من تاريخ البصرة

الاستاذ الدكتور نزار المنصوري

   المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
  بفتح فسكون تطلق في كلام العرب على الحجارة الرخوة التي فيها بياض وتطلق أيضاً على الارض الغليظة وقيل سميت البصرة لن ارضها التي بين العقيق ، واعلى المربد حجارة رخوة وهو الموضع الذي يسمى الحزيز وذكر ان المسلمين حين وافوا البصرة للنزول فيها ، نظروا اليها من بعيد ، وابصروا الحصى عليها ، فقالوا : ان هذه ارض بصرة ،يعنون حصبة فسميت بذلك والبصرة اسم مدينة ، وهما بصرتان : الاولى في العراق ، والاخرى في المغرب ، كما يطلق على ( زوزن ) البصرة اي نيسابور كما يوجد في دولة ماليزيا منطقة تسمى البصرة ، وموضوع بحثنا هو بصرة العراق ، والتي تقع جنوب شرق بغداد .
  يكاد يجمع المؤرخون ان البصرة مصرت سنة اربع عشرة للهجرة واجمعوا على ان الذي اختطها هو الصحابي عتبة بن غزوان ، بامر من عمر بن الخطاب ، وذكر بعض المؤرخين انها مصّرت سنة خمس عشرة .وقيل ست عشرة وتذكر لنا كتب التاريخ قصة انشاء البصرة ، فيروي ابن خلدون في تاريخه انه بلغ عمر بن الخطاب في سنة اربع عشرة ، ان العرب تغيرت الوانهم ، وراى ذلك في وجوه وفودهم ، فسألهم فقالوا وخومة البلاد غيرتنا ، وقيل : ان حذيفة ـ وكان مع جيش سعد بن ابي وقاص ـ كتب بذلك الى عمر ، فسأل عمر سعداً، فقال وخومة البلاد غيرتهم ، والعرب لا يوافقها من الارض الا ما وافق ابلها ويقول عبد الرزاق الحسني : البصرة لم تكن في ايام الفرس ، وانما مصرها العرب انفسهم وكان المسلمون قد غزوا من قبل البحرين ، وتوّج ، ونوبنذجان وطاسان فلما فتحوها ، كتبوا الى عمر بن الخطاب : انا وجدنا بطاسان مكاناً لا بأس به ، فكتب اليهم ان بيني وبينكم دجلة ، لا حاجة في شيء بيني وبينه دجلة ، ان تتخذوه مصراً وقد رأى عمر بن الخطاب انه لابدّ للجيوش الغازية من اتخاذ مكان ، ليكون مركز انطلاق وتجمع لها ، ولابد لهذا المكان ، ان يكون ذا موقع هام ، يمكن للفرق الغازية اللجوء اليه وقت يشاؤون ، وطلب المعونة منه عندما يحتاجون ، كما لابد ان يكون الاتصال بمركز الدولة الاسلامية منه ميسوراً، وكان من شروط عمر بن الخطاب ان لا يكون بينه وبينهم بحر يفصله عنهم .
  فوقع اختياره على مكان يقال له الخريبة والذي عرف فيما بعد بالبصرة ، ثم وجه اليه عتبة بن غزوان ، فقدم البصرة في جمع من اصحابه ، فلمّا رأى منبت القصب ، وسمع نقيق الضفادع ، قال ان امير المؤمنين ، امرني ان انزل اقصى البر من ارض العرب ، وادنى ارض الريف من ارض العجم ن فنزل الخريبة .
  وبنيت البصرة الى جانب مدينة عتيقة من مدن الفرس تسمى « هشتاد باد اردشير » وفي الفارسية الحديثة « بهشت اردشير » اي جنة اردشير ، فخربها المثنى ابن الحارثة الشيباني بشن الغارات عليها واما الأبُلّة التي هي قرية من قرى البصرة وهي اقدم من البصرة ، فقد كان المجتمع في البصرة قبل الفتح الاسلامي خليطا من العشائر العربية التي كانت تستوطن قرب الأبُلة ويقول ابن بطوطة : كانت الأبُلة مدينة عظيمة يقصدها تجار الهند ، وفارس فخربت وهي الان قرية بها اثار وقصور وغيرها دالة على عظمها لما نزل عتبة بن غزوان البصرة ، كان معه عدد من الصحابة والتابعين ، وقد اختلفت الروايات في تحديد هذا العدد ، الا ان هذا الاختلاف يسير ، فالعدد محصور بين مائتين وسبعين رجلاً وبين ثمانمائة .
  وسرعان ما بدا سكان البصرة بالازدياد ، وبدات جموع الناس تقصدها ، وتستوطن بها ، وبخاصة حين سمعوا ان الدنيا قد اقبلت على اهل البصرة يهيلون الذهب والفضة ، وسرعان ما اصبح عدد سكانها ، يقدر بعشرات الالآف ، وقد ذكر ابن قتيبة : ان عدد سكان البصرة ـ حسب سجلهم في الديوان ـ كان في زمن عليّ ستون ألفاً سوى العيال والعبدان والموالي .

