الحروب والنكبات في تاريخ البصرة

   المقدمة

  إن الموقع المميز للمدينة جعلها عرضة لتنافس المتنافسين للسيطرة عليها وعلى الطرق التجارية التي تمر منها ، والانطلاق منها للتوسع والهيمنة ، لذا فقد تعرضت إلى كثير من الكوارث والمصائب والتي كان لبعضها تأثير دامي لم يترك أثره في عقود وقرون ، ومع ذلك نراها تستعيد عافيتها ومكانتها من جديد ، وذلك لما تملكه من عوامل القوة والبقاء .
  ولعل أهم الحروب والنكبات التي تعرضت إليها مدينة البصرة ما يلي :

معركة الجمل :
  لقد كانت واقعة الجمل أول الحروب التي دارت قرب مدينة البصرة وتركت جروحاً دامية فيها بقيت آثارها السياسية والنفسية والفكرية قروناً طويلة على المدينة وأهلها ، ومعركة الجمل كانت أول الحروب بين المسلمين أنفسهم ، وقد سميت بالفتنة الكبرى .
  بدأت فصول القصة عندما بدأ بعض الناس بالتمرد على عثمان بن عفان لارتكابه بعض الأخطاء ، فقد وزع حكم الولايات بين فتيان بني أمية والذين لم تكن لهم سابقة في الإسلام بل إن تاريخ بعضهم كان غير مقبول لدى عامة المسلمين ، فأعطى ولاية مصر إلى أخيه في الرضاعة عبد الله بن سرح والذي كان الرسول قد هدر دمه ثم عفا عنه في قصة طويلة كان عثمان طرفاً فيها ، ونفاه عن الحرمين وبقي طريداً أيام أبو بكر وعمر رغم توسلات عثمان بهما ، كما أعطى الشام بكامل أجزائها إلى قريبه معاوية بن أبي سفيان ، وأعطى حكم ولاية الكوفة إلى قريبه ، وكان وزيره ومستشاره مروان بن الحكم الذي لعن رسول الله أباه وذريته وسماهم أبناء النار ، قد جعله وزيره ومستشاره وصاحب سره ، وأغدق المال عليه بشكل يثير التساؤل ، فقد أعطاه هدية زواجه مليون درهم وارض فدك التي انتزعها من ذرية رسول الله ، كما أحاط نفسه بمجموعة من اليهود الذين تظاهروا باعتناق الإسلام ككعب الأحبار وغيره كمستشارين بدل أصحاب رسول الله ، وأكثر ما زاد من نقمة الناس هو ضربه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود حتى الموت لمجرد اعتراضه عليه ، وضربه أبا ذر الغفاري أحد اكبر الصحابة وأصحاب العلم فيهم حتى كاد يموت ثم نفاه إلى الربذة والتي مات فيها وحيداً فريداً ، كل هذا وغيره الكثير الكثير أثار حفيظة الناس عليه ، وطالبوه بالاستقامة ، فوعدهم بذلك بعد مفاوضات ، ولما عاد الثائرون إلى بلادهم اكتشفوا إن عثمان بن عفان قد أرسل إلى ولاته يطالبهم بقتل أولئك الثوار عند عودتهم ، فعادوا أدراجهم وطلبوا منه التنحي عن الخلافة ، فرفض ذلك بعناد ، فحاصروه في بيته ليستجيب لهم وحدث أثناء الحصار إن أحد حراسه رمى أحد الثوار بسهم فقتله ، فثارت ثائرتهم وطلبوا منه أن يسلمهم القاتل ليقيموا حد الله عليه فرفض وحيث إن أبواب البيت الذي يقيم به عثمان كانت محروسة بالحسن والحسين ( عليهم السلام ) وبعض أبناء الصحابة أرسلهم الأمام علي ( عليه السلام ) لحمايته ، مما جعل بعض الثوار يتسور عليه عن طريق بعض بيوت الجيران المجاورة ، وطلبوا منه التنحي عن الحكم وتسليمهم القاتل فرفض فأقدموا على قتله ، وبقتله عمت الفوضى فكانت أول ثورة مسلحة تحدث في الإسلام .
