البصرة ، مقاربة انثروبولوجية
اعادة انتاج ثقافة ، اعادة انتاج مدينة

الاستاذ ضياء نجم الاسدي

   تمهيد
  ربما منذ تكوينه, لم يعرف العراق إستقرارا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفكريا وثقافيا على مدى أزمنة طويلة نسبيا ، وعلى مراحل متباينة من تاريخه الحافل ، وكما أن العراق إذا ما قورن بغيره من بلدان العالم ذات الحضارات العريقة يُعدُ الأكثر تقلباً من الناحية السياسية إلا أنه أيضا يمتاز بغزارة إنتاجه الثقافي ، والبصرة كجزء مهم وحيوي من العراق تقدم أنموذجاً عن ذلك التحول ، وليس أصدق على ذلك من إندثار شواهد الحضارات العظيمة التي مرت بالعراق على تعددها وبقاء القليل النادر من الآثار الدالة على قيام تلك الحضارات بالمقارنة مع حجم الحضارات التي كانت قائمة ومساحة تأثيرها .
  والعراق بوصفه منطقة قليلة أو معدومة التعرض للكوارث الطبيعية المهلكة كالزلازل والأعاصير والفيضانات المدمرة ، كان دائم التعرض الى الكوارث الناجمة عن الحروب وتنازع الارادات والقوى ، إن التعددية والتنوع الحضاري والثقافي قد أديا الى صياغة مجتمعات غنية منتجة على جميع الاصعدة في أوقات الرخاء, ولكن وربما بالقدر نفسه فأنهما قد أديا الى نشوء اضطرابات وحالة من عدم الاستقرار المزمن ، وهذا هو شأن الحضارات الديناميكية التي تثير من حولها الاهتمام والطمع وحب الاستحواذ عليها .
  وبسبب التنوع والتعددية فأن أي تناول للجوانب الثقافية للبلد عموما وللبصرة خصوصاً لابد وأن يتحيز الى فئة أو طائفة أو منزع فكري أو إجتماعي ، وهكذا كانت معظم الكتابات التاريخية التي تناولت رسم ثقافة البصرة بشكل مباشر أو غير مباشر .
  فالدراسات التي كانت تعنى بوصف الحوادث التاريخية وسردها لم تكن تهدف الى تشكيل أو قراءة أو تحليل المكونات الثقافية لمجتمع البصرة بالدرجة الاساس ، وكذلك كانت الدراسات السياسية والاقتصادية والجغرافية والأدبية ، صحيحٌ أن كل مبحث من تلك المباحث كان يتناول جانباً مهما من الجوانب الثقافية للمدينة ولكنه كان مجتزءاً في أحسن حالاته أو غير مهتم بالجوانب الثقافية أصلاً .
  البحث الحالي هو محاولة في المنهج ، ومقاربة تهدف الى وضع أسس علمية لأنموذج بحثي يمكن أن يرقى الى أطروحة ماجستير أو دكتوراه إن قيض له متخصص في الانثروبولوجيا أو الدراسات الثقافية ، ولكنني سأكتفي هنا بأيراد بعض السمات الثقافية التي شكلت هوية مدينة البصرة على مر السنين ، ومعيار اختيار تلك السمات دون غيرها هو بروزها في معظم المصادر التاريخية التي تناولت مدينة البصرة بشكل متكرر على الرغم من اختلاف وتباعد الازمان التي كتبت فيها تلك الدراسات .

الهدف :الفائدة من البحث
  بسبب تعدد الأهواء والمسالك ، وتنازع الإرادات ، كانت كلما انطوت مرحلة تاريخية أو حقبة زمنية على البصرة ، طويت معها ملامحها الثقافية ومميزاتها المجتمعية حتى كأنها لم تكن يوما روحا محركة لصيرورة التاريخ وحراك الناس ونشاطاتهم ، فتعفو وتندرس خصائص ثقافية مميزة لعصر أو مرحلة سالفة لتنشىء بعدها خصائص أخرى لمرحلة تالية وهكذا دواليك ، ومما يؤسف له أن السلطة الثقافية البديلة كانت غالباً ما تحاول طمس معالم الثقافة السابقة أو تحاول نمذجتها على صورتها الجديدة .
  وربما تكون هذه مشكلة الثقافة العربية عامة إذ يصعب أن نؤشر أنها ثقافة تراكمية أو إرث حضاري متصل ، فالمنجزات الفكرية الكبرى تظهر على أنها علامات طريق شاخصة بوضوح يخسف ظلها مادونها من الانجازات الأخرى وتشكل بذاتها عتبة لانطلاقة جديدة .
  وعلى ذلك فأن محاولة تكوين وعي وذاكرة ثقافية حيادية للمدينة يجب ان تستحضر تراث المدينة برمته وتستلهم من ذلك التراث خصائص الثقافة المهيمنة والثقافات الباطنية/الصغرى (sub-cultures)( 1 ) الأخرى ، فإعادة قراءة التراث الثقافي هي ليست انتصاراً لفئة على فئة أخرى أو محاولة للنبش في ركام طال عليه الأمد لاستخراج أحافير وآثار بالية ، إنها محاولة لتكوين بنية متناسقة لجوانب متعددة من المجتمع والأفراد وتفاعلهما معا ، يحظى فيها كل جانب بموقعه ومكانته الفعلية التي كانت يوماً جزء من حركة التاريخ ، دون حاجة للحكم القيمي على ذلك الجانب سواءً أكان سيئاً أم جيداً لأن هذا ليس من شأن التحليل الثقافي.
  وكنتيجة للتحليل الثقافي الذي يهدف الى إعادة إنتاج هوية ثقافية سنتمكن من إضافة بعد مهم الى الابعاد الأخرى التي يحتاجها الدارسون والمخططون الحضريون والسياسيون والإداريون والمثقفون وحتى الناس البسطاء لما للهوية الثقافية من أهمية كبيرة حتى في رسم ملامح الشخصية الفردية وأبعادها فضلاً عن رسم صورة المجتمع .   إذن وعلى نحو الاختصار يمكننا أن نجمل الفائدة من البحث الحالي بالنقاط الآتية :
  1 ـ في مداه البعيد, يمكن لهذا البحث أن يرقى إلى محاولة للحصول على صورة كلية لثقافة مدينة منذ تكوينها وحتى هذه اللحظة التاريخية ، وهذا الهدف دون شك لايمكن تحقيقه من خلال بحث أو بحثين بل هو مشروع أكبر يتطلب المزيد من الجهد والوقت ، أما في مداه الحالي فالبحث هو محاولة لتقديم أنموذج أو مقترب ثقافي لرسم هوية مدينة .
  2 ـ استثمار الهوية الثقافية الناتجة في رسم ملامح المدينة وإعطائها الشكل الثقافي المميز الذي يجعلها متفردة بين المدن الأخرى ، والتأكيد على أن الهوية الناتجة هي ما يعطي المدينة قيمتها ، فالمدينة التي تنسخ غيرها من المدن سرعان ما تندثر ثقافيا وتتحول الى مكان محض .
  3 ـ مساعدة السياسيين وصناع القرار على تحديد خصائص المدينة الثقافية وفهم الدور الذي تلعبه تلك الخصائص في صنع السياسة وطبيعة حراك المجتمع وبالتالي تمكنهم من إيجاد السبل والآليات الناجعة للتعاطي مع منظومة العلاقات الناتجة ، وتساعدهم في إدارة الأزمات والصراعات وفضها .
  4 ـ مساعدة المعنيين بالتخطيط العمراني والحضري على فهم الجوانب المتعددة للهوية الثقافية للمدينة والتحولات التي عانت منها على امتداد تاريخها الطويل ومكامن الإفادة من تلك الخصائص والتحولات في رسم صورة حضارية للمدينة ، فالتعامل مع الفضاء والأجسام محدود وليس فيه خيارات كثيرة ، أما التعامل مع الافكار والتاريخ والمميزات الثقافية فلا تحده حدود ، وهذا هو التحدي الذي ينبغي ان يواجهه المخططون العمرانيون : كيف يمكن أن يوضع التاريخ والثقافة والإنسان في أطر عمرانية وتنموية تشكل امتدادا للماضي وتحمل إمكانية التفاعل والتطور مع المستقبل ، وتحافظ على رمزية المدينة وروحها وأصالتها .
  5 ـ مساعدة المستثمرين وتشجيعهم على تفعيل الخصائص الثقافية للمدينة واستثمارها بالشكل الذي يليق وعراقة المدينة وإرثها الثقافي الغزير ، لإن مثل هذه البحوث توفر الافكار والتصورات المسبقة التي يحتاجها المستثمر بشكل عام والمستثمر الثقافي بشكل خاص( 2 ) .
  6 ـ تقديم أنموذج مختلف للطلبة والدارسين يمكن الارتكاز عليه وتطويره فيما بعد الى دراسات متخصصة ومعمقة في الجوانب الثقافية لمدينة البصرة . ومما لاشك فيه أن الدراسات الثقافية تعود بالنتيجة على ميادين معرفية كثيرة بالفائدة الكبيرة ، ولكنها مع ذلك ذات فائدة لاتقل أهمية لميادين السياسة والاقتصاد والعمران ، وهذا يعني أن الدراسات التي تهدف الى تطوير المدن والمجتمعات دون أن تولي أهتماما للجانب الثقافي لها هي دراسات ناقصة لايمكن الركون اليها أو تبنيها لأنها ستأتي مشوهة في نهاية المطاف إن لم تلحق الضرر بتلك المدن والمجتمعات على المديين القريب والبعيد .

