ولايةُ (عبد الله بن عبّاس) على البصرة (36 - 40 هـ)

المقدمة

  بعد انتهاءِ معركةِ الجَمَلِ، توجّه الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) إلى الكوفة بعد أنْ ولّى (عبد الله بن عبّاس) على البصرة (1)، وكان ذلك سنة (36 هـ/ 656 م)، وأوصاهُ، فكان في وصيّته له أنْ قال : ((يا ابنَ عبّاس عليكَ بتقوى الله، والعدْل بمَنْ وُلِّيتَ عليه، وأنْ تبسطَ للنّاس وجهَك، وتوسِّعَ عليهم مجلسَكَ، وتسعَهُم بحِلْمِكَ. وإيّاكَ والغضب؛ فإنّه طيرةٌ من الشّيطان، وإيّاكَ والهوى، فإنّه يصدُّك عن سبيلِ الله. واعلَمْ أنّ ما قرَّبَكَ مِنَ اللهِ، فهو مُبَاعِدُك منَ النّار، ومَا باعدَكَ مِن اللهِ، فهو مُقرِّبُك من النّار ، واذكر اللهَ كثيراً، ولا تكُنْ مِن الغافلينَ)).
  وبدأ (عبدُ الله بن عبّاس) يُمارس عملَهُ في ولايتِهِ، وكان ذا شخصيّةٍ قياديّةٍ، جمعتْ بينَ صفاتِ القائدِ الرّبّانيّ، من العِلم والفِطنة والذّكاء والصّبر والحَزم، وبينَ غيرِها من الصِّفات، فأثبتَ مهارةً إداريّة (2) في إدارة شؤونِ ولايتِهِ.
  وبقيَ في ولايته على البصرة إلى أنْ استُشهد أمير المؤمنينَ عليّ (عليه السلام) سنة (40 هـ)، ومِن ثَمّ تولّى الإمام الحسن (عليه السلام) الخلافة، فبقيَ ابن عبّاس على ولاية البصرة إلى أنْ وَقَعَتِ الهُدْنَة مع معاوية.
  وقدْ خطب الإمامُ الحسن (عليه السلام) صبيحةَ اللّيلة التي قُبِضَ فيها أمير المؤمنينَ (عليه السلام)، ثمّ قام عبد الله بن عبّاس بين يديه، فقال : ((معاشرَ النّاس، هذا ابنُ نبيّكم ووصيُّ إمامِكُم فبايعُوه))، وكانَ ذلكَ في يوم الواحد والعشرينَ من شهر رمضان سنة أربعينَ من الهجرة، فرتّبَ (عليه السلام) العمّال، وأمَّر الوُلاة، وأَرسلَ عبد الله بن العبّاس إلى البصرة، ونَظَرَ في الأمور ...
  ومن مواعظه، قولُه مخاطباً أهل البصرة: ((ملاكُ أمرِكُم الدّينُ، وزَيْنُكُم العِلمُ، وحصونُ أعراضِكم الأدبُ، وعزُّكُم الحِلْم، وصلتُكُم الوَفاء، وطَوْلُكُم في الدّنيا والآخرة المعروفُ، فاتّقوا اللهَ يجعلْ لكم مِن أمرِكُمْ يُسراً)).
  أمّا بالنسبة إلى الافتراءِ المزعوم حولَ أخذِهِ أموالَ البصرةِ، فإنْ لم يكن مفتعلاً؛ فلا بدّ أنْ تكونَ رواياتُ هذا الزّعمِ قدْ تُبُوْدِلتْ مع رجلٍ آخر غير ابن عبّاس، ممّن كانَ يثقُ به الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام)؛ لكنّها حُرِّفتْ على ابن عبّاس لحاجة في أنفس المحرّفين لا تخفى (3).
  ولابأسَ في هذا المقامِ أنْ نستعرضَ شيئاً مِنْ سيرةِ (عبد الله بن عبّاس) وشخصيّته.

اسمُهُ ونسبُهُ
  هو ((عبدُ الله بن عبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم (4)، الهاشميّ، القُريشيّ، العدنانيّ، ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم))) (5).
  وُلِدَ (عبد الله بن عبّاس) قبل الهجرة النبويّة إلى المدينة المنوّرة بثلاث سنين، أمّه لبابة بنت الحارث، أُخت ميمونة زوج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكان عمره عندما توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثلاث عشرة سنة (6).

