10 ـ شرح الفرائض النصيرية للمحقّق الطوسي.
  11 ـ رسالة في ذبائح أهل الكتاب ، وقد طبعت.
  يقول في مقدّمتها : إنّالباعث على تأليف هذه الرسالة أنّ رسول ملك الروم ، لمّا ورد بالرسالة من تلك المملكة إلى هذه البلاد ، ذكر في بعض الاَيام أنّ من أعظم ما يشنّع به علماء الروم على علمائكم ، بعد مسألة الاِمامة ، حكمهم بتحريم ذبائح أهل الكتاب ، مع أنّ القرآن المجيد نطق بتحليلها في آية لا مجال لتأويلها ، وهي قوله تعالى : ( وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَحِلٌّ لَكُمْ ) . (1)
  فأمرني السلطان... أن أكتب رسالة قامعة للجاجهم ، قاطعة لاحتجاجهم بحيث يرتفع تشنيعهم علينا ، فكتبت على سبيل الاستعجال ما منح به قلم الارتجال ، مع توزّع البال ، وأمر بإرسال هذه الرسالة إلى بلاد الروم مع رسوله ليرتفع حجاب الاحتجاب في هذا الباب ، ويتضح عذرنا عند أُولي الاَلباب. (2)
  إلى غير ذلك من الرسائل ، وأمّا تأليفه في سائر العلوم ، وحتى الاَُصول ، فليس هناك موضوع إلاّ وقد ولجه ، وقد ألّف في الاَُصول كتابه ( زبدة الاَُصول ) ، وهو مطبوع. (3)
  19 ـ الشيخ جواد بن سعيد بن جواد الكاظمي
  ( كان حيّاً عام 1029 هـ )
  هو الشيخ محمد جواد الكاظمي ، ثمّ الاِصفهاني ، قرأ المقدّمات في الكاظمية ، ثمّ ارتحل إلى بلدة إصفهان ، فتخرّج على شيخنا البهائي ، إلى أن صار

(1) المائدة :5.
(2) رسالة ذبائح أهل الكتاب :58 ، المقدّمة.
(3) وقد ترجمه شيخنا الاَميني في ( الغدير ) :11|249ـ284 ، وقد ذكر عدداً من مشايخه وتلامذته وجلّ تآليفه ، ومقتطفات من شعره ، وأسماء المعاجم التي له فيها ترجمة، روضات الجنات :7|56 برقم 599 ، أمل الآمل :1|155، ريحانة الاَدب : 3|301، الذريعة : 2|29.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 377 ـ
  من أخصّخواصه ، وأعزّ ندمائه ، فصنّف بأمره كتابه المسمى بـ ( غاية المأمول في شرح زبدة الاَُصول ).
  كما شرح كتابه الآخر باسم ( خلاصة الحساب ) وأمّا كتابه الثالث فهو ( مسالك الاَفهام في شرح آيات الاَحكام ) طبع في جزءين عام 1387 هـ .
  وله في الفقه كتاب آخر وهو ( شرح كتاب الدروس ) للشهيد الاَوّل ، خرج منه إلى كتاب الحجّ ، وفرغ منه عام 1029هـ في المشهد الكاظمي ، والمطبوع من كتبه هو شرحه على آيات الاَحكام ، الذي يصفه الشيخ حسن بن عباس البلاغي النجفي في كتابه ( تنقيح المقال ) بأنّه كتاب كبير من أكبر ما كتب في شأنه. (1)
  هذه أسماء ثلّة من الفقهاء الذين أنجبتهم هذه الحقبة من الزمان ، ولو أردنا الاِطناب بسرد أسماء الفقهاء في هذا القرن لطال بنا الكلام ، فإنّ السابر في تاريخ الفقه الشيعي خاصة في هذا القرن يجد أمامه أسماء طائفة كبيرة من الفقهاء خصوصاً في منطقة جبل عامل والشام.

حصيلة الجهود الفقهية في القرن العاشر و أوائل الحادي عشر
  يتمتع هذا القرن بغزارة الانتاج الفقهي ، وكثرة الفقهاء ، وذلك لاَنّه قد تأسّست في مستهـلّ القرن العاشر ( 905 هـ ) دولة شيعية على يد السلطان إسماعيل الصفوي ، واستطاع أن يقضي على الدويلات الصغيرة ، ويبسط نفوذه

(1) انظر ترجمته في رياض العلماء :1|118 ، روضات الجنات :2|216 برقم 179 ، والكنى والاَلقاب :3|9 ، وقد كتب السيّد المرعشي (قدس سره) مقدّمة على كتاب ( مسالك الاَفهام ) أدّى فيه حق المقال.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 378 ـ
  على المراقد المقدسة في العراق ، وبذلك اتسعت رقعة دولته ، حتى شملت ( هراة ) من الشرق إلى غربي العراق ، وعلى صعيد آخر فقد تزامن ظهور الدولة الصفوية مع الدولة العثمانية ، واتسعت رقعتها على يد السلطان سليم العثماني ، فلم يكن لسلاطين الصفوية بدٌّ من إضفاء الشرعية على حكمهم عن طريق التقرّب إلى الفقهاء ، امتثالاً لواجبهم الديني ورغبة في الحيلولة دون وصول النفوذ العثماني إلى المناطق الخاضعة لنفوذهم ، و ممّن لبّى دعوتهم الشيخ المحقّق علي بن عبد العالي الكركي ، فقد التقى بالسلطان إسماعيل في هراة ودارت بينهما مناظرات ظهرت فيها كفاءته ، ولمّا توفي السلطان إسماعيل ، قام مقامه السلطان طهماسب فكان للشيخ المحقّق منزلة عظيمة عنده ، ونصبه حاكماً في الاَُمور الشرعية لكافة بلاد إيران ، وأعطاه بذلك حكماً ذكره شيخنا النوري في المستدرك. وقد حرّر الحكم عام 939 هـ . (1)
  لا شكّ أنّ الفقيه الجامع للشرائط هو الذي يتكفّل بالنصب والعزل ، لا السلطان ، وأمّا المرونة التي أظهرها الشيخ بقبول أوامر السلطان فلم تكن إلاّ لمصالح اقتضت قبوله لصالح الشيعة.
  وقد تمتع علماء الشيعة في الشام في عصر المماليك بحرّية نسبية أتاحت لهم فرصة ممارسة النشاط العلمي الفقهي في الشام وجبل عامل وسائر النقاط المكتظة بالشيعة.
  وسرعان ما أخذ هذا النشاط الفقهي بالفتور إثر تسلم الدولة العثمانية زمام الاَُمور في الشام خصوصاً جبل عامل ، وعاد الاضطهاد على الشيعة مرّة أُخرى ، ممّا حدا بفقهاء جبل عامل إلى الهجرة نحو إيران ، لمّا وجدوا فيها ضالّتهم المنشودة ، فقد رحّبت بهم الدولة الصفوية ترحيباً حاراً ، فأخذت الاَبحاث

