(راوي ثقة)
جارية بن قدامة السعديّ البصريّ
 



عطاءٌ ووفاءٌ

  من يتصفّح سِيرة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في كتب التّأريخ والسّير، يلاحظُ وجودَ مجموعةٍ من أعاظم الرّجال الذين أحاطوا به، وقد فَرَضُوا أنفسهم بقوّةٍ على ساحة الأحداث والمتغيّرات السياسيّة، فذَكَرهم بعض المؤرّخين مُجبرين، وتعمد تهميشهم آخرون.
  ومن أُولئك الأعاظم: شخصيّةٌ بصريّةٌ استطاعت أن تُكوّن لها هالة خاصة بها، و (كاريزما) قويّة، صَنَعتها المواقف، وصقلَت مواهبها التّجارب، فأبصرت الحق والحقيقة، وسارت في طريق النور والهداية، طريقِ إمامها علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فسطّرت أجمل معاني النُبل، وأصدق حالات الوفاء لأئمتها، وأرهبَت عدوّ الله وعدوّها بالحق، وشيّدت أعلى صُروح النجاح في مسيرتها بالصبر، صحابيٌّ جليلٌ امتلك شخصية فذّة نادرة في زمن تشحُّ فيه أمثالُها، ويُرتجى وجودها، وهي شخصية : جارية بن قدامة السّعديّ، بن زهير، بن الحصين، بن رزاح، بن أسعد، بن بُجير، بن ربيعة، بن كعب، بن سعد، بن زيد مناة، بن تميم، الذي لازم أميرَ المؤمنين (عليه السلام) كظلِّهِ، في حربه وسِلمه، وارتشف حبَّهُ من ينبوع العشق المحمدي، فهو صاحب السّرايا والألوية والماء في صفّين، وهو الخطيب المُفوّه، والثّابت القدم في ساعات الفتن، المُخلِص لإمامه الذي أعدَّه لكل أمر عظيم.
  عدَّه الشيخ الطوسي من أصحابِ النبيِّ ‘البدريّين، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن أنصاره الأبرار الشجعان، وذكره (ابن سعد) فيمن نزل البصرة من الصحابة، وله دار بالبصرة في (سكّة البحاريّة)، وهو عمُّ (الأحنف بن قيس)، وقيل : ابن عمِّه.
  نال وسام الشرف بانتسابه إلى (شَرَطَةِ الخميسِ)، التي لا يَنظم إليها إلّا نخبة القوم؛ لشرفها، وعظيمِ منزلتها عند الله ورسوله ووصيّه، كما جاء في الأحاديث الشريفة؛ فعن الإمام عليّ (عليه السلام) لعبد الله بن يحيى الحضرميّ يوم الجمل : أبشر يا ابن يحيى، فإنّك وأباك من شَرَطَةِ الخميسِ حقّا ، فقد أخبرني رسول الله ‘باسمك واسم أبيك في شَرَطَةِ الخميس، والله سمَّاكُم في السَّماء شَرَطَةَ الخميس على لسان نبيِّه ‘. ونُقل عن البرقي قوله في عمّار بن ياسر : أنَّهُ من شَرَطَةِ الخميس، وأنَّهم من أهل الجنّة.
  عُدَّ (جارية بن قدامة السعدي) من الرواة الثقات، وكان ممّا رواه قصة ردِّ الشمس للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، إذ روى أنه لمّا عبر أمير المؤمنين (عليه السلام) الفرات ببابل، صلّى بنفسه في طائفة معه العصر، ثُمّ لم يَفرغ الناس من عبورهِم حتى غرُبت الشمس، وفاتَهم صلاة العصر، فتكلموا في ذلك، فسأل الله تعالى ردَّ الشَّمس عليه، فردها عليه، فكانت في الأفق، فلما سلَّم القوم، غابت، فسُمِعَ لها وجيبٌ شديدٌ هالَ النَّاس، وأكثروا التهليل والتسبيح والتكبير.
