(عالم اللغة)
الخليل بن احمد الفراهيدي عالم اللغة وصاحب كتاب العين

  الحديث عن العالم الجليل ، الخليل بن احمد الفراهيدى يثير فى النفس مشاعر العبقرية الفريدة من نوعها فقد كان الخليل يقف عند ظواهر الاشياء وقفة المتعمق ويغوص فى مكامنها غوص الواعى الحريص على استنباط كنهها واستخلاص النتائج مما غمض على عامة الدارسين من اسرارها فيبرزها فى صورة جلية واضحة سرعان ما تغدو قواعد يحتذيها كل سائر على درب الفكر والعقل . كانت عقلية الخليل بن احمد من ذات النوع الدؤوب الذي تشغله القضايا حتى تملك عليه كيانه فيظل يصارعها وتصارعه حتى يجليها الجلاء الحسن ويطرحها للناس الطرح المفيد فيفيدون منها ويحتلبون مزايدها ويطورون فيها ان استطاعوا الى ذلك سبيلا ولقد شغل الخليل نفسه بعلوم اللغة العربية وتراكبيها واوزانها واستنبط لنفسه وسائله و ادواته الخاصة شأن كل صانع ماهر وعالم حصيف يعكف على تطوير ادوات العمل التي بين يديه حتى تستجيب لتطلعاته العلمية المتشوقة الى الاستنباط والوصول الى النتائج الافضل للبحث الطويل المتعمق .
  ولعل الدارسين يعرفون من اعمال الخليل عملين اشتهر بهما أيما شهرة وذاع ميته فى الأفاق تأسيسا على قدرته الابداعية الفذة التي بدت معالمها فى العملين كليهما اكثر من اعماله الاخرى التي لاتقل اهمية ولكن طالت يد الحدثان منها الكثير .
  وكم كان يتبرم الخليل ويضيق صدرا بعجز الناس عن فهم ما يريد وعن ادراك ما يضع من اصول وقواعد ، ولما كان يبلغ به اليأس مبلغه كان يلجأ الى صرف الناس عما يشغله من هموم العلم وابحاثه نظرا لما لمسه فى هؤلاء الناس المحيطين من قصور لا رجاء فيه وتقاعس لايشفى غلته الظامئة الى مواصلة البحث والتطلع الى بناء اركان علوم ثابتة الد عائم تعزز وجود اللغة العربية وتبقيها صحيحة وسالمة وطيعة الحرف لمن اراد قرض الشعر المنظوم او نطق الكلام المنثور نطقا صحيحا مستقيما يؤدى المعنى المراد فى سلاسة ويسر .
  حدث ذات مرة ان شعر الناس من حول الخليل بصعوبة ما يضع من قواعد واوزان فقصده رجل ينوى الاقامة معه فى داره يتعلم عنه علم العروض لعله باقامته وملازمته للخليل ينجح فى فهم ذلك العلم الذي ابتكره الخليل لضبط اوزان الشعر العربي .
  ولما اقام الرجل ردحا من الزمن ملازما استاذه دون ان يبلغ مراده ، شعر الخليل بعجز الرجل عن ادراك مكامن ذلك العلم الوليد فأراد الخليل بأدب العالم ان يصرف تلميذه صرفا حميدا عن دراسة ما تورط فى دراسته دون رغبة صادقة فى الوقوف على اسراره ، فأعجزه عدم الرغبة عن تحصيل ما رافق استاذه من اجله ، فأتى له الخليل ببيت من الشعر على انه مثال على احدى قواعد العروض لكن البيت كان فى الحقيقة يتضمن نصيحة الى التلميذ غير المتحمس ان ينصرف عن دراسة علم العروض الى شي آخر اكثر نفعا له او يكون الرجل اكثر قدرة على الاستيعاب .