(1) المستدرك :3|433ـ 434.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 379 ـ
  الفقهية تزدهر في إيران والعراق خصوصاً فيما يرجع إلى الفقه الحكومي ، وصار من حصيلة هذا القرن أنّه كثرت التآليف في هذا المضمار ، ومرّفيما سبق أنّ المحقّق الكركي كتب رسالة في حل الخراج ، ونازعه الشيخ إبراهيم القطيفي برسالة أُخرى ، وكان الاَردبيلي يدعم موقف القطيفي في المسألة ، والشيباني يدعم موقف المحقّق الكركي.
  وهكذا نجد رسائل كثيرة أُلّفت حول وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة وحرمتها ، ووجوبها تخييراً ، وما ذلك إلاّ لاَنّ صلاة الجمعة لها أهميتها لا سيما جانبها السياسي ، ففي زمان الحضور لا يقيمها إلاّ الاِمام ، أو من نصبه ، وأمّا في زمان الغيبة فقد اختلفت كلمة الفقهاء ، واحتدم الجدل والنقاش حولها منذ ظهور الصفوية على مسرح الصراع ، وقد أفتى بوجوبها في عصر الغيبة فقيه جامع للشرائط كالمحقّق الكركي ، وأخذ ينصب أئمّة لاِقامة الجمعة ، حتّى صار ذلك سبباً لطرح المسألة من رأس ، فهل للمجتهد الجامع للشرائط كما للاِمام المعصوم من النصب أو العزل أو لا ، وهذا الذي نعبّر عنه في زماننا بولاية الفقيه ؟ فبعد الاِيعاز إلى هذه المقدّمة نستعرض حصيلة الجهود التي أُنجزت في هذا القرن :
  1 ـ ظهور موَلّفات في الفقه الحكومي حول الخراج وصلاة الجمعة وغيرها.
  2 ـ اكتظت الساحة الفقهية بندوات تدور أكثرها حول المسائل الحكوميّة أو المساجلات التحريرية ، وما ذلك إلاّ لظهور أبحاث كان الفقهاء بأمس الحاجة إلى وضع الحلول المناسبة لها خاصة بعد قيام الدولة الصفوية الشيعية.
  3 ـ ظهور موسوعات فقهية كبيرة لم ير الدهر لها من نظير ، كـ ( جامع

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 380 ـ
  المقاصد ) لشيخنا المحقّق الكركي ، و ( مجمع الفائدة والبرهان ) للمحقّق الاَردبيلي.
  4 ـ العناية بعلم الرجال ، وتصحيح الاَسانيد ، والاِفتاء على ضوء الروايات الصحيحة ، وتطبيق التنويع الموروث عن ابن طاووس على الفقه ، كما هو المشاهد من فقه المحقّق الاَردبيلي ، وتلميذيه صاحب المعالم و المدارك.
  5 ـ العناية بفقه القرآن عناية وافرة ، فقد ألّف في ذلك القرن عدّة كتب حول آيات الاَحكام ، من جملتها :
  1 ـ ( معارج السوَول في مدارج المأمول ) في تفسير آيات الاَحكام في مجلدين ، للمولى كمال الدين الحسن بن شمس الدين محمد بن الحسن الاسترابادي النجفي ، فرغ من مجلده الاَوّل عام 891 هـ ، وقال في مقدمته : لمّا منّ اللّه عليّه بتأليف كتاب ( عيون التفاسير ) سأله من طاعته فرض أن يستخرج منه تفسير آيات الاَحكام على نهج ما ألّفه شيخه الفاضل المقداد.
  ويعرّفه الشيخ النوري بأنّه أحسن ما أُلّف في تفسير آيات الاَحكام وأبسطها. (1)
  2 ـ ( زبدة البيان في فقه القرآن ) ألّفه المحقّق الاَردبيلي كمامرّ.
  3 ـ ( التفسير الشاهي ) ألّفه أبو الفتح بن الاَمير المخدوم ، ابن الاَمير شمس الدين محمد الحسيني ، المتوفّى عام 986 هـ ، وقد ألّفه للسلطان طهماسب الاَوّل باللّغة الفارسية ، وطبع بإشراف الشيخ ولي اللّه الاشراقي السرابي (قدس سره) .

(1) الذريعة :21| برقم 4512.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 381 ـ
ميزات الدور الرابع
  ابتدأ هذا الدور منذ أوائل القرن السابع ، واستمر إلى أواخر القرن العاشر وشيء من أوائل الحادي عشر ، وقد ذكرنا في مختتم كل قرن حصيلة الجهود التي انتهت إلى تطوّر الفقه على كافة الاَصعدة ، فلو قمنا بجمعها لوقفنا على حصيلة المميزات التي يتميز بها هذا الدور عمّا سبقه من الاَدوار الثلاثة.
  وخوفاً من إطالة الكلام نذكر موجزاً لما تقدّم.
  1 ـ تأليف المتون الفقهية على أصعدة ثلاثة : مقتضب ومتوسط ومسهب.
  2 ـ تأليف موسوعات فقهية ودورات كبيرة ، خاصّة في القرن السابع والعاشر.
  3 ـ الاهتمام بأُصول الفقه من قبل فقهاء الشيعة ، فقد شهدت الكتب الاَُصولية تطورّاً ملحوظاً كمّاً وكيفاً.
  4 ـ ظهور لون جديد من التأليف في فقه الشيعة ، وهو جمع الخلافيات بين فقهاء الشيعة ، ويعد العلاّمة الحلّي أوّل من فتح الباب على مصراعيه في هذا المضمار.
  5 ـ ظهور موسوعات فقهية في الفقه المقارن ، أشهرها وأجمعها كتاب ( التذكرة ).
  6 ـ ظهور كتب رجاليّة كـ ( حل الاِشكال في معرفة الرجال ) للسيد جمال الدين الطاووسي ، وصنّف على غراره تلميذاه : العلاّمة الحلّي ، وابن داود ، وظهور موسوعات رجالية للقُهبائي والاسترابادي على ما مرّت .
  7 ـ تنويع الحديث بابتكار ابن طاووس ، وإدخالهاحيّز التطبيق في الفقه.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 382 ـ
  8 ـ ظهور لون خاصّ من الفقه باسم القواعد ، وأوّل من ألّف فيه هو الشهيد الاَوّل.
  9 ـ العناية بفقه القرآن ، فقد ألّف شيخنا الفاضل المقداد كتاب ( كنز العرفان ) وأعقبه الحسن بن محمد بن الحسن الاسترابادي بتأليف كتابه ( معارج السوَول في مدارج المأمول ) في مجلدين ، وأعقبه الاَردبيلي بتأليف كتابه ( زبدة البيان ) وشيخنا الفاضل الجواد بكتابه ( مسالك الاَفهام إلى آيات الاَحكام ).
  10 ـ العناية بالاَحكام السلطانية والفقه الحكومي ، وظهور مساجلات تحريرية بين العلماء في مسائل صارت موضعاً للابتلاء بعد ظهور الدولة الصفوية.
  وبذلك انتهى هذا الدور باختتام القرن العاشر.

