن النفس معرضة للمرض كالبدن المعرّض للأسقام .
  3 ـ إن سقم البدن آنيٌ لكن سقم الروح ذو أثر دائمي فالمرض الجسدي ينتهي بإنهاء الحياة لكن المرض الروحي يتجدد مصابهُ بعد الموت وسيحضر أثره .
  4 ـ أن المؤمن حريصاً على روحه فلا يعرّضها للوقوع في التهلكة كما أن العاقل لا يقدم على أسباب تؤذي بدنه وفي ذلك يقول الإمام الحسن المجتبى عليه السلام عجبت لمن يتفكر في مأكوله كيف لا يتفكر في معقوله فيجنب بطنه ما يؤذيه ويودع صدره ما يرديه (17) .
  5 ـ إن الحمية التي هي التقوى رقية ووصفة كتبها الله تعالى لمن يحب فهو خير طبيب والمحتمي بها خير واع وسامع ، وبلّغها الناس أناس عملوا بها ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (18) فلا تأخذ هذه الوصفة من غير أهلها ، ممن لا معرفة له بأصولها وطرقها فلا نحصل على الغاية منها .
  والأثر المترتب على استعمال المؤمن هذه الحمية هو مخافة الله عز وجل في كل حال وعلى أي حال لذلك كان من الدعاء المأثور لدى رسول الله (ص) ( اللهم اجعلني أخشاك كأننّي أراك ) ومن ذلك نعرف أهمية الخوف من الله تعالى في حياة المؤمن .

  الخوف والرجاء
  قال الراغب في مفرداته ، الخوف ، توقع مكروه عن إمارة مظنونة أو معلومة كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن إمارة مظنونة أو معلومة ، ويضاد الخوف الأمن ، ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية قال تعالى : ( وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ) (19) .
  والخوف حالة واصلة لدى النفس أثر ما تراه أو تحس به أنه سيوصل إليها خطراً مّا وهو من فعاليات القوة الخيالية التي وجدت في كل إنسان وقد تغلب هذه القوة على القوة العاقلة فيخاف الإنسان مما لا يخاف منه عادة ، أو يخاف من الظلمة مع أنها لا تغير من المكان شيئا .
  والخوف حالة سريعة الزوال تفارق النفس بمجرد زوال السبب ، هذا في الخوف المادي وهو استشعار الرعب مما يخطر ببال الإنسان من الخطر كالخوف من الأسد ونحوه ، وأما الخوف من الله تعالى فلا يراد .
  منه استشعار حالة الرعب التي سرعان ما تفارق النفس بمجرد رفع ما تخيله الإنسان وخطر بباله ، بل هو الكف عن ما حرّم الله تعالى والتورّع في الوقوع فيه ، واختيار الطاعات على المعاصي ، فالذي لا يترك المعاصي لا يعد خائفاً ، والتخويف هو الحثّ على ترك المعاصي والتحرز منها قبال الترغيب وهو الحث على فعل الطاعة لما فيها من أثر أخروي وسعادة أبدية تزيّن الطاعة في نفس الإنسان وتبعثه نحو فعلها .
  لذلك نرى القرآن الكريم يخوف تارة فيقول ( ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ )(20) ويرغّب أخرى فيقول ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )(21) ولن تشاهد آية فيها تخويفاً وتحذيراً وإنذارا ببيان العقوبات التي تحل بالعاصي إلا وتجد بعدها ترغيباً بذكر النعم الأخروية وما أعده الله تعالى للطائعين في اليوم الآخر من أجر وثواب وروح وريحان كي يطيّب به قلوب الذين آمنوا ويخرجهم من حالة الغم إلى حالة السرور .
  وجاء في وصية لقمان لابنه كما روي عن الإمام الصادق (ع) حينما سأله أحد أصحابه حيث يقول : قلت له : ما كان وصية لقمان ؟ قال ( عليه السلام ) :
  " كان فيها الأعاجيب وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه : خف الله عز وجل خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذّبك ، وارج الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك "
  ثم قال أبو عبد الله (ع) كان أبي يقول : إنه ليس من عبدٍ مؤمن إلا وفي قلبه نوران نور خيفة ونور رجاء لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد عن هذا (22).
  وحد الاعتدال بين الخوف والرجاء لابد أن لا يخرج الإنسان من حسن الظن بالله تعالى في خوفه حتى يعد من القانطين من رحمته ، ولا أن يفرط في رجاءه حتى يعد من الآمنين من عذابه فيتكل على نفسه في الأمور ولابد أن يوازن بين خوفه ورجائه فلا يرجح احدهما على الآخر .
  وقد عدّ العرفاء للخوف والرجاء درجات حسب مراتب العباد وأحوالهم فيقول الإمام الخميني ( قدس سره ) : فخوف العامة من العذاب وخوف الخاصة يكون من العتاب ، وخوف أخص الخاصة يكون من الاحتجاب (23) .
  وقد ورد في باب التعادل بين الخوف والرجاء عن الإمام الصادق (ع) قال : ( المؤمن بين مخافتين ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه وعمر قد بقى لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك فهو لا يصبح إلا خائفاً ولا يصلحه إلا الخوف )(24) ولكن هل أن احدهما يغلب على الآخر يوماً ما ، وهذه من المسائل التي تعرض لها العرفاء في كلماتهم فذهب البعض إلى أن الإنسان مادام حياً يتردد بين الخوف والرجاء فتكن هذه الحالة باعثة نحو العمل الصالح وترك المعاصي أما بعد خروجه من الدنيا فيرجح الرجاء على الخوف فيكون العبد راغباً في رحمة الله تعالى وفضله أكثر وفضل الله عز وجل غير منقطع بل هو دائمي باق ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ )(25) فيغلب اذاً الرجاء على الخوف ، يقول الإمام ( قدس سره ) : أن ما قيل من غلبة الخوف والرجاء في عالم الآخرة لا يتلائم مع ما ذكر من معنى الرجاء ، وعلى فرض صحة الكلام المذكور فهو صحيح بالنسبة إلى المتوسطين حيث يكون خوفهم ورجاؤهم عائدين إلى الثواب والعقاب .
