بدر شاكر السياب

سيرة الشاعر السياب ـ النص الأخير قبل القبر

  البداية السريعة على امتداد شط العرب إلى الجنوب الشرقي من البصرة ، وعلى مسافة تقطعها السيارة في خمس و أربعين دقيقة تقع أبو الخصيب التي تمثل مركز قضاء تابع لمحافظة البصرة يضم عددا من القرى من بينها قرية لا يتجاوز عدد سكانها ألفا ومائتي نسمة تقع على ما يسمى نهر أبو فلوس من شط العرب تدعى جيكور تسير إليها في طريق ملتوية تمتد بالماشي مدى ثلاثة أرباع الساعة من أبي الخصيب وهي الزاوية الشمالية من مثلث يضم أيضا قريتين أخريين هما بكيع وكوت بازل ، قرى ذات بيوت من اللبن و الطين ، لا تتميز بشيء لافت للنظر عن سائر قرى العراق الجنوبي فهي عامرة بأشجار النخيل التي تظلل المسارح المنبسطة ويحلو لأسراب الغربان أن تردد نعيبها فيها ، و عند أطراف هذه القرى مسارح أخرى منكشفة تسمى البيادر ، تصلح للعب الصبيان ولهوهم في الربيع والخريف ، وتغدو مجالا للنوارج في فصل الصيف ، فكل شخص يعمل في الزراعة ويشارك في الحصاد و الدراس ، ويستعين على حياته بتربية الدجاج والأبقار ، و يجد في سوق البصرة مجالا للبيع أو المقايضة ، ويحصل على السكر و البن و الشاي وبعض الحاجات الضرورية الأخرى لكي ينعم في قريته بفضائل الحضارة المادية ، وإذا كان من الطامحين إلى (الوجاهة) فلا بأس أن يفتح ديوانا يستقبل فيه الزائرين من أهل القرية أو من الغرباء ليشاركوه في فضائل تلك الحضارة المادية