صفتُهُ وعلمُهُ وشجاعتُهُ
  كان وسيماً جميلاً صبيحَ الوجه، مديدَ القامة، مهيباً كاملَ العقل، زكيَّ النفسِ، من رجال الكمالِ، فعن مسروقٍ، قال : ((كنتُ إذا رأيتُ ابنَ عبّاس، قلت ُ: أجملُ النّاس، وإذا نطقَ، قلتُ : أفصحُ النّاس، فإذا تحدّثَ، قلتُ: أعلمُ النّاس)) (7)، وروى خالد الحذّاء عن عِكرمة عن ابن عبّاس، قال : مسحَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأسي، ودعا لي بالحِكمة (8).
  ذكره العامليُّ في أعيان الشيعة، بقوله : هو أوّلُ مَنْ أملَى في تفسير القرآن عن عليٍّ (عليه السّلام)، وقال أبو الخير في طبقات المفسِّرينَ عند ذكره : ((هو ترجمانُ القرآن، وحَبْرُ الأمّة، ورئيسُ المفسِّرينَ)) (9).
  شهد مع الإمامِ عليٍّ (عليه السّلام) معركةَ الجمل، وقدم عليه بأهل البصرة إلى النخيلة، وشهدَ معه صفّين، رشّحه الإمام عليّ (عليه السّلام) ممثّلاً عنه في التحكيم بعد صفّين، فرفضه أولئك الذين أصبحُوا فيما بعد خوارج (10)، وشهد قتالَ الخوارج.

آراءُ علماءِ الرّجالِ فيه
  أثنى عليه كلُّ مَنْ ذكرَهُ من أرباب الرّجال والتراجم، ومِنْ شواهد ذلك :
  قال السيّدُ ابن طاووس : ((حالُهُ في المحبّةِ والإخلاصِ لمولانا أمير المؤمنينَ عليٍّ عليه السّلام، وموالاتِهِ والنصرِ له، والذبِّ عنه والخِصام في رضاه، والمؤازرةِ له، ممّا لا شُبهةَ فيه... [ثمّ قال معرِّضاً بأخبارِ الذمّ]، ومِثْلُ الحَبْر مَوضعٌ لأنْ يحسدَه النّاس وينافسُوه، ويقولوا فيه ويباهتُوه :
حسدُوا الفتى إذْ لم ينالُوا فَضْلَه      فـالنّاسُ  أعـداءٌ لهُ iiوخُصُوْمُ
كضَرائرِ  الحَسْناءِ قُلْنَ iiلوجهِهَا      حسداً  وبغياً إنّه لَذميمُ)) ii(11)
  وقال : ولو وَرَدَ في مِثلِهِ ألْفُ روايةٍ أمكن أنْ تعرضَ للتُّهمة، فكيفَ بهذهِ الأخبارِ الضّعيفة الرّكيكة)) (12).   وقال فيه العلّامة الحلّيّ : ((كان محبَّاً لعليٍّ عليه السلام وتلميذه، حالُهُ في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنينَ عليه السلام أشهر مِن أنْ يَخفى)) (13).
  وأوردَ فيه الشّيخ ابن داوود (قدّس سره) قولَه : ((حالُه أعظمُ مِن أنْ يُشار إليه في الفضل والجلالة ومحبّة أمير المؤمنينَ عليه السلام وانقياده إلى قولِهِ)) (14).
  بينما أورد العلّامة التستريّ الروايات المخالفة وردّها بأجمعِها، ولمْ يدَع مجالا للشكِّ في أنّ هذه الروايات التي ذكرها ابن عبد ربّه الأندلسيّ والكَشّيّ موضوعة، مستظهراً : ((أنّ الجعل كان بعد وفاة ابن عبّاس زمان المروانيّينَ، ولمْ يجترِؤوا على جعل مثلِهِ في حياتِهِ، بدليل : أنّه لم يُنقَل طعنُ أحدٍ فيه بذلك)) (15).
  وقدْ تحدّثَ السيّد أبو القاسم الخوئيّ بإسهابٍ عن ابن عبّاس، وعن الرّواياتِ المخالفة، في كتاب معجم رجال الحديث، قائلاً : (( هذه الرّواية وما قبلها من طرق العامّة، وولاء ابن عبّاس لأمير المؤمنينَ وملازمته لهُ عليه السلام هو السّببُ الوحيدُ في وضْعِ هذه الأخبار الكاذبة، وتوجيه التُّهم والطُّعون عليه، حتى إنّ معاوية -لعنه الله- كان يلعنُهُ بعد الصّلاة مع لعنه عليّاً والحسنين، وقيس بن عبادة والأشتر))، ويخلُصُ في نهاية حديثه عن ابن عبّاس، قائلاً :
  (( والمتحصَّل ممّا ذكرنا أنّ عبد الله بن عبّاس كان جليلَ القدْرِ، مدافعاً عن أميرِ المؤمنينَ والحسنينِ عليهم السلام)) (16).