المراكز العلمية التي نشطت في هذا الدور
  قد احتفل هذا الدور بنشاط مراكز علمية مختلفة ، غير انّ القسط الاَوفر كان لمدرستين عظيمتين ، هما : مدرسة الحلّة ، ومدرسة جبل عامل ، اللّتان أنجبتا عباقرة من الفقهاء .
  1 ـ مدرسة الحلّة
  فقد بدأت مدرسة الحلّة نشاطها في مختتم القرن السادس يوم قام ابن إدريس بنفض غبار التقليد عن كاهل الفقه ورفع راية الاجتهاد ، فالتف حوله نخبة من الفضلاء الاَفذاذ حتى أضحت مدرسته النواة الاَُولى لمدرسة الحلّة فيما بعد.
  ثمّ أعقبه آخرون ساروا على نهج الاجتهاد الحر (أي غير الملتزم برأي من

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 383 ـ
  قبله) ، كـ :ابن نما الحلي ، وابن طاووس ، والمحقّق الحلّي ، وابن سعيد الحلّي.
  وقد استمر نشاطها في القرون المتتابعة حتى أواخر القرن التاسع.
  ومع أنّ الحملة المغولية محت كثيراً من الآثار العلمية في حاضرة العراق ودمّرتها ، إلاّ أنّ الحوزة العلمية في الحلّة بقيت مصونة عن شرهم واستمر نشاطها إلى مختتم القرن التاسع ، وكان أحمد بن فهد الحلّي ( المتوفّـى 841 هـ ) من أعلام ذلك القرن.
  2 ـ مدرسة جبل عامل
  راج التشيع في بلاد الشام منذ إقصاء أبي ذر الغفاري ذلك الصحابي الجليل إلى الشام ، ثمّ انتعش في أيام الفاطميين حتى أُصيب بنكسة في زمن الاَيوبيّين ، ولمّا استولى المغول وأعقبتهم دولة المماليك تنفست الشيعة الصعداء في تلك المنطقة.
  وفي تلك الظروف بادر الشهيد الاَوّل إلى إنشاء مدرسة علمية في جزّين ، فأثمرت واتسعت وتلتها حوزات علمية أُخرى ، كحوزة بعلبك والكرك وجبع.
  واستمر الوضع على هذا المنوال حتى سقوط دولة المماليك على يد السلطان سليم العثماني الذي امتد نفوذه إلى بلاد الشام في العقد الثالث من القرن العاشر ( 930 هـ ) ، وهناك عاد الضغط على الشيعة مرّة أُخرى ، وبلغ القمة حين استشهاد الشهيد الثاني من جراء نشوب الاضطرابات والفتن عام 965 هـ ، فأخذ النشاط الفقهي في جبل عامل بالتقلّص شيئاً فشيئاً ، ممّا حدا بكثير من الفقهاء إلى الهجرة صوب إيران والعراق .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 384 ـ
أدوار الفقه الشيعي
5 ـ الدور الخامس

  ظهور الحركة الاَخبارية (1)
  ( 1030 ـ 1185 هـ )
كان مطلع القرن الحادي عشر مسرحاً للتيارات الفكرية المختلفة ، فمن مكبّ على العلوم الطبيعية كالنجوم والرياضيات والطب التي معيارها التجربة ، إلى آخر متوغّل في الحكمة والعرفان والمعارف العقلية التي لا تدرك إلاّ بقسطاس العقل ، إلى ثالث مقبل على علم الشريعة كالفقه والاَُصول ومبادئهما.
  وفي تلك الاَجواء المشحونة ظهرت المدرسة الاَخبارية التي شطبت على العلوم العقلية بقلم عريض ولم تر للعقل أيّ وزن واعتبار لا في العلوم العقلية ولا في العلوم النقلية ، ونادت ببطلان الاجتهاد والتقليد ، وخطّأت طريقتهما.

(1) إنّ الحركة الاَخبارية ابتدأت منذ أوائل القرن الحادي عشر ودامت حتى مقتل آخر زعيمهم ، أعني : الشيخ الشريف محمد بن عبد النبي بن عبد الصانع المحدّث النيسابوري المعروف بـ ( ميرزا محمد الاَخباري ) في الكاظمية عام 1232 هـ ، والواقع أنّ ظهور أفكار الوحيد البهبهاني ( 1118 ـ 1206 هـ ) استطاعت أن تقضي على تلك الحركة وتضعضع أركانها ، فلم يعد هناك من يتحمّس لتلك الفكرة ويدافع عنها ، فتجد انّالوحيد البهبهاني قد صلّى على جنازة الشيخ يوسف البحراني أكبر شخصية أخبارية لمّا توفي عام 1186 هـ ، وهذا يعرب عن اضمحلال الفكرة الاَخبارية وإعادة النشاط الاجتهادي إلى الساحة الفكرية مرة أُخرى.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 385 ـ
  وقد رفع رايتها الشيخ محمد أمين بن محمد شريف الاسترابادي الاَخباري في كتابه الموسوم بـ ( الفوائد المدنية ) الذي ألّفه في المدينة المنورة أيام إقامته بها وتتلخّص فكرته في الاَُمور التالية :
  1 ـ عدم حجّية ظواهر الكتاب إلاّ بعد ورود التفسير عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، لما ورد من الاَحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي أوّلاً ، وطروء مخصّصات ومقيّدات على عمومه وخصوصه ثانياً.
  2 ـ نفي حجّية حكم العقل في المسائل الاَُصولية وعدم الملازمة بين حكم العقل والنقل.
  3 ـ نفي حجّية الاِجماع من دون فرق بين المحصل و المنقول.
  4 ـ ادّعاء قطعية صدور كلّما ورد في الكتب الحديثية الاَربعة من الروايات لاهتمام أصحابها بتلك الروايات ، فلا يحتاج الفقيه إلى دراسة أسنادها أو تنويعها إلى الاَقسام الاَربعة المشهورة ، كما قام بها ابن طاووس وتبعه العلاّمة.
  5 ـ التوقّف عن الحكم إذا لم يدل دليل من السنّة على حكم الموضوع ، والاحتياط في مقام العمل ، فالتدخين الذي كان موضوعاً جديداً آنذاك تُوقف عن الحكم فيه وروعي الاحتياط في مقام العمل بتركه.
  هذه هي الاَُسس التي قامت عليها المدرسة الاَخبارية.
  نعم نقل الخوانساري في ( الروضات ) عن المحدّث الصالح الشيخ عبد اللّه ابن الحاج صالح السماهيجي البحراني الذي هو أحد الاَخباريين في القرن الثاني عشر انّه ألّف رسالة في المسائل الضرورية وأنهى ما بين الاَخباريين والمجتهدين من الفروق إلى أربعين فرقاً. (1)ثمّ نقلها صاحب الروضات برمّتها

