الاُبُلّة جسر العالم القديم

الاستاذ كاظم فنجان الحمامي

  مدن تحتضر ، وأخرى تنبعث من الرماد، وثالثة تنهار ، وغيرها تدفنها كثبان النسيان ، وترزح تحت وطأة الإهمال ، ولا يشفع لها سجلها الحافل بالخيرات والعطايا الممتدة عبر قرون العصور المبكرة ، وهكذا كان مصير مدينة الاُبُلّة ، التي مزقتها خناجر الغزاة ، وعصفت بها رياح الصراعات المذهبية والسياسية ، ونهشتها أنياب الدهر ، وطمرتها الترسبات الطينية ، فتقهقرت شواطئها ، وردمت مرافئها ، حتى ضاع صيتها ، وانطفأت شعلتها ، ورقدت في مقبرة التاريخ، ثم اختفت ، وتلاشت معالمها ، وأختلف الجغرافيون والباحثون في تحديد مكانها المفقود ، وبالتالي لم يحالفهم الحظ في تعيين مجرى نهر الاُبُلّة ...

بين إيكاروس وخاراكس
  الاُبُلّة جسر العالم القديم ، وملتقى المسالك البحرية والبرية القادمة من آسيا وأفريقيا وأوربا ، وبانوراما الحضارات الإنسانية الضاربة في عمق التاريخ ، ومسرح السلالات السومرية والآشورية والبابلية والكلدانية ، وأيقونة القوميات السامية ، ومحراب الديانات المندائية والعبرية والنصرانية ، وقلعة العروبة والإسلام ، وقبة العلم والمعرفة ، ومنبع المدارس الفكرية واللغوية ، وأم المرافئ العربية القديمة ، ومصب الروافد العرقية الفارسية والهندية والصينية والتركية والبرتغالية والهولندية والمنغولية والسكسونية والفينيقية ، حملت شعلة العالمية والتنوع والتعددية في الثقافة والفنون والآداب... وقصدها التجار من مشارق الأرض ومغاربها ، وهاموا في عشقها ، وتعلقوا فيها ، فخلدوا اسمها على هواهم ، وكتبوه بإيقاعات أبجدياتهم المتناغمة مع صوتها الأممي ، فهي (Opologos) ، و(Ubullah) ، و(Obollah) ، و(Obolla) ، و(Oboleh) ، و(Obolegh) ، و(Al-Ubullah)....
  بيد انها اشتهرت بأبولوجوس ، وكانت تطل على دجلة العوراء (شط العرب) ، وتتوسط بين جزيرة إيكاروس (فيلكا الكويتية) ، والعاصمة خاراكس Charax (عاصمة مملكة ميسان).

الاُبُلّة معبد ملاحي
  إلى الشمال من مدينة الاُبُلّة ، وقف جلجامش في (أور) ، التي اجتاحها الطوفان ، مناديا بأعلى صوته :
  يا جدار ، يا بيت القصب ، يا جدار
  يا ملك شورباك
  يا ابن أوبارو توتو
  أهدم بيتك وشيد زورقا
  هرع السومريون لتلبية هذا النداء المصيري ، ونجحوا في بناء السفن والقوارب من القصب والبردي المطلي بالقار ، وانطلقوا بها في بحار الله الواسعة ، واختاروا لؤلؤة الخليج (دلمون) لتكون مقبرة ملكية لموتاهم ، ودخلت الملاحة منذ ذلك الحين في طقوسهم وعباداتهم ، وكانوا يسمونها (ملاحو) ، وتحولت قراهم الى ترسانات صغيرة لبناء المراكب.
  وتعددت عندهم وسائط النقل المائي ، ووجدوا إن سفنهم بحاجة إلى مرافئ تلوذ بها ، فبنوا ميناء (أريدو) ، وطوروا ميناء الاُبُلّة ، وتوسع هذا الميناء شيئا فشيئا حتى صار أكبر موانئ العالم ، وتوفرت له مقومات النمو الدائم ، فكان حلقة الوصل بين القارات ، وشهدت المدينة المينائية تحسنا متسارعا ، فتحولت أخصاصها دورا ، وآجامها قصورا ... برع أهلها في فنون السيطرة الملاحية ، والتحكم بتحركات السفن القادمة والمغادرة ، فشيدوا فنارين ملاحيين كبيرين ، احدهما على ساحل البحر ، في موضع يقال له (الحدّارة) ، كانوا يسمونه (الخشّاب) ، وهو تحريف للخشبات ، ووضعوه قرب مدخل شط العرب ، بحيث يشرف على البحر والنهر ، لتهتدي به السفن المتوجهة الى ميناء الاُبُلّة.
  ووضعوا الآخر في عرض البحر ، لكي تستعين به السفن في ضبط مساراتها في الذهاب والإياب.
  يتألف الخشّاب من أربعة أعمدة كبيرة من خشب الساج ، على هيئة المنجنيق ، وعلى قمته حجارة وقرميد مقامة على عمد من الخشب كأنها برج للمراقبة ، ومن فوقها أربعة مقاعد يجلس عليها حراس السواحل ، وفي الليل يشعلون سراجا في زجاجة بحيث لا تطفئه الرياح والأمطار ...