  فقال له الخليل :
قطع هذا البيت تقطيعا عروضيا
اذا لم تستطع شينا خدعه
وجاوزه الى ما تستطيع

  ولعلنا نحاول ان نستوضح فى عجالة ملامح العملين اللذين اشتهر بهما الخليل وهما « علم العروض » الذي عنى بضبط اوزان الشعر العربي ، و " كتاب العين " الذي وضعا الخليل قاموسا لغويا صوتيا يستند الى مخارج الاصوات فى وضعه وهى خاصية ميزت " قاموس العين " عن غيره من مختلف القواميس والمعاجم .

اولا علم العروض
  الشعر فن جميل يمتلك قدرات خاصة فى تحريك الوجدان واستمالة القلوب الى الغرض الشعري الذي يخوض فيه ، ومرد ذلك الى خاصية الموسيقى اللفظية التي تتولد عن تواتر النغمات وتتابع المقاطع فى جرس موسيقى شيق تتفتح له نفس المتلقى وتقلقاه المسامع فى انسيابية تميزه عن النثر الذي لايتمتن بتلك الخاصية الموسيقية التي ينفرد بها الشعر . ولقد كان الشعراء فيما قبل عصر الخليل يمتلكون ناصية اللغة امتلاكا فطريا اعانهم على التعبير عن دخائل انفسهم فى قالب شعري رصين ، وفى سليقة مطبوعة على النظم الصحيح من حيث ضبط الاوزان ونظم القصائد .
  إلا ان مرور الايام وتغاير الازمان ، وتفاوت النبوغ الفنى لدى الشعراء المتأخرين اقعد عديدا من الشعراء عن الالتزام بضوابط القرض الشعرى مما ادى الى الاخلال بأوزان الشعر نتيجة ضعف ا لملكات الشعرية وهو الامر الذي ازعج الخليل بصفته محا لما من علماء العربية المرهفي الحس ، فكان ان تفاعلت حساسيته الشديدة مع غيرته على اللغة العربية وتوقد عبقريته الاصلاحية التواقة الى الخلق والابداع ونهض ليضع امر الوزن الشعري فى نصابه ويوفر له اسانيد الاستقامة والانضباط النغمى فشرع فى تأسيس علم جديد على اللغة العربية بل ربما جديد على كل العلوم قاطبة فى مجاله وهو علم " العروض " الذي يضع القواعد الحاكمة لميزان الشعر وموسيقاه ويقوم ما اعوج من اوزان ونغمات ، وقد اعتمد فى وضع هذا العلم على مصطلحات لغوية كان العرب يستخدمونها فى حياتهم اليومية كما استمد من اسماء بعض الادوات المألوفة وبخاصة تلك الادوات التي كانت تشد بها الخيمة كالأوتاد والحبال والاسباب وغيرها ليكون قريبا من اذهان المتلقين فيتقبلون العلم الجديد بقبول حسن ويفيدون منه خير افادة وحتى يقبل عليا اولئك الذين نسجوا اشعارهم على اوزان وقوالب لم يعرفها العرب، وبذلك يحتفظ الشعر العربي بخصوصياته الفريدة .
  وتذكر كتب تاريخ الادب فى مناسبة اقدام الخليل على وضع علم العروض انه لما ازعجه خروج الشعراء عن المألوف من الاوزان طاف بالكعبة ودعا الله ان يلهمه كلما لم يسبقه اليه احد من السابقين ، ثم اعتزل الناس واغلق عليه بابه ، واخذ يقضى الساعات الطوال يجمع اشعار العرب ويرنها على انغامها ويجانس بينها حتى حصر كل الاوزان الشعرية المألوفة وضبطها وحداد قوافيها فيما عرف بـ "عروض الشعر" .
  وبعد رحيل الخليل صار علم العروض مادة يتدارسها طلاب العربية حتى يومنا هذا دون اضافات تذكر اللهم إلا بعض الشروح والتفاسير والاوزان التي ظن اللاحقون ان الخليل قد اغفلها بالرغم من انها لم ترتق الى مصاف البحور الاصلية التي وضعها الخليل رغم احتفاظها بميزة الاجتهاد والابتكار .