(1) روضات الجنات :4|250.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 386 ـ
  في ترجمة محمد أمين الاَخباري. (1)
  والحقّ أنّ جوهر الفروق هي التي استعرضناها ، وأمّا الفروق الاَُخر الباقية ، فإمّا تعود إلى تلك الفروق الخمسة ، أو إلى أُمور جزئية لا صلة لها بالمنهج كجواز تقليد الميت وعدمه.

الجذور المزعومة للحركة الاَخبارية
  إنّ المهم هو بيان السبب الذي أدّى إلى نشوء تلك الفكرة ، وهناك عدّة فروض مطروحة على مائدة النقاش لا يسندها الدليل سنذكرها على وجه موجز.
  الاَوّل : انّ السبب في ظهور تلك الفكرة هو الشيخ الرجالي الكبير المعروف بميرزا محمد الاسترابادي موَلّف كتب الرجال الثلاثة :
  1 ـ نهج المقال ، المطبوع وهو أضخمها.
  2 ـ الوسيط ، وقد طبع أيضاً.
  3 ـ الوجيز ، الذي لم يطبع غير انّ نسخته موجودة في المكتبة الرضوية.
  وقد زوّج كريمته لمحمد أمين الاسترابادي ، وتوفي 1028 هـ في مكة المكرمة ، ودفن بالمعلّى.
  يقول محمد أمين الاسترابادي في كتابه الموسوم ( دانشنامه شاهي ) : (2)
  إلى أن وصل المطاف إلى أعلم علماء المتأخرين في علم الحديث والرجال وأورعهم ، أُستاذ الكل في الكل ميرزا محمد استرابادي ـ نور اللّه مرقده الشريف ـ وبعد ان قرأت عنده علم الحديث أشار إليّ قائلاً : جدّد طريقة

(1) روضات الجنات :1|127.
(2) دانشنامه شاهى مخطوط تتوفر نسخة منه في مكتبة المرعشي في قم ، يظهر منها انّه ألّفه بالفارسية في مكة المكرمة يضم أربعين فائدة ، وذكر في أوّلها انّه بمنزلة الاَربعين للفخر الرازي ، ونقل الخوانساري نص لفظه بالفارسية ، لاحظ روضات الجنات :1|121.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 387 ـ
  الاَخباريين وارفع الشبهات المعارضة لها ، ثمّ أشار الاَُستاذ بقوله : بأنّ هذا المعنى كان يدور في خاطري ولكن اللّه قدّر أن يكون على يدك ).
  ( وبعد أن أخذت العلوم المتعارفة من أعظم علمائها ، وكنت بالمدينة المنورة أعواماً على هذه الحال ، وبعد تورّعي لوجه اللّه وتوسّلي بأرواح أهل العصمة ، فجدّدت النظر في الاَحاديث وكتب العامة والخاصة بنظرة دقيقة متعمّقة حتى وفّقني اللّه ببركات سيد المرسلين والاَئمّة الطاهرين ، فأجبته موَتمراً طائعاً ، فألّفت (الفوائد المدنية) ولمّا عرضته عليه أجابني مستحسناً لما جاء فيه ، وأثنى عليّ بالجميل رحمه اللّه). (1)
  ولنا هنا وقفة قصيرة فعلى فرض صحّة نسبة هذا الكتاب إلى الاَمين الاسترابادي أنّه كيف يمكن أن يكون المشير والآمر هو الميرزا الاسترابادي الذي أفنى عمره في تأليف كتبه الرجالية الثلاثة ، والغاية من تدوين علم الرجال : الوقوف على أحوال الراوي والعمل بقول الثقة وترك غيره ، بينما يرى الاَخباري قطعية الروايات المروية في الكتب الاَربعة ، و انّه لا حاجة إلى دراسة أحوال الراوي وتنويع الحديث إلى الاَقسام الاَربعة ويعدّها من بدع العلاّمة الحلّي.
  وأقصى ما يمكن أن يقال إنّه أشار إلى نوع دراسة الاَخبار ، وأين هي من الاَخبارية المنهجية التي شيّدت أركانها على الا َُسس الخمسة أو أكثر ؟ ! وعلى أية حال فالنفس لا تقنع بما نُقِلَ.
  الثاني : ما ذكره أحد الكتاب المعاصرين انّ الجذور السياسية لنشأة الحركة الاَخبارية يعود إلى الصراع الشديد الذي كان يجري في العصر الصفوي بصورة مكتومة بين الموَسسة السياسية والموَسسة الفقهية ، فقد أخذ الصفويون

(1) مقدّمة كتاب الفوائد المدنية :12ـ13 بقلم محققه .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 388 ـ
  يتضايقون من سعة دائرة نفوذ الموَسسة الفقهية ، والتحوّل التدريجي الذي جرى داخل الموَسسة الفقهية من سلطة روحية إلى سلطة زمنية تتدخل في شوَون الناس وتزاحم السلطة الرسمية في شوَونها واهتماماتها.
  ورغم حاجة الموَسسة السياسية الصفوية إلى دعم واسناد الموَسسة الفقهية وإلى وقوفها إلى جانبها في صراعها مع العثمانيين ، إلاّ أنّهم كانوا يتضايقون من توسع دائرة نفوذ الفقهاء ، وفي هذه الفترة بالذات ظهرت الحركة الاَخبارية ابتداءً من سنة 985 هـ ، ثمّ اتسعت هذه الحركة وتمكّنت من شق المدرسة الفقهية عند الشيعة الاِمامية إلى شطرين متصارعين ، وإضعاف موَسسة الاجتهاد إلى حد بعيد. (1)
  أقول : إنّ ما زعم سبباً لظهور الفكرة الاَخبارية لا يمت إلى الموضوع بصلة ، بل أقصى ما يثبت انّ السلطات كانت ترجّح الاَخبارية على الاَُصولية.
  ولكن الكلام في بيان ما هو السبب لظهور تلك الفكرة ، ونظير ذلك ما ذكره ( علي نقي المنزوي ) في تعليقته على كتاب والده ( الذريعة ) : إنّه وصل كتاب معز الدين الاَردستاني المقيم بحيدر آباد الهند إلى إيران في عصر أدبرت الحكومة الصفوية عن التصوّف والعرفان ، وكانت تنتخب شيوخ الاِسلام في البلاد من بين رجال أكثرهم أخباريون غير إيرانيين بعيدين عن العرفان الصوفي الشيعي. (2)
  الثالث : ما ذكره الكاتب أيضاً في تقديمه على كتاب ( طبقات أعلام الشيعة في القرن الحادي عشر ) انّ التيار الاَخباري جاء به المهاجرون من البلاد العثمانية إلى إيران ، فانتشر في شيراز لاَوّل مرّة وفي البحرين ، وبقيت الاَخبارية بإيران إلى

