إنّ الشيخ الطوسي كان يعمل بخبر الواحد تحت شروط خاصّة ، وقد أعرب عن رأيه في كتاب ( العدّة ) وبذلك خالف أُستاذيه المفيد والمرتضى ، وقال بحجية الاِجماع كأُستاذيه ، ويظهر انّ الاِجماع عنده حجّة لكشفه عن قول المعصوم فقط ، وله آراء خاصة في الاَُصول يظهر ذلك لمن راجع كتاب ( العدّة ).

ميزات هذا الدور
  قد مرّ آنفاً انّ هذا الدور ابتدأ من عام 260 إلى 460 هـ أي قرابة مائتي سنة ، وهذا الدور من الفقه من أخصب الاَدوار عطاءً في تاريخ المذهب الاِمامي ، والمهم هو تناول الميزات التي تمتع بها هذا الدور :
  مرّ الفكر الشيعي بأزمات حادة خصوصاً بعد غيبة الاِمام الثاني عشر عجّل اللّه فرجه الشريف ، فقد انتهز مخالفوه الفرصة للانقضاض عليه ببث الشبهات في الاِمامة ، وقد أوجدت تلك الشبهات أصداءً واسعة في الاَجواء الشيعية حتى كادت توَثر ، لولا قيام أفذاذ من العلماء في تلك الحقبة ، وفي طليعتهم : الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي ، بأخذ زمام الاَُمور وتثبيت الهوية الفكرية للشيعة في مختلف المجالات من خلال القيام بأُمور :
  1 ـ كبح جماح الانتهازيين الذين ادّعوا النيابة الخاصة للاِمام الثاني عشر امام النواب الاَربعة الذين كانت لهم النيابة الخاصة ، فحفظوا الشيعة من الانخراط في صفوفهم.
  2 ـ الرد على المشكّكين وأصحاب المقالات الضالّة في أمر الاِمامة والغيبة إذ أنكروا إمكان الغيبة ، وأنكروا إمكان حياة الاِمام فترة طويلة.
  3 ـ تثبيت الهوية الفكرية العقائدية للشيعة حيث خلّصوا العقائد من

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 277 ـ
  رواسب الروايات الضعيفة وسبكوها بسبكة علمية فكرية بعيداً عن الغلو والتقصير ، وقد عقدوا أندية فكرية للمناظرة مع أصحاب المقالات ، كالزيدية والاِسماعيلية والواقفة ، الذين كانوا على نهج الاِمامة ثمّانحرفوا ، كما عقدوا أندية مناظرات مع غيرهم من المذاهب.
  4 ـ تأليف جوامع فقهية وغربلة الاَحاديث ، لتمييز الصحيح منها من السقيم.
  5 ـ إقامة الصلة بين الحوزات الشيعية التي أُنشِئت آنذاك في بغداد وقم وخراسان ، والتي ازدهرت في هذا الدور ، وإليك لمحة خاطفة عنها :

المراكز الفقهية التي ازدهرت في هذا الدور
  إنّ أهم المراكز الفقهية للشيعة في هذا الدور عبارة عن :
  1 ـ جامعة الكوفة وجامعها الكبير.
  2 ـ جامعة قم.
  3 ـ جامعة بغداد.
  ارتحل الاِمام الحادي عشر الاِمام العسكري (عليه السّلام) عام 260 هـ ، وقد اتخذ خلفاء بني العباس لا سيما عصر المأمون سياسة الحذر والحيطة حيال الاَئمّة ، لئلاّ يثيروا حفيظة شيعتهم فاستقدموهم من المدينة المنوّرة إلى العراق بغية الاِشراف على نشاطاتهم وتحركاتهم السياسية ، هذا وغيره صار سبباً لتقلص نشاط مدرسة الحديث والفقه للشيعة في المدينة المنوّرة ، وقد ازدهرت جامعة بغداد في الدور الثاني بفضل علماء الشيعة وفقهائهم بعد أن دبَّ الضعف في

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 278 ـ
  كيان الدولة العباسية وأخذ آل بويه بزمام الاَُمور في أكثر مناطق العراق لا سيما بغداد حاضرة العالم الاِسلامي يومذاك ، وقد تألّق نجمها على يد نابغة العراق الشيخ المفيد (336 ـ 413 هـ) والسيد المرتضى علم الهدى (355 ـ 436 هـ) والشريف الرضي (359 ـ 406 هـ).
  ولما توفّي السيد المرتضى آلت زعامة حوزة بغداد إلى الشيخ الطوسي ودام هذا الاَمر إلى أن ضعفت واضمحلّت سلطة البويهيين ودخل طغرل بك الحاكم التركي بغداد ، وأشعل نار الفتنة فيها بين الطائفتين ،وأحرق دوراً في الكرخ ، ولم يقتصر على ذلك بل قصد دار الشيخ وأخذ ما وجد فيها من دفاتر وكتب وأحرقها ،وأحرق كرسي الكلام ، عندها هاجر إلى النجف الاَشرف فأسّس حوزة علمية فيها تقاطر إليها الفقهاء ورواد العلم من كلّ صوب وحدب واكتظت بهم ، فصارت جامعة النجف الاَشرف بديلاً عن جامعة بغداد.
  4 ـ مدرسة النجف الاَشرف
  إنّ هذه الحادثة الموَلمة التي أدّت إلى ضياع التراث الفقهي الشيعي وقتل الاَبرياء ، دفعت بالشيخ إلى مغادرة بغداد واللجوء إلى النجف الاَشرف وتأسيس مدرسة علمية شيعية في جوار قبر أمير الموَمنين (عليه السّلام) ، وشاء اللّه تبارك وتعالى أن تكون هذه المدرسة مشعلاً منيراً لروّاد العلم على مر العصور.
  المعروف أنّ الشيخ هو الموَسس لتلك الجامعة العلمية المباركة ، وهذا أظهر من الشمس في رائعة النهار ، بيد أنّه يظهر من النجاشي وغيره أنّ الشيخ ورد عليها وكان النشاط العلمي يدبُّ فيها يومذاك حيث يقول في ترجمة الحسين بن أحمد بن المغيرة : له كتاب ( عمل السلطان ) ، أجازنا بروايته أبو عبد اللّه بن