  لقد اضطرب الأمن على اثر ذلك في المدينة المنورة وبقيت من دون سلطة سياسية ، فذهب كبار الصحابة ورؤساء الثوار إلى الأمام علي ( عليه السلام ) وطلبوا منه أن يتولى الخلافة ، فرفض ذلك وقال لهم :
  اختاروا من شئتم وسأكون أول المبايعين وستجدونني إنشاء الله أطوعكم له ، والحّوا عليه فأجابهم : أني لكم وزيراً خير مني أميراً ! وعندما وجد أن زمام الأمر سيفلت ، وان الإسلام سيصبح في خطر ، اضطر إلى قبول الخلافة فبويع مبايعة جماهيرية .
  كان أول المبايعين له طلحة بن عبد الله الذي كان من كبار الصحابة ومن المحرضين الرئيسيين على قتل عثمان ، وتبعه الزبير بن العوام وهو من كبار وجوه الصحابة أيضا ، ثم تدافع بقية الناس للبيعة .
  طلب كل من طلحة والزبير من الأمام أن يوليهما إمارة الكوفة والبصرة ، فرفض ذلك أسوة برسول الله عندما طلب منه عمه العباس إحدى الولايات فقال له : يا عم نحن لا نوليها من يسألها ! فاستأذناه للذهاب إلى العمرة ، وبالرغم من انه عرف مقصدهما ، وقال لهما : ليس العمرة تبغون بل الفتنة تبغون ! ولكنه مع ذلك لم يمنعهما ، تمسكاً بأحكام الشريعة التي تحكم بعدم الأخذ بالظن ، وبعد خروجهما التقيا بالسيدة عائشة ام المؤمنين التي كانت عائدة من العمرة ، فاخبراها بمقتل عثمان وكانت تكرهه وتحرض الناس عليه ، ففرحت وقالت لهما : بشركما الله بكل خير ! ومن بايعتم بعده ؟
  فقالا : علي بن أبي طالب ! وكانت تكره الأمام علي لأمور عائلية تافهة ، فصاحت : وا عثماناه ! لقد قتل مظلوماً ! وعادت إلى مكة ، وفي الطريق التقوا بقافلة تحمل خراج اليمن إلى الخليفة فاستولوا عليها ، وساروا وهم يحملون قميص عثمان الذي قتل فيه وهو ملطخ بالدماء يدوروا على القبائل يطلبون منهم النصرة على قتلة عثمان ! فيا للعجب حين يطالب القاتل بأخذ الثار من القتلة ! ويتهم الأمام علي ( عليه السلام ) الذي حاول جاهداً لمنع الفتنة والدفاع عن عثمان وإقناعه بتغيير سياسته من ترك بني أمية يعبثوا بأمور المسلمين وينهبوا أموالهم ، ولما أعياه الأمر أرسل ولديه للدفاع عنه ومنع من يريد الوصول إليه ، وكان يوصل الماء إليه بنفسه بعد أن منع الثوار من إدخال الماء إلى بيته .
  وسار المتمردون إلى البصرة فوقف أهل البصرة في حيرة من أمرهم ، هذا والي أمير المؤمنين بينهم وهو بن عم رسولهم وأحق الناس بالخلافة ، وهذه ام المؤمنين ومن معها تحمل قميص عثمان وهو ملطخ بالدماء وتدعي إنها تريد الأخذ بثأره ، وكأن الأمر أصبح مزاجياً كل يريد أن يطبق القانون بيديه حسبما يشاء ويهوى .