  وأما حال الخواص والأولياء فيختلف الأمر عما ذكروا لأن الخوف والرجاء الناجمين عن مشاهدة عظمة وجلال وتجلّي أسماء اللطف والجمال والحاصلان في القلب لا يزولان بمشاهدة أمور الآخرة ، ولا يترجّح احدهما على الآخر بل أن آثار الجلال والعظمة وتجليّات الجمال واللطف في عالم الآخرة أكثر فيصبح الخوف الحاصل من عظمة الحق من اللذائذ الروحانية ولا يتنافى هذا مع الآية الكريمة ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )(26) كما يتبين بالتمعّن في الآية المباركة .
  في قوله (ع) ( حتى أسهرت لياليهم وأظمأت هواجرهم ) بمعنى أنهم قائمين الليل أسهرهم حب الله تعالى عن الهجوع ، ولذلك يقول (ع) في مناجاته :
الهي حليف الحب الليل الساهر          يـنـاجي ويـدعـو والـمغفّل iiيـهجع
  ومنه قول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه ليلاً ( وخلا كل حبيب بحبيبه وأنت المحبوب إليّ . . . ) .
  وجاء في الكافي بإسناده عن معاوية بن عمار قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : كان في وصية النبي (ص) لعلي (ع) قوله : يا علي أوصيك في نفسك بخصال فأحفظها ثم قال : " اللهم أعنه . . . إلى أن قال : وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل " .(27)
  وفي الخصال بإسناده عن أبي عبد الله (ع) قال :
  " قال النبي (ص) لجبرائيل عظني فقال يا محمد (ص) عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزّه كفّه عن إعراض الناس " (28) .
  ومن هذين الحديثين يعرف أهمية القيام بالليل ومحبوبيته لله تعالى ، أوصى به جبرائيل الأمين أحب المرسلين (ص) ولا يعطي الحبيب لمحبوبه إلا ما يجده أجمل ما يكون وأفضل ما يعطى ويهدى .
  وروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال :
  " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما اتخذ الله إبراهيم خليلاً إلا لإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام "(29) .
  ويدل هذا الحديث على أن صلاة الليل كانت محبوبة لدى الأنبياء قبل الإسلام ولكن لا يعلم ما هو النحو الذي كانوا يصلون عليه ويتهجّدون ليلاً لله تعالى .
  يقول الإمام الخميني ( قدس سره ) أننا لا نعلم شيئاً من عظمة رادء الخلة وما يعني مقام اتخاذ الله تعالى حبيباً وخليلاً ، فكل العقول تعجز عن تصور ذلك فلو أنهم أكرموا الخليل بكل ما في الجنة من نعم فإنه لا يلتفت إليها ( مادام مع خليله ) وأنت أيضاً إذا كان لك محبوب عزيز أو كان لك صديق حميم ودخل عليك فإنك تترك كل نعمة وتستغني عن ذلك بجمال المحبوب ولقاء الصديق بالرغم من أن هذا المثل بعد عن المقام بعد المشرقين .
  وقد بشّر الله تعالى القائمين بالليل بأجر وثواب أخفي لهم فلا يعلمه أحد ولذلك يقول الإمام الصادق (ع) :
  " ما من عمله يعمله العبد إلا وله ثواب في القرآن إلا صلاة الليل فإن الله لم يبين ثوابها لعظيم خطرها عنده " فقال :
  " تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "(30) .
  والآية المباركة تبشّر القائمين بالليل بمقام عظيم لا يعلمه أحد وحتى أنه لم يذكر القرآن كحال غيره من الأعمال الصالحة التي جعل الله تعالى جزاءها الجنات التي تجري من تحتها الأنهار والحور التي لم بطمثها أنس قبلهم ولا جان والفرش المرفوعة وغير ذلك من النعيم لكن درجة القائمين ليلاً أعظم من ذلك بحيث جعل الله تعالى ثوابهم سراً وبينه وبينهم وأخفاه عن كل أحد فطوبى لمن وفّق لصلاة الليل وكان من أهلها ، وصارت الصلاة هذه سلّماً يعرج به إلى معارج الكمال .

  الهوامش
(1)الشمس : 7 ـ 10.
(2) البقرة : 1 .
(3) البقرة : 183.
(4) العنكبوت: 45
(5) الشمس : 9.
(6) البقرة : 286.
(7) الحاقة : 12.
(8) الأحزاب : 39.
(9) التوبة : 115.
(10) التوبة : 33.
(11) الزمر : 18.
(12) البقرة : 186.
(13) الحجرات : 13.
(14)الطلاق : 3.
(15) التوبة : 115.
(16) يوسف : 53 .
(17) سفينة البحار 2 : 84.
(18) الأنعام : 90.
(19) الإسراء : 57 انظر المفردات ص 303 ( خوف ).
(20) الزمر : 16.
(21) کل عمران : 133.
(22) أصول الكافي ج 2 ص 67 ح الأول.
(23) الأربعون حديث ص 216.
(24) الكافي : 2 كتاب الأعيان والكفر ج 12 ص 71.
(25) الرحمن: 27.
(26) يونس : 62
(27) الوسائل ج5 الباب 39.
(28) الوسائل ج5 الباب 39.
(29) الوسائل ج5 الباب 39 .
(30) السجدة : 17