البصرة مدينة النخيل والشعر والتاريخ

المقدمة

   في يوم ما سألني حميد المطبعي طيب الله ذكره وهو من اصفى الصحفيين العراقيين وانقاهم الذي ظهروا على مسرح الصحافة ايام الصدامية ، سألني ان اكتب ( من انا ) ، و ( من انا ) أسئلة وجهت الى الكثير من الصحفيين والكتاب والمثقفين ونشرت في جريدة الثورة البعثية.
  في ( من انا ) كتبت اقول ( انا نبت هذه الارض الطيبة ذات الاديم التاريخي الخاص ، ولدت في البصرة الصامدة مدينة النخيل والشعر والتاريخ ) قلت الصامدة لان البصرة كانت تعاني آلام الحرب الايرانية العراقية التي كانت اقذر حرب خيضت في التاريخ ، اما الآن فلم يعد هناك في البصرة
  البصرة كانت مالكة الشعر والنخيل والتاريخ ولجغرافيتها مزايا لم تدركها بغداد ولا الموصل ، واذا كانت بغداد قد بلغت علوها في عصر العلوم التي بعثتها تاريخ ولا شعر ولا نخيل ، ثورة الزنج ، اما البصرة فهي التاريخ والجغرافية برزت في التاريخ وعرفت بمدينة الجاحظ وسيبويه ونفطوية ، وهي تملك في ذات الوقت الجغرافيا الخاصة بها لا تدانيها مدينة اخرى ، فقد كانت محطة لقوافل الابل والسيارات والقطارات الآتية من اوربا ، حيث تقف في البصرة ثم ماتلبث ان تواصل المسيرة بحرا الى الهند لذا كان لها شرف الوجود كمحطة مهمة في ( طريق الهند ) ، قال بن أبي عيينة المهلبي يمدح البصرة ( من سُفُنٍ كالأنعام مقبلةٍ ومـن نعامٍ كأنها سفنُ ) ثم ( يا جنّة فاقت الجنانَ ، فما يعدلهـا قيـمةٌ ولا ثمنُ ) ثم ( ألفيتها فـاتخذتها وطناً ، إن فؤادي لمثلهـا وطنُ ) .
  هي مدينة النخلة مطعمة الفقير قبل الغني ، التمر العريق الذي يملك قابلية البقاء لاكثر من سنة دون ان يصيبه البلى، دون مادة حافظة كما يحدث في الثمار الاخرى وكانه قد خلقه الله للفقراء الجياع والمعدمين قبل الاغنياء واصحاب السيوف ، البصرة مدينة شط العرب وشعاب المياه المتوافرة في كل مكان فلا يموت الناس فيها عطشا ، البصرة لم يصبها يوما ما في التاريخ القحط كما حدث في المدن الاخرى ، البصرة كانت لؤلؤة الخليج وكان عروسة الخليج العربي او الخليج الفارسي قبل ان يأتي عصر النفط ، كان من الاحرى ان يسمى الخليج خليج البصرة ، البصرة كانت على رأس مدن الشرق الاوسط اذ مر بها الرحالة المعروفون في التاريخ وكانت السفن تاتيها من الشرق محملة بالفلفل والدارسين والهيل ، فتستريح بها وتشرب من مائها قبل ان تشد الرحال الى الغرب ثم تعود اليها محملة بما يهواه الشرق ، ولا ننسى رحلات الطيور المهاجرة التي كانت تاتي من الشمال لتستريح ثم تواصل السفر الى الجنوب ولتاتي راجعة هدفها الشمال في منابتها.
  البصرة شأن كافة الاراضي العراقية لها جذور عميقة في التاريخ ففي عهود التدوين التاريخية المختلفة حملت منطقة البصرة الكثير من الاسماء ، منها ( باب سالميتي ) وهي كلمة مأخوذة من الاكدية ( شابليتيوم ) أي البحر الأسفل فيكون معناها ( باب البحر الأسفل ) ، منطقة البصرة وردت أخبارها في حملة الملك الآشوري سنحاريب البحرية على بلاد عيلام اي إيران إذ عسكر فيها ، وحدد موقعها في حولياته عام 695 ق . م . وعرفت باسم ميناء طريدون اذ ذكرها كتاب الرومان والإغريق باسم تريدون أو ديري دوتس ، وقد قلبها العرب إلى ( تردن ) و ( تردم ) و ( تدمر ) والاسم الأخير عرفت به البصرة كأحد أسمائها كما جاء في تاج العروس للزبيدي ، كانت البصرة تسمى في القديم ( تدمر ) وفي مسند زيد بن علي قال ( ويقال لها أي البصرة تدمر ويقال لها حزام العرب ، وقد اطلق عليها ايضا البصيرة ، البصيرة من أسماء البصرة القديمة وقد أعاد بناءها اردشير ملك الفرس الساسانيين وسماها ( وهشتا باذ اردشير ) وذكرها الأزهري في تاج اللغة بـ ( الخريبة ) ، وهي جزء من البصرة كان يطلق عليه البصيرة الصغرى ، وفي خطبة للإمام علي نقلها ياقوت الحموي في معجم البلدان مخاطباً أهلها ( يا أهل البصرة والبصيرة والسبخة والخريبة ) ، وقال حمزة الاصفهاني إنها كلمة فارسية ( بس راه ) وردها يعقوب سركيس إلى الكلدانية اذ تعني الاقنية أو باصرا ( محل الأكواخ ) إن كلمة بصرة أو بصيرة كلمة أكدية مشتقه من كلمة ( باب وصيري ) فاصبحت ( صابي صيري ) أي سكان الصحراء فيكون اسمها ( باب الصحراء ) ، هناك اشارة الى وجود مدن مندثرة تحت أنقاض البصرة القديمة ، فعندما جاء عتبة بن غزوان المازني عام 14 هـ إلى منطقة البصرة شاهد أنقاض مدينة قديمة كانت حسب روايات محمد بن اسحاق سبع دساكر ، وذكر وجود قصر ( سنبيل ) في رواية أبي عبيدة على انه حصن فارسي في الجاهلية على مرتفع وهو داخل البصرة ، وقد سكنها بنو تميم و بني العنبر وغيرها.