  وهجم عبد الله بن الزبير على بيت مال المسلمين في البصرة واستولى عليه ونهب ما فيه ، ثم توجه إلى ابن حنيف والي الأمام علي ( عليه السلام ) وهو من كبار الصحابة ، فنتف لحيته وضربه ضرباً شديداً وطرده من البصرة ، وعندما وصل الوالي إلى المدينة ، شعر الأمام إن الأمر قد شب عن الطوق ، فسار بمجموعة صغيرة من المهاجرين والأنصار إلى البصرة ، ولما وصلها التحق عدد من أهلها إلى جيشه بينما بقيت مجموعة أخرى مع جيش المنشقين ، وبقيت فئة ثالثة على الحياد بموافقة الأمام علي نفسه ، وجاء أهل الكوفة والتحقوا بجيش الإمام ، وبعد مفاوضات طويلة طلب الإمام مقابلة الزبير وطلحة وجهاً لوجه في ساحة الميدان وصاح بهما قائلاً : أتتركان عرسكما ( زوجاتكما ) في البيت وتأتيان بعرس رسول الله إلى القتال ؟ أتذكر يا زبير ويا طلحة يوم كذا وكذا ، أتذكران يوم كذا وكذا ، واخذ يذكرهما بأيام رسول الله وبعض أقواله إلى الزبير من انه يخرج على الإمام وهو ظالم لنفسه ، فشعر الزبير بفداحة الخطأ الذي ارتكبه وقال له : لقد ذكرتني بما انسانياه الدهر ، ثم كر راجعاً واعتزل القتال ، فلقيه أحد فتاك العرب فغدر به وقتله ، أما طلحة فقد رماه مروان بن الحكم بسهم فقتله أخذاً بثار عثمان ، مع انه كان يقاتل معه في نفس الجيش ، وتولى عبد الله قيادة الجيش والذي كانت السيدة عائشة تمني نفسها بان يكون هو الخليفة ، لانه ابن أختها أسماء وكانت تحبه حباً جماً ، كما أركبت السيدة عائشة جملاً ، وكانت داخل الهودج تحرض الناس على القتال ، واشتدت المعركة وصبح هودج ام المؤمنين كالقنفذ من كثرة النبال التي أصابته ، وبالرغم من إن النصر بان لجيش الإمام علي إلا إن القتال استمر على أشده ، فصاح الإمام : ويحكم اعقروا الجمل فانه شيطان من الشياطين ، فتقدم مجموعة من المهاجرين والأنصار وعقروا الجمل فنـزل الهودج من عليه ، وما أن عقر الجمل حتى هرب جيش السيدة عائشة بعد مجزرة راح ضحيتها خمسة عشر ألف مقاتل من خيرة المسلمين .
  ثم أمر الإمام بجمع الجثث من الطرفين وصلى عليها وأمر بدفنها ، واصدر عفواً عن المشاركين في القتال ، كما وأرسل ام المؤمنين بعد أن تفقد أحوالها مع أربعين من نساء الأنصار والمهاجرين ومعها أخوها محمد بن أبي بكر إلى المدينة .
  لقد كانت موقعة الجمل ذات تأثير دامي في تاريخ الإسلام لأنها مزقت وحدة المسلمين وفرقت كلمتهم ، ولولا هذه المعركة لما تجرأ معاوية على التمرد والعصيان ، أو ما كان له أن ينجح في عصيانه ، لكنه شعر انه أصبح قوياً أمام جيش الخليفة الشرعي الذي قتل في تلك المعركة عدد كبير من خيرة فرسانه ، وانقسم بعض الناس عليه من الموالين لطلحة والزبير ، لقد تمكنتن قوى الردة بقيادة معاوية بن أبي سفيان الذي قاتل هو وأبوه الإسلام حتى انتصر الإسلام عليهم ، ولم ينطقوا بكلمة الشهادة إلا والسيف على رقابهم ، واستمروا في نفاقهم ومجاهدتهم الإسلام حتى نجح معاوية من الاعتلاء على الخلافة ليحولها إلى ملك قيصري وراثي يحارب الإسلام من خلاله ويهد من بنيانه .

وقعة دولاب :
  ودولاب قرية من قرى الأهواز ، وسبب الوقعة هو أن الفراغ السياسي الذي أوجده سقوط الدولة السفيانية ( الدولة التي أسسها معاوية ) بعد هلاك يزيد بن معاوية وتنحي ابنه معاوية الثاني عن السلطة والاضطرابات التي حصلت في معظم الولايات الإسلامية ، فقد ثار عبد الله بن الزبير في مكة ودان له حكم الحجاز والبصرة والكوفة ثم استولى التوابين من جماعة المختار الثقفي على الكوفة وطردوا والي ابن الزبير عنها ، وتوالت الأحداث بشكل سريع في كل مكان وكان الوضع قلقاً وعلى غير استقرار ، وكان حكم بن الزبير هشاً ضعيفاً ، فقد استغلت مجموعة من الخوارج التي كانت تتمركز في الأهواز تلك الظروف ، فتحركت باتجاه البصرة تحرق الأخضر واليابس أمامها من القرى التي تعترض طريقها .