مفهوم الثقافة :
 يعد مفهوم الثقافة المفهوم المركزي الأوحد والأهم في الدراسات الأنثروبولوجية في القرن العشرين( 3 ) ، والثقافة أو الحضارة بمفهومها البشري العام الذي عرفه تايلر هي الكل المعقد الذي يحتوي المعرفة ، والمعتقدات ، والفن ، والأخلاق ، والقانون ، والزي ، وأي قدرات وعادات أخرى يكتسبها الأنسان بوصفه عنصرا من عناصر المجتمع "( 4 ) .
  فمحور اهتمام الدراسات الانثروبولوجية هو الانسان وكل ما يتعلق به من مظاهر أخرى بعضها خارجية كالبيئة المحيطة به وكيف يعمل على استلامها والتفاعل معها ، والبعض الآخر يتعلق بالإنسان ذاته وبأنماطه السلوكية .
  لذلك فأن فهم الثقافة يستلزم فهم الانسان أولا في مرحلة معينة ثم في ارتباطه فيما سبق تلك المرحلة وما أعقبها.
  ومن ثم فهم مكونات المجتمع التي تشكل البيئة الثقافية لجيل من البشر وكيف تكون امتداد لجيل سابق وممهد لجيل لا حق .
 البصرة بوصفها حاضنة ثقافية : أثقافة باطنية أم ثقافة أصيلة؟
  مما لا شك فيه ان للبصرة ، كما لكثير من مدن الارض أكثر من تاريخ ، وعندما نقول أكثر من تاريخ فأننا نلمح الى أن هناك قطيعة تاريخية لسبب ما ( كغياب المدونات . والوثائق التاريخية مثلا ) في مراحل معينة جعلت الباحثين يبدأون تاريخ المدينة من حيث عثروا على وثائق أو مدونات ساعدتهم على تثبيت تلك اللحظة التاريخية .
  يمكن القول بأن مدينة البصرة التاريخية( 5 ) كانت نتاجاً لعمل عسكري واسع الأهداف وأنها كانت تمثل حاجة ملحة للدولة الاسلامية الفتية لتأمين موقع ستراتيجي للجيوش العربية الفاتحة المتجهه الى ارض العراق لمقاتلة القوات الفارسية المتوغلة في مناطق كثيرة وشاسعة من العراق ولتأمين منصة انطلاق الى البلدان والاقاليم الاخرى ، ولم توصف البصرة قبل تأسيسها من قبل الجيوش العربية في سنة 635 ميلادية (14 هجرية)( 6 ) بغير مايمثله موقعها الجيوسياسي من أهمية في ذلك الوقت ، ولنقرأ وصف المنطقة كما يصفها الخليفة الثاني في مايرويه أبن الاثير في أسد الغابة مترجما حياة عتبة بن غزوان وقصة تسييره من قبل الخليفة الثاني لفتح جنوب العراق ، إذ أمره قائلا : انطلق أنت ومن معك حتى تأتوا أقصى مملكة العرب وأدنى مملكة العجم ، فسر على بركة الله تعالى ويمنه ، اتق الله ما استطعت ، واعلم أنك تأتي حومة العدو ، وأرجو أن يعينك الله عليهم ، وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمي أن يمدك بعرفجة بن هرثمة، وهو ذو مجاهدة للعدو وذو مكايدة، فشاوره ، وادع إلى الله، فمن أجابك فاقبل منه ، ومن أبى فالجزية عن يد مذلة وصغار ، وإلا فالسيف في غير هوادة ، واستنفر من مررت به من العرب ، وحثهم على الجهاد ، وكابد العدو ، واتق الله ربك( 7 ) ، ( تأكيد العبارات بالخط الغامق هو من الباحث ) ويبدو جليا من كلام الخليفة أن ما أصبح يعرف فيما بعد بأرض البصرة كان يمثل الحد الفاصل بين الدولة العربية ( لقوله أقصى مملكة العرب ) إذ لم تكن الدولة العربية حينذاك قد بلغت أبعد من تلك النقطة( 8 ) ، والدولة الأعجمية إذ كانت حدودها مع الدولة العربية تنتهي عند البصرة من جهة الشمال الشرقي للجزيرة العربية .
  وهناك إشارة واضحة الى أن سكان تلك المنطقة كانوا من العرب وأن الخليفة كان قد آنس منهم الالتحاق بجيش عتبة ، ويكمل ابن الاثير روايته فيما فعل عتبه بعد توجهه الى أرض العراق قائلا : فسار عتبة وافتتح الأبلة ، واختط البصرة ، هو أول من مصرها وعمرها .
  وأمر محجن بن الأدرع فخط مسجد البصرة الأعظم ، وبناه بالقصب ، ثم خرج حاجاً وخلف مجاشع بن مسعود ، وأمره أن يسير إلى الفرات ، وأمر المغيرة بن شعبة أن يصلي بالناس ، فلما وصل عتبة إلى عمر استعفاه عن ولاية البصرة ، فأبى أن يعفيه ، فقال : اللهم لا تردني إليها! فسقط عن راحلته فمات سنة سبع عشرة ، وهو منصرف من مكة إلى البصرة ، بموضع يقال له : معدن بني سُليم ، قاله ابن سعد( 9 ) ( تأكيد العبارات بالخط الغامق هو من الباحث ) إن مايهمنا من هذه الرواية هو الاشارة الواضحة الى أن العملية العسكرية قد أسفرت عن افتتاح الأبلة ، واختطاط مدينة جديدة هي البصرة في اشارة الراوي الى أن عتبة بن غزوان كان أول من مصرها وعمرها . وهنا نلمع الى أن حاضرة المنطقة التي خضعت للعمل العسكري كانت الأبلة وهي التي كانت بيد القوات الفارسية, والأبلة القديمة كما سنرى لاحقا هي ليست الابلة الحديثة التي تشكل جانبا صغيرا ومنكمشا من محافظة البصرة بل أنها كانت بلدة حاضرة النهر تمتد بامتداده حتى منطقة العشار( 10 ) مكونة ما كان يعرف باحدى الجنان الاربع على الارض في ذلك الوقت .
  وفي معنى الأبلة يورد الزبيدي في كتابه تاج العروس في باب أبل النص الآتي: وقال أَبُو القاسِمِ الزَّجّاجِيّ : الأُبُلَّةُ : الفِدْرَةُ من التَّمْرِ وليسَتِ الجُلُّةَ كما زَعَمَه ابنُ الأَنْبارِيِّ والأُبُلَّة ُ: بالبَصْرَةِ الأَوْلَى مَدِينَةٌ بالبَصْرَةِ ؛ فإِنّ مثلَ هذه لا يُطْلَقُ عليها اسم المَوْضِعِ ففي العُبابِ : مَدِينَةٌ إِلى جَنْبِ البَصْرَةِ وفي مُعْجَمِ ياقوت : بَلْدَةٌ على شاطِئ دِجْلَةِ البَصْرَةِ العُظْمَى في زاوِيَةِ الخَلِيجِ الذي يُدْخَلُ منه إِلى مَدِينَةِ البَصْرَةِ وهي أَقْدَمُ من البَصْرةِ لأَنّ البَصْرَةَ مُصِّرَتْ في أَيامِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ رضي اللّه تعالَى عنه وكانت الأُبُلَّةُ حينَئذٍ مَدِينَةً فيها مَسالِحُ من قِبَلِ كِسرَى ( 11 ) ( تأكيد العبارات بالخط الغامق هو من الباحث ) .