(1) جودت القزويني : التاريخ السياسي للفقه الاِمامي.
(2) طبقات أعلام الشيعة ، القرن الحادي عشر :571 ، ترجمه معز الدين الاردستاني.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 389 ـ
  القرن الثالث عشر. (1) أقول : إنّ ما ذكره هذا الكاتب لا يدعمه دليل فمَنْ هوَلاء المهاجرون الذين قدموا إلى إيران فنشروا تلك الفكرة ، ولماذا لم يحدثنا التاريخ عنهم ؟ !
  الرابع : ما نقله العلاّمة المطهري عن سيد المحقّقين السيد حسين البروجردي (رضوان اللّه عليه) انّه قد بدأت في القرن الحادي عشر فكرة الاِعراض عن العقل و الانكباب على الحس في الشرق والغرب ، ورفع رايته في الشرق الاَمين الاسترابادي ، وفي الغرب علماء تجربيون أمثال فرنسيس بيكون وديكارت.
  وما ذكره وإن كان صحيحاً ، لكنّه لا يحكي إلاّ عن التقارن بينهما ولا يبين السبب.
  الخامس : ما ذكره بعض الاَساتذة من أنّالحجاز كان معقل الحديث كما كان العراق معقل الرأي والفكر ، ولا شكّ انّ تلك البيئة المشحونة بالاَفكار الحديثية قد تركت انطباعها و آثارها على الاسترابادي الذي كان قاطناً في المدينة المنورة سنين طوالاً وألّف كتابه ( الفوائد المدنية ) فيها.
  أقول : إنّه حدس بلا دليل ورجم بالغيب ، إذ انّ الانطباعات التي تتركها البيئة على أفكار الاَمين الاسترابادي تجعله يصنف كتاباً كالوسائل والكافي لا أن يوَسس منهجاً فكرياً يضاد كلّ ما كان عليه علماء الشيعة قرابة ثمانية قرون.
  السادس : ما ذكره السيد المدرسي الطباطبائي في كتابه ( المدخل إلى الفقه الشيعي) وحاصل ما قاله : إنّالاَرضية لظهور تلك الفكرة كانت موجودة في القرن العاشر أيام حياة الشهيد الثاني وتلميذه الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي ، فألّف الاَوّل رسالة في التنديد بالتقليد عن الميت ، كما ان ّالشهيد الثاني ألّف كتاباً نقد فيه السيرة السائدة بين فقهاء الشيعة من الاعتناء بأقوال السالفين ،

(1) مقدّمة طبقات أعلام الشيعة ، القرن الحادي عشر ، والمقدمة غير مرقمة.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 390 ـ
  وأعقبه الشيخ عبد النبي بن سعد الجزائري فنقد الاَُسلوب الاَُصولي في الفقه في كتابه ( الاقتصاد في شرح الاِرشاد ) الذي ألّفه عام 1115 هـ ، وادّعى ميرزا حبيب اللّه الصدر بأنّه لم يبق أيّ مجتهد في إيران والعراق ، وكأنّ الكل مقلّدة السلف ، ثمّ ذكر بعده سيرة المحقّق الاَردبيلي وصاحب المدارك ومنتقى الجمان في الاستنباط مشيراً إلى حرية الفكر الذي تمتعوا به و ما كانوا يعتقدون بآراء السلف.
  أقول : إنّ أقصى ما يثبت انّه يجب على المستنبط إعمال الدقة ورفض التقليد وعدم الاعتناء بالاِجماعات المنقولة بل المحصلة عن السلف.
  وهذا شيء يدرك بوضوح لمن وقف على فقه شيخنا الشهيد الثاني ، خصوصاً فقه المحقّق الاَردبيلي وتلميذيه صاحبي المدارك و المعالم.
  وأين هذا من الفكرة الاَخبارية الهادفة إلى تحريم العمل بالكتاب إلاّ بعد ورود التفسير ، والعمل بكلّ ما جاء في الكتب الاَربعة ، ولزوم الاحتياط فيما لم يرد فيه نصّ إفتاءً وعملاً ؟ !
  السابع : ما أوعزنا إليه فيما سبق من وجود تيارين فكريين بين أصحاب الاَئمّة ، فهم بين مكبٍّ على الاَخبار ، مدبر عن العقل وبين آخذ بالنقل والعقل أمثال زرارة بن أعين وعبد اللّه بن يونس و الفضل بن شاذان وتبعهم القديمان ومن تلاهم إلى عصر الشيخ المفيد وتلميذيه المرتضى والشيخ الطوسي ، فجعلوا الجميع على نهج واحد ، وهو الجمع بين النقل والعقل ، وانّه عند التعارض يقدّم العقل القطعي على النقل الظنّي .
  نعم يكمن هناك فرق جوهري بين الاَخبارية التي نادى بها الاَمين الاسترابادي ، وبين الاَخبارية في عصر الاَئمّة ، وهو انّ الاَخبارية في عصر الاَئمّة كانت تعني ممارسة الاَخبار وتدوينها ونقلها ، دون اعمال الدقة بين صحيحها وسقيمها .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 391 ـ
  وأمّا الاَخبارية التي ابتدعها الاَمين الاسترابادي ، فهي أخبارية منهجية ، لها أُسسها ودعائمها ، وقد ألقى الفكرة بصورة البرهان والنقد على الاَُسس التي اعتمد عليها الاَُصوليون ، فلذلك لا يمكن عدّ الاَخبارية الحديثة امتداداً جوهرياً للاَخبارية في عصر الاَئمّة .
  نعم كانت الاَخبارية البدائية ملهمة للشيخ الاَمين على أن يصبغها بصبغة علمية .
  والسبر في كتابه ( الفوائد المدنية ) يوقفنا على أنّه أخذ علم الاَُصول عن تقي الدين محمد النسابة ، وعلم الحديث عن السيد محمد صاحب المدارك ، يقول : قد قرأت شرح العضدي للمختصر الحاجبي في أوائل سنّي في دار العلم شيراز على أعظم العلماء المحقّقين ، وحيد عصره ، وفريد دهره ، الشاه تقي الدين محمد النسابة، في مدّة أربع سنين قراءة بحث وتحقيق وتدقيق . (1)
  ويقول في موضع آخر : أوّل مشايخي في علم الحديث والرجال ومن تشرّفت بالاستفادة وأخذ الاِجازة منه في عنفوان شبابي في المشهد المقدس الغروي ، هو السيد السند ، والعلاّمة الاَوحد ، صاحب مدارك الاَحكام في شرح شرائع الاِسلام . (2)
  وقرأ أيضاً على يد الرجالي المعروف ميرزا محمد الاسترابادي كما تقدّم ، وبذلك يعلم أنّه أظهر الفكرة الاَخبارية بعدما درس الاَُصول والرجال والحديث كما يظهر من نفس الكتاب انّه قرأ الرياضيات والفلكيات والحكمة .