  وما يزال علماء اللغة والادب فى جلهم ينكرون الخروج على اوزان الخليل ويعتبرون الشعر الذي يتحرر من الوزن والقافية خارجا عن اطار الشعر ويلحقونه بالنثر نظرا لخلوه من اهم ما يميز الشعر عن النثر وهو ا لموسيقى النابهة عن الاوزان التي عرفت بـ " بحور الشعر " تلك التي وضعها الخليل بن احمد الفراهيدى .
  وقد دعا احد الباحثين المعاصرين فى " موسيقى الشعر " الى مزيد من المحاولات لاكتشاف اخيله شعرية واستعارات وتشبيهات ومجازات ، وان يؤلفوا من ذلك علما وفنا لجمهور المتلقين مع الوضع فى الاعتبار القيمة الاسمي لموسيقى الشعر، واكد الباحث على ان الشعر يفقد قيمته اذا خلا من موسيقاه التي تنفعل لها النفرس وتتأثر بها القلوب "موسيقى الشعر ـ د. "إبراهيم انيس" ومما يجدر ذكره ان بعض علماء اللغة لجأ الى استخدام عروض الشعر كوسيلة لتسهيل حفظ قواعد اللغة العربية والدين والقراءات فعمدوا ال نظم تلك القواعد على اوزان خليلية وبذلك افادت علوما أخرى غير الشعر من علم العروض الذي وضعه الخليل فى الاصل ليكون اداة للحفاظ على موسيقى الشعر العربي وصيانة اوزانه .
  ومن أشهر ما ورد من نظم فى ذلك المجال الفية ابن مالك الشهيرة فى قواعد اللغة العربية التي تبدأ بقوله :
كـلامنا  لفظ مفيد كاستقم
واسم وفعل نم حرف الكلم
  وعلى نفس المنوال نسج واضعو احكام القراءات القرآنية ليسهلوا على الطلاب حفظ تلك الاحكام اذ ان الوزن الموسيقى للقواعد يعين على استظهارها كما هو معروف وبخاصة منها ما كان صعب الاستظهار لتداخل القوانين وتشابك الاحكام ، وقد تناقل الناس قصة طريفة عن طلاب الازهر الذين لجأرا الى نظم كل دروسهم نظما عروضيا حتى مادة اللغة الانجليزية وضعوها فى قالب شعري كي يسهل عليهم حفظها ولم يكونوا يقبلون عليها لحداثة اقرارها كمادة من مواد الدراسة فى الازهر واخذ بعضهم يردد :
الـقط  "كات" والفأر ii"رات"
والنهر بدعى عندهم "ريفر"
  وينهض علم العروض على بحور الشعر التي وضعها الخليل وعددها خمسة عشر بحرا يتكون كل بحر منها من " تفعيلات " هي بدورها اشتقاقات من الوزن الصرفى المعروف فى النحو والمكون من الغاء والعين واللام " فعل " .
  والتفعيلة فى العروض هي مقطع صوتي يشبه المقطع الموسيقى فى عدم ارتباط نهايته بنهاية الكلمة ، فاذا انتهى المقطع الموسيقى قبل ان تنتهي الكلمة فصلت حروف الكلمة عند انتهاء المقطع الموسيقى واذا تطابقت نهاية المقطع الموسيقى مع نهاية الكلمة فلا حاجة اذن الى تفتيت حروف الكلمة اما اذا تجاوزت المقطع الموسيقى الكلمة الى التي تليها لحقت بعض حروف الكلمة الثانية بالكلمة التي تسبقها لتكوين المقطع الموسيقى المتكامل الذي تحدده حروف "التفعيلة" ويقتضى تركيب التفعيلة ايضا فك التضعيف فى الكلمة الى حرفين وفك المد الى همزتين وتجاهل حروف العلة الممدودة التي يليها حرف ساكن واستبدال التنوين بحرف النون وغير ذلك من الضرورات التي يقتضيها ضبط الوزن الشعري القائم على التفاعيل وهو ما يتضح فى التقطيع العروضي للبيت التالي :
سلوا قلبي غداة سلا وتابا
لعل  على الجمال له iiعنابا
  وقد جرى تقطيعه عروضيا على النحو التالي :
سلوا قلبي غداة سلا وتابا
لعلل علل جمال لهو iiعتابا
  هنا نلاحظ توافقا بين كلمات الشطر الاول والمقاطع الموسيقية للتفعيلة ومن ثم لم يكن هناك داع لتجزئة الكلمات او لحاق بعض منها بالبعض الأخر .