  والخوارج هي حركة سياسية ظهرت أثناء معركة صفين بين الأمام علي ومعاوية ، ومن صفوف جيش الأمام علي ( عليه السلام ) ، وكانوا قد اجبروا الأمام علي على قبول التحكيم أول الأمر ثم طلبوا منه التنصل من عهوده بعد أن تم الاتفاق وبدون رغبة من الأمام نفسه ، وطلبوا منه العودة إلى الحرب .
  بالرغم من إن الأمام علي( عله السلام ) كان يعد العدة لحرب جديدة مع معاوية إلا أنهم خرجوا عليه وعاثوا في الأرض فساداً ، مما اضطره أن يترك معاوية ويتوجه إلى حربهم ، وانتصر عليهم في حرب حاسمة قتل فيها من جيش الأمام اقل من عشرة رجال بينما قتل كل الخوارج ولم ينج منهم غير اقل من عشرة رجال ، وكان أحد الناجين هو الذي قتل الإمام علي ( عليه السلام ) ـ وهو أبن ملجم لعنه الله ـ في المسجد أثناء الصلاة .
  وبذا مكنوا بحماقتهم وشدة تعصبهم الغير منطقي ، عدوهم الحقيقي معاوية بن أبي سفيان من السيطرة على العراق وبقية العالم الإسلامي ليحول خلافة المسلمين إلى مُلكٍ متوارث .
  لقد استطاع الخوارج بعد مدة وجيزة من نشر دعوتهم وإعادة تنظيم صفوفهم ، وقاتلوا الدولة الأموية في كل عصورها وبقيت حركتهم قائمة في الجزء الأول من الدولة العباسية ، إلا أن حركتهم بدأت بالضمور عندما ظهرت بعض المذاهب الدينية المتطرفة ، فاصبح الشباب المتعصب الذي كان ينظم إلى صفوفهم يفضل الانخراط في تلك المذاهب المتطرفة ، مما حول المذاهب من حركة فكرية لخدمة الإسلام وإثراء الفكر الإسلامي ، إلى طوائف متصارعة يكفر بعضها البعض ، وأنا لله وأنا إليه راجعون .
  بعد أن تطرقنا إلى تاريخ الخوارج بشكل مقتضب نعود إلى وقعة دولاب ، حيث كان يعيش نافع بن الأزرق وهو أحد أشهر زعمائهم وفقهائهم حيث كان يسكن في سوق الأهواز ، وقد اعتزل الناس ، فقالت له امرأته يوماً : أكفرت بعد أيمانك ، تعني انه ترك أمر دعوة الخوارج ، فلما رأى إن الفرصة سانحة نهض من مكمنه ودعا أصحابه للثورة فاجتمع إليه جماعة من أصحابه وبدأ بمهاجمة القرى واحدة تلو الأخرى ، وكانوا إذا دخلوا قرية احرقوها وقتلوا رجالها ، إلا من يؤمن بدعوتهم ويتبرأ من مذهبه ويقول انه كان على ضلال وألان آمن ، فلما رأى أهل البصرة بأنه متوجه إليهم ، والدولة منشغلة عن أمره ، ذهبوا إلى الأحنف بن قيس يستشيرونه ويقولون له لم يبق بيننا وبين الخوارج غير يومين ، فأشار عليهم بمحاربتهم وإيقاف شرهم قبل أن يصلوا إليهم ويفعلوا بهم كفعلهم بباقي المدن والقرى التي دخلوها ، فاجتمع نحو عشرة آلاف مقاتل من قبائل البصرة ، وأكثرهم من تميم وسدوس ، وامروا عليهم مسلم بن عبيس بن كريز ، وكان عدد الخوارج كما يروي الرواة يقل عن ألف رجل ولكنهم كانوا مستميتين ولهم خبرة طويلة في الحروب ، وبعد معركة حامية قتل فيها مسلم قائد البصرة ونافع بن الأزرق زعيم الخوارج ، ثم نظم كل طرف صفوفه من جديد ونصب قائداً عليه ، فقد تولى قيادة جيش البصرة الربيع بن عمرو الغداني من بني يربوع ، وتولى قيادة الخوارج عبيد الله بن بشير بن الماحوز من بني يربوع أيضا ، واستمر القتال بينهم عشرون يوماً أخرى وقتل فيها عدد كبير من الطرفين وتفشت الجراح بينهم وأصابهم التعب والإعياء ، وقتل البيع قائد البصرة وبقوا بدون قائد وكل يتهيب ذلك ، ثم اجمعوا على الحجاج الحميري الذي رفض أن يستلم الراية إلا بعد إلحاح ، وعاد القتال من جديد وتبارز الحجاج قائد أهل البصرة مع أحد فرسان الخوارج وانتهى اللقاء أن قتل كل رجل صاحبه فاتفق أهل البصرة على الحارثة بن بدر ، وقد حاول الأخير أن يشد من أزر أصحابه إلا أنهم كانوا في حالة من الضعف والجراح وقد هرب عدد كبير منهم ، فبينما هم كذلك إذ جاء إلى الخوارج مدد من اليمامة مما شد من أزرهم وقوى معنوياتهم ، فحملوا حملة شديدة على أهل البصرة ، فانهزم الحارثة وانهزمت جيوش أهل البصرة معه ، وتبعهم الخوارج وقتلوا جماعة كبيرة منهم وألقى أهل البصرة أنفسهم في نهر تيري ( من انهار الأهواز ) بغية العبور فمات الكثير منهم غرقاً ، ولكن الخوارج لم يدخلوا البصرة .

مجزرة الحجاج في مسجد البصرة :
  عند القضاء على ثورة عبد الله بن الزبير في مكة على يد الحجاج بن يوسف الثقفي وسيطرة الدولة الأموية من جديد على مقاليد الحكم ، تم تعيين الحجاج والياً على الحرمين ( مكة والمدينة ) وتعيين بشر بن مروان والي على المصرين ( الكوفة والبصرة ) ، وبوفاة بشر المفاجئة ، تم نقل الحجاج إلى ولاية الكوفة والبصرة وما يتبعهما من المناطق في المشرق الإسلامي والتي كانت تتركز فيها ثلاثة أرباع قوة العالم الإسلامي البشرية والمالية ، وأراد الحجاج أن يبدأ عصره في هاتين المدينتين بالدم ، حيث كان يعتقد ـ بحمق ـ إن الشدة والقسوة هي أفضل الوسائل للسيطرة على الناس ، وقد أثبتت سياسته الخرقاء تلك على خطأ كبير ، تلك السياسة التي تلقفها كثير من الساسة ظناً منهم إنها الطريقة السهلة للسيطرة ، فقد استمرت حمامات الدم في زمانه طيلة الفترة التي عاشها هناك ، ودفعت الناس إلى القيام بعدة ثورات كادت بعضها أن تقضي على الدولة الأموية بكاملها لا على الحجاج فحسب لولا سوء الطالع ، وكان سبب نجاحه يعتمد على الصدفة بالدرجة الأولى ، لقد كلفت تلك السياسة الدموية الدولة الكثير من المال والجهد ، وجعلتها لعنة من لعنات التاريخ ، أما خسائرها المالية فيكفي أن نشير إلى إن خراج العراق كان زمن عمر بن الخطاب يبلغ مائة وعشرون مليون دينار ، هبط في زمن الحجاج إلى عشرة آلاف دينار فقط !