  ويضيف الزبيدي نقلا عن الأصمعي : والذي قالَهُ الأَصْمَعِيُ : جِنانُ الدّنْيا ثَلاثٌ : غُوطَةُ دِمَشْقَ ونَهْرُ بَلْخ ونَهْرُ الأُبُلَّةِ وحشُوش الدُّنْيا ثلاثَة : الأُبُلَّةُ وسِيرافُ وعُمانُ وقِيلَ : عُمانُ وأَرْدَبِيلُ وهِيتُ ونَهْرُ الأُبُلَّةِ هذا هو الضّارِبُ إِلى البَصْرَةِ حفره زِيادٌ وكان خالِدُ بنُ صَفْوانَ يَقُول : ما رَأَيْتُ أَرضًا مثلَ الأُبُلَّةِ مَسافَةً ولا أَغْذَى نُطْفَةً ولا أَوْطَأَ مَطِيَّةً ولا أَرْبَحَ لتاجِر ولا أَحْفى بعابِدٍ( 12 ) .. وفي رواية مماثلة لابن الأثير في الكامل يروي فيها قصة اختطاط البصرة ينقل لنا الراوي كلام الخليفة عمر مع بعض الاختلاف في التوصيف ، ولكنه من الاهمية بمكان لكشف طبيعة المنطقة التي عرفت فيما بعد بأرض البصرة ، يقول أبن الاثير: فبعث عمر عتبة بن غزوان ، قال له حين وجهه : يا عتبة ، إني قد استعملتك على أرض الهند ، وهي حومة من حومة العدو ، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها ويعينك عليها ، وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمي أن يمدك بعرفجة بن هرثمة ، وهو ذو مجاهدة ومكايدة للعدو، فإذا قدم عليك فاستشره وقربه وادع إلى الله ، فمن أجابك فاقبل منه ومن أبي فالجزية وإلا فالسيف في غير هوادة ، واتق الله فيما وليت ، وإياك أن تنازعك نفسك إلى كبر مما يفسد عليك إخوتك( 13 )( 14 ) ( تأكيد العبارات بالخط الغامق هو من الباحث ) ربما يُظن أن وصف الخليفة عمر السابق لأرض البصرة بأدنى مملكة العجم هو مفهوم عام لغير العرب وقد يشمل أجناس البشر الاخرى كما جاء في الاقتباس أعلاه على أنها أرض الهند ، وأن القوات العسكرية التي كانت تتواجد فيها هي قوات متعددة الأعراق ، لكن هذا الاعتقاد خاطيء وأن المقاتلين الذين كانوا يستولون على أرض الابلة كانوا من بلاد فارس وأن الاشارة للمكان على أنه أرض الهند دلالة على وجود العديد من الهنود في ذلك المكان لاعمال التجارة بل ووجود نشاط تجاري مع الصين كما توضحه الرواية الآتية : وكان نزوله (أي عتبه) البصرة في ربيع الأول أو الآخر سنة أربع عشرة . وقيل: إن البصرة مصرت سنة ستة عشرة بعد جلولاء وتكريت والحصنين، أرسله سعد إليها بأمر عمر . وإن عتبة لما نزل البصرة أقام نحو شهر فخرج إليه أهل الأبلة ، وكان بها خمسمائة أسوار يحمونها، وكانت مرفأ السفن من الصين ، فقاتلهم عتبة فهزمهم حتى دخلوا المدينة ، ورجع عتبة إلى عسكره ، وألقى الله الرعب في قلوب الفرس فخرجوا عن المدينة وحملوا ما خف وعبروا الماء وأخلوا المدينة ودخلها المسلمون فأصابوا متاعاً وسلاحاً وسبياً فاقتسموه وأخرج الخمس منه ، وكان المسلمون ثلاثمائة. وكان فتحها في رجب أو في شعبان . ثم نزل موضع مدينة الرزق وخط موضع المسجد وبناه بالقصب( 15 )( 16 ) ( تأكيد العبارات بالخط الغامق هو من الباحث ) تشير هذه الرواية بما لايقبل الشك الى أن المدينة كانت تشهد نشاطا تجاريا كبيرا وأن الأبلة كانت هي حاضرة المدينة بما لها من أسوار ومبان وممتلكات ورد ذكرها في مصادر كثيرة غير هذا المصدر ، وأن الذين كانوا يسيطرون على المدينة هم الفرس وهم الذين أُريدوا بلفظة الأعاجم وليس غيرهم من الأجناس الأخرى المتواجده في المدينة لإغراض التجارة أو المعيشة كالهنود والصينيين والماليزيين والزنج وغيرهم من الأعراق ، وبالإضافة الى الأهمية الجيوسياسية التي طبعت المدينة بطابعها الجديد ثمة مكتسبات أخرى ليست ببعيدة عن المدينة الناشئة تضيفها عوامل التنوع الذي توفرت عليه في الجانب الشرقي من المدينة حيث الحياة الحضرية الزاخرة وأعمال التجارة المزدهرة والأجواء الريفية التي تختلف اختلافاً جذريا عن طبيعة وتكوين البصرة التي تمثلت جغرافيا بالجانب الغربي من المدينة ، فكانت الأبلة تمثل النقيض لمدينة البصرة في أمور كثيرة منها :
  1 ـ اتسمت الأبلة بكثرة أنهارها وبساتينها وبكونها تمثل خطاً نهرياً مهما لنقل البضائع من الهند والصين ودول آسيا الأخرى الى العراق والشام وبلاد الروم وبعض الحواضر التي كان الفرس يسيطرون عليها. في حين أن البصرة كانت ذات مناخ صحراوي قليلة الماء والعشب ووسائل العيش فيها قليلة جدا إن لم تكن معدومة( 17 ) .
  2 ـ اتسم أهل الأبلة بتنوع أعراقهم وتعددها ومخالطتهم لكافة الاجناس واشتغالهم بالتجارة والزراعة وبيع الثمار والصيد, ولم يكن لديهم الكثير من المشاكل مع القوات الفارسية المسيطرة على المدينة ، أما الناس في معسكر البصرة فقد كانوا محاربين بامتياز ، وظيفتهم الاساسية هي حمل السيف والقتال وكانت حياتهم تعتمد على جني سيوفهم ، ولم يكن لديهم أفق التعايش مع الأعراق الأخرى بسبب قلة أو عدم وجود نقاط التقاء للمصالح الاجتماعية أو التجارية ، فهم غالبا من سكان جزيرة العرب تتسم حياتهم بالبداوة ، وقد ألفوا التقلب في الصحراء واعتادوا شظف العيش وقلة الموارد .
  3 ـ في الوقت الذي لم يكن فيه لإهل الأبلة ميل الى تبني عقيدة أو مذهب والعمل على نشره ، كان لمسلمي البصرة هدف يسعون الى ترسيخه ونشره سواء أكان عن إيمان به أم عن عصبية ، فقد كان الإسلام هو الناظم الوحيد الذي يجمع مصالحهم ويضمن نموهم وبقائهم ، أو لنقل بعبارة أُخرى أنهم أستعانوا بالاسلام كوسيلة للبقاء وحملوه كراية لحفظ كيانهم .
  4 ـ كانت الأبلة تتسم بالثراء في أنماطها الاجتماعية إذا ماقورنت بالبصرة الناشئة ، فكانت منازلها مبنية بالخشب أو اللبن وكان أهلها قد اعتادوا على طباع مختلفة تماما عن أهل الصحراء في ملبسهم ومأكلهم وممارساتهم الأخرى ، فعندما فتحها المسلمون وجدوا فيها آنية الذهب والخبز الأبيض ( خبز الحُوارَى )( 18 ) الذي لم يكن لهم به عهد ، ومقتنيات أخرى تنم عن بسطة في العيش وضرب مختلف من الحياة لم يكن مألوفا في بيئة الصحراء والبداوة .
  فإذا كانت البصرة قد أنشأت على أطلال مدن سالفه وفي منطقة تتسم بالنشاط التجاري الواسع وبثراء أهلها وتعدد أعراق ساكنيها وبخصوبة أرضها وكثرة بساتينها حتى نقل الأصمعي أنه سمع الرشيد يقول " نظَرنا فإذا كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة "( 19 ) ، فما هو تأريخ المدينة قبل لحظة التأسيس وما هي أهم السمات المميزة للمدينة؟ لكي لاننجرف في بحث تاريخي صرف يخرج في مداه وأهدافه عن أهداف البحث الحالي نورد بعض الشواهد التاريخية التي يمكن أن ترسم لنا صورة فيها شيء من الوضوح عن مدينة البصرة .
  إن للإمام علي بن أبي طالب مع البصرة وأهلها تاريخ حافل بالأحداث ومفعم بالخطوب ، وهناك الكثير من خطبه ورسائله التي جمعها الشريف الرضي في كتاب نهج البلاغة مايحمل قيمة تاريخية مهمة ، فبعد فراغه من خطبة له كان قد تنبأ فيها بغرق البصرة ودخولها في فتن كثيرة سأله الأشعث بن قيس مرة ومنذر بن الجارود مرة أخرى عن ميقات تلك الحوادث ومن هم أهلها فأجابهما الإمام علي عن أسئلتهما الى أن وصل الى المقام الآتي في رده على سؤال منذر بن الجارود: يا منذر إنّ للبصرة ثلاثة أسماء سوى البصرة في الزبر الأول لا يعلمها إلاّ العلماء: منها الخريبة ، ومنها تدمر ، ومنها المؤتفكة ، يا منذر والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لو أشاء لأخبرتكم بخراب العرصات عرصة عرصة متى تخرب ومتى تعمر بعد خرابها إلى يوم القيامة ، وإنّ عندي من ذلك علماً جمّاً وإن تسألوني تجدوني به عالماً لا أخطئ منه علماً ولا وافياً ، ولقد استودعت علم القرون الاُولى وما كائن إلى يوم القيامة( 20 ) .. (تأكيد العبارات بالخط الغامق هو من الباحث)
  تجمع المصادر التاريخية على أن البصرة كانت تسمى بالخريبة ، ولكنها تورد ايضا أسماء أخرى يترك تحقيق قيمتها التاريخية ودقتها مع ما أورده الإمام علي الى بحوث أخرى لوقوعها خارج منظور هذا البحث ، فقد جاء في موسوعة الإسلام في مبحث البصرة أن من المرجح أنها بنيت على أطلال مدينة طريدون القديمة , دريديتس (Diriditis) وأن من المؤكد أنها بنيت على أطلال مساكن فارسية كانت تسمى فاهيشتباذ أردشير( 21 ) ، وهناك إشارة يرجع تاريخها الى سنة 253 قبل الميلاد تفيد بإن نبوخذ نصر قد بنى بعض جنائنه المعلقة على بعد 200 ميل عن مدينة بابل في مدينة طريدون التي بناها في موقع يمكنها من صد غارات العرب(22) . بيد أن البصرة التي اختطها عتبة بن غزوان كانت تشكل مدينة جديدة من حيث تكوينها وعمارتها والكثير من وظائفها بل وحتى في طبيعتها الجغرافية والاجتماعية ، ولكن هدفها العسكري بقي أساسيا ومهما رغم أنها هذه المرة استخدمت من قبل العرب لشن غاراتهم على العراق وبلاد فارس وبلاد الشام .