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 279 ـ
  الخمري الشيخ صالح في مشهد مولانا أمير الموَمنين سنة 400 هـ عنه. (1)
  ولقد استغل الشيخ تلك الاَرضية العلمية ، وأعانه على ذلك الهجرة العلمية الواسعة التي شملت معظم الاَقطار الشيعية ، فتقاطرت الوفود إليها ، من كلّفج ، فصارت حوزة علمية وكلية جامعة في جوار النبأ العظيم علي أمير الموَمنين منذ عصر تأسيسها عام 448 هـ إلى يومنا هذا ، وقد مضى على عمرها قرابة 1000 سنة ، وهي بحق شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توَتي أكلها كل حين بإذن ربّها.
  إنّ لجامعة النجف الاَشرف حقاً كبيراً على الاِسلام والمسلمين عبر القرون ، فمن أراد الوقوف على تاريخها والبيوتات العلمية التي أنجبتها ، فعليه الرجوع إلى كتاب ( ماضي النجف وحاضرها ) في ثلاثة أجزاء ، كما أنّه قد قام الشيخ هادي الاَميني بتخريج أسماء لفيف من العلماء الذين تخرّجوا من تلك المدرسة الكبرى.

(1) النجاشي : الرجال : 1|190 ، برقم 163.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 280 ـ
أدوار الفقه الشيعي
3 ـ الدور الثالث

  عصر الركود
  (460 _ 600 هـ)
  خدم شيخ الطائفة الفقه الشيعي خدمة جليلة عظيمة ، فلم يترك موضعاً إلاّ ولجه ، ولا ثغراً إلاّ سدّه ، ولا حاجة إلاّ رفعها ، فبزغ نجمه في شتى المجالات الفكرية ، ففي مجال الحديث له الحظ الوافر والقدح المعلّـى ، ويشهد على ذلك جامعاه ( التهذيب ) و ( الاستبصار ).
  وأشاد أُسس الاَُصول بتأليفه القيم ( العدّة ) كما بلغ الذروة في تأليف الفقه بألوان شتّى ، فألّف ( النهاية ) في مجرد الفتاوى ، و ( الخلاف ) في علم الخلافيات ، و ( المبسوط ) في التفريعات ، وسدّ الفراغ في التفسير بتأليفه كتاب (التبيان في

(1) استمر الركود إلى عصر الفقيه المجدّد المعروف بابن إدريس (542 ـ 598 هـ) الذي نفض غبار الركود عن كاهل الفقه بتأليفه الرائع المسمّى بالسرائر ، الذي فرغ من تأليف كتاب الميراث منه سنة 588هـ ، و على ضوء ذلك ينتهي الدور الثالث بظهور أفكار الفقيه المجدد إلى الساحة الفكرية ، و لمّا كان ما بذله من الجهود و ما طرحه من أفكار تعد أُولى الخطوات لدخول الفقه مرحلة جديدة فلا يكون لها تأثير ملموس إلاّ بمرور زمان تستقطب فيها أفكار العلماء و تقع تحت شريحة النقد ، فآثرنا تحديد نهاية الدور الثالث بتمامية القرن السادس ، فيكون تحديد نهاية الدور السابق و بداية الدور اللاحق تحديداً تقريبياً.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 281 ـ
  تفسير القرآن ) في عشرة أجزاء ، وترك ميراثاً رجالياً ضخماً بتآليفه الثلاثة ، أعني : الرجال ، و الفهرست ، وتلخيص الكشي ( اختيار معرفة الرجال) ، إلى غير ذلك من مصنّفاته.
  وقد استأثر الشيخ بعواطف تلاميذه ومعاصريه ، واستطاع أن يحتل في قلوبهم مكانة رفيعة أهالت عليه حالة من القداسة ، جعلت مخالفته ، ونقاش آرائه إهانة لشخصيته الفذة.
  نعم كان ذلك هو الطابع العام السائد ، وإن وجد هناك من ناقش آراءه وخالفها ، ولكن كانوا نزراً يسيراً.
  وهذا هو الشيخ سديد الدين محمود الحمصي من علماء القرن السادس يصف تلك الفترة من الركود قائلاً : بأنّه لم يبق للاِمامية مفت على التحقيق بل كلّهم حاك.
  وقال السيد ابن طاووس (المتوفّى 664 هـ) بعد نقل كلام الحمصي : فقد ظهر لي انّ الذي يفتى به ويجاب على سبيل ما حفظ من كلام العلماء المتقدّمين.
  ويقول الشهيد الثاني زين الدين الجبعـي العاملـي (911 ـ 966 هـ) في كتابـه ( الرعاية ) الذي ألّفه في دراية الحديث ما هذا لفظه : إنّ أكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليداً له ، لكثرة اعتقادهم فيه ، وحسن ظنّهم به ، فلمّا جاء المتأخرون وجدوا أحكاماً مشهورة قد عمل بها الشيخ ومتابعوه ، فحسبوها شهرة بين العلماء ، ومادروا انّ مرجعها إلى الشيخ ، وانّ الشهرة إنّما حصلت بمتابعته ، ثمّذكر كلام الحمصي والسيد ابن طاووس. (1)
  يقول المحقّق التستري : ولعلّ الحكمة الاِلهية فيما اتّفق للشيخ تجرّده

(1) مقدّمة معالم الدين : 408 ، مبحث الاِجماع، روضات الجنات :7|161.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 282 ـ
  للاشتغال بما تفرّد به من تأسيس العلوم الشرعية ولا سيما المسائل الفقهية ، فإنّ كتبه فيها هي المرجع لمن بعده غالباً ، حتى أنّكثيراً ما يذكر مثل المحقّق أو العلاّمة أو غيرهما فتاويه من دون نسبتها إليه ، ثمّ يذكرون ما يقتضي التردّد أو المخالفة فيها ، فيتوهّم التنافي بين الكلامين مع أنّ الوجه فيهما ما قلناه جزاه اللّه وإيّاهم عنّا خير الجزاء. (1)
  والذي يدفعنا إلى اتّهام الفترة بالركود هو ما نجده في الكتب الموَلّفة في الدور الرابع من الشكوى من وصف فقهاء هذه الفترة بالمقلدة تارة وبالمتفقّهة أُخرى : يقول ابن إدريس في مقدّمة السرائر : إنّي لمّا رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والاَحكام الاِسلامية ، وتثاقلهم طلبها ، وعداوتهم لما يجهلون ، وتضييعهم لما يعلمون ، ورأيت ذا السن من أهل دهرنا هذا ، لغلبة الغباوة عليه ، وملكة الجهل لقياده ، مضيِّعاً لما استودعته الاَيام ، مقصِّراً في البحث عمّا يجب عليه علمه ، حتى كأنّه ابن يومه ونتيج ساعته... ورأيت العلم عنانه في يد الامتهان ، وميدانه قد عطل من الرهان ، تداركت منه الذماء الباقي ، وتلافيت نفساً بلغت التراقي. (2)
  ثمّ يقول : فإنّ الحقّ لا يعدو أربعة طرق ، إمّا كتاب اللّه سبحانه ، أو سنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) المتواترة المتفق عليها ، أو الاِجماع ، أو دليل العقل، فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة ، التمسّكُ بدليل العقل فيها ، فإنّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذا

(1) التستري : مقابس الاَنوار :5.
(2) السرائر :41 ، المقدمة.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 283 ـ
  الطريق يوصل إلى العلم بجميع الاَحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها ، فمن تنكَّب عنها عسف ، وخبط خبط عشواء ، وفارق قوله من المذهب.
  ثمّ قال في آخر مقدّمته : فعلى الاَدلّة المتقدمة أعمل ، وبها آخذ وأُفتي وأدين اللّه تعالى ، ولا ألتفت إلى سواد مسطور ، وقول بعيد عن الحقّ مهجور ، ولا أقلّد إلاّ الدليل الواضح والبرهان اللائح ، ولا أُعرِّج إلى أخبار الآحاد ، فهل هدم الاِسلام إلاّ هي ، وهذه المقدّمة أيضاً من جملة بواعثي على وضع كتابي هذا. (1)
  ثمّ إنّه يظهر من غير موضع من كتاب ( السرائر ) انّه عندما يفتي على خلاف ما كان عليه فقهاء عصره المنتمون إلى الشيخ كان يتربص اتهامه بمخالفته للرأي العام في مسألة نزح ماء البئر ، قال : فما يوجب نزح الجميع أو المراوحة ، عشرة أشياء على هذه الطريقة ، وعدّ منها كلّ نجاسة لم يرد في مقدار النزح منها نص ، ومنها الكافر ، فهذا التحرير على هذه الطريقة صحيح. (2)
  ففي مسألة تحديد مقدار الواجب من النزح إذا مات في البئر كافر ، يرى ابن إدريس أنّ الواجب نزح جميع ما في البئر ، بدليل أنّ الكافر إذا باشر ماء البئر وهو حي وجب نزحها جميعاً اتفاقاً ، فوجوب نزح الجميع إذا مات فيها أولى.(3)
  وحينما أضفى على هذا الاستدلال طابع العقل وخالف فيها الرأي السائد أعقب عليه بقوله : وكأنّي بمن يسمع هذا الكلام ينفر منه ويستبعده ، ويقول : من قال هذا ؟ ! ومن سطره في كتابه ؟ ! ومن أشار من أهل هذا الفن الذين هم القدوة في هذا إليه ؟ ثمّ أشار إلى دليل المسألة. (4)

(1) السرائر : 51 ، المقدمة.
(2) السرائر : 1|71ـ73.
(3) السرائر : 1|71ـ73.
(4) السرائر : 1|71ـ73.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 284 ـ
فقهاء الدور الثالث
  وقد اتسمت هذه الفترة بالركود ، ولكن أنجبت في أحضانها فقهاء كباراً ، نشير إلى أسماء بعضهم أداءً للحق الذي لهم علينا :
  1 ـ ابن البراج الطرابلسي (400 ـ 481 هـ)
  الشيخ سعد الدين أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير الشهير بـ ( ابن البراج) الطرابلسي ، فقيه عصره ، وقاضي زمانه ، وخليفة الشيخ الطوسي في الشامات ، وقد أطراه منتجب الدين في ( فهرسته ) (1) وابن شهر آشوب في ( معالمه ) (2) والعلاّمة الحلّي في إجازته لبني زهرة (3) إلى غير ذلك ممّن ترجم له ترجمة وافية ، وقصارى الكلام انّه كان زميلاً للشيخ من جهة وتلميذاً له من جهة أُخرى ، وبما انّهما قرأا على المرتضى و جلسا مجلساً واحداً ، فهما زميلان ، وفي الوقت نفسه حضر مجلس الشيخ الطوسي أيضاً حتى أنّ الشيخ الطوسي ألّف بعض كتبه باستدعاء منه.
  قال التستري : هو من غلمان المرتضى ، وكان خصيصاً بالشيخ ، وتلمذ عليه ، وصار خليفته في البلاد الشامية ، وروى عنه وعن الحلبي. (4)
  وقال المحدّث النوري بعد إطرائه : تلميذ علم الهدى وشيخ الطائفة ، وكان يجري السيد عليه في كلّ شهر ثمانية دنانير ، وهو موَلّف ( المهذب ) و ( الكامل ) و ( الجواهر ) و ( شرح الجمل ). (5)

(1) منتجب الدين : الفهرست : 107 برقم 218.
(2) ابن شهر آشوب : معالم العلماء :80.
(3) البحار : 105|265.
(4) التستري : مقابس الاَنوار :7.
(5) المستدرك :3|481.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 285 ـ
  ومع أنّ العصر الذي أعقب الشيخ قد اتّسم بالركود ، لكنا نجد انّه خرج على آراء شيخه الطوسي ، فقد يذكر مناظرته في مسائل فقهية في كتاب ( المهذب ).
  قال : وكان الشيخ أبو جعفر الطوسي(رحمه الله) قال لي يوماً في الدرس : هذا الماء (1) يجوز استعماله في الطهارة وإزالة النجاسة.
  فقلت له : ولم أجزت ذلك مع تساويهما ؟
  فقال : إنّما أجزت ذلك ، لاَنّ الاَصل الاِباحة.
  فقلت له : الاَصل وإن كان هو الاِباحة ، فأنت تعلم أنّ المكلّف مأخوذ بأن لا يرفع الحدث ولا يزيل النجاسة عن بدنه أو ثوبه إلاّ بالماء المطلق ، فتقول أنت بأنّهذا الماء مطلق ؟ !
  فقال : أفتقول أنت بأنّه غير مطلق ؟
  فقلت له : أنت تعلم أنّ الواجب أن تجيبني عمّا سألتك عنه قبل أن تسألني بـ ( لا ) أو ( نعم ) ثمّ تسألني عمّا أردت ، ثمّ إنّني أقول بأنّه غير مطلق.
  فقال : ألست تقول فيهما إذا اختلطا وكان الاَغلب والاَكثر المطلق ، فهما مع التساوي كذلك ؟
  فقلت له : إنّما أقول بأنّه مطلق إذا كان المطلق هو الاَكثر والاَغلب ، لاَنّ ما ليس بمطلق لم يوَثر في إطلاق اسم الماء عليه ، ومع التساوي قد أثّر في إطلاق هذا الاسم عليه ، فلا أقول فيه بأنّه مطلق ، و لهذا لم تقل أنت بأنّه مطلق ، وقلت فيه بذلك إذا كان المطلق هو الاَكثر و الاَغلب ، ثمّ إنّ دليل الاحتياط تناول ما ذكرته ، فعاد إلى الدرس ولم يذكر في ذلك شيئاً . (2)