  اما فى الشطر الثاني فقد استلزم الامر فك التضعيف فى " لعل " فصارت لعلل اي صارت اربعة احرف الاول متحرك والثاني متحرك والثالث ساكن والرابع متحرك ، كما تطلب الامر ايضا حذف حرف العلة من " علي " والحاق اداة التعريف في الكلمة التي تليه به بعد حذف الفها لانه ساكن بعد ساكن فصارت الكلمة الجديدة " علل " وكونت مع الكلمة السابقة عليها مقطعا صوتيا يقابله فى البحر تفعيلة " مفاعلتن " وهى مقطع موسيقى متكامل فيكون وزنها هكذا " ل ع ل ل ع ل ل = م في ا ع ل ت ن " .
  وعلى ذلك يكون تقطيع البيت كاملا على النحو الذي اشرنا اليه ويقابله التفاعيل التالية :
مفاعلتن مفاعلتن فعولن
مفاعلتن مفاعلتن فعولن
  وهذا الوزن العروضي يقتضى شكلا من اشكال الكتابة واعادة ترتيب الحروف فيما يسمى بـ " الكتابة العروضية " وقد اشرنا الى بعض مقتضياتها من خلال تقطيع البيت السابق .
  وينقل احد الباحثين فى علم العروض عن علما ؟ رسم الحروف فى العربية قولهم : خطان لا يقاس عليهما : خط المصحف العثماني لانه يرتبط بالقراءات القرآنية و خط الكتابة عند العروضيين اذا ارادوا تقطيع بيت من الشعر، لان الكتابة العروضية تقتضي ان كل ما ينطق به يرسم ، سواء أوافق ذلك القواعد الهجائية ام لا ، وكل ما تنطق به لا يرسم وان اقتضت قواعد الهجاء كتابته .
( فى علمي العروض والقافية د. امين علي السيد ) .
وقد لاحظنا تلك القاعدة مطبقة فى تقطيع البيت السابق كما نلاحظ زيادة حرف واو فى "لهو" واصلها فى البيت أدله " وهو ما يسمى بـ " الاشباع " اي زيادة حرف علة للضمير ومثله " بهي " اي " به " وهكذا .
  وهكذا اقتضى وضع اصول علم العروض الكثير من الاجتهاد فى التخريج والضبط والتوصيف لكل حالة من حالات الاعراب والرسم والاشتقاق فى اللغة وهنا عمل الخليل واضع هذا العلم الى استخدام الكثير من المصطلحات التي تحدد كل حالة وكل خروج على المألوف فى الاوزان او تباين فى التفعيلات .
 ونظرا لان الخليل شبه بيت الشعر "بكسر الشين " ببيت الشعر " بفتح الشين " اي الخيمة فقد استخدم اسماء الادوات التي تشد بها الخيمة فى تثبيت اركان العروض الشعري فهناك الاسباب اي الحبال والاوتاد التي تشد اليها الحبال ولكل منها ايضا اقسام وانواع استخدمت فى تبرير الخروج على القاعدة العروضية التي وضعها مما لايتسع له المقام هنا ، فقط نذكر بعض تلك المصطلحات وهى على سبيل المثال : القصر ـ القطع ـ القطف ـ القضب ـ البتر ـ الخبن - القبض ـ الشكل ـ العطب ـ الكف ـ الحذف .. . الخ
  ولكل مصطلح من المصطلحات السابقة مدلول وتفسير وتعريف ودور يقوم به فى علم العروض .