  قدم الحجاج إلى البصرة عند تنصيبه والياً عليها وذلك عام 75 هـ ـ 694 م ومعه ألفي جندي من أهل الشام وبضعة آلاف من غيرهم ، وتعمد أن يدخل المدينة يوم الجمعة وقت الصلاة ، وأمر جنوده الشاميين أن يتوزعوا على أبواب المسجد ، مائة جندي لكل باب ويخفوا سيوفهم تحت ملابسهم ، وكان في المسجد ثمانية عشر باب ، واخذ معه مائتي جندي ودخل بهم وهم يخفون السلاح تحت الثياب ، وأمرهم إذا نزع عمامته ووضعها على ركبتيه أن يخرجوا سيوفهم ويفتكوا بالجميع بدون استثناء ، كما أمر الجنود الذين على الأبواب أن يقتلوا كل من يحاول الهرب من المسجد ، قام الحجاج في الناس خطيباً وقال : ( أيها الناس ! إن أمير المؤمنين عبد الملك قد استخلفه الله في بلاده وارتضاه إماماً على عباده وقد ولاني مصركم وقسيمة فيئكم وأمرني بإنصاف مظلوكم وإمضاء الحكم على ظالمكم وصرف الثواب إلى المحسن البريء والعقاب إلى العاصي المسيء وأنا متبع فيكم عهده وأرجو بذلك من الله عز وجل الجزاء ومن خليفته المكافأة وأخبركم انه قلدني بسيفين حين توليته إياي عليكم ، سيف رحمة وسيف عذاب ونقمة ، فأما سيف الرحمة فسقط مني في الطريق ، وأما سيف النقمة فهو هذا ) فغضب الناس من جملته الأخيرة ورماه أحدهم بحصاة ، فما كان منه إلا وخلع عمامته فأسرع الجنود الشاميين إلى تجريد سيوفهم واخذوا بقتل المصلين بدون تمييز ، وحاول المصلون الهرب فتلقاهم الجنود في الأبواب وقتلوا من حاول الخروج حتى قتلوا جميع من في المسجد ، والذين كان عددهم أكثر من سبعون ألف مصلي .
  وقد يكون هذا الرقم فيه بعض المبالغة ولكن حتى لو كان العدد نصف هذا فهو مجزرة عظيمة لا اعتقد إن أي من طغاة العالم الآخرين كان ليقدم عليها .

ثورة إبراهيم ذو النفس الزكية :
  حاول الهاشميون ( أبناء علي وجعفر وعقيل أبناء أبي طالب ) وعباسيون من توحيد صفوفهم بعد المصائب الكثيرة التي تلقوها على أيدي الأمويون أيام دولتهم ، فاجتمعوا ورشحوا رجلاً منهم هو محمد بن عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وبايعوه بالخلافة سراً ، على أن تكون الخلافة فيما بعد للرضي من آل بيت محمد ، وكان من بين المبايعين له إبراهيم الإمام وأخيه أبو العباس السفاح وأخيهم الصغير أبو جعفر المنصور ، وسارت الأمور بعد ذلك بطريقة مختلفة فقد استطاع بعض الدعاة الذين يتصلون بإبراهيم الإمام وأخيه السفاح أن يثوروا على الدولة الأموية في الشام حيث انطلقت شرارتها من خراسان بقيادة الداعية الشاب أبو مسلم الخراساني ، وحيث إن الخليفة الأموي استطاع من القبض على إبراهيم الإمام الذي مات في السجن قبل قيام الثورة ، فتولى القيادة أخوه أبو العباس السفاح ، وأعلن عنه خليفة في الكوفة قبل سقوط الدولة الأموية ، وكان السفاح قلقاً جداً من محمد ذو النفس الزكية الذي كان قد بايعه هو قبل ذلك التاريخ مما يجعل خلافة بني العباس غير شرعية حسب التقاليد المتعارفة عندهم ، وكان محمد هو الآخر يخامره نفس الشعور فاضطر إلى الاختفاء خوفاً من بطش العباسيين فيه ، ولكن انشغال أبو العباس بتأسيس الدولة ومطاردة الأمويين والقضاء على الفتن الكثيرة وقصر حياته السياسية جعله يؤجل أمر محمد ، فلما مات أبو العباس وتولى الخلافة أخوه أبو جعفر والذي كان شديد الظن بالسوء وقاسياً ، بدأ بملاحقة محمد ذو النفس الزكية وأخوته ، مما اضطر محمداً من الانتقال من بلد إلى بلد متخفياً حتى كان يصل الهند والصين ثم يعود أدراجه حتى يصل المغرب العربي ، ولا يبقى في بلد إلا اقل من المدة التي يحتاجها البريد بين تلك المدينة وعاصمة الخلافة بحيث يكون قد رحل عن تلك المدينة قبل وصول أمر إلقاء القبض عليه ، وكانت دعوته تسري بين الناس ، وعلى الأخص عندما خاب ظن الكثير من منهم بالدولة العباسية واعتقدوا في البداية إنها ستزيل الظلم الذي اتبعه بني أمية ، ولكنهم اكتشفوا إن دولة بني العباس أكثر ظلماً واشد تعسفاً ، فبدءوا بالبحث عن المنقذ .