(1) اختلط المضاف بالماء المطلق ، وكانا متساويين في المقدار .
(2) المهذب :1|24ـ25 ، كتاب الطهارة .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 286 ـ
  وله مناظرة أُخرى مع شيخه الطوسي ذكرها في ( المهذّب ) . (1)
  نعم انّ شيخنا ابن البراج أدرك كلتا الدورتين ، فبات مستقلاً في التفكير مناظراً مع الاَبطال .
  وقد ترجمناه في تقديمنا لكتابه المهذب ، فمن أراد التبسط فليرجع إليه .
  2 ـ أبو علي الطوسي (المتوفّى نحو 515 هـ)
  هو الشيخ الجليل أبو علي بن شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المجاز عن والده في سنة 455 هـ .
  قرأ على أبيه جميع تصانيفه ، وروى عنه ، وعن سلاّر بن عبد العزيز الديلمي وغيره ، وكان من كبار العلماء ، فقيهاً ، محدّثاً ، راوية للاَخبار ، وأثنى عليه ابن حجر وقال :
  الحسن بن محمد بن الحسن بن علي الطوسي ، أبو علي سمع من والده وأبي الطيب الطبري والخلاّل والتنوخي ، ثمّصار فقيه الشيعة وإمامهم بمشهد علي (رض)، سمع منه : أبو الفضـل بن عطاف ، وهبة اللّه السقطي ، ومحمد بن محمد النسفي ، وهو في نفسه صدوق مات في حدود 500 هـ كان متديناً . (2)
  ولكن الظاهر انّه كان حياً عام 515 هـ كما حكى في مواضع من ( بشارة المصطفى ) لتلميذه العماد الطبري .
  وله ترجمة ضافية في ( أعيان الشيعة ) .

(1) المهذب :2|419و420 ، كتاب الكفارات .
(2) لسان الميزان : ج2 الترجمة 1046 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 287 ـ
  ومن آثاره الفقهية :
  1 ـ شرح النهاية لاَبيه أبي جعفر .
  2 ـ المرشد إلى سبيل التعبّد .
  3 ـ رسالة في الجمعة .
  4 ـ كتاب الاَنوار . (1)
  3 ـ الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي (471 ـ 548 هـ)
  الشيخ الاِمام أمين الدين أبو علي الطبرسي ، ثقة ، فاضل ، دين ، عين ، له تصانيف ، منها : ( مجمع البيان ) في تفسير القرآن في عشرة أجزاء ، ( الوسيط ) في التفسير في أربعة أجزاء ، ( الوجيز ) في التفسير أيضاً ، ( إعلام الورى بأعلام الهدى ) ، إلى غير ذلك من الآثار ذكرها منتجب الدين قال : شاهدته وقرأت بعضها عليه ، يروي عن الشيخ أبي الوفاء المقري الرازي ، وعن الشيخ أبي علي الطوسي ، و الشيخ حسكا جد منتجب الدين ، إلى غير ذلك من الاَسانيد . (2)
  وأودُّ أن أنقل ما ذكره الذهبي الحاقد على الشيعة في حق الطبرسي إذ يقول : والحقّ انّ تفسير الطبرسي ، بصرف النظر عمّا فيه من نزعات تشيعية ، وآراء اعتزالية ، كتاب عظيم في بابه ، يدل على تبحّر صاحبه في فنون مختلفة من العلم والمعرفة ، والكتاب يجري على الطريقة التي أوضحها لنا صاحبه في تناسق تام ، وترتيب جميل ، وهو يجيد في كل ناحية من النواحي التي يتكلّم

(1) لاحظ أعيان الشيعة : 5|246 .
(2) انظر ترجمته في روضات الجنات :5|357 ، أعيان الشيعة :8|398 ، طبقات أعلام الشيعة ، مستدرك الوسائل :3|387 ، الذريعة :20|24 ، وقد ترجم له في مقدمة تفسير ( مجمع البيان ) .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 288 ـ
  عنها ، فإذا تكلّم عن القراءات ووجوهها أجاد ، وإذا تكلم عن المعاني اللغوية للمفردات أجاد ، وإذا تكلّم عن أسباب النزول وشرح القصص استعرض الاَقوال وأفاض ، وإذا تكلّم عن الاَحكام ، تعرض لمذاهب الفقهاء وجهر بمذهبه ونصره إن كانت هناك مخالفة منه للفقهاء ، وإذا ربط بين الآيات آخى بين الجمل ، وأوضح لنا عن حسن السبك وجمال النظم ، وإذا عرض لمشكلات القرآن أذهب الاِشكال وأراح البال ، وهو ينقل أقوال من تقدّمه من المفسّرين معزوة لاَصحابها ويرجح ويوجه ما يختار منها ... إلى أن قال : والحقّ أن يقال انّه ليس مغالياً في تشيّعه ، ولا متطرّفاً في عقيدته . (1)
  ثمّ إنّ لشيخنا الطبرسي آراء فقهية ذكرها في ذيل آيات الاَحكام ، فمن حاول أن يطّلع على آرائه الفقهية ، فليرجع إلى الآيات التي تضمّنت أحكاماً شرعية .
  وله في الرضاع وغيره آراء خاصة مذكورة في الكتب الفقهية .
  4 ـ قطب الدين الراوندي (المتوفّى 573 هـ)
  سعيد بن هبة اللّه بن الحسن الراوندي موَلف ( فقه القرآن ، في بيان آيات الاَحكام ) وربما يسمّى بأُمّ القرآن ، والكتاب مرتب على ترتيب كتب الفقه ، ابتدأ فيه بكتاب الطهارة ، ثمّ الصلاة ، وهكذا إلى كتاب الديات ، فرغ منه سنة 563 هـ ، وله كتاب ( أسباب النزول ) .
  قرأ على : شيخنا أبي علي الطبرسي المفسّر ، وعماد الدين الطبري ، والاَخوين المرتضى والمجتبى ابني الداعي القاسم الرازي ، وأبي السعادات هبة اللّه بن علي الشجري ، وغيرهم . (2)

