النخلة رحلة في اعماق الزمن

الاستاذ علاء لازم العيسى

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

  من المتفق عليه تاريخياً ان منشأ شجرة النخيل هو المنطقة التي تحيط بالجزء الشمالي من الخليج العربي ، فقد عرفت زراعتها في هذه المنطقة منذ (3000 ـ 6000 ) سنة قبل الميلاد ، ثم اخذت بالانتشار الى بقية ارجاء المعمورة حتى وصلت الى شبه القارة الهندية شرقاً ، والمحيط الاطلسي غرباً .
  اما في البصرة فيرجع فضل غرس النخيل الى الطليعة الاولى من الفاتحين المسلمين حيث ذكر ياقوت الحموي في كتابه المعروف معجم البلدان عن الاصمعي ان اول مولود ولد في البصرة هو عبد الرحمن بن ابي بكرة فنحر ابوه جزوراً اشبع منها اهل المصر ، وكان ابو بكرة هذا هو اول من غرس النخل بالبصرة وقال هذه ارض نخل ثم غرس الناس بعده ، وهذا القول لا يعني كما ذكر الشيخ عبد القادر ال باش أعيان في بحثه المختصر والممتع ( النخلة سيدة الشجر ) انه لم يكن يوجد نخل في هذه البقعة التي انشأت عليها بالبصرة حيث كانت فيها مدينة الأبلة التي تعد من جنائن الدنيا الثلاث ، وكانت تزهو بنخيلها وأشجارها ، ولكن ابا بكرة هو اول من غرس النخل في هذا المكان بعد التمصير لتصبح البصرة بعد ذلك بلد التمر حيث كان بها نحو من عشرة ملايين نخلة منتشرة في ضفاف نهري دجلة والفرات بدء من حدود محافظتي العمارة والناصرية الى نقطة التقاء النهرين عند قضاء القرنة وبداية شط العرب حيث تأخذ كثافة النخل بالإزدياد والسعة لتبلغ اشدها واوسعها في منطقة ابي الخصيب .
  لقد احتلت النخلة مكانة سامية ، ومقدسة في المسيحية والاسلام وقد شبهها الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) بالرجل المسلم لكثرة منافعها وفوائدها ، فعن عبد الله بن عمر قال : بينا نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جلوس اذا اتى بجمار نخل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ): ( ان من الشجر شجرة مثل الرجل المسلم لا يسقط ورقها ) كما ثبت عنه انه قال ( من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر ) والعجوة احد اصناف التمر في الحجاز وقال ايضاً : ( بيت لا تمر فيها جياع اهله ) .
  اما في المسيحية فقد اكتسبت قدسيتها منذ اليوم الذي ولد تحتها سيدنا المسيح ( عليه السلام ) : ولما دخل السيد المسيح اورشليم استقبلوه بسعف النخيل ، جاء في انجيل يوحنا الاصحاح الثاني عشر الاية ( 12 ـ 13 ) ( وفي الغد سمع الجمع الكثير الذي جاء الى العيد ان يسوع اتى اورشليم ، فاخذوا سعوف النخل وخرجوا للقائه وكانوا يصرخون اوصنا مبارك الآتي باسم الرب . ) وتدخل اجزاء النخلة في الكثير من الصناعات الشعبية في البصرة وبقية محافظات العراق ومن ابرزها المراوح اليدوية ( المهافيف باللهجة الدارجة ) ، وسفرة الطعام والأقفاص والكراسي والأسرة المكانس والزنابيل وسلال الخضر والفواكه كما تستخدم جذوع النخل في اقامة الجسور على الانهر والتي تسمى الواحدة منها بـ ( الكنطرة ) وتسقيف الدور ، ومن التمر يستخلص الدبس والخل واجوده من تمر الزهدي ، وواضح من الدراسات المتعددة التي شملت المراحل التي تتطور خلالها ثمرة اشجار النخيل ان هناك عدة مراحل تبتديء باكتمال اخصاب الزهرة وتنتهي بنضج الثمار ، وقد حددت تلك المراحل بخمسة اسماء بلسان اهل البصرة وهي الحبابوك من انفتاح الطلع وتلقيحه حتى بداية الثمرة ثم الجمري والخلال والرطب والتمر .
  ومن العجائب التي ذكرها الجاحظ في كتابه ( الحيوان ) ونقلها عنه ياقوت الحموي في كتابه ( معجم البلدان ) عن تمر البصرة قوله : « وعندنا في البصرة في الذبان اعجوبة لو كانت بالشامات او بمصر لادخلوها في باب الطلسم ، وذلك ان التمر يكون مصبوباً في بيادر التمر في شق البساتين فلا ترى على شيء منها ذبابة لا في الليل ولا في النهار ولا في البردين ولا في انصاف النهار ، نعم وتكون هناك المعاصر ولاصحاب المعاصر ظلال ، ومن شان الذباب الفرار من الشمس الى الظل ، وانما تلك المعاصر بين تمرة ورطبة وريس وثجير ( وهو ثفل كل شيء يعصر ) ثم لا تكاد ترى في تلك الظلال والمعاصر في انتصاف النهار ولا في وقت طلب الذبان الكن، الا دون ما تراه في المنزل الموصوف بقلة الذبان وهذا شيء يكون موجوداً في جميع الشق الذي فيه البساتين ، فان تحول شيء من تمر تلك الناحية الى جميع ما يقابلها في نواحي البصرة غشيه من الذبان ما عسى الا يكون بارض الهند اكثر منه » .
  ونتيجة للتطور الذي صاحب تجارة التمور انشئت بعض الشركات والمكابس الفنية لتكون مهمتها الرئيسة التصدير الى الهند والصين وامريكا وسومطرة وامارات الخليج العربي وغيرها مثل شركة اصفر وهي من اقدم الشركات التي اسست في البصرة حيث ان تاريخها يرجع الى سنة ( 1794 م ) وكانت مكابسها الاولى من نوعها من حيث الإمكانيات والانتاج ومكبس اليوناني جورج جوكولاس في الجباسي ، والموصلي يعقوب بولص واولاده في الخورة ، ومكبس التمور العائد لناصر مهنا في مهيجران بالاضافة الى مكابس آل باش اعيان وال المنديل والحاج عباس الحبيب ومجيد سلومي وسالم آغا جعفر وهناك شركة اندروير التي اسست سنة 1905 م وكانت اعمالها اولاً تنحصر في الملاحة البحرية بين البصرة والعالم الخارجي ، ثم اصبحت وكيلة لعدة شركات اجنبية لبيع السمنت والآلات والمضخات واخيراً منحت امتياز احتكار بيع التمور فاوجدت للتمر البصري اسواقاً في جميع انحاء العالم .


BASRAHCITY.NET