  تقوم البحور عند الخليل على خمسة عشر وزنا تسمى "بحرا" وهى :
  الوافر ـ الهزج ـ المتقارب ـ الكامل ـ الوجز ـ السريع ـ الرمل ـ الطويل ـ البسيط ـ الخفيف ـ المجتث ـ المنسرح ـ المديد ـ المضارع ـ المقتضب .
  وقد ظلت بحور واوزان الخليل مثار بحث ودراسة من بعده ، وقد زاد عليه الاخفش بحرا اسماه : " المتدارك " كما ظهر لعروض الخليل الكثير من التفاسير والشروح والاجتهادات جريا على عادة الكتاب والباحثين فى الادب الحربي قديما وحديثا وقد دأبت على ان تجعل من علم العروض علما ميسورا للدارسين والراغبين فى قرض الشعر ونظمه نظما سهلا وعذبا محببا ومنضبطا فى آن واحد ومن ثم تبرز مقدرة الشاعر وتمكنه من ملكاته من ، خلال الجمع بين ضبط اوزان الشعر وتضمين القصيدة المعانى والاخيلة والصور التي تتناسب والغرض الشعري المراد .
  وقد ظلت اوزان الخليل أحد اهم المقاييس لبيان حسن الشعر من رديئة من حيث الموسيقى والتنغيم ، كما تحفل المكتبة العربية بالعديد والعديد من المؤلفات المتعلقة بذلك العلم القديم الجديد " علم العروض " الذي يعود الفضل فى وضع اسسه واركانه للعالم العماني الخليل بن احمد الفراهيدى الذي اعجزت عبقريته من عاهره ومن جاء بعده على السواء حيث لم يجاريه فى علمه احد خلال عمره المديد الذي دام خمسا وسبعين سنة يضع القواعد والقوانين ويبتكر العلوم النافعة ويفسر ما غمض منها ويأتي بما لم يسبقه اليه سابق كما كان فطنا ذكيا لماحا زاهدا فى الدنيا وبهرجها متسما بتواضع العلماء وبلاغتهم وقد أثر عنه البيت التالي :
اعمل  بعلمي ولا ننظر الى iiعملي
ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
  وهو القائل : تربع الجهل بين الحياء والكبر فى العلم وقال ايضا زلة العالم مضروب بها الطبل .
  وغير ذلك من الامثال والحكم المأثورة التي تدل على علم واسع وادب وفير وتواضع جم حتى قال عنه ابن المقنع حين لقيه رأيت رجلا عقله اكثر من علمه .
  فهل يلقى الخليل وعلومه القيمة مزيدا من البحث والتأصيل والتنقيب عما ضاع من علوم اختص بوضعها الخليل عن غيره وبعد عنها تلاميذه حتى لم يبق منها شىء ؟ واذا كان عملان فقط مما وضع الخليل قد اجتذبا كل هذا الاهتمام من العلماء والباحثين وهما "العروض والقافية " وكتاب "العين" فماذا لو طالت الايدي كل او جل ما صنعت يداه وعبقريته ؟ اننا جد مطالبين بملاحقة الماضي واسترداد بعض اعمال الخليل ونفض ما تراكم عليها من سحائب النسيان .

ثانيا الخليل ومعجم العين
  لست اجد اي غضاضة او مبالغة فى وصف معاصري الخليل بن احمد الفراهيدى الازدي له بأنه رجل خلقه من الذهب والعنبر كذلك وصف سفيان بن عيينه الخليل فهما مادتان نفسيتان فى حياة البشر لا يضارع نفاستهما هادة أخرى ومن ثم اكتسبا هذه القيمة فى اعراف الناس وتقديراتهم .
  اما وصف المعاصرين بأنه كان يمثل بأعماله "نهضة" متكاملة الاركان فهو ايضا وصف لا مبالغة فيه ـ فى رأيي ـ اذ انه نهض بانجاز اعمال علمية وتأليف كتب انهضت العقل العربي ونقلته من مستوى معين فى صياغة فكره الى مستوى آخر ، وقد طالعنا فى صدر هذا المقال كيف انه بذل جهدا محمودا ليحفظ لـ " موسيقى " الشعراء اركانها ويضبط معالم الطريق لمن اراد ان يلج هذا المضمار الذي يعد ميدانا يتفرد فيه العرب بميزات شعرية خاصة بهم .