شرايين شط العرب
  يتفرع نهر الاُبُلّة من شط العرب ، ويمتلئ بالماء عند المد ، وينضب في الجزر. وطوله فرسخ واحد ، بيد ان ذيول هذا النهر طمرت تدريجيا بفعل الترسبات الطينية ، المنجرفة مع مياه الفيضانات العارمة ، التي كانت تجتاح العراق كل عام ، فأصلحه أبو موسى الأشعري ، وهذب أعماقه ، وواصل عمليات الحفر والتعميق حتى بلغت البصرة ، فصار طول نهر الاُبُلّة أربعة فراسخ ، والفرسخ يساوي سبع كيلومترات تقريبا ، ثم انطم منه ما بين البصرة وبثق الحيرى ، وذلك على قدر فرسخ من البصرة.
  وإلى الجنوب من نهر الأبلة تتفرع شرايين شط العرب الأخرى ، نذكر منها نهر (أبي الخصيب) ، وينسب إلى (مرزوق أبو الخصيب) ، وهو مولى من موالي الخليفة العباسي (أبو جعفر المنصور)... وإلى الجنوب من أبي الخصيب يأتي منعطف (سيحان) حيث مقر إقامة (الجاحظ) ، وإلى الجنوب من سيحان يتفرع نهر (الواصلية) المنسوب إلى (واصل بن عطاء الغزّال) ، الذي كان رأس فرقة (الواصلية) ، وهو مؤسس (المعتزلة) ، وهي فرقة كلامية نشأت في البصرة ، وظهرت في بدايات القرن الثاني الهجري، واستقرت في هذا الموضع ، ثم يأتي نهر الزيادية ، الذي ينسب إلى (زياد بن الأصفر) ، وهو مؤسس فرقة (الزيادية)...
  ويبدو أن المعتزلة كانوا كلما نبغ فيهم نابغ كان رأس فرقة قائمة بذاتها، لتنسب إليه ، فيقال (الواصلية) ، و(الزيادية) ، و(الجاحظية) ... ومن المفارقات نذكر أن هذه الفرق استقرت على ضفاف شط العرب ، واستوطنت على الشريط الساحلي الممتد من (سيحان) إلى نهر (الزيادية) ، وهي ليست ببعيدة عن مدينة الاُبُلّة... وفي الجهة المقابلة للواصلية تقع مدينة (عبادان) ، ويعود اسمها إلى (عبّاد بن الحصين)...

المدينة الأنيقة
  تعد مدينة الاُبُلّة من أكثر المدن نضارة وجمالا ، إذ تجمعت فيها عناصر الجذب التجاري والزراعي ، وتميزت ببساطة أهلها ، وقناعتهم بما منحهم الله من خيرات ، وكان تاجرها أعظم الناس تجارة ، وغنيها أشد الناس بذلا وتواضعا ، وسخر لهم الله الماء يغدو عليهم ويروح صلاحا لمعاشهم ، والبحر سببا لكثرة أموالهم ، وعرفت المدينة بسككها العامرة ، ودورها المزخرفة ، التي لها أجنحة كأجنحة النسور ، وخراطيم كخراطيم الفيلة.
  تتوزع ابنيتها الأنيقة ، التي بنيت من خشب الساج والأبنوس على ضفتي النهر ، فكانت تحفة معمارية نادرة ، تتعطر بشذى الحقول ، ورائحة الجنائن ، وعبق زنابق الماء... وازدهرت بساتينها بأشجارها الكثيفة ، وسواقيها المتدفقة بالماء الزلال ، وكانت مرتعا وارفا لأشجار النخيل ، المتسامقة بقامتها الفارعة على ضفاف نهر الاُبُلّة ، لتعانق سواري السفن والمراكب.