وفاتُهُ
  اعتزل ابن عبّاسٍ النّاس عندما وقع الخلاف بين ابن الزّبير وعبد الملك بن مروان، ولم يُبايع لأحدٍ منهما، ثمَّ خرج إلى الطائف، وتوفّي فيها سنة (68 هـ)، وهو ابن احدى وسبعينَ سنة، وصلّى عليه (محمّد بن الحنفيّة)، وقال : اليوم ماتَ ربّانيّ هذه الأمّة، وضربَ على قبره فسطاطاً، وهذا ما اتّفقتْ عليه المصادر (17).

الهوامش
(1) يُنظر : الطبريّ، تاريخ الطبريّ ، ط 4، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1403 هـ : 3/546 ، وابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، دار الفكر للطباعة، بيروت، 1415 هـ : 19/170 ، والذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ط 9، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1413 هـ : 3/353.
(2) يُنظر : الصلابيّ، علي محمّد، أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، ط 2، بيروت : دار ابن كثير، 2005 م : 421 - 422.
(3) للمزيد والتفصيل، يُنظر : العامليّ، السيّد جعفر مرتضى، ابن عبّاس وأموال البصرة دراسة وتحليل، ط 2، المركز الإسلاميّ للدراسات، 1424 هـ : 12 - 66.
(4) ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ط 2، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2002 م : 3/ 66.
(5) القلقشندي، نهاية الإرب في معرفة أنساب العرب، تحقيق : إبراهيم الأبياري، القاهرة، الشركة العربيّة للطباعة، 1959 م : ص 340.
(6) يُنظر : ابن عبد البر، الاستيعاب : 3/ 66 ، والحديثي، سعدون عبد المنعم، ولاية عبد الله بن عباس على البصرة (36 هـ - 40 هـ)، مجلّة جامعة تكريت للعلوم الإنسانيّة، المجلّد (14)، العدد (5)، 2007 م : ص 406.
(7) سير أعلام النبلاء : 3/333 - 334.
(8) يُنظر : القزوينيّ، د . محسن باقر، عبد الله بن العبّاس (المفترى عليه)، مجلّة جامعة أهل البيت (عليهم السلام)، العدد السّادس عشر : ص 10 .
(9) 4/85.
(10) القزوينيّ، عبد الله بن العبّاس (المفترى عليه)، المصدر السّابق : ص 10.
(11) التحريرُ الطاووسيّ، لحسن بن زين الدين العامليّ، مكتبة آية الله العظمى المرعشيّ النجفيّ، قم المقدّسة، ط1، 1411 هـ : ص 313، وأعيان الشيعة : 8/57.
(12) الأمين، السيّد محسن، أعيان الشيعة، تحقيق : حسن الأمين، دار التعارف، بيروت : 8/ 57.
(13) العلّامة الحسن بن يوسف، خلاصة الأقوال في معرفة الرّجال، مؤسّسة نشر الفقاهة، قم، د.ت : 190 - 191.
(14) رجال ابن داوود، طبع النجف : ص 11 رقم (885).
(15) محمّد تقي، بهج الصّباغة في شرح نهج البلاغة، ط 1، أمير الكبير، طهران : 8/95.
(16) الخوئيّ، السيّد أبو القاسم، معجم رجال الحديث، ط 1، مطبعة الآداب، النجف الأشرف : 10/ 248.
(17) ابن عبد البر، الاستيعاب : 3/66 ، ابن خلّكان، أحمد بن محمّد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق : إحسان عبّاس، بيروت، دار صادر، 1977 م : 3/64 ، وابن حجر، أحمد بن علي العسقلانيّ، الإصابة في تمييز الصّحابة، بيروت، دار الفكر، 1989 م : 2/344.

BASRAHCITY.NET