  وحتى لا يترك الفرصة للثورة بالنضوج فقد عمد أبو جعفر إلى سجن عبد الله بن الحسن والد محمد ذو النفس الزكية مع ثلاثة من أخوته واحد أبناء عمه ، مما اضطر محمداً من إعلان الثورة قبل موعدها المقرر في المدينة ، وحيث إن المدينة لم تكن تشكل قوة عسكرية في ذلك الوقت ، ومما زاد في الطين بله إن محمداً حفر حولها خندقاً مما منع من وصول المؤن إليها ، لقد استطاع القائد العباسي الذي أرسل لإخماد الثورة من إسقاط المدينة وقتل محمد ذو النفس الزكية فيها .
  كان من المقرر أن يقوم إبراهيم ذو النفس الزكية ، أخو محمد بالثورة في البصرة في نفس الوقت ، ولكن مرضه وثورة أخيه قبل الموعد اضطرته إلى تأجيل الثورة ، وعندما أعلن إبراهيم الثورة بالبصرة توجه أبو جعفر بجيش الاحتياط إليه ، وكان قائده قد أكمل مهمة القضاء على محمد في المدينة فتوجه إلى البصرة أيضا لينظم إلى جيش الخليفة ، حيث جرت معركة كبيرة بين الطرفين انتصر فيها الجيش العلوي بقيادة إبراهيم على الجيش العباسي بقيادة أبو جعفر ، وفر أبو جعفر بفلول جيشه تتبعتهم جيوش العلويين ، وبينما كان أبو جعفر يستريح بفلول جيشه المنهك في إحدى انعطافات الفرات إذ شاهد الرايات العلوية الخضراء قادمة ، فنهض ليواصل الهرب ، ولكن جيش العلويين أصابه بعض الارتباك عندما تفاجئوا بمشاهدة الجيش العباسي وظنوا انه كمين لهم ، فاستغل أبو جعفر ذلك الارتباك وأعاد الكرة بهجوم جديد ، وكان معن بن زائدة بأفراد قبيلته يراقبون ما يجري من بعيد ، وحيث أن معن كان من رجال الدولة الأموية سابقاً ومن المطلوبين للدولة العباسية ، فشعر إن الفرصة مواتية للاستفادة من هذا الموقف ويصلح علاقته بالدولة العباسية بالانضمام إليهم في ساعة الضيق تلك ، فهجم من الخلف على جيوش العلويين ، وشاء سوء الطالع إن إبراهيم خلع لامة حربه لشدة حرارة الجو فأصابه سهم طائش في جبهته فارق الحياة بعده ، فتفرق جيش العلويين عند موت قائدهم واستطاع أبو جعفر أن يكسب الحرب ليبدأ بعدها بحمامات من الدم في قتل وملاحقة العلويين وأنصارهم .
  تعتبر ثورة إبراهيم بالبصرة اكبر الثورات التي قام بها العلوييون من حيث الحجم ، وقد أبلى ، لبصريون بلاءً حسناً لولا سوء الطالع ، حيث كادت هذه الثورة أن تطيح بالدولة العباسية وتقيم بدلها دولة علوية ، وبالرغم من أن إدريس ، الأخ الأصغر لمحمد وإبراهيم استطاع من الانتصار على الوالي العباسي في المغرب العربي وتأسيس دولة علوية هناك دعيت بدولة الادارسة ، إلا إنها بقيت صغيرة ومحاصرة ، وتم القضاء عليها بعد اقل من قرنين من الزمان على أيدي بعض القبائل البربرية هناك .

