احتراقُ البصرةِ وبناؤها من اللّبنِ

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

  مِنَ المعلومِ أنّ المسلمينَ الأوائلَ قدْ اتّخذوا البصرةَ معسكراً لقطع الطريقِ على الفرس وإمدادهم، وليمدّوا الجيوش الإسلاميّة في تلك الدائرة، وينقلُ التأريخ أنّ أوّلَ بناءِ البصرة كانَ مِن القصب ، إذْ كانوا يبنونَ بيوتهم منه، فإذا ما أرادوا التحرّك للغزو نزعُوا ذلك القصب، ثمّ حزموه ووضعوه، حتّى إذا عادوا أعادوا بناءه من جديد، فبنوا المسجد، ودار الإمارة دون الرّحبة، والدّيوان، والسّجن، وضربوا بها الخيام والقباب والفساطيط، قال البلاذريّ (ت 279 هـ) : ((وبنى عتبة دار الإمارة دون المسجد، في الرُّحبة التي يُقال لها اليوم (رُحبة بنى هاشم)، وكانتْ تُسمّى (الدّهناء)، وفيها السّجن والدّيوان، فكانوا إذا غزوا نزعوا ذلك القصب وحزموه ووضعوه حتّى يرجعوا من الغزو، فإذا رجعوا أعادوا بناءه. فلم تزل الحال كذلك ...)) (1).
  وفي أنساب الأشراف : 13/298، أنّ ذلك كان في سنة (14#).


   ثمّ استقرّت الحال بعد ذلك في البصرة، واستوطنها الصّحابة وثبّتوا بيوتهم فيها، حتّى كانت سنة (17 هـ ـ) ، إذْ ذُكر أنّه حدث فيها حريقٌ كبيرٌ أتى على بيوتها، فعزموا على بنائها من اللّبن، فاختطّوا المسجد في الوسط وأداروا البيوت مِن حوله، وبدأتْ البصرة بعد ذلك بالاتساع، وقدْ نُقِل أنّ حريق البصرة تزامن مع حريق الكوفة، وكذا بناؤهما، وهو أمرٌ غريبٌ، يقول الطبريّ (ت 310 هـ) : ((ثمّ إنّ الحريق وقع بالكوفة وبالبصرة، وكان أشدَّهما حريقاً الكوفة، فاحترق ثمانونَ عريشاً، ولم يبقَ فيها قصبةٌ، في شوّال، فما زال النّاس يذكرون ذلك)) (2) ، ويسوق الحميديّ (ت 900 هـ) النصّ نفسه، ثمّ يذكر أنّ سعداً بعث نفراً يستأذنونَ في البناء باللّبن ويخبرونَ عن الحريق، فأُذِن لهم (3).


  ولم تذكر كتب التأريخ سبب هذا الاحتراق، وهل هو طبيعيّ أو بفعلِ مفتعلٍ ...؟
  ولم يذكر البلاذريّ خبر الحرْق، بل انتقلَ مباشرةً إلى ذكر البناء، يقول في تتمّة النصّ السّابق : (( ثمّ إنّ النّاس اختطّوا وبنو المنازل، وبنى أبو موسى الأشعريّ المسجد ودار الإمارة بلبنٍ وطينٍ، وسقّفها بالعشب، وزاد في المسجد ،...)) (4).
  على حين يجعلُ ابن خلدون (ت 808 هـ) نزول الكوفة والبصرة وبناؤهما واحداً، والحريق فيهما كان في الوقت نفسه أيضاً، وفي موضع قصريهما، يقول : ((فلمّا استقرّوا بالكوفة، ثابَ إليهم ما فقدوه مِن حالهم، ونزل أهل البصرة –أيضاً- منازلهم في وقتٍ واحدٍ مع أهل الكوفة بعد ثلاث مرّاتٍ نزلوها من قبل، واستأذنوا جميعاً في بنيان القصب ... ثمّ وقع الحريق في القصرينِ، فاستأذنوا في البناء باللّبن)) (5).
  في حين يذكر اليعقوبي (توفي بعد 292 هـ) في تأريخه أنّ الكوفة مصّرتْ سنة (17 هـ) :
  ((وفي هذه السّنة[ أي سنة 17 هـ] نزل المسلمونَ الكوفة، واختطّوا بها الخطط، وبنوا المنازل، وقيل : كان ذلك في أوّل سنة (18)، ونزلها مِن أصحابِ رسول الله [صلّى الله عليه وآله] ثمانونَ رجلاً)) (6).


هوامش
*************
(1) فتوح البلدان : 2 / 426.
(2) تاريخ الطبري : 3 / 147 - 148.
(3) يُنظر : الروض المعطار في خبر الأقطار للحميدي ّ: ص 502.
(4) فتوح البلدان : 2 / 426.
(5) تاريخ ابن خلدون : 2 / 110 - 111 ، ومِن قبله ذكر ذلك ابن الأثير (ت 640 هـ)، في كتابه الكامل في التأريخ : 2 / 528 ، ولكنّه لم يذكر وقوعه في قَصْرَي المِصرينِ.
(6) اليعقوبي : 2 / 150.

BASRAHCITY.NET