  وقد أرّخَ (جارية بن قدامة السّعديّ) (رضوان الله عليه) تلك القِصّة بأبيات من الشعر، قائلا فيها :
ردَّ الوصيُّ لنا الشمسَ التي غَرُبَتْ      حتى قضينا صلاة العصر في iiمَهلِ
لـم  أنْـسَهُ حـين يدعوها iiفتتْبَعُهُ      طـوعاً  بـتلبيةٍ هاها على iiعجلِ
فـتـلك  آيـتُـهُ فـينا iiوحُـجَّتُهُ      فـهل لهُ في جميعِ الناسِ من iiمَثلِ
أقـسمتُ  لا أبـتغي يوماً بهِ iiبدلاً      وهـل يـكون لـنورِ اللهِ من iiبَدَلِ
حـسبي أبـو حسنٍ مولىً أدينُ بهِ      ومَـن  بهِ دانَ رُسْلُ اللهِ في الأولِ
  كان (رضوان الله عليه) من خُلَّص أصحابِ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد أبلى معه بلاء حسنا في حرب الجمل وصفّين والنهروان، ولم ينحصر دوره (رضوان الله عليه) في مشاركاته في الحروب التي خاضها مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل إنَّ لهذا الصّحابي المِعطاء والبطل المجرّب في الحروب أدواراً ومواقفَ أسهم من خلالها في الحفاظ على الدّين وديمومته، فصارَ الإمامُ (عليه السلام) يُوكِلُ إليه أموراً كانت قد استعصت على غيره ، إذ لا يأتي بنتائجها الجيّدة إلّا هو ، فقد بعَثهُ ـ مثلا ـ إلى الخوارجِ ليقضي على تحرّكاتهم بعد وقعة النهروان، وأرسلَه ليطفئ فِتنة (ابن الحضرمي) بعدما استعرت نارُها في البصرة، فحاصره وأصحابه حتى قتلهم حرقاً بالنار، فأصبح يُطلقُ عليه منذ تلك الحادثة : (المُحرِّق).
  وبعث به إلى اليمن للقضاء على تمرّد (بسر بن أرطأة) وفتنته، فهرب منه، فتبعه (جارية السعدي) حتى أخرجه من أعمال الإمام عليّ (عليه السلام) كلّها.
  وفي أيّام خِلافة الإمام علي (عليه السلام) وحكومتِه، كانت لجارية بن قدامة مواقف مشرّفةٌ، حتى مدحَهُ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأَثنا عليه في أكثر من موقف، ومنها : حين نَدبَ (عليه السلام) الناس للخروج إلى (بسر بن أرطأة) ووأدِ فتنته، فتثاقل الناس عن ذلك، وقام (جارية بن قدامة)، فقال : أنا أكفيكهم يا أمير المؤمنين، فقال (عليه السلام) : أنت ـ لعمري ـ لميمونُ النقيبةِ، حسنُ النيَّةِ، صالحُ العشيرة.
  صَدرت منه (رضوان الله عليه) أجمل وأصدق المواقف، ومنها : الثباتُ على ولايةِ الإمام عليٍّ (عليه السلام) وطاعته حتى بعد استشهاده (عليه السلام) ، فقد روى المؤرّخون موقفَهُ الجريء وعقيدتَهُ الصلدة وإيمانهُ الراسخ وما دار من حديثٍ بينه وبين (معاوية بن أبي سفيان) ، إذ وفد (جاريةُ بن قدامة) على (معاوية)، فقال له (معاوية) : أنت السّاعي مع عليِّ بن أبي طالب، والمُوقِدُ النار في شعلك، تجوس قرىً عربيَّةً تسفك دماءَهم ؟
  قال (جارية) : يا (معاوية)، دَعْ عنك عليَّا ، فما أبغضنا عليَّاً منذ أحببناه، ولا غَششناه منذ صحبناه.
  قال : ويحك يا (جارية)، ما كان أهونك على أهلك إذ سمُّوك (جارية) !؟
  قال : ما كان أهونك على أهلك إذ سَمُّوك (معاوية) ! وهي الأنثى من الكلاب.
  قال : لا أم لك !
  قال : أُمِّي ولدتني للسّيوف التي لقيناك بها في أيدينا.
  قال : إنّك لتهددني ؟
  قال : إنَّك لم تفتحنا قسرا، ولم تملكنا عنوةً، ولكنَّك أعطيتنا عهوداً ومواثيق، فإن وفَيتَ لنا، وفَينا لك، وإن فزعتَ إلى غير ذلك، فإنَّا تركنا وراءنا رجالاً شِداداً، وألسنةً حِداداً، فإن بسطتَ إلينا فتراً من غدر، دلفنا إليك بباعٍ من ختر.
  قال له (معاوية) : لا كثَّرَ اللهُ في النّاس أمثالك !
  قال (جارية) : قُلْ معروفاً وراعنا، فإنَّ شرَّ الدُّعاء المحتطب.
  ومن جواب (جارية بن قدامة) الجريء، وكلماته القوية بوجه (معاوية بن أبي سفيان)، نكون قد تعرّفنا على ذلك الجبلِ الأشمّ، وعرفنا مكانة أمير المؤمنين (عليه السلام) عنده، وقد ظهر أنموذجاً للصّحابي الحقّ، بما تحلّى به من صِفات نبيلة، وقيم أخلاقيّة راقية كرقيّ صحبتهِ إمامهِ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد ذَكَر المؤرّخون : أنَّ وفاتهُ (رضوان الله عليه) كانت في حدود عام خمسين للهجرة، فرحمَ اللهُ ذاكَ الشّيخِ المجاهدِ، والورعِ الزّاهد، الذي عَرف الحقَ فاتّبعه، وثبتت به قدمُه، ولم تزلقه في أتون الاشتباه والفتن.