  قيل ان عدد الأنهار بلغ آنذاك في البصرة نحو من عشرين ألف نهر ، وهذه المصادر تعتمد على ديوان الخراج ، حيث كان يجبى خراج كل نهر بما فيه من بساتين ونخيل ، وقد شكك بن حوقل بهذا الرقم كثيراً وهو من جغرافي العصر العباسي المعروفين ، ولكنه عندما زار المنطقة أيقن صحة تلك الأرقام ، بالقرب من البصرة حدثت واقعة الجمل 656 م بين الامام علي وبين عائشة وطلحة والزبير ، وكانت مركزا لكثير من الثورات السياسية والفكرية منها ثورة الخوارج والزنج والقرامطة ، وفيها ظهر مذهب الأشاعرة واخوان الصفا.
  كانت مساكن البصرة في غالبيتها مبنية بالقصب وتلك سمة جنوب العراق ابتداء من شمال الاهوار حتى شط العرب وفي طفولتي حتى تخرجي من الثانوية كانت الصرائف قائمة في البصرة وخاصة في الاماكن المحيطة بالبصرة حيث كانت قائمة على الدوام وخاصة عند مجيء عمال ( جراديغ التمر ) الى البصرة خاصة من العمارة ، والصرائف عادة رخيصة لهذا يلجأ لها الفقراء والقادمون من المدن الاخري طلبا للعمل ، وقيل ان اهل البصرة في ذاك الزمن إذا خرجوا للقتال وكانت تلك مهنة ذاك الزمان نزعوا ذلك القصب وحزموه وصفوه حتى إذا رجعوا أعادوا بناءه ، ويقال كانت رابعة العدوية مدفونة في البصرة.
  كانت أول دار بنيت بالطابوق المفخور في البصرة، دار نافع بن الحارث ، ثم دار معقل بن يسار المزني ، وتوالى على البصرة من بعد عقبة ، مجاشع بن مسعود السلمي ، ثم المغيرة بن شعبة الثقفي ، ثم جاء أبو موسى الأشعري 638 م وشرع في تغيير اشكال المنشآت الدينية والإدارية والمدنية كدار الإمارة باللبن والطين ، وفي العصر العباسي الأول ازدهرت البصرة وبرز فيها أعلام في اللغة والفقه والأدب، في 781 م ، احتلها صاحب الزنج وعاثها خرابا كما اشاعوا في التاريخ ثم احتلها القرامطة سنة 924 م فخربوا ودمروا كل ما وقع في أيديهم ، وفي سنة 1258 م استولى عليها المغول ، ثم احتلها العثمانيون 1534 م ، وفي في عهود غير بعيدة كان الجندرمة العثمانيون يحكمون المدينة نهارا وفي الليل يغلقون ابواب القشلة وهي قلعة بناها العثمانيون ، لازلت اتذكرها لانها كانت وسط مدينة البصرة وكانت مقرا للشرطة العراقية ولكن اغلب ارجاءها قد عفى عليه الزمن ، في العصر العثماني الاخير في البصرة كانت القلعة هي الدولة العثمانية ، اما خارج السور فكان يسيطر عليه سيد طالب النقيب اذ كان هو الدولة في منطقة البصرة ليلا وكان على صلة بامير الكويت والشيخ خزعل في الحمرة ، كان السيد طالب النقيب يفرض الاتاوات من اصحاب الدكاكين خاصة اليهود والا قتلوا ليلا مع عائلاتهم وعندما تشرق الشمس ينفتح باب القشلة وتحتيي دولة العثامنة ، ومن الجدير بالذكر ان السيد طالب النقيب كان احد المطالبين بعرش العراق الا القضية حسمت باختار الملك فيصل الاول ملكا بتوصية من لورنس العرب.