  ورغم الصعوبات اللوجستية التي كانت تواجه الجيوش الاسلامية وأهمها شحة الماء وبعده عن معسكرهم وقساوة المناخ ، إلا أن أهمية الموقع من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية ذلل جميع تلك الصعوبات بل وحولها الى محاولات لايجاد حلول دائمة لجميع تلك التحديات ، وفي حادثة ذات دلالات بعيدة إشتكى الأحنف بن قيس الى عمر بن الخطاب التحديات التي كانت تواجه سكان المدينة الجديدة : فقال له عمر ألك حاجة فقال بلى يا أمير المؤمنين إن مفاتيح الخير بيد الله وإن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفة نزلنا أرضاً نشاشة لا يجف مرعاها ناحيتها من المشرق البحر الأجاج ومن جهة المغرب الفلاة والعجاج فليس لنا زرع ولا ضرع تأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مريء النعامة يخرج الرجل الضعيف فيستعذب الماء من فرسخين والمرأة كذلك فتربق ولدها تربق العنز تخاف بادرة العدو وأكل السبع فإلا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقوم هلكوا فألحق عمر ذراري أهل البصرة في العطاء وكتب أبي موسى يأمره أن يحفر لهم نهراً( 23 )... وهكذا أصبح لأهالي البصرة وذراريهم سهم في عطاء المسلمين ليستعينوا به على صعوبة التأقلم مع وضع المدينة الجديد وليدركوا الامتيازات التي تمتع بها غيرهم من العساكر الذين كانوا في أماكن أفضل من مكانهم ، ولكن البصرة سرعان ما أصبحت منطقة جذب للسكان بعد أن سمع المسلمون في الجزيرة وفي أطراف البصرة عما أصابه الجنود من غنائم في غزواتهم لفتح الأبلة وماحولها ، فعندما أرسل سعد بن أبي وقاص عتبة الى قتال أهل الأبلة وظفر الأخير بها وافتتحها وأحرز الفاتحون غنائم كثيرة وفد الناس الى البصرة راغبين في استيطانها .
  أرسـل سعد إليها عتبة فأقام بها شهرا وخرج إليه أهـل الابلة وكانت مرفأ للسفن من الصين فهزمهم عتبة وأحجرهم في المدينة ورجع إلى عسكره ورعب الفرس فخرجوا عن الابلة وحملوا ما خف وادخلوا المدينة وعبروا النهر ودخلها المسلمون فغنموا ما فيها واقتسموه ثم اختط البصرة وبدأ بالمسجد فبناه بالقصب وجمع لهم أهل دست ميان فلقيهم عتبة فهزمهم وأخذ مرزبانها أسيرا وأخذ قتادة منطقته فبعث بها إلى عمر وسأل عنهم فقيل له انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة فرغب الناس في البصرة وأتوها( 24 )... كانت السمة المميزة للجيوش الفاتحة المؤسسة هي البداوة وكان الكثير من أهل الأبلة وساكنيها هم من أهل المدر والحضر ، فلما فرغ عتبة من مقاتلة أهل الأبلة كتب اليه الخليفة عمر بن الخطاب يسأله فيمن استعمل على أهل البصرة : " فقال عمر لعتبة: من استعملت على البصرة؟ قال: مجاشع بن مسعود، قال: لاتستعمل رجلاً من أهل الوبر على أهل المدر؟ تدرى ما حدث! قال: لا ، فأخبره بما كان من أمر المغيرة ، وأمره أن يرجع إلى عمله ، فمات عتبة في الطريق ، واستعمل عمر المغيرة بن شعبة( 25 ) ، وهذا مؤشر واضح على أن مرحلة التأسيس الأولى قد أسست معها أختلافا طبقيا واجتماعيا تنبه اليه الخليفة الثاني منذ البداية وربما سيكون هذا الاختلاف الطبقي والاجتماعي سببا للكثير من الاشكالات والأزمات التي سيمر بها المجتمع البصري لاحقا ، ولكنه سيبقى ميزة من ميزات المجتمع البصري الى وقت متأخر في تاريخنا الحاضر .
  ففي عهد زياد بن أبيه في سنة 665 ميلادية (45 هجرية) قُسمت البصرة الى خمسة أقسام هم أهل العالية (سكان أعالي مناطق الحجاز) ، وتميم ، وبكر بن وائل, وعبد القيس ، والأزد . وأصبح هؤلاء القوم يمثلون الطبقة الارستقراطية ( طبقة المالكين) أما السكان الاصليين وكان عددهم قليل والمهاجرين الى المدينة من أصول أخرى كالهنود والماليزيين والزنج فقد أصبحوا موالي وعبيد لتلك القبائل( 26 ) .
فكيف أبتلعت مدينة البصرة التي نشأت لاحقا بطابع اجتماعي وثقافي مختلف مدينة حاضرة لها ثقافتها وثقلها هي مدينة الأبلة؟ وكيف قُدر لمقومات البداوة التي درجت على جدب العيش وشظفه أن تكتسح طباع المدنية والتعددية التي كانت سائدة في جانب الأبلة؟ أم أنهما امتزجا طوعا وأنتجا ثقافة جديدة أخرى تحمل كل تلك الأنماط السالفة والأخرى المكتسبة؟ وهذا التباين الواضح بين الثقافتين سنجده في مصادر تاريخية كثيرة يرسخ معظمها أنه كان ثمة وجهان ثقافيان لمجتمع البصرة يتمثلان في الواقع الجغرافي كأوضح دلالة على الأختلاف ، وأنهما قد بقيا الى وقت متأخر في القرن التاسع عشر الميلادي يسهل تمييزهما بوصفهما جانبين ثقافيين من جوانب المدينة :
  1 ـ الجانب الأول هو الجانب الغربي الممتد من جزيرة العرب باتجاه الجنوب الغربي من المدينة وسكانه يغلب عليهم طابع البداوة وهم العساكر الاسلامية التي شكلت فيما بعد نواة مدينة البصرة وهم الذين كانوا مادة الاحداث الدراماتيكية التي ألمت بالمدينة في فترات الخلافة المتعاقبة.
  2 ـ الجانب الثاني هو الجانب الشرقي ذو الطابع الريفي وهم الذين غلبت عليهم صفات التعددية والمدنية ، وهم الذين مارسوا التجارة والتفاعل مع الشعوب والاجناس الاخرى.
  على أن المؤرخين والرحالة الذين كتبوا عن تاريخ البصرة فيما بعد لم يحددوا ملامح الهوية الثقافية (بل وحتى المدنية والاجتماعية) الجديدة التي نشأت لاحقاً ، فنجدهم مرة يُلحقون الأبلة بالبصرة بوصفها أحد أعمالها وجزء مكون منها وتارة يتحدثون عن الأبلة وماحولها بوصفها بلدة مستقلة تضاهي البصرة في حجمها وأهميتها ، وعلى ذلك يمكن أن تنسحب جميع الدلالات الأخرى .
  فإن كانت الأبلة جزءً من البصرة فهذا يعني أن ثقافة المدينة الجديدة التي كانت يوما ما ثقافة باطنية وافدة ، أصبحت هي المهيمنة والأساسية وتحولت الثقافة الأصلية الى ثقافة باطنية ثانوية. وإن كان ثمة تساوٍ في الأهمية فهذا يعني أن الثقافتان كانتا تتنافسان على موقع الهيمنة والصدارة وأن مقومات بقاء أي منهما تتيح لهما الاستمرار والانتاج .
  ولنأخذ بعض الشواهد التاريخية التي تدل على ان ثقافة البصرة الجديدة قد هيمنت على الثقافة الأصيلة وحولتها الى تابع سواء على مستوى المدينة بكل ابعادها المادية أم على مستوى ساكنيها ، يورد المقدسي البشاري صاحب كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم مايلي : وأما البصرة فمن مدنها: الأبلة ، شق عثمان ، زبان ، بدران ، بيان ، نهر الملك دبا ، نهر الامير أبو الخصيب ، سليمانان ، عبادان ، المطوعة ، والقندل ، المفتح ، الجعفرية... ج1 - ص39 ، فهاهو قد جعل الأبلة مدينة من مدن البصرة ، وأصبحت البصرة هي المدينة الحاضنة للمدن الأخرى وهي بالتأكيد ستكون الثقافة الحاضنة للثقافات الأخرى .