ويا حـبذا نـهر الاُبُلّة منظراً
  تفاخر بها خالد بن صفوان مخاطبا أهل الشام ، بحضور وفود الأمصار المجتمعين هناك ، قائلا : يغدو قانصنا فيجيء هذا بالشبّوط والشيّم ، ويجيء هذا بالظبي والظليّم ، ونحن اكثر الناس عاجاً وساجاً وخزاً وديباجاً وبرذوناً هملاجاً ، وخريدة مغناجاً ، بيوتنا الذهب ، ونهرنا العجب ، أوله الرطب ، وأوسطه العنب ، وآخره القصب ، فأما الرطب عندنا فمن النخل ، وهو مبارك كالزيتون عندكم في منابته ، هذا على أفنانه وذلك على أغصانه...
  وقال في موضع آخر : ما رأيت أرضا مثل الاُبُلّة مسافة ، ولا أغذى نطفة ، ولا أوطأ مطية ، ولا أربح لتاجر ، ولا أخفى لعائذ ...
  وأحبها ابن أبي عيينة المهلبي ، وكان لا يفارقها ، وقال فيها عندما اضطر للرحيل عنها إلى جرجان :
فـيا نـفسي قد بدّلتِ بؤساً iiبنعمةٍ      ويـا  عين قد بدلت من قرّة iiعِبَر
ويـا  حـبذا نـهر الاُبُلّة iiمنظراً      إذا مـدّ فـي إبّانه الماءُ أو iiجزر
ويا حسن تلك الجاريات إذا iiغدت      مع الماء تجري مصعدات وتنحدر
  وقال الأصمعي : جنان الدنيا ثلاث ، نهر الاُبُلّة ، وغوطة دمشق ، ونهر بلخ ، وتعدها العرب من أجمل المتنزهات ، وقالوا انها أنزه الأماكن ، وأشار إليها الشيخ محمد بن أحمد العمري الواسطي في هذا البيت :
دار الهدى خف منك الأهل والسكن      وفـزعت جهدها في ربعك iiالمحن
مـا  غوطة الشام ما نهر الاُبُلّة iiما      حمراء  غرناطة ما مصر ما iiاليمن
  ويحكى ان بكر بن النطاح الحنفي مدح أبا دلف بقصيدة ، فأثابه عليها بعشرة آلاف درهم ، فاشترى بها بيتا بالاُبُلّة ، ثم عاد بكر مرة أخرى ، وأنشده هذه الأبيات ، التي يذكر فيها نهر الاُبُلّة :
بك ابتعت في نهر الاُبُلّة ضيعة      عـليها  قـصير بالرخام مشيد
إلى جنبها أخت لها iiيعرضونها      وعـندك مـال لـلهبات iiعديد
  فقال له : كم ثمن هذه الأخت ؟ ، فقال عشرة آلاف درهم ، فدفعها له ، ثم قال له : تعلم أن نهر الاُبُلّة عظيم ، وفيه قرى كثيرة ، وكل أخت إلى جانبها أخرى ، وإن فتحت هذا الباب إتسع عليّ الخرق ، فاقتنع بهذه ، فدعا له وانصرف .

كاظمة تذود عن الاُبُلّة
  ومن اجلها ، خاض المسلمون معركة ذات السلاسل ، التي دارت رحاها في (كاظمة) ، وسجلوا فيها إنتصارا ساحقا على الجيش الفارسي بقيادة (هرمز) ، ثم زحفوا بأتجاه الاُبُلّة ، وأطبقوا الحصار على المعسكر الفارسي ، الذي كان يتحصن فيها ، وأدرك المسلمون أن الفزع يملأ قلوب الفرس ، فباغتوهم بهجوم كاسح ، وأنفرط عقد الجيش الفارسي بعد مقتل قائدهم ، وفتح المسلمون مدينة الاُبُلّة ، وأحكموا السيطرة على مينائها .