(1) التفسير والمفسرون للذهبي :2|104 .
(2) انظر ترجمته في روضات الجنات :4|5 برقم 314 ، ومستدرك الوسائل : 3|448 ، طبقات أعلام الشيعة :3|124 ، معالم العلماء برقم 368 ، الذريعة :7|145 برقم 802 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 289 ـ
  5 ـ جمال الدين أبو الفتوح الرازي المتوفّى (نحو 550 هـ)
  هو الشيخ الجليل قدوة المفسّرين ، ترجمان كلام اللّه ، جمال الدين أبو الفتوح الحسين بن علي بن محمد بن أحمد بن الحسين بن أحمد الخزاعي الرازي يصل نسبه إلى نافع بن هذيل بن ورقاء الخزاعي من صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
  يعرّفه تلميذه الشيخ منتجب الدين في ( فهرسته ) بقوله : الشيخ الاِمام جمال الدين أبو الفتوح الحسين بن علي بن محمد الخزاعي ، عالم ، واعظ ، مفسّر ، دين ، له تصانيف منها التفسير المسمى ( روض الجنان وروح الجنان ) في تفسير القرآن في 20 مجلداً ، و ( روح الاَحباب وروح الاَلباب ) في شرح الشهاب قرأتهما عليه . (1)
  وترجمه تلميذه الآخر ابن شهر آشوب في ( معالمه ) وقال : شيخي أبو الفتوح ابن علي الرازي ، عالم ، له كتاب ( روض الجنان وروح الجنان ) في تفسير القرآن فارسي إلاّ أنّه عجيب ، وشرح الشهاب . (2)
  وقد ذكر المحدّث النوري أنّ شيخنا أبا الفتوح يروي عن جماعة ، منهم :
  أ ـ الشيخ أبو الوفاء عبد الجبار الرازي .
  ب ـ والده الشيخ علي بن محمد ، الذي كان من أجلّة العلماء .
  ج ـ الشيخ أبو علي الطوسي (المتوفّى نحو 515 هـ) .
  د ـ القاضي الفاضل الحسن الاستر ابادي .
  إلى غير ذلك من المشايخ . (3)

(1) منتجب الدين : الفهرست : 45 برقم 78 .
(2) معالم العلماء : 141 برقم 987، وانظر ترجمته في أعيان الشيعة :6|124 ، وطبقات أعلام الشيعة :2|79 ، والذريعة :11|274 برقم 1694 ، ومستدرك علم رجال الحديث :3|170 برقم 4549 ، ومعجم رجال الحديث :6|50 برقم 3539 .
(3) مستدرك الوسائل :3|448 ، الفائدة الثالثة من الخاتمة .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 290 ـ
  6 ـأبو جعفر محمد بن علي الطوسي
  المعروف بـ ( ابن حمزة ) (المتوفّى نحو 550 هـ)
  هو الشيخ الفقيه المتكلّم الاَمين ، أبو جعفر الرابع ، عماد الدين محمد بن علي الطوسي المشهدي المشتهر بالعماد الطوسي المشهدي ، والمكنّى عند فقهائنا بـ ( ابن حمزة ) .
  قال منتجب الدين في ( الفهرست ) : الشيخ الاِمام عماد الدين ، أبو جعفر محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي ، فقيه ، عالم ، واعظ ، له تصانيف . (1)
  وقال الخوانساري في ( الروضات ) : الاِمام جمال الدين ، أبو جعفر الطوسي ، المشهدي ، شيخ ، إمام ، فقيه ، واعظ ، عالم ، له تصانيف ، منها : كتاب ( الوسيلة ) . (2)
  وقد أطراه غير واحد من المترجمين بكلمات مماثلة لا حاجة إلى نقلها .
  بعض أساتذته وتلاميذه
  ذكر الخوانساري انّه كان يروي عن أبي علي ابن الشيخ الطوسي (المتوفّـى نحو 515 هـ) ، كما يروي عن محمد بن الحسن الشوهاني ، حيث يروي عنه في كتابه ( الثاقب في المناقب ) . (3)
  كما يروي عنه السيد عبد الحميد بن فخار ، كما ورد ذكره في إجازة المحقّق الكركي للقاضي صفي الدين ، حيث ذكر ابن حمزة وقال : رويت جميع مصنفاته ومروياته بالاَسانيد الكثيرة والطرق المتعدّدة ، فمنها الطرق المتعدّدة إلى

(1) منتجب الدين : الفهرست : 164 برقم 390 .
(2) روضات الجنات :6|267 .
(3) روضات الجنات : 6|263و266 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 291 ـ
  الشيخ السعيد جمال الدين أحمد بن فهد ، عن السيد العالم النسابة الحسيني ، عن والده السيد عبد الحميد ، عن ابن حمزة . (1)
  وقد انتشر من تصانيفه كتاب ( الوسيلة إلى نيل الفضيلة ) وهو دورة فقهية تشتمل على قليل من الاستدلال ، طبع مستقلاً عام 1400 هـ بعد ما طبع في ضمن الجوامع الفقهية ، وفي موسوعة الينابيع الفقهية .
  7 ـ أبو الحسن علي بن الحسن بن أبي المجد الحلبي
  ( المتوفّى بعد 566 هـ)
  قال المحقّق التستري : الشيخ الفقيه المتكلّم النبيه ، علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي الفضل بن الحسن بن أبي المجد الحلبي ـ نور اللّه مرقده ـ وهو صاحب كتاب ( إشارة السبق إلى معرفة الحق ) في أُصول الدين وفروعه إلى الاَمر بالمعروف ، وعندي نسخة منها يعود تاريخ كتابتها إلى سنة 807 هـ . (2)
  وأطراه الخوانساري في ( روضاته ) (3)وشيخنا الطهراني في ( طبقاته ) . (4)
  والكتاب يتضمن مجموعة من المعارف والاَحكام ، وقد بسط الكلام في الاَوّل واختصر في الثاني ، فحرّر أحكام الطهارة والزكاة والصوم والحج والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وختم الكلام مشعراً بأنّه قد فرغ عمّا قصده ، ويعرب انّ الكتاب كان رسالة عملية للموَلّف ، وقد كتبه بصورة واضحة وإن كانت براهينه في المعارف مشرقة ،عالية لا يتحمّلها إلاّ الاَمثل فالاَمثل .
  وقد طبع كتابه ( إشارة السبق ) عام 1414هـ مع تقديم منّا .