السياب ـ دراسة في حياته وشعره

  والبلدة التي ولد الشاعر في إحدى قراها و أكمل دراسته الأولى فيها والتي بقي يتردد إليها طيلة عمره القصير ، برز فيها شعراء كثيرون ، وان لم يشتهروا كشهرته، لضعف وسائل الأعلام ولخلود أكثرهم إلى السكينة ولعزوفهم عن النشر ، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الشعراء محمد محمود من مشاهير المجددين في عالم الشعر و النقد الحديث، ومحمد علي إسماعيل ، زميل السياب في العالية وصاحب الشعر الكثير ، وأبوه شاعر مشهور أيضا و اسمه ملا علي إسماعيل ، ينظم القريض والشعر العامي ، و الشاعر خليل إسماعيل توفي في 1961 الذي ينظم المسرحيات الشعرية ويخرجها بنفسه ويصور ديكورها بريشته و الشاعر مصطفي كامل الياسين الدكتور و الموظف الكبير في الخارجية وعبد الستار عبد الرزاق الجمعة ، وعبد الباقي لفته و عبداللطيف الدليسي وعبدالحافظ الخصيبي ومؤيد العبدالواحد الشاعر الوجدان بالرقيق ومن رواة شعر السياب ، والشاعر الأستاذ سعدي يوسف هو من أبناء أبي الخصيب ، ظهرت له عدة دواوين شعرية ، ونال شهرة واسعة بين شعراء البلاد العربية ، اشتهر كالسياب بشعره الحر
 ونذكر الشاعر الشعبي عبدالدايم السياب ، من أقارب الشاعر ولشعره شهرة في المنطقة الجنوبية ، والشاعر الشعبي كذلك عدنان دكسن وهو معلم .
 ولد السياب في منطقة ( بكيع ) بكاف فارسية وجيكور محلة صغيرة فيها وهي كلمة فارسية تعني ( بيت العميان ) وتبعد عن أبي الخصيب بما يقارب الكيلوين و تقع القرية على شط العرب ، وأمامها جزيرة جميلة اسمها (الطويلة) كثيرا ما كان السياب يقضي الساعات الطوال فيها و نهر (بويب) الذي تغنى به الشاعر كثيرا ، يسيل في أملاك عائلة السياب وهو يتفرع من النهر الكبير إنها قرية صغيرة اسمها مأخوذ من العبارة الفارسية (جوي كور) أي الجدول الأعمى و آل السياب يملكون أراضي مزروعة بالنخيل ، وهم مسلمون سنيون عرفتهم جيكور لأجيال عدة .
  و على الرغم من أنهم لم يكونوا من كبار الملاكين في جنوب العراق ، فانهم كانوا يحيون حياة لائقة محترمة حسب المعايير المحلية .
 إن أعضاء الأسرة من الذكور لا يزيدون على ثلاثين في الوقت الحاضر مصطفى السياب ، في رسالة إلى المؤلف ، بيروت 32 نيسان 1966 لكن الأسرة كان أكبر مما هي اليوم في أوائل القرن التاسع عشر إذ كانت تصم عائلة المير .
 لكن كثيرين من أعضائها ماتوا في الطاعون الذي انتشر في العراق سنة 1831 وكان سياب بن محمد بن بدران المير أحد أعضائها ، وكان قد فقد جميع أهله الأقربين .
 وكلمة سياب بتشديدها بضم السين أو فتحها : اسم يطلق على البلح أو البسر الأخضر ، لكن قصة تروى في العائلة تزعم أنه دعي بهذا الاسم لأنه فقد جميع أقربائه وسيب وحيدا ، وهي تلفظ سياب في اللهجة المحلية بتسكين السين .
 وفي عام تزوج شاكر بن عبدالجبار ابنة عمه كريمة ، وكانت أمية في السابعة عشرة من عمرها ، و أسكنها معه في دار والده على ما تقضي به العادات المرعية ، وفي 1926 ولدت له ابنا دعاه ( بدرا ) ، وقد طار به فرحا وسجل تاريخ ميلاده حتى يتذكره ، لكنه ما لبث أن فقده وبقي تاريخ ميلاد بدر مجهول .