  البصرة تطوّرت بعد الإسلام وأصبحت واحدة من أهم المدن آنذاك ، وفي عهد المأمون تجاوز عدد الأساتذة والعلماء فيها 700 عالم وأستاذ وفقيه وراوية ، لكل منهم عشرات الطلبة والتلاميذ والأتباع ، ألّفوا ما يقارب 200 ألف مجلّد في الفاسفة والعلوم والأدب خلال حياة المدينة الثريّة في معارف ذاك الزمان ، وقيل ان المأمون حملها الى بغداد بثلاثة سفن ولكن اصابها الحرق في عهود كثيرة من عهود العراق في التاريخ ، كانت مكتبة القاضي أبي الفرج تحتوي 50 ألف مجلّد ، وفيها استبدل العرب سوق عكاظ بالمربد الذي أصبح ما ندعوه اليوم بالمهرجان السنوي للثقافة والفنون ، في البصرة يتواجد مرقد الحسن البصري ، وقيل في البصرة كما تروي الروايات قبور حليمة السعديّة مرضعة النبي وابنها رضيع الرسول ، وأبو بكر وهي من روايات ليس فيها اي نوع من المنطق التاريخي ولكن هناك من الاكيد فبور محمد بن سيرين ومالك بن دينار وغيرهم والتي عفى عليها الزمن ، في البصرة أيضاً مقام الإمام علي بن ابي طالب وقيل ان عائشة دفنت في البصرة بعد واقعة الجمل.
  البصرة مدينة الشعر والتاريخ ولكنها مدينة التمر الشهي ، يوم كنت في الثانوية كانت في البصرة شركة اميركية تدعى ( اندر وير ) كانت مهتمة في تصدير التمور البصرية الى العالم وكان لها مزرعة في التنومة على الجهة الاخرى من شط العرب ، وكانت تجمع فسائل النخيل بانواعها وترسلها الى كاليفورنيا حيث المناخ ملائم لزراعة النخيل فيغرسونها ويمنحونها العناية العلمية وفي كاليفورنيا ينتجون الآن تمورا اعلى نوعا من تمور البصرة وهي الآن حقيقة لا لبس فيها ، لان النخلة البصرية فهي الآن تعاني المرض خاصة بعد ان قطع الملعون الكبير الملايين من النخيل خلال الحرب العراقية الايرانية المجنونة التي قدسها اصحاب العائم السود والبيض ، كما ان المياه التي تنصب الآن في البصرة ليست كمياه الامس ، كانت من قبل قبل ان يجفف ابن الملعونة صدام مياه الاهوار ، كانت مياه الهور تجري نحو البصرة محملة بالمواد الطبيعية الحية فتغذي مياه شط العرب الذي غدى الآن مالحا لتدفق فيه مياه الخليج المالحة التي تصعد الآن الى مناطق شمال القرنة فتزيد المياه هناك ملوحة ، أما انواع التمور فتصل الى اكثر من 100 نوع من التمور ، وكان في البصرة قبل محنة العراق مالايقل عن 26 مليون نخلة ، واليوم لم يبق منها غير 9 ملايين نخلة ، ولو توجه المرء بالسيارة الى ( ابو الخصيب ) لوجد الطريق ملتويا وسط غابات من النخيل مارا بالخورة ومهيجران وحميدان وابو الخصيب حتى الفاو ولكن في عهد الطوشان الصدامي قطعت ملايين النخلات وزادها الامر بلاء القنابل الايرانية التي تساقطت على المنطقة في الحىب الايرانية العراقية الشرسة.
  كان للبصرة عيدا تزهو به هو عيد نوروز او ( الكسلة ) ، إذ يتحاشد على ضفتي شطّ ( الخورة ) المنطربون في ( الابلام العشارية ) جمع بلم وهو زورق خاص بالبصرة وله بعض الشبه بزوارق مدينة البندقية ( فينيسيا ) ، تلك الابلام تكون محملة بالشاربين والراقصين على انغام نقرات ( الدنابك ) ، والجدير بالذكر ان شط الخورة عاش على ضفافه وشرب من مائه الشاعر بدر شاكر السياب حيث تقع قرية جيكور عاصمة ثورة الزنج العريقة ايضا ، والبصرة جزئين رئيسيين هما البصرة والعشار وفي العشار جائت الاغنية التالية ( واقف على العشار يقره جريدة ويمشط تواليت حسباله أريده ) ، وفي القرنة شمال البصرة كانت كما جاء في بعض التصورات ( جنة عدن ) لانها في ملتقى النهرين التاريخيين الدجلة والفرات وهناك تتواجد ( شجرة آدم ) شاهدتها في ايام المدرسة الابتدائية وكانت آنذاك في حالة يرثى لها.
  وددت الاشارة الى الفراهيدي والفارابي والحسن البصري وغيرهم الكثير الكثير من كتاب وادباء وشعراء الذين عرفهم التاريخ ولكن المزار طويل واخيرا قال بن أبي عيينة المهلبي يمدح البصرة ( ويا حسن تلك الجاريات إذا غدت ـ مـع الماء تجري مصعدات وتنحدر ) اما اليوم فان شأن الضرة شأن العراق الذي حل به الطاعون.


BASRAHCITY.NET