(1) بحار الاَنوار :108|76 .
(2) مقابس الاَنوار :12 .
(3) روضات الجنات : 2|114 .
(4) طبقات أعلام الشيعة في القرن الخامس :119 ، وكان عليه أن يذكره في قسم القرن السادس .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 292 ـ
  8 ـ السيد ابن زهرة الحلبي (511 ـ 585 هـ)
  هو السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي بن أبي المحاسن زهرة يصل نسبه إلى الاِمام الصادق باثنتي عشرة واسطة .
  يعرّفه ابن شهر آشوب في كتابه و يقول : حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي له كتاب ( قبس الاَنوار في نصرة العترة الاَخيار ) و( غنية النزوع) حسن . (1)
  وقال العلاّمة الحلّي : حمزة بن علي بن زهرة الحسيني ، قال السيد السعيد صفي الدين معد : إنّ له كتاب ( قبس الاَنوار في نصرة العترة الاَطهار) و كتاب (غنية النزوع) . (2)
  وينقل الزبيدي عن ابن العديم في تاريخ ( حلب ) أنّه قال : كان فقيهاً أُصولياً نظاراً على مذهب الاِمامية، وقال ابن سعد الجواني : الشريف الطاهر عز الدين أبو المكارم حمزة ، ولد في شهر رمضان سنة 511 هـ ، وتوفي بحلب سنة 585 هـ .(3)
  إلى غير ذلك من الكلمات المتماثلة التي نقلناها برمّتها عند تقديمنا لكتابه ( غنية النزوع ) وقد طبع وانتشر عام 1417 هـ و إن كان طبع قبل ذلك أيضاً .
  يروي عنه : الشيخ معين الدين المصري ، والشيخ شاذان بن جبرئيل القمي الذي كان حياً سنة 584 هـ ، والشيخ محمد بن جعفر المشهدي صاحب المزار المشهور ، وأخيرهم لا آخرهم محمد بن إدريس الحلي ، وقد دارت بينهما مكاتبات ومساجلات . (4)

(1) معالم العلماء :26 برقم 303 .
(2) إيضاح الاشتباه :168 .
(3) الزبيدي : تاج العروس :3|249 ، مادة ( زهر ) .
(4) لاحظ في الوقوف على مصادر روايتهم عنه تقديمنا لكتاب غنية النزوع .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 293 ـ
  تعريف بكتاب غنية النزوع
  يشتمل هذا الكتاب على الاَُصولين والفروع وفي الحقيقة البحث فيه يدور على محاور ثلاثة :
  أ ـ الفقه الاَكبر : وهذا القسم مشتمل على مهمات المسائل الكلامية من التوحيد إلى المعاد .
  ب ـ أُصول الفقه : وهو حاو لبيان القواعد الاَُصولية التي يستنبط منها الاَحكام الشرعية ، ألّفه على غرار أُصول القدماء ، و من فصوله النافعة بحثه عن القياس وآثاره السلبية في الفقه ، وقد خلت كتب المتأخرين من أصحابنا من طرح هذه المسألة ، ودراسة أدلّة المثبتين والنافين ، وما هذا إلاّ لاَنّ عدم حجّيته هو الاَصل المسلم في فقه أهل البيت .
  ج ـ الفروع والاَحكام الشرعية : وهي دورة فقهية استدلالية كاملة يستدل بالكتاب والسنّة النبوية وأحاديث العترة الطاهرة والاِجماع ، وهذا القسم من محاسن الكتب وجلائلها .
  وهو في كتابه هذا يستمد من الكتاب العزيز في مسائل كثيرة ، فقد استدل بقرابة مائتين وخمسين آية ، كما اعتمد على أحاديث نبوية وافرة إمّا استدلالاً على المطلوب ، أو احتجاجاً على المخالف كما اعتمد على الاِجماع في مسائل كثيرة قرابة 650 مسألة ، وهو في كتابه يسير على ضوء كتاب الانتصار والناصريات للسيد الشريف المرتضى وكتاب الخلاف والمبسوط لشيخ الطائفة .
  9 ـ محمد بن الحسن الكيدري من علماء القرن السادس
  وصفه شيخه ابن حمزة في إجازته له بقوله : الاِمام الاَجل العالم الزاهد المحقّق المدقّق ، قطب الدين ، تاج الاِسلام ، فخر العلماء ، مرجع الاَفاضل ، محمد

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 294 ـ
  بن الحسين بن الحسن الكيدري البيهقي . (1)
  وقال صاحب الروضات : كان من أكمل علماء زمانه في أكثر الاَفنان ، وأكثرهم إفادة لدقائق العربية في جموعه الملاح الحسان . (2)
  يروي عن جماعة من مشايخنا ، منهم :
  1 ـ الشيخ الاِمام نصير الدين أبو طالب عبد اللّه بن حمزة بن عبد اللّه الطوسي الشارحي المشهور الذي عرّفه منتجب الدين بقوله : فقيه ، ثقة ، وجه، وهو غير محمد بن علي بن حمزة الطوسي صاحب الوسيلة ، وإن كانا معاصرين ، وإن زعم المحقّق السيد عبد العزيز الطباطبائي ـ المغفور له ـ كونهما شخصاً واحداً . (3)
  2 ـ المفسّر الكبير الفضل بن الحسن الطبرسي . (4)
  3 ـ محمد بن هبة الدين الراوندي .
  ولشيخنا المترجم تآليف قيمة أشهرها ( إصباح الشيعة بمصباح الشريعة ) الذي ربما ينسب إلى الفقيه الصهرشتي ، وهو غير صحيح .
  10 ـ الاِمام سديد الدين الحمصي الرازي
  (المتوفّـى قبل 589 هـ)
  يعرّفه منتجب الدين في ( فهرسته ) بقوله : علاّمة زمانه في الاَُصولين ، ورع ، ثقة ، له تصانيف ، وذكر كتبه ، ثمّ قال : حضرت مجلس درسه سنين ، وسمعت أكثر هذه الكتب في قراءة من قرأ عليه . (5)