 ولم تكن إدارة البلاد في ذلك الوقت متفرغة لتنظيم تسجيل المواليد ، ولا سيما في النواحي النائية ، وفي 1928 ولدت له ابنا ثانيا دعاه عبدالله ، وفي 1930 ولدت له ابنا ثالثا دعاه مصطفى وكان فخورا بأبنائه الثلاثة ، واثقا من أنهم سيكبرون ويساعدونه في عمله لكن أحدا منهم ما ساعده كما كان ينتظر ويأمل .
 أما في البيت فقد كان بدر يلعب مع أصدقائه فيشاركه أخواه الأصغران ، وكان الأماكن المحببة للعبهم بيت واسع قديم مهجور يدعى (كوت المراجيح) باللهجة المحلية وكان هذا البيت في العهد العثماني يؤوي عبيد الأسرة (مصطفى السياب ، من مقابلة مع المؤلف ، بيروت 41 حزيران 1966) و من هنا أسمه ، إذا معنى ( لمراجيح ) المراقيق أي الرقي أو العبيد
 وقد دعاه بدر في شعره فيما بعد ( منزل الأقنان ) كانوا يلعبون في فنائه بالقفز على مربعات ودوائر تخطط على الأرض وما شابه ذلك من العاب القفز ، واكن يلذ لهم كذلك أن يرووا عنه قصص الأشباح .
 وقد جعله بدر مقرا لجريدة خطية كان يصدرها مدة باسم (جيكور) تتناقلها أيدي صبيان القرية ، ثم تعود في ختام المطاف لتجد محلها على الحائط في غرفة الإدارة
 وتشمل ذكرياته أقاصيص جده ـ على نحو مبهم ـ وقصص العجائز من عمة وجدة وغيرهما ، و من أقاصيصهما حكاية عبد الماء الذي اختطف زينب الفتاة القروية الجميلة ، وهي تملأ جرتها من النهر ، ومضى بها إلى أعماق البحر و تزوجها ، و أنجبت له عددا من الأطفال ، ثم رجته ذات يوم أن تزور أهلها ، فأذن لها بذلك ، بعد أن احتفظ بأبنائه ليضمن عودتها ، و لكنها لم تعد ، فأخذ يخرج من الماء ويناديها ويستثر عاطفتها نحو الأطفال ، و لكنها أصرت على البقاء ، و أخيرا أطلق أهلها النار على الوحش فقتلوه ، أما الأطفال فتختلف روايات العجائز حول مصيرهم .
 كذلك تشمل ذكرياته لعبه على شاطئ بويب ، وهو لا يفتأ يذكر بيتا في بقيع يختلف عن سائر البيوت ، في أبهائه الرحبة ، وحدائقه الغناء ، ولكن اشد ما يجذب نظره في ذلك المنزل الإقطاعي تلك الشناشيل ، وهي شرفة مغلقة مزينة بالخشب المزخرف و الزجاج الملون .
 غير أن الشاعر حين يتحدث من بعد عن بيت العائلة في جيكور فإنما يعني البيت الذي ولد فيه وعاش فيه سنوات طويلة في ظل أمه ، وقضى فترات متقطعة من صباه وشبابه الباكر في جنباته ، وهكذا ينبسط اسم ( جيكور ) على القريتين إذا ليست بقيع في واقع الحال الا حلة من جيكور .
 ولابد لنا من أن نشير إلى أن بعض الصحفيين زاروا هذا البيت في عام 1965 وكان مما قالوه في وصفه : البيت قديم جدا وعال ، وقد تحللت جذور البيت حتى أصبحت كأسفل القبر ، والبيت ذو باب كبير كباب حصن كتب عليه بالطباشير اسم ، عبدالمجيد السياب وهو الذي يسكن الآن في الغرفة الوحيدة الباقية كان البيت قبل عشر سنين يموج بالحركة والحياة ، أما سبب هجر عائلة السياب لهذا البيت أو بالأحرى لجيكور فهو بسبب ذهاب الشباب إلى المدن بعد توظيفه ، جريدة الثورة العربية ، بغداد عدد 184 ـ 12 شباط 1965 .
 دخل السياب في أول مراحله الدراسية مدرسة باب سليمان الابتدائية في أبي الخصيب ، ثم انتقل إلى المحمودية الابتدائية التي أسسها المرحوم محمود باشا العبدالواحد في سنة 1910 في العهد العثماني ، وبقيت تحمل اسمه حتى الآن و تخرج من هذه المدرسة في تاريخ 1 ـ 10 ـ 1938 ولدى مراجعة محمود العبطة سجلات المدرسة المحمودية ، عثر على معلومات خاصة بالشاعر نقلها من السجل رقم 6 وصفحة السجل 757 و المعلومات هي