  وتبعه على ذلك القزويني صاحب كتاب آثار البلاد وأخبار العباد حيث يقول في وصف الأبلة: كورة بالبصرة طيبة جداً ، نضرة الأشجار متجاوبة الأطيار متدفقة الأنهار ، مؤنقة الرياض والأزهار ، لا تقع الشمس على كثير من أراضيها ، ولا تبين القرى من خلال أشجارها ، قالوا: جنان الدنيا أربع : أبلة البصرة ، وغوطة دمشق ، وصغد سمرقند ، وشعب بوان . ج1. ص114 ، أما المسعودي الذي كتب كتابه مروج الذهب في البصرة فلم يجد بداً من جمع الأسمين معا لتجاوز مشكلة التسمية الدقيقة : وللبصرة أنها ركبار : مثل نهر شيرين ، ونهر الرس ، ونهر ابن عمر ، وكذلك ببلاد الأهواز فيما بينها وبين بلاد البصرة ، أعرضنا عن ذكر ذلك ، إذ كنا قد تَقَصَّيْنَا الأخبار عنها وأخبار منتهى بحر فارس ألى بلاد البصرة والأبلة وخبر الموضع المعروف بالجرارة وهي دجلة من البحر إلى البر تقرب من نحو بلاد الأبلة، ومن أجلها ملح الأكثر من أنهار البصرة ولهذه الجرارة اتخذت الخشبات في فم البحر مما يلي الأبلة وعَبَادَان ، عليها اناس يوقدون النار بالليل على خشبات ثلاث كالكرسي في جوف الليل خوفاً على المراكب الواردة من عمان وسيراف وغيرها أن تقع في تلك الجرارة وغيرها ، فتعطب ، فلا يكون لها خلاص ، وقد ذكرنا ذلك فيما سلف من كتبنا ، وهذه الديار عجيبة في مصبات مياهها واتصال البحر بها ، واللّه أعلم . ج1 ـ ص39 ، فهو يسميها مرة بلاد البصرة وتارة بلاد الأبلة وأخرى بلاد البصرة والأبلة .
  ومن الواضح أنه عندما يقول بلاد البصرة فهو يعني البصرة بأكملها بما في ذلك الأبلة لأنه عندما يصف الأنهار فهو يصف تلك التي تقع خارج المساحة الجغرافية للبصرة التي اختطها عتبة بن غزوان ، غير أن هذا المفهوم بدأ يتسع بمرور الزمن ولم يكن ينطبق على حال البصرة في زمن الإمام علي بن أبي طالب (أي في القرن الأول الهجري) ، لإن الإمام عندما كان يخاطب أهل البصرة كان يعني سكان معسكر المسلمين الذين ناهضوه فيما بعد في حرب الجمل لأنه كان يشير الى ماؤهم الزعاق وإلى واقعة الجمل وإلى مسجدهم الجامع وهذا يجعل دلالة المكان محصورة بالموقع الجغرافي الذي بني على أطلال الخريبة أو طريدون .
  باتت البصرة تتأثر مباشرة بتأثر موقع الخلافة ومايعتريه من أزمات ، واصبحت تتقاسمها الولاءات السياسية والدينية ، أما نشاطاتها المدنية الأخرى فكانت تسير بشكل متذبذب بين الصعود الكبير والتردي الكبير ايضا ، وفي جميع الاحوال كان أهل البصرة وساكنيها مصدراً لاختلاف المواقف بين الرفض والقبول لدى الولاة أو القادة أوالسياسيين ، فقد تفاوت وصفهم واختُلف في أمرهم ، وهذا نتاج طبيعي لاختلاف مذاهب وتوجهات أهلها ، ولكن هل ثمة مايميز أهلها عمن سواهم؟ هل ثمة خصائص ثقافية متفردة؟ أشرنا سلفا الى أننا لسنا في صدد بحث تأريخي سواء أكان يؤرخ للوقائع والأحدات أو حتى للحركات الثقافية ونشوئها ، على الرغم من أن التحول الثقافي والهوية الثقافية هما من محاور اهتمام البحث ولكن ذلك لن يكون برصد تلك التحولات على مر التاريخ ، بل ينصب البحث على استخلاص الجوانب الثقافية الأبرز لتحديد الهوية الثقافية للمدينة .
  سبق وأن أشرنا الى أن خطب الامام علي ستكون ذات دلالات مهمة في تشكيل بعض جوانب الذاكرة التقافية لمدينة البصرة ، ومن أبرز تلك السمات التي رصدها الكثيرون متناقضات جمه ليس أولها طبيعتها البيئية ولا آخرها طبائع أهلها ، فالبصرة عندما أصبحت مصرا من أمصار المسلمين وأحتوت في رقعتها الحواضر المجاورة وأبرزها الأبلة كانت تتسم ببيئتين متناقضتين الصحراوية البدوية والريفية الحضرية ، وكذلك تناقضت طبائع أهلها وصفاتهم ، ومن المفارقات المحزنة أن ولادة مدينة البصرة قد حملت في رحمها نذر الخراب والدمار .
  فربما باستثناء أورشليم وبعض المدن القليلة في النبؤات التوراتية تعد البصرة المدينة الوحيدة التي تنتظر خرابها المحتوم. فهي بشرت بالويل والخراب منذ لحظة تأسيسها الأولى ( حتى قالت العرب مشيرة الى عدم جدوى الندم بعد فوات الأوان : بعد خراب البصرة؟ ) ، في الخطبة التالية من خطب الإمام علي يتجلى موقفه من أهل البصرة ابتداء : روى كمال الدين ميثم البحراني مرسلا: أنه لما فرغ أمير المؤمنين (عليه السلام) من أمر الحرب لأهل الجمل ، أمر منادياً ينادي في أهل البصرة إن الصلاة الجامعة لثلاثة أيام من غد إن شاء الله ولا عذر لمن تخلف إلاّ من حجة أو علة فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا ، فلما كان اليوم الذي اجتمعوا فيه ، خرج (عليه السلام) فصلى بالناس الغداة في المسجد الجامع ، فلما قضى صلاته قام فاسند ظهره إلى حائط القبلة عن يمين المصلى فخطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله) واستغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ثم قال: ياأهل البصرة ، إن الله لم يجعل لأحد من أمصار المسلمين خطة شرف ولا كرم إلاّ وقد جعل فيكم أفضل ذلك وزادكم من فضله بمنه ما ليس لهم، أنتم أقوم الناس قبلة ، قبلتكم على المقام حيث يقوم الامام بمكة ، وقارؤكم أقرأ الناس ، وزاهدكم أزهد الناس ، وعابدكم أعبد الناس ، وتاجركم أتجر الناس ، وأصدقكم في تجارته ، ومتصدقكم أكرم الناس صدقة ، وغنيكم أشد الناس بذلا وتواضعاً ، وشريفكم أحسن الناس خلقاً ، وأنتم أكرم الناس جواراً وأقلهم تكلفاً لما لا يعنيه ، وأحرصهم على الصلاة جماعة ، ثمرتكم أكثر الثمار ، وأموالكم أكثر الأموال ، وصغاركم أكيس الأولاد ، ونساؤكم أقنع الناس وأحسنهن تبعلا ، سخر لكم الماء يغدو عليكم ويروح صلاحاً لمعاشكم ، والبحر سبباً لكثرة أموالكم ، فلو صبرتم واستقمتم لكانت شجرة طوبى لكم مقبلا وظلا ظليلا( 27 ) ، بيد أن هذا المدح قد سبقه أو تلاه ذم .
  ويقول بعض الرواة أنه جاء في الخطبة ذاتها بعد انصرافه من حرب الجمل: ياأهل البصرة ، وياأهل المؤتفكة ، ياجند المرأة وأتباع البهيمة ، رغا فاًجبتم، وعُقِر فهربتم ، ماؤكم زعاق ، وأحلامكم رِقاق ، وفيكم ختم النفاق ، ولعنتم على لسان سبعين نبياً ، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبرني أن جبرئيل (عليه السلام) أخبره أنه طوى له الأرض فرأى البصرة أقرب الأرضين من الماء وأبعدها من السماء، وفيها تسعة أعشار الشر والداء العضال ، المقيم فيها مذنب ، والخارج منها متدارك برحمة ، وقد ائتفكت بأهلها مرتين، وعلى الله تمام الثالثة ، وتمام الثالثة في الرجعة( 28 ) . وتناقض صفات أهل البصرة الواردة في خطبة الإمام علي لا يدل على تناقض قول الإمام بل انه كان يصف حال الناس في هذه المدينة بشكل دقيق, فقد كان الناس فيها يمثلون طرفي نقيض في طباعهم كما كانت مدينتهم تمثل طرفي النقيض في بيئتها .
  وصورة الخراب الموعود التي تشكلت في ذاكرة البصريين بدت مركزة وشديدة في خطب الإمام علي ولعل تلك الخطب كانت المصدر الوحيد الذي انبأ بخراب المدينة والذي رسخ هذا المفهوم في أذهان أهلها ، فمن غير علي بن أبي طالب بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) يستطيع الزعم بأنه على علم بحوادث المستقبل ويخبر كما لو كان شاهدا على ذلك أن مدينة حديثة النشوء ينتظرها أشكال الفتن والخراب؟ وهذه بعض الروايات التي تدل بوضوح على عمق فكرة الخراب التي حُفرت في الذاكرة الثقافية لمدينة البصرة .
  عن علي (عليه السلام) أنه قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال يوماً: وليس معه غيري: ياعلي إن جبرئيل الروح الأمين حملني على منكبه الأيمن حتى أراني الأرض ومن عليها ، وأعطاني أقاليدها وعلمني ما فيها وما قد كان على ظهرها وما يكون إلى يوم القيامة ولم يكبر ذلك عليّ كما لم يكبر على أبي آدم ، علّمه الأسماء ولم يعلّمه الملائكة المقربون، واني رأيت بقعة على شاطىء البحر تسمى البصرة فاذا هي أبعد الأرض من السماء وأقربها من الماء ، وانها لأسرع الأرض خراباً وأخبثها تراباً وأشدها عذاباً ، ولقد خسف بها في القرون الخالية مرارا ً، وليأتين عليها زمان، وإن لكم ياأهل البصرة وما حولكم من القرى من الماء ليوماً عظيماً بلاؤه ، واني لأعرف موضع منفجرة من قريتكم هذه ، ثم اُمور قبل ذلك تدهمكم عظيمة أخفيت عنكم وعلمناها ، فمن خرج عنها عند دنو غرقها فبرحمة الله سبقت له، ومن بقي فيها غير مرابط بها فبذنبه وما لله بظلام للعبيد( 29 ) .