(1) إصباح الشيعة : 15 ، المقدمة .
(2) روضات الجنات :6|295 برقم 587 .
(3) منتجب الدين : الفهرست :125 برقم 272 . وراجع تراثنا : العدد : 39|303 .
(4) الذريعة :2|431 برقم 1697 تحت عنوان أنوار العقول .
(5) منتجب الدين الرازي : الفهرست : 164 برقم 399 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 295 ـ
  ويقول التستري : عمدة المحقّقين ، ونخبة المدقّقين ، علاّمة زمانه في الاَُصولين ، الشيخ سديد الدين محمود بن علي الحمصي الرازي الحلي قدس اللّه روحه ونوّر ضريحه . (1)
  وشيخنا هو أحد أساتذة علم الاَُصول ، فقد ألّف كتاباً في علم الاَُصول باسم ( المصادر في أُصول الفقه ) فيكون هو الكتاب السادس في علم الاَُصول من زمن المفيد إلى عصره، فقد ألّف الشيخ المفيد أوّلاً رسالة في ذلك العلم أسمّـاها بـ ( التذكرة ) ، وأكمله ثانياً تلميذه المرتضى باسم ( الذريعة ) ، وتابعه في البسط والتحقيق ثالثاً تلميذه الآخر الطوسي باسم ( العدة ) ،كما ألّف أبو يعلى المعروف بـ ( سلاّر ) كتاباً رابعاً باسم ( التقريب في أُصول الفقه) ، إلى أن جاء دور ابن حمزة فألّف كتاباً خامساً مستقلاً أسماه ( غنية النزوع في علمي الاَُصول والفروع ) وتلاه الحمصي فألّف كتاب أسماه ( المصادر في أُصول الفقه ) .
  وقد ذكر أسماء تصانيفه تلميذه منتجب الدين في ( فهرسته ) ومن تآليفه المعروفة : ( المنقذ من التقليد ) يذكر في مقدّمته انّه وصل إلى العراق عند منصرفه من الحرمين بالحجاز حماها اللّه ، فورد الحلّة ، فلقيه جماعة من فقهائها مستبشرين بوصوله إليهم ، فأصرّوا عليه بالاِقامة ، فلبّى دعوتهم وعزم على الاِقامة ، وفي القلب النزوع إلى الاَهل و الولد ، وفي الخاطر التفات إلى المورد والبلد ، واشتغل بالمذاكرة والمدارسة ، فأقام عندهم مدرساً وموَلّفاً ، كتب كتاباً باسم ( المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد ) فرغ منه عام 581 هـ ، وقد طبع الكتاب في جزءين ، وهو ذو قوّة كلامية مبسطة .
  ثمّ إنّ ابن إدريس يذكره في ( السرائر ) بإكبار وإجلال ممّا يدل على تقدّمه عليه في السن . (2)

(1) مقابس الاَنوار :11 .
(2) السرائر :2|443 ، كتاب المزارعة .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 296 ـ
  11 ـ محمد بن علي بن شهر آشوب (488 ـ 588 هـ)
  فخر الشيعة ، وتاج الشريعة ، رشيد الملة والدين ، شمس الاِسلام والمسلمين أبو عبد اللّه محمد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني الفقيه المحدّث المفسّر المحقّق الجامع لفنون الفضائل .
  يعرّفه صلاح الدين الصفدي في ( الوافي بالوفيات ) بقوله : محمد بن شهر آشوب ، أبو جعفر السروي المازندراني ، رشيد الدين الشيعي ، أحد شيوخ الشيعة ، حفظ أكثر القرآن ، وله ثمان سنين ، وبلغ النهاية في أُصول الشيعة ، كان يرحل إليه من البلاد ثمّ تقدّم في علم القرآن والغريب والنحو ، ووعظ على المنبر أيام المقتفي ببغداد فأعجبه وخلع عليه ، وكان بهي المنظر ، حسن الوجه والشيبة ، صدوق اللهجة ، مليح المحاورة ، واسع العلم ، كثير الخشوع والعبادة والتهجد ، لا يكون إلاّ على وضوء ، أثنى عليه ابن أبي طي في (تاريخه ) ثناءً كثيراً ، توفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة .
  وقال الفيروز آبادي في كتاب ( البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة ) : محمد ابن علي بن شهر آشوب ، أبو جعفر المازندراني رشيد الدين الشيعي ، بلغ النهاية في أُصول الشيعة ، تقدّم في علم القرآن و اللغة والنحو ، ووعظ أيّام المقتفي فأعجبه وخلع عليه ، وكان واسع العلم ، كثير العبادة ، دائم الوضوء ، له : كتاب ( الفصول) في النحو ، وكتاب ( المكنون والمخزون ) ، وكتاب ( أسباب نزول القرآن ) ، وكتاب ( متشابه القرآن ) ، و كتاب ( الاَعلام والطرائق في الحدود و الحقائق ) ، وكتاب ( الجديدة ) جمع فيها فوائد وفرائد جمّة . (1)
  وقال شمس الدين محمد بن علي بن أحمد الداودي المالكي تلميذ عبد

(1) مستدرك الوسائل : 3|485 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 297 ـ
  الرحمن السيوطي في ( طبقات المفسّرين ) : محمد بن علي بن شهر آشوب ، أحد شيوخ الشيعة ، اشتغل بالحديث ، ولقي الرجال ، ثمّتفقّه وبلغ النهاية في فقه أهل مذهبه ، ونبغ في الاَُصول حتى صار رُحلة ،ثمّ تقدّم في علم القراءات والغريب ، والتفسير ، والنحو .
  كان إمام عصره ، وواحد دهره ، و الغالب عليه علم القرآن والحديث . (1)
  وقد ترجم لنفسه في كتابه ( معالم العلماء ) وذكر تصانيفه بالاَسماء التالية :
  1 ـ ( مناقب آل أبي طالب ) طبع في أربعة أجزاء .
  2 ـ مثالب النواصب .
  3 ـ المخزون والمكنون في عيون الفنون .
  4 ـ الطرائق في الحدود والحقائق .
  5 ـ مائدة الفائدة .
  6 ـ المثال في الاَمثال .
  7 ـ ( معالم العلماء ) وهو ذيل لفهرست الشيخ الطوسي ، طبع في العراق وإيران .
  8 ـ الاَسباب و النزول على مذهب آل الرسول .
  9 ـ الحاوي .
  10 ـ ( متشابه القرآن ومختلفه ) وهو كتاب قيّم ، طبع في إيران .
  11 ـ الاَوصاف .
  12 ـ المنهاج . (2)