(1) الخوانساري : روضات الجنات : 1|121ـ122 .
(2) لاحظ الفوائد المدنية ، المقدّمة .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 392 ـ
  وقد عرفت الاَُسس التي بنى عليها منهجه ولسنا بصدد النقد .
  إنّما الكلام في أنّ منهجه الذي اختطه لم يكن سوى منهج إبداعي لم تتأصل جذوره في التاريخ و إن زعم بتأصّلها بين علماء السلف من الاِمامية .
  نعم زعم صاحب المسلك انّالاَخبارية التي ابتدعها قد ظهرت بوادرها في القرون السالفة بين الشيعة الاِمامية ، غير انّها مرّت بمراحل نشاط وفتور وانتعاش وخمول ، واستدل عليه بأمرين بحثناهما في القسم الاَوّل عند البحث عن تاريخ علم الا َُصول .
  كانت الحركة الاخباريّة حركة رجعية عرقلت خطا الحركة الاجتهادية عن التقدّم و التطوّر ، وأقفلت باب البحث في الاَسانيد والمتون ، كما أقفلت باب البحث حول كثير من المسائل الاَُصولية حتى تجد انّ المحدّث البحراني الذي كان أخبارياً معتدلاً جداً ، ويعد كتابه ( الحدائق ) من الكتب الفقهية القيمة ، خصوصاً في جمع الاَخبار وتفسيرها ، يعترف بذلك ويقول في ترجمة الاَمين الاسترابادي : كان فاضلاً ، محقّقاً ، مدقّقاً ، ماهراً في الاَُصولين والحديث ، أخبارياً صلباً ، وهو أوّل من فتح باب الطعن على المجتهدين ، وتقسيم الفرقة الناجية إلى أخباري و مجتهد ، وأكثر في كتابه ( الفوائد المدنية ) من التشنيع على المجتهدين ، بل ربما نسبهم إلى تخريب الدين ، وما أحسن وما أجاد ، ولا وافق الصواب والسداد ، لما قد ترتب على ذلك من عظيم الفساد ، وقد أوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه في كتابنا : ( الدرر النجفية ) وفي كتابنا ( الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ) إلاّ أنّ الاَوّل منهما استوفى البحث في ذلك بما لم يشتمل عليه الثاني . (1)
  ومهما يكن من أمر فيظهر من خلال الرجوع إلى تاريخ الفقه في تلك

(1) لوَلوَة البحرين :118 ، شرح المواقف .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 393 ـ
  البرهة انّ الفكرة الاَخبارية شاعت في المراكز العلمية الفقهية ، وراجت خصوصاً في النجف الاَشرف وكربلاء .
  يقول محمد تقي المجلسي ( المتوفّى 1070 هـ ) في شرحه على ( الفقيه ) باللغة الفارسية : ألّف مولانا محمد أمين الاسترابادي كتاباً باسم ( الفوائد المدنية ) ألّفها بعد الاشتغال بمطالعته الاَخبار المروية عن الاَئمّة المعصومين ، ثمّ أرسل كتابه هذا إلى معظم البلاد ، وقد تلقّاه أكثر علماء النجف وكربلاء بالتحسين والقبول ومضوا على نهجه ، والحقّ انّ أكثر ما أفاده مولانا محمد أمين حقّ لا مرية فيه .
  و هذا الاعتراف من أوّل المجلسيّين دليل واضح على انتشار الفكرة الاَخبارية بين الاَوساط العلمية وامتدادها إلى أكثر الاَصقاع الاِسلامية .

الاَخبارية بين التطرّف والاعتدال
  تأثرت الاَوساط العلمية بالتيار الاَخباري ، وذاع صيته وكثر أتباعه ، وهم بين متطرّف كالاَمين الاسترابادي الذي يطعن العلماء ويتّهمهم بأُمور شنيعة ، وبين معتدل يتبنّى نفس الفكرة ، مع التبجيل و التكريم للمخالف .
  ولاَجل عرض نماذج من كلام المتطرّف منهم نذكر عبارة الاَمين الاسترابادي في حقّ علمائنا الذين تبعوا أُسلوب الاَُصوليين و تركوا ـ حسب زعمه ـ طريقة أئمّة أهل البيت وتلاميذهم حيث قال :
  وأوّل من غفل عن طريقة أصحاب الاَئمة واعتمد على فن الكلام وعلى أُصول الفقه المبنيين على الاَفكار العقلية ، المتداولين بين العامة فيما أعلم محمد بن أحمد بن الجنيد العامل بالقياس ، وحسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتكلم، ولما أظهر الشيخ المفيد حسن الظن بتصانيفهما بين يدي أصحابه ،

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 394 ـ
  ومنهم السيد الاَجل المرتضى و رئيس الطائفة ، شاعت طريقتهما بين متأخري أصحابنا قرناً فقرناً ، حتى وصلت النوبة إلى العلاّمة الحلّي فالتزم في تصانيفه أكثر القواعد الاَُصولية للعامة ، ثمّ تبعه الشهيدان والفاضل الشيخ علي رحمهم اللّه تعالى .
  وأوّل من زعم فيما أعلم أنّ أكثر أحاديث أصحابنا المأخوذة من الاَُصول ـ التي ألّفوها بأمر أصحاب العصمة (عليهم السلام) وكانت متداولة بينهم وكانوا مأمورين بحفظها ونشرها بين أصحابنا لتعمل بها الطائفة لا سيما في زمن الغيبة الكبرى ـ أخبار آحاد خالية من القرائن الموجبة للقطع بورودها عن أصحاب العصمة (عليهم السلام) محمد بن إدريس الحلّي تجاوز اللّه عن تقصيراتي وتقصيراته ، و لاَجل ذلك تكلم على أكثر فتاوى رئيس الطائفة المأخوذة من تلك الاَُصول . (1)
  ولنذكر جملة ممّن تأثّروا بهذا المنهج على وجه الاِيجاز ـ و التفصيل يطلب من كتب التراجم وطبقات الفقهاء ـ من غير تعرّض للمتطرّف منهم ، بل نذكر الجميع على حدّ سواء حسب وفياتهم .