  اما في الجانب اللغوى من تراث الخليل الخالد فهو الجانب اللغوى واقصد به على وجه التحديد " كتاب العين " .
  وجرى بنا ان نبذل الجهد لنقف على مزيد من جوانب شخصية الرجل الذي التف حوله التلاميذ المخلصون ينهلون من علمه ويسعون الى مواصلة الابداع الفكري الذي بدأه ويحفظون مسيرة الفكر العربي ناصعة متألقة فقد اصبح تلاميذه من بعده علماء مخلصين ظهرت عليهم معالم النبوغ فتوسدوا أعلى المراكز العلمية ثم التف من حولهم تلاميذ لهم يأخذون عنه ويطورون ما اخذوا وينشرون نتاج فبكرهم فى مختلف الاعصار العربية والاسلامية المعنية عناية قصوى بالكتب وحصائد الفكر النابه حتى جاء يوم يوزن فيه الكتاب بالذهب .
  ولما كان تلاميذ الخليل قد بهروا بعلمه وفطنته لذا صار منهجه فى البحث نبراسا لهم وسنة يقتدون بها ، وكشأن كل العظماء عبر التاريخ ظلت شخصية الخليل ، كما ظلت اعماله ـ وبخاصة كتاب العين ـ مثار جدل طويل ما بين اتفاق تارة واختلاف تارات .
  فهناك من شككك في نسبة كتاب العين الى الخليل وراح ينسبه الى مؤلف اخر وذلك على الرغم من وجود الشواهد التاريخية الثابتة على الاجماع على ان العالم الفذ الخليل بن احمد الفراهيدي وهو صاحب مؤلفاته وواضعها دون ادنى شك او مراء .
  كما لم يسلم كتاب العين ذاته ـ من حيث مادته ـ من بعض الافتراءات حتى فى عباراته فكثرت عليه التصحيفات والحواشي ونال منه توالي الايام والسنين ، وقد اقام الخليل ردحا من الزمن فى مدينة البصرة بالعراق حيث كانت يوما حاضرة للثقافة العربية والادب والفكر مثلما كانت ملتقى طرق برية وبحرية عديدة مما الفه تجار ذلك الزمن الذين كان لعمان منهم الحظ الوافر ولقد جاب الخليل اصقاعا كثيرة من العالم المعروف لديه آنذاك شأن كل الكثير من العمانيين الذين احترفوا الرحلة وعشقوا الإبحار .
  وعلى كتاب العين بنى بعض المؤلفين القداس كتبا بكاملها مثل نص " البارع " لابي على القالي الذي يقول محققه فى صدر تحقيقه ما يثبت تلك المقولة اذ نواه يؤكد قائلا: " ولكننى بعد ان حققت النص اي نص البارع للقالي ـ وقعت على حقيقة طريفة جديرة بالاعلان وهى ان " البارع " ما هو إلا كتاب العين للخليل بن احمد الفراهيدى " الخليل وكتاب العين ـ د. هادى حسن حمودي" ، كما ينقل المصدر ذاته عن أبى بكر بن أريد مؤلف كتاب الجمهرة وهو ايضا تلميذ الخليل بن احمد ـ قوله " ولم اجر فى انشاء هذا الكتاب الى الازراء بعلمائنا ولا الطعن فى اسلافنا ، وأنى يكون ذلك، وانما على مثالهم نحتذي وبسبلهم نقتدي ، وعلى ما أصلوا نبتني وقد الف ابو عبدالرحمن الخليل بن احمد "الفراهيدى " رضوان الله عليه كتاب العين ، فأتعب من تصدى لغايته وعنى من سما الى نهايته ، فالمنصف له بالغلب معترف ، والمعاند متكلف وكل من بعده تبع ، اقر بذلك أم جحد ، " وفى معرض دفاعه عن نسبة كتاب العين الى الخليل بن احمد الفراهيدى يقول د. هادى حسن حمودي ان ابن أريد وهو صاحب ثاني معجم فى العربية بعد كتاب العين ، تاريخيا كان فى وسعه ان ينكر كتاب الخليل ، وان يشن قوارع الكلام ، ليجعل من كتابه هو " الجمهرة " ابتداعا جديدا لم يسبق اليه ولكن ابن دريد كان يتمتع بذلك الخلق العلمي الرصين الذي يعترف بفضل من سبق وينزل الناس منازلهم التي يستحقونها .