سر الاُبُلّة في مسجد العشّار
  اختلفت الأراء في تحديد موقع نهر الاُبُلّة ومساره ، وبرأيي ان نهر (العشّار) الحالي ، هو المرشح المقبول لتمثيل نهر الاُبُلّة ، فالعشاّر تسمية ضريبية ، وتعزى إلى تجمع العشّارين عند مدخل النهر ، لإستيفاء ضريبة العشر (10%) من التجار ، ولا يسمحون للسفن بدخول النهر ، إلا بعد تفتيشها ، وتعشيرها .
  ولا يوجد مصدر تاريخي يوضح إرتباط اسم العشّار بمدينة الاُبُلّة ، سوى كتاب ( سنن إبي داوود) ، الذي يكشف لنا الغبار عن هذا اللبس في التسمية ، إذ قال إبو داود السجستاني في (باب في ذكر البصرة) : قال حدثنا محمد بن المثنى عن إبراهيم بن صالح ، قال : إنطلقنا حاجين ، فإذا رجل فقال لنا : إلى جنبكم قرية يقال لها الاُبُلّة ، قلنا : نعم ... قال : من يضمن لي منكم أن يصلي لي في مسجد العشّار ركعتين ، أو ربما أربعا ، ويقول هذه لأبي هريرة ؟ ، فقد سمعت رسول الله (ص) ، يقول : ( إن الله يبعث من مسجد العشّار يوم القيامة شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم ) .
  وتحدثت مصادر كثيرة عن هذا المسجد ، الذي يحمل منذ بضعة قرون اسم (مسجد المقام) ، وهو من المساجد البصرية ، التي حافظت على شكلها ، وموقعها حتى يومنا هذا ، إذن العشّار يمثل جزءا بسيطا من مدينة الاُبُلّة.
  وذكر (ناصر خسرو العلوي) : ان المسافة بين نهر الاُبُلّة ونهر المعقل ، هي فرسخ واحد ، ولو حسبنا المسافة بين نهر العشّار ونهر المعقل الآن ، لوجدنا انها تقترب من سبع كيلومترات ، وتساوي فرسخ واحد ، وهذا يعني ان نهر العشّار هو خليفة نهر الاُبُلّة.
  ثم ان بقايا أطلال القصور القديمة المقامة حصريا على طول إمتداد نهر العشار ، والتي ما تزال شاخصة حتى الآن ، إضافة إلى وجود محلة السيف (بكسر السين) ، والتي يرمز اسمها إلى مستودعات تخزين البضائع المستوردة والمصدرة ، هي دليل آخر على وجود ملامح ورواسب تاريخية لنهر الاُبُلّة في حوض نهر العشّار.
  في حين تقدم لنا محلة المشراق ، الواقعة على ضفة نهر العشار ، دليلا ملموسا على : ان ما يسمى حاليا بنهر العشّار ، هو نهر الاُبُلّة نفسه ، إذ إن معظم المصادر التاريخية تؤكد على ، ان سهل بن عبد الله التستري دفن في محلة المشراق على ضفاف نهر الاُبُلّة.
  وقالت العرب : ما بين نهر الاُبُلّة ونهر المعقل حلة ، وهي إشارة إلى تقارب وتوازي نهر الاُبُلّة ونهر المعقل ، الذي حفره معقل بن يسار المازني ، حيث كان النهران يجريان صوب القبلة لمسافة أربعة فراسخ ، ثم يلتقيان ويكوّنان قناة واحدة تسير مسافة فرسخ واحد ناحية الجنوب ، وهذه الحقيقة تؤكدها تحركات سرايا صاحب الزنج ، وتجحفله في المعقل ، في المنطقة الواقعة شمال مدينة الاُبُلّة ، إستعداد للهجوم على المدينة المحصنة بالأسوار العالية ، وباشر بالهجوم من محورين ، فشن غاراته من ناحية شط عثمان بالرجالة ، وبما خف له من سفن من ناحية شط العرب ، وأخذت سراياه تضرب إلى ناحية نهر المعقل ، وهذه دلالة أكيدة على أن نهر المعقل من الأنهار القريبة لنهر الاُبُلّة ، وبما ان نهر العشّار هو أقرب الأنهار الكبيرة إلى المعقل ، فإن الإستنتاج المنطقي يشجعنا على الإقناع بأن نهر العشّار هو نهر الاُبُلّة ، وليس غيره.

مدينة تحت الرماد
  كتب لمدينة الاُبُلّة أن تتحول إلى بركان يغلي بالثورات ، والحروب الدامية منذ القرن الثاني للهجرة ، ثم صارت ثكنة عسكرية تعج بكتائب الجيوش الجرارة ، ومرت بمراحل مأساوية متعاقبة ، وصبت عليها الأقدار سوط عذابها ، وسحقتها المعارك الطاحنة ، التي اتخذت منها ساحة دائمية للقتال ، ومزقتها الأحقاد ، والنزاعات الداخلية الضارية ، والصراعات السياسية العقيمة ، ودمرتها الغارات الهمجية المتلاحقة ، ونهبها اللصوص والقراصنة ، وحاقت بها الملمات ، ونزلت بساحتها النكبات ، وأحالتها إلى خرائب مهجورة ، ينعق فيها البوم.
  أما نهر الاُبُلّة ، الذي كان يحتضن أكبر موانئ العالم ، فقد صار مستودعا للنفايات النفطية ، ومستنقعا لمياه المجاري الثقيلة ، والمخلفات الصناعية .
  ودفنت تلك الربوع الجميلة في دفاتر النسيان ، وأسدلت ستائر الأهمال على ميناء الاُبُلّة ، الذي كان يوما من أكبر جسور العالم القديم ، ولم يعد يذكر إلا في المقررات الدراسية لسلطنة عمان ، التي تركزت اهتماماتها على حفظ التاريخ الملاحي لحوض الخليج العربي ، اما اسم (الاُبُلّة) فصار عنوانا لقرية صغيرة من ضواحي مدينة المعقل بالبصرة ، بناها رئيس سلطة الموانئ (مزهر الشاوي) ، الذي إزدهرت على يده الموانئ العراقية في ستينيات القرن الماضي .

BASRAHCITY.NET