من فقهاء الحركة الأخبارية
  1 ـ زين الدين علي بن سليمان ( المتوفّى 1064 هـ )
  هو الشيخ علي بن سليمان بن حسن بن سليمان البحراني القدمي الملقب بـ ( زين الدين ) .
  يقول الشيخ البحراني : هو أوّل من نشر علم الحديث في بلاد البحرين ، وقد كان قبله لا أثر له ولا عين ، وروّجه وهذّبه وكتب الحواشي والقيود على

(1) الفوائد المدنية :30 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 395 ـ
  كتابي التهذيب والاستبصار ، ولشدة ملازمته للحديث وممارسته له اشتهر في ديار العجم بأُمّ الحديث ، وكان رئيساً في بلاد البحرين مشاراً إليه ، توفي في السنة الرابعة والستين بعد الاَلف ، ومن مصنفاته : رسالة في الصلاة ، ورسالة في جواز التقليد ، وحاشية على كتاب المختصر النافع صغيرة مختصرة .
  روى عن :بهاء الدين العاملي ، والشيخ محمد بن حسن بن رجب . (1)
  2 ـ المجلسي الاَوّل ( 1003 ـ 1070 هـ )
  مولانا الاَجل محمد تقي المجلسي ، وهو في غنى عن الوصف والتعريف ، يعرّفه الحر العاملي : كان فاضلاً ، عالماً ، محقّقاً ، متبحراً ، زاهداً ، عابداً ، ثقة ، متكلماً ، فقيهاً .
  له كتب منها : شرح الصحيفة ، وحديقة المتقين ، وشرح من لا يحضره الفقيه فارسي ، وشرح آخر عربي ، ورسالة في الرضاع ، وغير ذلك .
  أقول : يعد شرحه على الفقيه باسم ( روضة المتقين ) من أفضل الشروح الذي يعرب عن تضلّع الشارح بالاَدب والرجال والفقه والحديث ، وقد طبع في اثني عشر جزءاً .
  وقد عرفت كلامه في حقّالاَمين . (2)
  ويقول المحدّث النوري : البحر الخِضَمّ ، المولى محمد تقي المستغني عن الاِطراء والمدح .

(1) لوَلوَة البحرين : 14 برقم 4 .
(2) أمل الآمل : 2|252 برقم 742 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 396 ـ
  قال النقّاد الخبير محمد الاَردبيلي في ( جامع الرواة ) : محمد تقي بن المقصود علي الملقّب بالمجلسي ، وحيد عصره ، وفريد دهره ، أمره في الجلالة والثقة والاَمانة وعلو القدر وعظم الشأن وسمو الرتبة والتبحّر في العلوم أشهر من أن يذكر ، وفوق ما تحوم حوله العبارة ، أورع أهل زمانه وأزهدهم وأتقاهم وأعبدهم ، بلغ فيضه ديناً ودنيا . (1)
  3 ـ خليل بن غازي القزويني ( 1001 ـ 1089 هـ )
  هو العالم المتبحّر الجليل خليل بن غازي القزويني ، شرح تمام الكافي بالفارسية المسمّى بالصافي ، وإلى أواسط كتاب الطهارة بالعربية .
  يعرّفه صاحب رياض العلماء بقوله : كان دقيق النظر ، قوي الفكر ، حسن التقرير ، جيد التحبير ، من أجلّ مشاهير علماء عصرنا ، وأكمل نحارير فضلاء دهرنا ، قرأ في أوائل أمره على شيخنا البهائي والسيد الداماد ، وكان شريك الدرس مع الوزير خليفة سلطان عند المولى الشيخ حسين اليزدي شارح خلاصة الحساب .
  وكان يتظاهر بالاَخبارية ، وله كتاب في تحريم الجمعة ، وقد ردّ الشيخ طاهر القمي شيخ الاِسلام على رسالته في تحريم الجمعة ، ومع ذلك له تأليف في الاَُصول والفلسفة .
  قال شيخنا المجيز : وتحريمه الجمعة التي أدّت إلى عزله ، وكذلك تأليفاته الاَُصولية والفلسفية يجعلنا نشك على أنّ تظاهره بالاَخبارية كان تقية منه ، وتماشياً مع الحكومة التي كانت تعارض الفلاسفة وحرية الاجتهاد . (2)