 ومثلما اورد الباحث نفسه مقولة ابن دريد راح فى دأب الباحث الحصيف يفند الاقوال ويجمع الحجج الثابتة والشهادات الموثقة من الكتب وعلي لسان العلماء الثقات على ان كتاب العين هو للخليل بن احمد بعينه وانه من صنعه ونتاج فكره إلا ما وقع فيه بعض النساخين والوراقين والشارحين من هفوات اثناء نسخهم للكتاب او تعرضهم له بالشرح والتعليق والتصحيف مما يتسامى عنه عقل الخليل وفطنته بصفته مؤلف الكتاب وواضعه حسب تأكيدات الباحثين الرواة والمستشرقين من امثال " ليتمان " .
  ولما اكثر القارئون للقرآن من الا غلاط واللحن فى القراءات قرر ابو الاسود الدؤلى ان يضع النقاط على الحروف لضبط مخارج الالفاظ ولكن الخليل هو الذي ابتكر الفتحة والضمة والكسرة كعلامات اعرابية وبذلك زال اللبس بين النقاط التي تميز الحروف عن بعضها وبين العلامات الإعرابية التي تختلف فى مهمتها عن النقاط التي على الحروف وانتقلت ابتكارات الخليل النحوية الى مختلف مدارس القرآن واللغة العربية عموما مما ازال الغموض عن اللغة لدى جمهور المتأخرين من العرب ومن دخل فى حوزتهم من المسلمين اذ ان العرب الاقدمين لم يكونوا بحاجة ال نقاط على الحروف او علامات اعرابية لكي يجيدوا النطق بلغتهم التي كانوا يمتلكون ناصيتها امتلاكا ودونما جهد او عناء .
  وهكذا صار الخليل منعطفا هاما وضروريا فى تاريخ النطق باللغة العربية وصار بمثابة نهاية عصر وبداية عصر جديد فى التعامل مع اللغة العربية بشكل سليم من خلال الضوابط التي وضعها بنتاج فكره الوقاد ، ولكن ندرك مدى اهمية ما صنع الخليل علينا ان ننزع العلامات والهمزات عن الحرف ثم نقرأ اللغة العربية ، فهل لنا الى ذلك من إمكانية او سبيل ؟ بل لى ان اقول ان ما نعانيه من عثرات لغوية فى عصرنا هو بسبب تجاهل ضوابط علماء اللغة كالخليل وأبى الاسود وتلاميذهما .
كيف وضع الخليل معجم العين ؟
  قام منهج تأليف " العين " على نظرية صوتية وضعها الخليل وهى الاخذ بالمخرج الصوتى لترتيب الحروف فى المعجم ترتيبا يبدأ من الحروف التي تخرج من الحلق ثم يتقدم شيئا فشيئا حتى ينتهى بالحروف التي تخرج من الشفة ثم بعد ذلك حروف العلة ثم الهمزة .
  وقد جعل الخليل لكل حرف من تلك الحروف كتابا خاصا به وقسم كل كتاب بدوره الى ابواب اسماها :
  باب المضاعف ، باب الثلاثي الصحيح ، باب الثلاثي المعتل ، باب اللفيف ، باب الرباعي، باب الخماسي .