ثورة الزنج :
  بعد الحكم التعسفي وإثارة النعرات الطائفية واضطهاد الناس بسبب انتمائهم الطائفي أو الفكري الذي انتهجه الخليفة العباسي المتوكل على الله والذي بذر أموال الدولة على بناء القصور وانشغاله بجواريه الأربعة آلاف عن أمور الدولة وتركها لقواده الأتراك ، انتهت خلافته بان قتل على يد أحد أبناءه بمساعدة الأتراك ، فسقطت هيبة الخلافة ، ولم يمض غير أربعون يوماً حتى قام الأتراك بقتل الخليفة الجديد ، وهكذا أصبح الأتراك يتحكمون بمصير الخلافة ، ينصبون من أرادوا ويعزلون من لا يعجبهم مما شجع الولايات على الانفصال الواحدة تلو الأخرى وتبعاً لذلك قلت موارد الدولة ، في الوقت الذي زادت حاجتها للمال ، لان القواد الأتراك ليس حدود لطمعهم وجشعهم ، والخليفة ملزم أن يلبي طلباتهم ، ولما أفلست الخزينة اضطر الخلفاء أن يقطعوا بعض المقاطعات وعلى الأخص في جنوب العراق إلى أولياءك القواد الجشعين ، اللذين اخذوا يطردون الفلاحين المجاورين لأراضيهم ويستولوا عليها بالقوة فكبرت مقاطعاتهم وأصبحوا يسيطرون على معظم الأراضي هناك ، ونظراً لقسوتهم وفظاظتهم لم يستطع الفلاحون من العمل معهم كأجراء ، فاضطروا إلى استخدام العبيد في الزراعة ، والذين كانوا يجلبون من أفريقيا ، فنشطت تجارة العبيد وأصبحوا يشكلون الغالبية من الفلاحين ، وبالرغم من إن نظام الرق كان موجوداً في العصور الإسلامية إلا أنهم لم يكونوا يستخدموا في الزراعة إلا على نطاق فردي ضيق ، وكانت معاملتهم كما يعتقد العلامة المؤرخ ( وول ديورانت ) أفضل بكثير من معاملة الفلاحين في أوربا في العصور الوسطى ( وول ديورانت ـ قصة الحضارة ) ، أما معاملة الأتراك لهم فكانت تتصف بالوحشية والهمجية لما جبلوا عليه من فظاظة وقسوة ، فتنبه أحد المغامرين لما يعانيه هؤلاء فادعى انه من نسل الرسول وانه المهدي المنتظر واخذ يتصل بهم سراً حتى كون له مجموعة من الأتباع منهم ووعدهم بالحرية والخلاص والانتقام من سادتهم ، ثم طلب منهم أن يتصلوا ببقية العبيد في مناطقهم وكل من استطاع أن يأتي بعشرة يصبح أمير عشرة ، فإذا استطاع كل من العشرة الجدد بان يأتي كل منهم بعشرة يصبحوا كذلك أمراء عشرة ويصبح الشخص الأول أمير مائة ثم يصبح أمير ألف ، وهكذا بدأت الدائرة تتسع ، ولقد استجاب أولئك العبيد إليه بسرعة كبيرة ونظراً لوجود الكثير من الجزر المحصنة بالموانع المائية والقصب والبردي في الجهة الشرقية من شط العرب آنذاك إذ كان يتكون من مجموعة من الجزر ، وكان عرض شط العرب يقترب من ثمانية كيلومترات ، حيث تكثر الجزر فيه ، فقد اتخذ من تلك الجز ملاذاً أمينا له ولأتباعه ، وأصبح يغير على القرى والمدن المجاورة ليوسع من دائرة حكمه ، كما كان يقطع الطرق التجارية بين البصرة وبغداد وبقية المدن أو الأقطار ، سواء كانت الطرق البرية أو النهرية حتى استفحل أمره وقويت شكيمته .


BASRAHCITY.NET