  وكانت صورة الخراب تتمثل في الغرق مرة وفي الحروب والفتن تارة أخرى. إذ أنبأ الإمام علي عن وقوع حوادث مهولة وجد كثير من المؤرخين أن معظمها قد وقع بعد عشرات أو مئات السنين من حكم الإمام علي ، وهذه صورة أخرى من الخراب المنتظر تجسدت في ثورة الزنج, والبرامكة وغزو التتار وفتن أخرى ألمت بالبصرة فأعاقت نمو المدينة وتقدمها وكانت في كل مرة ترجع بها الى الوراء وتفقدها جزء أساسيا من مقوماتها وقدراتها. ففي هذه الرواية نقرأ بعض التفصيل لحادثة الغرق: في فصل يتضمّن حال غرق البصرة ، فعند فراغه (عليه السلام) من ذلك الفصل ، قام إليه الأحنف بن قيس فقال له: يا أمير المؤمنين ومتى يكون ذلك؟ قال: يا أبا بحر إنّك لن تدرك ذلك الزمان وإنّ بينك وبينه لقروناً ولكن ليبلغ الشاهد منكم الغائب عنكم، لكي يبلّغوا اخوانهم إذا هم رأوا البصرة قد تحوّلت أخصاصها دوراً وآجامها قصوراً ، فالهرب الهرب ، فإنهّ لا بصيرة لكم يومئذ ، ثمّ التفت عن يمينه فقال: كم بينكم وبين الإبلّة؟ فقال له المنذر بن الجارود: فداك أبي واُمّي أربعة فراسخ ، قال له: صدقت فوالذي بعث محمّداً وأكرمه بالنبوّة وخصّه بالرسالة وعجّل بروحه الى الجنّة ، لقد سمعت منه كما تسمعون منّي ، أن قال: يا علي هل علمت أنّ بين التي تسمّى البصرة والتي تسمّى الإبلّة أربعة فراسخ ، وقد يكون في التي تسمّى الإبلّة موضع أصحاب القشور ، يقتل في ذلك الموضع من اُمّتي سبعون ألفاً ، شهيدهم يومئذ بمنزلة شهداء بدر ، فقال له المنذر: يا أمير المؤمنين ومَن يقتلهم فداك أبي واُمّي؟ قال: يقتلهم اخوان الجنّ ، وهم أجيل كأنّهم الشياطين ، سود ألوانهم ، منتنة أرواحهم ، شديد كلبهم ، قليل سلبهم ، طوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه ، ينفر لجهادهم في ذلك الزمان قوم هم أذلّة عند المتكبّرين من أهل ذلك الزمان مجهولون في الأرض معروفون في السماء ، تبكي عليهم السماء وسكّانها والأرض وسكّانها .
  ثمّ هملت عيناه بالبكاء ، ثمّ قال : ويحك يا بصرة ويلك يا بصرة من جيش لا رهج له ولا حسّ ، قال له المنذر: يا أمير المؤمنين وما الذي يصيبهم من قبل الغرق مما ذكرت ، وما الويح وما الويل؟ فقال: هما بابان: فالويح باب الرّحمة ، والويل باب العذاب ، يا ابن الجارود نعم ثارات عظيمة منها عصبة يقتل بعضها بعضاً ، ومنها فتنة تكون بها خراب منازل وخراب ديار وانتهاك أموال وقتل رجال وسبي نساء يذبحن ذبحاً ، يا ويل أمرهنّ حديث عجب: منها أن يستحلّ بها الدجّال الأكبر الأعور الممسوح العين اليمنى والاُخرى كأنّهنّ ممزوجة بالدم لكأنّهما في الحمرة علقة ، نأتئ الحدقة كهيئة حبّة العنب الطافية على الماء ، فيتبعه من أهلها عدّة، من قتل بالإبلّة من الشهداء أناجيلهم في صدورهم ، يقتل من يقتل ويهرب من يهرب، ثمّ رجف ثمّ قذف ثمّ خسف ثمّ مسخ ثمّ الجوع الأغبر (الأكبر) ثمّ الموت الأحمر وهو الغرق( 30 ) .
وهناك إشارة في بداية هذه الخطبة الى أن منازل المسلمين التي أنشأت باديء الأمر في البصرة إنما كانت من الأخصاص والقصب وقد بنيت فيما بعد بوقت طويل باللبن وأنشأت فيها بعض القصور والدور المزخرفة حتى عمرت سككها وأصبحت مدينة ذات مقومات متكاملة في ذلك الوقت كما سنقرأ في الرواية الآتية وفيها أيضا إشارات الى ثورة الزنج .
أخبر علي (عليه السلام) عن هلاك البصرة بالزنج ، فقال مخاطباً الأحنف بن قيس: يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لَجَبٌ ولا قعقعة لُجُم ولا حمحمة خيل ، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام ، ويل لسككم العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور ، وخراطيم كخراطيم الفيلة ، من اُولئك الذين لا يندب قتيلهم ولا يُفقد غائبهم ، أنا كابّ الدنيا لوجهها وقادرها بقدرها وناظرها بعينها( 31 ) .
  وكان هناك خراب آخر على أيدي التتار: أخبر علي (عليه السلام) عن هلاك البصرة بالتتر ، فقال: كأنّي أراهم قوماً كأنّ وجوههم المِـجّانُ المُطرقة يلبسون السَرَقَ والديباج ، ويعتقبون الخيل العِتاق ، ويكون هناك استحرار قتل حتّى يمشي المجروح على المقتول ، ويكون المُفلِت أقلّ من المأسور( 32 ) .
  ربما لم يكن لهذه الروايات تأثير قبل وقوع تلك الأحداث في ذاكرة البصريين ، وأن التركيز عليها كان من لدن الموالين لعلي بن أبي طالب ليؤكدوا أن الإمام كان مطلعا على كثير من الوقائع والأحداث المستقبلية عن طريق النبي محمد(صلى الله عليه وآله) ، لكن هذه الذاكرة لاريب ترسخت بشكل أو بآخر لدى الموالين والمخالفين لعلي بن أبي طالب ، وهذا التركيز على شخصية الإمام علي وتعاطيه مع أهل البصرة لم يأت جزافا. فواحدة من السمات الثقافية الفاعلة التي ستبقى مؤثرة حتى يومنا هذا هو اختلاف البصريين في ولائهم لعلي بن أبي طالب ، ففي الوقت الذي نرى فيه أن من عيون أهل البصرة وخاصتهم من كان شديد الولاء والحب لعلي بن أبي طالب كالفراهيدي وأبي الأسود الدؤلي وغيرهم كثير نرى أن أحد الذين التقوا بالإمام علي في عصره أخبره بأنه جاء من مدينة لم يجد لعلي فيها محبا وكان يعني البصرة( 33 ) ، وفي الوقت الذي يبذل فيه بعض المؤرخين جهدهم على أن يثبتوا أن مدينة البصرة هي مدينة سنية أصلا يسعى كتاب آخرون لإثبات أن هويتها شيعية دون ريب( 34 ) .
  إذا فجميع هذه الملامح الثقافية التي رافقت نشوء البصرة تعد من السمات المميزة لهوية المدينة وستبقى تتفاعل فيها على مدى تاريخها ، ولكي نجمل تلك السمات المهيمنة التي تحدثنا عنها نقول بإن البصرة بوصفها مدينة كبيرة إتصفت منذ تأسيسها بما يلي ( على أن هذه الصفات هي ليست جميع صفات المدينة وأهلها ولكنها الأبرز ) :
  1 ـ التنوع العرقي والديني والتعددية القومية و الثراء الاجتماعي والفكري والثقافي .
  2 ـ جمع المتناقضات والصفات المتباينة بيئيا واجتماعيا .
  3 ـ تعدد الولاءات واختلافها .
  4 ـ الأهمية الجغرافية والإقتصادية .
  كان الغرض من هذا القسم الذي أسميناه البصرة بوصفها حاضنة ثقافية هو إيراد لمحة بانورامية سريعة عن لحظة تكوين البصرة وجملة الاهداف والوظائف التي أريدت منها ، وكيف أنها نشأت كثقافة باطنية في رحم ثقافة أخرى سبقتها ، وكيف أن هوية الثقافة الباطنية هي التي غلبت فيما بعد وطبعت المدينة بأكملها بطابعها الجديد ، ولاحظنا بوضوح أن الثقافة الاصيلة للمدينة بقيت تحتفظ بخصائصها الأقوى ، وبعبارة أخرى فأن الجهد العسكري الذي اريد منه افتتاح المدينة والانطلاق بالفتح الاسلامي منها الى المدن الاخرى اضمحل فيما بعد ليفسح المجال الى الخصائص الثقافية الأصيلة المتمثلة في النشاط الاقتصادي والفكري والتعايش والتعددية بجميع اشكالها ، ويمككنا ان نستنتج أن لروح المكان بكل تجلياتها الجغرافية والبيئية والاجتماعية وما إلى ذلك تأثير على طغيان سمات ثقافية ما حتى وإن غابت في مرحلة زمنية معينة ما تلبث أن تعود في مراحل أخرى .