معلومات خاصة بالشاعر
*************************************
قرية جيكور المحلة
1925 تاريخ الولادة
مدرسة باب سليمان آخر مدرسة كان فيها قبل دخوله المحمودية
1 ـ 10 ـ 1936 تاريخ دخوله المدرسة
الصف الخامس الصف الذي قبل فيه
1 ـ 10 ـ 1938 تاريخ الانفصال
أكمل الدراسة الابتدائية سبب الانفصال
1937 رسب في الصف السادس سنة
1938 نجح من السادس سنة
ابيض الوجه ـ أسود العينين صفاتة
جيدة أحواله الصحية
جيدة سيرته في المدرسة


اشعاره
أنشودة المطر

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
، أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهر
يرجه المجداف وهنا ساعة السحر
... كأنما تنبض في غوريهما النجوم
وتغرقان في ضباب من أسى شفيف
كالبحر سرح اليدين فوقه المساء
دفء الشتاء فيه و ارتعاشة الخريف
و الموت و الميلاد و الظلام و الضياء
فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء
، كنشوة الطفل إذا خاف من القمر
كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم
... وقطرة فقطرة تذوب في المطر
وكركر الأطفال في عرائش الكروم
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودة المطر
مطر
مطر
مطر
تثاءبي المساء و الغيوم ما تزال
، تسح ما تسح من دموعها الثقال
: كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام
بأن أمه ـ التي أفاق منذ عام
فلم يجدها ، ثم حين لج في السؤال
قالوا له : ( بعد غد تعود ) ـ
لابد أن تعود
و إن تهامس الرفاق أنها هناك
في جانب التل تنام نومة اللحود
، تسف من ترابها و تشربي المطر
كأن صيادا حزينا يجمع الشباك
ويلعن المياه و القدر
و ينثر الغناء حيث يأفل القمر
المطر
المطر
أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ؟
و كيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
،بلا انتهاء ـ كالدم المراق ، كالجياع
كالحب كالأطفال كالموتى ـ هو المطر
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروق
سواحل العراق بالنجوم و المحار
كأنها تهم بالبروق
، فيسحب الليل عليها من دم دثار
اصح بالخيلج : ( يا خليج
) يا واهب اللؤلؤ و المحار و الردى
فيرجع الصدى
: كأنه النشيج
يا خليج(
( ... يا واهب المحار و الردى
أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
و يخزن البروق في السهول و الجبال
حتى إذا ما فض عنها ختمها الرجال
لم تترك الرياح من ثمود
، في الواد من اثر
أكاد اسمع النخيل يشرب المطر
و اسمع القرى تئن ، و المهاجرين
، يصارعون بالمجاذيف و بالقلوع
: عواصف الخليج و الرعود ، منشدين
مطر(
مطر
مطر
وفي العراق جوع
وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبع الغربان و الجراد
و تطحن الشوان و الحجر
رحى تدور في الحقول ... حولها بشر
مطر
مطر
مطر
وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع
ثم اعتللنا ـ خوف أن نلام ـ بالمطر
مطر
مطر
و منذ أن كنا صغارا ، كانت السماء
تغيم في الشتاء
، و يهطل المط
ر وكل عام ـ حين يعشب الثرى ـ نجوع
ما مر عام و العراق ليس فيه جوع
مطر
مطر
مطر
في كل قطرة من المطر
، حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
و كل دمعة من الجياع و العراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على ف الوليد
في عالم الغد الفتي واهب الحياة
مطر
مطر
مطر
(... سيعشب العراق بالمطر
أصيح بالخليج : ) يا خليج
(يا واهب اللؤلؤ و المحار و الردى
فيرجع الصدى
: كأنه النشيج
يا خل )
( يا واهب المحار و الردى
وينثر الخليج من هباته الكثار
على الرمال ، رغوه الاجاج ، و المحار
و ما تبقى ن عظام بائس غريق
من المهاجرين ظل يشرب الردى
من لجة الخليج و القرار
و في العراق ألف أفعى تشرب الرحيق
، من زهرة يربها الرفات بالندى
و اسمع الصدى
يرن في الخليج
مطر"
مطر
مطر
في كل قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
وكل دمعة من الجياع و العراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغد الفتي ، واهب الحياة )
ويهطل المطر

لمسيح بعد الصلب

بعدما أنزلوني ، سمعت الرياح
في نواح طويل تسف النحيل
و الخطى وهي تنأى ، إذن فالجراح
و الصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيل
لم تمتني ، و أنصت : كان العويل
يعبر السهل بيني و بين المدينه
مثل حبل يشد السفينه
وهي تهوي إلى القاع ، كان النواح
مثل خيط من النور بين الصباح
، و الدجى ، في سماء الشتاء الحزينه
، ثم تغفو ، على ما تحس ، المدينه
حينما يزهر التوت و البرتقال
حين تمتد جيكور حتى حدود الخيال
حين تخضر عشباً يغني شذاها
، و الشموس التي أرضعتها سناها
، حين يخضر حتى دجاها
، يلمس الدفء قلبي ، فيجري دمي في ثراها
قلبي الشمس إذا تنبض الشمس نورا
، قلبي الأرض ، تنبض قمحا ، و زهرا ، وماء نميرا
قلبي الماء ، قلبي هو السنبل
، موته البعث ، يحيا بمن يأكل
في العجين الذي يستدير
ويدحى كنهد صغير ، كثدي الحياه
، مت بالنار : أحرقت ظلماء طيني ن فظل الإله
، كنت بدء ، وفي البدء كان الفقير
، مت ، كي يؤكل الخبز باسمي، لكي يزرعوني مع الموسم
كم حياة سأحيا : ففي كل حفره
،صرت مستقبلا ، صرت بذره
صرت جيلا من الناس ، في كل قلب دمي
، قطرة منه أو بعض قطره
... هكذا عدت ، فاصفر لما رآني يهوذا
فقد كنت صره
كان ظلا ، قد اسود مني ، وتمثال فكره
جمدت فيه واستلت الروح منها
خاف أن تفضح الموت في ماء عينيه
عيناه صخره)
(راح فيها يواري عن الناس قبره
، خاف من دفئها ، من محال عليه ، فخبر عنها
ـ ( أنت ؟ أم ذاك ظلي قد ابيض وارفض نورا؟
، أنت من عالم الموت تسعى ؟ هو الموت مره
) هكذا قال آباؤنا ، هكذا علمونا ، فهل كان زورا ؟
، ذاك ما ظن لما رآني ، وقالته نظره
قدم تعو ، قدم ، قدم
القبر يكاد بوقع خطاها ينهدم
أترى جاءوا ؟ من غيرهم ؟
قدم ... قدم ... قدم
،ألقيت الصخر على صدري
، أو ما صلبوني أمس ؟ ... فها أنا في قبر
فليأتوا ـ إني في قبري
من يدري أني ... ؟ من يدري ؟
ورفاق يهوذا ؟ من سيصدق ما زعموا ؟
... قدم
، قدم
: ها أنا الآن عريان في قبري المظلم
، كنت بالأمس ألتف كالظن ، البرعم
، تحت أكفاني الثلج ، يخضل زهر الدم
كنت كالظل بين الدجى و النهار ، ثم فجرت نفسي كنوزا فعريتها كالثمار
حين فصلت جيبي قماطا وكمي دثار
حين دفأت يوما بلحمي عظام الصغار
حين عريت جرحي ، وضمدت جرحا سواه
، حطم السور بيني و بين الإله
فاجأ الجند حتى جراحي ودقات قلبي
فاجأوا كل ما ليس موتا و إن كان في مقبره
فاجأوني كما فاجأ النخلة المثمره
، سرب جوعى من الطير في قرية مقفره
أعين البندقيات يأكل دربي
شرع تحلم النار فيها بصلبي
إن تكن من حديد ونار ، فأحداق شعبي
من ضياء السموات ، من ذكريا وحب
تحمل العبء عني فيندى صليبي ، فما أصغره
، ذلك الموت ، موتي ، وما أكبره
بعد أن سمروني و ألقيت عيني نحو المدينه
: كدت لا أعرف السهل و السور و المقبره
، كان شئ ، مدى ما ترى العين
، كالغابة المزهره
، كان ، في كل مرمى ، صليب و أم حزينه
قدس الرب
، هذا مخاض المدينه