  ثم يأخذ فى كل باب يركب الحرف الذي يبدأ به الباب مع ما يأتي بعده من حروف متناولا كل حرف على حدة وكان اول الكتب هو كتاب " العين " الذي اختير ليكون عنوان المعجم بكامله والذي يبدأ به ترتيب الحروف ترتيبا صوتيا كما يرده الخليل ويأتي على ذلك ترتيب الحروف الهجائية بكاملها على النحو التالي :
  ع ـ ح ـ هـ ـ غ ـ ق ـ ك ـ ج ـ ش ـ ض ـ ص ـ س ـ ز ـ ط ـ د ـ ت ـ ظ ـ ذ ـ ن ـ ر ـ ز ـ ن ـ ب ـ م ـ و ـ أ ـ ى ثم الهمزة .
  وهكذا نلاحظ ان الترتيب الموتى عند الخليل بدأ بحرف العين الذي يخرج من اعماق الحلق ثم انتهى بحرف الميم الذي يخرج من طرف الشفة وبعده حروف العلة الواو والالف والياء ثم الهمزة .
  ثم من هنا يبدأ الترتيب المعتاد للمعاجم الاخرى المعروفة فى العربية لكن على الطريقة الخليلية وحسب ترتيب الحروف وتواليها عند الخليل ، فإذا كانت المعاجم الاخرى تبدأ بحرف الالف ثم الباء وهكذا فإن معجم العين يبدأ بحرف العين ثم الحاه غلى طريق الكشف فى المعاجم التي يدرسها الطلاب فى قاعات الدرس .

رأي
  حين يشذ عقل عن المطروق من اللغة المتداولة فيبدأ فى التعامل مع اللغة على قدر نبوغه وتفرده ، يعجز الناس عن مجاراة ذلك العقل ويتقاصرون عن فهم مراميه ومراداته ، ومن ثم ينفرون من التجاوب معه ، قعودا وتقاهرا ، والتماسا للدعة وأخذا للمياة من مآخذها الهينة البسيطة فلقد شهد التاريخ العربي قديمه وحديثه علماء وادباء فاقوا أترابهم ومعاصريهم فى القدرات العلمية والعقلية فأثاروا حولهم الاقاويل والنقد والانتقاد وقد نال الخليل من ذلك قسطا وافرا على قدر وفرة التميز العقلي التي اتسم بها، واذا كان ذلك شأن الخليل فى مجال اللغة فإن هناك ابا تمام فى الشعر وقصته الشهيرة مع الرجل الذي بادره بقوله : لم لا تقول ما يفهم ؟ فعاجله ابو تمام برد صار مثلا يحتذى حين قال له :
ولم لاتفهم ما يقال ؟
  اذا فالذنب ليس ذنب العقل المبدع ان تقاصر الناس عن فهمه ، وانما من اراد من الناس ان يجهد عقله ويشحذ عزيمته ليجاري العالم فى علمه حتى يرتقى الى مستواه فيأخذ عنه ويواصل المسيرة من بعده وما بغير هذا تبنى الحضارات وتسمو مروح العلم والمعرفة ، وقد شهد تاريخ الادب الحديث أمثلة لذلك تمثلت فى شخصيات اتهمت من جانب الكثيرين بالالغاز والغموض فى التأليف مثل العقاد فإذا ادركنا ان الرجل الذي اعجز الناس عن فهم نتاج عقله لم ينل من التعليم إلا شهادة الابتدائية لادركنا كم من جهد بذل ليقف على ثقافته العربية وثقافات الامم الاخرى دون معلم او مدارس ، فلماذا نستغرب اذن ان يسبق الخليل ابناء عصره ويضع من صفوف العلوم والمؤلفات ما يعجز معاصروه عن فهمه ومن ثم يتقاصرون عن الاستمرار فى رفع راية الابتكارات العلمية واللغوية لتنضج وتستوي على سوقها ، وقد اتضح من رواية الليث ان الخليل وضع كتاب العين وهو على فراش مرض ربما كان الاخير اي انه كان فى اخريات حياته فلم يسعفه العمر لكي يوضح ما غمض ويشرح ما أجمل .
  بل تركت هذه المهمة لمن جاء بعده فأخطأ من أخطأ واصاب من اصاب وحمل الخليل من ذلك كله الأوزار الثقال .