(1) خاتمة المستدرك : الفائدة الثالثة : 416، ونقل عبارات المترجمين له في كتابه ، فمن أراد فليرجع إليه .
(2) خاتمة المستدرك : الفائدة الثالثة : 413، روضات الجنات :3|269 برقم 287، طبقات اعلام الشيعة ، القرن الحادي عشر : 203 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 397 ـ
  4 . الفيض الكاشاني ( 1007 ـ 1091 هـ )
  هو محمد بن الشاه مرتضى بن الشاه محمود ، الملقب بالفيض الكاشاني ، العارف ، الحكيم ، الشاعر ، المتوفى عن عمر ناهز 84 عاماً .
  أخذ الحديث عن السيد ماجد بن هاشم الصادقي البحراني ، ويروي عنه وعن الشيخ بهاء الدين العاملي ، وأخذ الحكمة والفلسفة عن أُستاذه صدر المتألّهين الشيرازي وهو صهر له .
  يقول السيد الخوانساري : أمره في الفضل والفهم والنبالة في الفروع والاَُصول والاِحاطة بالمعقول والمنقول وكثرة التأليف والتصنيف مع جودة التعبير والترصيف أشهر من أن يخفى ، كان بيته بيتاً جليلاً رفيعاً من كبار بيوتات العلم والعمل ، ومن أحسن كتبه كتاب ( الوافي ) فقد جمع فيه أحاديث الكتب الاَربعة القديمة ، وفرغ منه سنة 1068 هـ .
  كما انّ من أحسن تصانيفه في الفقه ( مفاتيح الشرائع ) الذي شرحه المحقّق البهبهاني .
  كما انّ له ( المحجة البيضاء في إحياء كتاب الاِحياء ) وهو تهذيب وتنوير لاِحياء علوم الدين ، إلى غير ذلك من الكتب .
  والحقّ انّ الفيض يعد من الشخصيات التي حام حولها غموض كثير ، فمن جانب نجد انّه يميل إلى التصوّف والعرفان ، ومن جانب آخر انّه يكب على الحديث وجمعه .
  5 ـ عبد علي العروسي ( كان حياً عام 1073 هـ )
  هو عبد علي العروسي ابن جمعة الحويزي .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 398 ـ
  يعرّفه الحر العاملي بقوله : كان عالماً ، فاضلاً ، فقيهاً ، محدثاً ، ثقة ، ورعاً ، شاعراً ، أديباً ، جامعاً للعلوم والفنون ، معاصراً ، له كتاب (نور الثقلين في تفسير القرآن ) في أربعة مجلدات ، أحسن فيه وأجاد ، نقل فيه أحاديث النبي والاَئمّة في تفسير الآيات ، من أكثر كتب الحديث ، ولم ينقل فيه عن غيرهم . (1)
  وحيث إنّ( أمل الآمل ) ألّف عام 1097 هـ ، فيظهر منه انّه توفي قبل تأليفه ، وصرّح في الرياض بأنّه كان معاصراً لسميه ابن ناصر الذي كان حياً في 1063 هـ ، وهذا المفسّر كان حياً في 1073 هـ .
  6 ـ محمد بن الحسن الحر العاملي ( 1033 ـ 1104 هـ )
  هو العالم المتبحّر الشيخ محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين الحر العاملي المشغري ، صاحب التصانيف الرائعة التي منها كتاب ( الوسائل ) الذي هو كالبحر الذي ليس له ساحل ، وقد ألّفه في المشهد الرضوي ، و منح له منصب قضاء القضاة و شيخوخة الاِسلام . (2)
  وقد ترجم لنفسه في ( أمل الآمل ) ، قائلاً : قرأ في قرية مشغرى على : أبيه ، وعمه الشيخ محمد الحر ، وجدّه لاَُمه الشيخ عبد السلام بن محمد الحر ، وخال أبيه الشيخ علي بن محمود ، وغيرهم ، وقرأ في قرية جبع على عمه أيضاً ، وعلى الشيخ زين الدين بن محمد بن الحسن بن زين الدين ، وعلى الشيخ حسين الظهيري وغيرهم .
  وأقام في البلاد أربعين سنة ، وحجَّ فيها مرتين ، ثمّ سافر إلى العراق فزار الاَئمّة (عليهم السلام) ثمّ زار الرضا (عليه السّلام) بطوس . (3)

(1) أمل الآمل : 2|154 برقم 449 .
(2) خاتمة المستدرك : الفائدة الثالثة : 391 .
(3) أمل الآمل :1|141ـ142 برقم 1049 . له ترجمة في روضات الجنات : 7|96 برقم 605 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 399 ـ
  وله ترجمة ضافية في مقدمة وسائل الشيعة ، ولذلك اقتصرنا على هذا المقدار ، و من أراد المزيد فليرجع إليها .
  7 ـ السيد هاشم بن سليمان البحراني التوبلي ( المتوفّى 1107 هـ )
  هو السيد هاشم بن السيد سليمان بن السيد إسماعيل بن السيد عبد الجواد الكتكاني .
  يعرّفه المحدّث البحراني بقوله : وكان فاضلاً ، محدثاً ، جامعاً ، متتبعاً للاَخبار بما لم يسبق إليه سابق سوى شيخنا المجلسي ، إلى أن قال : و انتهت إليه رئاسة البلد ، فقام بالقضاء في البلاد و تولّى الاَُمور الحسبية أحسن قيام ، ونشر الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكان من الاَتقياء المتورّعين ، ومن مصنفاته( البرهان في تفسير القرآن ) في ستة مجلدات ، ثمّ ذكر سائر تآليفه و من أحسنها كتاب ( ترتيب التهذيب ) و قد رتبت فيها الاَخبار كلاً في الباب المناسب ، وله كتاب آخر باسم ( تنبيهات الاَديب في رجال التهذيب ) و قد نبّه فيه على أغلاط عديدة ممّا وقع للشيخ (رحمه الله) في أسانيد أخبار الكتاب المذكور . (1)
  ويعرّفه المحدّث النوري بنفس ما ذكره الشيخ البحراني .
  أقول : إنّه خدم الحديث على وجه الاِطلاق خدمات جليلة ، فكتابه ( معالم الزلفى في النشأة الاَُخرى ) خير شاهد على تبحّره و تضلّعه في الحديث ، وكتابه الآخر المسمى ( غاية المرام ) في فضائل أمير الموَمنين والاَئمّة (عليهم السلام) ، يذكر فيه أحاديث الفريقين الواردة في هذا المجال ، و يعرب عن تضلّعه بالحديث ، وإحاطته بما في الصحاح والسنن و المسانيد من الروايات في فضائل أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) .

(1) لوَلوَة البحرين :63 برقم 19 ، أمل الآمل :2|341 برقم 149 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 400 ـ
  ولو أُتيحت له الفرصة مثلما أُتيحت لشيخنا المجلسي الثاني لصنَّف موسوعة كبيرة على غرار البحار ، أو أحسن منها .
  8 ـ المجلسي الثاني ( 1037 ـ 1110 هـ )
  محيي السنّة ، وناشر آثار أهل البيت ، الشيخ محمد باقر بن العالم الجليل محمد تقي بن الورع البصير المولى مقصود علي ، المتخلّص في أشعاره بالمجلسي .
  هو أجلّ من أن يعرّف ، وقد ألّف شيخنا المحدّث النوري رسالة في ترجمته أسماها ( الفيض القدسي في ترجمة المجلسي ) ذكر فيها جملاً من مناقبه و فضائله ومشايخه وتلامذته و ذريته و ذرية والده .
  وكفاه فخراً انّه ألّف دائرة معارف للشيعة يوم لم يكن أيّ أثر لهذا اللون من التأليف بين الاَوساط الاِسلامية ، و يتلوه في المكانة كتابه الآخر المسمّى ( مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ) وهو شرح للكافي ، شرح فيه أحاديثه طبعت في ستة و عشرين جزءاً و له كتاب ثالث وإن لم يكن بمنزلة السابقين وهو كتاب ( ملاذ الاَخيار في شرح تهذيب الاَخبار ) و قد طبع في اثني عشر جزءاً .
  وأمّا موسوعته الكبرى ، أعني : ( بحار الاَنوار ) فقد طبعت في 110 أجزاء .
  وفي الجملة فهو أُستاذ فن الحديث ، وسناده ، و عماده ، وهو في غنى عن تعريفه وإطرائه و إفاضة القول فيه .
  وشيخنا هذا أوّل من ألّف بالفارسية في القرون الاَخيرة ، ولم يكن التأليف بها أمراً معهوداً بين العلماء إلاّ القليل . (1)

(1) روضات الجنات :2|8 ، لوَلوَة البحرين :55 .