  وقبل أن ننتقل سريعا الى صورة البصرة في التاريخ الحديث لابد أن نشير الى أن البصرة ضمن التاريخ الاسلامي قد لعبت دورا رياديا في كثير من المضامير وأنها شهدت وقائع تاريخية مهمة ساهمت بعمق في تشكيل الهوية الثقافية، غير أننا لا نستطيع في بحث مثل هذا أن نغطي جميع تلك الحقب التاريخية المهمة ولا نستطيع أيضا أن نحلل ما طرأ على ثقافة المدينة وتكوينها الاجتماعي .
  ولكننا اعتمدنا على المنهج الآتي في فهم التطور الذي حصل ، وهو أننا تتبعنا لحظة التأسيس وتشكل الثقافة وسنتتبع ما آلت اليه المدينة في التاريخ الحديث وهل أن هناك الكثير من المتغيرات والملامح التي استجدت أم أن البصرة بقيت محافظة على شكلها الثقافي الذي اكتسبته وقتئذ .
  لو تأملنا فيما كتب عن البصرة من حيث القيمة التاريخية لوجدنا أن كثيرا مما كتب شأنه شأن التاريخ عموما وشأن تاريخ الاسلام والعرب خصوصا يقع تحت تأثير السلطة السياسية ويخدم أغراضها في أحيان كثيرة ، وليس أدعى للاستغراب من ان نجد كتابين كتبا في عصر واحد عن موضوع واحد وفي ظل الظروف السياسية ذاتها يحملان معلومات متناقضة ، بل ويتعدى الامر الى أن كاتبا واحدا يدرج ضمن كتاب واحد معلومات متناقضة ويوضح بجلاء تحيزه السياسي والطائفي والاجتماعي ومدى تأثير ذلك كله على قيمة الكتاب المعرفية .
  ولنأخذ مثلا أحد الكتب المتأخرة التي كتبها عن البصرة رجل متصل بها بوشائج كثيرة وعلى معرفة بأحوالها كما يتضح من كتابه ، ولكن لنرى أمثلة على عدم دقته وعدم موضوعيته ، الكاتب هو "العلامة إبراهيم فصيح بن السيد صبغة الله بن الحيدري البغدادي" والكتاب يحمل عنوان "عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد" المكتوب سنة 1286هـ ( حوالي 1885م)( 35 ) .
  ولنستعرض بعضا من توصيفاته لإحوال مدينة البصرة عند زيارته للمدينة ومعايشته لواقعها عن كثب ، منذ البداية يعلن الكاتب عن انتمائه الفكري والمذهبي ويعمل على ابعاد الآخر أو فرزه . وهذه بعض الشواهد .

1 ـ الميول الطائفية:
  "وأهل البصرة والجنوب( 36 ) من أهل السنة والجماعة ، على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه ، وأما سكنة شط العرب فهم رفضة . والرفضة الذين في البصرة ليسوا من أهل البصرة ، بل من العجم والبحرين وبعض أهل البادية من شط العرب . وغيرهم ممن ترفض ، فإن كان بصري الأصل سُنيّ ، وكذا كل جنوبي سُني ّ. وترفض أهل شط العرب وغيرهم من نواحي البصرة إنما هو لعدم العلماء في البصرة ونواحيها( 37 ) . "وأما الجنوب. ففيه بعض من يقرأ مقداراً من فقه الشافعية ، ولذا لم تعترهم شائبة الرفض ، بل هم أهل ديانة وكرم ومكانة . وأما قصبة سيدنا الزبير رضي الله عنه ، قرب البصرة وهي في الاصل من محاليل البصرة القديمة ، فأهلها كلهم من أهـل السُنة والجماعـة ، على مذهـب الإمـام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه( 38 ) .
يعمل الكاتب اولا على تقسيم البصرة الى قسمين ويرجع بنا الى لحظة تأسيس البصرة الأولى ليستعين بجغرافيا المدينة في التعاطي مع واقعها الثقافي والاجتماعي .
فعندما يقول أهل البصرة والجنوب فهو يعني بالضبط المكان الذي أسس فيه عتبة بن غزوان البصرة (قصبة الزبير) مع الأخذ بعين الاعتبار بعض التغيرات الجغرافية الطفيفة ويعطيه صبغة الانتماء الى المذهب السني ، ثم نرجع الى الشق الثاني من التقسيم الذي يسميه الكاتب بسكنة شط العرب وهو أيضا جغرافيا منطقة الأبلة القديمة وامتداداتها ، فيعطيه الكاتب دون أدنى تردد صفة الرفض وهي صفة تلصق بالشيعة على اختلاف مشاربهم ، ومن الظريف أن يصرح الكاتب بإن شيعة البصرة هم ليسوا من أهل البصرة ويحيلهم الى بلدان أخرى( 39 ) .
  ثم يقرر الكاتب صفة ثقافية مهمة وبطريقة جزافية وهي أن أي بصري يجب أن يكون سنيا وإلا فهو ليس ببصري ، ثم يعود الكاتب ليناقض نفسه بقوله أن ترفض هؤلاء هو بسبب إنعدام العلماء وقد قال سلفا أنه بسبب إنتماءاتهم العرقية .
  وعلى أي حال فهذا أنموذج لإحدى الكتابات المتأخرة توضح لنا وعي الكاتب (غير المخطط له ربما) في رسم صورة ثقافية للمدينة كما يشتهيها هو ، ولكنه عندما أراد ذلك أخذ يؤشر على نقاط أساسية هي التنوع والتعددية والاختلاف المذهبي الذي يتمثل كذلك في الاختلاف البيئي والجغرافي .

2 ـ الميول السياسية والمحاباة :
  " فلم يستقر وزير في بغداد مدة, بل كان بعضهم يقتل بعضاً الى أن ولى الوزير العلامة الكامل المهاب ، داود باشا رحمه الله تعالى ، فحكم فيها خمس عشرة سنة ، وقتل كثيرا من أهل الفساد ، فاستقر أمره ، وزادت بغداد في وقته علما وفضلا وعمارة وكان كثير الاحترام لأهل العلم على سيرة المرحوم سليمان باشا المشار اليه ، إلا أنه في آخر أيامه ازداد طمعه في أموال الرعايا ، وساءت سيرته معهم . وأما عصيانه على الدولة العلية ، فلم يكن حقيقة ، .... وكان له على أبي وجدي من الأيادي والنعم ما لايحصى ...."( 40 ) .

3 ـ جمع المتناقضات :
 " وأهلها (ربما يعني البصرة من جهة شط العرب ) في غاية السكانة والبلاهة بمنزلة الانعام ، توارد كثير من المتصرفين الى البصرة وظلموا أهلها وأخذوا منهم أموالاً كثيرة لا تحصى ، ولا سيما الملعون سليمان بك ، ولم يشتك أحد منهم حاله الى والي بغداد ... "( 41 ) .
  " وبالجملة ، أن أهل الجنوب من أهل البصرة من أكرم الناس، ومن ذوي الطبائع السليمة والأخلاق السهلة الانيسة ، الغريب لديهم مكرم والنزيل عندهم محترم ، أمارة النجابة العربية عليهم ظاهرة ، ودلائل الشيم العربية عليهم باهرة ، ان أُذوا تحملوا ، وأن كلفوا بما لاطاقة لهم به قبلوا ، وان غُدروا سامحوا ، وأن ظلموا سكتوا ، الاحتيال لديهم مفقود ، وصفاء الخاطر فيهم موجود ، وأني قد درت أكثر البلاد المحروسة ، ووقفت على محالها المندرسة والمأنوسة ، فلم أجد أُناسا كالجنوب من أهل البصرة في تلك الطريقة ، فهذا حال من هو من أهلها لا مجازا بل على الحقيقة( 42 ) .
  وهذان الاقتباسان لا يحتاجان الى تعليق طويل ، فأحدهما يصف حال جزء من سكان البصرة والآخر يصف حال الجزء الآخر وأحدهما يناقض الآخر أو يخالفه على الأقل ، وهذا أيضا مما يؤكد أن طباع الناس في هذه المدينة غالبا ماكانت تشكل طرفي نقيض في صفاتها وتلقيها من قبل الوافد أو الراصد ، ولكن التوصيف يعتمد بشدة على موقف الواصف وزاوية نظره .

4 ـ الثراء والتنوع البيئي وتعدد الموارد .
 "قال بعض المؤرخين: بناها المسلمون على عهد الصحابة رضي الله عنهم ، في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ثم خطها وبناها ، وساق اليها سبعين الف بيت من أشراف العرب ، من سكان البادية وأسكنهم فيها ، وهي بلدة عظيمة عامرة قرب البحر ، كثيرة النخيل والاشجار والانهار ، ملحة الماء ، سبخة التراب كان فيها خلق لا يحصي عددهم الا الله تعالى ، وأحصى من كان فيها من المساكن ، فكان مائة الف وستون الف ، وأحصيت مساجدها فكانت مائة وسبعة عشر الف ، وفيها نخيل وبساتين متصلة نيف وخمسون فرسخا, كأنها غرست في يوم واحد ، وأحصيت أنهارها فكانت مائة وعشرين ألفاً ، منها مايجري فيه الزورق ومن عجائبها أنك لو التمست ذبابة واحدة على رطبها في البساتين ، أو معاصرها ما وجدتها, وكذلك الغربان ، لا توجد فيها ، فلا تجد غرابا ساقطا على نخلة من نخيلها ، في جميع الدهر ، وأني قد أمعنت النظر في خروجي الى الجنوب ، وقت التمر فلك (هكذا في الاصل والصحيح فلم) أجد ذباباً ولا غراباً"( 43 ) .