النهر و الموت

1
بويب
بويب
أجراس برج ضاع في قارة البحر
الماء في الجرار ، و الغروب في الشجر
وتنضج الجرار أجراسا من المطر
بلورها يذوب في أنين
( بويب ... يا بويب )
فيدلهم في دمي حنين
إليك يا بويب
يا نهري الحزين كالمطر
أود لو عدوت في الظلام
أشد قبضتي تحملان شوق عام
في كل إصبع كأني أحمل النذور
إليك من قمح و من زهور
أود لو أطل من أسرة التلال
لألمح القمر
يخوض بين ضفتيك يزرع الظلال
و يملأ السلال
بالماء و الأسماك و الزهر
أود لو أخوض فيك أتبع القمر
و اسمع الحصى يصل منك في القرار
صليل آلاف العصافير على الشجر
أغابة من الدموع أنت أم نهر؟
و السمك الساهر هل ينام في السحر؟
و هذه النجوم هل تظل في انتظار
تطعم بالحرير آلاف من الإبر ؟
و أنت يا بويب
أود لو غرقت فيك ألقط المحار
أشيد منه دار
يضيء فيها خضرة المياه و الشجر
ما تنضح النجوم و القمر
و أغتدي فيك مع الجزر إلى البحر
فالموت عالم غريب يفتن الصغار
وبابه الخفي كان فيك يا بويب
2
بويب ... يا بويب
عشرون قد مضين كالدهور كل عام
و اليوم حين يطبق الظلام
و استقر في السرير دون أن أنام
و ارهف الضمير دوحة إلى السحر
مرهفة الغصون و الطيور و الثمر
أحس بالدماء و الدموع كالمطر
ينضحهن العالم الحزين
أجراس موتى في عروقي ترعش الرنين
فيدلهم في دمي حنين
إلى رصاصة يشق ثلجها الزؤام
أعماق ، كالجحيم يشعل العظام
أود لو عدوت أعضد المكافحين
اشد قبضتي ثم أصفع القدر
أود لو غرقت في دمي إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر
، و أبعث الحياة ، إن موتي انتصار