التطور العمراني :
  من الطبيعي ان يصاحب النمو السكاني السريع الذي شهدته مدينة البصرة تطور سريع ايضا في البنيات والعمران ، وما مضت بضع عشرات من السنين حتى كانت البصرة مدينة كبيرة ذات مساحة عظيمة ، وقد بلغ من اتساع البصرة انه كان لها أربعة عشر ضاحية ، اشهرها الابلة ، ونهر الملك ، وسوق المربد .
  وكان المجتمع في البصرة قبل الفتح الاسلامي خليطا من العشائر العربية التي كانت تستوطن قرب الأبلة ومما امتازت به البصرة ، كثرة الانهار والترع ، فقد ذكر انه كان بها آلاف الانهار والترع ، وكان كل نهر ينسب الى من حفره ، وقد ذكر ياقوت الحموي عدداً كبيراً من هذه الانهار ، واسماء اصحابها وصفاتها.وهنا لابد من التعريج على مسجد البصرة الجامع ، ذلك المسجد الضخم الذي ما زال يدعى مسجد الامام علي بن ابي طالب ( ع ) والذي كان طوال القرون الاولى معهدا من معاهد العلم والمعرفة ، ويرجع تاريخ مسجد البصرة الى وقت انشاء البصرة نفسها .
  وخلاصة القول : ان البصرة كانت مدينة مزدهرة ، في بنيانها وفي مساجدها ، وفي انهارها وحماماتها واسواقها ، وفي كل شيء ، فكانت بحق جديرة بان تكون موضع اهتمام الباحثين ، لما كان لها من مكانة مرموقة واصالة معروفة ، وباع طويل في شتى انواع العلوم و المعارف .

فضل الأُبُلٌّة و البصرة :
  قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب ( ع ) قال لي رسول الله ( ص ) : « هل علمت ان بين التي تسمى البصرة ، والتي تسمى الابلة اربعة فراسخ ، وسيكون التي تسمى الابلة موضع اصحاب العشور ، ويقتل في ذلك الموضع من امتي سبعون الفاً ، شهيدهم يومئذ بمنزلة شهداء بدر » فقال له المنذر : يا امير المؤمنين ، ومن يقتلهم فداك ابي وامي .
  قال : يقتلهم اخوان الجن ، وهم جيل كانهم الشياطين ، سود الوانهم ، منتنة ارواحهم ، شديد كلبهم ، قليل سلبهم ، طوبى لمن قتلهم ، طوبى لمن قتلوه ، ينفر لجهادهم في ذلك الزمان قوم ، هم اذلة عند المتكبرين من اهل الزمان ، مجهولون في الارض ، معروفون في السماء ، تبكي السماء عليهم وسكانها ، والارض وسكانها ، ثم هملت عيناه .
  يا منذر ان للبصرة ثلاثة اسماء سوى البصرة في الزبر الاول ، لا يعلمها الا العلماء منها : الغريبة ، ومنها : تدمر ، ومنها المؤتفكة ، ثم قال : يا اهل البصرة ان الله لم يجعل لاحد من امصار المسلمين خطة شرف ولا كرم الا وقد جعل فيكم افضل ذلك ، وزادكم من فضله بمنه ما ليس لهم .
  انتم اقوم الناس قبلة ، قبلتكم على ـ كذا ـ المقام حيث يقوم الامام بمكة ، وقارؤكم أقرأ الناس ، وزاهدكم ازهد الناس ، وعابدكم اعبد الناس ، وتاجركم اتجر الناس واصدقهم في تجارته ، ومتصدقكم اكرم الناس صدقة ، وغنيكم اشد الناس بذلاً وتواضعا ، وشريفكم احسن الناس خلقاً ، وانتم اكرم الناس جواراً واقلهم تكلفاً لما لا يعنيه ، واحرصهم على الصلاة في جماعة ، ثمرتكم اكثر الثمار ، واموالكم اكثر الاموال ، وصغاركم اكيس الصغار ، ونسائكم اقنع النساء واحسنهن تبعلاً ، سخر لكم الماء يغدو عليكم ويروح صلاحاً لمعاشكم ، والبحر سبباً لكثرة اموالكم ، فلو صبرتم واستقمتم لكانت شجرة طوبى لكم وقال امير المؤمنين ( ع ) : ويلك يا كوفة ، واختك البصيرة كاني بكما تمدان مد الايم، وتعركان عراك الاديم العكاظي سلمتما بعد او سجيتما ، اني لاعلم فيما علمني الله انه لا يريد بكما جبار سوءاً الا أتاه الله بشاغل .

