الخيال التأليفي والابتكاري في شعر السياب

الاستاذ خالد صكبان حسن

   المقدمة

   الخيال هو القدرة على بعث الصور بالكلمات والجمل ،والقدرة على خلق هذه الصور .
   ومن خلال هذا التعريف يمكن لنا الربط بينه وبين موضوع الشعر الذي يرتكز حول شعور المرء بنفسه وبما حوله شعوراً يدفعة الى الكشف عن خبايا النفس ؟ أو الكون عن طريق العاطفة في لغه هي الصور .
   وهذا الامر يكشف لنا ان ما يسيطر على عملية الخيال هو التوافق التام بين القلب والعقل ، بين الملاحظة الصادقة والملكة المتخيلة ، بين المحسوس وغير المحسوس .
   والخيال الفني نوعان :

1 ـ الخيال التاليفي :
  وهو الخيال الذي يجمع بين الافكار والصور ترجع الى اصل واحد كانت وهما "او تكلفا" مرذولاً" ، وهذا النوع من الخيال قليل في شعر السياب في مرحلته الاولى ،وكثير في شعر المرحلة الثانية ، اذ نجد في ديوانه " العبد الغريق " مثيلاً واضحاً لهذا النوع من الخيال .
  يقول السياب في قصيدته التي سمى الديوان بأسمها :
خـيـوط الـريـح تـصهل ،والـمرافيء يـلمس iiالـضرب
صـواريـهـا  بـشـمس مــن دم ،ونـوافـذ iiالـحـانه
تــراقــص  مــــن وراء خـصـامـها iiســـرج
وجمع نفسه الشرب بخيط من خيوط الخوف مشدوداً الى قنينة
ويـمد  اذانـه الـى الـمتلاطم الـهدار عـند نـوافذ الحانه
  فاذا تأملنا الخيال التاليفي في " خيوط الريح تصهل "و "ضياء السرج يرقص "و " نفس الشرب المشدود بخيط من خيوط الخوف الى قنينة " نلمح جمال الصورة في هذا النسيج السيابي الرائع .
   وتستمر هذه الصورة بالنحو شيئاً فشيئاً لتكتمل وحدة الموضوع ووحدة المشاعر التي يثيرها وبالتالي تكمل وحدة القصيدة العضوية تلك الوحدة التي تاتي من رتيب الافكار والصور ترتيب تتقدم به القصيدة شيئاً فشيئاً حتى تنتهي الى خاتمة يستلزمها ذلك الترتيب ،مع مراعاةان تكون اجزاء القصيدة كالبنية الحية لكل جزء فيها وظيفة .
   ويغلب الخيال التاليفي في هذه المرحلة من شعر السياب ، حتى على القصائد ذات الطابع الوجداني التي تستلزم بالعادة طغيان العاطفة .
   يقول السياب في قصيدة " ابن الشهيد " :
أرأيــــت أرمــلــة الـشـهـيد ii؟
الـزوج مـد عـليه من ترب لحافا ثم iiنام
مـمـتـدا  بـأشـد مـاتـجد iiالـعـظام
من فسحة سكنت يداه الى الاضالع iiوالعيون
تغـفو  الى أبد الاله الى القيامة في iiالسلام
رمت الرداء العسكري ونشرته على الوصيد
لـثمته ،فانتفض القماش يرد به برد الموت
يـــرد الـظـلـمات مــن iiالـقـبور
يـافكرها  عجبا ... ثقبت بنارك الابد iiالبعيد
   وهنا تبرز امامنا صور جميلة للزوج " الذي مد عليه منه ترب لحافاً ثم نام " و " الرداء الذي لثحته فأنتفض برد الموت " و " فكرها الذي ثقب الابد البعيد " ، وهي صور نتجت عن خيال تأليفي رائع تعاضدت فيه الصور والافكار .

2 ـ الخيال الابتكاري :
  وهو تأليف أختياري لصور معروفة من قبل يؤلف منها مجموعة جديدة غير مألوفة من قبل ، أو هو الذي يبدع فيه الشاعر الاساطير أو الخرافات التي يسوق بها قضاياه .
   وهنا تجدر الاشارة الى ان الخيال الابتكاري ليس عملية مدبرة تدبيراً او منطقياً بحيث تجمع الاوصاف انتظاراً لنتيجتها ، كما هي الحال في الخيال التأليفي ، وانما تخضع هذه الاوصاف لقانون التناسق الذي يحقق اثرها في الوجدان ،وتتداعى عناصرها المخزونة في الذاكرة لتتعاون على اسعاف الاديب بما ينبغي .
   ويقول "ركسن" بهذا الصدد في كتابه ... "الرسامون العائدون" حين يتحدث عن الشاعر والرسام ": ان كلا من الشاعر والرسام يجذب الى ذاكرته كل ما راى وسمع طول حياته ويحفظ بدقة في هذه الذاكرة كما تحفظ الماده في المخازن الكبيرة فالشاعر لا ينسى حتى ابسط النغمات التي يسمعها في أوليات حياته ).
   ومن يتتبع شعر السياب يظهر له ان الخيال الابتكاري هو الطريق المفضل عنده في المرحله الاولى وفي ديوانه " انشودة المطر " بالذات ، أذ يكثر السياب في هذه المرحلة من استعمال الاساطير ليؤدي بها قضاياه الاجتماعية خاصة ، وفي هذا الديوان نجده يكثر من الخيال الابتكاري ، ويمكن ان نجد ضالتنا في القصيدة "؟ العمياء" وهي قصيدة طويلة أستغرقت ثلاثين صفحة ، يقول فيها :
الـلـيل يـطبق مـرة اخـرى فـتشربه ii؟
والـعابرون الـى القرارة مثل اغنية iiحزينة
وتـفتحت  كأزاهر الدفلى مصابيح الطريق ii،
كـعيون  مـيدزا تحـجر كـل قلب iiبالضغينة
وكـأنها  نـذر تـبشر اهـل بابل iiبالحريق
مــــن هــــؤلاء الـعـابـرون ii؟
احـفاد أوديـب الضرير واورثوه iiالمبصرون
جوكسن  ، أرملة كامس ،وباب طيبة iiمايزال
يلقي ابو الهول الرهيب عليه من رعب ظلال
وأمـــوت  يـلـهـث يـــا iiشــوال
بـاقي كما كان الشوال ، ومات معناه iiالقديم
مـن  طـول مـا أهتز الجواب على iiالشفاه
ومــــــــا  الــــجـــواب ii؟
   ان التعبير عن هذه الحالة بواسطة قضية " اوديب " الذي تزوج امه دون ان يدري انه قد ارتكب تلك الجريمة ، والشوال الذي القاه " أبو الهول " عن المخلوق الذي يمشي في اول النهار على أربع وفي وسطه على أثنين وفي أخره على ثلاث ،والتعبير عن هؤلاء الذين يسيرون في الظلمات يبغون الري فلا يجدونه وتشبيهه مجال الفراش الذي يطلب الضوء فيقتله ،هذا التعبير أو هذه الصور كانت موفقة جداً في طرح ما يدور في ذهن الشاعر من أفكار ، وصل هناك أشد شبهاًَ بحال " أوديب " الذي ارتكب الفحشاء مع امه فحملت منه فاحشاً من هؤلاء الذين يزنون بأخواتهم سفاحاً وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ؟ .


BASRAHCITY.NET