غريب على الخليج

الريح تلهث بالهجيرة ، كالجثام ، على الأصيل
و على القلوع تظل تطوى أو تنشر للرحيل
زحم الخليج بهن مكتدحون جوابو بحار
، من كل حاف نصف عاري
و على الرمال ، على الخليج
جلس الغريب، يسرح البصر المحير في الخليج
: و يهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج
أعلى من العباب يهدر رغوه و من الضجيج )
، صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى : عراق
، كالمد يصعد ، كالسحابة ، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي : عراق
و الموج يعول بي : عراق ، عراق ، ليس سوى عراق ‍‍
البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكون
و البحر دونك يا عراق
... بالأمس حين مررت بالمقهى ، سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانه
هي دورة الأفلاك في عمري ، تكور لي زمانه
، في لحظتين من الأمان ، و إن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
، وصوتها ، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام
و هي النخيل أخاف منه إذا ادلهم مع الغروب
فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب
، من الدروب وهي المفلية العجوز وما توشوش عن (حزام) 1
وكيف شق القبر عنه أمام عفراء الجميلة
، فاحتازها ... إلا جديله
زهراء أنت ... أتذكرين
تنورنا الوهاج تزحمه أكف المصطلين ؟
وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين ؟
ووراء باب كالقضاء
قد أوصدته على النساء
أبد تطاع بما تشاء ، لأنها أيدي الرجال
، كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال
أفتذكرين ؟ أتذكرين ؟
سعداء كنا قانعين
، بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساء
، حشد من الحيوات و الأزمان ، كنا عنفوانه
، كنا مداريه اللذين ينام بينهما كيانه
أفليس ذاك سوى هباء ؟
حلم ودورة أسطوانه ؟
ان كان هذا كل ما يبقى فأين هو العزاء ؟
، أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه
يا أنتما ـ مصباح روحي أنتما ـ و أتى المساء
، و الليل أطبق ، فلتشعا في دجاه فلا أتيه
لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء
الملتقى بك و العراق على يدي ... هو اللقاء
شوق يخض دمي إليه ، كأن كل دمي اشتهاء
جوع إليه ... كجوع كل دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولاده
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون ، فكيف يمكن أن يكون ؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها ، و الظلام
، حتى الظلام ـ هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه ، متى أنام
فأحس أن على الوساده
ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق ؟
بين القرى المتهيبات خطاي و المدن الغريبة
، غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه ،
فسمعت وقع خطى الجياع تسير ، تدمي من عثار
، فتذر في عيني ، منك ومن مناسمها ، غبار
ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في الدروب
، تحت الشموس الأجنبيه
متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديه
صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب
، بين العيون الأجنبيه
بين احتقار ، و انتهار ، و ازورار ... أو ( خطيه) 2
(و الموت أهون من (خطيه
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبيه
قطرات ماء ... معدنيه
، فلتنطفئ ، يا أنت ، يا قطرات ، يا دم ، يا ... نقود
يا ريح ، يا إبرا تخيط لي الشراع ، متى أعود
إلى العراق ؟ متى أعود ؟
يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود
، بي الخليج ، ويا كواكبه الكبيرة ... يا نقود
ليت السفائن لا تقاظي راكبيها من سفار
أو ليت أن الأرض كالأفق العريض ، بلا بحار
ما زلت أحسب يا نقود ، أعدكن و استزيد ،
ما زلت أنقض ، يا نقود ، بكن من مدد اغترابي
ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي و بابي
في الضفة الأخرى هناك ، فحدثيني يا نقود
متى أعود ، متى أعود ؟
أتراه يأزف ، قبل موتي ، ذلك اليوم السعيد ؟
سأفيق في ذاك الصباح ، و في السماء من السحاب
، كسر ، وفي النسمات برد مشبع بعطور آب
و أزيح بالثوباء بقيا من نعاسي كالحجاب
: من الحرير ، يشف عما لا يبين وما يبين
.عما نسيت وكدت لا أنسى ، وشك في يقين
ويضئ لي ـ وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي ـ
ما كنت ابحث عنه في عتمات نفسي من جواب
لم يملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالضباب ؟
اليوم ـ و اندفق السرور علي يفجأني ـ أعود
واحسرتاه ... فلن أعود إلى العراق
وهل يعود
من كان تعوزه النقود ؟ وكيف تدخر النقود
و أنت تأكل إذ تجوع ؟ و أنت تنفق ما تجود
به الكرام ، على الطعام ؟
لتبكين على العراق
فما لديك سوى الدموع
، وسوى انتظارك ، دون جدوى ، للرياح وللقلوع
الكويت 1953






BASRAHCITY.NET