فضل مسجد البصرة :
  قال الصدوق ( رح ) اعلم انه لا يجوز الاعتكاف الا في خمسة مساجد : في المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ( ص ) ، ومسجد الكوفة ، ومسجد المدائن ، ومسجد البصرة ، والعلة في ذلك لانه لا يعتكف الا في مسجد جامع جمع فيه امام عدل .
  وقال المفيد ( رح ) : جمع امير المؤمنين ( ع ) في مسجد البصرة والمراد بالجمع فيما ذكرناه هنا صلاة الجمعة بالناس جماعة دون غيرها من الصلوات اقول : وكذلك صلى الامام الحسين بن علي ( ع ) في مسجد البصرة بامر من الامام علي ( ع ) اثناء عودتة من حرب الجمل وبسبب مرض الامام علي (ع) .
  ويصف الشاعر الشيعي ابو عبد الله المفجع ( ت 327 هـ ) مسجد البصرة :
الا يـا جـامع البصرة لا خرّبك iiالله
وسقى صحنك المزن من الغيث فرواه
فـكم مـن عاشق فيك يرى ما iiيتمناه
وكم ظبي من الانس مليح فيك iiمرعاه
نـصبا  الـفخ بالعلم به فيك iiفصدناه
بـقرآن قـرآنـاه وتـفسير رويناه 

  ( واليوم والحمد لله من الله علي بزيارة هذا المسجد الذي يبعد عن بيتي نصف ساعة ) وقال ابن المنادي : اُخبرت عن ابي موسى محمد بن المثنى ، قال : حدثني ابراهيم بن صالح بن درهم ، قال : سمعت ابي يقول : انطلقنا حاجين ، فلقينا رجل ، فقال لنا : الى جنبكم قرية يقال لها « الأُبُلٌة » ؟ قلنا نعم ، فقال : من يضمن لي منكم ان يصلي لي في مسجد العشار ركعتين او اربعا ويقول هذه لابي هريرة فاني سمعت رسول الله يقول : « ان الله يبعث من مسجد العشار يوم القيامة شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم » .
  وقال ابن المنادي : وانما كتبنا هذا الحديث في مدح البصرة لان الابلة قرية البصرة فهي منها ، قال الحموي : دخل فتى من أهل المدينة ، البصرة فلما انصرف قال له أصحابه كيف وجدت البصرة قال خير بلاد الله للجائع والغريب والمفلس ، أما الجائع فيأكل خبز الأرز والصحناءة فلا ينفق في شهر الا درهمين ، وأما الغريب فيتزوج بشق درهم . . .
  وكان ابن أبي ليلى يقول : ما رأيت بلدا أبكر الى ذكر الله من أهل البصرة ، وقال ابن شعيب بن صخر : تذاكر عند زياد البصرة ، والكوفة فقال زياد : لو ضلت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلني ععليها .
  وقال ابن أبي عيينة المهلبي يصف البصرة :
يـاجنة  فـاقت iiالـجنان      فـما يعدلها قيمة ولا iiثمن
ألـفتها فـاتخذتها iiوطـناًً      ان فـؤادي لـمثلها iiوطن
زوج حياتانها الضباب بها      فـهـذه كـنة وذا iiخـنن
فانظر وفـكر لما نطقت iiبه      إن الأديـب المفكر الفطن
مـن سـفن كالنعام iiمقبلة      ومـن نعام كانها سفن
  وقال خالد بن صفوان يصف البصرة : يغدو قانصنا فيجيء بالشبوط والشيم ، ويجيء هذا بالظبي والظليم ونحن اكثر الناس عاجاً ، وساجاً ، وخزاً ، وديباجاً وبرذوناً هملاجاً ، وخريدة مغناجاً ، بيوتنا الذهب ونهرنا العجب اوله الرطب واوسطه العنب ، واخره القصب .
  فاما الرطب عندنا فمن النخل في مباركة كالزيتون في الشام في منابته ، هذا على أفنانه كذلك على أغصانه هذا في زمانه كذلك في ابانه من الراسخات في الوحل المطعمات في المحل الملقحات بالفحل يخرجن اسفاطاً عظاماً واقساطاً ضخاماً وفي رواية يخرجن اسفاطاً واقساطاً كأنما ملئت رياطاً ثم ينفلقن عن قضبان الفضة منظومة باللؤلؤ الابيض ثم تتبدل قضبان الذهب منظومة بالزبرجد الاخضر ثم تصير ياقوتاً احمر واصفر ثم تصير عسلاً في شنة من سحاء ليست بقربة ولا اناء حولها المذاب ودونها الجراب ، لا يقربها الذباب ، مرفوعة عن التراب ثم تصير ذهباً في كيسة الرجال يستعان بها على العيال .
  واما نهرنا العجب فان الماء يقبل عنقاً فيفيض مندفقا فيغسل غثها ويبدي مثبها ياتينا في اوان عطشنا ، ويذهب في زمان رينا ، فنأخذ منه حاجتنا ونحن نيام على فرشنا ، فيقبل الماء وله ازدياد ، وعباب ولا يحجبنا عنه حجاب ، ولا تغلق دونه الابواب ولا يتنافس فيه من قلة ولا يحبس عنا من علة .
  واما بيوتنا الذهب فان لنا عليهم فرجا في السنين والشهور تاخذه في اوقاته ويسلمه الله تعالى من افاته وننفقه في مرضاته .
  فقال مسلمة لخالد بن صفوان : ولم تغلبوا عليها ولم تسبقوا اليها فقال خالد : ورثناها عن آلاباء ونعمرها للأبناء ويدفع لنا عنها رب السماء .


BASRAHCITY.NET