  ولئن كان هذا الوصف يبدو مبالغا فيه من ناحية الارقام والحقائق ، فإن من المصادر ما يورد أكثر من ذلك . ولم يحسم النقاش بعد حتى يومنا هذا فيما إذا كانت مدينة البصرة وماحولها هي جنة عدن التي هبط فيها آدم وأنها هي الموصوفة في الزبر الأولى على أنها مسرح قصة غواية آدم أم لا .

الهوامش
  1 ـ المقصود بهذا المفهوم هو مجموعة أو مجاميع من الناس لهم ثقافتهم الخاصة التي يميزها اختلافهم العرقي أو الديني أو الفكري ولهم مصالحهم الخاصة ضمن حاضنة ثقافية أخرى لها مايميزها أيضا ، وربما تشكل تلك المجاميع أقليات أو أنها تتواجد بصورة متكافئة ضمن الثقافة الحاضنة ، كالمسيحيين واليهود والصابئة الذين عاشوا ومازال بعضهم يعيش في البصرة ، أو ثقافة الجيوش العربية التي مصرت البصرة بإزاء ثقافة المنطقة الأصيلة المتمثلة في أهل الأبلة .
  2 ـ الذي أقصده بالمستثمر الثقافي هو المستثمر الذي يعمل على الاستثمار في القطاعات المعرفية والثقافية والفكرية ، وهي ما يسمى حديثا بالقوة الناعمة (soft power) ، والبصرة من أهم المدن التي يمكن ان تستثمر فيها قطاعات التعليم والتكنولوجيا والإتصالات بسبب عمق المدينة الثقافي وموقعها الجغرافي وإمكاناتها الاقتصادية والقوة البشرية المتوفرة فيها .
  فمثلا المهرجانات الثقافية كالمربد والسياب يمكن ان تشكل احداثا سنوية تعود على المحافظة بريع اقتصادي واستثماري كبير ، ويمكن أن تؤسس فيها مدينة تاريخية ترفيهية كبيرة مستوحاة من قصص السندباد الذي أطبقت شهرتها العالم منذ مئات السنين وحتى يومنا هذا ، وكذلك يمكن إعادة تأسيس مدرسة للكلام واللغة والنحو تتبنى مناهج عالمية وتتوفر على إمكانات علمية كبيرة تعيد للمدينة مكانتها التي اضطلعت بها منذ تأسيسها بوصفها حاضنة لإول مدارس علم الكلام واللغة والعروض والصوت ، فضلا عن العلوم الاخرى كالفيزياء والرياضيات والفلك .
  3 أنظر ـ ((Culture in Barnard ، Alan and Jonathan Spencer: Encyclopedia of Social and Cultural Anthropology ، 1996
  4 ـ Edward Burnett Tylor 'The Science of Culture' in Morton H. Fried's Readings in Anthropology. (2nd ed) ، 1968
 5 ـ لإن مدينة البصرة الحالية هي ليست المدينة التاريخية التي اختطها عتبة بن غزوان بأمر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، حيث كانت البصرة القديمة تقع على بعد ثمانية أميال (13 كلم) من مايسمى حاليا بقضاء الزبير في الجانب الجنوب غربي من المحافظة الحالية .
  6 ـ ورد هذا التاريخ كذلك في موسوعة الاسلام (Encyclopaedia of Islam ) ولكن في الموسوعة البريطانية ذكر تاريخ تأسيس البصرة على أنه في 638 ميلادية .
  7 ـ إبن الاثير ، أسد الغابة ، الجزء 2 ، ص240
  8 ـ ويجب أن نميز هنا بين الدولة العربية المتمثلة بالحكومة العربية ، وتواجد القبائل العربية في العراق وبلاد الشام تحت ظل حكومات غير عربية .
  9 ـ المصدر نفسه .
  10 ـ لاحظ مثلاً القزويني ، آثار البلاد وأخبار العباد ج1، ص114 .
  11 ـ تاج العروس . السيد الزبيدي . ج1، ص 6825 .
  12 ـ المصدر نفسه .
  13 ـ ابن الاثير ، الكامل ، ج1 ، ص 422 .
  14 ـ تاج العروس . السيد الزبيدي ، ج 1 ، ص 6825 .
  15 ـ ابن الاثير ، الكامل في التاريخ ، ج1 ، ص 422 .
  16 ـ تاج العروس . السيد الزبيدي ، ج 1 ، ص 6825 .
  17 ـ انظر مثلا تاريخ الرسل والملوك للطبري . ج 2 ، ص 301 .
  18 ـ معجم البلدان ، لياقوت الحموي . ج 1 ، ص 310 .
  19 ـ المصدر السابق . ج1 ، ص316 .
  20 ـ شرح النهج لابن ميثم ، في ضمن حوادث البصرة ، في شرح خطبة الملاحم 3 : 15 .
  21 ـ The Encyclopaedia of Islam, Volume I (A - B), Leiden, E.J. Brill. (Al - Basra)
 22 ـ أنظر الموقع الآتي على شبكة المعلومات الدولية :    http://www.plinia.net/wonders/gardens/hg4megasthenes.htm
  23 ـ معجم البلدان ، ياقوت الحموي . ج4 ، ص253 .
  24 ـ تاريخ ابن خلدون . ج2 ، ص 103 .
  25 ـ تاريخ الرسل والملوك . الطبري . ج2 ، ص302 .
  26 ـ The Encyclopaedia of Islam, Volume I (A - B), Leiden, E.J. Brill. (Al - Basra)
  27 ـ شرح نهج البلاغة لابن ميثم 1:289، 3:16 ، البحار 253:32 ، سفينة البحار في مادة (بصر) 48:1 .
  28 ـ تفسير القمي 2:339 ، البحار 32:226 .
  29 ـ شرح نهج البلاغة لابن ميثم 1:293 ، البحار 32:257 .
  30 ـ شرح نهج البلاغة لابن ميثم 1:289 ، 3:16 ، البحار 253:32 ، سفينة البحار في مادة (بصر) 48:1 .
  31 ـ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 310:2 ، مناقب ابن شهر اشوب ، باب اخباره بالفتن والملاحم 272:2 ، البحار 334:41 ، اثبات الهداة 520:.
  32 ـ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 310:2 ، البحار 335:41 .
  33 ـ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ، ج4 ، 1:368 .
  34 ـ قارن مثلا كتاب الحيدري (عنوان المجد) مع كتاب الدكتور نزار المنصوري (النصرة لشيعة البصرة) .
  35 ـ من منشورات الدار العربية للموسوعات (من دون تاريخ) .
  36 ـ لعله يريد بأهل الجنوب سكان قصبة الزبير وما دونها باتجاه نجد والكويت .
  37 ـ المصدر نفسه ، ص165.
  38 ـ المصدر نفسه ، ص165ـ 166 .
  39 ـ ضلت هذه الصفة تلصق بشيعة العراق الجنوبيين على امتداد العصور واستخدمت سياسيا واستغلت ابشع استغلال ، حتى أن نظام صدام حسين في ثمانينيات القرن العشرين وفي حربه مع أيران تعكز على هذا الموقف كثيرا ووصف غير مرة سكان الجنوب بأنهم غير عراقيين ، وهذا الموقف يعززه كذلك موقف اجتماعي لدى الكثير من العراقيين في وصف الجنوبيين بأنهم (شروقيون) أي أنهم منحدرون من أصول شرقية (هندية أو آسيوية غالبا) .
  40 ـ المصدر نفسه ، ص 1 63 ـ 164 .
  41 ـ المصدر نفسه ، ص 1 64 ـ 165 .
  42 ـ المصدر نفسه ، ص 165 .
  43 ـ المصدر نفسه ، ص 161 .

المصادر
 1 ـ ابن الاثير: اسد الغاية في معرفة الصحابة .
 2 ـ ابن الاثير: الكامل في التاريخ .
 3 ـ ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة .
 4 ـ الحر العاملي: اثباة الهداة .
 5 ـ الحموي: معجم البلدان .
 6 ـ الحيدري: عنوان المجد في بيان احوال بغداد والبصرة ونجد .
 7 ـ ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون .
 8 ـ الزبيدي: تاج العروس .
 9 ـ ابن شهر اشوب: مناقب آل ابي طالب .
 10 ـ الطبري: تاريخ الرسل والملوك .
 11 ـ القزويني: آثار البلاد واخبار العباد .
 12 ـ القمي: تفسير القمي .
 13 ـ المجلسي: بحار الانوار .
 14 ـ المسعودي: مروج الذهب .
 15 ـ المقدسي: احسن التقاسيم .
 16 ـ المنصوري: النصرة لشيعة البصرة .
 17 ـ ابن ميثم البحراني: شرح نهج البلاغة .
 18 ـ Culture in Baranrd ,، Alan and Jonathan Spencer: Encyclopaedia of social and culrural Anthropology .
 19 ـ Edward Burnett Tylor ، The science of culture in Moyton H.Fried's Reading in Anthropology .
 20 ـ The Encyclopaedia of Islam


BASRAHCITY.NET