(1) الداودي : طبقات المفسرين :2|201 برقم 538 .
(2) معالم العلماء :119 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 298 ـ
  وهو يروى عن المشايخ العظام يقول : أنبأني الطبرسي بـ ( مجمع البيان لعلوم القرآن) ، وبكتاب ( اعلام الورى باعلام الهدى )، وأجاز لي أبو الفتوح رواية ( روض الجنان وروح الجنان ) في تفسير القرآن ، وناولني أبو الحسن البيهقي ( حلية الاَشراف ) وقد أذن لي الآمدي في ( غرر الحكم ) ، ووجدت بخط أبي طالب الطبرسي كتابه ( الاحتجاج ) إلى آخر ما ذكره . (1)
  والعجب انّ علمين جليلين معاصرين ألّفا كتابين في موضوع واحد ، أعني بهما : محمد بن شهر آشـوب (المتوفّـى 585 هـ) والشيخ منتجـب الدين الرازي (وكان حياً إلى عام 600 هـ)، فألّف الاَوّل ( معالم العلماء ) ذيلاً لفهرست الشيخ ، وألّف الثاني ( الفهرست ) في هذا المضمار أيضاً ، ولم يكن بينهما صلة واطّلاع عن عمل كلّمنهما .

أسباب الركود
  إنّ لكلّ ظاهرة سبباً ، فظاهرة الركود لم تكن اعتباطية بل نشأت لاَسباب ودواعي أدّت إليه ، منها :
  أ ـ الضغط و الكبت من قبل السلطات الحاكمة آنذاك على الشيعة ، كالسلاجقة في العراق ، والغزنويّين في الشرق ، والاَيوبيّين في الشام ومصر ، وأخذوا ينظرون إليهم بنظرة ملوَها الحقد والغضب ، وكانوا بصدد الانقضاض على الكيان الشيعي واستئصاله ،وقد حفظ لنا التاريخ بعض الاَعمال التي قام بها السلاجقة ممّا يندى لها جبين الاِنسانية ، فقد أحرق طغرل بك مكتبة بغداد التي كانت عامرة بالكتب ، وإليك هذه الوثيقة التاريخية التي تعكس لنا صورة عن المأساة التي حلّت بالشيعة :

(1) الخوانساري : روضات الجنات :6|290 برقم 585 ، نقله عن البحار في مقدّمته عن كتابه المناقب .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 299 ـ
  يقول ابن الجوزي :وفي هذه السنة ـ يعني : سنة 448 ـ أُقيم الاَذان في المشهد بمقابر قريش ، و مشهد العتيقة ، ومساجد الكرخ بـ ( الصلاة خير من النوم ) وأُزيل ما كانوا يستعملونه في الاَذان ( حي على خير العمل ) وقلع جميع ما كان على أبواب الدور و الدروب من ( محمد وعلي خير البشر ) ودخل إلى الكرخ منشدو أهل السنّة من باب البصرة ، فأنشدوا الاَشعار في مدح الصحابة ، وتقدّم رئيس الروَساء إلى ابن النسوي بقتل أبي عبد اللّه بن الجلاّب شيخ البزازين بباب الطاق ، لما كان يتظاهر به من الغلو في الرفض ، فقتل وصلب على باب دكانه ، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره . (1)
  ويقول أيضاً في حوادث سنة 449 هـ : وفي صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلّم الشيعة بالكرخ ، وأخذ ما وجد من دفاتره ، وكرسي كان يجلس عليه للكلام ، وأخرج ذلك إلى الكرخ ، وأُضيف إليه ثلاثة مجانيق بيض كان الزوار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة ، فأُحرق الجميع . (2)
  وقال الجزري : وفيها (أي في هذه السنة) نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ ، وهو فقيه الاِمامية ، وأُخذ ما فيها ، وكان قد فارقها إلى المشهد الغربي .  (3) (4)
  وقال الخفاجي : لمّا دخل صلاح الدين الاَيوبي إلى حلب عام 579 هـ حمل الناس على التسنّن وعقيدة الاَشعري ، ولا يقدّم للخطابة ولا للتدريس إلاّ
(1) ابن الجوزي : المنتظم : 16|7و 8 .
(2) ابن الجوزي : المنتظم :16|16 .
(3) ولعل الصحيح : الغرويّ .
(4) ابن الاَثير : الكامل في التاريخ :9|637و 638 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 300 ـ
  من كان مقلّداً لاَحد المذاهب الاَربعة ، ووضع السيف على الشيعة وقتلهم وأبادهم مثل عمله في مصر إلى حد يقول الخفاجي في كتابه .
  فقد غالى الاَيوبيون في القضاء على كلّأثر للشيعة . (1)
  وفي هذا الجو المشحون بالعداء والبغضاء لا تسنح الفرصة لاَي نشاط علمي ، بل يغيب عندها النتاج الفكري ، فالحياة الفقهية رهن وجود ظروف مناسبة وبيئة صالحة لتنمية الاَفكار .
  ب ـ وأمّا السبب الثاني ، فهو انّالشيخ الطوسي قد حَظِيَ بتقدير عظيم في نفوس تلامذته ومعاصريه على وجه رفعته عن مستوى النقد ، لما قدّمه من خدمات جليلة للحوزة الشيعية من إتحافها بأنواع العلوم والتآليف وتربية جيل كبير من العلماء والمفكّرين .
  وقد حظيت آراوَه الشخصية بقدسية نزّهته عن النقد ، فاستمرت تلك النظرة إلى الشيخ مدة مديدة بعده ، وقد خلفه في إدارة شوَون الحوزة نجله أبو علي الطوسي الذي كان حياً إلى سنة 515 هـ .
  فهذان العاملان أدّيا إلى الركود والخضوع لكل ما ورثوه عن الشيخ الطوسي .
  وربّما يذكر عامل آخر للركود وهو : انّ الشيخ بهجرته إلى النجف قد انفصل في أكبر الظن عن تلامذته وحوزته العلمية في بغداد ، وبدأ ينشىَ في النجف حوزة فتية حوله من أولاده أو الراغبين في الالتحاق بالدراسات الفقهية من مجاوري القبر الشريف أو أبناء البلاد القريبة منه كالحلّة ونحوها ، ونمت الحوزة على عهده بالتدريج ، وعلى هذا الاَساس فإنّ الشيخ الطوسي بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته الاَساسية في بغداد وأنشأ حوزة جديدة حوله في

(1) الخفاجي : الاَزهر في ألف عام :1|58 .